فتح الرحمن في تفسير القرآن

أَبُو اليُمْن العُلَيْمي

فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيرِ القُرآنِ تَأليف الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ المولود سنة (860 هـ) - والمتوفى سنة (927 هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى المُجَلَّد الأَوَّلُ اعتَنَى بِهِ تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا نُورُ الدِّين طَالب إصدَارات وزَارة الأوقاف والشُؤُون الإِسلامِيّة إدَارَةُ الشُؤُونِ الإِسلاَمِيّةِ دولة قطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فَتْحُ الرَّحْمَن

حُقُوق الطَّبع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطَبعَة الأولى، 1430 هـ - 2009 م قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 518/ 14 هَاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدّمَة التَّحقِيق الحمد لله الذي أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - الكتاب، فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]، فنقلهم من الكفر والعَمَى، إلى الضياء والهدى، وبيَّن فيه ما أحلَّ؛ مَنًّا بالتوسعة على خلقه، وما حرَّم، لِمَا هو أعلم به من حظِّهم في الكف عنه في الآخرة والأولى. وابتلى طاعتهم بأن تعبَّدهم بقول وعمل، وإمساك عن محارم حَمَاهُمُوها، وأثابهم على طاعته من الخلود في جنته، والنجاة من نقمته، ما عَظُمت به نعمتُه، جلَّ ثناؤه. وأعلمهم ما أوجب على أهل معصيته من خلاف ما أوجب لأهل طاعته. ووعظهم بالأخبار عمَّن كان قبلهم، ممن كان أكثرَ منهم أموالًا وأولادًا، وأطولَ أعمارًا، وأحمدَ آثارًا، فاستمتعوا بخَلاقهم في حياة دنياهم، فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آمالهم، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أُنُف الأَوان، ويتفهَّموا بجَلِيَّة التبيان، ويتنبَّهوا قبل رَيْن الغفلة، ويعلموا قبل انقطاع المدة، حين لا يُعْتِبُ مذنبٌ،

ولا تُؤخذ فدية، و {تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]. فكلُّ ما أنزل في كتابه -جل ثناؤه- رحمة وحجة، عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه، لا يَعْلَم مَنْ جَهِلَه، ولا يَجْهَلُ مَنْ عَلِمَه. والناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به. فَحُقَّ على طلبة العلم بلوغُ غايةِ جُهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه؛ نصًّا واستنباطًا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه. فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصًّا واستدلالًا، ووفَّقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمةُ، واستوجب في الدين موضعَ الإمامة. فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. قال الله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]. وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44]. وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَان

وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] (¬1). ولمَّا كانت مقاصدُ القرآن ومعانيه ذاتَ أفانينَ كثيرة، قصد كلُّ واحد من المفسرين بعضَ تلك الأفنان، فنحا بعضُهم إلى آيات الأحكام، وبعضُهم إلى قصص القرآن التي اشتملت على أخبار الأمم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبعضهم قصد نِكات علوم العربية من البلاغة والأدب وغيرهما. وفي تضاعيف تفاسيرهم تجد ذكرَ مكيِّ القرآن ومدنيِّه، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ومشكل القرآن ومتشابهه، وذكر مفرداته ومعانيها، وفقه الأئمة واختلافاتهم في تفسير الآيات، وذكر خلاف القراء أصحاب القراءات المشهورة، ودقائق اللغة والبلاغة، وذكر الآداب والقصص والأخبار، وغيرها. والإمام مجير الدين العُلَيميُّ الحنبليُّ -رحمه الله- في تفسيره هذا "فتح الرحمن" قد كان له حظ وافر في كل فن من تلك الأفنان المذكورة: * فقد اعتنى فيه -رحمه الله- بذكر القراءات، واختلاف القراء فيها، وتوجيهها، وذكر معانيها. * وذكر فيه عقائدَ أهل السنَّة والجماعة على وجه مختصر مفيد. * وسَرَد فيه فقهَ الأئمة الأربعة وفق متهج قويم، بعيدٍ عن التعصب والتقليد. * واعتمد على الصحيح الراجح من أقوال المفسرين. ¬

_ (¬1) من أول النص اقتباس من كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 17 - 20).

إلى غير ذلك مما سيُذْكَرُ في منهج المؤلف رحمه الله. وبالجملة: فتفسير الإمام العليمي تفسيرٌ جليل يشبه تفسيرَ القاضي البيضاويِّ، كما قال الغَزِّيُّ -رحم الله الجميع-. ويصفه العلَّامةُ ابنُ بدرانَ الحنبليُّ بأنه "تفسير متوسط، يذكر القراءات، وإذا جاءت مسألة فرعية ذكر أقوال الأئمة الأربعة فيها، وفيه فوائد لطيفة". فالله يجزي مؤلفه خير الجزاء، ويثيبه أعظمَ النَّوال والعطاء. هذا، وقد تمَّ لنا بفضل الله تعالى وكرمه الوقوف على أربع نسخ خطية للكتاب، خرج بها النصُّ -بحمد الله- صحيحًا مستقيمًا. ثم تم التقديم للكتاب بفصلين؛ اشتمل أولهما على ترجمة للإمام العُليمي رحمه الله، وكان الآخر لدراسة الكتاب. ثم ذُيِّل الكتاب بفهارس علمية متنوعة. "فنسألُ اللهَ المبتديءَ لنا بنعمه قبلَ استحقاقها، المديمَها علينا، مع تقصيرِنا في الإتيان على ما أَوجب به من شكره بها، الجاعِلَنا في خير أُمَّةٍ أُخرجت للنَّاس، أن يرزُقَنا فهمًا في كتابه، ثم سنَّة نبيه، وقولًا وعملًا، يؤدِّي به عنَّا حقَّه، ويُوجب لنا نافلةَ مزيدهِ" (¬1). هذا وصلى الله على نبيِّنا محمد، وآله وصحبه، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات. وَكَتَبَ نور الدين طالب دومة الحنابلة/ 1430 هـ ¬

_ (¬1) اقتباس من كلام الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" (ص: 19).

الفصل الأول ترجمة الإمام العليمي

الفصل الأول تَرْجَمةُ الإمَامِ العُليميّ

المبحث الأول اسمه ونسبه وولادته، ونشأته وطلبه للعلم

المبحث الأَوَّل اسمهُ وَنَسبهُ وَوِلاَدتهُ، وَنَشأتهُ وَطَلبهُ لِلعِلْمِ * اسمه ونسبه وولادته: هو الإمام، المؤرخ، المفسر، الفقيه، القاضي، أبو اليمن، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف العليمي (¬1)، العمري (¬2)، مجير الدين، المقدسي، الحنبلي (¬3). ولد كما أخبر عن نفسه يوم الأحد، ثالث عشر ذي القعدة، سنة (860 هـ) بالقدس الشريف (¬4). ¬

_ (¬1) العُلَيمي: بضم العين المهملة، وفتح اللام، وسكون الياء، وكسر الميم. نسبة إلى الشيخ علي بن عُلَيل، المشهور عند الناس بعلي بن عليم، والصحيح أنه عليل باللام، كذا في نسبه الثابت. انظر: "الأنس الجليل" للمؤلف (2/ 266)، و"المنهج الأحمد" له أيضًا (5/ 269). (¬2) نسبة إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وقد ذكر المؤلف -رحمه الله- سلسلة نسبة المتصلة بعمر -رضي الله عنه- في كتابيه: "الأنس الجليل" (2/ 266)، و"المنهج الأحمد" في (5/ 269). (¬3) أول من اشتغل بالعلم على هذا مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- من أسرته هو والده الشيخ الإمام محمد بن عبد الرحمن، وكل أسلافه شافعية، لم يكن منهم من هو على مذهب الإمام أحمد سواه. انظر: "الأنس الجليل" (2/ 262)، و "المنهج الأحمد" (5/ 262). (¬4) انظر: "الأنس الجليل" للمؤلف (2/ 189)، و"السحب الوابلة" لابن حميد (ص:517).

* نشأته وطلبه للعلم: نشأ -رحمه الله- في حجر والده العلامة قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن، وتفقه عليه، وأخذ عنه جملة من العلوم النافعة (¬1). وبدت عليه -رحمه الله- مخايل النجابة منذ الصغر؛ فقد حفظ: "ملحة الإعراب" للحريري، وعرضها على الشيخ محمد بن عبد الله القرمشندي، وله ست سنين (¬2)، ثم حفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره على الشيخ علاء الدين علي بن عبد الله الغزي، وكرر عليه ختم القرآن مرات كثيرة، وأحضره مجلس شيخه محمد بن موسي بن عمران في الحديث، واعتنى له بتحصيل الإجازة منه (¬3). ثم حفظ كلًّا من "المقنع"، و"الخرقي"، وعرضهما على علماء بلده؛ كالكمال بن أبي شريف، وأبي الأسباط أحمد بن عبد الرحمن الرملي، والنجم ابن جماعة، وغيرهم. ودخل القاهرة سنة (880 هـ) وأقام بها عشر سنين، وحل على شيخه القاضي بدر الدين السعدي، وتفقه به، وسمع الحديث على جماعة، منهم: الحافظ السخاوي، والقطب الخيضري، والجلال البكري، وغيرهم. وولي قضاء القدس، وكان من أمثل القضاة فيها (¬4)، والرملة، والخليل، ¬

_ (¬1) انظر: "السحب الوابلة" لابن حميد (ص: 517)، و"النعت الأكمل" للغزي (ص:53). (¬2) انظر: "الأنس الجليل" (2/ 189). (¬3) المرجع السابق، (2/ 237). (¬4) انظر: "السحب الوابلة" (ص: 516) نقلًا عن الحافظ السخاوي.

ونابلس مدة إحدى وثلاثين سنة، لم يتخلل له منها عزل (¬1). وقد حج سنة (908 هـ)، وأقام بمكة نحو شهر، ملازمًا للتلاوة والعبادة، ثم انقطع بعد انفصاله عن القضاء بالمسجد الأقصى يدرس ويفتي ويؤلف (¬2). ... ¬

_ (¬1) إلا قضاء نابلس، فإنه تركه باختياره بعد سنتين. (¬2) انظر: "السحب الوابلة" (ص: 517 - 518).

المبحث الثاني شيوخه

المبحث الثَّاني شُيُوخهُ 1 - والده الخطيب، الفقيه، المحدث، قاضي القضاة، شمس الدين، محمد بن عبد الرحمن بن محمد العمري العليمي. ولد بمدينة الرملة سنة (807 هـ)، وولي قضاءها سنة (838 هـ)، ولم يعلم أن حنبليًّا قبله وليها في هذه الأزمنة، ثم ولي قضاء القدس، والخليل، وصفد، وباشر نيابة الحكم بدمشق، وكان صحيح الاعتقاد، متبعًا للسنة، ينكر على المبتدعة وينافرهم، ويصرح في خطه -في كثير مما يكتبه- بالتبرؤ إلى الله تعالى ممن يعتقد خلاف مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يرى الكلام في علم الكلام، ويرى التسليم أسلم. توفي بالطاعون سنة (873 هـ) بالرملة (¬1). 2 - شيخ الإسلام، حافظ العصر، كمال الدين، أبو المعالي، محمد بن محمد بن أبي بكر بن علي بن أبي شريف المقدسي، الشافعي. قال المؤلف -رحمه الله-: عرضت عليه في حياة الوالد -رحمه الله- قطعة من كتاب "المقنع في الفقه" على مذهب الإمام أحمد -رضي الله ¬

_ (¬1) انظر: "الأنس الجليل" (2/ 262)، و"المنهج الأحمد" (5/ 262)، و"الدر المنضد" (2/ 664) ثلاثتها للمؤلف -رحمه الله- ولم يُشِر فيها إلى أنه والده، وهو عجيب وقوعه عند المصنفين. وانظر: "السحب الوابلة" لابن حميد (ص: 932).

عنه، ثم عرضت عليه مرة ثانية ما حفظت بعد العرض الأول، وأجازني في شهور سنة (873 هـ)، وحضرت بعض مجالسه من الدروس والإملاء بالمدرسة الصلاحية. وحضرت كثيرًا من مجالسه بالمسجد الأقصى الشريف، وحصلت الإجازة منه غير مرة؛ خاصة، وعامة. وله تصانيف منها: "الإسعاد بشرح الإرشاد" في الفقه، و"الدرر اللوامع بتحرير جمع الجوامع" في الأصول، وكتب قطعه على "صحيح البخاري"، وغير ذلك. توفي سنة (900 هـ) (¬1). 3 - الإمام، العالم، العلامة، شيخ الإسلام، بدر الدين، أبو المعالي، محمد بن محمد بن أبي بكر بن خالد السعدي المصري، الحنبلي. قال المؤلف -رحمه الله- شيخنا، وأستاذنا، وعالم عصرنا، سمع على الحافظ ابن حجر، وابن هشام، وعز الدين الكناني، وغيرهم. قال المؤلف: ولقد أكرم مثواي عند تمثلي بين يديه، لمّا قدمت عليه إلى القاهرة سنة (880 هـ)، وأقمت تحت نظره للاشتغال بالعلم الشريف، فأحسن إليَّ، وتفضَّل عليَّ، وأفادني العلم، وعاملني بالحلم، ومكثت بالديار المصرية نحو عشر سنين إلى أن سافرت منها في سنة (889 هـ)، وأنا مشمول منه بالصِّلات، ومتصل من فضله بالحسنات. توفي سنة (902 هـ) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الأنس الجليل" (2/ 377). (¬2) انظر: "المنهج الأحمد" (5/ 315)، "الدر المنضد" (2/ 695)، و"الضوء اللامع" للسخاوي (9/ 58).

4 - علَّامة الزمان، عبد الله بن محمد بن إسماعيل، تقي الدين، أبو بكر القرمشندي الشافعي، سبط الحافظ أبي سعيد العلائي. قال المؤلف -رحمه الله-: شيخنا، الإمام، العلامة، الحبر، الفهامة، أجازه جمع من العلماء والحفاظ، وأفتى ودرَّس، وناظر وحدَّث، وسمع عليه الرحالون، وساد بيت المقدس. قال المؤلف: وقد عرضت عليه "ملحة الإعراب" سنة (866 هـ) بمنزله، ولي دون ست سنين، وهو أول شيخ عرضت عليه، وتشرفت بالجلوس بين يديه، وأجازني بالملحة وبغيرها من كتب الحديث الشريف، وما يجوز روايته، وكتب والدي الإجازة بخطه، وكتب الشيخ خطه الكريم عليها. توفي سنة (867 هـ) (¬1). 5 - الإمام، العالم، قاضي القضاة، علي بن إبراهيم البدرشي، نور الدين أبو الحسن المصري المالكي. قال المؤلف -رحمه الله-: شيخنا، كان من أهل العلم، وقد قرأت عليه قطعة من آخر كتاب "الخرقي" قراءة بحث وفهم، ثم قرأت قطعة من أول "المقنع" قراءة بحث وفهم، فكان يقرر في العبارة تقريرًا حسنًا، لعل كثيرًا من أهل المذهب لا يقرره، وقرأت عليه في النحو، ولازمت مجالسته، وترددت إليه كثيرًا، وحصل لي منه غاية الخير والنفع. توفي سنة (878 هـ) (¬2). ¬

_ (¬1) "الأنس الجليل" (2/ 188). (¬2) "الأنس الجليل" (2/ 250).

هذا وللمؤلف -رحمه الله- عدد كبير من الشيوخ الذين أخذ عنهم، ذكر منهم جملة في كتابه "الأنس الجليل"، فممن ذكره: 6 - أحمد بن عبد الرحمن الرملي، شهاب الدين، أبو الأسباط الشافعي، المتوفى سنة (877 هـ) (¬1). 7 - أحمد بن علي اللُّدِّي الشافعي، سبط العلامة جمال الدين بن جماعة الكناني، المتوفى سنة (880 هـ) (¬2). 8 - أحمد بن عمر العميري، شهاب الدين، أبو العباس الشافعي، المتوفى سنة (890 هـ) (¬3). 9 - إبراهيم بن عبد الرحمن، برهان الدين أبو إسحاق الأنصاري الخليلي الشافعي، المتوفى سنة (893 هـ) (¬4). 10 - علي بن عبد الله بن محمد، علاء الدين الغزى الحنفي، المعروف بابن قاموا، المتوفى سنة (890 هـ) (¬5). 11 - محمد بن عبد الوهاب، شمس الدين، أبو مساعد الشافعي، المتوفى سنة (873 هـ) (¬6). ¬

_ (¬1) "الأنس الجليل" (2/ 195). (¬2) "الأنس الجليل" (2/ 196)، و"الضوء اللامع" للسخاوي (2/ 19). (¬3) "الأنس الجليل" (2/ 203). (¬4) "الأنس الجليل" (2/ 206). (¬5) "الأنس الجليل" (2/ 237). (¬6) "الأنس الجليل" (2/ 191).

12 - محمد بن موسي بن عمران الغزي، شمس الدين، أبو عبد الله المقدسي الحنفي، المتوفى سنة (873 هـ) (¬1). كما أخذ المؤلف -رحمه الله- عن الحافظ السخاوي، وطلب منه الإجازة. قال ابن حُميد -نقلًا عن السخاوي-: كتب إليَّ سنة (896 هـ) يلتمس مني أن أُذيِّل له على "طبقات الحنابلة" لابن رجب، وأن أجيز له، ثم قال: وقد دخل القاهرة، وجلس بها شاهدًا (¬2). ... ¬

_ (¬1) "الأنس الجليل" (2/ 229). (¬2) "السحب الوابلة" لابن حميد (ص: 516).

المبحث الثالث تلاميذه

المبحث الثَّالث تَلاَمِيذهُ لم تذكر لنا المصادر التي ترجمت للإمام العليمي الآخذين عنه، والمتتلمذين على يديه، ما خلا ما ذكره جار الله بن فهد المكي الشافعي المسند المؤرخ، المتوفى سنة (954 هـ)؛ حيث ذكر أنه أخذ عن العليمي بعض مؤلفاته، وأَجاز له روايتها (¬1). وأفاد الدكتور عبد الرحمن العثيمين: أنه وقف على إجازة للإمام العليمي يجيز بها أحد تلامذته، وهو إبراهيم بن خليل القاقوني (¬2) الحنبلي، بكتاب: "التسهيل" في الفقه الحنبلي (¬3). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السحب الوابلة" لابن حميد (ص: 518). (¬2) كذا ذكره الدكتور العثيمين واستفهم عنده، ورأيت في "شذرات الذهب" لابن العماد (8/ 22) ترجمة غرس الدين أبي القاسم خليل بن خليل الفراديسي الصالحي الحنبلي، المتوفى سنة (914 هـ)، فلعل هذا هو والد المجاز الذي ذكر، والله أعلم. (¬3) انظر: مقدمة "الدر المنضد" (ص: 26).

المبحث الرابع تصانيفه

المبحث الرابع تَصَانِيفهُ 1 - " الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل" (¬1). 2 - "ملخص من كتاب الأنس الجليل" (¬2). 3 - "المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد" (¬3) 4 - "الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد" (¬4). 5 - "الإعلام بأعيان دول الإسلام" (¬5). ¬

_ (¬1) قال ابن حميد في "السحب الوابلة" (ص:518): وهو عظيم في بابه، أحيا به مآثر بلاده. وقال الغزي في "النعت الأكمل" (ص: 55): الحاوي لكل غريبة وفائدة، وبتراجم البلدين كافل. وقد طبع الكتاب عدة طبعات، كان أولها في المطبعة الوهبية بمصر سنة (1283 هـ)، ثم طبع بعدها طبعات كثيرة لم تسلم من التصحيف والتحريف. (¬2) كذا نسبه إليه غير واحد من المحققين، وإنما هو قطعة من "الأنس الجليل"، وليس مختصرًا، وتقع هذه القطعة في (71) ورقة، ضمن مجموع رقم (240)، في المكتبة الظاهرية بدمشق. (¬3) طبع سنة (1997 م) بتحقيق مجموعة من المحققين، ونشرته دار صادر في بيروت، في ستة مجلدات. (¬4) وقد طبع الكتاب سنة (1412 هـ - 1992 م) بتحقيق الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، ونشرته مكتبة التوبة بالرياض في مجلدين. (¬5) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (ص: 518).

6 - "التاريخ المعتبر في أنباء من غبر" (¬1). 7 - "تصحيح الخلاف المطلق في المقنع" لابن قدامة (¬2). 8 - "الإتحاف" مختصر "الإنصاف" للمرداوي (¬3). 9 - "إتحاف الزائر وإطراف المقيم والمسافر" (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/ 305) و (2/ 1731)، ولدي صورة عن الأصل المخطوط في برنستون مجموعة جاريت ضمن مجموع برقم (2263)، يحتوي على الجزء الثاني من الكتاب، ويقع في (71) ورقة، نسخت سنة (945 هـ). وقد ذكر في هذا الجزء تراجم الأئمة الأربعة، وغيرهم من التابعين، والعلماء الأعلام، والرؤساء، والوزراء، والشعراء، والأعيان، وقضاة الشرع الشريف، وطلبة العلم، وحملة القرآن، على وجه الاختصار. (¬2) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (ص: 518). (¬3) ولم يعمل منه إلا النصف، كما ذكر ابن حميد في "السحب الوابلة" (ص: 518): وقال عنه المؤلف -رحمه الله- في كتابه: "المنهج الأحمد" (5/ 290): وهو من كتب الإسلام، فإنه -أي: المرداوي صاحب "الإنصاف"- سلك فيه مسلكًا لم يسبق إليه، بيَّن فيه الصحيح من المذهب وأطال فيه الكلام، وذكر فيه كل مسألة ما نقل منها من الكتب وكلام الأصحاب، فهو دليل على تبحر مصنفه، وسعة علمه، وقوة فهمه، وكثرة اطلاعه. (¬4) كذا نسبه إليه البغدادي في "هدية العارفين" (1/ 544). ونسبه حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/ 6) إلى أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي البغدادي الدمشقي المتوفي سنة (613 هـ). قلت: ولأبي اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب المعروف بابن عساكر كتاب: "إتحاف الزائر وإطراف المقيم للسائر" حققه حسين شكري، ونشرته دار الأرقم سنة (2000 م). فلعله اختلط على صاحب "كشف الظنون"، حيث ذكر أولًا: "إتحاف الزائر" للشيخ الإمام ابن عساكر، هكذا، ثم ذكر بعده: "إتحاف الزائر وإطراف المقيم المسامر" للشيخ أبي اليمن زيد بن الحسن .... إلخ. أما صاحب "هدية العارفين"، فكثيرًا ما يقع عنده =

10 - "فتح الرحمن في تفسير القرآن"، وهو الكتاب الذي بين أيدينا. 11 - "الوجيز" مختصر "فتح الرحمن" (¬1). قال الغزي: وله غير ذلك من التآليف والفوائد، وكلها عليها الرونق والبهجة؛ لحسن إخلاصه، ومزيد اختصاصه (¬2). ¬

_ = الخلط بين أسماء المؤلفين، ونسبة المؤلفات، وأسمائها. (¬1) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (ص: 518). (¬2) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 55).

المبحث الخامس ثناء العلماء عليه، ووفاته

المبحث الخامس ثَنَاء العُلَمَاء عَلَيْهِ، وَوَفَاتهُ 1 - قال الحافظ السخاوي: أَمْثَلُ قضاةِ القدس، حسن السِّيرة، له شهرة بالفضل والإقبال على التاريخ، مع خطٍّ حسن ونَظْم (¬1). 2 - قال الغزي: هو الإمام، العلامة، المسند، المؤرخ، الفقيه، المتفنن في سائر العلوم، المتحلي بقلائد المنطوق والمفهوم ... ثم قال: الخطيب، الفقيه، المحدث، الأثري. * وكان قد توفي -رحمه الله- ببيت المقدس سنة (928 هـ)، رحمه الله تعالى، ورضي عنه (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السحب الوابلة" (ص: 516)، نقلًا عن "الضوء اللامع" للسخاوي، ولا أقف للسخاوي في "الضوء اللامع" على ذكرٍ للمؤلف -رحمه الله-. (¬2) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 52).

المبحث السادس مصادر ترجمته

المبحث السادس مَصَادِر تَرجَمَتهُ 1 - " النعت الأكمل" للغزي (ص: 52). 2 - "السحب الوابلة" لابن حُميد (ص: 516). 3 - "مختصر طبقات الحنابلة" للشطي (ص: 81). 4 - "رفع النقاب عن تراجم الأصحاب" لابن ضويان (ص: 352). 5 - "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 177، 305)، (2/ 1732). 6 - "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 544). 7 - "الأعلام" للزركلي (3/ 331). 8 - "معجم المؤلفين" لكحالة (5/ 177). 9 - "معجم مصنفات الحنابلة" للطريقي (5/ 134). ***

الفصل الثاني دراسة الكتاب

الفصل الثّاني دِرَاسَةُ الكِتَابِ

المبحث الأول تحقيق اسم الكتاب

المبحث الأَوَّل تَحقِيْق اسمِ الكِتَاب جاء على طرة النسخة الخطية للمكتبة السليمانية للمجلد الأول والثاني من الكتاب: "فتح الرحمن بتفسير الفرقان". جمع الفقير إلى رحمة الله: عبد الرحمن بن محمد العمري العليمي الحنبلي، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه، آمين. وكذا جاءت تسميته في نهاية المجلد الأول من نسخة شستربتي، وعلى ظاهر المجلد الأول من النسخة الظاهرية. وجاءت تسميته على ظاهر النسخة الخطية (ن): "فتح الرحمن بتفسير القرآن". وجاءت تسميته في "السحب الوابلة" (ص: 518) بـ "فتح الرحمن". أما الزركلي في "الأعلام"، وكحالة في "معجم المؤلفين"، فقد أسمياه: "فتح الرحمن في تفسير القرآن". وقد عزا الزركلي اسم الكتاب إلى مكتبة شستربتي، وقد علمتَ ما جاء على ظاهرها. وقد تم اعتماد التسمية الأشهر للكتاب، والتي جاءت في نسخة "ن"، وهي أقدم النسخ الخطية للكتاب. ***

المبحث الثاني بيان صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه

المبحث الثَّاني بَيَان صِحَّة نِسبَة الكِتَاب إِلَى مؤَلِّفِهِ * تقدم ذكر الإمام العليمي، وإثبات نسبة الكتاب إليه في طرة النسخة الخطية للمكتبة السليمانية، والظاهرية، ونسختي الخطية "ن"، وكذا ما جاء في نهاية النسختين الخطيتين للمكتبة السليمانية، وشستربتي من ختم المؤلف للكتاب، والتصريح باسمه، ومكان جمعه، وسنة تأليفه. * ثم إن كل من ترجم له نسب إليه هذا التفسير، سواء مصرحًا باسمه "فتح الرحمن"، أو بذكر كتاب له في التفسير فقط. * ثم إني رأيت الإمام السفاريني في كتابه "كشف اللثام شرح عمدة الأحكام" نقل عن تفسير العليمي هذا في موضعين من كتابه، فلتراجع فيه. ***

المبحث الثالث منهج المؤلف في الكتاب

المبحث الثَّالث مَنْهَج المؤلَّف في الكِتَابِ أبان المؤلف -رحمه الله- في ديباجة كتابه هذا عن منهجه فيه، وما قصد له من تأليفه، فقال: "هذا كتاب لخصته مختصرًا، وهذبت لفظه محررًا، يتضمن نبذة من تفسير القرآن العظيم، وتأويل ما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اعتمدت في نقله على كتب أئمة الإسلام، وانتقيته من فوائد العلماء الأعلام". * ثم قال: "وذكرت فيه خلاف القراء العشرة المشهورين، الذين تواترت قراءتهم، واشتهرت روايتهم من طرق الرواة الثقات، والأئمة الأثبات. * وذكرت فيه أربعة وقوف: التام، والكافي، والحسن، والقبيح. * ثم قال: وإن كان في الآية الشريفة حكم متفق عليه، أو مختلف فيه بين الأئمة الأربعة، ذكرته ملخصًا، ولم ألتزم استيعاب الأحكام، بل أذكر المهم حسب الإمكان، ولم أتعرض لاختيار غيره من الأئمة المتقدمين، وحيث أقول في الحكم: بالاتفاق، فالمراد: اتفاق الأئمة الأربعة المشار إليهم". * قال: "وربما ذكرت مذاهبهم في شيء من أصول الدين والفقه على سبيل الاختصار في محلٍّ يناسبه". وقد قدّم المؤلف -رحمه الله- قبل الشروع في التفسير بعشرة فصول

ضمَّنها فوائد مما يتعلَّق بفضائل القرآن العظيم، وما ورد في تفسيره، وجمعه، وكتابته، وذكر الأحرف السبعة، وغير ذلك. فإذن التزم المؤلف -رحمه الله-: 1 - ذكر اختلاف القرَّاء العشرة، وذكر الوقوف في الآيات. 2 - ذكر المسائل الفقهيَّة ملخصة، مقتصرًا على المهم فيها، وذلك بين الأئمة الأربعة فقط. 3 - ذكر المسائل العقدية على سبيل الاختصار أيضًا. 4 - ذكر الفوائد واللطائف المتعلِّقة بالآية. * أمَّا القراءات: فقد التزم المؤلِّف بذكر الخلاف بين القرَّاء حيثما وجد، وذكر قواعدهم في ذلك، وتوجيه القراءة عند كل واحد، وما يبنى عليها من المعاني. مثال: قول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ (213)} [البقرة: 213]. قال المؤلف: -رحمه الله- (1/ 298): (ليحكم) قرأ أبو جعفر: بضم الياء وفتح الكاف؛ لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة، وإنما يحكم به. وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الكاف؛ أي: يحكم الكتاب؛ كقوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (29)} [الجاثية:29]. وقد تقدم عملُ المؤلف -رحمه الله- في القراءات على غيره في هذا الباب، بذكر الوقوف الأربعة؛ التام، والكافي، والحسن، والقبيح، على

رؤوس الكلمات مما اختاره الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني -رحمه الله-، وغيره. * وأما الأحكام الفقهيّة: فقد اقتصر المؤلف -رحمه الله- على المهم من المسائل المطروحة في آيات الأحكام وغيرها؛ ملخِّصًا الاتفاق والاختلاف بين الفقهاء الأربعة، معتمدًا في غالب نقوله على "تفسير البغوي"، و"المحرر الوجيز" لابن عطية، و"المغني" لابن قدامة، وغيرها. مُعْرِضًا عن ذكر أدلتهم في أكثر المسائل المذكورة في هذا الكتاب. * وأما المسائل العقدية: وهي التي قصدها المؤلف -رحمه الله- بقوله: وربما ذكرت مذاهبهم في شيء من أصول الدين والفقه على سبيل الاختصار في محل يناسبه. وقد التزم المؤلف -رحمه الله- بذكر مذهب أهل السنة في غالب المسائل التي ذكرها، على وجه الاختصار والإيجاز، وذلك كقوله (6/ 176) عند قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}: المراد من (مثله): ذاته، والشيء: عبارة عن الموجود. قال ابن عباس: ليس له نظير. فالتوحيد: إثبات ذات غير مشبهة للذوات، ولا معطلة من الصفات، ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة، إلا من جهة موافقة اللفظِ اللفظَ، وجلَّت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة، كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة، وحيث تراءى في مرآة القلب صورة، أو خطر بالخاطر مثال، أو ركنت النفس إلى كيفية، فليجزم بأن الله بخلافه؛ إذ كل ذلك من سمات الحدوث؛ لدخوله في دائرة التحديد والتكييف اللازمين للمخلوق، المنزَّه عنهما الخالق تعالى. وقال (2/ 529) في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ (59)} [الفرقان: 59]:

استواء يليق بعظمته بلا كيف، وهذا من المشكل الذي يجب عند أهل السنة على الإنسان الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله -عز وجل-، وسئل الإمام مالك -رضي الله عنه- عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم -يعني: في اللغة-، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وسئل الإمام أحمد -رضي الله عنه- عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، قال: هو كما أخبر، لا كما يخطر للبشر. وقال (2/ 232) في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}: مصدر معناه التأكيد، يدل على بطلان قول من يقول: خلق بنفسه كلامًا في شجرة، فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون فيه المتكلم متكلمًا. وكلام الله تعالى للنبي موسى دون تكييف ولا تحديد، فإنه سبحانه موجود لا كالموجودات، معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا كالكلام (¬1). إلا أن المؤلف -رحمه الله- لم يَسر على الجادة نفسها، فوقعت منه بعض المخالفات لِمَا التزمه من حكاية مذهب السلف، ومن ذلك قوله (5/ 508) في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)} [الصافات: 12]، على قراءة من قرأ بضم التاء من قوله: {عَجِبْتَ}: والتعجب من الله ليس كالتعجب من الآدميين؛ لأنه من الناس إنكار وتعظيم، ومن الله قد يكون بمعنى الإنكار والذم، وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا. ثم قال: وهي عبارة عما يظهره الله تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم أو التحقير، حتى يصير الناس متعجبين منه (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر أمثلة أكثر على ذلك: (1/ 133، 162، 194)، (2/ 319)، (6/ 46). (¬2) والتحقيق في هذا: أن نسبة التعجب إليه -سبحانه وتعالى- كنسبة سائر الصفات =

وفي قوله (2/ 379) في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (18)} [الأنعام: 18] المراد بـ "فوق": علو القدرة والشأن. هذا -على وجه الإجمال- المقاصدُ الكبرى التي قصدها المؤلف -رحمه الله- في تفسيره هذا، ونبه على ذكرها في مقدمة الكتاب. وفي تفاصيل الكتاب يَلحظ المطالع أمورًا عدة، من ذلك: 1 - التزامه بذكر مكي السور ومدنيها، وعدد آيات السورة وكلماتها وحروفها في أول كل سورة يفسرها. 2 - ذكر أسباب النزول عند كل آية ورد بخصوصها سبب، وذكره أهل التفسير في كتبهم. 3 - سرد قصص الأنبياء وأخبار الأمم السالفة، مع ذكر أسماء الأشخاص والأماكن وتاريخ وقوع الأحداث، وغالب ذلك يكون من الإسرائيليات. 4 - تفسير المفردات من حيث الوضع اللغوي والشرعي في غالب الأحيان. ¬

_ = والأفعال إليه، فإنه تعجب لا يماثل ولا يشابه تعجب المخلوقين، كما أن الرضا والغضب والحب والفرح وغير ذلك مما ورد في القرآن أو السنة الصحيحة لا تماثل ما للمخلوقين من ذلك. كما أن ذاته -سبحانه وتعالى- لا تشبه ذوات المخلوقين، وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم. ئم إن هذا التأويل -أعني: تأويل التعجب من الله بمعنى الإنكار أو الذم، أو بمعنى الرضا والاستحسان- لا يرفع الإشكال، إذ ما يستشكل من نسبة التعجب يلزم مثله من الرضا والذم ونحو ذلك، فإن قيل: رضا ليس كرضا المخلوقين، واستحسان ليس كاستحسان المخلوقين، فليُقل: تعجب ليس كتعجب المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يرد في هذا الباب، وبالله التوفيق.

5 - إيراد الأمثلة الدائرة على ألسنة الناس مما يوافق معنى الآية التي يفسرها، وذلك كقوله (3/ 192) عند قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (47)} [التوبة: 47]: وفي معنى قوله تعالى من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: للحيطان آذان. وقال (3/ 285) في معنى قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (39)} [يونس: 39]، من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: من جهل شيئًا عاداه. 6 - التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في القرآن العظيم؛ كالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وغيرهم. 7 - تلخيص الآية بعد تفسيرها؛ كقوله (1/ 406) في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ (282)} [البقرة: 282] المعنى: اجتنبوا معصية الله يعرفكم طرقَ فلاحِكم. تلخيصه: من راقب الله، أرشده. وكقوله (1/ 320) في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (226)} [البقرة: 226]. تلخيصه: استقرَّ للمؤمنين تربُّص أربعة أشهر. 8 - الإتيان بالفوائد واللطائف والإشارات الدقيقة، وذلك كقوله (1/ 115) في قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (61)} [البقرة: 61] قال: الفقر، سمي الفقير مسكينًا؛ لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، فترى اليهود -وإن كانوا أغنياء- كأنهم فقراء، فلا يرى في أهل المال أذل وأحرص على المال من اليهود. 9 - تحري الصواب والراجح من أقوال المفسرين في تفسير الآيات. ***

المبحث الرابع موارد المؤلف في الكتاب

المبحث الرابع مَوَارِد المؤَلِّف في الكِتَابِ أولًا: التفسير وما يتصل به: 1 - تفسير ابن جرير الطبري. 2 - "التنزيل" لأبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري، المتوفى سنة (406 هـ) (¬1). 3 - "معالم التنزيل" للبغوي. 4 - "الكشاف" للزمخشري. 5 - تفسير النسفي. 6 - "أحكام القرآن" لابن العربي. 7 - تفسير الرازي. 8 - "زاد المسير" لابن الجوزي. 9 - تفسير الثعلبي. 10 - "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي. 11 - "المحرر الوجيز" لابن عطية. ¬

_ (¬1) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 237).

12 - تفسير الثعالبي. 13 - تفسير الكَوَاشي (¬1). 14 - "البحر المحيط" لأبي حيان. * القراءات: 15 - "اللوامح في شواذ القراءات" لأبي الفضل الرازي، المتوفى سنة (454 هـ). 16 - "الإيضاح في علم القراءات" لأحمد بن أبي عمر الأندرابي، المتوفى سنة (470 هـ). 17 - "الشاطبية في القراءات". 18 - "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري. 19 - "إيضاح الرموز ومفتاح الكنوز في القراءات الأربعة عشر" لشمس الدين القباقبي (¬2). * غيرها: 20 - "التبيان في آداب حملة القرآن" للنووي. 21 - "الدر النظيم في فضائل القرآن الكريم" لأبي السعادات اليافعي، المتوفى سنة (750 هـ). ¬

_ (¬1) لأبي العباس الكواشي الشافعي -المتوفى سنة (680 هـ) - تفسيران، أحدهما كبير، ويسمى: "التبصرة"، والثاني صغير. انظر: "معرفة القراء الكبار" للذهبي (2/ 685). (¬2) للإمام شمس الدين محمد بن خليل القباقبي الحلبي، ثم المقدسي الشافعي، المتوفى سنة (849 هـ) نظم كثير منه: "جمع السرور ومطلع البدور"، و"إيضاح الرموز ومفتاح الكنوز"، وغيرهما. انظر: "الأنس الجليل" للمؤلف (2/ 179).

ثانيًا: الحديث وما يتصل به: 22 - صحيح البخاري. 23 - صحيح مسلم. 24 - مسند الإمام أحمد. 25 - "شعب الإيمان" للبيهقي. 26 - "سيرة ابن هشام". 27 - "شرح السنة" للبغوي. 28 - "فتح الباري" لابن حجر. 29 - "الشفا" للقاضي عياض. 30 - "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن" لابن الجوزي. 31 - "وفيات الأعيان" لابن خلكان. ثالثًا: الفقه: 32 - "المغني" لابن قدامة. 33 - "الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية. 34 - "الإنصاف" للمرداوي. 35 - "روضة الطالبين" للنووي. 36 - "مختصر الشيخ خليل" في الفقه المالكي. * غيرها: 37 - شرح مقامات الحريري، لأبي العباس الشريشي، المتوفى سنة (619 هـ). ***

المبحث الخامس منزلة الكتاب العلمية

المبحث الخامس مَنزِلَة الكِتَاب العِلْميَّة وفيه مطلبان: * المطلب الأول: أهمية الكتاب ومزاياه: يعد هذا الكتاب من تفاسير الحنابلة التي سلمت من الضياع، والتي لم يخرج منها إلا النزر القليل (¬1)، ومؤلفه الإمام مجير الدين العليمي من أئمة الحنابلة في القرن العاشر الهجري، قد اعتنى فيه: بذكر القراءات، واختلاف القراء فيها، وتوجيهها، وذكر معانيها. وذكر فيه عقائد أهل السنة على وجه مختصر مفيد. ¬

_ (¬1) فمن كتب الحنابلة المشهورة والمتداولة في التفسير: "زاد المسير" لابن الجوزي، و"رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز" للإمام عبد الرزاق الرسعني المتوفى سنة (661 هـ)، و"تفسير اللباب" لابن عادل الحنبلي، و"مجموع تفاسير" شيخ الإسلام ابن تيميّة، وتلميذه الإمام ابن القيّم -رحمهم الله أجمعين-. ومن تفاسير الحنابلة المعاصرة التي لاقت قبولًا عند الناس كافة: تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي المسمى: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ولشيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- في الدروس التفسيرية، والتي صدرت في مجموعة مطبوعة بعنوان: "تفسير القرآن العظيم". هذا وقد جمع الدكتور سعود الفنيسان "آثار الحنابلة في علوم القرآن"، فَيَسَّرَ على نحو كبير تقريب تراث الحنابلة وجهودهم في التفسير.

وسرد فيه فقه الأئمة الأربعة وفق منهج قويم، بعيد عن التعصب والتقليد. واعتمد على الصحيح الراجح من أقوال المفسرين. وجاءت عبارته سهلة ميسرة قريبة من كل العقول والأفهام. ومن هنا امتدحه الإمام الغزي بقوله: وقفت له -أي: الإمام العليمي- على تفسير جليل على القرآن العظيم يشبه تفسير القاضي البيضاوي (¬1). وقال فيه العلامة ابن بدران الحنبلي: وقد رأيته في مجلد، يفسر تفسيرًا متوسطًا، ويذكر القراءات، وإذا جاءت مسألة فرعية، ذكر أقوال الأئمة الأربعة فيها، وفيه فوائد لطيفة (¬2). * المطلب الثاني: المآخذ على الكتاب: 1 - نقل المؤلف -رحمه الله- بعض المخالفات والإسرائيليات والاعتقادات التي لم ترد فيها نصوص صحيحة من كتب التفسير وغيرها، وإثباتها في كتابه هذا دون التنبيه إليها، ومن ذلك قوله: من قرأ حين يخاف مضرة الحيَّة والعقرب {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات: 79] ما ضرتاه (¬3). وقوله: إن آخر آية من سورة محمد قد حوت كل حروف المعجم، ومن دعا بها الله، استجيب له (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 82). (¬2) انظر: "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" لابن بدران (ص: 476). (¬3) انظر: (3/ 342) من هذا الكتاب. (¬4) انظر: (6/ 357)، وانظر: (2/ 46 - 47).

ومن ذلك قوله في قبر لقمان: وأنه مقصود للزيارة (¬1). وكذا ما ذكره في قصة أصحاب الكهف، وغيرها. 2 - إغفال المؤلف -رحمه الله- للموارد التي ينقل عنها في غالب الأحيان، فقد أكثر النقل من تفسيري: "البغوي"، و"ابن عطية"، وغيرهما، ولم يصرح بالنقل عنهما إلا في مواضع قليلة جدًّا. ... ¬

_ (¬1) انظر: (5/ 304). وقد رأيت له من ذلك كثيرًا في كتابه الآخر: "الأنس الجليل"، انظر على سبيل المثال: (2/ 175 - 176 - 177).

المبحث السادس وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق

المبحث السادس وَصفُ النّسخِ الخَطّيَّة المُعتَمَدَة في التَّحْقِيقِ تم الوقوف- بحمد الله- في تحقيق هذا السِّفر على أربع نسخ خطية: أولاها: نسخة المكتبة السليمانية في تركيا. وثانيتها: نسخة تشستربتي في مدينة دبلن بإيرلندا. وثالثتها: نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق. ورابعتها: نسخة خاصة من خزانة مخطوطاتي الأصلية -عمرها الله بكل نفيس مفيد، وحفظها بحفظه الدائم-. وهذا وصف لكلِّ واحدة منها: * النسخة الأولى: وهي من محفوظات المكتبة السليمانية بتركيا، ضمن مجموع تحت رقم (143)، وتتألف من جزأين في (379) ورقة: أما الجزء الأول: فيقع في (194) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (31) سطرًا، وفي السطر (18) كلمة تقريبًا. أوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده، حمدًا يليق بجلال عظمته، ورفيع مجده. . .

وآخره عند سورة الإسراء. وجاء في نهايته: وقد وافق الفراغ من هذا الكتاب ثامن عشر شهر رمضان المعظم قدره، من شهور سنة ست عشرة وألف. أحسن الله ختامها، على يد أضعف العباد، الراجي عفو مالك المحامد، الفقير يحيى بن حامد، وذلك بالمسجد الأقصى الشريف المعظم قدره،. . . والحمد لله رب العالمين. وأما الجزء الثاني: من هذه النسخة، فيقع في (185) ورقة، ويبتدئ من أول سورة الكهف، وينتهي بآخر سورة من القرآن الكريم، وجاء في آخره: قال جامعه -عفا الله عنه بكرمه-: وكان الفراغ من جمع هذا الجزء، عقب صلاة الظهر من يوم الخميس، الثالث والعشرين من شهر صفر، ختم بالخير والظفر، سنة أربع عشرة وتسع مئة، من الهجرة الشريفة النبوية المحمدية. . . وكان جمعه بالمسجد الأقصى الشريف -شرفه الله وعظمه- بقبة موسى -عمرها الله بذكره-. ووافق الفراغ من تبييضه عقب صلاة الظهر من يوم السبت، السابع والعشرين من جمادى الأولى، سنة سبع عشرة وتسع مئة وألف، الحمد لله وحده. . . فهذه النسخة إذن قريبة العهد بمؤلفها، إذ ناسخها السيد يحيى بن حامد قد انتسخها سنة (1016 هـ). وقد جاء على طرة الكتاب: اسم الكتاب ومؤلفه، وفهرست لأسماء السور وأرقام اللوحات الواردة فيها. وعلى هذه النسخة عدة أختام، وقد لونت فيها الفصول وأسماء السور والآيات باللون الأحمر، ووضعت على الآيات الرموز التي التزمها المؤلف من الوقف وغيره.

وجاء على هوامشها تنبيهات إلي بداية ونهاية الأجزاء، وكذا أسماء السور، وفيها تنبيهات لما كرره المؤلف في بعض المواضع، وذكر المهمات التي أوردها المؤلف؛ كقول الناسخ: فائدة عزيزة، أو غريبة، أو مفيدة، ونحو ذلك. ويذكر أحيانًا توضيحات للمبهمات عند المؤلف، وإحالات على مراجع أُخر لزيادة على ما ذكره المؤلف. وهذه النسخة نسخة جيدة في مجملها، معتمدة في إثبات نص مؤلفها، ولولا ما تخللها من بعض الأسقاط القليلة (¬1)، وبعض التحريفات والتصحيفات، لأغنت في بابها عن كل نسخ الكتاب الموجودة. وقد رُمز هذه النسخة بالرمز "ت". * النسخة الثانية: وهي من محفوظات مكتبة تشستربتي في مدينة "دبلن" بإيرلندا، وتقع في (314) ورقة، تتألف من جزأين: أما الجزء الأول: فهو يتألف من (145) ورقة، في كل ورقة وجهان، الوجه (27) سطرًا، وفي السطر (22) كلمة تقريبًا. وهو مخروم في أوله، يبدأ عند قوله: الأربعة المشار إليهم، وربما ذكرت مذاهبهم في شيء من أصول الدين والفقه. . . إلى أن ذكر: في ذكر ما ورد في فضائل القرآن العظيم. وآخره ينتهي عند قوله في سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]: واستعارة الشفاء للقرآن هو ¬

_ (¬1) وهذه مواضع الأسقاط كما أثبتت في المطبوع: (1/ 223)، (2/ 177)، (5/ 236، 370، 393).

بحسب إزالته للريب، وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات. وبعد هذا سقط إلى نهاية سورة الإسراء. وأما الجزء الثاني: فيقع في (169) ورقة، ويبدأ من سورة الكهف بقوله: سورة الكهف مكية في قول جميع المفسرين. وآخره: قال جامعه الفقير إلى رحمة ربه عبد الرحمن بن محمد العمري الحنبلي -ستره الله بحلمه، ولطف به-. . .: جمعته بالمسجد الأقصى الشريف -شرفه الله- في قبة موسى -عمرها الله بذكره- تجاه باب السلسلة، أحد أبواب المسجد الأقصى، في نحو ثمانية عشر شهرًا، وكان الفراغ منه في غرة يوم الجمعة الغراء من شهر رمضان المعظم قدره وحرمته من شهور سنة أربع عشرة وتسع مئة من الهجرة. وجاء بعده اسم ناسخه ابن عادل المرعشي الحنفي، الذي انتهى من نسخه سنة (966 هـ) أي: بعد وفاة المؤلف -رحمه الله- بثمان وثلاثين سنة. وهذه النسخة لا بأس بها في المقابلة، إلا أنه قد أكثر فيها التصحيف والتحريف، وتكررت فيها الأسقاط (¬1). وقد رُمز لهذه النسخة بالرمز "ش". * النسخة الثالثة: وهي من محفوظات المكتبة الظاهرية بدمشق، برقم (9287)، وتحتوي على المجلد الأول فقط من الكتاب، ويقع في (322) ورقة، في ¬

_ (¬1) وهذه مواضع الأسقاط كما أثبتت في المطبوع: (2/ 11، 82، 336)، (3/ 495)، (4/ 40)، (4/ 142)، (6/ 357، 466)، (7/ 453).

كل ورقة وجهان، وفي الوجه (25) سطرًا، وفي السطر (14) كلمة تقريبًا. أولها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده، حمدًا يليق بجلالة عظمته، ورفيع مجده. . . وآخرها: نهاية سورة الإسراء عند قوله: قال عمر -رضي الله عنه-: قول العبد: الله أكبر، خير من الدنيا وما فيها، وهي أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، ثم أكدها. . . وقد كتب في هوامشها أوائل الأجزاء، وآخرها، وأقسامها، كما ألحقت بعض الاستدراكات التي سقطت أثناء النسخ. وهذه النسخة أفضل من سابقتيها؛ لضبط أكثر الكلام فيها بالشكل، ولخلوها من الأسقاط الموجودة في النسختين السابقتين، لولا أنها ناقصة المجلد الثاني، وإهمال رموز الوقف وغيرها التي وضعها المؤلف في أول الكتاب. وقد رُمز لهذه النسخة بالرمز "ظ". * النسخة الرابعة: وهي تتألف من جزء واحد فقط، وتقع في (270) ورقة، وفي الورقة وجهان، وفي الوجه (26) سطرًا، وفي السطر (12) كلمة تقريبًا. جاء على ظاهرها: الجزء الأول من "فتح الرحمن بتفسير القرآن" جمع القاضي مجير الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد العمري العليمي، صاحب التاريخ، نفعنا الله تعالى به.

وكتب عليه أيضًا: من أول القرآن إلى سورة يوسف، وقد كمل بحمد الله سبحانه في مجلدين آخرين. وقد كتب على ظاهرها بعض التملكات. أولها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده حمدًا يليق بجلال عظمته، ورفيع مجده. وآخرها: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا (12)} إلى الصحراء {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ (12)} [يوسف: 12]. . . ويلهو. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: بالنون فيهما، وابن كثير: بكسر العين من (يرتع). وهذه النسخة جيدة معتمدة أكثر من غيرها لو أنها كانت كاملة، فقد لونت فيها الآيات باللون الأحمر، وأسماء السور باللون الأخضر، والرموز التي التزمها المؤلف باللون الأصفر، إلا أنها أهملت عند نهاية سورة الأنعام، كما أثبت على هوامشها تقسيمات الأجزاء والأحزاب، وذكر العناوين والتنبيهات التي أوردها المؤلف في تفسيره. ولم يقع فيها إلا سقط واحد كما بين في (2/ 156) من هذا الكتاب. وقد رمز لهذه النسخة بالرمز "ن". ***

المبحث السابع بيان منهج التحقيق

المبحث السابع بَيَان منْهَج التَّحقِيق 1 - نسخ النسخة الخطية لمكتبة تشستربتي، وذلك بحسب رسم وقواعد الإملاء الحديثة. 2 - معارضة المنسوخ بالأصول الخطية المعتمدة في التحقيق، وهي نسخة المكتبة السليمانية ونسخة الظاهرية ونسختي الخاصة. 3 - إثبات الفروق المهمة بين النسخ الخطية باعتماد الصواب في النص، والإشارة إلى الأسقاط الموجودة في النسخ كافة. 4 - الزيادة في مواضع عدة ما كان النص لا يقوم إلا به، وجعل هذه الزيادة بين معكوفتين. 5 - إدخال علامات الترقيم المعتادة على النص، وتفقير الكتاب. 6 - إدراج الآيات القرآنية كاملة في بداية تفسير كل آية يتكلم عليها المؤلف برسم المصحف الشريف على رواية حفص، ملونة باللون الأخضر. 7 - ضبط الأحاديث النبوية بالشكل، وكذا ضبط نص الكتاب بالشكل شبه الكامل، تيسيرًا وتسهيلًا على مطالعه. 8 - تخريج الأحاديث النبوية الواردة لدى المؤلف، فإن كان الحديث

في "الصحيحين" أو أحدهما، فإنه يكتفي بالعزو إليهما دون غيرهما، وإلا، فمن باقي الكتب الستة، وذلك بذكر رقم الحديث والباب والكتاب اللذين ورد فيهما الحديث، مع الإشارة إلى اسم الصحابي الذي روى الحديث، فإن لم يكن فيها، تم تخريجه من غير الكتب الستة بذكر المصدر، ورقم الحديث، أو الجزء والصفحة. 9 - عزو أسباب النزول التي ذكرها المؤلف إلى مصادرها -ما أمكن-. 10 - عزو القراءات إلى الكتب التي اعتنت بذلك؛ لتيسير الرجوع إلى مظانها. 11 - عزو الآثار الواردة؛ بذكر اسم المصدر، ورقم الأثر، أو الجزء والصفحة. 12 - التنبيه إلى بعض القصص والأخبار والإسرائيليات في غالب الأحيان. 13 - عزو النقول والأقوال التي يصرح المؤلف -رحمه الله- بذكرها. 14 - كتابة مقدمة للكتاب، مشتملة على ترجمة للمؤلف، ودراسة للكتاب. 15 - تذييل الكتاب بفهارس علمية مشتملة على: - فهرس الآيات القرآنية. - فهرس الأحاديث النبوية. - فهرس الآثار والأقوال. - فهرس الإسرائيليات.

- فهرس موضوعات الكتاب. - فهرس القراء. - فهرس الأعلام. - فهرس السور وما يحتوي الكتاب. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ***

صور المخطوطات

صُوَر المخْطُوطات

صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من نسخة تشستربتي المرموز لها بـ "ش"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة تشستربتي المرموز لها بـ "ش"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الثاني من نسخة تشستربتي المرموز لها بـ "ش"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة تشستربتي المرموز لها بـ "ش"

صورة غلاف الجزء الأول من النسخة الخطية للمكتبة السليمانية بتركيا المرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من النسخة السليمانية المرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من النسخة السليمانية المرموز لها بـ "ت"

صورة غلاف الجزء الثاني من النسخة الخطية للمكتبة السليمانية المرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الثاني من النسخة السليمانية المرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من النسخة السليمانية المرموز لها بـ "ت"

صورة غلاف الجزء الأول من نسخة المكتبة الظاهرية المرموز لها بـ "ظ"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من نسخة الظاهرية المرموز لها بـ "ظ"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة الظاهرية المرموز لها بـ "ظ"

صورة غلاف الجزء الأول من نسختي الخطية، المرموز لها بـ "ن"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من نسختي الخطية المرموز لها بـ "ن"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من نسختي الخطية المرموز لها بـ "ن"

فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيْرِ القُرآنِ تَأليف الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ المولود سنة (860 هـ) - والمتوفى سنة (927 هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى المُجَلَّد الأَوَّلُ اعتَنَى بِهِ تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا نُوْرُ الدِّيْن طَالب إصدَارات وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ دولة قطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

[مقدمة المصنف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى الله عَلَى سَيِّدنَا محمَّد وَآلهِ وَصَحبهِ وَسَلَّم الحمدُ للهِ الذي نزَّل الفرقانَ على عبدِه، حمدًا يليقُ بجلالِ عظمتِه ورفيعِ مجدِه. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، إلهٌ سَبَّحَ كلُّ شيءٍ بحمدِه. وأشهدُ أن سيدَنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي أرسلَه رحمةً للعالمين وأَيَّدَهُ بملائكةٍ من عندِه، وصلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأنصارِه وجندِه. أمّا بعد: فهذا كتابٌ لَخَّصْتُهُ مختصرًا، وهَذَّبْتُ لفظَهُ محرَّرًا، يتضمَّنُ نبذةً من تفسيرِ القرآنِ العظيمِ، وتأويل ما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيم. اعتمدْتُ في نقلِه على كتبِ أئمةِ الإسلام، وانتقيتُه من فوائدِ العلماءِ الأعلام. وذكرتُ فيه خلافَ القراءِ العشرةِ المشهورينَ الذين تواترتْ قراءتُهم، واشتهرت روايتُهم من طرقِ الرواةِ الثقاتِ، والأئمةِ الأثباتِ. وهم: أبو رُوَيْمٍ نافعُ بنُ عبدِ الرحمنِ، وأبو جعفرٍ يزيدُ بنُ القَعْقاعِ المدنيَّان، وأبو معبدٍ عبدُ اللهِ بنُ كثيرٍ المكيُّ، وأبو عمرٍو زبانُ بنُ العلاءِ المازنيُّ، وأبو محمدٍ يعقوبُ بنُ زيدٍ الحضرَميُّ البصريَّان، وأبو عمرانَ

عبدُ اللهِ بنُ عامرٍ الشاميُّ، وأبو بكرٍ عاصمُ بنُ أبي النجودِ الأسديُّ، وأبو عمارةَ حمزةُ بنُ حبيبٍ الزيَّاتُ، وأبو الحسنِ عليُّ بنُ حمزةَ الكِسائيُّ الكوفيون. ويدخلُ معهم أبو محمدٍ خلفُ بنُ هشامٍ البزاز؛ لموافقِته لهم -رضي الله عنهم أجمعين-. وذكرتُ فيهِ أربعةَ وقوفٍ: التامُّ، والكافي، والحسنُ، والقبيحُ مما اختارَه الإمامُ أبو عمرٍو عثمانُ بنُ سعيدٍ الداني -رحمه الله- وغيرُه. وكتبتُ لفظَ الكتابِ العزيزِ بالأحمرِ، وتفسيرَه بالأسودِ، وإشارةَ الوقوفِ بينَ الأسطرِ بالأصفرِ، فللتامِّ (ت)، وللكافي (ك)، وللحسن (ح) وللقبيح (ق) (¬1). فالوقفُ التامُّ هو الذي يحسُنُ القطعُ عليهِ والابتداءُ بما بعدَهُ؛ لأنه لا يتعلَّق بشيء مما بعدَه (¬2). والكافي هو الذي يحسُنُ الوقفُ عليه أيضًا، والابتداءُ بما بعدَه، غيرَ أنَّ الذي بعدَه متعلِّقٌ به من جهةِ المعنى دونَ اللفظ. والحسنُ هو الذي يحسُنُ الوقفُ عليه، ولا يحسُنُ الابتداءُ بما بعدَه؛ لتعلُّقه به من جهةِ اللفظِ والمعنى جميعًا، ويسمَّى هذا الضربُ: صالحًا؛ إذ لا يمكنُ القارئ أن يقفَ في كلِّ موضع على تامٍّ ولا كافٍ؛ لأنَّ نَفَسَهُ ينقطعُ دونَ ذلكَ. وأما الوقفُ القبيحُ، فهو الذي لا يُعرف المرادُ منه، وذلكَ نحوُ الوقفِ ¬

_ (¬1) وهذه الرموز ظاهرة في النسخة التركية (ت)، وقد تم إغفالها في عملنا هنا، نظرًا لصعوبة إدخالها على رسم المصحف الحالي، ولعل الله تعالى يهيئ لنا إدخالها بطريقة فنية معينة في الطبعات القادمة، إن شاء الله تعالى. (¬2) في "ن": "لا يتعلق شيء مما بعده به".

على قوله: (بِسْمِ) و (مَالِكِ) و (رَبِّ) و (رُسُلِ) وشبهِه، والابتداءُ بقوله: (اللهِ) و (يَوْمِ الدِّينِ) و (الْعَالَمِينَ) و (السَّمَوَاتِ) و (اللهِ)؛ لأنه إذا وقفَ على ذلك لم يعلمْ إلى أَيِّ شيءٍ أُضيف، وهذا يسمَّى وقفَ الضرورة؛ لتمكنِ انقطاعِ النفسِ عندَه، والجُلَّةُ (¬1) من القراءِ وأهلِ الأداء ينهَوْنَ عن الوقفِ على هذا الضرب، وينكرونه، ويستحبُّونَ لمنِ انقطعَ نفسُه عليه أن يرجعَ إلى ما قبلَه حتى يصلَه بما بعده، وغيرُه يستسمِجون الوقفَ على القبيحِ؛ لأنَّ القارئَ يقدرُ على تفقُّدِه وتجنُّبِهِ. وإذا كانَ في الآيةِ الشريفةِ حكمٌ متفَقٌ عليه، أو مختلَف فيه بينَ الأئمةِ الأربعةِ، وهم: أبو حنيفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ -رضي الله عنهم- ذكرتُه ملَخَّصًا، ولم ألتزم استيعابَ الأحكامِ، بل أذكرُ المهمَّ حسبَ الإمكان، ولم أتعرَّض لاختيارِ غيرِهم من الأئمةِ المتقدِّمين، وحيثُ أقولُ في الحكم: بالاتفاقِ، فالمرادُ: اتفاقُ الأربعةِ المشارِ إليهم. وربما ذكرتُ مذاهبَهم في شيءٍ من أصولِ الدينِ والفقه على سبيلِ الاختصار في محلٍّ يناسبهُ، والله الموفق. وقد جعلتُ في أولِه قبلَ الشروعِ في التفسيرِ عشرةَ فصولٍ ضَمَّنْتُها فوائدَ مما يتعلَّقُ بفضائلِ القرآنِ العظيم، وما وردَ في تفسيرهِ وجمعِه وكتابتِه، وغيرِ ذلكَ مما يحسُنُ ذكرُه إنْ شاءَ الله تعالى. واللهُ سبحانَه المسؤولُ أن يجعلَه خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعَ بهِ بِمَنِّهِ وكرمِه، إنَّه مَنَّانٌ كريمٌ. ... ¬

_ (¬1) في "ن": "الجل".

فصل في ذكر ما ورد في فضائل القرآن العظيم وتعليمه وتلاوته ووعيد من قال فيه بغير علم

فَصْلٌ في ذِكْرِ ما وَرَدَ في فَضَائِل القُرآنِ العَظِيْمِ وَتَعْليمهُ وَتلَاَوتهُ وَوَعِيد مَنْ قَالَ فِيْهِ بِغَيْر عِلْمٍ روي عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُوتِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُوتِيَ، فَقَدِ اسْتَصْغَرَ مَا عَظَّمَ اللهُ" (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" (¬2). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنِ اسْتَمَعَ إلى آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، كُتِبَ لَهُ حَسَنَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، كَانْتَ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: 275)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7/ 159 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2590)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 396)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (68/ 225)، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. قال الهيثمي: فيه إسماعيل بن رافع، وهو متروك. (¬2) رواه البخاري (4739)، كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، عن عثمان -رضي الله عنه-. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 341)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1981)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَارِ" (¬1). ... ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2950)، كتاب: التفسير، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، وقال: حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" (8084)، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 233)، وغيرهم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

فصل في فضل تفسير القرآن

فَصْلٌ في فَضْلِ تَفْسِيرِ القُرآنِ رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "لاَ يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثيرَةً" (¬1). وقالَ أبو العاليةِ في تفسيرِ قوله -عز وجل-: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (269)} [البقرة: 269] قالَ: الحكمةُ: الفهمُ في القرآن (¬2). وقال إياسُ بنُ معاويَة: مثلُ الذينَ يقرؤونَ القرآنَ وهم لا يعلمونَ تفسيرَهُ، كمثلِ قومٍ جاءَهم كتابٌ من مَلِكِهم ليلًا، وليسَ عندَهم مصباحٌ، فتداخَلَتْهم روعَةٌ و (¬3) لا يَدْرونَ ما في الكتابِ، ومثلُ الذي يعرفُ التفسيرَ، كَمَثَلِ رَجُلٍ جاءَهم بالمصباحِ، وقرؤوا ما في الكتابِ (¬4). ... ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"، وابن أبي شيبة في "المصنف" (30163)، لكن عن أبي الدرداء موقوفًا عليه من قوله. (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (3/ 90). (¬3) "و" سقط من "ن". (¬4) انظر: "تفسير القرطبي" (1/ 26)، و"تفسير الثعالبي" (1/ 11)، و"فتح القدير" للشوكاني (1/ 14).

فصل في الكلام في تفسير القرآن الكريم

فَصْلٌ في الكَلاَمِ في تَفْسِيرِ القُرآنِ الكَرِيمِ التفسيرُ أصلُه: الكشفُ والإظهارُ، وهو علمُ نزولِ الآيةِ وشأنِها وقصِتها والأسبابِ التي أنزلَتْ فيها، والأقوامِ الذينَ أريدوا بها. والتأويل: مِنَ الأَوْلِ، وهو الرجوعُ، يقال: أَوَّلْتُهُ فآلَ؛ أي: صرفْتُهُ فانصرَفَ، فتأويلُ الآيةِ: صرفُها إلى معنىً تحتملُه موافِقًا لما قبلَها أو ما بعدَها. ويروى أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ تَكَلَّمَ (¬1) فِي الْقُرآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، فَقَدْ أَخْطَأَ" (¬2). ... ¬

_ (¬1) في "ن": "من تعلم". (¬2) رواه أبو داود (3652)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، وغيره، عن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه-.

فصل في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه

فَصْلٌ في مَعنَى قَولِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ هَذَا القُرآن أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ، فَاقْرَؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (¬1) اختلفَ العلماءُ في معنى هذا الحديثِ، وأكثرهُم على أنَّ المرادَ به: أُنزلَ على سبعِ لغاتٍ؛ أي: فيهِ عبارةُ سبعِ قبائلَ، بلغةِ جملتِها نزلَ القرآنُ، فيعبَّرُ عن المعنى فيه مرةً بعبارةِ قريشٍ، ومرةً بعبارةِ هُذَيلٍ، ومرةً بعبارةِ أسدٍ، ومرةً بغيرِ ذلكَ بحسبِ الأفصحِ والأوجزِ في اللفظِ. وقد وَهِمَ بعضُ الناسِ فظنَّ أن المرادَ بالسبعةِ أحرفٍ الواردةِ في الحديثِ الشريفِ هي: قراءةُ الأئمةِ السبعةِ المشهورينَ، وهم: نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وهو خطأ؛ فإنَّ أئمةَ القراءةِ خلقٌ كثيرٌ، ومن جملتِهم هؤلاءِ السبعةُ، وأولُ من جمعَ قراءتَهم الأستاذُ الرُّحَلَةُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ موسى بنِ مجاهدٍ التميميُّ البغداديُّ بعدَ المئةِ الثالثةِ، واقتصرَ عليهم فقط، فظنَّ مَنْ لا علمَ له أنَّ هذهِ هي السبعةُ المذكورةُ في الخبر النبويِّ لا غيرُ، وليسَ الأمرُ كذلك، بل هي لغاتٌ للعربِ متفرقَةٌ في القرآنِ، مختلفةُ الألفاظِ، متفقَةُ المعاني. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4706)، كتاب: فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم (818)، كتاب، صلاة المسافرين وقصرها، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

فالقراءات السبعُ متواترةٌ بالاتفاقِ، وكذا الثلاثُ الزائدةُ عليها على الصحيح، وما لم يتواترْ، فليسَ بقرآنٍ، وهو ما خالفَ مصحفَ عثمانَ -رضي الله عنه-، وتكرهُ قراءةُ ما صحَّ منه، ولا تصح الصلاةُ به بالاتفاق، ويجوزُ عندَ أبي حنيفة أن يقرأ بالفارسيةِ إذا أدتِ المعانيَ على كمالها من غيرِ أن يخرمَ منها شيئًا، وعنهُ: لا تجوزُ القراءةُ بالفارسيةِ إلا للعاجزِ عن العربيةِ، وهو قولُ صاحبيهِ، وعليهِ الاعتمادُ، وعندَ الثلاثة: لا تجوزُ بغيرِ العربيةِ، والله أعلمُ. ومصحفُ عثمانَ أحدُ الحروفِ السبعةِ، وهو قولُ أئمةِ السلفِ -رضي الله عنهم-. والتواترُ لغةً: التتابُعُ بمُهْلةٍ، واصطلاحًا: خبرُ جمعٍ مفيدٌ للعلم. والآحاد: ما لم يتواترْ. وللراوي شروطٌ منها: الإسلامُ والعقلُ والبلوغُ والضبطُ بالاتفاق، وكذا العدالةُ، وهي: صفة راسخةٌ في النفس تحملُ على ملازمةِ التقوى والمروءةِ، وتركِ الكبائرِ والرذائلِ بلا بدعةٍ مغلَّظةٍ. وعن (¬1) أبي حنيفةَ: تُقبَلُ روايةُ مجهولِ العدالةِ، واللهُ أعلم. ... ¬

_ (¬1) في "ن": "عند".

فصل في ذكر جمع القرآن وكتابته

فَصْلٌ في ذِكْرِ جَمْعِ القُرآن وَكِتَابَتِهِ كانَ القرآنُ في مدَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - متفرِّقًا في صدورِ الرجال، وقد كتبَ الناسُ منهُ في صُحُفٍ، وفي جَريدٍ، وفي خَزَفٍ وغيرِ ذلكَ، فلما تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقامَ بالأمرِ بعدَه أَحَقُّ الناسِ بهِ أبو بكرٍ الصدِّيقُ -رضي الله عنه-، وقاتل الصحابةُ -رضوانُ الله عليهم- أهلَ الردَّةِ، وأصحابَ مسيلمةَ، وقُتِلَ من الصحابةِ نحوُ الخمسِ مئةٍ، أُشير على أبي بكرٍ بجمعِ (¬1) القرآنِ في مصحفٍ واحدٍ خشيةَ أن يذهبَ بذهابِ الصحابةِ، فتوقَّفَ في ذلك من حيثُ إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرْ (¬2) في ذلك بشيء، ثم اجتمعَ رأيُه ورأيُ الصحابةِ على ذلكَ، فأمرَ زيدَ بنْ ثابتٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- بتتبُّعِ القرآنِ وجمعِه، فجمعَهُ في صحفٍ غيرَ مرتَّبِ (¬3) السُّوَرِ بعدَ تعبٍ شديدٍ منه. وكانتِ الصحفُ عندَ أبي بكرٍ رضي الله عنه حتى تُوفِّيَ، ثم عندَ عمرَ -رضي الله عنه- بعدَه، ثم عندَ حفصةَ -رضي الله عنها- في خلافةِ عثمانَ -رضي الله عنه-، وانتشرت في خلالِ ذلك صحفٌ في الآفاق كُتبتْ عن ¬

_ (¬1) في "ن": "جمع". (¬2) في "ن": "يأمره". (¬3) في "ن": "مرتبة".

الصحابةِ؛ كمصحفِ ابنِ مسعودٍ، وما كُتِبَ عن الصحابةِ بالشام، ومصحفِ أُبَيٍّ -رضي الله عنه-، وغير ذلك، وكان في ذلك اختلافٌ حسب السبعةِ الأحرفِ التي أُنزل القرآنُ عليها. ولما كانَ في حدودِ سنةِ ثلاثينَ من الهجرةِ النبوية (¬1) الشريفةِ في خلافةِ عثمانَ -رضي الله عنه- حضرَ حذيفةُ بنُ اليمانِ فتحَ أرمينيةَ وأَذربيجانَ، فرأى الناسَ يختلفونَ في القرآنِ، ويقولُ أحدُهم للآخَرِ: قراءتي أصحُّ من قراءتِكَ، فأفزعَهُ ذلكَ، وقدمَ على عثمان -رضي الله عنه-، وقال: أدركْ هذه الأمةَ قبل أن يختلفوا اختلافَ اليهودِ والنصارى، فأرسلَ عثمانُ إلى حفصة؛ أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخُها، ثم نردُّها إليك، فأرسلَتْها إليه، فأمرَ زيدَ بنَ ثابتٍ وعبدَ الله بنَ الزبير، وسعيدَ بنَ العاص، وعبدَ الرحمن بنَ الحارث بنِ هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيدٌ في شيء، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزلَ بلسانهم، فكتب منها عدةَ مصاحفَ؛ فوجَّه بمصحفٍ إلى البصرة، ومصحفٍ إلى الكوفة، ومصحفٍ إلى الشام، وتركَ مصحفًا بالمدينة، وأمسكَ لنفسِهِ مصحفًا الذي يقال له: الإمام، ووجَّه بمصحفٍ إلى مكة، وبمصحفٍ إلى اليمن، وبمصحفٍ إلى البحرين، وأمرَ بما سواها من المصاحف أن تحرق -بحاء مهملة-، أو تخرق -بخاء معجمة على معنى، ثم تدفن (¬2). ¬

_ (¬1) "النبوية" زيادة من "ن". (¬2) رواه البخاري (4702)، كتاب: فضائل القرآن، باب: جمع القرآن، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- نحوه.

قال ابن عطية: ورواية الحاء غير منقوطة أحسنُ (¬1). ولما جمعت المصاحف وعُرضت، نظر فيها عثمان رضي الله عنه، فقال: قد أحسنتم وأجملْتم، غير أنا نرى فيها لحنًا، وسنُقيمه بألسنتنا (¬2). ووجه ذلك: أنه وجدهم كتبوا حروفًا على خلاف ما اقتضاه اللفظ. ومنها ما كان على الأصل، ولو تلفظ به لكان لحنًا. ومنها ما كان من طغيان القلم بحيثُ علمَ عثمانُ أنه لا يعرض في مثله ريبٌ، من نحو ما كتبوا: (الرّبوا) بالواو في جميع القرآن، إلا ما في سورة الروم، من قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم: 39] وهو في الأصل من ربا يربو، وتظهر الواو في التثنية، فيقال: رِبَوان، وكأنه كان في الأصل رِبَوٍ على وزن فِعَلٍ، فكُرهت الحركةُ على الواو، وطُلبَ منها السكون، فإذا سُكِّنت، التقَتْ مع التنوين، وهو ساكن، فتسقط الواو؛ لسكونها وسكونِ التنوين. فكأن الكاتب حملَ ما هو الأصلُ، فخرجَ عَمَّا يطابقُه اللفظ، وكذلك: (الصلوةُ والزكوةُ) كُتبتا بالواو، وهي الأصل، والجمعُ يُظهر ذلك، إذا قيل: صلوات وزكوات، كأنها كانت في الأصل صَلَوَةً وزَكَوَةً، ولكنه لما كُرهت حركةُ الواو، وكانت قبلها فتحةٌ، انقلبتْ ألفًا، وكذلك (الحيوة) كتبت بالواو، وهي الأصل، ولكنَّ اللفظ المعروف في أهل اللسان يخالف ذلك. وأُسقطت الألفُ في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ (9)} [البقرة: 9]، وحُذفت ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (1/ 49). (¬2) رواه أبو داود في "المصاحف" (2/ 745 - "الدر المنثور" للسيوطي).

في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ (193)} [البقرة: 193]، وكُتب الحرفان بغير ألف، ولو قُرئ به لكان لحنًا، ثم أُثبتت الألف في قوله تعالى في سورة التوبة: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ (47)} [التوبة: 47] بزيادة الألف بعد (لا) وكذلك كُتب (¬1) في بعضِ المصاحف في سورةِ النمل: {أَوْ لَأَ أذْبَحَنَّهُ (21)} [النمل: 21] بزيادة ألفٍ بعد (لا)، ولو قرئ به، لكان لحنًا فاحشًا. وكتبوا في سورة الكهف: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ (23)} [الكهف: 23] بألف بين الشين والياء، ولم يكتبوا ذلك في سائر القرآن. وكتبوا في الأنعام: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام: 34] بياء بعد الألف المهموزة، وفي سائر القرآن بغير ياء. وكتبوا في النحل: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى (90)} [النحل: 90] بياء بعد الألف، وفي الشورى: {أَوْ مِنْ وَرَآءِى حِجَابٍ (51)} [الشورى: 51] بالياء، وفي الأحزاب: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (53)} [الأحزاب: 53] بغير ياء، وكتبوا في النور: {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ (37)} [النور: 37] وفي يونس: {مِنْ تِلْقَاءِى نَفْسِي (15)} [يونس: 15] بياء بعد الألف؛ وذلك كله سبقُ القلم، أو لعلَّ الكاتب قصدَ تقويةَ الهمزةِ المكسورةِ بالياء، وليسَ يحسُنُ ذلك؛ لأنه يشتبهُ بالإضافةِ إلى النفس. وكتبوا (سَمَوتِ) بغير ألف بين الواو والتاء، إلا في موضعٍ واحد في حم السجدة قوله: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ (12)} [فصلت: 12]، فهذه ونحوُها هو اللحنُ الذي قالَ عثمانُ -رضي الله عنه-: سَنُقيمه بألسنتنا. ولا يُظن به أنه رأى لحنًا يُخاف فيه الغلطُ، ثم تركَهُ في المصحف. ¬

_ (¬1) في "ن": "كتبت".

[وأما الحروف التي كُتب بعضُها على خلاف بعضٍ في المصحف] (¬1)، وهي في الأصل واحدٌ: فأول ذلك: {بِسْمِ اللَّهِ} كُتبت بحذفِ الألف التي قبل السين، وكُتبت: {اقْرَأْ بِاسْمِ (1)} [العلق: 1]، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، و {بِئْسَ الِاسْمُ (11)} [الحجرات: 11]. و {مِنْهُ اسْمُهُ (45)} [آل عمران: 45] بالألف، والأصلُ في ذلك كلِّه واحدٌ، وهو: أن يُكتب بالألف، وإنما حُذفت من {بِسْمِ اللَّهِ} فقط؛ لأنها ألفُ وصلٍ ساقطةٌ من اللفظ، كَثُرَ استعمالُ الناس إياها في صدور الكتب، وفواتحِ السُّوَر، وعندَ كلِّ فعل يُبتدأ فيه من مأكلٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ أو غيرِ ذلك، فأَمِنوا أن يجهلَ القارئ معناها، فحذفوها إيجازًا، ولو كُتبت: باسمِ اللهِ، بالألف، لكانَ صوابًا؛ لأنهم لم يحذفوا ألفها لعلَّة موجبةٍ لحذفها، بل تخفيفًا. ومما كتب: في سورة يوسف: {لَدَا الْبَابِ (25)} [يوسف: 25] بالألف، وفي الطول: {لَدَى الْحَنَاجِرِ (18)} [غافر: 18] بالياء، وفي مصحف الشام في سورة البقرة [221]: {وَلَا أَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ} بزيادة ألف، وكتب {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} في [النور: 31] {يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ (49)} [الزخرف: 49]، و {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} في [الرحمن: 31]؛ بغير ألف، وما سواها: {ياأيها} و {ياأيتها} بالألف. ومن غرائب الهجاء ونوادره: ما كتب في الفرقان: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: 21] بغير ألف، وفي سبأ: {وَالَّذِينَ سَعَوْا (5)} [سبأ: 5] بغير ألف أيضًا، وفي الحشر: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ (9)} [الحشر: 9] بواوين من غير ألف، وفي آخر ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ن".

عم: {كُنْتُ تُرَابًا (40)} [النبأ: 40] بغير ألف، وفي القلم: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} [القلم: 6] بياءين، وفي آل عمران: {أَفَإِنْ مَاتَ (144)} [آل عمران: 144] بالياء، وفي الأنبياء [34]: {أفإن مات} بغير ياء، واختلف فيه، وفي يس [19]: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} بغير ياء، وفي التوبة [38]: {اثَّاقَلْتُمْ} ونحوه بالألف، وفي البقرة: {فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة: 72] ليس بين الدال والراء ولا بين الراء والتاء ألف في جميع المصاحف. وكتب في الحاقة لبيان الحركة: (كتَابِيَهْ، حِسَابِيَهْ، مَالِيَهْ، سُلْطَانِيَهْ)، وفي القارعة: (ما هيه) بإثبات الهاء، واختلف في قوله تعالى: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) و (فَبِهُدَيهُمُ اقْتَدِه) أن الهاء فيهما لبيان الحركة أو لغير ذلك. وكتب في سورة النساء: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 78]، وفي الكهف: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49]، وفي الفرقان: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} [الفرقان: 7]، وفي المعارج: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المعارج: 36] كتبت هذه الأربعةُ الأحرفِ اللامُ مع (ما) مقطوعة مما بعدها؛ وسنذكر كلَّ شيء من ذلك في محله عند تفسيره -إن شاء الله تعالى-. واعلم أن هجاءاتِ المصاحفِ واختلافَ كتابتِها أكثرُ من أن يؤتى عليها كلِّها، وفيما ذكرتُه كفاية، وإنما كتبتْ هذه الحروفُ بعضُها على خلافِ بعض، وهي في الأصلِ واحدة؛ لأن الكتابةَ بالوجهينِ فيها كانت جائزةً عندهم، فكتبوا بعضَها على وجه، وبعضَها على وجهٍ آخرَ، إرادةَ الجمع بين الوجهين الجائزينِ فيها في الكتاب عندهم، على أنهم كتبوا أكثرها على الأصل، فالواجبُ على القرَّاءِ والعلماءِ والكتَّابِ والأدباءِ: أن يعرفوا هذا الرسْم في خط المصحف، وَيتَّبعوه، ولا يُجاوزوه؛ فإنه رسمُ زيدِ بنِ ثابتٍ -رضي الله عنه-، وكان أمينَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكاتبَ وحيِهِ، وعلمَ من هذا

العلم بدعوةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعلمْهُ غيرُه، فما كتبَ شيئًا من ذلك، إلا لعلَّةٍ لطيفةٍ، وحكمةٍ بليغة. وفي خط المصحفِ عجائبُ وغرائبُ تحيرتْ فيها عقولُ العلماء، وعجَزَتْ عنها آراءُ الرجال البلغاء، والله الموفق. وأجمعتِ الأمةُ المعصومةُ من الخطأ على ما تضمَّنته هذهِ المصاحفُ المنسوخةُ بأمرِ عثمان -رضي الله عنه-، وتركِ ما خالفَها من زيادةٍ ونقصٍ، وإبدالِ كلمةٍ بأخرى؛ مما كان مأذونًا فيه توسعةً عليهم، ولم يثبت عندَهم ثبوتًا مستفيضًا أنه من القرآن. وجُرِّدت هذه المصاحفُ جميعها من النقط والشكل؛ ليحتملَها ما صحَّ نقلُه، وثبتتْ تلاوتُه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كانَ الاعتمادُ على اللفظ لا على مجرَّدِ الخطِّ، وكان من جملةِ الأحرفِ السبعةِ التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أُنْزِلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" (¬1)، فكتبت المصاحف على اللفظ الذي استقرَّ عليه في العَرْضَةِ الأخيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعرضُ القرآنَ على جبريلَ -عليه السلامُ- في كل عام مرةً، فعرض عليه القرآنَ في العام الذي قُبض فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين، ونُسخ منه، وغُيِّرَ فيه في العرضةِ الأخيرة، واستقرَّ منه ما كُتب في المصاحف العثمانية. قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: لو وَلِيتُ في المصاحف ما وَلِيَ عثمانُ، لفعلتُ كما فعل (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 42)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 243 - 244).

وقرأ أهلُ كلِّ مِصْر بما في مُصحفهم، وتَلَقَّوا ما فيه عن الصحابة الذين تَلقَّوه مِنْ في رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخُ الإسلام ابنُ حَجَر -رحمه الله- في "شرح البخاري": واختلفَ هل رتَّبَ القرآنَ الصحابةُ بتوقيفٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو باجتهاد منهم؟ قال القاضي أبو بكر: الصحيحُ: الثاني، وأما ترتيب الآيات، فتوقيفيٌّ بلا خلاف، وحكاه ابنُ عطية في "تفسيره"، والله أعلم (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 257).

فصل في ذكر شكل القرآن ونقطه

فَصْلٌ في ذِكْرِ شَكْلِ القُرآنِ وَنَقْطِهِ قد تقدم أن المصاحفَ العثمانيةَ كانت مجرَّدة من النَّقْطِ والشَّكْلِ، فلم يكنْ فيها إعرابٌ، وسببُ تركِ الإعرابِ فيها -واللهُ أعلمُ-: استغناؤهم عنه؛ فإنَّ القوم كانوا عَرَبًا لا يعرفون اللَّحْنَ، ولم يكن في زمنهم نَحْوٌ. وأولُ مَنْ وضعَ النحوَ، وجعلَ الإعرابَ في المصاحف: أبو الأسودِ الدُّؤَليُّ التابعيُّ البصريُّ، حُكي أنه سمع قارئًا يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] بكسر اللام، فأعظَمهُ ذلكَ، وقال: عزَّ وجهُ اللهِ أن يبرأَ من رسوله (¬1). ثم جعلَ الإعرابَ في المصاحف، وكانتْ علاماتُه نقطًا بصبغٍ لونُه غيرُ لونِ المِداد، وهو الحُمْرَة؛ فكانت علامةَ الفتحةِ نقطةٌ فوق الحرف، وعلامة الضمة نقطةٌ في نفسِ الحرف، وعلامة الكسرة نقطةٌ تحت الحرف، وعلامة الغنة نقطتان. ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (25/ 192)، والقراءة التي سمعها أبو الأسود، هي قراءة الحسن، كما في "الكشاف" للزمخشري (2/ 173)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (2/ 6)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 8)، وقد وجَّهها بعض الأئمة بأنَّ الواو للقسم، ومع كل التوجيهات فهي غاية في الشذوذ.

ثم أحدثَ الخليل بنُ أحمدَ الفراهيديُّ بعد هذا هذهِ الصُّور: الشدَّةَ، والمدَّةَ، والهمزةَ، وعلامةَ السكونِ، وعلامةَ الوصل، ونقلَ الإعرابَ من صورةِ النقطِ إلى ما هو عليه الآن. وأما النُّقط: فأولُ من وضعها بالمصحف نصرُ بنُ عاصم الليثيُّ بأمرِ الحجَّاجِ بنِ يوسفَ أميرِ العراقِ وخراسانَ، وسببُه: أن الناس كانوا يقرؤون في مُصحفِ عثمانَ نَيِّفًا وأربعينَ سنةً إلى أيام عبدِ الملكِ بنِ مروانَ، ثم كَثُرَ التَّصحيفُ، وانتشرَ بالعراقِ، فأمر الحجاجُ: أن يضعوا لهذه الأحرف المشتبهةِ علاماتٍ، فقام بذلك نَصْرٌ المذكورُ؛ فوضعَ النقطَ أفرادًا وأزواجًا، وخالفَ بينَ أماكنِها، وكان يقال له: نَصْرُ الحروف. وأول ما أحدثوا النقط على الياء والتاء، وقالوا: لا بأسَ به، هو نورٌ له، ثم أحدثوا نقطًا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتحَ والخواتمَ. فأبو الأسودِ الدؤليُّ هو السابقُ إلى إعرابه، والمبتديء به، ثم نصرُ بن عاصمٍ وضع النقطَ بعدَه، ثم الخليلُ بنُ أحمدَ نقلَ الإعرابَ إلى هذه الصور. وكان مع استعمال النقط والمشكل، يقعُ التصحيفُ، فالتمسوا حيلةً، فلم يقدروا فيها إلا على الأخذِ من أفواهِ الرجال بالتلقين؛ فانتدَبَ جهابذة علماء الأمة، وصناديد الأئمة، وبالغوا في الاجتهاد، وجمعوا الحروفَ والقراءات، حتى بَيَّنوا الصوابَ، وأزالوا الإشكال -رضي الله عنهم-. ***

فصل في ذكر عدد سور القرآن وآياته وحروفه وكلماته وأحزابه ونقطه

فَصْلٌ في ذِكْر عَدَدِ سُوَرِ القُرآنِ وَآيَاتِهِ وَحُرُوفِهِ وَكَلمَاتِهِ وَأَحْزَابِهِ وَنُقَطِهِ أما عدد سور القرآن، فهو: مئة وأربعَ عَشْرَةَ سورةً. وعدد آياته ستةُ آلافٍ ومئتان وستٌّ وثلاثون آية. وعدد حروفه: ثلاثُ مئةِ ألفِ حرفٍ وأحدٌ وعشرون ألفَ حرفٍ، ومئتانِ وخمسون حرفًا. روي ذلك كله عن علي بن أبي طالب -رضي لله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكره الإمام أبو عبد [الله] (¬1) أحمدُ بنُ أبي عمر الأندراني في كتابه "الإيضاح في علم القراءات" في الباب العاشر. وعددُ كلماتِه في قولِ عَطاءِ بنِ يَسارٍ -رحمه الله-: سبعٌ وسبعونَ ألفَ كلمةٍ، وأربعُ مئةِ كلمةٍ، وتسعٌ وثلاثونَ كلمة (¬2). وأحزابه: ستون حزبًا. قيل: إن الحجاج لما جدَّ في نَقْط المصحف، زاد تحزيبَهُ، وأمر الحسنَ ويحيى بن يعمرَ بذلك. ¬

_ (¬1) لفظ الجلالة سقط من "ت". (¬2) انظر: "تفسير ابن كثير" (1/ 8).

وأما وضعُ الأعشارِ فيه، فحُكي: أن المأمون العباسيَّ أمر بذلك. وقيل: إن الحجاج فعل ذلك. وهذا الذي ذكرتُه من العدد جملة، وأما عددُ آي كل سورة وحروفها وكلمها، فسأذكره عند أولها -إن شاء الله تعالى-. وأما عددُ كلِّ حرفٍ من حروف المعجم: فالألف: ثمانية وأربعون ألفًا، وتسع مئة وأربعون. والباء: أحدَ عشرَ ألفًا، وأربعُ مئة وعشرون. والتاء: عشرة آلاف، وأربع مئة وثمانون. والثاء: ألفٌ، وأربعُ مئةٍ وأربعةٌ. والجيم: ثلاثةُ آلافٍ، وثلاثُ مئةٍ واثنانِ وعشرونَ. والحاء: أربعة آلاف، ومئة وثمانيةٌ وثلاثون. والخاء: ألفانِ، وخمسُ مئةٍ وثلاثةٌ. والدال: خمسةُ آلافٍ، وتسعُ مئةٍ، وثمانية وتسعون. والذال: أربعةُ آلافٍ، وتسعُ مئةٍ، وأربعة وثلاثون. والراء: ألفان، ومئتان، وستة. والزاي: ألفٌ، وستُّ مئةٍ وثمانونَ. والسين: خمسةُ آلافٍ، وسبعُ مئة، وتسعةٌ وتسعون. والشين: ألفان، ومئة، وخمسة عشر. والصاد: ألفان، وسبع مئة، وثمانون.

والضاد: ألفٌ، وثماني مئة، واثنان وثمانون. والطاء: ألف، ومئتان وأربعة. والظاء: ثماني مئة، واثنان وأربعون. والعين: تسعة آلاف، وأربع مئة وتسعون. والغين: ألفٌ ومئتان، وتسعة وعشرون. والفاء: تسعةُ آلافٍ، وثماني مئة، وثلاثة عشر. والقاف: ثمانيةُ آلافٍ، وتسعةٌ وتسعونَ. والكاف: ثمانية آلاف، واثنانِ وعشرون. واللام: ثلاثةٌ وثلاثون ألفًا، وتسعُ مئة، واثنان وعشرون. والميم: ثمانية وعشرون ألفًا، وتسع مئة، واثنان وعشرون. والنون: تسعةٌ وعشرون ألفًا، وتسع مئة، وخمسة وخمسون. والواو: خمسةٌ وعشرون ألفًا، وخمسُ مئةٍ وستةٌ. والهاء: سبعةَ عشرَ ألفًا. ولامُ الألف: أربعةَ عشرَ ألفًا، وسبعُ مئةٍ، وسبعةٌ. والياء: خمسة وعشرون ألفًا، وسبع مئة، وخمسة عشر. قال ذلك الإمام نجم الدين النسفي، ونظمه الشيخ شمس الدين القباقبي -رحمه الله تعالى-. وعدد نقطه مئةُ ألفٍ، وستون ألفًا، وثلاثة آلاف، وسبع مئة، وتسع وعشرون نقطة؛ قاله القباقبي في نظمه.

وقد اختلف علماءُ القراءة في عدد الآيِ والكلماتِ والحروفِ، وليس ذلك باختلافٍ على الحقيقة، وإن كان اختلافًا في اللفظِ. قال بعض أهل العلم: يصرف الأمل فيما اختلفوا فيه من الحروف والكلمات، إلا أن بعضهم كان يَعُدُّ كلَّ حرف مشدَّدٍ حرفين، وبعضهم لم يفعلْ ذلك؛ فصار عددُ حروفِ من لم يفعلْ ذلك أقلَّ، وعدَّ بعضهم (في خَلْقِ) كلمتين، و (في السموات) كلمتين؛ كأنه يقول: (في) كلمة، و (خلق) كلمة، وبعضهم لم يفعل ذلك، بل عدَّ (في خلق) و (في السموات) وما أشبه ذلك، كلمة كلمة؛ فصار عدد من فعل ذلك أقلَّ من عدد كلمات من لم يفعلْ ذلك، وإلى هذا يُصرف اختلافُهم في عدد الحروف والكلمات، والله أعلم. ***

فصل في ذكر معنى المصحف والكتاب والقرآن والسور والآيات والكلمة والحرف

فَصْلٌ في ذِكْرِ مَعْنَى المصْحَف وَالكِتَاب وَالقُرآن وَالسُّوَر وَالآيَات وَالكَلِمَة وَالحَرف * أما معنى المصحف] (¬1): فهو مُفْعَل، من أُصْحِفَ؛ أي: جُمع فيه الصحفُ، واحدتُها صحيفة؛ كمدينة ومدن. وروي أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما أمر بجمع القرآن، وكتبوه، استشار الناس في اسمه، فسماه مُصْحفًا، وذلك لمعنيين: أحدهما: أن القرآن كان في صُحف متفرقة، فلما جمعوه في موضع واحد، سموه مُصْحفًا، أي: جُمع فيه الصحف. والآخر: أنه جُمع فيه علمُ الصحف الأولى، وأنه يَعْدِلُها، وهي: التوراةُ والإنجيلُ والزَّبورُ. ومعنى الصحيفة: القطعةُ من جلدٍ أو رقّ، وجمعُها صُحف، فلما ضُمَّ بعضُها إلى بعض، سمي مصحفًا. * وأما الكتابُ: فهو ضمُّ الحروف الدالَّةِ على معنىً بعضها إلى بعض، لأنه مصدرُ كَتَبَ، ومعناه: جمعَ، ومنه قوله -عز وجل-: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ (22)} [المجادلة: 22]؛ أي: جمع، حتى آمنوا بجميع ما يجب عليهم. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ن".

وقد سمى الله تعالى القرآنَ كتابًا، فقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ (2)} [البقرة: 2]. * وأما القرآن: فهو اسمُ الكتاب الذي أنزله الله تعالى على محمدٍ عبدِه ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً، لم يُسَمَّ به شيءٌ غيرُه من الكتب؛ كما أن التوراةَ اسمُ الكتاب المنزلِ على موسى، والإنجيلَ اسم الكتاب المنزل على عيسى، والزبورَ اسم الكتاب المنزل على داود -صلوات الله عليهم أجمعين-. وهو: منزَلٌ غيرُ مخلوقٍ بإجماعِ أهل السُّنةِ، واتفاقِ الأئمة، معجزٌ، مُتَعَبَّدٌ بتلاوتِه، مكتوبٌ في مصاحِفِنا، محفوظٌ في صدورنا، مقروءٌ بألسنتِنا. وإنَّما سمي قرآنًا؛ لأنه: جَمَعَ السُّوَرَ وضمَّها، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة: 17] أي: تأليفَه، وضمَّ بعضِه إلى بعضٍ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} [القيامة: 18] أي: إذا ألَّفناه وضَمَمْناه، فخذْهُ واعملْ به. وسمي أيضًا: الفرقان؛ لأنه: فرقَ بينَ الحقِّ والباطلِ، والمؤمنِ والكافرِ، فَرْقًا وفُرْقانًا. وسمي: الذكر؛ لأنه: ذَكَّرَ الناسَ آخرَتَهم وإلَههم، وما كانوا في غفلةٍ عنه. * وأما السُّورَةُ من القرآن: فهي اسمٌ لآيٍ جُمعت، وقُرنت بعضُها إلى بعض؛ حتى تَمَّتْ، وكَمُلَتْ، وبَلَغَتْ في الطول المقدارَ الذي أرادَ الله تعالى، ثم فصلَ بينها وبين سورةٍ أخرى ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا تكونُ السورةُ إلا معروفَ المبتدأ معروفَ المنتهى. * وأما الآية: ففيها خلاف، فقيل:

معنى الآية من القرآن: كلامٌ متصلٌ إلى انقطاعه، وانقطاع معناه فصلًا فصلًا. وقيل: معنى الآية: العلامة؛ كقوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً (10)} [مريم: 10] أي: علامة. وإنما سميت الآية آية؛ لأنها: علامة تدل على نفسها بانفصالها عن الآية التي تقدَّمَتْها، أو تأخَّرَتْ عنها، فكلُّ آيةٍ كأنها علامةٌ. * وأما الكلمةُ: فهي الواحدةُ من جملةِ الكلام، وجمعُها كَلِم، وتجمعُ أيضًا على: كَلِمات، فالكلام: اسمُ جنس يقعُ على القليلِ والكثيرِ من جنسِه. * وأما الحَرْفُ: فهو الواحد من حروف المعجم، سمي: حرفًا؛ لقلته ودقته، ولذلك قيل: حرف الشيء لطرفه؛ لأنه آخرُه، والقليلُ منه، والحرفُ أيضًا: القراءةُ بكمالها، والحرفُ أيضًا: اللغةُ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" (¬1) أي: على سبعِ لغاتٍ للعرب متفرقةٍ في القرآن مختلفةِ الألفاظِ متفقةِ المعاني. وقولهم لمكتَسَبِ الرجل وطُعْمَته: الحِرْفَة، كأنها الجهةُ التي انحرفَ إليها عما سواها. والتحريفُ في الكلام: تغييرُه عن معناه، كأنه ميلٌ به إلى غيره، وانحرفَ عنه، كما قال الله تعالى في صفة اليهود: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (13)} [المائدة: 13]؛ أي: يغيرون معاني التوراة بالتَّمْويهاتِ، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص: 10).

فصل وأما كيف يقرأ القرآن؟

فَصْلٌ وَأَما كَيْف يَقْرأ القُرآن؟ فإن كلام الله يقرأ: بالتَّحقيق، وبالحَدْر، وبالتَّدوير الذي هو التوسُّط بين الحالتين، مُرَتَّلًا مُجَوَّدًا بلُحون العربِ وأصواتِها، وتحسينِ اللفظِ والصوتِ بحسب الاستطاعةِ. * أما التحقيق: فهو المبالغةُ في الإتيان بالشيء على حَقِّه من غير زيادةٍ فيه ولا نقصان، وهو نوعٌ من الترتيل، وهذ النوعُ من القراءة -وهو التحقيق- مذهبُ حمزةَ، ووَرْشٍ، والكِسائِيِّ، وأبي بكرٍ، وحَفصٍ، وهِشامٍ، وابنِ ذَكْوان. وفرق بعضُهم بين الترتيل والتحقيق؛ إذ التحقيقُ يكون للرياضة والتعليم والتمرين، وأما الترتيلُ يكون للتدبُّرِ والتفكُّر والاستنباط، فكل تحقيقٍ ترتيلٌ، وليس كل ترتيلٍ تحقيقًا. * وأما الحَدْرُ: فهو عبارةٌ عن إدراجِ القراءةِ وسرعتِها، وتخفيفِها بالقصرِ والتسكينِ والاختلاسِ، والبدلِ، والإدغامِ الكبيرِ، وتخفيفِ الهمز، ونحو ذلك مما صحَّت به الروايةُ، ووردتْ به القراءة، وهو ضدُّ التحقيق، وهذا النوعُ مذهبُ ابنِ كَثيرٍ، وأبي جَعْفَرٍ، وأبي عمرٍو، ويعقوبَ، وقالونَ، ووَرْشٍ، ورُوي عن حفصٍ، وهشامٍ.

* وأما التَّدْويرُ: فهو التوسُّطُ بين المقامين من التحقيق والحدر، وهو مذهبُ سائر القراء، وصحَّ عن جميع الأئمة، وهو المختارُ عن أكثر أهل الأداء. * وأما التَّرْتيلُ: فهو مصدر من رَتَّلَ فلانٌ كلامَه؛ إذا أتبعَ بعضَه بعضًا على مُكْثٍ وتفهُّمٍ، من غير عَجَلةٍ، وهو الذي نزلَ به القرآن، قال الله تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)} [الفرقان: 32]. وعن علي -رضي الله عنه-: أنه سُئل عن قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 4]، فقال: الترتيلُ تجويدُ الحروف، ومعرفةُ الوقف (¬1). والصحيحُ بلِ الصوابُ: أن الترتيلَ والتدبُّرَ مع قلةِ القراءة، أفضلُ من السرعةِ مع كثرتها. * والتَّجْويدُ: هو حليةُ التلاوةِ وزينةُ القراءة، وهو: إعطاءُ الحروف حقوقَها، وترتيبَها مراتبَها، وردُّ الحرفِ إلى مخرجه وأصلِه، من غير إسرافٍ ولا تعسُّف، ولا إفراطٍ ولا تكلُّف. قال الحبرُ العلامةُ أبو زكريا النووي -رضي الله عنه-: وإذا ابتدأ القارئ بقراءة شخصٍ من السبعة، فينبغي أن لا يزالَ على تلك القراءة، ما دام للكلام ارتباطٌ، فإذا انقضى ارتباطُه، فله أن يقرأ بقراءةِ آخرَ من السبعة، والأَوْلى دوامُه على تلكَ القراءةِ في ذلك المجلس (¬2). وقال الأستاذ أبو إِسحقَ الجعبريُّ -رحمه الله-: والتركيبُ ممتنعٌ في ¬

_ (¬1) انظر: "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (221). (¬2) انظر: "التبيان في آداب حملة القرآن" للنووي (ص: 37).

كلمةٍ، وفي كلمتين؛ إن تعلَّقَ أحدُهما بالآخَرِ، وإلَّا كُرِهَ. وأجازها أكثرُ الأئمة مطلقًا، وجعل خطأَ مانعي ذلك مُخَفَّفًا. قال الحافظ العلامة ابن الجزريِّ -رحمه الله-: والصوابُ في ذلك عندنا (¬1) التفصيلُ، والعدول بالتوسُّط إلى سواء السبيل، فنقول: إن كانت إحدى القراءتين مترتبةً على الأخرى، فالمنعُ من ذلك منعُ تحريم؛ كمن يقرأ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ (37)} [البقرة: 37] بالرفع فيهما، أو بالنصب، آخذًا رفعَ (آدَمُ) من قراءة غير ابن كثير، ورفعَ (كَلِمَاتٌ) من قراءة ابن كثير (¬2)، ونحو: (وكَفَّلَها زَكَرِيَّا) بالتشديد مع الرفع، أو عكس ذلك (¬3)، ونحو: (وَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) وشبهِه مما يُرَكَّب بما لا تجيزُه العربية، ولا يصحُّ في اللغة، وأما ما لم يكنْ كذلك، فإنا نفرِّق فيه بين مقامِ الرواية وغيرها: فإن قرأَ بذلك على سبيل الروايةِ، فإنه لا يجوزُ أيضًا، من حيثُ إنه كذبٌ في الرواية، وتخليطٌ على أهلِ هذهِ الدراية. ¬

_ (¬1) في "ن" و"ظ": "عندنا في ذلك". (¬2) قراءة ابن كثير: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ} والباقون برفع آدم، انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (1/ 93)، و"التيسير" للداني (ص 73)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 211) و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 48)، ووجَّه البغوي -رحمه الله- قراءة ابن كثير بقوله: يعني: جاءتِ الكلماتُ آدمَ من ربه، وكانت سببَ توبته. (¬3) انظر: توجيه المؤلف لقراءات هذه الآية، في تفسير سورة آل عمران، الآية: 37.

وإن لم يكنْ على سبيلِ النقلِ والرواية، بل على سبيل القراءةِ والتلاوة، فإنه جائر صحيحٌ مقبولٌ، لا منعَ منه، ولا حَظْرَ، وإن كنا نَعيب على أئمة القراءات والعارفينَ باختلافِ الروايات، من وجه تساوي العلماءِ بالعوامِّ، لا من وجهِ أنَّ ذلكَ مكروهٌ أو حَرام، إذ كلٌّ من عندِ الله نزلَ به الرُّوحُ الأمينُ على قلبِ سَيِّدِ المرسلين؛ تخفيفًا عن الأمَّةِ، وتهوينًا على أهلِ هذه الملَّة، فلو أوجَبْنا عليهم قراءةَ كلِّ روايةٍ على حِدَةٍ، لَشَقَّ عليهم تمييزُ القراءةِ الواحدةِ، وانعكسَ المقصودُ من التخفيفِ، وعادَ الأمر بالسهولةِ إلى التكليف، وقد تقدَّم لفظُ الحديثِ الشريفِ: "إِنَّ هَذَا القُرْآنَ نَزَلَ على سبعةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا ما تَيَسَّرَ منهُ" (¬1). ... ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص: 10).

فصل في الاستعاذة

فَصْلٌ في الاسْتِعَاذَة قال الله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98]. معناه: إذا أردتَ أن تقرأ، وشَرَعْتَ، فأوقعَ الماضي موقع المستقبل؛ لثبوته. وأجمع العلماءُ على أن قول القارئ: أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم ليس بآيةٍ من كتاب اللهِ تعالى، وأجمعوا على استحسانِ ذلكَ، والتزامِه في كل قراءة في غير صلاةٍ. ويجهرُ بها عند جميع القراء قبل القراءة. ورُوي عن حمزةَ إخفاؤها قبلُ حيث قرأ. ورُوي عنه الإخفاء في غير الفاتحة. وروي عن قالون إخفاءُ الاستعاذة في جميع القرآن. ويجوز الوقفُ على الاستعاذة، ووصلُها بما بعدها، بَسْمَلَةً كانَ أو غيرَها من القرآن. ومعنى (أعوذ بالله) أي: أستجيرُ وأمتنعُ بعظمة الله (من الشيطان) هو إبليسُ، فَيْعالٌ من شَطَنَ؛ أي: بَعُدَ من رحمةِ الله. (الرَّجيمِ)؛ أي:

المرجومِ بالشُّهُبِ عندَ استراقِ السمعِ، فصار المعنى: أستجيرُ وأمتنعُ بعظمة اللهِ من المرجومِ المطرودِ عن رحمةِ اللهِ. والمختارُ لجميع القراءِ من حيثُ الروايةُ: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، كما ورد في سورة النحل، وهو المأخوذ به عند عامة الفقهاء؛ كالشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل (¬1)، وغيرهم. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قرأتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعوذُ بِاللهِ السَّميعِ العليمِ، فقالَ لي: "قُلْ أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى جِبريلَ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ، فَقَالَ لِي: قُلْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ ثُمَّ قالَ لِي جِبْريلُ: هَكَذَا أَخَذْتُ عَنْ مِيكَائِيلَ، وَأَخَذَ مِيكائِيلُ عَنِ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ" رواه الحافظُ ابنُ الجزريِّ في "النشر" (¬2). والمختار عند أئمة القراءة الجهرُ بها كما تقدَّم، ومحلُّها قبلَ القراءة إجماعًا، وهي مستحبةٌ في القراءة بكل حال، في الصلاةِ وخارجَها ندبًا، وهي في الصلاة للقراءة لا للصلاة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وأما الإمام مالك، فإنه قال: لا يُستعاذ إلا في قيام رمضان فقط، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "بن حنبل" ساقطة من "ش" و"ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (. . .).

الكلام في تفسير البسملة

الكَلاَمُ في تَفْسِيْرِ البَسْمَلَةِ رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مِفْتاحُ القُرْآنِ التَّسْمِيَةُ" (¬1). وقال ابنُ عباس -رضي الله عنهما- "إِجلالُ القرآن: أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ، ومفتاحُ القرآنِ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ" (¬2). ورُوي أن أولَ ما جرى به القلمُ في اللوح المحفوظ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وروي أن رجلًا قال بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: تَعِسَ الشيطانُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقلْ ذَلِكَ، فإنَّهُ يَتَعَاظَمُ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ فَإِنَّهُ يَصغُرُ حَتَّى يَصيرَ أَقَلَّ مِنْ ذُبابٍ" (¬3). وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} الباءُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنها في موضعِ ¬

_ (¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن روى الخطيب البغدادي في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 264) عن أبي جعفر محمد بن علي معضلًا: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مفتاح كل كتاب"، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير"، والمناوي في "فيض القدير" (3/ 192). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) رواه أبو داود (4982)، كتاب: الأدب، باب: (85)، والنسائي في "السنن الكبرى" (10388)، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 59)، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

مفعولٍ به، تقديرُه: أبدأُ بسمِ الله، أو: بدأتُ بسم الله، أو في محلِّ رفعٍ؛ لأنها في موضعِ خبرِ الابتداء، تقديرُه: مفتاحُ كلامي بسم الله، وكُسرت باء الجر ليناسبَ لفظُها عملَها، وحذفت الألفُ من بسم الله في الخط؛ طلبًا للخفة؛ لكثرة استعمالها، وطولت الباء ليكونَ افتتاحُ كتاب الله بحرفٍ معظم. والاسمُ: هو المسمَّى وعينُه وذاتُه، وقيل: الاسمُ غيرُ المسمَّى، وإنما هو يدلُّ على المسمَّى، وهو مشتق من السمو، وهو العلو. واللهُ: هو اسمٌ تَفَرَّدَ به الباري سبحانه، قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65]، وهو اسمُ الله الأعظمُ، ومعناه: السيدُ. واختُلف في اشتقاقه، فقال جماعةٌ من العلماء: هو غيرُ مشتق؛ كأسماءِ الأعلامِ للعباد مثل زيدٌ وعمرٍو. و (¬1) قال آخرون: هو مشتقٌّ من أَلِهَ إِلاهَةً؛ أَيْ عبدَ عبادةً، معناه: أنَّهُ المستحقُّ للعبادة دون غيره. {الرَّحْمَنِ} صفةُ مبالغةٍ من الرحمة، معناها: أنه انتهى إلى غاية الرحمة، وهي صفة تختصُّ بالله، ولا تطلق على البشر. {الرَّحِيمِ} عظيمِ الرحمةِ، والرحمةُ إرادةُ الخيرِ لأهلِه، وأصلُها الرقَّةُ والتعطُّف. واختلف العلماءُ والقراء فيها، فقيل: هي آية من الفاتحة فقط، وهو مذهب أهل مكة، والكوفة، ومن وافقهم. وقيل: آية من الفاتحة، ومن أول كل سورة سوى براءة، وهو الصحيح من مذهب الإمام الشافعي ومن وافقه، فيجهر بها في صلاة الجهر. ¬

_ (¬1) "و" زيادة من "ن" و"ظ".

وقيل: آيةٌ فاصلةٌ بين كل سورتين سوى براءة، فيكره ابتداؤها بها، وهو مذهب الإمامين أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، ومن وافقهما، فتقرأ سرًّا في صلاة الجهر. وقيل: ليست بآية، ولا بعض آية من الفاتحة، ولا من غيرها، وإنما كتبت للتيمُّن والتبرُّك، وهو مذهب الإمام مالك، ومن وافقه، ونقل جماعة عن أبي حنيفة كمذهب مالك، وعند مالك تكره قراءتها في صلاة الفرض، مع إجماعهم على أنها بعضُ آية من سورة النمل، وأن بعضها آية من الفاتحة. وليست من القرآن أول براءة؛ لنزولها بالقتال الذي لا تناسبه (¬1) البسملة المناسبة للرحمة والرفق. وأما مذاهبُ القراءِ فيها، فقد أجمعَ القراءُ على إثبات البسملةِ أولَ الفاتحة، سواء وُصلت بسورة الناس قبلَها، أو ابْتُدِئَ بها، واختلفوا فيها. فأما ابنُ كثير، وعاصمٌ، والكسائيُّ، فإنهم يعتقدونها آية من الفاتحة، ومن كل سورة، وافقهم حمزةُ على الفاتحة فقط، وصحَّ عن نافع أنه قال: أشهد أنها من السبع المثاني، وأن الله أنزلها. وقيل: إن أبا عمرٍو، وقالونَ، ومن تابعَ الثاني من قراء المدينة لا يعتقدونها آية من الفاتحة، ولم يرضَ ابنُ الجزريِّ هذا القول. وأما الفصلُ بالبسملة بين كلِّ سورتين، فاختلف القراء في ذلك، ففصلَ بها بين كلِّ سورتين إلا بينَ الأنفالِ وبراءة: ابنُ كثير، وعاصمٌ، والكسائيُّ، وأبو جعفرٍ، وقالونُ، والأصبهانيُّ عن ورشٍ. ¬

_ (¬1) في "ت": "لا يناسبه".

ووصلَ بينَ كلِّ سورتين: حمزةُ، وكان يقول: القرآنُ عندي كسورةٍ واحدةٍ، فإذا قرأتُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول فاتحة الكتاب، أجزأني. قال ابن الجزري: كلامُ حمزةَ يُحمل على حالة الوصل، لا الابتداء؛ لإجماع أهل النقل على ذلك، والله أعلم. واختلف عن خلف في اختياره بين الوصل والسكت. واختلف أيضًا عن الباقين وهم: أبو عمرو، وابن عامر، ويعقوبُ، وورشٌ من طريق الأزرق بين الوصل والسكت والبسملة. ثم إن الآخذين بالوصل لمن ذُكر من حمزةَ، أو أبي عمرٍو، أو ابن عامرٍ، أو يعقوبَ، أو ورشٍ، اختارَ كثيرٌ منهم لهم السكت بين المدَّثر والقيامة، وبين الانفطار والمطفِّفين، وبين الفجر والبلد، وبين العصر والهُمَزَة، وكذا الآخذون بالسكت لمن ذُكر من أبي عمرو، وابن عامر، ويعقوبَ وورشٍ، اختار كثير منهم لهم البسملة في هذه الأربعة مواضع، وإنما اختاروا ذلك؛ لبشاعة وقوع مثل ذلك إذا قيل: {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} [المدثر: 56] {لَا} [القيامة: 1]، أو {وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 30] {لَا} [البلد: 1]، أو {لِلَّهِ} [الإنفطار: 19] {وَيْلٌ} [المطففين: 1]، أو {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] {وَيْلٌ} [الهمزة: 1]، من غير فصل، ففصلوا بالبسملة للساكت، وبالسكت للواصل، ولم يمكنهم البسملة له؛ لأنه ثبت عنه النصُّ بعدمها، فلو بَسْمَلوا، لصادموا النصَّ بالاختيار، وذلك لا يجوزُ. والأكثرون على عدم التفرقة بين الأربعة وغيرها، وهو اختيار المحققين.

والمشترَطُ في السكت أن يكون من دون تنفُّس. ولا خلاف فيحذفها بين الأنفال وبراءة، وكذلك في الابتداء ببراءة، وأما الابتداء بالآي وسط براءة، ففيه خلاف، ولا يجوز القطع عليها إذا وصلت بآخر السورة، ويجوز بين الأنفال وبراءة كلٌّ من الوصل والسكتِ والوقفِ لجميع القراء إذا لم يقطع على آخر الأنفال. فالقطعُ: هو قطعُ القراءة رأسًا، فهو كالانتهاء. والوقف: هو قطعُ الصوت على الكلمة زمنًا يتنفس فيه عادة بنيةِ استئنافِ القراءة. والسكتُ: هو قطعُ الصوت زمنًا دون زمن الوقف عادةً من غير تنفس، والله أعلم. ***

سورة فاتحة الكتاب

سُوْرَة فَاتحَة الكِتابِ مكيةٌ، وآيُها سبعُ آيات، وحروفُها بالبسملةِ والتشديداتِ لمن قرأ: (مَالِكِ) مئةٌ وستٌّ وخمسون حرفًا، وكلمُها تسعٌ وعشرون كلمةً، وبغير البسملةِ حروفُها مئةٌ وأربعةٌ وثلاثونَ، وكلمُها خمسٌ وعشرون. فمن قال إنها سبعُ آيات غير البسملةِ جعلَ {الْعَالَمِينَ} 1 آية {الرَّحِيمِ} 2 آية {الدِّينِ} 3 آية {نَسْتَعِينُ} 4 آية {الْمُسْتَقِيمَ (6)} 5 آية {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 6 آية {وَلَا الضَّالِّينَ} 7 آية. ومن قال: إن البسملةَ منها، وعدَّها من الآيات السَّبعِ، جعلَ البسملةَ آيةً، ولم يجعلْ {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. وليست فيها سبعةُ أحرفٍ من حروف المعجم، وهي الثاءُ والجيمُ والخاءُ والزايُ والشينُ والظَّاءُ والفاءُ. وفي بعض الآثار: أن الحكمة فيها أن الثاءَ من الثُّبور، والجيمَ من الجحيم، والخاءَ من الخوف، والزايَ من الزَّقُّوم، والشينَ من الشَّقاوة، والظَّاء من الظُّلمة، والفاءَ من الفِراق، ومعتقِدُ هذه السورة وقارئُها على التعظيم والحرمة آمِنٌ من هذه الأشياء السبعة.

وأما أسماءُ الفاتحةِ، فهي (¬1) ثلاثةُ أسماءٍ معروفةٍ: الأول: فاتحةُ الكتاب؛ لأن القرآنَ افتُتِحَ بها. والثاني: أُمُّ القرآنِ؛ لأن القرآن يُبْدَأُ منها؛ كقولهم لمكة: أمُّ القرى، ولتقدُّمها في المصحف، وفي الصلاة. والثالثُ: السبعُ المثاني؛ لأنها سبعُ آيات بإجماع، ولأنها تُثَنَّى في الصلاة. واختلف الأئمةُ فيها، هل هي فرض في الصلاة؟ فقال أبو حنيفةَ: ليست فرضًا، فلو قرأ آية في كل ركعة، صحَّتْ صلاته، وقال صاحباه: ثلاثُ آيات قِصار، أو آيةٌ طويلة تَعْدِلُها؛ لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20)} [المزمل: 20] من غير تقييدٍ، وفرضُ القراءة عندهم إنما هو في الركعتين الأُولَيين من الرُّباعية، وأما في الأُخْرَيين، فسنةٌ، فلو سبَّحَ أو سكتَ فيهما، أجزأهُ. وقال الأئمةُ الثلاثةُ: هي ركنٌ في كلِّ ركعةٍ من الرباعية وغيرها، وتبطل الصلاةُ بتركها عمدًا أو سهوًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتابِ" (¬2)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في "ن" و"ظ": "فلها". (¬2) رواه البخاري (723)، كتاب: صفة الصلاة، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، في الحضر والسفر، ومسلم (394)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-.

[1]

التفسير: [1] {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. [2] {الْحَمْدُ لِلَّهِ} مبتدأ وخبرٌ، كأنه يخبر أن الله هو المستحقُّ للحمدِ، وهو بمعنى الأمرِ؛ أي: احمدوه، والحمدُ: هو الثناءُ الكاملُ، وهو أعمُّ من الشكر؛ لأن الشكرَ إنما يكون على فعلٍ جميلٍ يُسْدَى إلى الشاكر، والحمدُ المجرَّدُ هو ثناء بصفاتِ المحمود من غير أن يُسْدِيَ شيئًا، واللام في (لله) للاستحقاق، كما يقال: الدارُ لزيدٍ، وهو اسم خاصٌّ لله -عز وجل-، وتقدم تفسيرُه مستوفىً في البسملة، واتفق القراء على تغليظ اللام من اسمِ الله تعالى إذا كان بعدَ فتحةٍ أو ضمةٍ نحو: (شَهِدَ الله) و (رُسُلُ اللهِ)، فإن كان قبلَها كسرةٌ، فلا خلافَ في ترقيقها، نحو (بسمِ اللهِ) و (الحمدُ للهِ)، فإن فُصل هذا الاسمُ مما قبله، وابتُدِئَ به، فتحت همزةُ الوصل، وغُلِّظت اللامُ من أجل الفتحة. {رَبِّ} أي: مالك، كما يقال لمالكِ الدار: ربُّ الدار، ويقالُ لربِّ الشيء إذا ملكَه، ويكونُ بمعنى التربية والإصلاح؛ فالله سبحانَهُ مالكُ العالَمين ومُرَبِّيهم، ولا يقال للمخلوق: هو الربُّ، معرفًا، إنما يقال: ربُّ كذا، مضافًا؛ لأن الألف واللام للتعميم، وهو لا يملك الكل.

[3]

{الْعَالَمِينَ} أصنافِ الخلائق، فكلُّ موجودٍ سوى الله يقال لجملته: عالَمٌ، واشتقاقه من العَلَم، وهو العلامةُ، سُمُّوا به، لظهور أثر الصنعةِ فيهم، وعَلَمُهم وجودُ الصانعِ -جلَّت قدرتُه-. ... {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}. [3] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تقدم تفسيرُهما في البسملة. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}. [4] {مَالِكِ} قرأ عاصم والكسائيُّ ويعقوبُ وخلفٌ (مَالِكِ) بألف بعد الميم، والمعنى أن الله تعالى يملك ذلكَ اليومَ أن يأتيَ به كما يملكُ سائرَ الأيام، لكن خصَّصه بالذكر؛ لعظمهِ في جمعه وحوادثه. وقرأ الباقون (مَلِكِ) بغيرِ ألفٍ (¬1). المعنى: أنه ملكُ الملوكِ في ذلك اليوم، لا مُلْكَ لغيره. وقرأ أبو عمرو (الرَحِيم مَّلِكِ) بإدغام الميم في الميم (¬2)، وكذلك يدغم كلَّ حرفين، سواءٌ كانا مثلين، أم جنسين، أم متقاربين، إذا لم ينون الأول نحو: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115]، أو يشدّد نحو: {فَتَمَّ مِيقَاتُ} [الأعراف: 142]، أو تاء متكلم نحو: {كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]، أو مخاطَبٍ نحو: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 104)، و"الحُجَّة" لابن خالويه (ص: 62)، و"التيسير" للدَّاني (ص: 18)، و"تفسير البغوي" (1/ 5)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 7). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 5)، "معجم القراءات القرآنية" (1/ 6).

[5]

{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ} [يونس: 99]، وشبهِه، وسيُذْكَر كلُّ شيءٍ في محلِّه إن شاءَ الله تعالى. واختلف الآخذون بوجه الإدغام فيما إذا كان الأول مجزومًا، وذلك في قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ} [آل عمران: 85]، و {يَخْلُ لَكُمْ} [يوسف: 9]، و {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} [غافر: 28]، وكذلك اختلفوا في {آلَ لُوطٍ} [القمر: 34]، وفي الواو إذا وقع قبلها ضمة، نحو: {هُوَ وَالَّذِينَ} [البقرة: 249]، و {هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: 18]، واتَّفقوا على إظهارِ {يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23] من أجل الإخفاء قبلُ. ومعنى المثلين: ما اتفقا مخرجًا وصفة، نحو: {فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44]، و {رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، وشبهِه. والجنسين: ما اتفقا مخرجًا، واختلفا صفةً، نحو: {قَالَتْ طَائِفَةٌ} [الأحزاب: 13]، {أَثْقَلَتْ دَعَوَا} [الأعراف: 189]، وشبهه. والمتقاربين: ما تقاربا مخرجًا أو صفةً، نحو: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، و {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [النور: 45]، وشبهه. {يَوْمِ الدِّينِ} أي: الجزاء، ومنه قولُهم: كما تدينُ تُدان. ... {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}. [5] {إِيَّاكَ} كلمة ضمير خُصَّت بالإضافة إلى المضمر، وتستعمل مقدَّمًا على الفعل، فيقالُ: إياكَ أعني، ولا تُستعمل مؤخَّرًا، ولا منفصلًا، فيقالُ: ما عنيتُ إلا إياك، وتقديمُها اهتمامًا، وشأنُ العرب تقديمُ الأهم. {نَعْبُدُ} أي: نوحِّدك ونُطيعك خاضعين، والعبادةُ: الطاعةُ مع التذلُّل والخضوع، وسُمِّي العبدُ عبدًا؛ لذلَّته وانقياده. {وَإِيَّاكَ} كرَّرها تأكيدًا للاختصاص.

[6]

{نَسْتَعِينُ} نطلبُ منك المعونة على عبادتك، وعلى جميع أمورنا، تلخيصه: نخصُّك بالعبادة وطلب المعونة، وهذا كله تبًرٍّ من الأصنام. ... {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}. [6] {اهْدِنَا} أي: أرشدنا، وهذا الدعاءُ من المؤمنين -مع كونهم على الهداية- بمعنى التثبيت، وبمعنى طلب مزيد الهداية. {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الطريقَ الواضحَ، وهو الإسلام، أو القرآن. قرأ قنبلٌ عن ابن كثير، ورويسٌ عن يعقوبَ (السِّرَاطَ) حيثُ وقعَ، وكيف أتى: بالسين، وهو أصلُ اللفظة، وأشمَّ الصادَ الزايَ حيث وقعَ: خلفٌ عن حمزة، وافقه في (الصَّرَاطَ) هنا خاصة: خلَّادٌ عن حمزة (¬1)، وكلُّها لغات صحيحة، والاختيارُ الصادُ عندَ أكثرِ القراء؛ لموافقة المصحف. ... {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}. [7] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} الذين مَنَنْتَ. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 80)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 105)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 62)، و"تفسير البغوي" (1/ 6) و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 23)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 11)، ووقع في "تفسير البغوي": عن أويس، بدل: عن رويس. والذي ذكر قراءة الإشمام (الزراط) أبو زرعة، وابن مجاهد، والبغوي.

{عَلَيْهِمْ} عليهم بالهداية والتوفيق، وهم كلُّ من ثبته اللهُ على الإيمان من النبيين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين. قرأ حمزةُ ويعقوبُ (عَلَيْهُمْ) بضم الهاء حيث وقع، والباقون بكسرها، ومنهم: ابنُ كثير، وأبو جعفرٍ، وقالونُ بخلاف عنه (عَلَيْهِمُ) بضم الميم وصلتها بواوٍ حالةَ الوصل، والباقون بإسكان الميم في الحالين (¬1)، فمن ضمَّ الهاءَ، ردَّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الانفراد، ومن كسرَ لأجلِ الياءِ الساكنةِ، والياءُ أختُ الكسرة. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} يعني: غيرِ صراط الذين غضبتَ عليهم، وهم اليهودُ، والغضبُ من الله تغييرُ النعمة، وغضبُ الله لا يلحقُ عُصاةَ المؤمنين، إنما يلحق الكافرين. {وَلَا الضَّالِّينَ} أي: وغيرِ الضالين عن الهدى، وهم النصارى، والضلالُ: الذهابُ عن الصواب في الدين؛ لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب، فقال: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60]، وحكم على النصارى بالضلالة، فقال: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ (77)} [المائدة: 77]. ويسن للقارئ أن يقولَ بعد فراغه من قراءة الفاتحة: آمين مفصولًا عنها ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 124)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 108)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 43 - 42)، و"التيسير" للداني (ص: 19)، و"تفسير البغوي" (1/ 7)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 123)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 12).

بسكتة، وهو مخفَّف، ويجوز ممدودًا ومقصورًا، ومعناه: اللهمَّ اسمعْ واستجبْ. روى أبو هريرةَ وغيرُه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا قالَ الإمامُ: ولا الضَّالِّينَ، فقولوا: آمين، فإنَّ الملائكةَ تقولُ في السماءِ: آمين، فمن وافقَ قولُه قولَ الملائكة، غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبِه" (¬1). وليس التأمينُ من القرآن بالاتفاق، بدليل أنه لم يثبت بالمصاحف. واختلف الأئمةُ في الجهر به في الصلاة الجهرية، فعند أبي حنيفة: يخفيه الإمامُ والمأموم، وعند مالك: لا يؤمِّنُ الإمام في الجهرية، وهو الأفضل عنده، وروي عنه: يؤمِّن ويُسِرُّ كالمأمومِ والمنفردِ، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ: يجهرُ به الإمامُ والمأموم، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4205)، كتاب: التفسير، باب: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7]، ومسلم (410)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

سورة البقرة

سُوْرَةُ البَقَرَة مدنيةٌ، وآيها مئتان وثمانون وستُ آيات، وحروفُها خمسةٌ وعشرون ألفَ حرفٍ وخمسُ مئةِ حرف، وكلمُها ستةُ آلاف ومئةٌ وإحدى وعشرون كلمةً. ويقال لسورة البقرة: فُسْطاطُ القرآن، وذلك (¬1) لعظمِها وبهائها، وما تضمنت من الأحكام والمواعظ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1)}. [1] {الم (1)} اختلف في سائر حروف الهجاء من فواتح السور، فقيل: هي من المتشابِه الذي انفرد الله بعلمه، وهي سرُّ القرآن، ولا يجب أن يُتكلَّم فيها، ولكن نؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت، وقال الجمهور من العلماء: بل يجب أن يُتكلَّم فيها، وتُلتمس الفوائدُ التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا فيها، فقيل: هي اسم الله الأعظم، وقيل: أسماءٌ أقسم الله بها، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: معنى (الم): ¬

_ (¬1) في "ت": "ولذلك".

[2]

أنا الله أعلم، ومحل ذلك من الإعراب: أن (الم): ابتداء، و (ذلك) خبره، و (الكتاب) صلةُ خبرهِ؛ كقولك: زيدٌ ذلكَ الرجلُ لا تشكَّ (¬1) فيه. قرأ أبو جعفر بتقطيع الحروف، يسكت على (¬2) كل حرف سكتة يسيرةً في جميع أحرف الهجاء من فواتح السور، ويلزم من سكته إظهارُ المدغَم منها، والمخفى وقطعُ همزة الوصل بعدها. ... {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}. [2] {ذَلِكَ} أي: هذا. {الْكِتَابُ} هو القرآن؛ لأن الله سبحانه كان قد وعد نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يُنزل عليه كتابًا لا يمحوه الماء، فلما أنزل القرآن، قال: هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك بإنزاله، و (هذا) للتقريب، و (ذلك) للتبعيد، وأصل الكَتْبِ الضمُّ والجمع، فسمي الكتابُ كتابًا لأنه جمعُ حرف إلى حرف. {لَا رَيْبَ} أي: لا شك. {فِيهِ} أنه من عند الله تعالى، وأنه الحقُّ والصدق. قرأ حمزة: (لا ريب) بالمد بحيث لا يبلغ الإشباع، وكذلك {لَا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71] {فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11] {لَا جَرَمَ} [هود: 22] {لَا خَيْرَ} [النساء: 114] {لَا ضَيْرَ} (¬3) [الشعراء: 50]، وابنُ كثير يصلُ هاء الكناية الساكن قبلها بياء في الوصل إن كانت مكسورة، وبواو إن كانت مضمومة نحو (فيهي هُدًى) ¬

_ (¬1) في "ت": "لا شك". (¬2) في "ت": "في". (¬3) انظر: "الإتقان" للسيوطي (1/ 115)، النوع الثاني والثلاثون، المد والقصر.

[3]

و (شروهو بثمن) ونحوه حيث وقع (¬1). وقرأ أبو عمرو: (فيه هدى) بإدغام الهاء في الهاء (¬2). {هُدًى} أي: هو رشد وبيان لأهل التقوى، والهدى: ما يهتدي به الإنسان. {لِلْمُتَّقِينَ} أي: للمؤمنين وهم من يتقي الشرك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله الحجزُ بين شيئين، والوقايةُ: فرط الصيانة، وتخصيصُ المتقين بالذكر تشريف (¬3) لهم. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}. [3] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون، وحقيقة الإيمان: لغةً: التصديق بما غاب، وشرعًا: عند أبي حنيفة: تصديقٌ بالقلب، وعمل باللسان، وعندَ الثلاثة: عَقدٌ بالجنان، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالأركان، فدخلَ كلُّ الطاعات، ويأتي ذكرُ الخلاف في زيادته ونقصانه، والاستثناء فيه في سورة ¬

_ (¬1) انظر: قراءة ابن كثير (فيهي) في "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 129)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 130)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (1/ 12)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 126)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 17). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 129)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 93)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 63)، و"التيسير" للداني (ص: 20)، و"إتحاف فضلاء البشر" (ص: 126)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 18). (¬3) في جميع النسخ "تشريفًا"، وظاهره خطأ، لأنها خبر للمبتدأ "تخصيص".

الفتح إن شاء الله تعالى. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ عن نافع، وأبو جعفرٍ: (يومنون) حيث وقع بواو ساكنة بغير همز، والآخرون يهمزونه (¬1). {بِالْغَيْبِ} هو مصدر، وضع موضع الاسم، فقيل للغائب: غَيب، كما قيل للعادل: عَدل، والغيبُ ما كان مُغَيَّبًا عن العيون؛ المعنى: يؤمنون بما غَاب عنهم مما أخبر الله عنه. {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} أي: يديمونها، ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيئاتها، والمراد بها الصلوات الخمس. والصلاة في اللغة: الدعاء. قرأ ورش عن نافع (الصَّلاَةَ) بتغليظ اللام حيث وقع (¬2). {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي: أعطيناهم، والرزقُ: اسم لكل ما يُنتفَع به، حتى الولدُ والعبدُ، وأصله في اللغة الحظُّ والنصيب. قرأ ابن كثيرٍ، وأبو جعفر، وقالونُ بخلافٍ عنه: (رزقناهمو) بواو بعد الميم. {يُنْفِقُونَ} يُخرجون عن أيديهم ما فيها في طاعة الله، وأصل الإنفاق: الإخراجُ عن اليد والملك، فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 84)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 130)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 70)، و"تفسير البغوي" (1/ 13، 15 - 16)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي: (ص: 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 18). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 18).

[4]

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}. [4] {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني: القرآن. {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء -عليهم السلام-. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر: بقصر المد المنفصل حيث وقع (¬1)، واختلف عن قالون، وورش، وأبي عمرو، ويعقوبَ، وهشامٍ، وحفص، فروي عنهم القصرُ، والباقون يطولونه، وأما المتصل، فاتفق جمهورُ القراء على مده قدرًا واحدًا مشبَعًا من غير إفحاش، وذهب آخرون إلى تفاضل مراتبه، فأطولُهم مدًّا في نوعي المتصل والمنفصل: ورشٌ وحمزةُ، ودونهما: عاصمٌ، ودونه: ابنُ عامرٍ، والكسائيُّ وخلفٌ لنفسه، ودونهم: قالونُ، والدُّوريُّ عن أبي عمرو، ويعقوبُ، وأقلُّهم مدًّا: ابنُ كثير وأبو جعفرٍ، والتفاوتُ بينهم لا يكاد ينضبط، والمدُّ: هو زيادة المطِّ في حروف المدِّ، وهي الألفُ مطلقًا، والواو الساكنة المضمومُ ما قبلَها، والياءُ الساكنةُ المكسورُ ما قبلها، فالمتصلُ أن تكون الهمزة مع حرف المد في كلمة واحدة؛ نحو: (أُولَئِكَ) و (شاءَ الله)، وشبهِه، والمنفصلُ أن تكونَ الهمزةُ أولَ كلمةٍ وحرفُ المد آخرَ كلمةٍ أخرى، نحو: (بمِا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، و (يا أيُّها)، و (قَالُوا آمَنَا)، ونحو ذلك، والقَصْرُ: هو تركُ تلكَ الزيادة، وهذه الآيةُ في المؤمنين من أهل الكتاب. {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي: وبالدار الآخرة، وسميتا بالآخرة؛ ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 85)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 132)، و"تفسير البغوي" (1/ 16)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 18 - 19).

[5]

لتأخرها عن الدار الأولى؛ كما سميت الدنيا دنيا لدنوِّها من الخلق الأول. قرأ ورشٌ عن نافعِ: (وبالآخرة) بنقل حركة الهمز إلى الساكن قبله، وترقيق الراء حيث وقع (¬1)، وحمزةُ يسكت في لام التعريف حيث أتت، نحو (الأَرْض) و (الآخِرَة) سكتةً من دون تنفُّس، وإذا وقف له النقل بخلاف عنه (¬2)، ويسكت رُويس على ذلك دونَ سكتِهِ. وقرأ الكسائي (وبالآخرة) بالإمالة حيث وقف على هاء التأنيث (¬3)، وقيل للكسائي: إنك تُميل ما قبل هاء التأنيث، فقال: هذا طباع العربية. {هُمْ يُوقِنُونَ} يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان، وهو العلمُ الحاصلُ، وهو طُمأنينة القلب على حقيقة الشيء. {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}. [5] {أُولَئِكَ} أي: أهلُ هذه الصفة، و (أولاءِ) كلمةٌ معناها الكنايةُ عن جماعة نحو: هم، والكافُ للخطاب كما في حرف ذلك. {عَلَى هُدًى} أي: على رشد وبيان وبصيرة. {مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الناجون والفائزون، فازوا بالجنة، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 75)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 41)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 19). (¬2) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 232 - 233)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 19). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 19).

[6]

ونجوا من النار، ويكون الفلاح بمعنى البقاء؛ أي: الباقون في النعيم، وأصل الفلاح: القطعُ والشقُّ، ومنه سمي الزرَّاع فلاحًا؛ لأنه يشق الأرض، فهم المقطوعُ لهم بالخير في الدنيا والآخرة. روي عن يعقوبَ الوقفُ بالهاء على النون المفتوحة نحو (العالمينَ)، و (الذينَ)، و (يؤمنونَ) (¬1)، و (ينفقونَ)، و (المفلحونَ)، وشبهِه، حيث وقع (¬2). {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}. [6] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: مشركي العرب، أو اليهود، والكفر: هو الجحود، وأصلُه، من الستر، ومنه سمي الليل كافرًا؛ لأنه يستر الأشياء بظلمته، وسمي الزرَّاع كافرًا؛ لأنه يستر الحبَّ بالتراب، والكافرُ يستر الحقَّ بجحوده، والكفرُ على أربعة أنواع: كفرُ إنكار، وهو ألا يعرف الله أصلًا، ولا يعترف به، وكفر جحود، وهو: أن يعرف الله بقلبه، ولا يقر بلسانه؛ كإبليس، وكفر عناد: أن يعرف الله بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به؛ كأبي طالب، وكفر نفاق، وهو: أن يقر باللسان، ولا يعتقد بالقلب. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} أي: متساوٍ عندهم، وقد تقدم في الفاتحة مذهبُ يعقوبَ في ضمِّ هاء (عَلَيْهُم)، وكذلك يضم كل هاء وقعت بعد ياء ساكنة، نحو: (إليهُم)، و (لديهُم) و (عليهُما)، و (إليهُما)، و (فيهُما)، و (عليهُن)، ¬

_ (¬1) في "ت": "والذين يؤمنون". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 18).

و (إليهُن)، و (فيهُن)، و (أبيهُم)، و (صياصيهُم)، و (بجنتيهُم)، و (ترميهُم)، و (ما نريهُم)، و (بين أيديهُم)، وشبه ذلك، وافقه حمزة في (عليهُم) و (إليهُم)، و (لديهُم) فقط، وتقدم (¬1) مذهبُ ابن كثير وأبو جعفرٍ وقالونُ في صلة ميم الجمع بواو في اللفظ حيث وقع، وافق ورشٌ على الصلة عند همز القطع لمن وصل الميم في نحو (عليهمو) (أأنذرتهمو أم لم)، وشبهه حيث وقع. {أَأَنْذَرْتَهُمْ} أعلمتهم محذِّرًا، والإنذارُ: إعلامٌ مع تخويف وتحذير. قرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير وأبو جعفرٍ وقالونُ عن نافعٍ، ورُويس عن يعقوبَ (ءأنذرتهم) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والألف، وأبو عمرو وقالونُ وأبو جعفرٍ يفصلون بين الهمزتين بألف، وورشٌ يبدلها ألفًا خالصةً، ورُوي عنه التسهيل بينَ بينَ. وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابن ذكوان، ورَوْح بتحقيق الهمزتين (¬2)، من غير فصل بينهما كل القرآن. واختلف عن هشام في الفصل مع تحقيق الهمزتين، واختلف عنه أيضًا في تسهيل الثانية بينَ بينَ وتحقيقها، وزعم بعضُهم أن من قلبَ الهمزة الثانية ألفًا على أحد الوجهين لورش لاحنٌ؛ لجمعه بين ساكنين على غير حدِّه. قال الكواشيُّ: وفي زعمه نظرٌ، ثم بَيَّنَ وجهَ القراءة بذلك، وجوازَ الجمع ¬

_ (¬1) انظر: (ص: 23) من هذا الكتاب. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 134)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 86)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 134)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 65)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 77)، و"تفسير البغوي" (1/ 17)، و"التيسير" للداني (ص: 31 - 32)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (11/ 21).

[7]

بينَ ساكنين، وملخَّصه أنه يجوز الجمعُ بين ساكنين مطلقًا إذا صحَّ نقلُه، وقد صحَّ، ومتى اجتمعت همزتان في كلمةٍ الثانيةُ ساكنةٌ، والأولى متحركةٌ بأية حركة كانت، فأجمع القراء أن الأولى محققة، والثانية مسهلة تُبدل واوًا إذا انضم ما قبلها، وألفًا إذا انفتح، وياء إذا انكسر؛ كآدمَ وأُوتي وإيمان. {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} المعنى: إن الذين كفروا مستوٍ لديهم إنذارُك وعدمُه، والألف في قوله (ءأنذرتهم) ألفُ التسوية؛ لأنها ليست كالاستفهام، بل المستفهِم والمستفهَم مستويان في علم ذلك، وهذه الآية في أقوام حَقَّتْ عليهم كلمةُ الشقاوة في سابق علم الله. ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}. [7] {خَتَمَ اللَّهُ} أي: طبع الله. {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيرًا، ولا تفهمه، وحقيقة الختم: الاستيثاقُ من الشيء، ومنه الختمُ على الباب. {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} أي: على موضع (¬1) سمعهم، فلا يسمعون الحقَّ، ولا ينتفعون به، وأراد: على أسماعهم؛ كما قال: على قلوبهم. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} وهذا ابتداء كلام. {غِشَاوَةٌ} أي: غطاء، فلا يرون الحق. قرأ أبو عمرو، وورش عن ¬

_ (¬1) في "ت": "مواضع".

[8]

نافع، والدوريُّ عن الكسائي (أبصارهم) و (ديارهم) وشبهه بالإمالة حيث وقع (¬1)، والباقون بالفتح، فالفتح بلغة أهل الحجاز، والإمالة لغةُ عامةِ أهلِ نجدٍ من تميم وأسدٍ وقيسٍ، والفتحُ عبارةٌ عن فتح القارئ لفيه بلفظِ الحرف، وهو فيما بعده ألف أظهر، والإمالة: أن ينحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في الآخرة، والعذابُ: كلُّ ما يُعَنَّى به الإنسان ويشقُّ عليه. قرأ حمزة برواية خلف (غِشَاوَة وَّلَهُمْ) بإدغام التنوين بغير غنة (¬2). • {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}. [8] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} نزلت في المنافقين: عبدِ الله بنِ أُبيِّ ابن سلولَ، وسلولُ أُمُّهُ، وبها يُعرف، وحارثِ بنِ عمرٍو، وعمر بنِ زيدٍ، ومُعَتِّبِ بنِ قُشير، وجَدِّ بنِ قيسٍ، وأصحابِهم؛ حيثُ أظهروا كلمةَ الإسلام ليسلَموا من النبيِّ وأصحابه، واعتقدوا خلافَها، وأكثرُهم من اليهود (¬3). والناسُ: جمعُ إنسان سمي به؛ لأنه عُهِد إليه فنسيَ كما قال ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 87)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 66)، و"تفسير البغوي" (1/ 18)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 22)، حيث ذكرت عن أبي عمرو والكسائي. (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 24). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 116)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 42)، و"الدر =

[9]

تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115]. قرأ أبو عمرٍو والكسائيُّ (وَمِنَ النَّاسِ) بالإمالة حيث وقعَ هذا الاسمُ مجرورًا في جميع القرآن (¬1). وقرأ خلفٌ عن حمزة، والدوريُّ عن الكسائي (مَن يقُول) بإدغام النون بغير غنة. {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: بيوم القيامة، قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} نظرًا إلى معناها؛ لأن (مَنْ) لفظٌ مفردٌ للعقلاء يعمُّ الواحدَ والجمعَ، والذَّكَرَ والأُنثى. • {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}. [9] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} أي: يخالفون الله، أصل الخَدْع في اللغة: الإخفاءُ، ومنه المَخْدَعُ للبيت الذي يُخفى فيه المتاعُ، فالمخادعُ هو الذي يُظهر خلافَ ما يُضمر، والخدعُ من الله تعالى في قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، أي: يُظهر لهم، ويُعَجِّل لهم من النعيم في الدنيا خلافَ ما يُغَيِّبُ عنهم من عذابِ الآخرة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي: ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم: آمنَّا، وهم غير مؤمنين. {وَمَا يَخْدَعُونَ} قرأ ابن كثيرٍ، ونافعٌ، وأبو عمرٍو: (وَمَا يُخَادِعُونَ) ¬

_ = المنثور" للسيوطي (1/ 73). (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 24).

[10]

بالألف مع ضمِّ الياء وفتح الخاء وكسر الدال، على موافقة الكلمة الأولى. وقرأ الباقون: (وَمَا يَخْدَعُونَ) بغير ألف مع فتح الياء والدال وإسكان الخاء (¬1). {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لأنّ خدعَهم أنفسَهم لا يعدُوهم. وقالَ بعضُ أهلِ اللغةِ: يقالُ: خادَعَ: إذا لم يبلُغْ مُرادَهُ، وخَدَعَ: إذا بلغَ مرادَه، فلما لم ينفذْ خداعهم فيما قصدوه، كان مخادعةً، فلما وقع ضررُ فعلِهم على أنفسهم، كان في حقِّ أنفسِهم خِداعًا، وتفسيره: فلا ينفُذُ خداعهم فيمن قصدوه، فكأنهم خدعوا أنفسَهم؛ كما يقال: فلانٌ سخرَ بفلانٍ، وما سخرَ إلا بنفسِه، والنفسُ: ذاتُ الشيء وحقيقتُه. {وَمَا يَشْعُرُونَ} الشعور: علمُ حِسّ؛ أي: لا يعلمون أنهم يخدعونَ أنفسَهم، وأنَّ وبالَ خداعِهم يعودُ عليهم. • {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}. [10] {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شكٌّ ونِفاق، والمرضُ في اللغة: العلَّة، ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 87)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 139)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 68)، و"الكشف" لمكي (1/ 224 - 227)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 82)، و"تفسير البغوي" (1/ 19)، و"التيسير" للداني (ص: 72)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 207)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 25)، قال البغوي عن قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو: وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد.

سمي الشكُّ في الدين مرضًا؛ لأنه يُضعف الدينَ؛ كالمرضِ يضعفُ البدنَ. {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أي: أمدَّهم اللهُ بمرضٍ آخرَ تنميةً لمرضهم؛ لأن الآياتِ كانت تنزل تترًا آيةً بعدَ آيةٍ، فكلما (¬1) نزلتْ آية، فكفروا بها، ازدادوا شكًّا ونفاقًا. قرأ حمزةُ، وابنُ ذكوان: (فَزَادَهُمْ) بالإمالة، والباقون بالفتح (¬2). {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم. {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي: بتكذيبهم اللهَ ورسولَه في السرِّ. قرأ أهل الكوفة: (يَكْذِبُونَ) بفتح الياء والتخفيف؛ أي: بكذبهم إذ قالوا: آمنا، وهم غير مؤمنين، والكذبُ: إخبارٌ بما لم يقع. وقرأ الباقون: بضم الياء والتشديد على المعنى الأول (¬3). ¬

_ (¬1) في "ت": "فلما" (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 88)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 47)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 68)، و"تفسير البغوي" (1/ 19)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 26). (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 88)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 141)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 86)، و"الكشف" لمكي (1/ 227 - 228)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 83)، و"تفسير البغوي" (1/ 19)، و"التيسير" للداني (ص: 32)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 207 - 208)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 129)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 26).

[11]

• {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}. [11] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يعني: قال المؤمنون للمنافقين أو لليهود. قرأ الكسائيُّ، وهشامٌ، ورويسٌ: (قِيلَ، وغَيِضَ، وَجِيَء، وَحِيَل، وَسِيَق، وَسِيَء، وَسِيَئتْ) بإشمامِ الضمِّ كسر أوائِلهِنَّ، وافقهم ابنُ ذكوان في (حِيلَ، وَسِيَء، وَسِيَئتْ)، ووافقهم المدنيان في (سِيَء وَسِيَئتْ) فقط. وقرأ الباقون بإخلاصِ الكسرِ (¬1). {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالكفرِ وتعويقِ الناس عن الإيمان بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - والقرآنِ، والفسادُ: خروجُ الشيءِ عن حالِ الاستقامة. {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} يقولون هذا القول كذِبًا؛ كقولهم: آمنا وهم كاذبون. • {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}. [12] {أَلَا} كلمة تنبيه يُنَبَّهُ بها المخاطَبُ. {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} أنفسَهم بالكفر، والناسَ بالتعويقِ عن الإيمان. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 88)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 141)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 69)، و"الكشف" لمكي (1/ 229 - 232)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 83)، و"تفسير البغوي" (1/ 20)، و"التيسير" للداني (ص: 72)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 129)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 27).

[13]

{وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} أي: لا يعلمون أنهم مفسدون؛ لأنهم يظنون أنَّ الذي هم عليه من إبطانِ الكفرِ حقٌّ صلاحٌ. • {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}. [13] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: المنافقين واليهود: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} عبدُ الله بنُ سلام وغيرُه من مؤمني أهل الكتاب. {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} أي: الجهَّال، وهذا القولُ كانوا يُظهرونه فيما بينهم، لا عندَ المؤمنين، فأخبرَ الله نبيَّهُ والمؤمنينَ بذلك، وقال رَدًّا عليهم: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} لا يدرون أنهم كذلك، والسفيهُ: خفيفُ العقل، رقيقُ الحِلْم، من قولهم: ثوبٌ سفيهٌ؛ أي: رقيق. قرأ الكوفيون وابنُ عامرٍ، وروح: (السُّفَهَاءُ أَلاَ) بتحقيق الهمزتين، والباقونَ: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، وهي أن تُبدل واوًا محضةً، وما ذكر من تسهيلِ إحدى (¬1) الهمزتين إنما هو في حالة الوصل، فإذا وقفتَ على الكلمة الأولى، أو (¬2) بدأتَ بالثانية، حَقَّقْتَ الهمزَ (¬3) في ذلك لجميع القراء (¬4). ¬

_ (¬1) في "ت": "أحد". (¬2) في "ن": "و". (¬3) في "ن": "الهمزة". (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 139)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 84)، =

[14]

• {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}. [14] {وَإِذَا لَقُوا} يعني: هؤلاء المنافقين. {الَّذِينَ آمَنُوا} أي: المهاجرين والأنصار. {قَالُوا آمَنَّا} كإيمانكم. {وَإِذَا خَلَوْا} رجعوا. {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أي: رؤسائِهم وكَهَنَتِهم، والشيطانُ: المتمرِّدُ العاتي؛ أي: الطويلُ الجسمِ من الجنِّ والإنسِ ومن كلِّ شيء. {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} أي: على دينِكم. {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ساخرون بمحمدٍ وأصحابهِ بما نُظهر من الإسلام. قرأ أبو جعفر: (مُسْتَهْزُونَ، ومُتَّكُونَ) وشبهه حيثُ وقعَ بتركِ الهمزة (¬1). • {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}. [15] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي: يجازيهم جزاءَ استهزائِهم، وهو أن يُفْتَحَ ¬

_ = و"تفسير البغوي" (1/ 20)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 129)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 27 - 28). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 86)، و"تفسير البغوي" (1/ 21)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 12)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 69)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 129)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 29).

لهم بابٌ من الجنة، فإذا انتهوا إليه، سُدَّ عنهم، ورُدُّوا إلى النار. {وَيَمُدُّهُمْ} يُطيلُ مدةَ غَيِّهم، والمدُّ والإمدادُ واحدٌ، وأصلُه الزيادةُ، إلا أن المدَّ أكثرُ ما يأتي في الشرِّ، قال الله تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم: 79]، والإمدادُ في الخير، قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6]. {فِي طُغْيَانِهِمْ} أي: ضَلالتِهم، والطُّغيانُ: الغلوُّ في الكفرِ. قرأ الدوريُّ عنِ الكسائيِّ (طغيانهم وآذانهم) بالإمالة حيثُ وقعَ (¬1)، وأمالَ حمزةُ والكسائيُّ وخلَفٌ جميعَ ما رُسِمَ بالياء من الأسماء، نحو: (الهُدَى، وَالهَوَى، والعَمَى)، وما أشبهَ ذلكَ (¬2)، والأفعالِ نحو: (أَتَى، وَأَبَى، وَسَعَى)، وما أشبهَ ذلكَ، وافقهم (¬3) أبو عمرٍو على ما كان فيه راءٌ بعدها ألفٌ ممالة بأيِّ وزنٍ كان، نحو: (ذِكْرَى، وَبُشْرَى، وَأَسْرَى)، وما أشبهَ ذلك، واختلِفَ في ذلك كلِّه عن ابنِ ذكوانَ، واختلِفَ عن وَرْشٍ فيما فيه راءٌ، فرُويَ عنه الإمالةُ بينَ بينَ، ورُوي عنه الفتحُ (¬4)، والوجهانِ صحيحانِ عنه. وقرأ الباقون بالفتح. {يَعْمَهُونَ} أي: حائرون متردِّدون (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 143)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 70)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 90)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 130)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 29). (¬2) انظر: "تفسير الآلوسي"، في تفسيره سورة البقرة، الآية (16). (¬3) في "ن": "ووافقهم". (¬4) "الفتح" سقط من "ت". (¬5) انظر: "اللباب" لابن عادل الحنبلي، في تفسيره سورة يوسف، الآية (19).

[16]

• {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}. [16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أي: استبدلوا الكفرَ بالإيمان. والضلالةُ: الجورُ عن القَصْدِ. {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي: فما ربحوا في تجارتهم. {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ناجين من الضلالة. • {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}. [17] {مَثَلُهُمْ} أي: شبههم. والمثلُ: قولٌ سائرٌ في عُرْفِ الناس، يُعرف به معنى الشيء. {كَمَثَلِ الَّذِي} يعني: الذين؛ بدليل سياق الآية. {اسْتَوْقَدَ} أي: أوقد. {نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ} النارُ. {مَا حَوْلَهُ} أي: حولَ المستوقِدِ. {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي: أزاله. {وَتَرَكَهُمْ} طرحهم. {فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} نزلت في المنافقين، يقول: مثلُهم في نفاقِهم كمثلِ رجلٍ أوقدَ نارًا في ليلةٍ مظلمةٍ في مفازةٍ، فاستدفأ، ورأى ما حولَه،

[18]

واتَّقى ما يخافُ، فبينا هو كذلك إذْ طُفئت نارُه، فبقيَ في ظلمة خائفًا متحيِّرًا، فكذلك المنافقونَ بإظهارِ كلمةِ الإيمان أمِنُوا على أموالهم وأولادِهم، وناكَحُوا المؤمنينَ، ووارثوهم، وقاسموهم الغنائمَ، فذلك نورُهم، فإذا ماتوا، عادوا إلى الظلمة والخوف. • {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}. [18] {صُمٌّ} أي: هم صمٌّ عن الحق، لا يقبلونه، وإذا لم يقبلوا، كأنهم لم يسمعوا. {بُكْمٌ} خُرْس عن الحقِّ لا يقولونه. {عُمْيٌ} أي: لا بصائرَ لهم، ومَنْ لا بصيرةَ له كمنْ لا بَصرَ له. {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} عن الضلالة إلى الحق. • {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}. [19] {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} أي: كأصحابِ صَيِّبٍ؛ فهذا مثلٌ آخرُ ضربَهُ الله تعالى للمنافقين، معناه: إن شئتَ مَثِّلْهم بالمستوقِدِ، وإن شئتَ بأهلِ الصَّيِّبِ (أو) بمعنى الواو، يريد: وكصيِّبٍ من السماء. والصيِّبُ: المطرُ، وكلُّ ما نزلَ من الأعلى إلى الأسفلِ، فهو صيّبٌ؛ أي: نزلَ من السماء؛ أي: من السحاب. {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} جمع ظلمة.

{وَرَعْدٌ} اسم مَلَكٍ، وهو الذي يُسمع صوتُه من السحاب، وهو الذي يسوقُهُ. {وَبَرْقٌ} لمعانُ سوطٍ من نورٍ يزجُرُ به الملكُ السّحاب. {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} جمع صاعقة، وهي الموتُ، وكلُّ عذابٍ مُهْلِكٍ. وعن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أنه كانَ إذا سمعَ صوتَ الرعدِ والصواعقِ قالَ: "اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنا بِغَضَبِكَ، وَلا تُهْلِكْنا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنا قَبْلَ ذَلِكَ" (¬1). {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي: مخافةَ الهلاكِ. {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} عالمٌ بهم، لا يفوتونه. وأصلُ (¬2) الإحاطةِ: الإحداقُ بالشيءِ من جميعِ جهاتهِ، ومنه الحائط. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ، والدوريُّ عن الكسائي ورويس: (بالكافرين) بالإمالةِ حيثُ وقعَ في محلِّ النصبِ والخفضِ (¬3). • {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3450)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا سمع الرعد، والنسائي في "السنن الكبرى" (10764)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 100)، وغيرهم، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) في "ت": "والأصل". (¬3) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 73)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 90)، و"تفسير البغوي" (1/ 24)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 33).

[20]

[20] {يَكَادُ الْبَرْقُ} أي: يقربُ. يُقال: كادَ يفعلُ: إذا قَرُبَ ولم يفعلْ. {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} يختلِسُها، والخطفُ: استلابٌ بسرعةٍ. {كُلَّمَا} (كُلَّ) حرفُ جملةٍ ضُمَّ إلى (ما) الجزاء، فصار أداةً للتكرار، ومعناها: متى ما. {أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أي: كلما أنارَ البرقُ لهم الطريقَ، ساروا في ضوئه. {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي: وقفوا متحيرين، فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقومٍ كانوا في مَفازةٍ في ليلةٍ مظلمة، أصابهم مطرٌ فيه ظلماتٌ من صِفَتِها أنَّ الساريَ لا يمكنه المشيُ فيها، ورعدٌ من صفتِهِ أنه يضمُّ السامعون أصابعَهُم إلى آذانهم من هَوْلهِ، وبرقٌ من صفتِهِ أنْ يَقْرُبَ أنْ يخطَفَ أبصارهم ويُعميها من شدَّةِ توقُّده، فهذا مثلٌ ضربَهُ اللهُ للقرآنِ وصنيعِ الكافرينَ والمنافقينَ معه، فالمطرُ: القرآنُ؛ لأنه حياةُ الجَنَان، كالمطرِ حياة الأبدان، والظلماتُ: ما في القرآنِ من ذكرِ الكفرِ والشركِ، والرعدُ: ما خُوِّفوا به من الوعيد، وذكرِ النار، والبرقُ: ما فيه من الهدى والبيانِ والوعدِ وذكرِ الجنة، فالكافرون يسدُّون آذانَهم عندَ قراءةِ القرآن مخافةَ ميلِ القلبِ إليه؛ لأن الإيمانَ عندَهُم كفرٌ، والكفرُ موتٌ، وقوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}؛ أي: القرآنُ يبهَرُ قلوبهم. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} أمالَ حمزةُ (شَاءَ، وَجَاءَ، وَخَابَ، وَطَابَ، وَخَافَ، وَحَاقَ، وَضَاقَ، وَزَالَ، وَزَاغَ) حيثُ وقع، سوى (زَاغَتْ) وافقَهُ ابنُ ذكوانَ

[21]

وخَلَفٌ في (شَاَء، وَجَاءَ) حيثُ وقع (¬1). {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي: بأسماعِهم وأبصارِهم الظاهرةِ كما ذهبَ بأسماعِهم وأبصارِهم الباطنةِ. قرأ أبو عمرو، ورويسٌ: (لذهب بسمعهم) بإدغامِ الباءِ في الباءِ. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: فاعلٌ لِما يشاء، ولا يُوصَفُ غيرُ الله تعالى بالقدير. • {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}. [21] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: يا أَيُّها الناسُ خطابُ أهلِ مكَّةَ، ويا أَيُّها الذينَ آمنوا خطابُ أهلِ المدينة (¬2)، وهو هاهنا عام إلا من حيثُ إنه لا يدخلُه (¬3) الصغارُ والمجانين. {اعْبُدُوا} وَحِّدُوا. {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الخَلْقُ: اختراعُ الشيءِ على غيرِ مثالٍ سبقَ. قرأ أبو عمرو: (خلقكم) بادغام القاف في الكاف، ورويَ عن يعقوبَ إدغامُ كُلِّ ما أدغمَه أبو عمرٍو من المِثْلَين، والمتقارِبَيْنِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 25)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 90)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 35). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 84 - 85). (¬3) في "ت": "يدخل". (¬4) انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 45)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

[22]

{وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: وخلقَ الذين من قبلِكُم. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكي تنجو من العذاب. قال سيبويهِ: لعلَّ، وعَسَى حَرْفا تَرَجٍّ، وهما من اللهِ واجبان. • {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}. [22] {الَّذِي جَعَلَ} أي: صيَّرَ. {لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} أي: بساطًا. قرأ أبو عمرٍو: (وَجَعَل لَّكُمْ) بإدغام اللام في اللام، ورُوي عن رُويسٍ موافقتُه على ذلك. {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي: سقفًا محفوظًا مرفوعًا. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أي: من السحاب. {مَاءً} وهو المطر. {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} وأنواع النبات. {رِزْقًا} أي: طعامًا. {لَكُمْ} وعَلَفًا لدوابكم. {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أي: أمثالًا تعبدونهم كعبادةِ الله. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه واحدٌ خالقُ هذهِ الأشياءِ. ¬

_ = (ص: 131)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 36).

[23]

• {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}. [23] {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي: في شكٍّ. معناه: وإذْ كنتم؛ لأن الله علمَ أنَّهم شاكُّون. {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمدٍ، يعنى: القرآن. {فَأْتُوا} أمرُ تعجيزٍ. {بِسُورَةٍ} والسورةُ: قطعةٌ من القرآنِ معلومةُ الأولِ والآخِر. {مِنْ مِثْلِهِ} أي: مثلِ القرآن، و (مِنْ) صِلَةٌ؛ كقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} جمعُ شاهدٍ؛ أي: واستعينوا بآلهتِكُم التي تعبدونها. {مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن محمدًا يقولُه من تِلْقاءِ نفسِه، فلمَّا تحدَّاهم، عَجَزوا، فقال: • {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}. [24] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} فيما مضى. {وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي: لن تقدروا عليه فيما بقي أبدًا، وإنما (¬1) قالَ ذلكَ؛ ¬

_ (¬1) في "ت": "وإن".

[25]

لبيان الإعجازِ؛ فإنَّ القرآنَ كانَ معجزةً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ حيثُ عجزوا عن الإتيان بمثله. {فَاتَّقُوا النَّارَ} أي: فآمنوا، واتقوا بالإيمان النار. {الَّتِي وَقُودُهَا} أي: حَطَبُها. {النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} يعني: حجارةَ الكبريت؛ لأنها أكثرُ التهابًا، وقيل: الأصنام، وقرنَ الناسَ بالحجارةِ؛ لأنهم نحتوها، واتَّخذوها أربابًا من دون الله. وقيل: من النار نوعٌ لا يَتَّقد إلا بالناسِ والحجارة كاتقادِ هذه النار بالحطب. {أُعِدَّتْ} أي: هيئت. {لِلْكَافِرِينَ} فبعدَ ذكرِ وعيدِ الكافرين ذكرَ وعدَ المؤمنين تطييبًا لقلوبهم مخاطبًا رسولَه - صلى الله عليه وسلم - فقال: • {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}. [25] {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} والبشارةُ: كلُّ خبرِ صدقٍ تتغير به بشرةُ الوجهِ، ويُستعمل في الخيرِ والشرِّ، وفي الخيرِ أغلبُ. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: الفعلاتِ الصالحةَ، يعني: المؤمنينَ من أهل الطاعة. {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} جمع جَنَّة، والجنةُ: البستان الذي فيه أشجارٌ مثمرةٌ،

سميت به؛ لاجتنانها وتستُّرِها بالأشجار. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت أشجارِها ومساكنِها. {الْأَنْهَارُ} أي: المياه في الأنهار؛ لأن النهر لا يجري، والأنهارُ جمعُ نهر، سمي به لسعتِه وضيائه، ومنه النَّهارُ. {كُلَّمَا} يعني: متى ما. {رُزِقُوا} أُطْعِموا. {مِنْهَا} أي: من الجنة. {مِنْ ثَمَرَةٍ} أي ثمرة، و (مِنْ) صلة. {رِزْقًا} طعامًا. {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} و (قَبْلُ) رُفِعَ على الغاية، قال الله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، فإذا رُزِقوا ثمرةً بعدَ أخرى، ظنوا أنها الأُولى. {وَأُتُوا بِهِ} أي: بالرزق. {مُتَشَابِهًا} في الألوان، مختلفًا في الطعوم. {وَلَهُمْ فِيهَا} أي: في الجنات. {أَزْوَاجٌ} نساء وجوارٍ من الحورِ العِينِ. {مُطَهَّرَةٌ} من الأقذار. {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون، لا يموتون، ولا يخرجون.

[26]

• {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}. [26] {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} الحياءُ: تغيُّرٌ وانكسارٌ يلحقُ الشخصَ خوفًا مما يُعابُ به، واشتقاقُه من الحياة؛ فإنه انكسار يعتري القوى الحيوانيةَ، ويردُّها عن أفعالها، والله سبحانه منزَّهٌ عن ذلك. وسببُ نزولِها: أن الله تعالى لما ضربَ المثلَ بالذُّبابِ والعنكبوتِ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41]، قالتِ اليهودُ ما أرادَ اللهُ بذكرِ هذهِ الأشياءِ الخسيسةِ؟ فأنزلَ اللهُ -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} (¬1) أي: لا يتركُ تركَ مَنْ يستحيي (أنْ يضربَ مثلًا) يذكر شَبَهًا (ما بعوضةً) (ما) صلة؛ أي: مثلًا بالبعوضة، و (بعوضةً) نصبٌ بدلٌ عن المثل. والبعوضُ: صغارُ البقِّ، سميت بعوضةً كأنها بعضُ البقِّ، (فَمَا فَوْقَها) يعني: الذبابَ والعنكبوتَ. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد والقرآن. {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يعني المثلَ هو (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 178)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 68)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 103). (¬2) "هو": ساقطة من "ت".

[27]

{الْحَقُّ} والصدق. {مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} ثم أجابهم فقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} من الكفار، لأنهم كانوا يكذبونه، فيزدادون ضلالًا. {وَيَهْدِي بِهِ} أي: بهذا المثل. {كَثِيرًا} من المؤمنين، فيصدقونه. والإضلالُ: هو الصَّرْفُ عن الحقِّ بالباطل. {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} لأن الكافرين. والفسقُ: الخروجُ عن أمر الله. ثم وصفهم فقال: • {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}. [27] {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} أي: يخالفون ويتركون. وأصلُ النقضِ الكسر. {عَهْدَ اللَّهِ} أمرَ اللهِ الذي عهدَ إليهم يومَ الميثاق بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} توكيدِه. والميثاقُ: العهدُ المؤكَّدُ. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} يعني: الإيمانَ بمحمدٍ وبجميعِ الرسلِ -عليهم السلام-؛ لأنهم قالوا: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150]، وقالَ المؤمنون: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285].

[28]

{وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي، وتعويقِ الناسِ عن الإيمانِ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن. {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} المغبونون. ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب: • {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}. [28] {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} بعدَ نصبِ الدلائل ووضوحِ البراهين. ثم ذكرَ الدلائلَ فقالَ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} نُطَفًا في أصلابِ آبائِكم. {فَأَحْيَاكُمْ} في الأرحامِ والدنيا. قرأ الكسائيُّ: (فَأَحْيَاكُمْ، أَحْيَا، أَحْيَاهَا، فَأَحْيَا، وَأَحْيَا) بالإمالةِ حيثُ وقعَ، وافقه حمزةُ في (وَأَحْيَا) حيثُ وقع (¬1). {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاءِ آجالِكم. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعثِ. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تُرَدُّون في الآخرةِ، فَيَجزيكم بأعمالِكم. قرأ يعقوبُ: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم حيثُ وقع إذا كانَ من رجوع ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 73)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 109)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 131)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 40).

[29]

الآخرة، وقرأ الباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1)، ولم يختلفوا فيما كانَ من الرجوعِ إلى الدنيا؛ كقوله: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]؛ {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 174]، ونحوِ ذلك أنه بفتح أوله وكسر ثالثه. • {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}. [29] {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لكي تعتبروا وتستدلوا. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي: قصد إليها؛ لأنه خلق الأرض أولًا، ثم عمدَ إلى خلقِ السماء. {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي: خلقهنَّ مستوياتٍ لا فُطورَ فيها ولا صَدْعَ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ وخلفٌ؛ (اسْتَوَى) (فَسَوَّاهُنَّ) بالإمالةِ (¬2)، ووقفَ يعقوبُ (فَسَوَّاهُنَّهْ) بزيادة هاء السكت. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفُ، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 31)، و"تفسير القرطبي" (1/ 250)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 132)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 132)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 40). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 109)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 134)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 132)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 40).

[30]

ووَرْشٌ، ويعقوبُ: (وَهُوَ، وَهِيَ، فَهُوَ، فَهِيَ، لَهُوَ، لَهِيَ) بتحريكِ الهاءِ حيثُ وقعَ (¬1)، ووقفَ يعقوبُ على جميعِها بزيادةِ هاءِ السكتِ (¬2). • {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}. [30] {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} أي: واذكرْ إذْ قال ربُّك. و (إذْ) و (إِذا) حرفا توقيتٍ، إلا (إذ) للماضي، و (إذا) للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضعَ الأخرى. قرأ أبو عمرٍو (قَال رَّبُّكَ) بإدغام اللام في الراء. {لِلْمَلَائِكَةِ} جمع مَلَكَ. قيل: مشتقٌّ من المُلْك، وهو الشدَّةُ والقوةُ، والمرادُ: الملائكةُ الذين كانوا في الأرض، وذلك أن الله خلق السماءَ والأرضَ، وخلقَ الملائكةَ والجانَّ، وأسكنَ الملائكةَ السماءَ، وأسكنَ الجانَّ الأرضَ، فعبدوا دهرًا طويلًا في الأرض، ثم ظهر فيهم الحسدُ والبغيُ، فأفسدوا، واقتتلوا، فبعث الله إليهم جُندًا من الملائكة يقال لهم: الجنُّ، وهم خُزَّانُ الجِنان، اشتقَّ لهم اسمٌ من الجنة، رأسهم إبليسُ، وكانَ رئيسَهُم، ومن أشدِّهم وأكثرِهم علمًا، فهبطوا إلى الأرضِ، وطردوا الجانَّ إلى شعوبِ الجبال وبطونِ الأوديةِ وجزائرِ البحورِ، وسكنوا الأرضَ، وخَفَّفَ الله عنهُم العبادةَ، وأعطى اللهُ إبليسَ ملكَ الأرضِ وملكَ سماءِ ¬

_ (¬1) ووافقهم عاصم في ذلك أيضًا. (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 132)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 41).

الدنيا، وخزانةَ الجنة، وكان يعبدُ الله تارةً في الأرض، وتارةً في السماء، وتارةً في الجنة، فدخلَهُ العُجْب، وقال في نفسِه: ما أعطاني اللهُ هذا الملكَ إلا لأني أكرمُ الملائكةِ عليه، فقال الله له ولجنده: {إِنِّي جَاعِلٌ} أي: مُصَيِّرٌ. {فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أي: بدلًا منكم، وأرفعُكُم إليَّ، فكرهوا ذلكَ؛ لأنهم كانوا أهونَ الملائكة عبادةً، والمرادُ بالخليفة هاهنا: -آدم عليه السلام-؛ لأنه خليفةُ الله في الحُكْم بينَ عبادِه بالحقِّ، ومَنْ قامَ مقامَه بعدَه من ذريته، والخليفةُ: من استُخلِفَ مكانَ مَنْ كان قبلَه، مأخوذ من أنه خَلَفٌ لغيره، يقومُ مقامَهُ في الأمر الذي أُسند إليه فيه؛ كما قيل: أبو بكرٍ خليفةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قرأ الكسائي (خليفة) بإمالةِ الفاء حيثُ وقف على هاء التأنيث (¬1). {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} بالمعاصي، والمراد: ذريَّتُه. {وَيَسْفِكُ} أي: ويصبُّ. {الدِّمَاءَ} بغيرِ حقٍّ؛ أي: كما فعلَ بنو الجانِّ، فقاسوا بالشاهدِ على الغائبِ، وإلَّا فَهُم ما كانوا يعلمون الغيبَ. {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} نقول: سبحانَ اللهِ وبحمدهِ. والتسبيحُ: تبعيدُ اللهِ من السوء. قرأ أبو عمرٍو: (وَنَحْن نُّسَبِّحُ) بإدغامِ النون في النون. {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي: نثني عليك بالقُدُّوس والطهارة عما لا يليقُ بجلالك. قرأ أبو عمرٍو: (وَنُقَدِّسُ لَك قَّالَ) بإدغام الكاف في القاف، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 109)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 41).

[31]

وكذلك: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54]، و {لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10] حيثُ تحرَّكَ ما قبلَها، فلو سكن ما قبلَ الكاف، لم يدغمْها نحو: {فَأُولَئِكَ كَانَ} (¬1) [الإسراء: 19]، و {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65]، وشبهه. {قَالَ} الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من المصلحة فيه. قرأ المدنيان، وابنُ كثير، وأبو عمرٍو (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون بإسكانها، وأبو عمرٍو: (أَعْلَم مَّا) بإدغام الميم في الميم (¬2). • {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}. [31] {وَعَلَّمَ آدَمَ} سُمِّي آدمَ؛ لأنه خُلِقَ من أديمِ الأرضِ، وهو وَجْهُها، مشتَقٌّ من الأُدْمَةِ: السُّمْرَة، وكنيتهُ: أبو البَشَر، عاش تسعَ مئةٍ وثلاثين سنةً باتفاقٍ، وقبرُه في مغارةٍ بينَ بيتِ المقدسِ ومسجدِ إبراهيمَ الخليلِ، رِجْلاهُ عند الصخرة، ورأسهُ عند مسجدِ إبراهيم، وفي ذلك خلاف كثير. ¬

_ (¬1) وردت هذه الآية في جميع النسخ "أولئك قال"، وهو خطأ ظاهر. (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 93)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 196)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 74)، و"الكشف" لمكي (1/ 330)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (1/ 33)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 132)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 42).

{الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} لما خلقه الله -عز وجل- علمه أسماءَ الأشياء، وذلك أن الملائكة قالوا لما قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ليخلقْ ربُّنا ما يشاءُ، فلن يخلقَ خَلْقًا أكرمَ عليه منَّا، وإن كانَ، فنحنُ أعلمُ منه؛ لأنا خُلقنا قبلَه، ورأينا ما لم يَرَهُ، فأظهرَ اللهُ فضلَه بالعلمِ، وفيه دليلٌ على أن الأنبياءَ أفضلُ من الملائكة، وإن كانوا رسلًا كما ذهبَ إليه أهل السنة. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} أي: عرض المسمَّيات؛ لأن عرض الأسماء لا يصحُّ، والعرضُ: إظهارُكَ الشيءَ، وأن تمرَّ به عَرْضًا؛ لتعرفَ حالَه، وإنما قال: عَرَضَهم، ولم يقل: عَرَضَها؛ لأن المسمَّياتِ إذا جَمَحَتْ من يعقلُ ومن لايعقلُ، يكنى عنها بلفظ مَنْ يعقلُ؛ كما يكنى عن الذكورِ والإناثِ بلفظ الذكور. {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} أخبروني، أمر تعجيز. {بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنِّي لا أخلقُ خلقًا إلا كنتم أفضلَ وأعلمَ منه. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ورَوْح: {هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بتحقيق الهمزتين، وأبو عمرٍو بإسقاطِ الهمزةِ الأولى، وتحقيق الثانية، وقرأ قالون، والبزي: بتسهيل الأُولى بينَ بينَ، مع تحقيق الثانية، وأبو جعفرٍ ورويسٌ: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، واختلف عن قنبل وورش، فروي عن الأول جعلُ الهمزةِ الثانيةِ بينَ بينَ، وروي عنه إسقاطُ الهمزة الأولى، وهو الذي عليه الجمهورُ من أصحابه، وروي عن الثاني إبدالُ الهمزةِ الثانيةِ ياءً مكسورةً، وروي عنه تسهيلُها بينَ بينَ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 159)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 100)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 17)، و"التبيان" للطوسي =

[32]

[32] {قَالُوا} يعني: الملائكة إقرارًا بالعجز. {سُبْحَانَكَ} تنزيهًا لكَ. {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} معناه: أنك أجلُّ من أن نحيطَ بشيء من علمِك. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} بخلقك. {الْحَكِيمُ} في أمرك. والحكيمُ له معنيان: أحدُهما: الحاكم، وهو القاضي العدلُ، والثاني: المحكِمُ لأمره كيلا يتطرَّقَ إليه الفسادُ، وأصلُ الحكمةِ في اللغة: المنعُ، وهي تمنعُ صاحبَها من الباطل، ومنها حَكَمَةُ الدابَّة؛ لأنها تمنعُها من الاعوجاج. فلما ظهرَ عجزُهم: • {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}. [33] {قَالَ} الله سبحانه: {يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ} أخبرهم. {بِأَسْمَائِهِمْ} فسمَّى آدمُ كلَّ شيء باسمه، وذكرَ الحكمةَ التي لأجلها خُلق. {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ} الله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} يا ملائكتي: ¬

_ = (1/ 141)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 14)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 135 - 133)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 43 - 44).

[34]

{إِنِّي أَعْلَمُ} تقدم مذاهبُ (¬1) القراء في فتح الياء وإسكانها من (إنِّي) في الحرف المتقدم قريبًا. {غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ما كان منها، وما يكون؛ لأنه قد قال لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي: تظهرون، يعني قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}. {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} تُسِرُّون، يعني قولهم: لن يخلقَ اللهُ ربُّنا خَلْقًا أكرمَ عليه منا. ... {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}. [34] {وَإِذْ قُلْنَا} مذهب العرب أن الرئيسَ يخبرُ عن نفسِه بضمير الجمع. {لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} قرأ أبو جعفر: (لِلْمَلائِكَةُ) بضمِّ التاءِ حالةَ الوصلِ إتباعًا، ورُويَ عنهُ إشمامُ كسرتها الضمَّ، والوجهان صحيحان عنه، ووجهُ الإشمام أنه أشارَ إلى الضمِّ تنبيهًا على أن الهمزةَ المحذوفةَ التي هي همزةُ الوصلِ مضمومةٌ حالةَ الابتداءِ، ووجهُ الضمِّ أنهم استثقلوا الانتقالَ من الكسرةِ إلى الضمة إجراءً للكسرةِ اللازمةِ مجرى العارضة، وعللها أبو البقاءِ أنه نوى الوقفَ على التاء، فسكنها، ثم حَرَّكها بالضمِّ إتباعًا لضمةِ الجيم، ¬

_ (¬1) في "ت": "مذهب".

وهذا من إجراء الوصل مجرى الوقف، وقد اعترضَ جماعةٌ على أبي جعفر في قراءته لذلك، فردَّ ابنُ الجزريِّ اعتراضَهُ، وانتصرَ لأبي جعفرٍ، وصوَّبَ قراءته، وقال: إنه لم ينفردْ بهذه القراءة، بل قرأ بها غيرُه من السَّلَف. وقرأ الباقون: بإخلاصِ كسرةِ التاءِ (¬1). وهذا الخطابُ مع جميع الملائكة على الصحيح، والأصحُّ أن السجودَ كانَ لآدمَ على الحقيقة، وتضمَّنَ معنى الطاعة لله تعالى لامتثالِ أمرِه، وكانَ ذلكَ سجودَ تعظيمٍ وتحيَّةٍ، لا سجودَ عبادةٍ، ولم يكن فيه وضعُ الوجهِ على الأرض، إنما كانَ الانحناء، فلما جاء الإسلامُ أبطلَ ذلك. والسجودُ في الأصل: تذلُّلٌ مع تَطامُنٍ. {فَسَجَدُوا} يعني: الملائكة. {إِلَّا إِبْلِيسَ} وكان اسمُه عزازيل بالسريانية، وبالعربية: الحارثُ، فلما عصى، غُير اسمه وصورتُه، فقيل: إبليسُ؛ لأنه أبلسَ؛ أي: يئس من رحمة الله، والأصحُّ أنه كانَ من الملائكة لا من الجنِّ، وقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50]، أي: من الملائكةِ الذين هم خَزَنة الجنة. {أَبَى} امتنع فلم يسجد. {وَاسْتَكْبَرَ} أي: تكبر عن السجود لآدم. {وَكَانَ} أي: وصار. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 161)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 71)، و"تفسير البغوي" (1/ 35)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 18)، و"تفسير القرطبي" (1/ 261)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 210)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 45 - 46).

[35]

{مِنَ الْكَافِرِينَ} قال أكثر المفسرين: وكان في سابق علم الله من الكافرين الذين وجبتْ لهم الشقاوة. {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}. [35] {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وهي جنةُ الخلد في السماء السابعة، وذلك أن آدمَ لم يكنْ له في الجنةِ مَنْ يجالسُه، فنام نومةً، فخلقَ اللهُ زوجتَهُ حَوَّاءَ من قصيراهُ من شقِّه الأيسر، وسُمِّيت حواءَ؛ لأنها خُلقَتْ من حَيٍّ، خلقها الله تعالى من غير أن أحسَّ بها آدمُ، ولا وجدَ لها ألمًا، ولو وجد لها ألمًا، لما عطفَ رجلٌ على امرأة قَطُّ، فلما استيقظَ من نومه، رآها جالسةً عندَ رأسِه كأحسنِ ما خلقَ الله، فقال لها: مَنْ أنتِ؟ فقالتْ زوجتُكَ، خلقني الله لكَ؛ لتسكنَ إليَّ، وأسكنَ إليكَ (¬1). {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} واسعًا كثيرًا. {حَيْثُ شِئْتُمَا} كيف شئتما، ومتى شئتما، وأين شئتما. قرأ أبو عمرٍو: (حَيْث شِّيتُمَا) بإدغام الثاء في الشين، وإبدال الهمز (¬2) بياء ساكنة (¬3)، وافقه على الإبدال أبو جعفرٍ وورشٌ. {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} يعني: للأكل، واختُلِف في الشجرة، فقيل: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 230). (¬2) في "ن": "الهمزة". (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 106)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 46).

[36]

هي السنبلة، وقيل: العنب، وقيل: التين، وقيل: شجرة الكافور، وقيل: شجرة العلم، وفيها من كلِّ شيء. قال ابنُ عطية: وإنما الصوابُ أن يُعتقَدَ أن الله نهى آدمَ عن شجرة، فخالفَ هو إليها، وعصى في الأكل منها، قال: وفي حظرِه تعالى على آدمَ ما يدلُّ على أن سكناه في الجنة لا يدومُ؛ لأن المُخَلَّد لا يُحظر عليه شيءٌ، ولا يؤمرُ ولا يُنهى (¬1). {فَتَكُونَا} أي: فتصيرا. {مِنَ الظَّالِمِينَ} أي: الضارِّينَ بأنفسِكما بالمعصيةِ. وأصلُ الظلم: وضعُ الشيء في غيرِ موضعه. {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}. [36] {فَأَزَلَّهُمَا} يعني: استزلَّ آدمَ وحواءَ؛ أي: دعاهما إلى الزلَّة. قرأ حمزةُ (فَأَزَالَهُمَا) بألفٍ مخففًا؛ أي: نَحَّاهما عن الجنة. وقرأ الباقون: بغير ألف مشدَّدًا على المعنى الأول (¬2). {الشَّيْطَانُ} تقدم تفسيره في الاستعاذة. {عَنْهَا} أي: عن الجنة. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (1/ 128). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 94)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 153)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 74)، و"الكشف" لمكي (1/ 236)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (1/ 37)، و"التيسير" للداني (ص: 73)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 2111)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 47).

{فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من النعيم، وذلك أن إبليسَ أرادَ أن يدخلَ الجنةَ ليوسوسَ لآدمَ وحواءَ، فمنعَتْهُ الخزنَةُ، فأتى الحيَّةَ، وكانت صديقًا لإبليسَ، وكانتْ من أحسنِ الدوابِّ، لها أربعُ قوائمَ كقوائمِ البعيرِ، وكانتْ من خُزَّانِ الجنة، فسألها إبليسُ أن تُدخلَه في فَمِها، فأدخلَتْه، فمرَّتْ به على الخزنَةِ وهم لا يعلمون، فلما دخل الجنةَ، وقفَ بينَ يدَيْ آدمَ وحواءَ، وهما لا يعلمان أنه إبليسُ، فبكى وناحَ نياحة أحزنهما، وهو أولُ مَنْ ناحَ، فقالا له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة، فوقع ذلك في أنفسهما، واغتمَّا، ومضى إبليسُ، ثم أتاهما فقال: {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}؟ [طه: 120] فأبى أن يقبل منه، فقاسَمَهما بالله إنَّه لهما لمن الناصحين، فاغترَّا، وما ظَنَّا أن أحدًا يحلفُ بالله كاذبًا، فبادرتْ حواءُ إلى أكلِ الشجرةِ، ثم ناولتْ آدمَ حتى أكلها، فلما أكلا منها، فُتَّتْ عنهما ثيابُهما، وبدَتْ سوءاتهما، وأُخرجا من الجنة (¬1)، فذلك قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} أي: انزلوا إلى الأرض، يعني: آدم وحواء وإبليس والحية، والهبوطُ: الانحطاطُ من عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ، فهبطَ آدمُ بِسَرَنْديبَ من أرضِ الهندِ على جبل يقال له: نَوْد، وحواء بجدة، وإبليس بأيلةَ، والحيةُ بأصفهان. {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أراد: العداوة التي بين ذرية آدم والحية، وبين المؤمنين من ذرية آدم وإبليس. {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} موضعُ قرار. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 235).

[37]

{وَمَتَاعٌ} بُلْغَةٌ ومُسْتَمْتَع. {إِلَى حِينٍ} آخرِ أعمارِكم، فكلُّ إنسانٍ له مكانٌ في الأرضِ يستقرُّ فيه مدَّةَ حياتِه وبعدَ مماته. {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}. [37] {فَتَلَقَّى} التلقِّي: هو قبولٌ عن فِطْنَةٍ وفَهْم؛ أي: قَبِلَ وأخذَ. {آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} هي {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقيل غير ذلك. قرأ أبو عمرٍو، ورُويسٌ: (آدَم مِّن ربِّهِ) بإدغام الميم في الميم (¬1)، وقرأ ابنُ كثير: بنصبِ (آدَمَ) مفعولًا، ورفعِ (كَلِمَاتٌ) على أنها استقبلته وبلَغَتْهُ، والباقون برفعِ (آدَمُ)، ونصبِ (كَلِمَاتٍ) بكسر التاءِ مفعولًا (¬2)، قال ابن عباس: "بكى آدمُ وحَوَّاءُ على ما فاتَهُما من نعيمِ الجنةِ مئتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يومًا، ولم يقربْ آدمُ حواءَ مئةَ سنة" (¬3). ورُوي أن آدم لما هبط إلى الأرض، مكثَ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 164)، و"تفسير القرطبي" (1/ 324)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 48). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 94)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 153)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 75)، و"الكشف" لمكي (1/ 236)، و"تفسير البغوي" (1/ 39)، و"التيسير" للداني (ص: 73)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 211)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 48). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 35 - 36)، ومن طريقه ابن عساكر في =

[38]

ثلاثَ مئة سنة لا يرفعُ رأسه حياءً من الله تعالى. {فَتَابَ عَلَيْهِ} فتجاوز عنه. {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} المتفضل بقبولِ توبةِ عبادِه. {الرَّحِيمُ} بخلقه. قرأ أبو عمرٍو (إنَّه هُّو) بإدغام الهاء في الهاء (¬1). {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}. [38] {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} يعني: هؤلاءِ الأربعةَ قيل: الهبوطُ الأولُ من الجنة إلى السماء الدنيا، والهبوطُ الثاني إلى الأرض، وكان هبوطُهم وقتَ العصر. وبينَ هبوطِ آدمَ والهجرةِ الشريفة الإسلامية ستةُ آلافِ سنةٍ، ومئتان، وستَّ عشرةَ سنة، وبين المؤرخين في ذلك خلافٌ. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} أي: فإن يأتِكُم يا ذريةَ آدم، فـ (إنْ) شرطٌ ضُمَّتْ (¬2) إليها (ما) تأكيدًا للفعل، وأُدغمت (إنْ) فيها وقلَّما وقعَ فعلُ الشرطِ بعدَ إمّا إلا مؤكدًا بـ"ما" والنون، فـ"ما" تؤكِّدُ أولَ الفعل، والنونُ تؤكِّدُ آخرَه. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (يَاتِيَنَّكُمْ) بالإبدال بغير همز، والباقون بالهمز. {مِنِّي هُدًى} رشدٌ برسولٍ أبعثُه إليكم، وكتابٍ أنزله عليكم. ¬

_ = "تاريخ دمشق" (23/ 268). (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 164)، و"تفسير القرطبي" (1/ 326)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 109)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 49). (¬2) في "ت": "ضمنت".

[39]

{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ (هُدَايَ) بالإمالة (¬1). {فَلَا خَوْفٌ} قرأ يعقوب: (فَلاَ خَوْفَ) بفتحِ الفاءِ وعدم التنوين حيثُ وقَع، والباقون: بالرفع والتنوين (¬2). {عَلَيْهِمْ} فيما يستقبلُهم. وتقدَّم (¬3) مذهبُ حمزةَ ويعقوبَ في ضمِّ الهاء من (عليهُم)، ومذهبُ ابنِ كثيرٍ وأبي جعفرٍ وقالون في صلةِ ميمِ الجمع بواو في اللفظ. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خَلَّفوا. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}. [39] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} جحدوا. {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} القرآنِ. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} يومَ القيامة. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 75)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 109)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 49). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 166)، و"تفسير البغوي" (1/ 40)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 329)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 211)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 49). (¬3) عند تفسير الآية رقم (7) من سورة الفاتحة.

[40]

{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها. {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}. [40] {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} يا أولادَ يعقوبَ! ومعنى إسرائيل: [عبدُ الله، فإسرا: عبد، وإيل: هو الله. وقيل: هو صفوة الله. قرأ أبو جعفرٍ: (إسْرَايلَ)] (¬1) بتسهيل الهمزة حيث وقع (¬2). {اذْكُرُوا} احفظوا، والذكرُ يكونُ بالقلب، ويكونُ باللسان. {نِعْمَتِيَ} أي: نعمي، لفظُها واحد، ومعناها جَمْعٌ. {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي: على أجدادِكم وأسلافِكم، وهي النعم التي خُصَّت بها بنو إسرائيل؛ من فلقِ البحرِ، وإِنجائهم من فرعون، وإغراقه، وتظليلِ الغمامِ عليهم في التيه، وإنزالِ المنِّ والسَّلْوى، وإنزالِ التوراةِ، في نعمٍ كثيرةٍ لا تحصى. {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} بامتثالِ أمري، وقيل: بعثِ محمدٍ والإيمانِ به. {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بالقبول والثواب. {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: فخافونِ في نقض العهد. قرأ يعقوبُ: (فَارْهَبُونِي) بإثباتِ الياء، والباقونَ: بحذفها (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 41)، و"تفسير القرطبي" (1/ 331)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 135)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 50). (¬3) المصادر السابقة.

[41]

{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}. [41] {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} يعني: القرآنَ. {مُصَدِّقًا} موافقًا. {لِمَا مَعَكُمْ} يعني: التوراةَ، في التوحيدِ والنبوَّةِ والأخبارِ، ونعتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. نزلتْ في كعبِ بنِ الأشرفِ وأصحابِه من علماءِ اليهود ورؤسائهم. {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي: بالقرآنِ، يريد: أهلَ الكتاب؛ لأن قريشًا كفروا قبلَ اليهود بمكة، معناه: ولا تكونوا أولَ مَنْ كفر بالقرآن، فتتابعكم اليهودُ على ذلك، فتبوؤوا بآثامكم وآثامهم. قرأ حمزة: (ولا تَكُونُوا) بالمدِّ بحيثُ لا يبلغُ الإشباعَ. {وَلَا تَشْتَرُوا} أي: ولا تستبدلوا. {بِآيَاتِي} بالقرآنِ والإيمانِ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {ثَمَنًا قَلِيلًا} أي: عَرَضًا يسيرًا من الدنيا، وذلك أن رؤساءَ اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكلُ يُصيبونها من سَفَلَتِهم وجُهَّالهم، يأخذون منهم (¬1) كلَّ عامٍ شيئًا معلومًا من زَرْعِهم وضُروعِهم ونُقودهم، فخافوا إن هُمْ بَيَّنوا صفةَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتابعوه، أن تفوتهم تلكَ المآكلُ، فغيَّروا نعتَهُ، وكتموا اسمَهُ، واختاروا الدنيا على الآخرة. {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أي: فاخْشَونِ، والوقاية لغةً: حفظُ الشيءِ مما يؤذيه، ¬

_ (¬1) في "ت": "من".

[42]

وشرعًا: حفظُ النفس عَمَّا يُؤْثمها. قرأ يعقوبُ: (فَاتَّقُوني) بإثباتِ الياء كما تقدَّم في قوله تعالى: (فارهبونِ) (¬1). {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}. [42] {وَلَا تَلْبِسُوا} أي: لا (¬2) تَخْلِطوا. {الْحَقَّ} الذي أُنزل عليكم من صفةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {بِالْبَاطِلِ} الذي تكتبونه بأيديكم من غير تغيير صفته. {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} أي: لا تكتموه يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه نبيٌّ مرسَلٌ. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}. [43] {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: أديموا الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودِها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وأَدُّوا زكاةَ أموالكم المفروضةَ، مأخوذٌ من زكا الزرعُ: إذا نما وكثر. {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: صَلُّوا مع المصلينَ محمدٍ وأصحابِه، وذُكر بلفظِ الركوع؛ لأن الركوعَ ركنٌ من أركان الصلاة، وكذا السجودُ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 41)، و"تفسير القرطبي" (1/ 340)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 135)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 52). (¬2) "لا" سقطت من "ت".

[44]

بالاتفاق، وصلاةُ اليهودِ لم يكن فيها ركوعٌ، فكأنه قال: صلُّوا صلاةً ذاتَ رُكوعٍ، وأصلُ الركوعِ: الانحناءُ. {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}. [44] {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} بالطاعة. نزلت في علماء اليهود، وذلك أن الرجل منهم كان يقولُ لقريبِهِ وحليفِه منَ المسلمين إذا سألَهُ عن أمرِ محمدٍ: اثبُتْ على دينه؛ فإن أمرَهُ حقٌّ، وقولَه صدقٌ (¬1). {وَتَنْسَوْنَ} أي: وتتركون. {أَنْفُسَكُمْ} فلا تتبعونه. {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} تقرؤون التوراةَ فيها نعتُه وصفتُه. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أنه حَقٌّ، فتتبعونه، والعقلُ يمنعُ صاحبَه من الكفر والجحود. {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}. [45] {وَاسْتَعِينُوا} أي: اطلبوا في قضاء حوائجكم المعونة. {بِالصَّبْرِ} أراد: حبسَ النفس عن المعاصي. {وَالصَّلَاةِ} أي: وبالصلاة على نَيْل الرضوان وحَطِّ الذنوب. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 258)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 156).

[46]

{وَإِنَّهَا} ولم يقل: وإنهما ردَّ الكنايةَ إلى كلِّ واحدٍ منهما؛ أي: وإنَّ كلَّ خَصْلَةٍ منهما. {لَكَبِيرَةٌ} أي: ثقيلة. {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} يعني: المؤمنين المتواضعين، وأصلُ الخشوع: السكون. {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}. [46] {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يستيقِنون، والظنُّ من الأضداد، يكونُ شَكًّا ويَقينًا؛ كالرجاء يكونُ أمنًا وخوفًا. {أَنَّهُمْ مُلَاقُو} معاينوا. {رَبِّهِمْ} في الآخرة، وهو رؤيةُ الله تعالى، ويأتي الكلام على رؤيته سبحانه في الآخرة في سورة الأنعام. {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فيجزيهم بأعمالهم. {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}. [47] {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} أي: ميزتكم؛ أي: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم. {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: عالَمَيْ زمانِكم، وذلك التفضيلُ وإن كانَ في حقِّ الآباء، ولكن يحصل به الشرفُ للأبناء.

[48]

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}. [48] {وَاتَّقُوا} واخشوا. {يَوْمًا} أي: عذاب يومٍ. {لَا تَجْزِي} أي: تقضي. {نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: حقًّا لزمَها. {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ (تُقْبَلُ) بالتاء؛ لتأنيث الشفاعة، وقرأ الباقون: بالياء (¬1)؛ لأن الشفيع والشفاعة بمعنى واحد؛ أي: لا تقبل منها شفاعة إذا كانت كافرة. {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا} أي: من المشفوع لها. {عَدْلٌ} وأي: فداء، سُمِّي به، لأنه مثلُ العدلِ، والعدلُ: المِثْلُ. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} يُمنعون من عذاب الله. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 171)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 95)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 154)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 76)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (1/ 45)، و"التيسير" للداني (ص: 73) و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 212)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 135)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 54).

[49]

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}. [49] {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} يعني: أسلافَكم وأجدادَكم، عَدَّها مِنَّةً عليهم؛ لأنهم نَجَو بنجاتهم. {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} قومِه وأتباعِه وأهلِ دينه، وهو الوليدُ بنُ مُصْعَبِ بنِ الريَّانِ، وكانَ من القِبْطِ من العمالقةِ، وكان قصيرًا طويلَ اللحية، أشهلَ العينين، صغيرَ العينِ اليسرى، أعرجَ، وكان شجاعًا ساحرًا كاهنًا كاتبًا حكيمًا، متصرفًا في كلِّ فنٍّ، واسمُه عندَ القِبْطِ ظُلْما، وعُمِّر أكثرَ من أربعِ مئةِ سنةٍ، وفرعونُ عَلَمٌ لمن ملكَ مصر. {يَسُومُونَكُمْ} يذيقونكم. {سُوءَ الْعَذَابِ} أَشَدَّهُ وأَسْوأَهُ، وذلك أنَّ فرعونَ جعلَ بني إسرائيل خَدَمًا وخَوَلًا، وصَنَّفَهم في الأعمال، فصنفٌ يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمونه، ومن لم يكنْ منهم في عمل، وضعَ عليه الجزية. {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} أصل الذبح: الشقُّ، والتشديدُ للتكثير. {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} يتركونَهُنَّ (¬1) أَحياءً، وذلكَ أن فرعونَ رأى في منامِه كأن نارًا أقبلتْ من بيتِ المقدسِ، وأحاطَتْ بمصرَ، وأحرقَتْ كلَّ قبطيٍّ بها، ولم تتعرضْ لبني إسرائيل، فهالَهُ ذلكَ، وسألَ الكَهَنَةَ عن رؤياه، فقالوا: سيولَد في بني إسرائيل غلامٌ يكونُ على يده هلاكُكَ، فأمر فرعونُ بقتل كلِّ غلامٍ يولَد في بني إسرائيل، ووكل بالقوابِل، فكنَّ يفعلْنَ ذلك. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ "يتركوهن"، والصواب ما أثبت.

[50]

قيل: إنه قتلَ في طلب موسى اثني عشرَ ألفَ صبيٍّ، وقيل: تسعين ألفَ وليدٍ. وأسرعَ الموتُ في مشيخةِ بني إسرائيلَ، فدخل رؤوسُ القبطِ على فرعونَ، وقالوا: إنَّ الموتَ وقعَ في بني إسرائيل، فتذبح صغارُهم، ويموت كبارُهم، فيوشك أن يقعَ العملُ علينا، فأمرَ فرعونُ أن يُذبحوا سنة، ويُتركوا سنة، فوُلِدَ هارونُ في السنة التي لا يُذْبحون فيها، ووُلِدَ موسى في السنة التي يُذْبحون فيها (¬1). قرأ أبو عمرٍو (ويستحيون نساءكم) بإدغام النون في النون. {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ} اختبار. {مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} قيل: البلاء: المحنة؛ أي: في سومهم إياكم سوءَ العذاب محنةٌ عظيمة، وقيل: البلاء: النعمة؛ أي: وفي إنجائي إياكم منهم نعمةٌ عظيمة، والبلاء يكون بمعنى النعمة، وبمعنى الشدة، والله تعالى قد يختبرُ على النعمة بالشكر، وعلى الشدة بالصبر. {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}. [50] {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} معناه: فرقنا البحرَ بدخولكم إياه، والفَرْقُ: الفصلُ؛ أي: اذكروا أيضًا مِنَّتي عليكم بأنْ جعلتُ لكمُ البحرَ أفراقًا؛ أي: اثني عشر فِرْقًا، و (بكم) للباء وجهان: أحدهما: لكم، والباء قد تجيء بمعنى اللام، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 62]؛ ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 272 - 273)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 106)، عن السدي.

أي: لأن الله، والثاني: أي: بدخولِكم، فتكون الباءُ على حقيقتها. وسُمِّي البحرُ بحرًا؛ لاستبحاره؛ أي: اتساعِه وانبساطِه، ومنه قيلَ للفرس؛ بحرٌ، إذا اتَّسَعَ في جَرْيه، وذلك أنه لما دنا هلاكُ فرعونَ، أمر الله تعالى موسى أن يسريَ ببني إسرائيل من مصرَ ليلًا، فأمر موسى قومَهُ أن يُسْرِجوا في بيوتهم إلى الصُّبح، وأخرجَ الله كُلَّ ولدِ زِنًا في القبطِ من بني إسرائيل إليهم، وكلَّ ولدِ زِنًا في بني إسرائيل من القِبْطِ إلى القبطِ، حتى رجعَ كُلٌّ إلى أبيه، وألقى الله الموتَ على القبط، فمات كلُّ بِكْرٍ لهم من شابٍّ وشابة، فاشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا، وخرج موسى في ستِّ مئةِ ألفٍ وعشرينَ ألفَ مقاتلٍ، لا يعدُّونَ ابنَ العشرينَ لصغره، ولا ابنَ الستين لكبره، وكانوا يومَ دخلوا مصرَ مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانًا ما بينَ رجلٍ وامرأة، فلما أرادوا السيرَ، ضُرب عليهم التيهُ، فلم يَدْروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخةَ بني إسرائيل، وسألهم عن ذلك، فقالوا: إن يوسف -عليه السلام- لما حضره الموتُ، أخذ على إخوته عهدًا ألا يَخْرجوا من مصر حتى يُخْرجوه معه، فلذلك استدَّ عليهم الطريقُ، فسألهم عن موضع قبره، فلم يعلموا، فقام موسى ينادي: أنشد اللهَ كُلَّ من يعلمُ أينَ موضعُ قبر يوسفَ إلا أخبرني به، ومن لم (¬1) يعلم به، فَصُمَّتْ أُذناه عن قولي، فكان يمرُّ بين رجلين ينادي، فلا يسمعان صوته حتى سمعَتْهُ عجوزٌ لهم، فقالت: أرأيتكَ إن دللتُكَ على قبره، أتعطيني كلَّ ما سألتُكَ؟ فأبى عليها وقال: حتى أستأذِنَ رَبِّي، فأمره الله -عز وجل- بإيتاء سؤلها، فقالت: إني عجوزٌ كبيرةٌ لا أستطيعُ المشيَ، فاحملْني وأخرجْني من مصَر، هذا في الدنيا، وأما في ¬

_ (¬1) في "ت": "لا".

الآخرةِ فأسألك ألَّا تنزل غرفةً من الجنة إلا نزلتُها معكَ، قال: نعم، قالتْ: إنه في جوفِ الماء في النيل، فادعُ اللهَ حتي يحسرَ عنه الماء، فدعا الله، فحسر عنه الماء، ودعا الله أن يؤخر طلوعَ الفجرِ إلى أن يفرغ من أمر يوسفَ، فحفر موسى ذلك الموضعَ، واستخرجه من صندوق من مَرْمَرٍ، وحمله حتى دفنه بحبرون (¬1) بجوارِ قبرِ أبيه يعقوب، ففتح لهم الطريقُ، فساروا وموسى على ساقَتِهِمْ وهارونُ على مقدِّمَتِهم، وندر بهم فرعونُ، فجمعَ قومَه، وأمرَهم ألَّا يخرجوا في طلبِ بني إسرائيلَ حتى يصيحَ الديكُ، فلم يَصِحِ الديكُ تلكَ الليلة، فخرج فرعونُ في طلب بني إسرائيلَ وعلى مقدمته هامانُ في ألفِ ألفٍ وسبعِ مئةِ ألفٍ، وكان فيهم سبعون ألفًا من دُهْم الخيل، سوى سائِر الشِّيآتِ، وكان فرعونُ يكون في الدُّهم، فسار بنو إسرائيلَ حتى وصلوا إلى البحر، والماء في غاية الزيادة، ونظروا فإذا هم بفرعونَ حين أشرقتِ الشمسُ، فبقُوا متحيِّرين، وقالوا: يا موسى! كيف نصنعُ؟ وأينَ ما وعدتَنا؟ هذا فرعونُ خلفَنا، إن أدركَنا قتلَنا، والبحرُ أمامَنا، إنْ دخلناه غرقنْا، قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]، فأوحى الله تعالى إليه أَنِ اضربْ بعصاكَ البحر، فضربَهُ فلم يُطِعْه، فأوحى الله إليه أنْ كَنِّهِ؛ أي: كلِّمْهُ بالكُنية، فضربهُ وقالَ: انفلِقْ يا (¬2) أبا خالدٍ بإذن الله {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، وظهر فيه اثنا عشَر طريقًا، لكل سِبْطٍ طريقٌ، وارتفعَ الماءُ بينَ كلِّ طريقينِ كالجبلِ، وأرسلَ اللهُ الريحَ والشمسَ ¬

_ (¬1) في "ن" "بجهرون". (¬2) "يا" سقطت من "ظ".

على قَعْرِ البحرِ حَتَّى صارَ يَبَسًا، فخاضَتْ بنو إسرائيلَ البحرَ، كلُّ سبطٍ في طريقٍ، وعن جانبيهم الماءُ كالجبلِ الضَّخم، ولا يرى بعضُهم بعضًا، فخافوا، وقالَ كلُّ سبطٍ قد قُتل إخوانُنا، فأوحى الله تعالى إلى جبالِ الماءِ أنْ يتشبَّكنَ، فصارَ الماءُ شبكاتٍ كالطَّاقاتِ يرى بعضُهم بعضًا، ويسمعُ بعضُهُم كلامَ بعضٍ حتى عبروا البحر سالمين، فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} (¬1). {فَأَنْجَيْنَاكُمْ} من آلِ فرعونَ ومن الغرقِ. {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي: فرعونَ وجيوشَه، وذلك أنَّ فرعونَ لما وصل إلى البحر، فرآه منفلِقًا، قالَ لقومِه: انظُروا إلى البحرِ انفلقَ من هَيْبَتي حتى أُدْرِكَ عَبيدي الذين أَبَقُوا، ادخُلوا البحرَ، فهاب قومُه أن يدخلوه، وقالوا له: إن كنتَ ربًّا، فادخلِ البحرَ كما دخلَ موسى، وكانَ فرعونُ على حصانٍ أَدْهَمَ، ولم يكنْ في خيلِ فرعونَ فرسٌ أُنثى، فجاء جبريلُ في صورة هامانَ على أُنثى وَدِيقٍ؛ أي: شَهِيٍّ، وهي التي في فرجِها بَلَلٌ، فتقدَّمَهُ وخاضَ البحرَ، فلما شمَّ أدهمُ فرعونَ ريحَها، اقتحمَ البحرَ في أثرِها، ولم يملكْ فرعونُ من أمره شيئًا، وهو لا يرى فرسَ جبريلَ، واقتحمتِ الخيولُ خلفَه في البحر، وجاء ميكائيلُ على فرسٍ خلفَ القوم يشحذُهم ويسوقُهم حتى لا يشذَّ رجلٌ منهم، ويقولُ لهم: الحقوا بأصحابِكم، حتى خاضوا كلُّهم البحرَ، وخرجَ جبريلُ من البحر، وهمَّ أولُهم بالخروج، أمرَ اللهُ البحرَ أن يأخذَهم، فالتَطَمَ عليهم، وغَرَّقَهم أجمعينَ، وكان بينَ طرفي البحرِ أربعةُ فراسخَ، وهو بحر قُلْزُم طرف من بحر فارس، والقُلْزُمُ -بضم القاف ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 277 - 278)، عن السدي وابن زيد.

[51]

وسكون اللام وضمِّ الزاي وميم-: بُلَيدةٌ كانت على ساحل البحر من جهةِ مصرَ، وبينها وبين مصرَ نحوُ ثلاثةِ أيام، وقد خَرِبَت، ويعرف اليوم موضُعها بالسُّوَيس تجاه عجرود، منزلٍ ينزلُه الحاجُّ المتوجِّه من مصرَ إلى مكة، وبالقربِ منها غرقَ فرعونُ، وذلك بمرأى من بني إسرائيل (¬1)، فذلك قوله عز وجل. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إلى مصارعهم. {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}. [51] {وَإِذْ وَاعَدْنَا} قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (وَعَدْنَا) بقصِر الألفِ من الوعدِ، والباقون: (وَاعَدْنَا) بألفٍ (¬2)، منَ المواعدة. {مُوسَى} اسم عبري عُرِّب، سُمِّي به لأنَّ تابوتَه وُجد بينَ الماءِ والشجر، والماءُ في لغتِهم مو، والشجرُ شا، ثم قلبتِ الشينُ المعجمةُ سينًا في العربية. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (مُوسَى) بالإمالة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 276)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (61/ 79). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 173)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 96)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 154)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 76)، و"الكشف" لمكي (1/ 93، 240)، و"تفسير البغوي" (1/ 49)، و"التيسير" للداني (ص: 73)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 212)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 135)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 55).

حيث وقعَ (¬1)، وهو موسى بنُ عمرانَ بنِ يصهر بنِ قاهث بنِ لاوي بنِ يعقوبَ بنِ إِسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ -عليهم السلام-، عاش موسى مئةً وعشرين سنةً، ومات في سابعِ آذارَ لمضيِّ ألفٍ وستِّ مئةٍ وستٍّ وعشرينَ سنةً من الطوفان، وبينَ وفاتِه والهجرةِ الشريفةِ الإسلامية ألفان، وثلاثُ مئةٍ، وثمانٍ وأربعون سنةً، وقبرُه شرقيّ بيتِ المقدس، بينهما مرحلة. {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي: انقضاءها. قرأ الكسائيُّ (لَيْلَةً) بإمالة اللام حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيثِ، وقُرن بالليلِ دونَ النهار؛ لأن شهورَ العرب وُضِعَتْ على سيرِ القمر، وذلك أن بني إسرائيل لما أَمِنوا من عدوِّهم، ودخلوا مصرَ، لم يكن لهم كتابٌ ولا شريعةٌ ينتهون إليها، فوعدَ الله موسى أن يُنزل عليهِ التوراةَ، فقال موسى: إني ذاهبٌ لميقات ربي آتيكُم بكتابٍ فيه بيانُ ما تأتونَ به وما تَذَرون، وواعدَهم أربعين ليلةً: ثلاثينَ من ذي القعدة، وعشرًا من ذي الحجَّة، وقيل: ذو الحجة، وعشرٌ من المحرَّم، واستخلفَ عليهم أخاه هارون، فلما أتى الوعدُ، جاء جبريل -عليه السلام- على فرس يقال له: فرسُ الحياة، لا تُصيب شيئًا إلا حَيِيَ؛ ليذهبَ بموسى إلى ربه، فلما رآه السامريُّ، وكان رجلًا صائغًا من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها: سامُرَّة، واسمه مِيْخَا -بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الخاء المعجمة وبعدها ألف-، وكان منافقًا، أظهرَ الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقرَ، فلما رأى جبريلَ على تلكَ الفرس، ورأى موضعَ قدمِ الفرس يخضَرُّ في الحال، قال: إن لهذا شأنًا، وأخذ قبضةً من تربةِ حافرِ فرسِ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 116)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 56).

جبريلَ. قال عِكْرمة: ألقي في رُوعِهِ أنه إذا أُلقي في شيءٍ، غيَّرهُ، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حُلِيًّا كثيرةً من قوم فرعون؛ حين أرادوا الخروج من مصرَ بعلَّة عرسٍ لهم، فأهلكَ الله فرعونَ، وبقيت تلك الحليُّ لهم في أيدي بني إسرائيل، فلما فصل موسى، قال السامري لبني إسرائيل: إن الحليَّ التي استعرتموها من قومِ فرعونَ غنيمةٌ لا تَحِلُّ لكم، فاحفِروا حفرةً وادفنوها فيها حتى يرجعَ موسى، فيرى فيها رأيه، فلما اجتمعتِ الحليُّ صاغها السامريُّ عِجْلًا في ثلاثة أيام، ثم ألقى فيها القبضةَ التي أخذها من ترابِ فرسِ جبريلَ، فخرج عجلًا من ذهبٍ مُرَصَّعًا بالجواهر كأحسنِ ما يكونُ، وخار خَوْرَةً، فقال السامري: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88]، أي: فتركه هاهنا، وخرج يطلبه، وكان بنو إسرئيل قد اختلفوا الوعد، فعدوا اليومَ مع الليلة يومين، فلما مضى عشرون يومًا، ولم يرجعْ موسى، وقعوا في الفتنة، وعبدوا العجلَ كلُّهم إلا هارونَ مع اثني عشرَ ألفَ رجل (¬1)، فذلك قولُه تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} إلهًا. {مِنْ بَعْدِهِ} أي: بعد ذهابه إلى الطور. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ، ورويسٌ: (اتَّخَذْتم) حيث وقع بإظهار الذال، والباقون بإدغامها. {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} ضارُّون لأنفسِكم بالمعصيةِ، واضعونَ العبادةَ في غير موضعها. ¬

_ (¬1) وانظر: "تفسير الطبري" (1/ 282).

[52]

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}. [52] {ثُمَّ عَفَوْنَا} محونا. {عَنْكُمْ} ذنوبَكُم. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد عبادتكم العجلَ لمَّا تبتم. قرأ أبو عمرٍو: (مِنْ بَعْد ذَّلِكَ) بإدغام الدال في الذال (¬1)، وشبهه حيث وقع. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا، وشكرُ كلِّ نعمةٍ أَلَّا يُعصى اللهُ بعدَ تلك النعمة (¬2). {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}. [53] {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني: التوراةَ. {وَالْفُرْقَانَ} هو التوراةُ أيضًا، ذكرَها باسمينِ، وكرَّر المعنى لاختلافِ اللفظ، ولأنه زاد في معنى التفرقة بينَ الحقِّ والباطل، ولفظة الكتابِ لا تُعطي ذلك. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} بالتوراةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 174)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 154)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 77)، و"تفسير البغوي" (1/ 50)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 117)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 56). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 50).

[54]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}. [54] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} الذين عبدوا العجل: {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ} أي (¬1): أضَرَرْتم (¬2). {أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} إلهًا، قالوا: فما نصنعُ؟ قال: {فَتُوبُوا} أي: فارجعوا. {إلَى بَارِئِكُمْ} خالِقِكم. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (بارِيكُم) بإمالة الألف في الموضعين، واخْتُلِفَ عن أبي عمرو في اختلاس كسرة الهمزة، وإسكانها من (باريكم) في الحرفين، فقرأ الدوريُّ عنه بالاختلاس، وقرأ السوسيُّ بالإسكان، وقرأ الباقونَ بإشباع الحركة (¬3). قالوا: كيف نتوب؟ قال: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} يعني: ليقتلِ البريءُ منكم المجرمَ. {ذَلِكُمْ} أي: القتلُ. ¬

_ (¬1) "أي": سقطت من "ن". (¬2) في "ط": "صررتم". (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 176)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 96)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 155)، و"الكشف" لمكي (240)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 114، 116)، و"التيسير" للداني (ص: 73)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 212)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 57).

{خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} فلما أمرهم موسى بالقتل، قالوا: نصبرُ لأمر الله، فجلسوا بالأَفْنِيَة مُحْتَبين؛ أي: مُنْتَصبين رُكَبَهم، وقيل لهم: من حَلَّ حبوتَهُ، أو مَدَّ طَرْفَه إلى قاتله، أو اتَّقى بيدٍ أو رجلٍ، فهو ملعونٌ مردودةٌ توبتهُ، وأصلتَ القومُ عليهم الخناجرَ، فكان الرجلُ يرى ابنَه وأخاه وأباه وقريبَه وصديقَه وجارَه، فلم يمكِنْهم إلا المضيُّ لأمر الله، قالوا: يا موسى! كيف نفعل؟ فأرسل اللهُ عليهم ضبابةً وسحابةً سوداءَ لا يُبصر بعضُهم بعضًا، وكانوا يقتلونهم إلى المساء، فلما كثر القتلُ، دعا موسى وهارون، وبَكَيا وتضرَّعا، وقالا: يا ربّ! هلكتْ بنو إسرائيل البقيةَ البقيةَ، فكشف الله السحابةَ، وأَمرهم أن يَكُفُّوا عن القتل، فتكشَّفَتْ عن ألوفٍ من القتلى، فاشتدَّ ذلك على موسى، فأوحى الله إليه: أما يرضيكَ أن أُدخلَ القاتلَ والمقتولَ منهم الجنة؟ فكان من قُتل منهم شهيدًا، ومن بقي منهم مُكَفَّرًا عنه ذنوبُه (¬1)، فذلك قوله تعالى: {فَتَابَ} أي: إن فعلتم ذلك فقد تاب. {عَلَيْكُمْ} تجاوزَ عنكم. {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} القابل للتوبة. {الرَّحِيمُ} قرأ أبو عمرٍو: (إنَّهْ هُّو) بإدغام الهاء في الهاء. {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}. ¬

_ (¬1) وانظر: "تفسير الطبري" (1/ 286)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 111).

[55]

[55] {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} أي: لأجل قولك. {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} وذلك أن الله -عز وجل- أمرَ موسى -عليه السلام- أنْ يأتيَه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادةِ العجل، فاختار موسى سبعينَ رجلًا من قومِه من خيارِهم، وقال لهم: صوموا، وتَطَهَّروا، وطَهِّروا ثيابَكُم، ففعلوا، فخرج بهم موسى إلى طورِ سيناءَ لميقاتِ ربِّه، فقالوا لموسى: اطلبْ لنا نسمع كلامَ رَبِّنا، فقال: أفعلُ، فلما دنا موسى إلى طور سيناءَ من الجبل، وقع عليه عمودُ الغمام، وتغشى الجبلَ كلَّه، فدخلَ في الغمام، وقال للقوم: ادنو، فدنا القوم حتى دخلوا في الغمامِ، وخروا سُجَّدًا، وكان موسى إذا كلَّمه ربُّه، وقعَ على وجهه نورٌ ساطعٌ لا يستطيعُ أحدٌ من بني آدمَ أن ينظرَ إليه، فضُربَ دونَه الحجابُ، وسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه، وأسمعَهُم اللهُ: إني أنا اللهُ لا إلهَ إلا أنا ذو بَكَّةَ؛ أي: صاحبُ مكةَ، أخرجتُكم من أرضِ مصرَ بيدٍ شديدةٍ، فاعبدوني ولا تعبدوا غيري، فلما فرغَ موسى، وانكشفَ الغمامُ، أقبلَ إليهم، فقالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} معايَنَة (¬1)، وذلك أن العربَ تجعلُ العلمَ بالقلبِ رؤيةً، فقال: جهرةً؛ ليُعلم أنَّ المرادَ منه العيانُ. {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أي: الموتُ، وقيل: جاءت نارٌ من السماء فأحرقتهم. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي: ينظر بعضُكم إلى بعض حينَ أخذَكُم الموتُ، فلما هَلَكوا، جعل موسى يبكي ويتضرَّع ويقولُ: ماذا أقولُ لبني إسرائيل إذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن كثير" (2/ 251).

[56]

أتيتُهم، وقد أَهلكتَ خيارَهم، {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف:155]، فلم يزلْ يناشدُ ربَّه حتى أحياهم الله رجلًا بعدَ رجل بعد ما ماتوا يومًا وليلة، ينظرُ بعضهم إلى بعضٍ كيف يُحْيون، وذلك قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}. [56] {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} أحييناكم، والبعثُ: إثارةُ الشيءِ عن مَحَلِّه، يقال: بعثتُ البعيرَ، وبعثتُ النائمَ فانبعثَ. {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} قال قتادة: أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقِهم (¬1)، ولو ماتوا بآجالهم، لم يبعثوا. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فِعَالي. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}. [57] {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} في التيه يَقيكم حرَّ الشمسِ، والغَمامُ جمعُ غمامةٍ، من الغَمِّ، وأصلُه التَّغْطِيَةُ والسَّتْرُ، سُمِّي السحابُ غمامًا؛ لأنه يغطِّي وجهَ الشمس، وذلك أنه لم يكنْ لهم في التيه كِنٌّ يسترُهم، فشكَو إلى موسى -عليه السلام-، فأرسل الله غمامًا أبيضَ رقيقًا أطيبَ من غمام ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 292)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 112).

المطر، وجعل لهم عمودًا من نور يضيء لهم الليلَ إذا لم يكنْ قمرٌ. {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي: في التيه، والأكثرون على أن المنَّ هو التَّرَنْجَبينُ، وقيل: هو شيءٌ يتساقطُ على الشجر كالصَّمغ، حلوُ الطعم، فكان هذا المنُّ كل ليلةٍ يقعُ على أشجارهم مثلَ الثلج، لكلِّ إنسانٍ منهم صاعٌ، فقالوا: يا موسى! قَتَلَنَا هذا المنُّ بحلاوته، فادع لنا ربك أن يطعِمَنا اللَّحْمَ، فأنزل الله عليهمُ السَّلوى، وهو طائر يشبه السُّمَّانَ، فكان اللهُ يُنزل عليهم المنَّ والسلوى كلَّ صباحٍ من طلوع الفجر إلى طلوعِ الشمسِ، فيأخذُ كلُّ واحدٍ منهم ما يكفيه يومًا وليلة، وإذا كان يومُ الجمعة، أخذَ كلُّ واحد منهم ما يكفيه ليومين؛ لأنه لم يكنْ ينزلُ يومَ السبت. {كُلُوا} أي: وقلنا لهم: كلوا. {مِنْ طَيِّبَاتِ} أي: حلالات. {مَا رَزَقْنَاكُمْ} ولا تَدَّخروا لغدٍ، ففعلوا، فقطع الله ذلك عنهم، ودَوَّدَ وفسدَ ما ادَّخروا، فقال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا} وما بَخَسوا حقنا. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} باستيجابهم عذابي، وقطعِ مادة الرزقِ الذي كان ينزلُ عليهم بلا مُؤْنة في الدنيا، ولا حسابٍ في العقبى. {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}.

[58]

[58] {وَإِذْ قُلْنَا} لهم لما رجعوا من التيه: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} سميت القرية قريةً؛ لأنها تجمعُ أهلَها، ومنه: المِقْراةُ للحَوْض؛ لأنها تجمعُ الماء، والقريةُ: بيتُ المقدس، وقيل غيره. {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} موسَّعًا عليكم. قرأ أبو عمرٍو (حَيْث شِّئْتُمْ) بإدغام الثاء في الشين، وقرأ أيضًا هو وأبو جعفرٍ وورشٌ: (شِيتُم) بياء ساكنة بغير همز. {وَادْخُلُوا الْبَابَ} يعني: بابًا من أبواب القرية، وكان لها سبعة أبواب، وقيل: باب المسجد. {سُجَّدًا} أي: رُكَّعًا خُضَّعًا مُنْحَنين. {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي: حُطَّ عنا خطايانا، أُمروا بالاستغفار. {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} من الغَفْر، وهو السَّتْر، فالمغفرةُ تسترُ الذنوب. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (يُغْفَرْ) بالياء آخر الحروف مضمومة، وابنُ عامر: (تُغفَرْ) بتاء مضمومة، واتفقوا على فتح الفاء، والباقون: بنون مفتوحة وكسر الفاء (¬1)، ورُوي عن أبي عَمْرٍو إدغامُ الراء في اللام من (نَغْفِر لَّكُمْ) (¬2)، وروي عنه إظهارُها، والوجهان عنه صحيحان، وقرأ الكسائي: ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 180)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 98)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 156)، و"الكشف" لمكي (242)، و"تفسير البغوي" (1/ 53)، و"التيسير" للداني (ص: 73)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (215)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 59). (¬2) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 80)، و"الكشف" لمكي (1/ 243)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 117)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =

[59]

(خَطَايَاكُمْ، وَخَطَايَانَا) بإمالةِ فتحةِ الياء حيث وقعَ (¬1). {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} ثوابًا من فضلنا. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}. [59] {فَبَدَّل} فغيَّر. {الَّذِينَ ظَلَمُوَا} أنفسَهم وقالوا: {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا بلغتهم حِطَاءُ سمقاثًا استهزاءً؛ أي: حنطةً حمراءَ، وروي أنهم قالوا: حبَّة في شَعْرَة. قرأ أبو جعفر: (قَوْلًا غَيْرَ) بإخفاء التنوين عند الغين، وأبو عمرٍو (قِيل لَّهمْ) بإدغام اللام في اللام (¬2)، وتقدَّم (¬3) ضمُّ الهاء وصلةُ الميم من (عَلَيْهُم وإِلَيْهُمْ) ونحوِهما. {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} أي: عذابًا. {مِنَ السَّمَاءِ} قيل: أرسلَ اللهُ عليهم طاعونًا، فهلك منهم في ساعةٍ واحدةٍ سبعون ألفًا. ¬

_ = 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 60). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 156)، و"تفسير الرازي" (1/ 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 60). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 61). (¬3) عند تفسير الآية (7) من سورة الفاتحة.

[60]

{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} يعصون ويخرجون من أمر الله تعالى. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}. [60] {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} طلبَ السُّقيا. {لِقَوْمِهِ} وذلك أنهم عطشوا في التيه، فسألوا موسى أن يستسقيَ لهم، ففعلَ، فأوحى الله إليه كما قال: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} وكانت العصا من آسِ الجنة، طولُها عشرةُ أذرع على طولِ موسى، ولها شُعْبتان تتَّقِدان في الظلمة نورًا، واسمها عُلَيْق، حملها آدمُ من الجنة، فتوارثها الأنبياءُ حتى وصلت إلى شُعيب، فأعطاها موسى. وأما الحجرُ، فقال ابنُ عباس: كانَ حجرًا خَفيفًا مربَّعًا على قدرِ رأس الرجل، كان يضعُهُ في مِخْلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء، وضعَه وضربَه بعصاته، فإذا فرغوا، وأراد موسى حملَهُ، ضربه بعصاته، فيذهبُ الماء، وكان يسقي كلَّ يومٍ ستَّ مئةِ ألفٍ. وقال سعيد بن جبير: هو الحجرُ الذي وضحَ موسى ثوبَهُ عليه ليغتسلَ، ففرَّ بثوبه، ومرَّ به على ملأٍ من بني إسرائيل حينَ رَمَوْهُ بالأُدْرَةِ، فلما وقف، أتاه جبريلُ فقالَ: إن الله تعالى يقولُ لكَ: ارفعْ هَذَا الحجرَ؛ فإنَّ في فيه قدرةً، ولك فيه معجزةٌ، فرفعَهُ ووضعَهُ في مِخْلاته (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 77).

[61]

{فَاَنفَجَرَتْ} أي: سالت. {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} على عدد الأسباط. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} لا يدخلُ سبطٌ على غيرِه في شربه. {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي: وقلنا لهم: كلوا من المنِّ والسلوى، واشربوا من الماء، فهذا كله: {مِنْ رِزْقِ اللَّه} الذي يأتيكم بلا مشقة. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} والعُثِيُّ (¬1): أشدُّ الفساد. {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. [61] {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} وذلك أنهم كرهوا وسئموا من أكل المنِّ والسَّلوى، وإنما قال: طعام واحد، وهما اثنان؛ لأن العربَ تُعَبِّرُ عن الاثنين بلفظ الواحد، كما تعبِّرُ عن الواحدِ بلفظِ الاثنين؛ كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرجُ من الصالح دونَ العذب. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ط": "العيث"، وجاء على هامش "ظ": "وصوابه: العثي".

{فَادْعُ لَنَا} فاسأل لأجلنا. {رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا} والفوم: الخبز، أو الحنطة، وقيل: الثوم. {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ} لهم موسى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أَخَسُّ وَأَرْدَأُ. {بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أشرفُ وأفضلُ، وجعل الحنطةَ أدنى في القيمة، وإن كانَ هو خيرًا من المنِّ والسلوى، وأرادَ بهِ أسهلُ وجودًا على العادة. {اهْبِطُوا مِصْرًا} يعني: وإن أبيتُم إلا ذلكَ، فانزلوا مصرًا من الأمصار. {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} من نبات الأرض. {وَضُرِبَتْ} جُعِلَتْ. {عَلَيْهِمُ} وأُلزموا. {الذِّلَّةُ} الذُّلُّ والهوَان بالجِزْية، وهو ضِدُّ العزِّ. {وَالْمَسْكَنَةُ} الفقر، سُمِّيَ الفقيرُ مسكينًا؛ لأن الفقرَ أسكنَهُ وأقعدَهُ عن الحركةِ، فترى اليهودَ -وإن كانوا أغنياءَ- كأنَّهم فقراءُ، فلا يُرى في أهل المالِ أذلُّ وأحرصُ على المالِ من اليهود. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌّ: (عَلَيْهُمُ الذِّلَّةُ) و {بِهِمُ الأَسبَابُ} [البقرة: 166] وشبهَه: بضم الهاء والميم في الوصل حيث وقع، ووافقَهم يعقوبُ في (عَلَيْهُمُ الذِّلَّةُ) وشبهه، ونافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ يكسرون الهاء، ويضمون الميمَ، وأبو عمرو

يكسرهما، ووافقه يعقوبُ في {بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] وشبهه (¬1). {وَبَاءُوا} رجعوا. {بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} ولا يقال: باءَ إلا إذا رجعَ بشر. {ذَلِكَ} الغضب. {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} بصفة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وآيةِ الرجم في التوراةِ، ويكفرون بالإنجيلِ والقرآنِ. {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} كشعيا وزكريا ويحيى. قرأ نافعٌ (النَّبِيئينَ، وَالنَّبِيؤون، ونَبِيئُهُمْ، وَلأَنْبِئَاء، والنُّبُوءَة، والنَّبِيء) بالمدِّ والهمز حيث وقع، فيكون معناه المخبر من أنبأ ينبئُ؛ لأنه إنباءٌ عن الله، وخالفَه قالونُ في حرفين في الأحزاب يأتي ذكرُهما في محلِّهما -إن شاء الله تعالى-. وقرأ الباقون: بترك الهمز (¬2)، وله وجهان: أحدهما: هو أيضًا من الإنباء، تُركتِ الهمزةُ فيه تخفيفًا؛ لكثرةِ الاستعمال، والثاني: هو بمعنى الرفع، مأخوذٌ من النَّبْوَةِ، وهو المكانُ المرتفع. {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: بلا جرم. {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} يتجاوزون أمري، ويرتكبون مَحارِمي. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 80)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 117)، و"التيسير" للداني (ص: 19)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 124)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 64 - 65، 133). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 98)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 157)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 80 - 81)، و"الكشف" لمكي (1/ 244)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 117)، و"التيسير" للداني (ص: 73)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 38)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 65).

[62]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}. [62] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} على الحقيقة. {وَالَّذِينَ هَادُوا} يعني: اليهود، سموا به (¬1) لقولهم: {إِنَّا هُدْنا إِليْكَ} [الأعراف: 156]؛ أي: ملنا إليك، وقيل (¬2): لأنهم هادوا؛ أي: تابوا عن عبادةِ العجل، وقال أبو عمرِو بنُ العلاء: لأنَّهم يتهوَّدون؛ أي: يتحرَّكون عندَ قراءةِ التوراةِ، ويقولون: إنَّ السمواتِ والأرضَ تحرَّكت حينَ آتى الله موسى التوراةَ. {وَالنَّصَارَى} سُمُّوا بهِ؛ لقولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]، وقيل: لأنَّهم نزلوا قريةً، وقالوا لها: ناصِرَة، وقيل: لاعتزائِهم إلى نَصْرَةَ، وهي قريةٌ كان يَنْزِلها عيسى -عليه السلام - (¬3). {وَالصَّابِئِينَ} جمع صابئ، أصلُه الخروجُ، يقال: صَبَأَ فلانٌ: إذا خرجَ من دينٍ إلى دينٍ آخَرَ، وهم قومٌ عدلوا عن اليهوديةِ والنصرانيةِ، وعبدوا الملائكةَ، ويستقبلون القبلةَ، ويوحِّدون اللهَ، ويقرؤون الزَّبورَ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (والنَّصَارَى) حيث وقعَ بالإمالة، والباقونَ بالفتح، فمن قرأ بالإمالة رَقَّق الراءَ، ومن قرأ بالفتح، فَخَّمَها (¬4)، ¬

_ (¬1) في "ت": "بهم". (¬2) "وقيل" سقطت من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 79). (¬4) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 120)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

[63]

وقرأَ أبو جعفرٍ، ونافعٌ: (الصَّابِينَ وَالصَّابُونَ) بغير همزٍ، والباقون بالهمز (¬1). {مَنْ} شرط محلُّه رفع مبتدأ، خبره: {آمَنَ} أي: من الكفار. {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} بالقلب واللسان. {وَعَمِلَ صَالِحًا} وجواب الشرط. {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} الذي يستوجبونه امتنانًا. {عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة. تلخيصُه: من أخلصَ إيمانَه، وأصلحَ عملَه، دخلَ الجنَّةَ. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63}. [63] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أي: عهدكم يا معشرَ اليهود. {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} وهو الجبل بالسريانية، رفع الله فوقَ رؤوسهم الطورَ، وذلك أن الله تعالى أنزلَ التوراةَ على موسى، فأمرَ موسى قومَهُ أن ¬

_ = (ص: 138)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 65). (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 101)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 157)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 81)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 118)، و"الكشف" لمكي (1/ 245)، و"تفسير البغوي" (1/ 57)، و"التيسير" للداني (ص: 74)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 138)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 66).

[64]

يَقْبلوها ويَعْملوا بأحكامها، فَأَبَوْا؛ لما فيها من الآصارِ والأثقالِ، وكانتْ شريعةً ثقيلةً، فأمر اللهُ جبريلَ -عليه السلام- فقلعَ جبلًا على قدرِ عسكرهم، وكان فَرْسَخًا في فرسخ، فرفعه فوقَ رؤوسهم مقدارَ قامةِ الرجل كالظُّلَّة؛ أي: كالسحابة، وقال لهم: إن لم تقبلوا التوراة، أرسلتُ هذا الجبلَ عليكم، وبعثَ نارًا من قِبَل وجوههم، وأتاهم البحرُ المالح من خلفِهم. {خُذُوا} أي: وقلنا لهم: {خُذُوا}. {مَا آتَيْنَاكُمْ} أعطيناكم. {بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد ومواظبة. {وَاذْكُرُوا} واعلموا وادرسوا. {مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكي تنجو من الهلاك في الدنيا، والعذاب في العقبى، فإن قبلتم، وإلا رَضَخْتكم بهذا الجبلِ، وَغرَّقْتكم في البحر، وأحرقْتكم بهذه النار، فلما رأوا أنْ لا مهربَ لهم منها، قبلوا، وسجدوا، وجعلوا يلاحظون الجبلَ وهم سجود، فصارَتْ سُنَّةً في اليهود، لا يسجدون إلا على أنصاف وُجوههم، ويقولون: بهذا السجودِ رُفع العذاب عنا (¬1). {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}. [64] {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي: أعرضتم. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد ما قَبِلتم التوراة. ¬

_ (¬1) "عنا" سقطت من "ن".

[65]

{فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بالإمهال وتأخير العذاب عنكم. {لَكُنْتُمْ} أي: لصرتم. {مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: المغبونين بالعقوبة، وذهابِ الدنيا والآخرة، كأنه رحمَهُم بالإمهال. {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65}. [65] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي: جاوزوا الحدَّ، وأصلُ السَّبتِ: القطع، وسمي بذلك يوم السبت، لأن الله تعالى قطعَ فيه الخلقَ، وقيلَ: لقطعِ أشغالِهم فيه، وتعظيمِه بترك العاداتِ، والإتيانِ بالعبادات. واختُلف هل للقاضي أن يُحضر اليهوديَّ (¬1) إلى مجلسِ الحكمِ في يومِ السبتِ لسماعِ دعوى خصمِه، وإلزامِه بما يثبتُ عليه؟ فمذهبُ الشافعيِّ: يُحْضَر يومَ السبت، ويُكسر سبتُه عليه، وهو ظاهرُ عبارة الحنفية في كتبهم، لإطلاقهم أن القاضيَ يحكمُ بينَ أهل الذمَّةِ إذا ترافعوا إليه بحكمِ الإسلام. واختُلف في مذهب مالك في كراهةِ طلبِه، فقيل: يُكْره طلبُه وتمكينُ خصمِه من ذلك، وقيل: يجوزُ من غيرِ كراهة، واختار البساطيُّ من علماء المالكيةِ أنه يُمنع المسلمُ من طلبه، إلا أن تقوم القرائنُ أن المسلمَ اضْطُرَّ إلى ذلك، ولم يقصد ضررًا. ¬

_ (¬1) في "ت": "اليهود".

وعند أحمدَ: ليس للقاضي إحضارُه يومَ السبت؛ لبقاء تحريمِه عليه، وروى أحمدُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا منه. "وَأَنْتُمْ يَهُودُ عَلَيْكُمْ خَاصَّةً ألَّا تَعْدُوا في السَّبْتِ" (¬1)، ولهذا لا يُكره امرأته على إفساده، مع تأكُّدِ حقِّهِ. والقصَّةُ في السبت أنهم كانوا في زمانِ داودَ -عليه السلام- بأرضٍ يُقال لها: أيلة، حَرَّمَ اللهُ عليهم صيدَ السمكِ يومَ السبت، فكانوا إذا دخلَ عليهم السبتُ، لم يبقَ حوتٌ في البحرِ إلا اجتمعَ هناك، حتى يُخرجْنَ خراطيمهنَّ من الماء، لأمنِها، حتى لا يُرى الماءُ من كثرتها، فإذا مضى السبتُ، تَفَرَّقْنَ، ولَزِمْنَ مقلَ البحر، فلا يُرى شيءٌ منها، فذلك قولُه تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} (¬2) [الأعراف: 163]، ثمَّ إنَّ الشيطانَ وسوسَ إليهم، وقال: إنما نُهيتُم عن أخذِها يومَ السبتِ، فعمَدَ رجالٌ فحفروا الحِياضَ حولَ البحرِ، وشَرَّعوا منه إليها لأنهارَ، فإذا كانت عشيةُ الجمعة، فتحوا تلكَ الأنهارَ، فأقبلَ الموجُ بالحيتانِ إلى الحِياض يومَ السبت، فلا يقدرونَ على الخروح، لبعدِ عمقِها، وقلَّةِ مائها، فإذا كانَ يومُ الأحد، أخذوها، ففعلوا ذلك زمانًا، ولم تنزلْ عليهم عقوبة، فتجرؤوا على الذنب، وقالوا: ما نرى السبتَ إلا قد حلَّ لنا، فأخذوا وأكلوا، ومَلَّحوا وباعوا، وأَثْرَوا، وكَثُرَ ما لُهم، فلما فعلوا ذلك، صارَ أهلُ القرية -وكانوا نحوًا من سبعينَ ألفًا- ثلاثةَ أصنافٍ: صنفٌ أمسكَ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 239)، والنسائي (4078)، كتاب: تحريم الدم، باب: السحر، والترمذي (3144)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة بني إسرائيل، وقال: حسن صحيح، وغيرهم، عن صفوان بن عسَّال -رضي الله عنه-. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 132)، عن السدي.

[66]

ونهى، وصنفٌ أمسكَ ولم يَنْهَ، وصنفٌ انتهكَ الحرمةَ، فلما أبى المجرمون قَبولَ نُصْحِهم، قالوا: واللهِ لا نُساكِنُكُم في قرية واحدة، فقسموا القريةَ بجدار، واستمروا كذلك سنينَ، فلعنَهُمْ داودُ، وغضبَ الله عليهم؛ لإصرارهم على المعصية، فخرج الناهون ذاتَ يوم من بابهم، ولم يخرجْ من المجرمين أحدٌ، ولم يفتحوا بابَهم، فلما أبطؤوا، تَسَوَّروا عليهمُ الحائطَ، فإذا هم جميعًا قِرَدَةٌ لها أذنابٌ يَتَعاوَوْنَ، فمكثوا ثلاثةَ أيام، ثم هلكوا، ولم يتوالدوا (¬1)، قال الله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا} أمرُ تحويل وتكوين؛ أي: صيروا. {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} مبعَدين مطرودين، والخساءُ: الطردُ والإبعاد. قرأ الكسائيُّ (قِرَدَةً) بإمالة الدال حيثُ وقفَ على هاء التأنيث. {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}. [66] {فَجَعَلْنَاهَا} أي: عقوبتهم بالمسخ. {نَكَالًا} أي: عقوبةً وعبرةً (¬2)، والنَّكالُ: اسمٌ لكلِّ عقوبةٍ يَنكُلُ الناظرُ من فعل ما جُعلت العقوبةُ جزاءً عليه، ومنهُ النُّكولُ عن اليمين، وهو الامتناعُ، وأصلُه من النَّكل، وهو القيدُ، وجمعه أَنْكال. {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي: جعلنا تلك العقوبةَ جزاءً لما تقدَّم من ذنوبهم قبلَ نهيهم عن أخذِ الصيد. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 332). (¬2) "وعبرة" سقطت من "ت".

[67]

{وَمَا خَلْفَهَا} وما حضرت من الذنوب التي أُخِذوا بها، وهي الحصيانُ بأخذ الحيتان. {وَموْعِظَةً} أي: تذكرة. {لِلْمُتَّقِينَ} للمؤمنين من أُمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يفعلون مثلَ فعلِهم. ويأتي ذكرُ أيلة ومحلِّها في سورة الأعراف عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] إن شاء الله تعالى. واختلف الأئمةُ في جوازِ الحيلة، وهو فعلُ ما ظاهرُه مُباح ويُتوصَّلُ به إلى محرَّمٍ، فَسَدَّ الذرائعَ مالكٌ وأحمدُ، ومنعا منه، وأباحه أبو حنيفةَ والشافعيُّ. والحيلةُ: اسمٌ من الاحتيال، وهي التي تحوِّلُ المرءَ عمَّا يكره إلى ما يُحِبُّ. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}. [67] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (يَامُرُكُمْ) بغير همز، والباقون بالهمز، واختُلِف عن أبي عمرٍو في اختلاس ضمَّةِ الراءِ وإسكانِها من (يَأْمُرُكُمْ، ويَأْمُرُهُمْ، ويَنْصُرُكُمْ، ويُشْعِرُكُمْ) حيثُ وقع ذلك، فقرأ الدوريُّ عنه بالاختلاس، وقرأ السوسيُّ بالإسكان، وقرأ الباقون بإشباع

الحركة (¬1)، والهاء في (بقرة) ليست للتأنيث، وإنما هي لتدلَّ على أنها واحدةٌ من جنسٍ؛ كالبطة، والدجاجة، ونحوهما، وهي مأخوذة من البَقْرِ، وهو الشَّقُّ، سميت به، لأنها تشقُّ الأرض للحراثة. والقصة فيه أنه كان في بني إسرائيل رجلٌ غني، وله ابنُ عمٍّ فقيرٌ لا وارثَ له سواه، فلما طال عليه موتُه قتلَه ليرثَه، وحملَه إلى قريةٍ أخرى، فألقاه بِفِنائهم، ثم أصبحَ يطلبُ ثأرَهُ، وجاء بناسٍ إلى موسى يدَّعي عليهِمُ القتلَ، فسألهم موسى، فجحدوا، فاشتبهَ أمرُ القتيل على موسى، وذلك قبلَ نزول القَسامَةِ في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله؛ ليبيِّنَ لهم بدعائه، فدعا موسى -عليه السلام- فأمرهم بذبح بقرة، فقال لهم موسى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}. {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي: تستهزئ بنا، نحن نسألك عن أمر القتيل، وتأمرُنا بذبح البقرة، وإنما قالوا ذلك؛ لبعدِ ما بينَ الأمرين في الظاهر، ولم يدروا ما الحكمةُ فيه. قرأ حمزةُ، وخلفٌ: (هُزْؤًا) بجزم الزاي، وقرأ الباقون بضم الزاي، وحفصٌ بإبدال الهمزة واوًا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 184)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 118)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 25)، و"البحر المحيط" لأبي حيَّان (1/ 249)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 67 - 67). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 184)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 101)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 157 - 158)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 81 - 82)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 118)، و"الكشف" لمكي (1/ 247)، و"تفسير البغوي" (1/ 60)، و"التيسير" للداني (ص: 74)، =

{قَالَ} هو موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ} أمتنع بالله. {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} المستهزئين؛ لأن الهزء من أفعال الجاهلين، فلما علمَ القومُ أن ذبحَ البقرة عزمٌ من الله -عزَّ وجلَّ- استوصفوه، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها، لأجزأَتْ عنهم، ولكنهم شدَّدوا، فشدَّد اللهُ عليهم، وكانت تحته حكمةٌ، وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجلٌ صالحٌ له ابنٌ طفلٌ، وله عِجْلَةٌ أتى بها إلى غَيْضة، وقال: اللهمَّ أَستودعُكَ هذه العجْلَة لابني حتى يكبرَ، وماتَ الرجلُ، وصارت العجلةُ في الغيضة عَوانًا، وكانت تهربُ من كلِّ من رآها، فلما كبر الابنُ كان بارًّا بوالدته، وكان يقسِّمُ الليلَ ثلاثةَ أثلاثٍ، يصلِّي ثلثًا، وينام ثلثًا، ويجلس عندَ رأسِ أمه ثلثًا، فإذا أصبحَ انطلقَ فاحتطبَ على ظهره، فيأتي به إلى السوق، فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل بثلثه، ويعطي لوالدته ثلثه، فقالت له أمه يومًا: إن أباك ورَّثَكَ عجلةً استودَعَها الله في غَيْضَةِ كذا، فانطلقْ فادعُ إلهَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحقَ أن يردَّها عليكَ، وعلامتُها أنك إذا نظرتَ إليها، يخيَّلُ إليكَ أنَّ شعاعَ الشمسِ يخرجُ من جلدها، وكانت البقرةُ تسمَّى المذهبةَ؛ لحسنِها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضةَ، فرآها ترعى، فصاح بها، وقال: أعزمُ عليكِ بإلهِ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ، فأقبلَتْ تسعى حتى وقفَتْ بينَ يديه، فقبضَ على عنقها يقودُها، فتكلمت البقرةُ بإذنِ اللهِ تعالى، فقالتْ: أيها الفتى البارُّ بوالدتِه! اركبني؛ فإن ذلكَ أهونُ عليكَ، فقال ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 215)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 68).

الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالتْ: خُذ بعنقها، فقالت البقرةُ: وإِله بني إسرائيلَ لو ركبتَني ما كنتَ تقدرُ عليَّ أبدًا، فانطلقْ؛ فإنَّكَ لو أمرتَ الجبلَ أن ينقلعَ من أصلِه وينطلقَ معك، لفعلَ؛ ببرك بأمك، فسار الفتى بها إلى أمه، فقالت له: إنك فقير، ولا مالَ لك، ويشقُّ عليكَ الاحتطابُ بالنهارِ والقيامُ بالليل، فانطلقْ فبعْ هذه البقرةَ، قال (¬1): بكمْ أبيعُها؟ قالتْ بثلاثةِ دنانيرَ، ولا تبعْ بغيرِ مَشُورتي، وكان ثمنُ البقرةِ ثلاثةَ دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله مَلَكًا ليُرِيَ خلقَهُ قدرتَهُ، وليختبرَ الفتى كيفَ بِرُّهُ بوالدته، وكان الله به خبيرًا، فقال له الملَكُ: بكمْ تبيعُ هذهِ البقرةَ؟ قال: بثلاثةِ دنانيرَ، وأشترطُ عليكَ رضا والدتي، فقال الملَكُ له: ستةُ دنانيرَ ولا تستأمرْ والدتَكَ، فقال الفتى: لو أعطيتَني وزنَها ذهبًا، لم آخذْه إلا برضا أُمِّي، فردَّها إلى أمه، فأخبرها بالثمن، فقالت: ارجعْ فبعْها بستةِ دنانيرَ على رضًا مني، فانطلقَ بها الفتى إلى السوق، فأتى الملَكُ فقال: استأمَرْتَ أُمَّك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني ألَّا أنقُصها من ستةِ دنانيرَ، على أن أستأمرَها، فقال الملكُ: فإني (¬2) أُعطيك اثني عشرَ دينارًا على ألَّا تستأمرَها، فأبى الفتى، ورجعَ إلى أمه، فأخبرها بذلك، فقالت: إنَّ الذي يأتيك ملكٌ يأتيكَ في صورةِ آدمي ليجرِّبَكَ، فإذا أتاك، فقل له: أتأمرُنا أن نبيعَ هذهِ البقرة أم لا؟ ففعل، فقال له الملكُ: اذهبْ إلى أمك، وقل لها: أمسكي هذه البقرة؛ فإن موسى بنَ عمران يشتريها منكُم لقتيلٍ يُقتل في بني إسرائيلَ، فلا تبيعوها إلا بملء مَسْكِها دنانيرَ، فأمسكوها، وقدَّر الله على ¬

_ (¬1) في "ت": "فقال". (¬2) في "ت": "إني".

[68]

بني إسرائيل ذبحَ تلكَ البقرة بعينِها، فما زالوا يستوصفون حتى وصفَ لهم تلكَ البقرةَ مكافأةً له على بِرِّه بوالدته، فضلًا منه ورحمةً (¬1)، فذلك قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}. [68] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي: ما شيَتُها؟ فسأل اللهَ تعالى. {قَالَ} موسى. {إِنَّهُ} يعني: إن الله. {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} أي: لا كبيرة ولا صغيرة، والفارضُ: المُسِنَّةُ التي لا تلدُ، والبكرُ: الفتاةُ الصغيرةُ التي لم تلدْ قَطُّ، وحُذفت الهاءُ منهما للاختصاصِ بالإناث؛ كالحائض. {عَوَانٌ} نَصَفٌ. {بَيْنَ ذَلِكَ} أي: بين الشيئين، يقال: عَوَّنَتِ المرأة تَعْوينًا: إذا زادتْ على الثلاثين. {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} من ذبح البقرة، ولا تكرروا السؤال. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (توُمَرُونَ) بسكون الواو بغير همز، والباقون بالهمزة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 82 - 83). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 119)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 69).

[69]

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69}. [69] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} أي: خالصُ الصُّفرة، يقال: أصفرُ فاقعٌ، وأسودُ حالِكُ، وأحمرُ قانٍ، وأخضرُ ناضِرٌ، وأبيضُ ناصعٌ؛ للمبالغة. {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} إليها، ويُعجبهم حسنُها وصفاءُ لونها. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}. [70] {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أسائمةٌ أم عاملة؟ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ولم يقل: تشابهتْ؛ لتذكير لفظِ البقر؛ أي: التبسَ واشتبهَ أمرُه علينا، فلا نهتدي إليه. {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} إلى وصفها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَايْمُ اللهِ! لَوْ لَمْ يَسْتَثْنُوا، لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الأَبَدِ" (¬1). قرأ حمزةُ، وخلفٌ، وابنُ ذَكوانَ: (إِنْ شَاءَ الله) بالإمالةِ (¬2). {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 347)، عن ابن جريج معضلًا. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 120)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 71).

[71]

[71] {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ} مذلَّلَةٌ بالعمل، يقال: رجلٌ ذليل بَيِّنُ الذُّلِّ، ودابَّهٌ ذَلولٌ: بينةُ الذلِّ. {تُثِيرُ الْأَرْضَ} تقلبها للزراعة. {وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} بالسَّانِيَةِ أو غيرِها من الآلات، والحَرْثُ: ما حُرِثَ وزُرِعَ؛ أي: تحرثُ ولا تَسْقي، وقيل: معناه: لم تُذَلَّلْ للكرابِ وإثارةِ الأرضِ، ولا هي من النواضحِ التي يُسْنَى عليها لسقي الحرثِ، و (لا) الأولى للنفي، والثانية مزيدةٌ لتأكيد الأولى، والفعلانِ صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقيةٌ. {مسَلَّمَةٌ} بَرِيَّةٌ من العيوب. {لَا شِيَةَ فِيهَا} لا لمعةَ فيها تخالفُ لونَها. قرأ حمزةٌ: (لا شِيَةَ) بالمدِّ بحيثُ لا يبلغُ الإشباع (¬1)، والكسائيُّ يُميل الياءَ حيثُ وقفَ على هاء التأنيث. {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: بالبيان التام الشافي الذي لا إشكالَ فيه، فطلبوها فلم يجدوها بكمال وصفها إلا مع الفتى، وكان اسمه ميشا، فاشتروها بملء مَسْكِها ذهبًا. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (جِيتَ) بياء ساكنة بغير همز، والباقون بالهمز (¬2). {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} من غلاء ثمنها، واضطرابِهم فيها، و (كادَ) من أفعالِ المقاربة. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الآية (2) من سورة البقرة. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 119)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 72)، وقد ذكراها من قراءة السوسي.

[72]

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}. [72] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} هذا أولُ القصة، وإن كانت مؤخرةً في التلاوة، واسمُ القتيل عاميل. {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أصلُه تدارأتم، فأُدغمت التاء في الدال، وأُدخلت الألف، مثل قوله: {اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ بغير همزٍ، والباقون بالهمز، ومعناه: اختلفتم فيها (¬1). {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} أي: مظهر. {مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فإن القاتلَ كان يكتم القتل. {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}. [73] {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} يعني: القتيلَ. {بِبَعْضِهَا} أي: ببعضِ البقرة، وذلكَ البعضُ هو العظمُ الذي يلي الغضروفَ، وهو المقتل في قول ابن عباس، وأكثرِ المفسرين، وقيل: بذنبها، ففعلوا ذلك، فقام القتيلُ حيًّا بإذن الله تعالى، وأوداجُهُ تَشْخَبُ دمًا، وقال: قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانَه، فَحُرم قاتلُه الميراث وقتله موسى قصاصًا (¬2)، ثم أمرهم موسى بسلخ البقرةِ، فلما سلَخوها، ملؤوا ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:139)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 72). (¬2) "وقتله موسى قصاصًا" سقط من "ظ".

جلدَها ذهبًا، وأعطاهُ موسى لميشا، وفي الخبر "ما وَرِثَ قاتلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ" (¬1)، وفيه إضمارٌ تقديره: فَضُرِبَ، فَحَيِيَ. {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} كما أحيا عاميل. {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} المراد منكم، فتمنعون نفوسَكم عن هواها. أما حكمُ هذه المسألة في الإسلام إذا وُجد قتيلٌ في موضعٍ لا يُعرف قاتلُه، فإن كانَ ثمَّ لَوْثٌ على إنسان، وهو العداوةُ الظاهرةُ كما بينَ القبائل، أو ما يغلبُ على القلبِ صدقُ المدَّعي؛ بأن اجتمعَ جماعةٌ في بيتٍ أو صحراءَ فتفرقوا عن قتيل يغلبُ على القلب أن القاتلَ فيهم، أو وُجد قتيلٌ في محلَّةٍ أو قريةٍ كلُّهم أعداءُ القتيل، لا يخالطُهم غيرُهم، فيغلبُ على القلب أنهم قتلوه، فادَّعى الوليُّ على بعضهم، فعندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ: يحلفُ المدَّعي خمسين يمينًا، وإن كانَ الأولياءُ جماعةً، فتقسَمُ الأيمان بينَهم بالحساب، ثم بعد حلفِهم يأخذونَ الديةَ من عاقلةِ المدَّعَى عليه إنِ ادَّعوا قتلَ خطأ، وإن ادَّعَوا قتلَ عمد، فمن مالِ المدَّعى عليه، ولا قودَ على الجديدِ من قولي الشافعي. وقال مالكٌ وأحمدُ بوجوبِ القَوَد. ومن اللوثِ عندَ مالكٍ قولُ المجروحِ الحرِّ البالغِ المسلمِ: دمي عندَ ¬

_ (¬1) روى عبد الرزاق في "المصنف" (17794)، عن عبيدة قال: أول ما قضي أن لا يرث القاتل في صاحب بني إسرائيل. وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (35915)، عن ابن سيرين قال: أول ما منع القاتل الميراث؛ لمكان صاحب البقرة.

[74]

فلانٍ عمدًا، واستدلَّ بهذه النازلة في قصة البقرة على تجويز قولِ القتيلِ، وأن تقع مع القَسامة، وإن لم يكنْ على المدَّعى عليه لوثٌ، فالقولُ قولُه مع يمينهِ، ويُحلَّف يمينًا واحدة عند مالك، ولم يُحلَّفْ عندَ أحمدَ على المذهبِ المشهور عنه، وعنه رواية ثانية: يحلفُ يمينًا واحدةً، وهو أظهرُ، واختاره جماعةٌ من أصحابه، والأظهرُ من مذهبِ الشافعيِّ تغليظُ اليمينِ بالعَدَد؛ لأنه يمينُ دمٍ، فيحلف خمسينَ يمينًا، وعندَ أبي حنيفةَ لا حكْمَ للَّوْثِ، ولا يبدأُ بيمين المدعي، بل إذا وُجد قتيلٌ في محلة، يختارُ الوليُّ خمسين رجلًا من صُلَحائهم، فيحلِّفهم أنهم ما قتلوه، ولا عرفوا له قاتلًا، ثم يأخذ الديةَ من سكانها، وإن ادَّعى على غيرهم، ولا بينةَ، لزم المدَّعى عليه يمينًا واحدة كسائر الدعاوى، وتسقطُ القسامَةُ عن أهل المحلة. {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}. [74] {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} يبست وجفَّت، وجفافُ القلب: خروجُ الرحمةِ واللينِ عنه. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد ظهور الدلالات، وما تقدَّمَ من أمر القتيل، وهي عبارةٌ عن خُلُوِّها من الإنابة والإذعان لآياتِ الله تعالى. {فَهِيَ} في الغلظة والشدة. {كَالْحِجَارَةِ أَوْ} بل. {أَشَدُّ قَسْوَةً} وإنما لم يشبهها بالحديد، مع أنه أصلب من الحجارة؛

لأن الحديد قابل للّين؛ فإنه يلينُ بالنار، وقد لانّ لداودَ -عليه السلام-، والحجارةُ لا تلينَ قطُّ، ثم فَضَّلَ الحجارةَ على القلب القاسي فقالَ: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} قيل: أراد به جميعَ الحجارةِ وقيل: أرادَ به الحجرَ الذي كان يضربُ عليه موسى للأسباط. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} أراد به عيونًا دون الأنهار. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله. {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وقلوبُكم لا تَلينُ ولا تخشعُ يا معشر اليهود، فإن قيل: الحجرُ جمادٌ لا يفهم، فكيف يخشى؟ قيل: اللهُ يُفهمها ويُلهمها فتخشى بإلهامه، ومذهبُ أهلِ السُّنةِ أن لله علمًا في الجمادات وسائرِ الحيوانات سوى العقلاء، لا يقف عليه غيرُه، فلها صلاةٌ وتسبيحٌ وخشيةٌ، قال الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وقال: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الحج: 18]، فيجبُ على المرء الإيمانُ به، ويَكِلُ العلمَ إلى الله عزَّ وجلَّ. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيدٌ وتهديدٌ. قرأ ابنُ كثيرٍ: (يَعْلَمُونَ) بالغيب. والباقون بالخطاب مناسبًا بقوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 101)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 160)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 120)، و"الكشف" لمكي (1/ 248)، و"تفسير البغوي" (1/ 67)، و"الكشف" للزمخشري (1/ 77)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 217)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =

[75]

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75}. [75] {أَفَتَطْمَعُونَ} أفترجون؟ يريد: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأصلُ الطمعِ: نزوعُ النفسِ إلى شيءٍ ما شهوةً. {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} يصدقكم اليهودُ بما تخبرونهم به. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (يُومِنُوا) بغير همز، والباقون بالهمز (¬1). {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي: طائفة من اليهود. {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} يعني: التوراة. {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يغيِّرون ما فيها من الأحكام. {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} علموه؛ كما غيروا صفةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وآيةَ الرَّجم. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون، ثم أخبرَ عن صنعهم فقال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}. [76] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} يعني: منافقي اليهود الذين آمنوا بألسنتهم، إذا لَقُوا المؤمنين المخلِصين. ¬

_ = 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 75). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 74)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218).

{قَالُوا آمَنَّا} كإيمانكم. {وَإِذَا خَلَا} رجع. {بَعْضُهُمْ} الذين لم ينافقوا. {إِلَى بَعْضٍ} الذين نافقوا، وهم رؤوساء اليهود، لاموهُم على ذلك. و {قَالُوا} منكرين عليهم: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بما قضى الله عليكم في كتابكم، وأعطاكم من العلم أن محمدًا حقٌّ، وقولَه صدقٌ؟!، ويقال للقاضي: الفتَّاح، وأصلُ الفتح: إزالةُ الإغلاق. {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} ليخاصموكم، يعني: أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويحتجوا بقولكم عليكم، فيقولون: قد أقررتُم بأنه نبيٌّ حقٌّ في كتابكم، ثم لا تتبعونه، وذلك أنهم قالوا لأهل المدينة حينَ شاوروهم في اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -: آمنوا به؛ فإنه حق، ثم قال بعضُهم لبعض: أتحدثونهم بما فتحَ الله عليكُم ليحاجُّوكم به لتكونَ لهم الحجةُ عليكم (¬1). {عِنْدَ رَبِّكُمْ} في الدنيا والآخرة. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أنهم إذا علموا ذلك احتجوا به عليكم؟! ثم استفهَمَ فقال: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}. ¬

_ (¬1) في "ت": "لهم الحجة عليهم"، وفي "ن": "لهم حجة عليكم".

[77]

[77] {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّون} يخفون. {وَمَا يُعْلِنُونَ} يبدون، يعني: اليهود. قرأ أبو عمرٍو: (يعلم ما) بإدغام الميم في الميم (¬1). {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}. [78] {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي: من اليهود لا يحسنون القراءة ولا الكتابة، جمع أمّي، منسوبٌ إلى الأم، كأنه باقٍ على ما انفصلَ من الأم، لم يتعلم قراءة ولا كتابة. {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} وهي جمعُ الأُمْنِيّة، وهي التلاوةُ حفظًا من غير معرفةِ معناه. قرأ أبو جعفرٍ: (أَمَانِي) بتخفيف الياء كلَّ القرآن، حذفَ إحدى الياءين استخفافًا، والباقون بالتشديد (¬2)، والمراد بها الأشياءُ التي كتبها علماؤهم من عندِ أنفسهم، ثم أضافوها إلى الله -عز وجل- من تغيير نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرِه. {وَإِنْ هُمْ} أي: وما هم. {إِلَّا يَظُنُّونَ} ظنًّا وتوهمًا لا يقينًا. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الآية (4) من سورة الفاتحة. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 190)، و"تفسير الطبري" (2/ 264)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 94)، و"تفسير البغوي" (1/ 69)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 217)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 76).

[79]

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}. [79] {فَوَيْلٌ} هي كلمة يقولها كلُّ واقع في هَلَكَةٍ بمعنى الدعاء على النفس بالعذاب. {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} أي: المحرَّف. {بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهابَ مَأْكُلَتِهم، وزوالَ رياستِهم حينَ قدمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، فاحتالوا في تعويقِ اليهود عن الإيمان به، فعمدوا إلى صفته في التوراة، وكان صفتُه فيها: حسن الوجه، حسن الشعر، أكحلَ العينين، رَبَعَةً فغيروها، وكتبوا مكانها: طوالَ أزرقَ سَبْطَ الشَّعرِ، فإذا سألهم سفْلَتُهُم عن صفتِه، قرؤوا ما كتبوا، فيجدونه مخالفًا لصفته، فيكذبونه (¬1)، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني: كتبوا بأنفسهم اختراعًا من تغير نعته - صلى الله عليه وسلم -. {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} من المآكل. قرأ أبو عمرٍو، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (الْكِتَاب بأَيْدِيهِمْ) بإدغام الباء الأولى في الثانية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير أبي السعود" (1/ 120). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 76).

[80]

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}. [80] {وَقَالُوا} يعني: اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} لن تصيبنا النار. {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قدرًا مقدَّرًا، ثم يزولُ عنا العذابُ، يعنون: أربعين يومًا التي عبد آباؤهم فيها العجلَ، وقيلَ غيرُ ذلك، فقال الله -عزَّ وجلَّ- تكذيبًا لهم: {قُلْ} يا محمد: {اتَّخَذتُم} ألفُ استفهامٍ دخلت على ألفِ الوصل، أصلُه اِتخذتم، وزنُه افتعلتُم من الأخذ، سُهِّلَتِ الهمزةُ الثانية؛ لامتناع جمع همزتين، فاضطربت الياء في التصريف، جاءت ألفًا في ياء تخذ، فبُدلت بحرف التاء، وأدغمت، فلما دخلت ألف التقرير، استُغْني عن ألف الوصل. {عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} أي: موثقًا ألَّا يعذِّبكم إلا هذه المدَّة. {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} أي: وعده. {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} تلخيصُه: إن كان لكم عندَهُ عهدٌ فلا يُنْقَضُ، ولكنكم تتخرَّصون، ولما قالوا: لن تمسَّنا النارُ، ردَّ ذلكَ عليهم، فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}.

[81]

[81] {بَلَى} وبلى وبل حرفا استدراك، ومعناهما نفيُ الخبر الماضي، وإِثباتُ الخبر المستقبَل. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (بَلَى) بالإمالة (¬1). {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} يعني: الشركَ. {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي: استولت عليه، والإحاطةُ: الإحداقُ بالشيء من جميع نواحيه، وهي الشركُ يموتُ عليه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ (خَطِيئاتُهُ) على الجمع، والباقون على الإفراد (¬2)، وعن أبي جعفرٍ وجهٌ ثانٍ: (خَطِيَّاتُهُ) بتشديد الياء بغير همز (¬3). {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قرأ أبو عمرٍو، وحمزةَ، والكسائي: (النَّارِ) بالإمالة حيث وقَع مجرورًا (¬4). ثم بشر المؤمنين بالجنة فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 124)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 140)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 77). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 102)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 162)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 83)، و"الكشف" لمكي (1/ 249)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (1/ 71)، و"التيسير" للداني (ص: 74)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 140)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 77). (¬3) وذكرها الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 140)، عن حمزة، وانظر: "معجم القراءات القرآنية" (1/ 78). (¬4) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 124)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 140)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 78).

[82]

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}. [82] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} دائمون. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}. [83] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} في التوراةِ، إخبارٌ في معنى النهي، والميثاقُ: العهدُ الشديدُ. {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ: (لا يَعْبُدُونَ) بالغيب، والباقون بالخطاب (¬1)؛ لقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} معناه: ألا تعبدوا، فلما حذف (أن)، صار الفعلُ مرفوعًا. {وَبِالْوَالِدَيْنِ} أي: ووصيناهم بالوالدين. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 102)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 162)، و"الحجة" لابن خالويه (ص:83)، و"الكشف" لمكي (1/ 249 - 250)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 120)، و"تفسير البغوي" (1/ 72)، و"التيسير" للداني (ص: 74)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 78).

{إِحْسَانًا} بِرًّا بهما، وعطفًا عليهما، ونزولًا عندَ أمرِهما فيما لا يُخالفُ أمرَ الله تعالى. {وَذِي الْقُرْبَى} أي: وبذي القربى، والقربى مصدرٌ كالحسنى. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (القُرْبَى) بالإمالة. {وَالْيَتَامَى} جمع يتيم، وهو الطفل الذي لا أبَ له، وأصلُ اليتمِ: الانفرادُ. قرأ الدوريُّ عن الكسائي: (وَالْيَتَامَى) بالإمالة (¬1). {وَالْمَسَاكِينِ} يعني: الفقراء. {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} صِدْقًا وحَقًّا في شأنِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فمن سألكم عنه، فاصدُقوه، وبَيِّنوا له صفتَهُ، ولا تكتُموا أمرَه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (حَسَنًا) بفتح الحاء والسين (¬2)؛ أي: قولًا حسنًا. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن العهد والميثاق. {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} وذلك أن قومًا منهم آمنوا. {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} كإعراضِ آبائِكم. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 124)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 140)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 79). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 192)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 103)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 162)، و"الكشف" لمكي (1/ 250) و"الغيث" للصفاقسي (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (1/ 72)، و"التيسير" للداني (ص: 74)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 80).

[84]

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}. [84] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} على نحو ما سبقَ من الإخبار في معنى النهي. {لَا تَسْفِكُونَ} لا تريقون. {دِمَاءَكُمْ} أي: لا يسفكْ بعضُكم دمَ بعض. {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أي: لا يخرج بعضُكم بعضًا من داره. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد أنه حقٌّ، وقبلتم. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} اليوم على ذلك يا معشرَ اليهود، وتعترفون بالقبول. {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}. [85] {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} يعني: يا هؤلاءِ اليهود! وهؤلاءِ للتنبيه. {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: بعضُكم بعضًا. {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ (دِيَارِهِمْ)

بالإمالة، واختلف عن ابنِ ذكوان، ورُوي عن ورشٍ الإمالةُ بينَ بينَ، وكذلك رُوي عن حمزةَ، وقرأ الباقون بالفتح (¬1). {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} بتشديد الظاء؛ أي: تتظاهرون، أدغمتِ التاءُ في الظاء. وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تَظَاهَرُونَ) بتخفيف الظاء (¬2)، ومعناهما: تتعاونون، والظهيرُ: العون. {بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} بالمعصية والظلم. {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى} قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (يَاتُوكُمْ) بغير همز، والباقونَ بالهمز (¬3)، وقرأ حمزةُ: (أَسْرَى) بفتح الألف الأولى وسكون السين وإسقاط الألف بعدَها، وهما جمع أَسير، ومعناهما واحد. {تُفَادُوهُمْ} بالمال، وتنقذوهم. قرأ نافعٌ، وأبو جعفر، وعاصمٌ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (تُفَادُوهُمْ) بضم التاء وألفٍ بعد الفاء (¬4)؛ أي: ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 124)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 81) وقد ذكرها عن أبي عمرو وورش. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 164)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 104)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 126)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 84)، و"الكشف" لمكي (1/ 250 - 521)، و"تفسير البغوي" (1/ 73)، "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 140)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 81). (¬3) ذكر الصفاقسي في "الغيث" (ص: 122) قراءة ورش وهي (ياتوكمو)، بإبدال الهمزة، وضم الميم مع مدها، وانظر: "معجم القراءات القرآنية" (1/ 82). (¬4) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 104)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 163)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 84)، و"الكشف" لمكي (1/ 251 - 252)، =

تبادلونهم (¬1)، أرادَ: مفاداةَ الأسيرِ بالأسيرِ، وأصلُ الفِداءِ: حفظُ الشيءِ بما تبذلُه (¬2) عنهُ صيانةً له، ومعنى الآية: إن الله تعالى أخذَ على بني إسرائيل في التوراة ألَّا يقتلَ بعضُهم بعضًا، ولا يخرجَ بعضُهم بعضًا من ديارِهم، وأيُّما عبدٍ أو أمةٍ وجدتموهُ من بني إسرائيلَ، فاشتروهُ بما قامَ من ثمنه، وأَعتقوهُ، وكانتْ قريظةُ حلفاءَ الأوسِ، والنضيرُ حلفاءَ الخزرجِ، وكانوا يقتتلون في حرب سُمَير (¬3)، فإذا اقتتلا، عاونَ كلُّ فريق حلفاءه في القتلِ وتخريبِ الديار وإجلاءِ أهلها، وإذا أُسر رجلٌ من الفريقين، جمعوا له حتى يَفْدوه، وإن كانَ الأسيرُ من عدوِّهم، فتعيِّرهُم العربُ، وتقول: كيفَ تُقاتلونهم وتَفْدونهم؟ قالوا: إنا أُمرنا أن نَفْديَهم، فيقولون: لمَ تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أنْ يُسْتَذَلَّ حلفاؤنا، فعيَّرَهم الله تعالى، فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (¬4). وفي الآية تقديمٌ وتأخيرٌ، ونظمُها: وتُخرجون فريقًا منكم من ديارهم تَظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وهو محرَّم عليكم إخراجهم، وإن يأتوكم أُسارى تَفْدوهم، فكأنَّ الله أخذَ عليهم أربعةَ عهودٍ: تركَ القتل، ¬

_ = و"الغيث" للصفاقسي (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (1/ 73)، و"التيسير" للداني (ص: 72)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 141)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 82 - 83). (¬1) في "ت" و"ظ": "تباذلونهم". (¬2) في "ن": "يبدله". (¬3) في "ن": "سَمير". (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 397)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 163).

وتركَ الإخراج، وتركَ المظاهرة عليهم مع أعدائهم، وفداءَ أُسرائهم، فأعرضوا عن الكُلِّ إلا الفداءَ، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} أي: بالفداء؛ لأنه من جملة ما أُخذ في الميثاق. {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} بالقتل والإخراج. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (أَفَتُومِنُونَ) بغير همز، والباقون بالهمز، قال مجاهد: يقول: إن وجدْتَه في يدِ غيرِك، فديتَهُ، وأنت تقتلُه بيدِك. {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} يا معشر اليهود. {إِلَّا خِزْيٌ} عذاب وهوان. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وكان خزَيُ قريظة القتلَ والسبيَ، وخزيُ بني النضير الجلاءَ والنفيَ عن منازلهم إلى أَذرعات وأَريحا من الشام. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} وهو عذاب النار. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ: (يَعْمَلُونَ) بالغيب، والباقون بالخطاب (¬1). ثم أخبرهم متهددًا أن عذابَي الدنيا والآخرة لا يُفَتَّرُ عنهم ولا مانع لهم منه بقوله: ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 105)، و"الكشف" لمكي (1/ 252 - 253)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 122)، و"تفسير البغوي" (1/ 74)، و"التيسير" للداني (ص: 74)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 141)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 84).

[86]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}. [86] {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} استبدلوا. {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} أي: يُهَوَّنُ عليهم. {الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: يُمنعون من عذاب الله عزَّ وجلَّ. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}. [87] {وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا. {مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة جملة واحدة. {وَقَفَّيْنَا} أتبعنا. {مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} رسولًا بعدَ رسول. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} عيسى: اسمٌ عبرانيٌّ أو (¬1) سريانيٌّ، والبيناتُ: الدَّلالاتُ الواضِحاتُ، وهي ما ذكر الله تعالى في سورة آل عمران والمائدة. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيّ، وخلفٌ: (عِيسَى) بالإمالة حيثُ وقع (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت": "و". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 124)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 84).

{وَأَيَّدْنَاهُ} قَوَّيناه. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} قرأ ابنُ كثيرٍ: (القُدْسِ) بسكون الدال، والباقونَ بضمِّها، وهما لغتان مثل: الرُّعْب، والرُّعُب (¬1)، وروحُ القدسِ: هو جبريلُ -عليه السلام- والقدُس: الطهارةُ: وُصِفَ جبريلُ بها لأنه لم يقترفْ ذنبًا، وقيلَ غيرُ ذلك، فلما سمعت اليهودُ ذكرَ عيسى، قالوا: يا محمدُ! لا مثلَ عيسى -كما تزعُم- فعلْتَ، ولا كما تقصُّ علينا من الأنبياء فَعَلْتَ، فائْتِنا بما أتى (¬2) به عيسى إنْ كنتَ صادقًا، قال الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ} يا معشر اليهود. {رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى} تحبُّ. {أَنْفُسُكُمُ} والهوى: هو ميلانُ القلب إلى ما يستلذُّ به. {اسْتَكْبَرْتُمْ} تكبرتم، وتعظمتم عن الإيمان. {فَفَرِيقًا} طائفةً. {كَذَّبْتُمْ} مثل عيسى ومحمد. {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أي: قتلتم، مثل زكريا ويحيى وشعيا وسائرِ مَنْ قَتَلوا من الأنبياءِ -عليهم السلام-، ولم يقل: قتلتم، وإن أريدَ الماضي؛ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 198)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 105)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 163)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 84)، و"الكشف" لمكي (1/ 523)، و"تفسير البغوي" (1/ 74)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 141)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 85). (¬2) في "ن": "أوتي".

[88]

تعظيمًا لهذه الحالة، فكأنها -وإن مضت- حاضرةٌ؛ لشناعتِها، ولثبوتِ عارِها عليهم وعلى ذريتهم بعدَهم. {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}. [88] {وَقَالُوا} يعني: اليهود. {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أغلاف؛ أي: هي في أكِنَّةٍ، معناه: عليها غِشاوةٌ، فلا تَعي، ولا تَفْقَهُ ما تقول، قال الله تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي: أبعدَهم من كلِّ خير. {بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يؤمنُ منهم إلا قليل؛ لأن من آمنَ من المشركين أكثرُ ممن آمنَ من اليهود، ونصب (قليلًا) على الحال. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}. [89] {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني: القرآن. {مُصَدِّقٌ} موافق. {لِمَا مَعَهُمْ} يعني: التوراة. {وَكَانُوا} يعني: اليهود. {مِنْ قَبْلُ} مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -. {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون.

[90]

{عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} على مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا حَزَبهم أمرٌ، أو دَهَمهم عدوٌّ: اللهمَّ انصُرْنا عليهم بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمان الذي نجدُ صفتهُ في التوراةِ، فكانوا يُنْصَرون، وكانوا يقولون لأعدائِهم من المشركين: قد أظلَّ زمانُ نبيٍّ يخرجُ بتصديقِ ما قلنا، فنقتلُكم معَهُ قتلَ عادٍ وإِرَم (¬1). {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ بني إسرائيل، وعرفوا نعتَهُ وصِدْقَه. {كَفَرُوا بِهِ} بغيًا وحسدًا. {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، ورُوَيسٌ: (الْكَافِرِينَ) بالإمالة حيثُ وقعَ بالياء (¬2)، مجرورًا كان أو منصوبًا، واختُلف عن ابنِ ذكوان في الإمالة والفتحِ، وأماله ورشٌ بينَ بينَ، وفتحَه الباقون، وجوابُ لما ولما الثانية في قوله: (كفروا)، وأعيدت لما الثانية؛ لطولِ الكلام، ويفيدُ ذلك تقريرًا للذَّنب وتأكيدًا له. {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}. [90] {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (بِيسَ) ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/ 34)، وانظر "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 215 - 216). (¬2) "بالياء" سقطت من "ن".

بغير همز (¬1)، وبِئْسَ ونِعْمَ فعلانِ ماضيان وُضِعا للمدح والذَّمِّ، ولا يتصرَّفان تصرُّفَ الأفعال، معناه: بئسَ الذي اختاروا لأنفسِهم حينَ استبدلوا (¬2) الباطلَ بالحق. {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني: القرآن. {بَغْيًا} أي: حسدًا، وأصلُ البغي: الفسادُ، والبغيُ الظلمُ، وأصلُه الطلبُ؛ فالباغي طالبٌ (¬3) للظلمِ، والحاسدُ يظلمُ المحسودَ جهدَهُ طلبًا لإزالةِ نعمةِ الله عنه. {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} النبوة والكتاب. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (يُنْزِلَ) بالتخفيف مع إسكان النون (¬4)، والباقون بفتح النون والتشديد (¬5). {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -. {فَبَاءُوا} رجعوا. ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) في "ت": "استبدوا". (¬3) في "ن": "الطالب". (¬4) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 124)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 143)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 86). (¬5) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 106)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 164)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 85)، و"الكشف" لمكي (1/ 253)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 123)، و"تفسير البغوي" (1/ 76)، و"التيسير" للداني (ص: 75)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 143)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 86).

[91]

{بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أي: مع غضب، الغضبُ الأولُ بتضييعِهم التوراةَ وتبديلِهم، والثاني بكفرِهم بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَلِلْكَافِرِينَ} الجاحدين بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الناس كلِّهِم. {عَذَابٌ مُهِينٌ} مُخْزٍ يُهانون فيه. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}. [91] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني: القرآن. قرأ أبو عمرٍو: (قِيل لَّهُمْ) بإدغام اللام في اللام (¬1). {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعني: التوراةَ، يكفينا ذلك. {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أي: بما سواهُ من الكتب. {وَهُوَ الْحَقُّ} يعني: القرآنَ. {مُصَدِّقًا} نصب على الحال. {لِمَا مَعَهُمْ} من التوراة. {قُلْ} لهم يا محمد. {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} أي: قَتَلَ آباؤكُم، ولمّا رضيتُم بفعلهم، فكأنكم قد قتلتم. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 143)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 87).

[92]

{أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} ولمَ أصلُه (لما)، فحذفت الألف فرقًا بين الخبر والاستفهام؛ كقولهم: فيمَ، وبمَ. وقفَ البزيُّ ويعقوبُ، بخلافٍ عنهما: (فَلِمَهْ) بالهاء، وكذلك (لِمَهْ، وفِيمَهْ، وبِمَهْ، وعَمَّهْ، ومِمَّهْ) حيثُ وقع. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بالتوراة، وقد نُهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام. {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}. [92] {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات الواضحة، والمعجزات. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وابنُ ذَكوانَ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ) بإظهارِ الدال عند الجيم، وكذلك عند السين والشين والصاد حيث وقع، والباقون بالإدغام (¬1). {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} بما صدرَ منكم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ (اتخذتم) بإظهار الذال عندَ التاء، واختُلف عن رُويسٍ، والباقون بالإدغام (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للفراء (ص: 1/ 172)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 87). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 87).

[93]

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}. [93] {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} وقلنا: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ} في التوراة. {بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} أي: استجيبوا وأطيعوا، سميت الطاعةُ والإجابةُ سمعًا على المجاوزة؛ لأنه سببُ الطاعة والإجابة. {قَالُوا سَمِعْنَا} قولَك بالآذان. {وَعَصَيْنَا} أمرَكَ بالقلوب، والمعصيةُ: مخالفةُ الأمر قَصدًا. قالَ أهلُ المعاني: إنهم لم يقولوا هَذا بألسنتهم، ولكن لما سمعوا وتلقوه بالعصيان، نُسب ذلك إلى القولِ اتِّساعًا. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي: حُبَّه، معناه: أُدْخِل في قلوبهم حبُّ العجل وخالَطَها. {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أن تعبدوا العجلَ من دونِ الله؛ أي: بئسَ إيمان يأمرُ بعبادةِ العجل. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بزعمكم، وذلك أنهم قالوا: نؤمنُ بما أُنزل علينا، فكذبهم الله -عزَّ وجل-.

[94]

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}. [94] {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ} وذلك أن اليهود ادَّعَوْا دَعاوى باطلةً مثلَ قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] و {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] وقولهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فكذبهم الله -عزَّ وجلَّ-، وألزمهم الحجَّةَ، فقالَ: قُلْ لهم يا محمدُ: إنْ كانَتْ لكمُ الدارُ الآخرةُ، يعني: الجنةَ عندَ اللهِ. {خَالِصَةً} خاصَّةً. {مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أي: اطلبوه وسلوه؛ لأن من علمَ أن الجنةَ مأواه، حَنَّ إليها، ولا سبيلَ إلى دخولها إلا بعدَ الموت، فاستعجِلوه بالتمني. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، لَغَصَّ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِرِيقِهِ، وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ يَهودِيٌّ إلَّا مَاتَ" (¬1). قال الله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}. [95] {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} لعلمهم أنهم كاذبون في دعواهم، وأراد بما قدمت أيديهم: ما قدَّموا من الأعمال، وأضافَ إلى اليد؛ لأن أكثرَ جناياتِ الإنسانَ تكونُ باليد. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 425)، عن ابن عباس موقوفًا عليه.

[96]

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} تهديدٌ شديد؛ لأن علمَه بهم كعلمِه بغيرهم، ثم قال مخاطبًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}. [96] {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} اللامُ لامُ القسم، والنونُ تأكيده، تقديرُه: واللهِ لتجدنَّهم يا محمدُ؛ يعني: اليهود. {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} متطاولةٍ، وهي حياتهم التي هم فيها. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي: وأحرصَ من الذين أشركوا، والمراد بالذين أشركوا: المجوسُ، سُمُّوا مشركين؛ لأنهم يقولون بالنور والظلمة. {يَوَدُّ} يتمنى. {أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} يعني: يعيشُ. {أَلْفَ سَنَةٍ} وهي تحيَّةُ المجوس فيما بينهم: عشْ ألفَ سنةٍ، يقول الله تعالى: اليهودُ أحرصُ على الحياة منَ المجوسِ الذين يقولونَ ذلك. {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} بمباعده. {مِنَ الْعَذَابِ} من النار. {أَنْ يُعَمَّرَ} أي: طولُ عمرِه لا يُنقذه من العذابِ.

[97]

{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم. قرأ يعقوبُ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، والباقون بالغيب (¬1). {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}. [97] {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} قرأ ابنُ كثيرٍ: (جَبْرِيلَ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (جَبْرَئِيلَ) بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة بعدها ياء، وأبو بكرٍ: (جَبْرَئِلَ) بفتح الجيم والراء وحذف الياء بعد الهمزة، والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز، كلُّها لغات (¬2). قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "إنَّ حبرًا من أحبارِ اليهودِ يُقال له: عبدُ الله بنُ صوريا قالَ للنبِّي - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ ملكٍ يأتيكَ من السَّماء؟ قال: "جِبْرِيلُ"، قال: ذاكَ (¬3) عدوُّنا من الملائكة، ولو كانَ ميكائيلَ، لآمنَّا بكَ؛ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 200)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 144)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 89). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 200 - 201)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 107)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 166 - 167)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 127)، و"تفسير البغوي" (1/ 80 - 81)، و"التيسير" للداني (ص: 75)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 219/2)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 144)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 89 - 90). (¬3) في "ت": "ذلك".

إن جبريلَ ينزلُ بالعذاب والقتالِ والشدَّة، وإنَّه عادانا مِرارًا، وكانَ أشدَّ ذلك علينا أنَّ الله أنزلَ على نَبِيِّنا أنَّ بيتَ المقدِسِ سَيُخَرَّبُ على يدِ رجلٍ يُقال لهُ: بُخْتَ نَصَّر، وأخبرَ بالحين الذي يخربُ فيه، فلما كانَ وقتُه، بعثْنا رجلًا من أقوياءِ بني إسرائيل في طلبِه ليقتلَهُ، فانطلقَ حتى لقيَه ببابل غلامًا مسكينًا، فأخذَهُ ليقتلَه، فدفعَ عنه جبريلُ، وكبر بخت نصّر وقوي، فغزانا وخَرَّبَ بيتَ المقدس، فلهذا نَتَّخذُه عدوًا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} (¬1). {فَإِنَّهُ} يعني: جبريل. {نَزَّلَهُ} يعني: القران؛ كنايةً عن غير مذكور. {عَلَى قَلْبِكَ} يا محمدُ. {بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمرِ الله. {مُصَدِّقًا} موافقًا. {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما قبلَه من الكتب. {وَهُدًى} أي: هداية. {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَبُشْرى) بالإمالة (¬2)، وتقدَّم الاختلاف في إبدال الهمز (¬3) في (المؤمنين) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 297). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 127)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 144)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 91). (¬3) في "ن": "الهمزة". (¬4) عند تفسير الآية (3) من سورة البقرة.

[98]

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}. [98] {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} خَصَّهما بالذكر من جملة الملائكة، مع دخولهما في قوله: وملائكته (¬1)؛ تفضيلًا وتخصيصًا؛ كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] حصَّ النخلَ والرمانَ بالذكر معَ دخولهما في ذكرِ الفاكهةِ، والواو فيهما بمعنى (أو)؛ يعني: من كان عدوًا لأحد هؤلاء؛ لأن الكافرَ بالواحد كافرٌ بالكل. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وحفصٌ (مِيكَالَ) بغير همزة (¬2) ولا ياء بعدها. وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (مِيكَائِلَ) بهمزة من غير ياء بعدها. وقرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفُ: (وَمِيكَائِيلَ) بهمزةٍ بعدها ياءٌ، وتقدم الخلاف في (جبريل) (¬3). {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} تلخيصُه: من عاداهم، عاداه الله، ومن عاداه الله، عذَّبه. وقد روي أن جبريل -عليه السلام- نَزَلَ على آدمَ اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربعَ مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى يوسفَ أربع مرات، وعلى موسى أربعَ مئةِ مرةٍ، وعلى عيسى عشرَ مرات، وعلى محمدٍ أربعةً وعشرينَ ألفَ مرَّةٍ -صلوات الله عليهم أجمعين-، ولم يُذكر في القرآن من الملائكة باسمه سوى أربعة: ¬

_ (¬1) "ملائكته" سقطت من "ن". (¬2) في "ن": "همز". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 81)، عند تفسير الآية (97) من هذه الآية.

[99]

جبريل، وميكايل، والرعد، ومالك في قوله في سورة الزخرف: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، وأُشير إلى إسرافيلَ في سورة في قوله: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41]، وأُشيرَ إلى عزرائيلَ في الم السجدة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11]، وبقيةُ الملائكة ذُكروا إجمالًا، وأُشير إلى بعضهم كالحفظةِ والسائقِ والشهيدِ، ومعنى جبريل وميكائيل: عبد الله، فجبر وميك: هما (¬1) العبد، وإيل وآل: هو الله، وكذلك إسرافيل، فقال ابن صوريا: ما جئتنا يا محمدُ بشيءٍ نعرفه، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}. [99] {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحاتٍ مفصَّلاتٍ بالحلالِ والحرامِ، والحدودِ والأحكامِ. {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} الخارجون عن أمر الله -عز وجل-. {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}. [100] {أَوَ} واو العطف دخلَتْ عليها ألفُ الاستفهام، تقديره: أكفروا بالبينات. ¬

_ (¬1) في "ن": "فجبر وهماميك".

و {كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا} يعني: اليهودَ عاهدوا: لئنْ خرجَ محمدٌ، لنؤمننَّ به، فلما خرجَ محمدٌ كفروا به. قال ابنُ عباسٍ: لما ذكرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ما أخذَ اللهُ عليهم، وعَهِدَ إليهم في محمدٍ أن يؤمنوا به، قال مالكُ بنُ الصيفِ (¬1): واللهِ ما عهدَ إلينا في محمدٍ عهدًا، فأنزل الله هذه الآيةَ (¬2). يدلُّ عليه قراءةُ أبي رجاء العطارديِّ: (أَوَ كُلَّمَا عُوهِدُوا) فجعلهم مفعولين (¬3). {نَبَذَهُ} طرحَهُ ونقضَه. {فَرِيقٌ} طوائفُ. {مِنْهُمْ} من اليهود. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} بالتوراةِ، ولا يبالون بالدين، فلا يعتدُّون بنقض العهد. {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ظ": "الضيف". (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 447)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 183). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 81)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 85)، و"تفسير الرازي" (1/ 426)، و"البحر المحيط" لأبي حيَّان (1/ 324)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 144)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 93).

[101]

[101] {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} يعني: التوراةَ، وقيل: القرآنَ؛ أي: لم يعملوا بما فيها. {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} كانوا يقرؤون التوراة ولا يعملون بها. {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}. [102] {وَاتَّبَعُوا} يعني: اليهود. {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أي: ما تلتْ؛ أي: تكلمتْ به. والعربُ تضعُ المستقبل موضعَ الماضي وعكسه. {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي: على زمنِ ملكه، وهو سليمانُ بنُ داودَ -عليهما السلام-، عاش اثنتين وخمسين سنة، ومدَّةُ ملكِه أربعون سنة، ووفاتُه في أواخر سنةِ خمسٍ وسبعين وخمسِ مئةٍ لوفاةِ موسى -عليه السلام- وبين وفاتهِ والهجرةِ الشريفةِ الإسلاميةِ ألفٌ وسبعُ مئةٍ وثلاثٌ

وسبعون سنةً، ونُقل أنَّ قبرَه بالبيت المقدَّس (¬1) عند الجيسمانية، وأنه هو وأبوه داودُ في قبرٍ واحد. وقصةُ الآيةِ: أن الشياطينَ كتبوا السحرَ والنيرِنْجيَّاتِ على لسانِ آصَف: هذا ما علَّمَ آصَفُ بنُ برخيا سليمانَ الملكَ، ثم دفنوها تحت مصلَّاه حين نزعَ اللهُ الملكَ عنه، ولم يشعرْ سليمانُ بذلك، فلما ماتَ، استخرجوها، وقالوا للناس: إنما مَلَكَكم سليمانُ بهذه، فتعلَّموها، فأما علماءُ بني إسرائيل وصلحاؤهم، فقالوا: معاذ اللهِ أن يكون هذا من علمِ سليمانَ، وأما السِّفْلَةُ، فقالوا: هذا علمُ سليمان، وأقبلوا على تعلُّمه، ورفضوا كتبَ أنبيائهم، وفَشَتِ الملامةُ لسليمانَ، فلم يزل هذا حالهم حتى بعثَ اللهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأنزلَ عليه براءةَ سليمان، فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بالسحر وعملِهِ. {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} باستعمالِ السحر وكَتْبِه. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَكِنْ) خفيفةَ النون (الشَّيَاطِينُ) رفعٌ، والباقون: (وَلِكَنَّ) مشدَّدَةَ النون (الشَّياطِينَ) نَصْب (¬2). ومعنى (لكن) نفيُ الخبر الماضي، وإثباتُ المستقبَلِ. {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} والسحرُ عبارةٌ عن التَّمويهِ والتخييل، ووجودُه ¬

_ (¬1) في "ن": "ببيت المقدس". (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 108)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 167)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 86)، و"الكشف" لمكي (1/ 256)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 127)، و"تفسير البغوي" (1/ 84)، و"التيسير" للداني (ص: 75)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 219)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 142)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 94).

حقيقةٌ عندَ أهل السنَّةِ، وعليهِ أكثرُ الأممِ، وهو محرَّمٌ بالإجماع. واختلف الأئمةُ فيمن يتعلَّمُ السحرَ ويستعملُه، فقال أبو حنيفةَ ومالك: يكفرُ بذلك، وبعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ فصَّل، فقال: إن تعلَّمه ليتقيَهُ، أو ليتجنبَهُ، فلا يكفرُ، وإن تعلَّمه معتقِدًا لجوازِه، أو أنه ينفعهُ، فإنه يكفرُ. وقال الشافعي: إذا تعلَّمَ السحرَ قلنا له: صِفْ سحرَكَ، فإن وصفَ ما يوجبُ الكفرَ، مثل ما اعتقدَهُ أهلُ بابلَ من التقرُّب إلى الكواكبِ السبعةِ، وأنها تفعلُ ما يُلتمس منها، فهو كافرٌ، وإن كانَ لا يوجبُ الكفرَ، فإن اعتقدَ إباحتهُ، كفر، وإلَّا فلا. وقال أحمدُ: الساحرُ الذي يركبُ المِكنسةَ، فتسيرُ به في الهواء، ونحوه؛ كالذي يدَّعي أن الكواكبَ تخاطبهُ، يكفرُ، ويقتلُ هو ومن يعتقدُ حلَّه، فأما الذي يسحرُ بالأدويةِ والتَّدخين (¬1) وسَقْيِ شيءٍ يضرُّ، فلا يكفر، ويعزَّرُ. ويقتل بمجرد تعلُّمه واستعمالِه عند مالكٍ، وإن لم يقتلْ به. وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: لا يُقتل بذلك، فإن قتلَ بالسحر، قُتل عندَهما، إلا أن أبا حنيفة قال: لا يُقتل حتى يقرَّ بأني (¬2) قتلتُ إنسانًا بعينِه. وقال الشافعي: لو قالَ: قتلتُه بسحري، وسحري يقتلُ غالبًا، فقد أقرَّ بقتلِ العَمْدِ، كان قال: وهو يقتلُ نادرًا، فهو إقرارٌ بشبهِ العمدِ، كان قال: أخطأتُ من اسمِ غيرِه إلى اسمه، فهو إقرارٌ بالخطأ، ثم ديةُ شبهِ العمدِ، ¬

_ (¬1) في "ت": "التسخين". (¬2) في "ت": "أني".

وديةُ الخطأ مخففة، كلاهما في مال الساحر، لا تُطالَبُ العاقلةُ بشيء إلا أن يصدِّقوه؛ لأن إقرارَه عليهم لا يُقبل. وقال أحمد: إن قتلَ بفعلهِ غالبًا اقْتُصَّ منه، وإلا الديةُ. ويقتل حدًّا عندَ أبي حنيفةَ، ومالك. وقال الشافعيُّ وأحمدُ: يُقتل قصاصًا، وتقبل توبتُه عند الشافعيِّ. وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ -في المشهور عنه-، وأحمدُ في أصح روايتيه: لا تُقبل. وأما ساحرُ أهلِ الكتابِ، فقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ: لا يقتل، وقال أبو حنيفة: يُقتل. وأما المسلمةُ الساحرةُ، فقال الثلاثة: حكمُها حكمُ الرجل، وقال أبو حنيفةَ: تُحبس ولا تُقتل. {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} أي: ويعلِّمون الذي أُنزل على الملكين؛ أي: أُلهما وعُلِّما، فالإنزالُ بمعنى الإلهامِ والتعليم، وبابلُ: هي بابلُ العراق، سميت به لتبلبلِ الألسُنِ بها عند سقوطِ صرحِ نمرود؛ أي: تفرُّقِها. والأصحُّ مما قيل في ذلك: أن الله سبحانه امتحنَ الناس بالملَكَين في ذلك الوقت، فالشقيُّ بِتَعَلُّمِه (¬1) فيكفرُ، والسعيد بِتَرْكِهِ (¬2) فيبقى على الإيمان. {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسمان سريانيان، وهما في محل الخفض على ¬

_ (¬1) في "ن" و"ظ": "يتعلمه". (¬2) في "ظ": "يتركه".

تفسير الملكين، إلا أنهما نُصبا لعجمتِهما وتعريفِهما، وكانت قصتهما أن الملائكة رأوا ما يصعدُ إلى السماء من أعمالِ بني آدم الخبيثةِ في زمن إدريس -عليه السلام- فعيروهم، وقالوا: هؤلاء الذين جعلتَهُم في الأرض واخترتَهُمْ، فهم يعصونك، فقال الله -عز وجل-: لو أنزلتُكم (¬1) إلى الأرضِ ورَكَّبْتُ فيكم ما رَكَّبْتُ فيهم، ارتكبتُمْ مثلَ ما ارتكبوا، فقالوا: سبحانَكَ ما ينبغي لنا أن نَعصيَك، قال الله تعالى: فاختاروا مَلَكَينِ من خِياركم أهبطهُما إلى الأرضِ، فاختاروا هاروتَ وماروتَ، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدِهم، فركَّبَ الله فيهما الشهوةَ، وأهبطَهما إلى الأرض، وأمرَهما أن يحكما بينَ الناس بالحقِّ، ونهاهُما عن الشِّرْكِ، والقتلِ بغير الحقِّ، والزنا، وشربِ الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومَهُما، فإذا أمسيا ذكرا اسمَ الله الأعظم، وصَعِدا إلى السماء، فما مرَّ عليهما شهرٌ حتى افتتنا جميعًا، وذلك أن الزُّهْرَةَ -امرأة من أجمل النساء- جاءتهما تخاصمُ زوجَها إليهما، فوقعتْ في أنفسهما، فراوداها عن نفسها، فأبت وانصرفت، ثم عادت في اليوم الثاني، ففعلا مثلَ ذلك، فأبت وقالت: لا، إلا أن تعبُدا ما أعبد، وتصلِّيا لهذا الصنم، وتقتلا النفسَ، وتشربا الخمر، فقالا: لا سبيلَ إلى هذه الأشياء؛ فإن الله قد نهانا عنها، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث، ومعها قدحٌ من خمر، وفي أنفسِهما من الميل إليها ما فيها، فراوداها عن نفسها، فعرضت عليهما ما قالت بالأمس، فقالا: الصلاةُ لغيرِ الله عظيمٌ، وقتلُ النفس عظيم، وأهونُ الثلاثةِ شربُ الخمر، فشربا الخمرَ، فانتشَيا، ووقعا بالمرأة فزنيا، فلما فرغا، رآهما إنسانٌ فقتلاه، ¬

_ (¬1) في "ت": "نزلتكم".

وسجدا للصنم، فمسخَ الله الزُّهرةَ كوكبًا، وحُكي غيرُ ذلك، فلما أمسى هاروت وماروت بعدَما قارفا الذنب؛ أي: اكتسباه، هَمَّا بالصعود إلى السماء، فلم تطاوعْهما أجنحتُهما، فعلما ما حلَّ بهما، فقصدا إدريسَ النبي -عليه السلام-، فأخبراه بأمرِهما، وسألاه أن يشفعَ لهما إلى الله، وقالا له: إنا رأيناكَ يصعدُ لكَ من العبادة مثلُ ما يصعد لجميع أهل الأرض، فاستشفعْ لنا إلى ربك، ففعلَ ذلك إدريسُ، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذابَ الدنيا؛ إذ عَلِما أنه ينقطع، فهما ببابلَ يعذَّبان إلى قيام الساعة (¬1). وروي أن رجلًا قصدَ هاروتَ وماروتَ لتعلُّم السحر، فوجدهما معلَّقينِ بأرجلهما، مزرقَّةً أعينُهما، مسودَّةً جلودُهما، ليس بينَ ألسنتِهما وبينَ الماء إلا أربعةُ أصابعَ، وهما يعذَّبان بالعطش، فلما رأى ذلك، هالَهُ مكانُهما، فقال (¬2): لا إله إلا الله، فلما سمعا كلامه، قالا له: من أنتَ؟ قال: رجلٌ من الناس، قالا: من أي: أمة؟ قال: من أمةٍ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، قالا: وقد بُعث محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم قالا: الحمدُ لله، وأظهرا الاستبشارَ، فقال (¬3) الرجل: بم استبشارُكما؟ قالا: إنه نبيُّ الساعة، وقد دنا انقضاءُ عذابنا (¬4). {وَمَا يُعَلِّمَانِ} يعني: الملكين. {مِنْ أَحَدٍ} أي: أحدًا، و (مِنْ) صلة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 100 - 101). (¬2) في "ت": "فقالا". (¬3) في "ن": "فسأل". (¬4) المرجع السابق: (1/ 101).

{حَتَّى} ينصحاهُ أولًا. و {يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي: ابتلاءٌ ومحنةٌ. {فَلَا تَكْفُر} أي: لا تتعلم السحرَ لتعملَ به فتكفرَ، وأَصلُ الفتنة: الاختبارُ والامتحانُ، فإن أبي إلا التعلم (¬1)، قالا له: ائتِ هذا الرمادَ فَبُلْ عليه، فيخرجُ منه نورٌ ساطع في السماء، فتلكَ المعرفةُ، وينزل شيء أسودُ شبهُ الدخان حتى يدخلَ مسامعه، وذلك غضبُ الله -عز وجل-. قال مجاهد: إن هاروتَ وماروتَ لا يصلُ إليهما أحدٌ، ويختلفُ فيما بينَهُما شيطانٌ في كلِّ مسألةٍ اختلافةً واحدةً. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهو أن يؤخذَ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه، ويُبَغَّضَ كلُّ واحدٍ إلى صاحبه، قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ} أي: السحرةُ أو الشياطينُ. {بِضَارِّينَ بِهِ} أي: بالسحر. {مِنْ أَحَدٍ} أي: واحدًا. {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بقضاء الله وقدره ومشيئته. {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} يعني: السحرُ يضرهم. {وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا} يعني: اليهود. {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أي: اختارَ السحرَ. قوأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (اشْتَرِيه) بالإمالة (¬2). ¬

_ (¬1) في "ن": "التعليم". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 168)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 127)، =

{مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ} أي: في الجنة. {مِنْ خَلَاقٍ} نصيبٍ، خبرٌ. {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا} أي: باعوا. {بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي: حظَّ أنفسِهم؛ حيثُ اختاروا السحرَ والكفرَ على الدينِ والحقِّ. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يعني: اليهود، وقولُه: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بعدَ قوله {وَلَقَد عَلِمُواْ} أي: لما لم يعملوا بما علموا، فكأنهم لم يعلموا. وقد أنكر القاضي عياضٌ -رحمه الله- قصةَ هاروتَ وماروتَ، ونسبَ ما قيل فيها من الأخبار إلى كتب اليهودِ وافترائهم كما نَصَّهُ الله أولَ الآيات من افترائهم بذلك على سليمان، وتكفيرهم إياه، وحَكى عن خالدَ بنِ أبي عمرانَ أنّه نزَّههما عن تعليم السحر، وحكى قولًا: أن هاروتَ وماروتَ عِلجان (¬1) من أهل بابل، وقيل: كانا ملكين من بني إسرائيل، فمسخهما الله، والله أعلم (¬2). ¬

_ = و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 144)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 96). (¬1) في "ن": "علمان". (¬2) انظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض (2/ 853). قال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 142): وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصَّها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ =

[103]

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}. [103] {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والقرآنِ. {وَاتَّقَوْا} اليهوديةَ والسحرَ. {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لكانَ ثوابُ الله إياهم. {خَيْرٌ} لهم. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: أن ثوابَ الله خيرٌ مما هم فيه. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}. [104] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: راعِنا يا رسول الله؛ من المراعاة؛ أي: أَرْعِنا سمعَكَ؛ أي: فَرِّغْ سمعَك لكلامنا، وكانت هذه اللفظة شيئًا قبيحًا بلغة اليهود؛ بمعنى الحمقِ والرعونة، فإذا أرادوا أن يحمِّقوا إنسانًا، قالوا له: راعِنا؛ أي: يا أحمق، فلما سمع اليهودُ هذه اللفظةَ من المسلمينَ، قالوا فيما بينهم: كنا ¬

_ = ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القران على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.

[105]

نسبُّ محمدًا سرًّا، فأعلنوا به الآن، وكانوا يأتونه ويقولون: راعِنا يا محمدُ، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعدُ بنُ مُعاذٍ، ففطنَ لها، وكان يعرفُ لغتَهم، فقال لليهود: لئن سمعتُها من أحدٍ منكم يقولُها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأضربنَّ عنقَهُ، فقالوا: أولستُمْ تقولونها؟ فأنزل الله هذه الآية نهيًا للمؤمنين عن التشبُّه بهم، وقطعًا للذريعة لكيلا يجد اليهود والمنافقون بذلك سبيلًا إلى شَتْم رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). {وَقُولُوا انْظُرْنَا} أي: انظرْ إلينا. {وَاسْمَعُوا} ما تؤمرون به؛ أي: وأطيعوا. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني: الذين تهاونوا بالرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وسَبُّوه، وهم اليهود. {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}. [105] {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية، وذلك أن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد، قالوا: ما هذا ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 17)، و"تفسير البغوي" (1/ 102)، و"العجاب" (1/ 244)، و"فتح الباري" كلاهما لابن حجر (8/ 163)، و"لباب النقول" للسيوطي (ص: 24). قال ابن حجر: رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة" عن ابن عباس بسند ضعيف جدًّا.

[106]

الذي تدعوننا إليه بخير مما نحنُ عليه، وودِدْنا (¬1) لو كان خيرًا، فأنزل الله تكذيبًا لهم (¬2): {مَا يَوَدُّ} أي: ما يحب ويتمنَّى. {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني: اليهود. {وَلَا الْمُشْرِكِينَ} جرُّهُ بالنسق على (مِن)، والمرادُ: مشركو العرب؛ كأبي سفيانَ وغيرِه، والشركُ: وضعُ الشيءِ معَ مثله. {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: خيرًا ونبوةً، و (مِنْ) صلة. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوب: (يُنْزَلَ) بالتخفيف مع إسكان النون، والباقون بالتشديد مع فتح النون (¬3). {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أي: بنبوته. {مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والفضلُ: ابتداءُ الإحسان بلا عِلَّة. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [106] {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قرأ العامَّةُ: بفتح النون والسين من ¬

_ (¬1) في "ن" و"ت": "وودنا". (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 17)، و"تفسير البغوي" (1/ 103)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 347). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 98).

النسخ؛ أي: نرفعها. وقرأ ابنُ عامرٍ: (نُنْسِخْ) بضم النون الأولى، وكسر السين؛ من الإِنساخ؛ أي: نجعله من المنسوخ (¬1)، وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدًا يأمرُ أصحابَه بأمرٍ، ثم ينهاهم عنه ويأمرُهم بخلافه، ما يقولُه إلا من تلقاء نفسه، يقول لهم اليومَ قولًا، ويرجعُ عنه غدًا؛ كما أخبر الله تعالى بقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]، وأنزلَ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}، فبيَّنَ وجهَ الحكمةِ في النسخ بهذهِ الآية. {أو ننسئها} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: بفتحِ النونِ والسين، وهمزةٍ ساكنة بين السين والهاء؛ أي: نُؤَخِّرْها في اللوح المحفوظ. وقرأ الباقون: (نُنْسِها) بضم النون وكسر السين من غير همز؛ أي: نجعلْها منسيَّةً، أي: متروكةً (¬2). {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أي: بما هو أنفعُ لكم، وأسهلُ عليكم، وأكثرُ ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 109)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 168)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 86)، و"الكشف" لمكي (1/ 257)، و"تفسير البغوي" (1/ 90)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 219)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 98). غير أنه وقع من مطبوعة "تفسير البغوي": قراءة العامة بفتح النون وكسر السين. والصحيح أنها بفتح السين، كما مرَّ في مراجع القراءات آنفًا. (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 109)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 168)، و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 206)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 86)، و"الكشف" لمكي (1/ 258)، و"تفسير البغوي" (1/ 90)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 219)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 145)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 99).

[107]

لأجركم، لا أن آيةً خيرٌ من آية؛ لأنَّ كلامَ الله واحدٌ كلُّه خيرٌ. {أَوْ مِثْلِهَا} في المنفعةِ والثوابِ، فكلُّ (¬1) ما نُسخَ إلى الأيسر، فهو أسهلٌ في العمل، وما نُسخ إلى الأشقِّ، فهو في الثوابِ أكثرُ. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من النسخِ والتبديلِ، لفظُه استفهامٌ، ومعناهُ تقريرٌ؛ أي: إنك تعلم. والنسخُ لغة؛ الرفعُ والإزالةُ، ومنه نسختِ الشمسُ الظلَّ، والنقلُ نَسَخْتُ الكتاب، وشرعًا: رفعُ حكمٍ شرعيٍّ متراخٍ، والمنسوخُ: الحكمُ المرتفعُ بالناسخِ، والناسخُ حقيقةً هو اللهُ، وأهلُ الشرائعِ على جوازه عقلًا، ووقوعِهِ شرعًا، وخالفَ أكثر اليهودِ في الجواز، ويجوزُ النسخُ قبلَ الفعلِ بعدَ دخولِ الوقتِ بالاتفاق، ويجوز نسخُ التلاوة دونَ الحكم، وعكسُه، وهما بالاتفاق، ويجوزُ نسخُ قرآنٍ وسنَّةٍ متواترةٍ بمثلِهما (¬2)، وسُنَّة بقرآنٍ بالاتفاق، ولا حكمَ للناسخِ معَ جبريلَ -عليه السلام- اتفاقًا، فإذا بلغه، لم يثبتْ حكمُه في حقِّ من لم يبلغه. وزيادةُ عبادةٍ مستقلَّةٍ من غيرِ الجنسِ ليستْ نسخًا، وكذا من الجنس، بالاتفاق. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}. [107] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ} يا معشرَ الكفار عندَ نزولِ العذاب. ¬

_ (¬1) في "ت": "وكل". (¬2) في "ن": "بمثلها".

[108]

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} مما سِوى الله. {مِنْ وَلِيٍّ} وقريبٍ ولا صديقٍ. {وَلَا نَصِيرٍ} ناصرٍ يمنعُكم من العذاب. {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}. [108] {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} نزلَتْ في اليهود حينَ (¬1) قالوا: يا محمدُ ايتنا بكتابٍ من السماءِ جملةً كما أتى موسى بالتوراة، قال الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} يعني: أَتُريدون، والميمُ صلةٌ. {أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} سألَهُ قومُه، فقالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]، ففيه منعُهم عن السؤالات المقترحَةِ بعدَ ظهورِ الدلائل والبراهين. {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ} أي: أخطأ. {سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: وسط الطريق. قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وقالونُ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (فَقَدْ ضَلَّ) بإظهار دال (قد) عند الضاد، وكذلك عند الظاء والذال والزاي حيث وقع، وافقهم وَرْشٌ عند الذال والزاي (¬2). ¬

_ (¬1) في "ن": "حيث". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 103).

[109]

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}. [109] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} نزلت في نفرٍ من اليهود قالوا لحذيفةَ بنِ اليمانِ وعمَّارِ بنِ ياسرٍ بعدَ وقعةِ أُحُدٍ: لو كنتم على الحقِّ، ما هُزمتم، فارجعا إلى ديننا، فنحن أَهْدى سبيلًا منكم، فقال لهم عمار: وكيفَ نقضُ العهدِ فيكم؟ قالوا: شديدٌ، قال: فإِنّي عاهدتُ اللهَ ألا أكفرَ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما عشتُ، فقالت اليهود: أما هذا، فقد صبأَ، وقال حذيفةُ: أما أنا (¬1) رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا، وبالكعبة قبلةً، وبالمؤمنينَ إخوانًا، ثم أتيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه بذلك، فقال: "أَصَبْتُمَا الخَيْرَ وَأَفْلَحْتُمَا"، فأنزل الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ} (¬2) أي: تمنى، وأرادَ: أهلَ الكتابِ من اليهود. {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} يا معشرَ المؤمنين. {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا} نصبٌ على المصدر؛ أي: يحسدونكم حسدًا. {مِنْ عِنْدِ} أي: من تِلْقاء. {أَنْفُسِهِمْ} لم يأمرْهُمُ اللهُ بذلك. ¬

_ (¬1) "أما أنا" سقطت من "ن". (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص:18)، و"تفسير البغوي" (1/ 105)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 356 - 357).

[110]

{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} في التوراةِ أنَّ قولَ محمد - صلى الله عليه وسلم - صدقٌ، ودينَهُ حَقُّ. {فَاعْفُوا} أي: فاتركوا. {وَاصْفَحُوا} أي: تجاوزوا، فالعفوُ: المحوُ، والصفحُ: الإعراضُ، وكان هذا قبلَ آيةِ القتال. {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بعذابِه: القتلُ والسبيُ لبني قريظةَ، والجلاءُ والنفيُ لبني النضير. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على الانتقام منهم. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}. [110] {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا} أي: تُسْلِفوا. {لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} طاعةٍ وعملٍ صالحٍ. {تَجِدُوهُ} أي: تجدوا ثوابَهُ. {عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يَضيعُ عندَه عمل. {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}. [111] {وَقَالُوا} عطفٌ على {وَدَّ}، والضميرُ لأهلِ الكتابَيْنِ.

{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} أي: يهوديًّا، واليهودُ جمعُ هائدٍ. {أَوْ نَصَارَى} وذلك أن اليهود قالوا: لن يدخلَ الجنةَ (¬1) إلَّا من كانَ يهوديًّا، ولا دينَ إلا اليهوديةُ، وقالت النصارى: لن يدخلَ الجنةَ إلا من كان نصرانيًّا، ولا دينَ إلا النصرانيةُ، نزلتْ في وفدِ نجرانَ، وكانوا نصارى، اجتمعوا في مجلسِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - معَ اليهودِ، فكذَّبَ (¬2) بعضُهم بعضًا، قال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} شهواتُهم الباطلةُ التي تمنَّوْها على اللهِ بغيرِ الحقِّ. قرأ أبو جعفرٍ: بسكون الياء والتخفيف، مع كسر الهاء، والباقون: بتشديد الياء، وضم الهاء (¬3). {قُلْ} يا محمدُ. {هَاتُوا} أصلهُ: آتوا. {بُرْهَانَكُمْ} حُجَّتكم على ما زعمتُمْ. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دَعْواكم، ثم قال ردًّا: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}. ¬

_ (¬1) "الجنة" سقطت من "ت". (¬2) في "ت": "فكذبت". (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 207)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 217)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 104).

[112]

[112] {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أي: ليس كما قالوا، بل الحكمُ للإسلام، وإنما يدخلُ الجنةَ من أسلم. {وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي: أخلص دينه لله، وأصل الإسلام: الاستسلامُ والخضوعُ، وخُصَّ الوجهُ؛ لأنه إذا جادَ بوجهِه في السجود، لم يبخلْ بسائرِ جوارحِه. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عملِه. {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة، وإلَّا فاليومَ المؤمنونَ أشدُّ خوفًا وحُزْنًا من غيرهم؛ لنظرهم في مصيرهم، ولما قدمَ وفدُ نجرانَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أتاهم أحبارُ اليهودِ، فتناظروا حتى ارتفعتْ أصواتُهم، فقال لهم اليهود: ما أنتم على شيء من الدِّينِ، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقال لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بموسى والتوراة، فأنزل الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}. [113] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} أي: أمرٍ يصحُّ ويُعْتَدُّ به. {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} وكلا الفريقين يقرؤون الكتابَ، معناه: ليس في كتابهم هذا الاختلافُ، فدلَّ تلاوتُهم الكتابَ ومخالفتُهم ما فيه على كونهم على الباطل.

[114]

{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} يعني: آباءَهُم الذين مضوا. {مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} يقضي بينَ المحقِّ والمبطِل. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدين. قرأ السوسيُّ عن أبي عمرٍو: (يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ) (¬1) (أَعْلَمْ بِالشَّاكِرِينَ) (مَرْيَمْ بُهْتَانًا) (آدَمْ بِالْحَقِّ) وشبهه حيث وقع: بإسكانِ الميم عند الباء إذا تحرك ما قبلها تخفيفًا؛ لتوالي الحركات، فتخفى إذ ذاك بغنة، فإن سكن ما قبلها، تُرِكَ ذلك إجماعًا. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}. [114] {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي: أكفرُ وأعتى. {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يعني: بيتَ المقدس ومحاريبَهُ. {أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى} عملَ. {فِي خَرَابِهَا} هو بُخْتَ نَصَّرُ وأصحابُه، غزوا اليهودَ، وخَرَّبوا بيتَ المقدسِ، وأعانَهم على ذلك النصارى: طَيْطُوسُ الروميُّ وأصحابُه، فغزوا بني إسرائيل ثانيًا، فقتلوا مقاتلتَهم، وسبوا ذراريَّهم، وحرقوا التوراة، وخَرَّبوا بيتَ المقدس، وقذفوا فيه الجِيَفَ، وذبحوا فيه الخنازيرَ، فكان ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:145)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 105).

خرابًا إلى أن بناه المسلمون في أيامِ عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله عنه-، فأنزل الله تعالى الآية (¬1) {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (¬2). {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} أي: على وجهِ التهيُّبِ، وذلكَ أنَّ بيتَ المقدسِ موضِعُ حَجِّ النَّصارى، ومحلُّ زيارتهم، قال ابن عباس: لم يدخلْها بعد عِمارتها روميٌّ إلا خائِفًا، لو عُلِمَ به، قُتِلَ. {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} عذابٌ وهَوان، قال قتادةُ: هو القتلُ للحربيِّ، والجزيةُ للذميِّ. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو النارُ. وقيل: نزلت في مشركي مكَةَ، وأراد بالمساجد: المسجدَ الحرامَ، منعوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه من حجِّهِ والصلاةِ فيه عامَ الحُدَيبيةِ، وإذا مَنَعُوا مَنْ يَعْمُرُهُ بذكر الله، فقد سَعَوْا في خرابه {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} يعني: أهلَ مكةَ، يقول: أَفْتَحُها عليكم حتى تَدْخلوها، وتكونوا أَوْلى بها منهم، ففتحَها عليهم، وأمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مناديًا ينادي: "أَلاَ لاَ يَحُجَّنَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ" (¬3)، فهذا خوفُهم، وثبتَ الشرعُ أن ¬

_ (¬1) "الآية" سقطت من "ن". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 498)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 19)، و"تفسير البغوي" (1/ 107)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 359)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 264). (¬3) رواه البخاري (362)، كتاب الصلاة، باب: ما يستر من العورة، ومسلم (1347)، كتاب: الحج، باب: لا يحج البيت مشرك ... ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[115]

لا يُمَكَّنَ مشركٌ من دخولِ الحرم {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} والذُّل والهوانُ والقتلُ والسبيُ والنفيُ (¬1). واختلف الأئمةُ في دخولِ الكفارِ المساجدَ، فقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: يجوزُ للذميِّ دخولُ المسجدِ الحرامِ (¬2) وغيرِه بالإذنِ، ومنعَهُ مالكٌ وأحمدُ مطلقًا، والشافعيُّ يمنعُه في المسجدِ الحرام، ويُجيزه في غيرِه، ويأتي ذكرُ اختلافِهم في دخولِ الذميِّ حرمَ مكةَ، ومنعهِ من استيطانِ الحجازِ في سورة التوبة عندَ تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الآية: 28]. {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}. [115] {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} مُلْكًا وخَلْقًا. {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} تُحَوِّلوا وُجوهَكُم. {فَثَمَّ} هناك. {وَجْهُ اللَّهِ} أي: جهتُه التي أمر بها. قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: خرجَ نفرٌ من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ قبلَ تحويلِ القبلةِ إلى الكعبةِ، فأَصابهم الضَّبابُ، وحضرت الصلاةُ، فتحرَّوا القبلة، وصلَّوا، فلما ذهبَ الضَّبابُ، استبانَ لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قَدِموا، سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 107). (¬2) "الحرام" سقطت من "ن".

[116]

ذلك، فنزلت هذه الآية (¬1). وقال عبدُ الله بنُ عمرَ: نزلت في المسافرِ يصلِّي التطوُّعَ حيثما توجَّهَتْ به راحلتُه (¬2)، وقيلَ غيرُ ذلك. {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ} أي: غنيٌّ يعطي من السَّعَة. {عَلِيمٌ} بِنِيَّاتهم حيثما صلَّوا ودَعَوا. {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}. [116] {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} قرأ ابنُ عامرٍ: (قَالُوا) بغير واو، وقرأ الباقون بالواو (¬3). [و] (¬4) نزلتْ في يهود المدينة؛ حيث قالوا: عزيرٌ ابنُ الله، وفي نصارى نجران حيثُ قالوا: المسيحُ ابنُ الله، وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكةُ بناتُ الله (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 19)، و"تفسير البغوي" (1/ 108). (¬2) رواه مسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 110)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 168)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 88)، و"الكشف" لمكي (1/ 260)، و"تفسير البغوي" (1/ 96)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 133)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 220)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 146)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 106). (¬4) زيادة من "ن". (¬5) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 20)، و"تفسير البغوي" (1/ 108)، =

[117]

{سُبْحَانَهُ} نَزَّهَ وعظَّمَ نفسَهُ. {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عَبيدًا ومُلْكًا. {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي: طائِعون. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. [117] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أبدعَ؛ أي: اخترعَ بلا مثالٍ سَبَقَ. {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أي: قَدَّرَهُ، وأصلُ القضاءِ: الفراغُ، ومنه قيل لمن مات: قُضِي عليه؛ لفراغِه من الدنيا، ومنه قضاءُ الله وقدرُه؛ لأنه فُرِغَ منه تقديرًا وتدبيرًا، وقد وردَ لفظُ القضاءِ في القرآن على عشرةِ أوجُهٍ سيأتي ذكرُها في سورة الزخرف -إن شاء الله تعالى-. {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: احْدُثْ فيحدُث. قرأ ابن عامر: (كُنْ فَيَكُونَ) بنصب النون في جميع المواضع، إلا في آل عمران: {كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59، 60]، وفي الأنعام: {كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام: 73]، وإنما نصبَها؛ لأن جوابَ الأمرِ بالفاءِ يكونُ منصوبًا. وقرأ الباقونَ: بالرفع (¬1) على معنى: فهو يكون، فأما ¬

_ = و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 366). (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 110)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 168)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 88)، و"الكشف" لمكي (1/ 260)، و"تفسير البغوي" (1/ 97)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 220)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 146)، =

[118]

حرفُ آل عمران، فإن معناه: كنْ، فكانَ، وأما حرفُ الأنعامِ، فمعناهُ الإخبارُ عن القيامةِ، وهو كائنٌ لا محالةَ، ولكنه لما كانَ ما يُراد في القرآنِ من ذكرِ القيامة كثيرًا يذكر بلفظ الماضي؛ نحو: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الحاقة: 15، 16]، وَنحوِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، ونحو ذلك، فشابه ذلك، فرُفع، ولا شك أنه إذا اختلفت المعاني اختلفت الألفاظ. قال الأخفشُ الدمشقيُّ: إنما رفعَ ابنُ عامر في الأنعام على معنى سين الخبر؛ أي: فسيكون. {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}. [118] {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} هم الجهلَةُ المشركون، نفَى العلمَ عنهم؛ لعدمِ انتفاعهم به. {لَوْلَا} أي: هلا. {يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} عيانًا أنَّكَ رسولُه. {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} دلالة وعلامةٌ على صدقك، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: كفارُ الأمم الخالية. {مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: أشبهَ بعضُها بعضًا في الكفرِ والعمَى. ¬

_ = و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 106).

[119]

{قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أنَّها آياتٌ يجبُ الاعترافُ بها والإيمان، ثم أوضح الآياتِ فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}. [119] {أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ} أي: بالصدق، وهو القرآن. {بَشِيرًا} أي: مبشرًا لأوليائي وأهلِ طاعتي بالثوابِ الكريم. {وَنَذِيرًا} أي: منذرًا مخوِّنًا لأعدائي وأهلِ معصيتي بالعذابِ الأليمِ. {وَلَا تُسْأَلُ} هو قرأ نافعٌ ويعقوبُ: (وَلا تَسْأَلْ) بفتح التاء وجزم اللام على النهي، قال ابن عباس: وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ ذاتَ يومٍ: "لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ"، فنزلت (¬1). وقرأ الباقون (وَلاَ تُسْأَلُ) بالرفعِ على النفي؛ أي: ولستَ بمسؤولٍ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 516)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 20 - 21)، و"تفسير البغوي" (1/ 110)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 368)، و"الدر المنثور" (1/ 271)، و"لباب النقول" كلاهما للسيوطي (ص: 28). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 111)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 169)، و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 209)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 87)، و"الكشف" لمكي (1/ 262)، و"تفسير البغوي" (1/ 98 - 99)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 91)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 221)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 146)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 107).

[120]

{عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ما لهم لم يوقنوا بعدما بَلَّغْتَ، والجحيمُ: مُعْظَمُ النار. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}. [120] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وذلك أنهم (¬1) كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدنةَ، ويُطْمِعونه أنه إن أمهلَهم، اتبعوه، فأنزل الله هذه الآية (¬2)، معناه: إنك وإن هادَنْتَهم، فلا يرضوْنَ بها، وإنما يطلبون ذلك تَعَلُّلًا، ولا يرضوْنَ منك إلا باتِّبَاع ملَّتهم، والملَّةُ: الطريقةُ. {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} الذي هو الإسلام. {هُوَ الْهُدَى} الذي لا زيادةَ عليه. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} الخطابُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ به الأمةُ؛ كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي: البيانِ بأنَّ دينَ الله هو الإسلامُ، والقبلة قبلَةُ إبراهيمَ، وهي الكعبةُ. {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. ¬

_ (¬1) "أنهم" سقطت من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 110)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 21)، و"لباب النقول" للسيوطي (ص: 28).

[121]

ونزلَ في أهل السفينةِ الذين قَدِموا مع جعفرِ بنِ أبي طالبٍ، وكانوا أربعين رجلًا: اثنانِ وثلاثون من الحبشة، وثمانيةٌ من رهبان الشام، منهم بحيرا الراهبُ. وقيل: فيمن آمنَ من اليهود: عبدِ الله بنِ سلامٍ وأصحابِه، وقيلَ: في أصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: في جميع المؤمنين (¬1): {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}. [121] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} أي: يقرؤونه كما أُنزل، ولا يُحرِّفونه. {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} من المحرِّفين (¬2). {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لاستبدالِهم الضلالةَ بالهدى. {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}. [122] {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 21). (¬2) في "ن": "المجرمين".

[123]

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}. [123] {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ومعنى {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} أي: ليستْ ثَمَّ، وليس المعنى أنه يشفَعُ فيهم أحدٌ فَيُرَدُّ. {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}. [124] {وَإِذِ ابْتَلَى} أي: واذكر إذا ابتلى، والابتلاءُ: الاختبارُ، وابتلاءُ اللهِ العبادَ ليسَ ليعلمَ حالَهم بالابتلاء؛ لأنه عالِمٌ بهم، ولكن ليُعلِم العبادَ أحوالَهم حتى يعرفَ بعضُهم بعضًا. {إِبْرَاهِيمَ} هو اسمٌ أعجميٌّ، ولذلكَ لا يُجرُّ، ومعناه بالسريانية: الأبُ الرَّحيمُ، وهو إبراهيمُ بنُ تارحَ بنِ ناحورَ، وكانَ مولدُه بكوثا، ولكن نقلَهُ أبوه إلى بابلَ أرضِ نمرودَ بنِ كنعانَ، عاش إبراهيمُ -عليه السلام- مئة وخمسًا وسبعين سنةً، وقيل غيرُ ذلك، وبين وفاته والهجرةِ الشريفةِ الإسلامية ألفان وسبعُ مئةٍ وثماني عشرة سنةً، ودفن بمغارةِ حبرون (¬1) بجبلِ بيلُون تُجاهَ بيتِ المقدس مما يلي القبلةَ بمسافةٍ (¬2) تقربُ من بَريدين، فقيل: إنها ثلاثةَ عشرَ ميلًا، وقيل: ثمانيةَ عشرَ ميلًا، ثم بنى سليمانُ -عليه السلام- على المغارة حيِّزًا بأمر الله تعالى، ولم يثبتْ قبرُ نبيٍّ من الأنبياء سوى قبرِ ¬

_ (¬1) في "ن": "جبرون". (¬2) في "ن": "من مسافة".

نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بداخلِ الحُجْرَةِ الشريفةِ بِطَيْبَةَ المشرَّفَةِ، وقبرِ الخليلِ -عليه السلام- بداخلِ الحيِّزِ السُّليمانيِّ، وما عداهما من الأنبياء -عليهم السلام-، فمحل قبورهم بالظنِّ لا بالقَطْع. قرأ هشامٌ: (إبْرَاهَام) بالألفِ جميعَ ما في هذه السورة، وجملتُه خمسةَ عشرَ موضعًا، واختُلِف عن ابنِ ذكوانَ، وكذلك رُوي عنهما في مواضعَ أخرَ يأتي ذكرُها في محلِّها، جملتُها ثمانيةَ عشرَ موضعًا غيرَ ما في هذه السورة، ووجهُ خصوصيّةِ هذه المواضعِ، وهي ثلاثةٌ وثلاثون موضعًا: أنها كُتبت في المصاحف الشامية بحذفِ الياء منها خاصَّةً، وكذلك وُجدت في المصحفِ المدنيِّ، وكُتب في بعضها في سورة البقرة خاصَّةً، ورُوي عن أبن عامرٍ الألفُ في جميع القرآن (¬1). {رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} هنَّ شرائعُ الإسلام. {فَأَتَمَّهُنَّ} أي: أَدَّاهُنَّ وعملَ بهنَّ. {قَالَ} الله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} يُقْتدى بكَ في الخير. {قَالَ} إبراهيمُ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: من أولادي أيضًا، فاجعلْ منهم أئمةً يُقْتدى بهم. {قَالَ} الله تعالى: {لَا يَنَالُ} لا يصيب. {عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: مَنْ كان منهم ظالمًا لا يصيبُه عهدي؛ أي: الإمامةُ. ونصب {الظَّالمين}؛ لأن العهدَ يَنالُ كما يُنال. قرأ حمزةُ، وحفصٌ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 169)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 135)، و"تفسير البغوي" (1/ 101)، و"الكشف" لمكي (1/ 263)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 221 - 222)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 147)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 110).

[125]

(عَهْدِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1)، ومعنى الآية: لا ينالُ ما عهدتُ إليك من النبوةِ والإمامةِ من كان ظالمًا من ولدِك. {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}. [125] {وَإِذْ} عطفٌ على (إِذ) المتقدمة. {جَعَلْنَا الْبَيْتَ} يعني: الكعبة. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، وابنُ ذكوانَ، والكسائيُّ، وخَلَّادٌ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (وَإذْ جَعَلْنَا) بإظهارِ ذالِ (إذ) عندَ الجيم حيثُ وقع، والباقون: بالإدغام (¬2). {مَثَابَةً للنَّاس} أي: مرجِعًا لهم. {وَأَمْنًا} يأمَنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة، ويقولون: هم أهلُ الله، ويتعرَّضون لمن حولَهُ. {وَاتَّخِذُوا} قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ: بفتح الخاء على الخبر، والباقون: بكسرها على الأمر (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 112)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 196)، و"تفسير البغوي" (1/ 101)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 135)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 110). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 141)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 147)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 111). (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 113)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: =

{مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} والصحيحُ أن مقام إبراهيم هو الحجرُ الذي في المسجد يصلِّي خلفَه الإمامُ المقلِّدُ لمذهب الشافعيِّ، وذلك الحجرُ الذي قامَ عليه إبراهيمُ عندَ بناءِ البيت. وعن عمرَ -رضي الله عنه- أنه قال: "وافقتُ اللهَ في ثلاثٍ، ووافَقَني ربي في ثلاث: قلتُ: يا رسولَ الله! لو اتخذتَ من مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى، فأنزل الله -عز وجل-: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وقلتُ: يا رسول الله! يدخلُ عليك البَرُّ والفاجِرُ، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنينَ بالحجاب (¬1)، فأنزل الله آيةَ الحجاب، قال: وبلغني معاتبةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ نسائِهِ، فدخلتُ عليهنَّ، قلتُ: إنِ انتهيتنَّ أو ليبدلَنَّ اللهُ رسولَه خيرًا منكُنَّ، فأنزلَ الله -عز وجل-: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} (¬2) [التحريم: 5]. وأما قصةُ المقامِ، فروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لما أتى إبراهيمُ بإسماعيلَ وهاجرَ، ووضعَهما بمكَّةَ، وأتت على ذلكَ مدَّةٌ، ونزلَها الجُرْهمِيُّون، وتزوَّجَ إسماعيلُ منهم امرأةً، وماتتْ هاجَرُ، استأذنَ إبراهيمُ سارةَ أن يأتيَ مكَّةَ، فأذنتْ له، وشرطَتْ ألَّا ينزلَ، فقدمَ إبراهيمُ فذهبَ إلى بيتِ إسماعيل، فقال لامرأته: أينَ صاحِبُك؟ قالت: ¬

_ = 196)، و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 210)، و"الكشف" لمكي (1/ 264)، و"تفسير البغوي" (1/ 102)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 135)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 222)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 147)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 111). (¬1) في "ن": "الحجاب". (¬2) رواه البخاري (4213)، كتاب: التفسير، باب: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} عن أنس. ورواه مسلم (2399)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر -رضي الله عنه-، عن ابن عمر مختصرًا.

ذهبَ يتصيَّدُ، وكان إسماعيلُ يخرج من الحَرِم فيصيدُ، فقال لها إبراهيم: هل عندَكِ ضيافةٌ؟ قالت: ليسَ (¬1) عندي، وسألها عن عَيْشِهم، فقالت: نحنُ في ضِيق وشدَّةٍ، وشكت إليه، فقال لها: إذا جاءَ زوجُكِ فأقرئيه السَّلامَ، وقولي له: فليغيرْ عتبةَ بابِه، وذهبَ إبراهيمُ فجاءَ إسماعيلُ فوجدَ ريحَ أبيه، فقالَ لامرأته: هل جاءكِ أحدٌ؟ قالت: جاءني شيخٌ من صفتِه كَذا وكَذا؛ كالمستخفَّةِ (¬2) بشأنِه، قالَ: فما قالَ لكِ؟ قالتْ: قالَ: أَقرئي زوجَكِ السلامَ، وقولي له يغيرْ عتبةَ بابه، قال: ذاكَ أبي، وقد أمرني أَنْ أفارقَكِ، الحَقِي بأهلِك، فطلَّقَها، وتزوَّجَ منهم أخرى، فلبثَ إبراهيمُ ما شاءَ الله، ثم استأذنَ سارةَ أن يزورَ إسماعيلَ، فأذنتْ له، وشرطَتْ عليه ألَّا ينزلَ فجاءَ إبراهيمُ حتى انتهى إلى بابِ إسماعيل، فقال لامرأته: أينَ صاحبُك؟ قالت: ذهبَ يتصيَّدُ، وهو يجيءُ الآن إن شاءَ الله، فانزلْ يَرْحَمْكَ الله، قال: هلْ عندَكِ ضيافةٌ؟ قالتْ: نعم، فجاءت باللبنِ واللحمِ، وسألها عن عَيْشِهم، فقالت: نحنُ بخير وسَعَة، فدعا لهما بالبركة، ولو جاءت يومئذ بخبز أو بُرٍّ أو شعيرٍ أو تمرٍ، لكانت أكثرَ أرضِ الله بُرًّا وشعيرًا وتمرًا، فقالت له: انزلْ حتى أغسلَ رأسَكَ، فلم ينزلْ، فجاءته بالمقام، فوضعَتْه عن شِقِّهِ الأيمن، فوضع قدمَه عليه، فغسلت شِقَّ رأسِهِ الأيمنَ، ثم حَوَّلَتْه إلى شِقِّه الأيسرِ، فغسلت شِقَّ رأسِه الأيسرَ، فبقيَ أثرُ قدميه عليه، فقال لها: إذا جاءَ زوجُك، فأقرئيهِ السلامَ، وقولي له: قدِ استقامتْ عتبةُ بابِكَ، فلما جاء إسماعيلُ، وجدَ ريحَ أبيه، فقال لامرأته: هل جاءكِ أحدٌ؟ قالتْ: نعمْ شيخٌ أحسنُ ¬

_ (¬1) في "ت": "ليست". (¬2) في "ن": "كالمستخفية".

الناسِ وجهًا، وأطيبُهم ريحًا، وقال لي: كذا وكذا، وقلت له: كذا وكذا، وغسلتُ رأسه، وهذا موضع قدميه، فقال: ذاك إبراهيمُ، وأنتِ العتبةُ، أمرني أَنْ أُمْسِكَكْ". وعن ابن عباس أيضًا قال: "ثم لبثَ عنهم ما شاءَ الله، ثم جاء بعدُ وإسماعيلُ يَبْري نَبْلًا تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه، قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالدُ بالولد، والولدُ بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمرٍ تُعينني عليه؟ قال: أُعينك، قال: إن الله أمرني أن أبنيَ ها هنا بيتًا، فعندَ ذلكَ رفعَ القواعدَ من البيتِ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ، وإبراهيمُ يبني حتى ارتفعَ البناءُ، جاءَ بهذا الحجر، فوضعه له، فقام إبراهيمُ على حَجَر المقام، وهو يبني وإسماعيلُ يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] (¬1). وفي الخبر: "الرُّكْنُ والمَقَامُ يَاقُوتتًانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الجَنَّةِ، وَلَوْلاَ مَا مَسَّتْهُ أَيْدِي المُشرِكينَ، لأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3184)، كتاب: الأنبياء، باب: {يَزفُّونَ}. وانظر: "تفسير البغوي" (1/ 113). (¬2) رواه الترمذي (878)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في فضل الحجر الأسود والركن والمقام، وقال: حديث غريب، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 213)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2731)، وابن حبان في "صحيحه" (3710)، والحاكم في "المستدرك" (1677)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 75)، وغيرهم، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- بلفظ: "إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب". وما ذكره المؤلف من لفظ الحديث، فإنما نقله عن البغوي في "تفسيره" (1/ 114).

{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي: أمرناهما، وأوصينا إليهما، وسُمِّي إسماعيل؛ لأن إبراهيمَ كان يدعو اللهَ أن يرزقَه ولدًا، ويقولُ: اسمعْ يا إيل، وإيلُ هو الله، فلما رُزق، سماه به (¬1)، وقيل: معناه بالعبراني مطيعُ الله، وأمُّه هاجرُ، وُلد لمضيِّ سِتٍّ وثمانينَ سنةً من عُمْرِ إبراهيمَ، وأرسله الله إلى قبائلِ اليمنِ وإلى العماليقِ، وعاش مئةً وسبعًا وثلاثين سنةً، ومات بمكةَ، ودفنَ عندَ قبرِ أمِّهِ بالحِجْر، وكانت وفاتُه بعدَ وفاة أبيه إبراهيمَ بثمانٍ وأربعين سنةً. {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} يعني: الكعبةَ، أضافه إليه تخصيصًا وتفضيلًا؛ أي: ابنياه على الطهارة والتوحيد. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وهشامٌ، وحفصٌ (بَيْتِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). {لِلطَّائِفِينَ} الدائرين حولَهُ. {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمينَ والمجاوِرين. {وَالرُّكَّعِ} جمعُ راكعٍ. {السُّجُودِ} جمع ساجدٍ، وهم المصلُّون. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 104). (¬2) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 87)، و"الكشف" لمكي (1/ 330)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"تفسير البغوي" (1/ 104)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 112).

[126]

{مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}. [126] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا} يعني: المكانَ. {بَلَدًا آمِنًا} أي: ذا أمنٍ يأمنُ فيه أهلُه. {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} إنما دعا بذلك؛ لأنه كان بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ، وفي القصص أن الطائفَ كان من مدائنِ الشام بِأُرْدُنَّ، فلما دعا إبراهيمُ -عليه السلام- هذا الدعاءَ أمرَ اللهُ جبريلَ -عليه السلام- حتى قلعَها من أصلِها، فأدارَها حولَ البيت سبعًا، ثم وضعَها موضعَها الذي هي الآن فيه، فمنها أكثرُ ثمراتِ مكةَ (¬1). {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} دعا للمؤمنين خاصَّةً. {قَالَ} الله تعالى. {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} أي: أَمُدُّ له؛ ليتناول من لذات الدنيا؛ إثباتًا للحجة عليه، وأصلُ المتوع: الامتداد. قرأ ابنُ عامبر: (فَأُمْتِعُهُ) بسكون الميم وتخفيف التاء، والباقون: بفتح الميم وتشديد التاء (¬2)، ومعناهما واحد. {قَلِيلًا} إلى منتهى أجلِه، وذلك أن الله تعالى وعدَ الرزقَ للخلق كافَّة، مؤمنِهم وكافرِهم، وإنما قيد بالقلة؛ لأن متاعَ الدنيا قليل. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 105). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 113)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 170)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 87)، و"الكشف" لمكي (1/ 265)، و"تفسير البغوي" (1/ 105)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 222)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 112).

[127]

{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} أي: أُلجئه في الآخرة. {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المرجعُ الذي يصير إليه. قرأ أبو جعفرٍ، وقالونُ، وأبو عمرٍو (بِيسَ) بغير همز، والباقون بالهمز (¬1). {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}. [127] {وَإِذْ} أي: واذكرْ إذ. {يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} وتعطفُ على إبراهيمَ. {وَإِسْمَاعِيلُ} روي أن الله خلقَ موضعَ البيت قبلَ الأرضِ، بألفي عامٍ، وكانت زَبَدَةً بيضاءَ على الماء، فَدُحِيَتِ الأرضُ من تحتِها، فلما أهبطَ اللهُ آدمَ إلى الأرض، استوحشَ، فشكا إلى الله تعالى، فأنزل الله البيتَ المعمورَ من ياقوتةٍ من ياقوتِ الجنةِ له بابان من زُمُرُّدٍ أخضرَ، له بابٌ شرقيٌّ، وبابٌ غربي، فوضعَه على موضع البيت، وقال: يا آدمُ! إني أهبطتُ إليك بيتًا تطوفُ به كما يُطاف حولَ عرشي، وتصلي عنده كما يُصَلَّى عندَ عرشي، وأنزلَ الحجرَ، وكان أبيضَ، فاسودَّ من لمسِ الحُيَّضِ في الجاهلية، فتوجه آدمُ من أرضِ الهندِ إلى مكة ماشيًا، وقَيَّضَ اللهُ له مَلَكًا يدلُّه على البيت، فحجَّ البيتَ، وأقامَ المناسكَ، فلمَّا فَرَغَ، تلقَّتْهُ الملائكةُ وقالوا: بَرَّ حَجُّكَ يا آدمُ، لقد حججْنا هذا البيتَ قبلَك بألفي عامٍ. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 143)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 114).

قالَ ابنُ عباس: حجَّ آدمُ أربعينَ حجَّةً من الهندِ إلى مكة على رجليه، وكان على ذلك إلى أيامِ الطوفان، فرفعه الله إلى السماء الرابعة، يدخلُه كلَّ يوم سبعون ألفَ ملكٍ لا يعودون إليه، وبعثَ اللهُ جبريلَ حتى خَبَأَ الحجرَ الأسودَ في جبل أبي قُبيس؛ صيانةً له من الغرق، وكان موضعُ البيتِ خاليًا إلى زمن إبراهيم -عليه السلام-، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدَ ما وُلد له إسماعيلُ وإسحاقُ ببناء بيتٍ يُذْكَر فيه، فسأل الله -عز وجل- أن يبين له موضعَهُ، فبعثَ اللهُ سبحانَه سحابةً على قَدْرِ الكعبة، فجعلتْ تسيرُ وإبراهيمُ يمشي في ظِلِّها إلى أن وافَتْ مكةَ، ووقفتْ على موضع البيتِ، فَنُودي منها: يا إبراهيم! أن ابنِ على ظِلِّها لا تزدْ ولا تنقصْ، فبنى إبراهيمُ وإسماعيلُ البيتَ، فكان إبراهيمُ يبنيه، وإسماعيلُ يناولُه الحجارة، فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} يعني: الأساسَ، جمعُ قاعدةٍ، فلما انتهى إبراهيمُ إلى موضعِ الحجرِ الأسودِ، قال لابنهِ إسماعيلَ: ائتني بحجرٍ حَسَنٍ يكونُ للناسِ عَلَمًا، فأتاه بحجرٍ، فقال: ائتني بأحسنَ من هذا، فمضى إسماعيلُ (¬1) يطلبه، فصاحَ أبو قُبيس: يا إبراهيمُ! إن لكَ عندي وديعةً فخذْها، فأخذَ الحجرَ الأسودَ فوضعَه مكانَه. وقيل: أولُ مَنْ بنى الكعبةَ في الأرض الملائكةُ بأمرِ اللهِ بحيالِ البيتِ المعمورِ في السماءِ على قدرِه ومثالِه، وقيلَ: أولُ من بنى الكعبَة آدمُ، واندرسَ زمنَ الطوفان، ثم أظهرَه الله لإبراهيمَ حتى بناه (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت": "إبراهيم". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 105 - 106)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 265).

[128]

{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} فيه إضمار؛ أي: ويقولان: رَبَّنا تقبلْ منا بناءَنا البيت. {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لدعائِنا. {الْعَلِيمُ} بنياتنا. {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}. [128] {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي: صيِّرْنا موحِّدَيْنِ مطيعَيْن مخلِصَين خاضعين لك، وكانا كذلك، وإنما أرادا (¬1) التثبيتَ والدوامَ، والإسلامُ في هذا الموضعِ الإيمانُ والأعمالُ جميعًا. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} أي: ومن أولادنا. {أُمَّةً} جماعةً، والأمةُ: أتباعُ الأنبياء. {مُسْلِمَةً لَكَ} خاضعةً لك، و (من) هنا للتبعيض، وخص من الذرية بعضًا؛ لأن الله تعالى أعلمَهُ أن منهم ظالمين. {وَأَرِنَا} عَلِّمْنا. قرأ ابنُ كثيرٍ ويعقوبُ: (وَأَرْنا) بإسكان الراء، وأبو عمرو: بالاختلاس، والباقون: بكسرها (¬2)، وأصلُها: أَرينا، فحذفت ¬

_ (¬1) في "ن" و"ت": "أراد". (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 114)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 170)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 87)، و"تفسير البغوي" (1/ 106 - 107)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 94)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 222)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 115).

[129]

الياء للجزم، ونقلَتْ حركةُ الهمزة إلى الراء، وحُذفت تخفيفًا، ومن سكن قال: ذهبت الهمزةُ، فذهبت حركتُها. {مَنَاسِكَنَا} شرائعَ ديننا، وأعلامَ حَجِّنا، وأصلُ النسكِ: العبادةُ، والناسكُ: العابد، فأجاب الله دعاءهما، وبعث جبريل -عليه السلام- فأراهما المناسكَ في يومِ عرفةَ، فلما بلغَ عرفاتَ، قال: عرفتَ يا إبراهيم؟ قال: نعم، فسمي الوقتُ عرفةَ، والموضعُ عرفاتٍ (¬1). {وَتُبْ عَلَيْنَا} وتجاوزْ عنا. {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} لمن تاب. {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}. [129] {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي: في الأمة المسلمة من ذرية إبراهيمَ وإسماعيلَ. {رَسُوَلَا مِّنهُم} أي: مرسَلًا، وأراد به محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. قال ابنُ عباس: "كلُّ الأنبياءِ من بني إسرائيل إلا عشرةً: نوحٌ، وهود، وصالحٌ، وشعيبٌ، ولوطٌ، وإبراهيمُ، وإسماعيل، وإسحقُ، ويعقوبُ، ومحمدٌ -صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين-" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 107). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11723)، والحاكم في "المستدرك" (3415)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (133).

[130]

{يَتْلُو} يقرأُ. {عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} كتابَكَ يعني: القرآنَ، والآيةُ من القرانِ: كلامٌ متصلٌ إلى انقطاعه، وتقدم الكلامُ على ذلك بأتمَّ من هذا في أولِ التفسير عندَ الكلام على معنى السورةِ والآيةِ. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} أي: القرآنَ. {وَالْحِكْمَةَ} أي: مواعظَه وما فيه من الأحكام، وقيل: الشريعة. {وَيُزَكِّيهِمْ} أي: يطهِّرُهُم من الشِّركِ والذُّنوبِ. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الذي يَقْهَرُ ولا يُقهر، والعزَّةُ: القوةُ. {الْحَكِيمُ} المصيبُ مواقعَ الفعلِ، المحكِمُ لها. ثم استفهمَ منكرًا بقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}. [130] {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} وذلك أنَّ عبدَ الله بنَ سلامٍ دعا ابني أخيه سلمةَ ومهاجرًا إلى الإسلام، فقال لهما: قد علمتُما أن الله -عز وجل- قال في التوراة: إني باعثٌ من وَلَدِ إسماعيلَ نبيًّا اسمُه أحمدُ، فمن آمنَ به، فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به، فهو ملعونٌ، فأسلمَ سلمةُ، وأبى مهاجر أن يسلم، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} (¬1) أي: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 108)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 378 - 379)، و"لباب النقول" للسيوطي (1/ 29).

[131]

يتركُ دينَه وشريعتَه، يقال: رغبَ في الشيء: إذا أرادَه، ورغبَ عنه: إذا تركه، والمعنى: ما يرغبُ عن ملة إبراهيمَ. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أي: خسرَ نفسَه، وامتهنَها، والسفاهةُ: الجهلُ وضعفُ الرأي، وكلُّ سفيهٍ جاهلٌ، وذلك أن من عبدَ غيرًا لله، فقد (¬1) جهل نفسه، لأنه لم يعرفِ اللهَ خالقَها، وقد جاء: مَنْ عرفَ نفسَهُ، فقد عَرَفَ رَبَّهُ. {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} اخترناه. {فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} يعني: مع الأنبياء في الجنة. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}. [131] {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أي: اسْتَقِمْ على الإسلام، واثبتْ عليه، لأنه كان مسلمًا، والعاملُ في (إذ) اصطفيناه. {قَالَ أَسْلَمْتُ} أي: فَوَّضْتُ أموري. {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وقد حَقَّقَ ذلكَ حينَ لم يستعنْ بأحدٍ من الملائكة حين أُلقي في النار. {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}. [132] {وَوَصَّى بِهَا} أي: بالملة {إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} وهم (¬2): إسماعيلُ ¬

_ (¬1) "فقد" سقطت من "ت". (¬2) في "ن": "وهو".

من هاجرَ القبطية، وإسحاقُ من سارةَ، وستةٌ من امرأةٍ تزوَّجها من الكنعانيين بعدَ موتِ سارة اسمها قُطورا بنتُ يَقْطن (¬1)، وهم: مَدْيَنُ، ومَدَانُ، ويَقْشان، وزُمْرانُ، ويَشْبُق، وشُوَح. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (وَأَوْصَى) بالألف، وكذلك هو في مصاحفِ المدينةِ والشام، والباقون: مشددًا بغير ألف، وهما لغتان مثل نَزَّلَ وأَنزلَ (¬2). {وَيَعْقُوبُ} ورفعُ (يعقوب) عطفٌ على إبراهيم، معناه: ووصَّى إبراهيمُ بنيهِ، ويعقوبُ بنيه الاثني عشر؛ كما وصَّى إبراهيمُ بنيهِ الثمانيةَ، وسيأتي ذكرُ أسماءِ بني يعقوبَ أولَ سورةِ يوسفَ، ويعقوبُ سمي بذلك؛ لأنه والعيصَ كانا توأمينِ، فتقدَّم عيصٌ في الخروج من بطن أمه، وخرج يعقوبُ على إثره آخذًا بعقبه، وعاشَ مئة وسبعًا وأربعينَ سنةً، ومات بمصرَ، وأوصى أن يُحمل إلى الأرض المقدَّسة، ويدفنَ عندَ أبيه وجدِّه، فحمله ابنُه يوسفُ ودفنَهُ عندَهما بمغارة حبرون (¬3). {يَابَنِيَّ} معناه: أن (¬4): يا بني. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى} اختار. ¬

_ (¬1) في "ن": "يقطف". (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 115)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 171)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 89)، و "تفسير البغوي" (1/ 109)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 95)، و"التيسير" للداني (ص: 77)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 222)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 116). (¬3) في "ن": "جبرون". (¬4) في "ن": "أي".

[133]

{لَكُمُ اَلدِّينَ} أي: دينَ الإسلام. {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: مؤمنون، والنهيُ في ظاهر الكلام وقعَ على (¬1) الموت، وإنما نُهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام، معناه: داوموا على الإسلامِ حتى لا يصادفَكم الموتُ إلا وأنتم مسلمون. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}. [133] {أَمْ كُنْتُمْ} أي: أَكُنتم. {شُهَدَاءَ} جمعُ شهيدٍ بمعنى الحاضرِ، يريد: ما كنتم حضورًا. {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي: حينَ قربَ يعقوبُ من الموت. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ورَوْحٌ: (شُهَدَاءَ إِذْ) بتحقيق الهمزتين، وقرأ الباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تجعل بينَ بينَ (¬2). نزلتْ إنكارًا على اليهود حينَ قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألستَ تعلمُ أن يعقوبَ يومَ ماتَ أوصى بنيهِ باليهودية؟ (¬3). {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} بدلٌ من (إذ) قبلَها، العاملُ فيهما (شُهَداءَ). ورُوي أنه ¬

_ (¬1) في "ن": "عند". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 178)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 148)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 117). (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 21)، و"تفسير البغوي" (1/ 110).

لما دخلَ يعقوبُ مصرَ، ورآهم يعبدونَ الأصنامَ، فخافَ على ولده، فقال لهم وقد جمعَهم: قد حضر أجلي (¬1). {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} أي: بعدَ موتي، و (ما) هنا بمعنى (مَنْ) يدلُّ عليه (أن). {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وكان إسماعيلُ عَمًّا لهم، والعربُ تسمِّي العمَّ أبًا، كما تسمي الخالةَ أُمًّا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ" (¬2)، وقال في عمه العباس: "رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تفعَلَ بِي قُرَيْشٌ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ" (¬3)، وذلك أنهم قتلوه. وإسحاقُ هو ابنُ إبراهيمَ -عليه السلام-، وأمه سارةُ، ولدتْهُ ولها تسعونَ سنةً، ولأبيهِ إبراهيمَ مئةٌ وعشرون سنةً، وكانَ إسحقُ ضريرًا، وكان هو وإسماعيلُ ولوطٌ ويعقوبُ أنبياءَ على عهدِ إبراهيمَ (¬4) -صلواتُ الله عليهم أجمعين-، وعاش إسحاقُ مئةً وثمانين سنة، ودُفن عند أبيه بمغارة حبرون (¬5). {إِلَهًا وَاحِدًا} نصبٌ على البدلِ من قوله: (إِلَهَكَ). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 110). (¬2) رواه مسلم (983)، كتاب: الزكاة، باب: في تقديم الزكاة ومنعها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (36902)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 314)، عن عكرمة مرسلًا. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 89). (¬4) في "ن": "أبيهم". (¬5) في "ن": "جبرون".

[134]

{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} قرأ أبو عمرٍو: (وَنَحْن لَّهُ) بإدغام النون في اللام (¬1). ثم أشار إلى إبراهيمَ وأولادِه المذكورينَ الموحِّدين إسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}. [134] {تِلْكَ أُمَّةٌ} جماعةٌ. {قَدْ خَلَتْ} مَضَتْ. {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من العمل. {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تلخيصُه: لا يُسأل أحدٌ إلا عن عمله فقط، لا عن عملِ غيرِه. {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}. [135] {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} نزلتْ في رؤوس يهودِ المدينة: كعبِ بنِ الأشرفِ، ومالكِ بنِ الصَّيْفِ (¬2)، ووَهْبِ بنِ يهوذا، ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 148)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 119). (¬2) في جميع النسخ: "الضيف".

وأبي ياسرِ بنِ أخطبَ (¬1)، وفي نصارى أهلِ نجرانَ: السيدِ والعاقبِ وأصحابِهما، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين، كلُّ فرقة تزعم أنها أَحقُّ بدين الله، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضلُ الأنبياء، وكتابنا التوراةُ أفضلُ الكتب، وديننا أفضلُ الأديان، وكفرتْ بعيسى والإنجيلِ، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - والقرآنِ، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضلُ الأنبياء، وكتابنا الإنجيلُ أفضلُ الكتب، وديننا أفضلُ الأديان، وكفرتْ بمحمدٍ والقرآن، وقال كلُّ واحدٍ من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا، فلا دينَ إلا ذلك (¬2)، فقال الله -عز وجل-: {قُلْ} يا محمدُ. {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي: بل نتبعُ ملَّةَ إبراهيمَ. {حَنِيفًا} نصبٌ على الحال؛ أي: مائلًا عن الباطل إلى الحقِّ، وأَصلُه من الحَنَفِ، وهو مَيْلٌ وعِوَجٌ يكون في القدم. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا توبيخٌ للكفارِ أهلِ الكتاب؛ لأنهم كانوا يَدَّعون أنهم على ملَّته، وهم على الشرك. ثم علَّم المؤمنين طريقَ الإيمان، فقال تعالى: ¬

_ (¬1) في "ن": "الأحطب". (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 21)، و"تفسير البغوي" (1/ 111)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 380 - 381).

[136]

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}. [136] {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} يعني: القرآن. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} وهو عشرُ صُحَفٍ. {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} يعني: أولادَ يعقوبَ، واحدُهم سبطٌ، وهم اثنا عشرَ سِبْطًا، سُمُّوا بذلك؛ لأنه وُلد لكلِّ واحدٍ منهم (¬1) جماعةٌ، وسبطُ الرجلِ: حافِدَتُهُ، ومنه قيل للحسن والحسين: سِبْطا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالأسباطُ من بني إسرائيل كالقبائلِ من العرب من بني إسماعيلَ والشعوبِ من العجم، وكان في الأسباط أنبياءُ، وسنذكرُ أولادَ يعقوبَ الذين هم آباءُ الأسباطِ في سورة يوسف -إن شاء الله تعالى-. {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} يعني: التوراة. {وَعِيسَى} يعني: الإنجيل. {وَمَا أُوتِيَ} أُعْطِيَ. {النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} من الكتبِ والآيات. {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} فنؤمنُ ببعضٍ ونكفرُ ببعض كما فعلت اليهود والنصارى. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} تقدَّمَ مذهبُ أبي عمرٍو في إدغام (وَنَحْن لَّهُ). ¬

_ (¬1) "منهم" سقطت من "ن".

[137]

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}. [137] {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} أي: بما آمنتم به، والمثلُ صلةٌ؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]؛ أي ليس كهو شيءٌ. {فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: أعرضوا عما تدعونهم إليه من الإيمان. {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي: خلافٍ وعداوةٍ. {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} يا محمدُ؛ أي: يكفيكَ شرَّ اليهودِ والنصارى، وقد كُفي بإجلاءِ بني النَّضيرِ، وقَتْلِ بني قُرَيظةَ، وضَرْبِ الجزيةِ على اليهود والنصارى. {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم. {الْعَلِيمُ} بأفعالهم. {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}. [138] {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي: دينَ الله، وهو نصبٌ على الإغراء؛ يعني: الزموا دينَ الله، وإنما سماه صبغةً؛ لأنه يظهرُ أثرُ الدين على المتديِّنِ كما يظهرُ أثر الصّبغ على الثوب، قال ابنُ عباس: "هي أنَّ النصارى إذا وُلد لهم ولدٌ، فأتى عليه سبعةُ أيام، غمسوه في ماءٍ لهم أصفر يقال له: المعموديَّةُ، وصبغوه به، ليطهروه بذلكَ مكانَ الخِتان، فإذا فعلوا به ذلك، قالوا: الآنَ صار نصرانيًّا حَقًّا، فأخبرَ الله تعالى أن دينه الإسلامُ، لا ما يفعلُه النصارى (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 22)، و"تفسير البغوي" (1/ 113)، =

[139]

{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي: دينًا. {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} مُطيعون. {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}. [139] {قُلْ} يا محمدُ لليهود والنصارى: {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} في دينِ اللهِ، والمحاجّةُ: المجادلةُ لإظهار الحُجَّة، وذلك أنهم قالوا: إن الأنبياءَ كانوا منا، وعلى ديننا، ودينُنا أقدمُ، فنحن أَوْلى بالله منكم، فقال تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ}. {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي: نحن وأنتم سواءٌ في الله، فإنه ربُّنا وربُّكم. {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي: لكلِّ واحدٍ جزاءُ عملهِ. {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} يعني: كيف تَدَّعون أنكم أَوْلى بالله، ونحن له مخلصون، وأنتم به مشركون؟! والإخلاصُ: أن يخلصَ العبدُ دِينَهُ (¬1) وعملَه لله، فلا يشركُ به في دينه، ولا يرائي بعمله. {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ ¬

_ = و"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 151)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 383 - 384). (¬1) في "ن": "العبودية" بدل "العبد دينه".

[140]

{كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}. [140] {أَمْ تَقُولُونَ} يعني: أيقولون؟ صيغتُه صيغةُ الاستفهام، ومعناه التوبيخُ. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ، ورُويسٌ: (تقولُونَ) بالخطاب؛ لقوله: {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ}، وقالَ بعده (¬1): {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}، وقرأ الباقونَ بالغيب؛ يعني: يقولُ اليهودُ والنصارى (¬2). {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ} يا محمدُ. {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} بدينهم. {أَمِ اللَّهُ} وقد أخبرَ الله تعالى أنَّ إبراهيم لم يكن يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وهذا تقريرٌ على فسادِ دعواهم؛ إذ لا جوابَ لمفطورٍ -[أي: مخلوق] (¬3) - إلا أن الله تعالى أعلمُ. وتقدَّم اختلاف القراءة في حكم الهمزتين من كلمة عند قوله تعالى: (ءَأَنْذَرْتَهُمْ)، وكذلك اختلافُهم في قوله: (ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ). ¬

_ (¬1) في "ت": "بعد". (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 115)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 171)، و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 219)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 89)، و"الكشف" لمكي (1/ 266)، و"تفسير البغوي" (1/ 113)، و"التيسير" للداني (ص: 77)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 149)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 120). (¬3) "أي: مخلوق" سقطت من "ن".

[141]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ} أي: أخفى. قرأ أبو عمرٍو: (أَظْلَم مِّمَّنْ) بإدغامِ الميمِ في الميم (¬1). {شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} وهي علمُهم بأن (¬2) إبراهيمَ وبنيه كانوا مسلمين، وأن محمدًا حَقٌّ ورسولٌ، أشهدَهُم اللهُ عليه في كتبهم، لفظُه الاستفهامُ، والمعنى: لا أحدَ أظلمُ منهم، وإياهم أرادَ الله تعالى بكتمان الشهادة، ثم تهدَّدَهم فقال: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ثم كرر: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}. [141] {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تأكيدًا. {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}. [142] {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} أي: الجهَّالُ من الناس وهم مشركو مكة، واليهودُ. {مَا وَلَّاهُمْ} صرَفَهم وحَوَّلَهم. ¬

_ (¬1) عند تفسير الآية (4) من سورة الفاتحة. (¬2) في "ت": "أن".

{عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يعني: بيت المقدس، والقبلةُ فِعْلَةٌ من المقابلة، سميت قبلةً؛ لأن المصلي يُقابلها وتُقابله. نزلت في الفريقين لما طعنوا في تحويلِ القبلةِ من بيتِ المقدس إلى مكةَ، فقال مشركو مكة: قد تردَّدَ على محمدٍ أمرُهُ، واشتاقَ إلى مولده، وقد يرجعُ نحوَ بلدِكم، وهو راجعٌ إلى دينكم، وقالت اليهودُ: اشتاقَ الرجلُ إلى وطنه، فقال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} بما فيهما، المعنى: إنكم تصلُّون إلى الكعبةِ وهي بالمشرق، وإلى بيتِ المقدس وهو بالمغرب، وكلها له. {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فيوجِّهُه تارةً إلى مكةَ، وتارة إلى بيتِ المقدس، لا اعتراضَ عليه؛ لأنه المالكُ وحدَهُ. قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، ورُوَيْسٌ: (يَشَاءُ إِلَى) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية، واختُلِفَ في كيفية تسهيلها، فذهب جمهورُ المتقدمين إلى أنها تبدلُ واوًا خالصةً مكسورةً، وذهبَ بعضُهم إلى أنها تُجعل بينَ الهمزة والياء، وهو مذهبُ أئمةِ النحو والمتأخِّرين من القرَّاء، وهو الأَوْجَهُ في القياس. وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابنُ عامرٍ، وروحٌ: بتحقيق الهمزتين (¬1). {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 149)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 122).

[143]

{الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}. [143] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} نزلت لما قال رؤساء اليهود لمعاذِ بنِ جَبَلٍ: ما تركَ محمدٌ قبلتَنا إلَّا حسدًا، وإنَّ قبلتنا قبلةُ الأنبياء، وقد علم محمدٌ أنا عدلٌ بين الناس، فقال معاذ: إنا على حقٍّ (¬1) وعدلٍ، فأنزل الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} (¬2)؛ أي: ومثلَ ذلكَ الجعلِ الصالحِ الذي جعلْنا إبراهيمَ وذريتَهُ جعلناكم أمةً وَسَطًا؛ أي: عَدْلًا خِيارًا، قال الله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28]؛ أي: خيرُهم وأعدلُهم، وخيرُ الأشياءِ أَوْسَطُها. {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يومَ القيامة أنَّ الرسلَ قد بلَّغتهم. {وَيَكُونَ الرَّسُولُ} هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -. {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} معدِّلًا مزكِّيًا لكم، وذلك أن الله تعالى يجمعُ الأَوَّلين والآخِرين في صعيدٍ واحدٍ، ثم يقُول لكفارِ الأمم: ألم يأتِكُمْ نذيرٌ؟ فيُنكرون ويقولون: ما جَاءَنا مِنْ بَشِيرٍ ولا نَذِير، فيسأَلُ الأنبياء (¬3) -عليهم السلام-، فيقولون: كَذَبوا، قد بلَّغناهم، فيسألُهم البينةَ، وهو أعلم بهم؛ إقامةً للحجَّة، فيؤتى بأمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فيشهدون (¬4) لهم أنهم قد بَلَّغوا، فتقولُ ¬

_ (¬1) في "ن": "الحق". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 114)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 389 - 390). (¬3) "الأنبياء" ساقطة من "ت". (¬4) في "ظ": "ليشهدون".

الأممُ الباقيةُ: من أينَ عَلِموا وإنهم أَتَوا بعدَنا؟! فيسأل هذه الأمة فيقولون: أرسلتَ إلينا رسولًا، وأنزلتَ علينا كتابًا أخبرْتنَا فيه بتبليغ الرسل، وأنتَ صادقٌ فيما أخبرتَ، ثم يؤتى بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فيسألُ عن حال أمته، فيزكِّيهم، ويشهدُ بصدقِهم. {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} أي: تحويلَها؛ يعني: بيت المقدس، فيكون من بابِ حذفِ المضاف. {إِلَّا لِنَعْلَمَ} قالَ أهلُ المعاني: معناه إلا لعلمِنا، وقيل: معناه: ليعلمَ رسولي والمؤمنون به، وجاء الإسنادُ بنون العظمة إذ هم حزبُهُ وخالصتُه. {مَن يَتَّبِعُ ألرَّسُولَ} فيوافقُه ويصدِّقه. قرأ أبو عمرٍو: (لِنَعْلَم مَّنْ) بإدغامِ الميم في الميم (¬1). {مِمَّن يَنقَلِبُ} أي: يرجعُ ناكِصًا. {عَلَى عَقِبَيْهِ} فيرتدُّ، كأنه سبقَ في علمِ الله تعالى أن تحويلَ القبلةِ سببٌ لهدايةِ قومٍ وضلالةِ آخرين، والرجوعُ على العقب أسوأ حالاتِ الراجع في مشيِه عن وجهه، فلذلك شُبِّهَ المرتدُّ في الدين به، وظاهرُ التشبيهِ أنه بالمتقهقِرِ، وهي مشيةُ الحيرانِ الفازع من شَرٍّ قد قربَ منه، وفي الحديث: أنَّ القبلةَ لما حُوِّلَت، ارتدَّ قومٌ من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجعَ محمدٌ إلى دين آبائه (¬2). ورُوي أنَّ أحبارَ اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ بيتَ المقدس هو قبلةُ الأنبياء، فإن صَلَّيْتَ إليها، اتبعناكَ، ¬

_ (¬1) كما هو المعروف من مذهبه. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 116).

فأمره الله بالصلاة إليه امتحانًا لهم، فلم يؤمنوا، والجمهورُ على أن أمرَ قبلةِ بيتِ المقدسِ كان بوحيٍ غيرِ مَتْلُوٍّ. {وَإِنْ كَانَتْ} أي: وقد كانت التوليةُ إلى الكعبة. {لَكَبِيرَةً} أي: لثقيلةً شديدةً. {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي: هداهم الله، وهم التائبون المخلصون. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وذلك أن حُيَيَّ بنَ أخطبَ وأصحابَه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحوَ بيتِ المقدس، إن كانت هُدًى، فقد تحوَّلْتم عنها، كان كانت ضَلالةً، فقد دِنْتُمُ اللهَ بها، ومَنْ مات منكم عليها، فقد ماتَ على الضلالة، فقال المسلمون: إنما الهدى ما أَمر اللهُ به، والضلالة ما نهى اللهُ عنه، قالوا: فما شهادتُكم على مَنْ مات منكُمْ على قبلتنا، وكان قد ماتَ قبلَ أن تُحَوَّلَ القبلةُ من المسلمينَ أسعدُ بنُ زُرارةَ من بني النجَّار، والبراءُ بنُ مَعْرورٍ من بني سَلِمَةَ، وكانوا من النقباء، ورجالٌ آخرون، فانطلق عشائرُهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: يا رسول الله! قد صرفَكَ اللهُ إلى قبلةِ إبراهيمَ، فكيفَ بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلُّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله -عز وجل-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬1)؛ يعني: صلاتِكم إلى بيتِ المقدس، وسمَّى الصلاةَ إيمانًا لما كانت صادرةً عن الإيمان والتصديق في وقت بيتِ المقدس، وفي وقتِ التحويل. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} والرأفةُ: أشدُّ الرحمة، وخاطبَ الحاضرين، والمرادُ: مَنْ حضرَ ومن ماتَ؛ لأن الحاضر يُغَلَّبُ كما تقول ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 116)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 393).

[144]

العرب: ألم نقتلْكُم في موضع كذا؟ ومن خوطبَ لم يُقْتل، ولكنه غُلِّبَ لحضوره. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وابن عامر، وحفصٌ: (لَرَؤوفٌ) بالإشباعِ على وزن فَعول، وقرأ الآخرون: بالاختلاس على وزن فَعُل (¬1). {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}. [144] {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} والمقصدُ تقلُّب البصر، وذكر الوجه؛ لأنه أعمُّ وأشرفُ، وهو المستعمَلُ في طلب الرغائب، تقول: بذلْتُ وجهي في كذا، أو فعلتُ لوجهِ فلان، وهذه الآيةُ متأخرةٌ في التلاوة، متقدمةٌ في المعنى؛ فإنها رأسُ القصة، وأمرُ القبلة أولُ ما نُسخ من أمور الشرع، وذلك أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه كانوا يصلُّون بمكةَ إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة، أمرَهُ الله أن يصلِّي نحوَ صخرةِ بيتِ المقدسِ كما تقدَّمَ؛ ليكونَ أقربَ إلى تصديق اليهود إياه إذا صلَّى إلى قبلتهم، مع ما يجدون من نعتِه في التوراة، فصلَّى من بعدِ الهجرةِ ستةَ عشرَ أو سبعةَ ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 116)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 1/ 1)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 89)، و"الكشف" لمكي (1/ 266)، و"تفسير البغوي" (1/ 116)، و"التيسير" للداني (ص: 77)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 123).

عشرَ شهرًا إلى بيت المقدس، وكان يحبُّ أن يتوجَّهَ إلى الكعبة؛ لأنها كانتْ قبلةَ أبيه إبراهيم -عليه السلام-، وكان اليهودُ يقولون: يخالفُنا محمد في ديننا، ويتبعُ قبلَتَنا، فجعلَ ينظرُ إلى السماءِ رجاءَ أن ينزلَ عليه الوحيُ بالتوجُّه إليها، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (¬1). {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فَلَنُحَوِّلَنَّكَ. {قِبْلَةً} أي: إلى قبلة. {تَرْضَاهَا} أي: تحبُّها. {فَوَلِّ} فحوِّلْ. {وَجْهَكَ شَطْرَ} أي: نحوَ. {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وأراد به الكعبةَ، والحرامُ: المحرَّمُ. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} من بَرٍّ أو بحرٍ، شرقٍ أو غربٍ. {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} عندَ الصلاة، وكان تحويلُ القبلة في رَجَبٍ بعدَ زوالِ الشمسِ من السُّنةِ الثانيةِ من الهجرة قبلَ قتالِ بدرٍ بشهرين، ونزلتْ هذه الآيةُ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجدِ بني سَلِمَةَ، وقد صلَّى بأصحابِه ركعتين من صلاة الظهرِ، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزابَ، وحوَّل الرجالَ مكانَ النساء، والنساءَ مكانَ الرجال، فَسُمِّي ذلك المسجدُ مسجدَ القِبْلَتين، وأهلُ قُباء وصل الخبرُ إليهم في صلاة الصبح (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 20)، عن مجاهد. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 118). قال المناوي في "الفتح السماوي" (1/ 193): "وهذا تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي إمامًا، ولا هو الذي تحول في الصلاة".

وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ -رضي الله عنهما- قال: "بَيْنا الناسُ بِقُباءَ في صلاةِ الصُّبْح إذْ جاءهم آتٍ، وقال لهم: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه الليلةَ قرآن، وقد أُمِرَ أَنْ يستقبلَ الكعبةَ، فاستقبِلُوها"، وكانت وجوهُهم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة (¬1)، فلما تحولت القبلةُ، قالت اليهود: يا محمَّدُ! ما هو إلَّا شيءٌ تبتدعُه من تلقاء نفسك، فتارةً تصلِّي إلى بيتِ المقدس، وتارةً إلى الكعبة، ولو ثبتَّ على قبلتِنا، لكنَّا نرجو أن تكون صاحِبَنا الذي ننتظره (¬2)، فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ} يعني: أمرَ الكعبةِ. {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} لأنه في بشارةِ أنبيائهم أنه يصلِّي إلى القبلتين، ثم هَدَّدهم فقال: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، ورَوْحٌ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، يريد: إنكم يا معشر المؤمنين تطلبونَ مرضاتي، وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم. وقرأ الباقونَ بالغيب؛ يعني: ما أنا بغافل عما يفعلُ اليهود، فأجازيهم في الدنيا والآخرة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (395)، كتاب: أبواب القبلة، باب: ما جاء في القبلة، ومسلم (526)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 118). (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 116)، و"الكشف" لمكي (1/ 268)، و"تفسير البغوي" (1/ 118)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 142)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 268)، و"التيسير" للداني (ص: 77)، و"النشر في القراءات =

[145]

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}. [145] {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني: اليهودَ والنصارى. {بِكُلِّ آيَةٍ} أي: معجزةٍ وبرهانٍ على صدقك في أمر القبلةِ وغيرِها. {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} يعني: الكعبةَ. {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} لأنك على الحقِّ، وقبلتُكَ غيرُ منسوخةٍ أبدًا. {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} لأن اليهود تستقبل بيت المقدس، وهو المغرب، والنصارى تستقبل المشرق، وقبلةُ المسلمين الكعبةُ، وكل طائفة تعتقد أن الحقَّ دينُها، ثم خوطبَ - صلى الله عليه وسلم - والمرادُ غيرُه بقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} مرادهم. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ} أي: وصلَ إليك. {مِنَ الْعِلْمِ} اليقينِ من أمرِ القبلةِ وشرائعِ الإسلام. {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وتمَّ الوقفُ هنا. عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا بَيْنَ المشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ" (¬1)، والمرادُ بالمشرِقِ: مشرقُ الشتاء في أقصرِ يوم في ¬

_ = العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 124). (¬1) رواه الترمذي (344)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (1011)، كتاب: الصلاة، باب القبلة، وغيرهما.

[146]

السنة، وبالمغربِ: مغربُ الصيفِ في أطولِ يومٍ في السنة، فأقصرُ الأيام في الشتاء يومُ آخِرِ القوسِ، وهو انسلاخُ فصلِ الخريف، وكذلكَ اليومُ الذي يليه، وهو أولُ الجَدْي افتتاحُ فصلِ الشتاء، ويأتي ذلك في شهر كيهَك من السنة القبطية، وفي شهر كانون الأول من السنة السريانية، وأطولُ الأيام في الصيف يومُ آخرِ الجَوْزاء، وهو انسلاخُ فصلِ الربيع، وكذا اليومُ الذي يليه، وهو أولُ السَّرَطانِ افتتاحُ فصلِ الصيف، ويأتي ذلك في شهر بؤنة من السنة القبطية، وفي شهر حَزيرانَ من السنة السريانية، فمن جعلَ مغربَ الصيفِ في هذا الوقتِ عن يمينه، ومشرقَ الشتاء في ذلك الوقتِ عن يساره، كان وجهُه إلى القبلة، وهذا لمن يكونُ في المدينة الشريفة -على الحالِّ بها أفضلُ الصلاةِ والسلام-، وبيتُ المقدس ومصرُ والشامُ وما والاها ممن يستقبلُ الجدارَ الشاميَّ من الكعبةِ الشريفة، وهو الذي يليه حِجْرُ إسماعيلَ -عليه السلام- وبأعلاه الميزابُ. ومن دلائلِ القبلةِ القطبُ، وهو نجمٌ، وقيلَ نقطةٌ إذا جعلَه المصلِّي وراءَ ظهرِه بالشامِ وما حاذاها، وخلفَ أُذنه اليمنى بالمشرقِ، وعلى عاتقِهِ الأيسرِ بإقليم مصر وما والاه، كان مستقبلًا للقبلة (¬1)، والله أعلم. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}. [146] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} مبتدأٌ، خبره: ¬

_ (¬1) في "ن": "القبلة".

[147]

{يَعْرِفُونَهُ} والمراد: أن مؤمني أهل الكتاب عبدَ الله بنَ سلامٍ وأصحابَه يعرفون محمدًا أنه نبيٌّ حقّ بما شاهدوه في كتبِهم. {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} من الصِّبيان، قال عبدُ اللهِ بنُ سلام: "لقدْ عرفتُ محمَّدًا حينَ رأيتُهُ كمعرفةِ ابني، ومعرفتي له أشدُّ من معرفةِ ابني؛ لأن نَعْتهُ في كتابنا، ولا أَدري ما تصنعُ النِّساءُ لولا النعتُ" (¬1). {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ} أي: من جُهَّالهم ومعانِديهم. {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي: نعتَه - صلى الله عليه وسلم - وأمرَ الكعبة. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وتمَّ الوقفُ هنا. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}. [147] {الْحَقُّ} مبتدأ، وخبرُه: {مِنْ رَبِّكَ} أي: هذا الحقُّ. {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكِّين فيما أُخبرتَ به. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 23)، و"تفسير البغوي" (1/ 119 - 120)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 398)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 357).

[148]

[148] {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي: لكلِّ أهلِ (¬1) مِلَّة (¬2) قبلة، والوِجْهَةُ: اسمٌ للمتوجَّه إليه. {هُوَ مُوَلِّيهَا} قرأ ابن عامر: (مُوَلَّاهَا) بفتح اللام وألف بعدها؛ أي: المستقبِلُ مصروفٌ إليها، والباقون: بكسر اللام وياء بعدها على معنى مستقبِلُها (¬3). {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} بادِرُوا بالطاعات. {أَيْنَ مَا تَكُونُوا} أنتم وأعداؤكم. {يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يومَ القيامة، فيجزيكم بأعمالِكم. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)}. [149] {وَمِنْ حَيْثُ} أي: أيَّ مكانٍ. [{خَرَجْتَ} لسفرٍ. {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ} نحوَ. ¬

_ (¬1) في "ت": "أهله". (¬2) "ملة": ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 117)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 171)، و"الحجة، لابن خالويه، و"الكشف" لمكي (1/ 267)، و"تفسير البغوي" (1/ 120)، و"التيسير" للداني (ص: 77)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 126).

[150]

{الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ} أي: التولِّي. {لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ أبو عمرٍو بالغيب، والباقون بالخطاب (¬1)] (¬2). {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}. [150] {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} التكريرُ تأكيد النسخ؛ ليعلمَ أن ذلك عزمةٌ لا بدَّ من فعلِها، ثم أومأ إلى علَّة ذلك فقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} المعنى: أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة يدفعُ احتجاجَ اليهود بأن المنعوتَ في التوراة قبلتُه الكعبةُ، وأن محمدًا يجحدُ ديننا، ويتبعُنا في قبلتنا، والمشركينَ بأنه يدَّعي مِلَّةَ إبراهيم، ويخالف قبلته. قرأ ورشٌ عن نافعٍ، وأبو جعفرٍ: (لِيَلَّا) بفتح الياء بغير همز (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 117)، و"الكشف" لمكي (1/ 268)، و"التيسير" للداني (ص: 77)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 103)، و"تفسير البغوي" (1/ 120)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 150)، و"الغيث، للصفاقسي (ص: 143)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 126). (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 197)، "الكشف" لمكي (1/ 330)، و"التيسير" للداني (ص: 86)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} استثناءٌ من الناس، وهم اليهودُ ومشركو العرب، والمرادُ بالحجة: الاعتراضُ والمجادلةُ، لا الحجةُ حقيقةً، والمجادلةُ الباطلةُ قد تسمَّى حُجَّة؛ كقوله (¬1): {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]، أما قريشٌ تقولُ: رجعَ إلى الكعبة؛ لأنه علمَ أنها الحقُّ، وأنها قبلةُ آبائه، فهكذا يرجعُ إلى ديننا، وأما اليهودُ تقول: لم ينصرفْ عن بيتِ المقدسِ معَ علمِه أنه حقٌّ إلا أنه يعملُ برأيه. {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} في توجُّهكم إلى الكعبة، وتظاهُرِهِم عليكم؛ فإني وليُّكم بالحجَّةِ والنُصْرَة. {وَاخْشَوْنِي} بامتثالِ أمري؛ ثم عطفَ على قولهِ {لِئَلَّا} قولَه: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} بهدايتي إياكم إلى الكعبة (¬2) وغيرِها، ومن تمامِ النعمة الموتُ على الإسلام. ثم عطفَ على ما تقدَّم قولَه: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} من الضلالة، ولعل وعسى (¬3) من اللهِ واجبان؛ لأنهما للرجاء والإطماع، والكريمُ لا يُطْمِعُ إلا فيما يفعل. {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}. ¬

_ = (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 150)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 127). (¬1) في "ت": "لقوله". (¬2) في "ن": "إلى الكعبة إياكم". (¬3) في "ن": "وعسى ولعل".

[151]

[151] {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} هذهِ الكافُ للتشبيه ترجعُ إلى ما قبلَها، معناه: ولأتمَّ نعمتي عليكم كما أرسَلْنا فيكم يا معشرَ العرب. {رَسُولًا مِنْكُمْ} أي: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} القرآنَ. {وَيُزَكِّيكُمْ} يحملُكُم على ما تصيرونَ به أَزْكِياء. {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} القرآنَ. {وَالْحِكْمَةَ} السُّنَّةَ. {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} من اِلأحكامِ وشرائعِ الإسلام. {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}. [152] {فَاذْكُرُونِي} بطاعتي. {أَذْكُرْكُمْ} بمغفرتي. قرأ ابنُ كثيرٍ: (فَاذْكُرُونِيَ) بفتحِ الياء (¬1). {وَاشْكُرُوا لِي} بالطاعة. {وَلَا تَكْفُرُونِ} بالمعصية، فشكرُ المنعمِ وهو الثناءُ على الله على إنعامِه واجب شَرْعًا بالاتفاق، لا عقلًا، فمن لم تبلُغْه دعوةُ نبيٍّ، لا يأثمُ بتركِه، خلافًا للمعتزلة. قرأ يعقوبُ (تَكْفُرُوني) بإثبات الياء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 197)، و"الكشف" لمكي (1/ 330)، و"التيسير" للداني (ص: 86)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 150)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 127). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء =

[153]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}. [153] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} على تركِ المعاصي. {وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالعَوْنِ والنُّصْرَة. {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}. [154] {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} أي: هم أمواتٌ. {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} نزلتْ في قتلى بَدْرٍ من المسلمين، وكانوا أربعةَ عشرَ رجلًا، ستةٌ من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، فقيل: ماتَ فلانٌ وفلانٌ، وانقطع عنهم نعيمُ الدنيا، فأنزلها الله (¬1)، كما قالَ في شهداء أحد: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}. [155] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنختبرَنَّكمْ يا أمةَ محمد، ليظهرَ لكم منكمُ ¬

_ = البشر" للدمياطي (ص: 150)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 26). (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 23)، وانظر: "تفسير البغوي" (1/ 124)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 403).

[156]

المطيعُ من العاصي، لا لنعلمَ شيئًا لم نكنْ عالمين به. {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} أي: خوفِ العدوِّ. {وَالْجُوعِ} أي: القَحْطِ. {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} بالخسرانِ والهلاكِ. {وَالْأَنْفُسِ} بالقتلِ والموتِ. {وَالثَّمَرَاتِ} بالجائِحَةِ، وهي ما يستأصِلُ الشيءَ. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} يا محمدُ على البلايا والرزايا، ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)}. [156] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي: نائبةٌ. {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} عَبيدًا مُلْكًا. {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} في الآخرة، وفي الحديثِ: "مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ، جَبَرَ اللهُ مُصيبَتَهُ" (¬1). {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}. [157] {أُولَئِكَ} أهل هذهِ الصِّفَةِ. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (2/ 42)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 264)، والطبراني في "المعجم الكبير" (13027)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9689)، عن ابن عباس -رضي الله عنه-.

[158]

{عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: رحمةٌ؛ فإنَّ الصلاةَ من الله رحمةٌ، وجمع (¬1) الصلوات؛ أي: رحمةٌ بعدَ رحمةٍ. {وَرَحْمَةٌ} ذكرها تأكيدًا. قرأ الكسائيُّ: (وَرَحْمِهْ) بإمالة الميم حيث وقف على هاء التأنيث (¬2). {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} إلى الاسترجاعِ، وإلى سعادةِ الدارين. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}. [158] {إِنَّ الصَّفَا} جمعُ صَفاةٍ، وهي الصخرةُ الصُّلبة الملساءُ. {وَالْمَرْوَةَ} الحجرُ الرخْوُ، والمراد بهما: المكانان المعروفان بطرَفي المسعَى بمكةَ المشرفة. قرأ الكسائيُّ: (وَالمَرْوِهْ) بإمالةِ الواو حيثُ وقف على هاء التأنيث. {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} من أَعلام دينه فالمطافُ والمواقفُ والمناحرُ كلُّها شعائرُ (¬3)، ومثلُها المشاعر، والمرادُ بالشعائر ها هنا: المناسكُ التي جعلها الله أَعلامًا لطاعته. {فَمَنْ} شرطٌ محلُّها رفعٌ ابتداءً. {حَجَّ} أي: قصدَ. {الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} أي: زارَ، فالحجُّ في اللغةِ: القصدُ، وفي الشرع: ¬

_ (¬1) في "ن": "وجميع". (¬2) انظر "الغيث" للصفاقسي (ص: 143)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 128). (¬3) في "ن": "من شعائر".

اسمٌ لأفعالٍ مخصوصةٍ، والعمرةُ في اللغة: الزيارةُ. {فَلَا جُنَاحَ} فلا إثمَ. {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ} أى: يدورَ. {بِهِمَا} وأصل الطواف المشيُ حولَ الشيء، والمرادُ هنا: السعيُ بينَهما، وسببُ نزولِ هذه الآية: أنه كان على الصفا والمروةِ صنمانِ يَسافُ ونائلةُ، وكان يسافُ على الصَّفا، ونائلةُ على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بينَ الصفا والمروة تعظيمًا للصَّنمين، ويمسحونهما، فلما جاء الإسلامُ، وكُسرت الأصنام، فتحرَّجوا السعيَ بينَ الصفا والمروة لأجل الصنمين، فأذنَ الله فيه، وأخبرَ أنه من شعائر الله (¬1). واختلفَ العلماءُ في حكم هذه الآية ووجوب السعي بينَ الصفا والمروة في الحجِّ والعمرة، فعند مالكٍ والشافعيِّ وأحمَد أنه ركنٌ لا يتمُّ الحجُّ إلا به، وعند أبي حنيفة أنه واجبٌ، وليس بركنٍ، وعلى من تركَهُ دمٌ. {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي: من تبرَّع بما لم يجبْ عليه، وتقديرُه: بخيرٍ، فلما حُذفَ الجارُّ، تعدَّى الفعلُ، فنصبَ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (يَطَّوَعْ) بالياء وتشديد الطاء وجزم العين، بمعنى يتطوَّعْ (¬2). وقرأ الآخرون: بالتاء وفتح العين على الماضي (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1561)، كتاب: الحج، باب: وجوب الصفا والمروة، ومسلم (1277)، كتاب: الحج، باب: بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلَّا به، عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) في "ت": "يطوع". (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 118)، و"إعراب القرآن" للنحاس =

[159]

{فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} أي: مجازِ له. {عَلِيمٌ} بنيته، والشكرُ من الله أن يعطيَ فوق ما يستحقُّ، يشكرُ اليسيرَ، ويعطي الكثيرَ. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}. [159] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} نزلت في علماء اليهود، كتموا صفةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وآيةَ الرجم، وغيرَها من الأحكام التي كانت في التوراة (¬1). {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} أي: يُبعدهم الله عن رحمته، وأصلُ اللعنِ: الطردُ. {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} أي: يسألون الله أن يلعنهم يقولون: اللهم العنهم، واللاعنون الثقلان والملائكة، ثم استثنى فقال: ¬

_ = (2/ 225)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 172)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 183)، و"التيسير" للداني (ص: 77)، و"تفسير البغوي" (1/ 130)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 104)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 2239)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 143)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 129). (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 24)، و"تفسير البغوي" (1/ 130)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 411).

[160]

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}. [160] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} من الكفرِ، وأسلَموا. {وَأَصْلَحُوا} الأعمالَ بينهم وبينَ الله. {وَبَيَّنُوا} أي: أظهروا ما كَتَموا. {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أتجاوزُ عنهم، وأقبلُ توبَتَهم. {وَأَنَا التوَّابُ} الرَّجَّاعُ بقلوبِ عبادي المنصرفةِ عني إليَّ. {الرَّحِيمُ} بهم بعدَ إقبالهم عليَّ، والتوبة: حلُّ عَقْدِ الإصرارِ على الذنب وربطُ العزيمةِ بالقلبِ على البعدِ عن مقاربتهِ، مع الندمِ عليه. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)}. [161] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} من الكاتمين، ولم يتوبوا. {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لأن الله تعالى يلعنُهم يومَ القيامة، ثم يلعنُهم الملائكةُ، ثم يلعنُهم الناسُ، والظالمُ يلعنُ الظالمينَ، ومن لعنَ الظالمين وهو ظالمٌ، فقد لعنَ نفسَه. {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}. [162] {خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمينَ في اللعنةِ، أو في النارِ.

[163]

{لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي: لا يُرفع عنهم. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} لا يُمْهَلون (¬1) فيعتذرون. ولما قالَ كفارُ قريشٍ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - صِفْ لنا رَبَّكَ، نزلَ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}. [163] {وَإِلَهُكُمْ} مبتدأ، خبره: {إِلَهٌ} وصفة الخبر: {وَاحِدٌ} فردٌ لا نظيرَ له في ذاته، ولا شريكَ له في صفاته. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} تلخيصُه: الألوهيةُ مختصَّةٌ به. ولما سمعَ المشركون هذهِ الآيةَ، قالوا له - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتَ صادقًا، فَأْتِ بآية يُعْرَفُ (¬2) بها صدْقُك، فنزل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}. [164] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬3) جمعَ السمواتِ؛ لأن كلَّ ¬

_ (¬1) في "ن": "لا يجهلون". (¬2) في "ن": "نعرف". (¬3) انظر: "شعب الإيمان للبيهقي" (104)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 25)، =

سماء ليست من جنس الأخرى، ووحَّدَ الأرضَ؛ لأنها من جنسٍ واحد، وهو الترابُ. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: تَعاقُبهما في الذهابِ والمجيء، والزيادةِ والنقصانِ، والنورِ والظلمة. {وَالْفُلْكِ} السُّفُن، واحده وجمعه سواء، فإذا أُريدَ به الجمعُ يؤنَّثُ، وفي الواحدة يُذَكَّر، قال الله تعالى في الواحدةِ والتذكير: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} [الصافات: 140]، وقال في الجمعِ والتأنيثِ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ} [يونس: 22]. {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} مُوقَرَةً لا ترسُبُ؛ أي: لا تجلس تحت الماء. {بِمَا} أي: بالذي. {يَنْفَعُ النَّاسَ} من الحمل فيها، والركوبِ عليها. {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} أي: مطر. {فَأَحْيَا بِهِ} أي: بالماء. {الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: يبسها. {وَبَثَّ} أي: فَرَّقَ. {فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} لأن بثَّ الدوابِّ يكونُ بعدَ حياةِ الأرضِ بالمطر؛ لأنهم ينمونَ بالخصب، ويعيشون بالمطر، والدابَّهُ: كُلُّ ما يَدُبُّ. {وَتَصْرِيفِ} أي: وتَنْقيلِ. ¬

_ = و "تفسير البغوي" (1/ 132)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 395).

{الرِّيحَ} من مهابِّها قَبولًا ودَبورًا، وجَنوبًا وشَمالًا، وحارةً وباردةً، وعاصفةً ولَيِّنَةً، وعَقيمًا ولاقِحًا، وغير ذلك. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الرِّيحِ) بغير ألف على التوحيد. والباقون: بالألف على الجمع (¬1). والريحُ أعظمُ جندِ الله تعالى، وتذكَّرُ وتؤنَّثُ، وسُمِّيت ريحًا؛ لأنها تريح النفوس، والرياحُ ثمانية: أربعةٌ للرحمة، وهي: المبشِّراتُ، والناشِراتُ، والذارياتُ، والمرسَلاتُ، وأربعة للعذاب: وهي: العقيمُ، والصَّرْصَرُ في البَرِّ، والعاصِفُ والقاصِفُ في البحر. {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} أي: المقيمِ المذَلَّلِ للرياح، سُمِّيَ سَحابًا؛ لأنه يُسْحَبُ؛ أي: يسيرُ في سرعة كأنه ينسحبُ؛ أي: يُجَرُّ. {بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تقلِّبه في الجوِّ كيفَ شاءتْ بمشيئة الله تعالى، فيمطِرُ (¬2). {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ينظرونَ بعقولهم، فيعلمون أنَّ لهذه الأشياء خالِقًا وصانِعًا، فيوحِّدونه، فبعدَ ثُبوتِ الألوهيةِ عَنَّفَ الكفارَ أَنْ عبدوا غيرَهُ، ووصفَ الأبرارَ فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 118)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: 173)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: 91)، و"الكشف" لمكي (1/ 270)، و"تفسير البغوي" (1/ 133)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 106)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 131). (¬2) في "ن": "فتمطر".

[165]

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}. [165] {وَمِنَ النَّاسِ} أي: المشركين. {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أي: أصنامًا يعبدونها. {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي: يحبون آلهتهم كحبِّ المؤمنين لله تعالى، ثم فضَّلَ محبةَ المؤمنين (¬1) بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} من حبِّ الكفارِ الأندادَ؛ لأن المؤمنين لا يعدِلُون عن الله تعالى بكلِّ حالٍ، والكافرون يَعْدِلون عن أربابهم في الشدائد إلى الله تعالى، وإذا اتَّخذوا صَنَمًا، ثم رأوا أحسنَ منه، طرحوا الأولَ، واختاروا الثاني. {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (تَرَى) بالتاء خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، معناه: لو ترى يا محمدُ الذين ظلموا؛ أي: أشركوا، في شدةِ العذاب، لرأيتَ أمرًا عظيمًا. وقرأ الباقون: (يَرَى) بالياء، معناه: ولو يرى الذين ظلموا أنفسَهم عندَ رؤية العذابِ، لعرفوا مَضَرَّةَ الكفر. (¬2). ¬

_ (¬1) في "ن": "المؤمنين محبة". (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 119)، و "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 227)، و"السبعة" لابن مجاهد (173)، و"تفسير البغوي" (1/ 134)، و "الكشاف" للزمخشري (1/ 106)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 144)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 151)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 132).

[166]

{إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} بالعينِ يومَ القيامة. قرأ ابنُ عامِرٍ: (يُرَوْنَ) بضمِّ الياء مجهولًا، والباقون: بفتحها معلومًا (¬1)، و (إذ) للماضي، ووقعت هنا للمستقبَل؛ لأنَّ خبر الله عن المستقبَل في الصحة كالماضي. {أَنَّ الْقُوَّةَ} أي: القدرةَ الإلهيةَ والغلبةَ. {لِلَّهِ جَمِيعًا} معناهُ: لرأوا وأيقنوا أنَّ القوةَ لله. قرأ أبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (إِنَّ القُوَّةَ)، و (إِنَّ الله) بكسر الألف فيهما على الاستئناف (¬2). {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} وتبدلُ من {إِذْ يَرَوْنَ}. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)}. [166] {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} هم الرؤساءُ المقتدَى بهم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (¬3). {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} هم الأتباع، وأصل التبرؤ: التخلُّص. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 173)، و "الكشف" لمكي (1/ 273)، و"التيسير" للداني (ص: 78)، و "تفسير البغوي" (1/ 134)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 106)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 132). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 228)، و"تفسير الطبري" (3/ 282)، و"تفسير البغوي" (1/ 134)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 132). (¬3) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 152)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 146)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 133).

[167]

{وَرَأَوُا} أي: تبرؤوا في (¬1) حالِ رؤيتِهم. {الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ} أي: عنهم. {الْأَسْبَابُ} الوصُلاتُ التي كانت بينهم في الدنيا؛ من القرابات، والموالاة، والمخالَّةِ، وصارتْ عداوةً. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}. [167] {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} يعني: الأتباع. {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} رجعةً إلى الدنيا. {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي: من المتبوعين. {كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} اليومَ. {كَذَلِكَ} أي: كما أراهم العذاب كذلك. {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} كتبرُّؤ (¬2) بعضِهم من بعض. {حَسَرَاتٍ} نداماتٍ. {عَلَيْهِمْ} جمعُ حَسْرة. {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} لأنهم خُلِقوا لها. ¬

_ (¬1) في "ن": "أي". (¬2) في "ن": "كتبري".

[168]

ونزلَ في ثقيفٍ وخُزاعةَ وغيرِهم ممَّنْ حَرَّمَ على نفسِه الوصيلةَ والبَحِيرةَ وغيرَهما: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}. [168] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} (مِنْ) تبعيض؛ لأن ليس كلُّ ما فيها يؤكَلُ. {حَلَالًا} الحلال: ما لا يُعاقَبُ عليه، وهو ما أطلقَ الشرعُ فعلَه، مأخوذٌ منَ الحلِّ، وهو الفتحُ. {طَيِّبًا} طاهرًا من جميع الشُّبَهِ. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} آثارَه وطرَقه. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وحفصٌ، ويعقوبُ، وقنبلٌ (خُطُوَاتِ) بضم الطاء حيثُ وقع، والباقون: بسكونها (¬1). {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} مظهرُ العداوةِ بَيِّنُها، ثم ذكر عداوته فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 120)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 174)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 90)، و "الكشف" لمكي (1/ 273)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 144)، و"التيسير" للداني (ص: 78)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 152)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 133).

[169]

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}. [169] {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} أي: الإثمِ، وأصلُه: ما يَسُوءُ صاحِبَهُ. {وَالْفَحْشَاءِ} وهي أقبحُ المعاصي وأخبثُها. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من تحريمِ الحرثِ والأنعامِ وغيرِهما؛ لأنه لا علمَ لكم بذلك. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}. [170] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في تحليلِ ما حَرَّموا على أنفسِهم من الحرثِ والأنعامِ والبَحيرةِ والسائبةِ، والهاءُ والميم في (لَهُمْ) عائدةٌ على الناس في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا}. {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ} قرأ الكسائيُّ: (بَل نتَّبِع) بإدغام اللام في النون (¬1). {مَا أَلْفَيْنَا} وجَدْنا. {عَلَيْهِ آبَاءَنَا} في التحريم والتحليل، قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} أي: كيف يَتَّبعون آباءهم، وآباؤهم {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} من الدِّين. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 121)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 146)، و "تفسير البغوي" (1/ 136)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 152)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 135).

[171]

{وَلَا يَهْتَدُونَ} للصواب، المعنى: أيتبعونهم ولو كانوا ضلالًا؟! ثم ضرب لهم مثلًا، فقال - جل ذكره -: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}. [171] {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} النَّعِيقُ: صوتُ الراعي بالغنم، وهي لا تسمعُ إلا صوتًا وزَجْرًا، ولا تفقَهُ شيئًا آخَرَ، وكذلك الكفارُ في دعاءِ النبيِّ لهم إلى الهداية، فمعنى الآية: مثلُكَ يا محمدُ في دعائِكَ الكفارَ إلى الهداية، وعدمِ هدايتهم، كمثلِ الذي يُصَوِّتُ. {بِمَا لَا يَسْمَعُ} منه كالبهائم. {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} تلخيصُه: لا ينتفعُ الكفارُ بشيء من وَعْظِكَ يا محمدُ، وإن سمعوا صوتَكَ. {صُمٌّ} تقول العرب لمن يسمعُ ولا يعقلُ: كأنه أصمُّ. {بُكْمٌ} عن الخيرِ لا يقولونه. {عُمْيٌ} عن الهدى لا يُبْصرونه. {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الموعظةَ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}. [172] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} أي: حلالاتِ.

[173]

{مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: كلوا رزقكم. {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} على نعمه. {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. ثم بين المحرَّماتِ فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}. [173] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وهي ما لم تُدْرَكْ ذكاتُها مما (¬1) يُذْبَحُ. قرأ أبو جعفرٍ: {الْمَيْتَةَ} بالتشديد في كلِّ القرآن (¬2). {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} أي: واستثنى الشارعُ من الميتةِ السمكَ والجرادَ، ومن الدَّمِ الكبدَ والطِّحالَ، فأحلَّهما. {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} أي: جميعَ أجزائِه، فعبَّرَ عن ذلكَ باللحم؛ لأنه معظَمُهُ. {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي: ذُكِر عليه اسمُ غيرِ الله، وهو ما ذُبِحَ للأصنامِ والطواغيتِ، وأصلُ الإهلالِ: رفعُ الصوتِ، وكانوا عندَ ذبحِهم لآلهتِهم يرفعون أصواتَهم بِذِكْرها. ¬

_ (¬1) في "ن": "بما". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (3/ 318)، و"تفسير البغوي" (1/ 138)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 136).

{فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: أُلْجِئ وأُحْوِجَ إلى أكلِ الميتة، وحَدُّ الاضطرارِ أن يخافَ على نفسِه، أو على بعضِ أعضائِه التلفَ، فليأكُلْ. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَمَنُ اضْطُرَّ) بضمِّ النون، وأبو جعفر: بكسر الطاء (¬1). {غَيْرَ} نصبٌ [على] (¬2) الحال. {بَاغٍ} أي: خارجٍ على السلطان، وأصلُ البغيِ: الفسادُ. {وَلَا عَادٍ} أي: عاصٍ بسفره، روي عن يعقوبَ الوقفُ بالياء على (بَاغِي) وَ (عَادِي) (¬3)، وأصلُ العدوانِ: الظلمُ، فلا يجوزُ للعاصي بسفرِهِ أكلُ الميتةِ للضرورة، ولا الترخُّصُ برُخَصِ المسافرينَ عند الشافعيِّ، ومالكٍ، وأحمدَ، خلافًا لأبي حنيفة، واختلفوا في مقدارِ ما يحلُّ للمضطرِّ أكلُه من الميتة، فقال مالكٌ: يأكل حتى يشبعَ، وقالَ الثلاثةُ: يأكلُ مقدارَ ما يُمسِكُ رمقَهُ، وجوابُ (فَمَن): {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: لا حَرَجَ عليه في أكلِها. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن أكلَ في حالِ الاضطرار. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 120)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 174)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 92)، و"الكشف" لمكي (1/ 274)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (1/ 138)، و"التيسير" للداني (ص: 78)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 225)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 153)، "معجم القراءات القرآنية" (1/ 136). (¬2) "على" لم ترد في جميع النسخ، والسياق يقتضيها. (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" (2/ 231).

[174]

{رَحِيمٌ} بترخيصِه ذلكَ. ونزل لمّا غَيَّرَ علماءُ اليهودِ صفةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ خوفًا على فواتِ رياسَتِهم ومآكلِهم التي كانوا يصيبونها من سِفْلَتِهم رجاءَ أن يكونَ النبيُّ المبعوثُ منهم (¬1): {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}. [174] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يعني: صفةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ونبوَّتَهُ. {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي: بالمكتوبِ. {ثَمَنًا قَلِيلًا} عوضًا يسيرًا، يعني: المآكلَ التي يصيبونها من سِفْلَتهم. {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا} ما يُؤَدِّيهم. {النَّارَ} وهو الرِّشْوَةُ والحرامُ، فلمَّا كان ذلكَ يُفضي بهم إلى النار، فكأنهم أكلوا النارَ. {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بالرحمة، وبما يَسُرُّهم إنما يكلِّمُهم بالتوبيخِ. {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} لا يُطَهِّرُهم (¬2) من دَنسَ الذنوب. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلِم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 139 - 140). (¬2) في "ن": "تطهيرهم".

[175]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}. [175] {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أي: استبدَلُوا الكفر بالإيمان. {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} قرأ السوسي، ورُوَيْسٌ (وَالعَذَاب بالمَغْفِرَةِ) (الكِتَاب بالحَقِّ) بإدغامِ الباء في الباء (¬1)، ثم أعجبَ من حالهم وملازمتِهم ما يُوجبُ لهم النارَ، فقال: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} وأصلُ الصبرِ: الإمساكُ في ضيقٍ. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}. [176] {ذَلِكَ} أي: العذابُ مبتدأ، خبرُه: {بِأَنَّ اللَّهَ} أي: بسببِ أنَّ الله. {نَزَّلَ الْكِتَابَ} أي: الكتبَ. {بِالْحَقِّ} بما لا شكَّ فيه ولا تناقضَ، فاختلفوا فيها، فآمنوا ببعضٍ، وكفروا ببعض. {وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ} خلافٍ. {بَعِيدٍ} عن الهدَى. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الآية (20) من سورة البقرة.

[177]

ولما صَلَّى اليهودُ نحوَ المغربِ، وادَّعَوْا أنه البِرُّ، والنصارى نحوَ المشرقِ، وادَّعَوْا أنه البِرُّ، نزلَ ردًّا عليهم: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}. [177] {لَيْسَ الْبِرَّ} وهو كلُّ عملِ خيرٍ يُفضي بصاحبه إلى الجنة، وأصلُه: التوسُّعُ في فعلِ الخير. قرأ حمزةُ، وحفصٌ: (البِرَّ) بنصِب الراء، والباقون: برفعها، فمن قرأ بالرفع، جعل البرَّ اسمَ ليس، وخبرُها (أن تولوا)، ومن قرأ بالنصب، جعلَ (أن تولوا) الاسمَ (¬1). {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} المعنى: ليس البرُّ صلاتِكم إلى غير القبلة. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} أي: وإنما البر. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ بتخفيفِ النون (¬2)، ورفعِ الراء مبتدأ، خبرُه: ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 230)، و "الحجة" لأبي زرعة (ص: 123)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: 175)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 68). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 230)، و "التيسير" للداني (ص: 79)، و"تفسير البغوي" (1/ 141)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 92)، و "الكشف" =

{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ} يعني: الكتبَ المنزلةَ. {وَالنَّبِيِّينَ} أجمعَ. {وَآتَى} أي: أعطى. {الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أي: حبِّ المال في حال صِحَّته ومَحَبَّتِهِ. {ذَوِي الْقُرْبَى} أهلَ القرابة، وقَدَّمهم؛ لأنهم أحقُّ. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} هو المسافرُ، سُمِّي به لملازمتِهِ الطريقَ. {وَالسَّائِلِينَ} المستَطْعِمين. {وَفِي الرِّقَابِ} المكاتبَين. {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى} أي: أعطى {الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} فيما بينَهم وبينَ الله -عز وجل-، وفيما بينَهم وبينَ الناس. {إِذَا عَاهَدُوا} إذا وَعَدُوا (¬1) أَنْجزوا، وإذا حَلَفوا أو نَذَروا أَوْفَوا، وإذا قالوا صَدَقوا، وإذا ائْتُمِنوا أَدَّوْا. {وَالصَّابِرِينَ} منصوبٌ على المدح، والعربُ تنصبُ الكلام على المدح والكرم؛ كأنهم يريدون إفرادَ الممدوحِ والمذمومِ، ولا يُتبعونه أولَ الكلام وينصبونه. ¬

_ = لمكي (1/ 281)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (1/ 141)، و"التيسير" للداني (ص: 79)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 226)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 137). (¬1) في "ن": "توعدوا".

[178]

{فِي الْبَأْسَاءِ} الشدَّةِ والفقرِ. {وَالضَّرَّاءِ} المرضِ والزَّمانَةِ. {وَحِينَ الْبَأْسِ} القتالِ والحربِ. {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} فيما عاهدوا {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} محارمَ الله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}. [178] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} فُرِضَ. {عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} المساواةُ. {فِي الْقَتْلَى} والقصاصُ: المماثلةُ في الجراحِ والدِّيات، وأصلُه من قَصَّ الأثرَ: إذا تبَعَهُ، وهو أن يُفعل بالجاني مثلُ ما فَعل، وسببُ نزولها أنه كان بين حَيَّين في الجاهلية جراحاتٌ ودياتٌ لم تُسْتَوْفَ حتى جاءَ الإسلام، فأقسمَ أحدُ الحيينِ ليقتلنَّ (¬1) بالرجلِ الواحد الرجلينِ، فنزلَت (¬2). {الْحُرُّ} مبتدأ، خبرُه تقديره: مأخوذ. ¬

_ (¬1) في "ن": "ليقتل". (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 230)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 123)، و"الكشف" لمكي (1/ 256)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (1/ 141)، و "التيسير" للداني (ص: 79)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 153)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 138).

{بِالْحُرِّ} كذلك {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} اختلفَ الأئمةُ في حكم الآية، فمالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ -رضي الله عنهم- لا يقتلون الحرَّ بالعبد، ولا المؤمنَ بالكافر، ويجعلون هذه الآيةَ مفسِّرَةً للمبهَم في قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ولأن تلكَ حكايةُ ما خوطبَ به اليهودُ في التوراة، وهذه خطاب للمسلمين، وما فرض عليهم فيها، واستثنى مالك فقال: إلا أن يقتلَ المسلمُ الكافرُ غيلةً، فيُقتلُ به، وأبو حنيفة -رضي الله عنه- يقتلُ الحرُّ بالعبدِ، والمؤمنَ بالكافر، يجعلُ (¬1) هذه الآية منسوخَةً بقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وبدليل ما رُوي: "المُسْلِمُونَ تتَكافَأُ دِمَاؤُهُمْ" (¬2)، ولأنَّ التفاضُلَ في الأنفسِ (¬3) غيرُ معتبَرٍ؛ بدليلِ قتلِ الجماعةِ بالواحدِ بالاتفاق، واتفقوا على أنه يُقْتل الذكرُ بالأنثى، وعكسُه، والصغيرُ بالكبير، والصحيحُ بالأعمى، وبالزَّمِنِ، وبناقِصِ الأطرافِ، وبالمجنونِ. ونقل الزمخشريُّ في "كَشَافِه" أنَّ مذهبَ مالكٍ والشافعي لا يقتل الذكرُ بالأنثى؛ أخذًا بهذه الآية (¬4)، وهو وهمٌ؛ فإن مذهبَهما يُقْتَلُ الذكرُ بالأنثى، وعكسُه، وقد صرَّحَ بذلك علماءُ المذهبَيْنِ في كتبهِم المبسوطاتِ والمختصراتِ. {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي: تُرِكَ له، وصُفِحَ عنهُ من الواجِبِ عليه، ¬

_ (¬1) في "ن": "ويجعل". (¬2) رواه أبو داود (2751)، كتاب: الجهاد، باب: في السرية ترد على أهل العسكر، وابن ماجه (2685)، كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. (¬3) في "ت": "النفس". (¬4) انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 246).

وهو القصاص في قتل العمد، ورُضي منه بالدية، وأصلُ العفوِ: المحوُ والتجاوزُ، وقولُه: (مِنْ أَخيهِ)؛ أي: من دمِ أخيهِ المقتولِ، وقولُه: (شيءٌ) دليل على أن بعض الأولياء إذا عَفَا، سقطَ القَوَدُ، وتَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ؛ لأنَّ شيئًا من الدم قد بطلَ، وهو قولُ الثلاثة، وقال مالكٌ: إن عَفَا بعضُ مَنْ له الاستيفاءُ، فإن كانَ الجميعُ رجالًا، سقطَ القودٌ، وإن كُنَّ نساءً، نظرَ الحاكمُ، فإن كانوا رجالًا ونساءً، لم يسقطْ إلا بهما، أو ببعضِهما، وإلا فالقولُ قولُ المقتصِّ، ومهما سقطَ البعضُ، تعيَّنَ لباقي الورثة نصيبُهم من ديةِ عمدٍ. {فَاتِّبَاعٌ} أي: على الطالبِ للدياتِ الاتباعُ. {بِالْمَعْرُوفِ} فلا يأخذُ منه أكثرَ من الدية، ولا يطالبُه بعنفٍ. {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} أي: على المطلوبِ منه أداءُ الديةِ إلى وليِّ الدمِ. {بِإِحْسَانٍ} بلا مماطلةٍ ولا بَخْس، وهذا تأديبٌ للقاتل، ولوليِّ الدمِ. {ذَلِكَ} أي: المذكورُ من العفوِ وأخذِ الدية. {تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} لأن القصاص كان حتمًا على اليهود، وحُرِّمَ عليهِمُ العفوُ والديةُ، وكانتِ الديةُ حَتْمًا على النصارى، وحُرِّمَ عليهم القصاصُ، فَخيِّرَتْ هذه الأمةُ بينَ الأمرين تخفيفًا ورحمةً. {فَمَنِ اعْتَدَى} أي تجاوزَ ما شُرِعَ، فقتلَ الجانيَ بعدَ العفوِ وقَبولِ الدية، أو قتلَ غيرَ القاتلِ. {بَعْدَ ذَلِكَ} أي: بعدَ أخذِ الدية. {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.

[179]

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}. [179] {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي: بقاءٌ؛ لأنه يزجُرُ عن القتل. {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} العقولِ. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: تنتهونَ عن القتل مخافةَ القَوَد. وفي معنى قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من الأمثالِ الدائرةِ على ألسُنِ الناس: القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}. [180] {كُتِبَ} أي: فُرِضَ. {عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: أسبابُه من الأمراضِ. {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي: مالًا. {الْوَصِيَّةُ} والفاء مقدرة؛ أي: فالوصيةُ رفع مبتدأ، خبرُه: {لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} كانت فريضةً في ابتداء الإسلام، ثم نُسخت بآيةِ الميراثِ، وبقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" (¬1) {بِالْمَعْرُوفِ} أي: بالعدلِ، لا يزيدُ على الثلثِ، ولا يوصي لغنيٍّ ويدعُ الفقيرَ. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2870)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء لا وصية لوارث، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2713)، كتاب: الوصايا، باب: لا وصية لوارث، وغيرهم عن أبي أمامة -رضي الله عنه-.

[181]

{حَقًّا} نصبٌ على المصدَر؛ أي: جَعَلَ الوصيةَ حقًّا. {عَلَى الْمُتَّقِينَ} الله. {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}. [181] {فَمَنْ} شرطٌ مبتدأ. {بَدَّلَهُ} غَيَّرَ الإيصاءَ. {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} أي: قولَ الموصي، والجوابُ: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي: حرجُ الإيصاءِ المبدَّلِ. {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} والميتُ بريءٌ منه ثم تهدَّدَ المبدِّلَ بقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لِما وَصَّى به الموصي. {عَلِيمٌ} بتبديل المبدِّلِ. {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}. [182] {فَمَنْ خَافَ} أي: علم. {مِنْ مُوصٍ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (مُوَصٍّ) بفتح الواو وتشديد الصاد؛ لقوله تعالى: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} [الأحقاف: 15]، وقرأ الباقون: بسكون

[183]

الواو وتخفيف الصاد؛ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬1) [النساء: 11]. {جَنَفًا} أي: عُدولًا عن الحقِّ، وأصلُه: الميل. {أَوْ إِثْمًا} ظلمًا. {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الموصَى لهم. {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: على الحاضر أو وليِّ أمورِ المسلمينَ أن يأمرَ الموصِيَ بالعدل بينَ الموصَى لهم، أو يصلحَ بعدَ موتهِ بينَ ورثتِهِ وبينَ الموصَى له، ويردَّ الوصيةَ إلى العدلِ والحقِّ. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وعدٌ للمصلح. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}. [183] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} أي: فُرِضَ. {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وأصلُه في اللغة: الإمساكُ، وفي الشرعِ: إمساكٌ عن أشياءَ مخصوصةٍ بنيَّةٍ في زمنٍ معيَّنٍ من شخصٍ مخصوصٍ. ثم بَيَّنَ أن ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 234)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 124)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: 176)، و "الكشف" لمكي (1/ 282)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 147)، و "تفسير البغوي" (1/ 149)، و "التيسير" للداني (ص: 79)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 226)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 154)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 140).

[184]

هذا الصيام؛ أعني: ثلاثين يومًا، كان مفروضًا على من تقدَّمنا، ولم نُخَصَّ به بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من الأنبياء والأممِ، وكان صيامُ مَنْ تقدَّمنا من العتمة إلى الليلة القابلة، وكان النصارى قد يقع صيامهم في الحرِّ الشديد، فيشُقُّ عليهم، فجعلوه في الربيع، وزادوه عَشْرًا كفارةً لِما صنعوا، ثم مرض ملكُهم فبرئ، فأتمَّهُ خمسين. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ما لم يَجُزْ شرعًا. {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}. [184] {أَيَّامًا} ظرفٌ لكُتِبَ؛ كقولك (¬1): نويتُ الخروجَ يومَ الجمعة. {مَعْدُودَاتٍ} مُوَقَّتاتٍ بعددٍ، وكان في ابتداء الإسلام صومُ ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ واجبًا، وصومُ عاشوراء، فَنُسِخَ بصيام رمضان، وأولُ ما نُسِخَ بعدَ الهجرةِ أمرُ القبلةِ والصومِ، وفُرِضَ رمضانُ في السنة الثانية من الهجرة إجماعًا، فصام -عليه السلام- تسعَ رمضاناتٍ إجماعًا. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي: راكب سفر. ¬

_ (¬1) في "ت": "كقوله".

{فَعِدَّةٌ} مبتدأ، خبرُه محذوف، تقديره، ومعناه: فأفطرَ، فعليه صيامُ عددِ أيامِ فطرِه. {مِنْ أَيَّامٍ} نعتٌ لعِدَّة. {أُخَرَ} غيرِ أيامِ مرضِه وسفرِه. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: على الذين يقدرون على الصيام، وهم مَنْ (¬1) لا عذرَ له في الفطر، فعليه إن أفطر: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} لأنهم كانوا قد خُيِّروا في ابتداء الإسلام بينَ أن يصوموا وبينَ أن يفطروا ويفتدوا، فَنُسِخَ التخييرُ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ ذكوانَ عنِ ابنِ عامر: (فِدْيَةُ طَعَامِ) بالإضافة (مَسَاكِينَ) على الجمع بألف (¬2) بعدَ السين، وافقهم هشامٌ في جمع مساكين. وقرأ الباقون: (فِدْيَةٌ) منونةً (طَعَامُ) رفعٌ (مِسْكِينٍ) على التوحيد، فمن جمعَ، نصبَ النونَ، ومن وحَّدَ، خفضَ النونَ، ونَوَّنَها (¬3)، وهي ثابتةٌ في حقِّ مَنْ كان يطيقُ في حالِ الشبابِ، ثم عجزَ لكبرِهِ، فله أن يُفطرَ ويفتديَ عندَ الثلاثة، وعندَ مالكٍ يفطرُ ولا فديةَ ¬

_ (¬1) في "ن": "ممن". (¬2) في "ن": "بالألف". (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 236)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 124)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 176)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 93)، و"الكشف" لمكي (1/ 282 - 283)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 147)، و"تفسير البغوي" (1/ 152)، و"التيسير" للداني (ص: 79)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 226)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 154)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 142).

عليه، لكنْ تستحَبُّ. والفديةُ: الجزاءُ، وهو أن يُطعمَ عن كلِّ يومٍ أفطرَ مسكينًا مُدًّا مِنْ بُرٍّ، وهو رِطْلٌ وثُلُثٌ بالعراقيِّ عندَ الشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ نصفُ صاعٍ بُرًّا، أو صاعٌ من غيره، وقدر الصاعِ عندَه ثمانيةُ أرطالٍ بالعراقيِّ. {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي: زادَ على مسكينٍ واحدٍ، أو زادَ على الواجبِ عليه. {فَهُوَ} أي: فالتطوُّعُ. {خَيْرٌ لَهُ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلف: (يَطَّوَّعْ) (¬1) أي: يَتَطَوَّعْ، ومحلُّ {وَأَنْ تَصُومُوا} رفعٌ مبتدأ، خبرُه: {خَيْرٌ لَكُمْ} أي: والصيامُ خير من الفديةِ. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلكَ، والحاملُ والمرضِعُ إذا خافتا على وَلَدَيهما وأَنْفُسِهما، أَفْطَرتا، وقَضَتا (¬2) بالاتفاق، ولا فديةَ عليهِما عندَ أبي حنيفةَ، والمشهورُ عن مالكٍ وجوبُ الفديةِ على المرضِعِ دونَ الحاملِ، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ إِنْ أفطرتا خَوْفًا على أنفسِهما، فلا فديةَ، أو على الولدِ لزمَتْهما الفديةُ، وأما المريضُ والمسافرُ والحائضُ والنفساءُ، فعليهمُ القضاءُ دونَ الفديةِ بالاتفاق. ثم بين اللهُ تعالى أيامَ الصيام فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 90)، و"الكشف" لمكي (1/ 269 - 270)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 148)، و"التيسير" للداني (ص: 77)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 155)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 143). (¬2) في "ن": "وقضيا".

[185]

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}. [185] {شَهْرُ رَمَضَانَ} سُمِّيَ الشهرُ شهرًا؛ لشهرتِه، وسُمِّيَ رمضانَ من الرَّمْضاء، وهي الحجارةُ المُحَمَّاةُ. قرأ أبو عمرٍو (شَهْر رَّمَضَانَ) بإدغام الراء في الراء (¬1)، ورفْعُهُ مبتدأ، خبرُه: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} جملةً واحدة في ليلةِ القدرِ من اللَّوْحِ المحفوظِ إلى بيتِ العِزَّةِ في سماءِ الدُّنْيا، ثم نزلَ به جبريلُ -عليه السلام- نجومًا في نَيِّفٍ وعشرينَ سنةً، وتقدَّمَ تفسيرُ معنى القرآن في الفصلِ الثامنِ أولَ التفسيرِ. قرأ ابنُ كثيرٍ (القُرَان) (وقُرَانًا) حيثُ وقعَ بفتحِ الراءِ غيرَ مهموز (¬2). وعن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى فِي سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ إِنْجِيلُ عِيسَى فِي ثَلاَثَ عَشْرَةَ مَضَيْنَ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 237)، و"إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 148)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 39)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 143). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 153)، و "التيسير" للداني (ص: 79)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 154)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 144).

رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ فِي ثَمانِي عَشْرَة لَيْلَةً (¬1) مَضَتْ (¬2) منْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقرْآنُ علَى مُحَمَّدٍ فِي الرَّابِع وَالْعِشْيرينَ مِنْ رَمَضَانَ لِسِتٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا" (¬3). {هُدًى لِلنَّاسِ} من الضلالة. {وَبَيِّنَاتٍ} دلالاتٍ واضحاتٍ. {مِنَ الْهُدَى} ذكر أولًا أنه هُدًى للناس، ثم ذكر ثانيًا أنه بيناتٌ من الهدى؛ ليؤذن أنه من جملةِ ما هَدَى الله تعالى به. {وَالْفُرْقَانِ} المفرِّقِ بين الحقِّ والباطِلِ. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أي: كان (¬4) مقيمًا في الحضر. {فَلْيَصُمْهُ} وأعاد قولَهُ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ليعلم أنَّ هذا الحكمَ ثابتٌ في الناسخِ ثبوتَهُ في المنسوخ، واختلفوا في المرض الذي يُبيحُ الفطرَ, فقال أبو حنيفة ومالكٌ: يُباحُ بمطلَقِ المرضِ، وقالَ الشافعيُّ وأحمدُ: يُباحُ إذا خافَ ضرَرًا بزيادةِ مرضِه أو طوله، والسفرُ المبيحُ للفطرِ ¬

_ (¬1) "ليلة" ساقطة من "ن". (¬2) في "ن": "مضين". (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 107)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 75)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2248)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (6/ 202)، عن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 197): فيه عمران بن داود القطان، ضعفه يحيى ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقية رجاله ثقات. (¬4) "كان" ساقط من "ن".

عندَ أبي حنيفة مسيرةُ ثلاثةِ أيامٍ، وعندَ الثلاثةِ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا [وهي] (¬1) أربعةُ بُرُدٍ، وهي يومانِ قاصدانِ، واختلفوا في أفضلِ الأمرينِ، فقال الثلاثة: الصومُ أفضلُ، [وإنْ جهدَهُ الصومُ كانَ الفطرُ أفضلَ، وقالَ الإمامُ أحمدُ: الفطرُ أفضلُ] (¬2)؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ" (¬3). {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} حيثُ أباحَ الفطرَ بالمرضِ والسفرِ، واليُسْرُ: ما تسهل. {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [العُسْرُ: ضدُّ اليسر، تلخيصُه: يريدُ أن يُيَسِّرَ عليكم ولا يُعَسِّرَ] (¬4). قرأ أبو جعفر (اليُسُرَ والعُسُرَ) ونحوَهما بضمِّ السين حيثُ وقعَ، والباقون: بالسكون (¬5). {وَلِتُكْمِلُوا} تقديرُهُ: يريدُ بكمُ اليسرَ، ويريدُ بكم لتكْمِلوا. {الْعِدَّةَ} بقضاءِ ما أفطرتُم في مرضِكم وسفرِكم. قرأ أبو بكرٍ، ¬

_ (¬1) لم ترد في جميع النسخ، والسياق يقتضيها. (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬3) رواه البخاري (1844)، كتاب: الصوم، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن ظلل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، ومسلم (1115)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. (¬4) ما بين معكوفتين سقط من "ن". (¬5) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 156)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 114)، و "تفسير القرطبي" (1/ 301)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 154)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 144).

ويعقوبُ (وَلِتُكَمِّلُوا) بتشديد الميم، والباقون: بالتخفيف، وهو الاختيار، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1) [المائدة: 3]. {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} أي: تُعَظِّموه حامِدينَ. {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أرشدَكم إلى ما رَضِيَ به من صومِ شهرِ رمضان. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لله -عز وجل- على نعمِه، والمرادُ بهذا التكبيرِ: هو تكبيرُ ليلةِ الفطرِ، وهو مستحَبٌّ، واختلفَ الأئمةُ في مُدَّته، فقال مالكٌ: يكبِّرُ في يومِ الفطرِ دون ليلته، وابتداؤه من أولِ اليوم إلى أن يخرجَ الإمامُ إلى الصلاة، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ من غروبِ الشمسِ ليلةَ الفطر، وانتهاؤه عندَ الشافعيِّ إلى أن يُحْرِمَ الإمامُ بالصلاة، وعندَ أحمدَ إلى فراغ الخطبة، وقال أبو حنيفة: يكبِّرُ للأَضْحى، ولا يكبِّرُ للفطر، وعند صاحبيه يُكَبِّرُ إذا توجَّهَ للصلاة، فإذا انتهى إلى المصلَّى، سقطَ عنه التكبيرُ، والتكبيرُ في الفطرِ مطلَقٌ غيرُ مقيَّدٍ بوقتٍ ولا مكانٍ، فيكبر في المساجد، والمنازل، والطرق، وغيرها، ولا يكبر عقبَ الصلواتِ المكتوبةِ، وأما صلاةُ العيدين، فهي (¬2) فرضُ كفايةٍ عندَ أحمدَ وسُنَّةٌ عندَ الشافعيِّ ومالكٍ، وعندَ أبي حنيفةَ واجبةٌ على الأعيان، وليستْ فرضًا، ويأتي الكلامُ على ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 239)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 126)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 176)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 93)، و"الكشف" لمكي (1/ 283)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 148)، و"تفسير البغوي" (1/ 156)، و"التيسير" للداني (ص: 79)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 226)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 154)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 145). (¬2) في "ت": "فهو".

التكبيرِ للأضحى وصفةِ التكبيرِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وأما وقتُ صلاةِ العيدِ وصفتُها وأحكامُها، فقد اتفقَ الأئمةُ على أنَّ أولَ وقتِها إذا ارتفعتِ الشمسُ، وآخرَهُ إذا زالتِ الشمسُ (¬1)، وسُمِّيَ عيدًا؛ لاعتيادِ الناسِ له كلَّ حينٍ، ومعاودَتِهِمْ إياه، والسُّنَّةُ أن يُنادى لها: الصَّلاةَ جامعةً، ويُشْتَرَطُ لها إذنُ الإمام، والمِصْرُ عندَ أبي حنيفة، خلافًا للثلاثةِ، كما في الجمعة، ويشترطُ الاستيطانُ، وحضورُ أربعين عند الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ ومحمدٍ تنعقدُ بثلاثةٍ سوى الإمام، وعند أبي يوسفَ اثنانِ سوى الإمامِ، وعندَ مالكٍ ليسَ لهم حدٌّ محصورٌ كما قالَ كلٌّ منهم في الجمعة، وهي ركعتان يجهرُ فيهما بالاتفاق، وصفتُها (¬2) عندَ أبي حنيفة أن يكبِّرَ تكبيرةَ الافتتاحِ، وثلاثًا بعدَها، فإذا قامَ للثانيةِ، بدأ بالقراءةِ، ثم يكبِّرُ ثلاثًا، وأُخرى للركوع، فيوالي بينَ القراءتين في الركعتين، ويسكتُ بينَ كلِّ تكبيرتينِ قدرَ ثلاثِ تسبيحاتٍ، ويرفعُ يدَيه في الزوائدِ، وعندَ مالكٍ يكبِّرُ في الأولى بعدَ تكبيرة الإحرام سِتًّا، وفي الثانيةِ بعدَ القيامِ خمسًا، ويرفَعُ يديه في الأولى خاصَّةً، وليس عندَه بينَ التكبيرتين قولٌ، ولا للسكوتِ بينَهما حَدٌّ، وعندَ الشافعيِّ يكبِّرُ في الأولى بعدَ الافتتاحِ سَبْعًا، وفي الثانيةِ قبلَ القراءةِ خَمْسًا، وعندَ أحمدَ في الأولى بعدَ الافتتاحِ سِتًّا؛ كقولِ مالك، وفي الثانية بعدَ القيام خَمْسًا؛ كقولِ الشافعيِّ، واتفقَ الشافعيُّ (¬3) وأحمدُ على رفعِ اليدينِ مع كلِّ تكبيرةٍ، وعلى ¬

_ (¬1) "الشمس": زيادة من "ن". (¬2) في "ن": "وصفتهما". (¬3) "واتفق الشافعي" ساقطة من "ن".

[186]

التكبيرِ والتحميدِ والتسبيحِ بينَ كلِّ تكبيرتينِ، فإذا فرغَ من الصلاةِ، خطبَ خُطْبتينِ، وهما سُنَّةٌ بالاتفاقِ، يفتتحُهما بالتكبيرِ، يحثُّهم في الفطرِ على الصدقة، ويبينُ لهم ما يُخرجون، وفي الأضحى على الأُضْحية، ويبينُ حكمَها، والتكبيراتُ الزوائدُ سُنَّةٌ بالاتفاق. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}. [186] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} منهُم بالعلمِ والإجابة. عن ابنِ عباسٍ قال: قالَ يهودُ المدينةِ: يا محمدُ! كيفَ يسمعُ دعاءنا ربُّنا وأنتَ تزعُم أن بيننا وبينَ السماء خمسَ مئةِ عامٍ، وأنَّ غلظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك؟ فنزلَتْ هذهِ الآيةُ، وفيه ضمارٌ تقديرُه: فقل لهم: إني قريب. {أُجِيبُ} أسمعُ للإجابة. {دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي) بإثبات الياء فيهما وَصْلًا، بخلافٍ عن قالون. وقرأ يعقوبُ: بإثباتهما وَصْلًا ووَقْفًا، والباقون: بحذفِهما في الحالين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 126)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 198)، و"تفسير البغوى" (1/ 160)، و"التيسير" للداني (ص: 869) و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 154)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 146).

قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا عَلَى الأَرْضِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللهُ إِيَّاهَا، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ". وروي أن أعرابيًّا قالَ: يا رسولَ الله! أقريبٌ ربُّنا فَنُناجِيهِ، أَمْ بعيدٌ فَنُنادِيه؟ فنزل: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أي: فَلْيُجيبوا إذا دعوتُهم إلى الإيمان، والإجابة في اللغة: الطاعةُ، فالإجابةُ من الله: العطاءُ، ومن العبدِ: الطاعةُ، وحقيقتُه: فليطيعوني. {وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} لكي يهتدوا، والرُّشْدُ ضِدُّ الغَيِّ. قرأ وَرْشٌ: (وَلْيُؤْمِنُوا بِيَ) بفتح الياء (¬1). وكانَ في ابتداءِ الإسلامِ يحرمُ (¬2) الأكلُ والشربُ والجماعُ في رمضانَ بعدَ النوم وبعدَ صلاةِ عشاءِ الآخرةِ، ثم إنَّ عمرَ بنَ الخطاب -رضي الله عنه- واقعَ أهلَه بعدَ ما صلَّى العشاء، فلمَّا اغتسلَ، أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، واعتذرَ إليه، ثم قامَ رجالٌ فاعترفوا بمثلِه، فنزلَ في عمرَ وأصحابِه: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 197)، و"التيسير" للداني (ص: 86)، و"الكشف" لمكي (1/ 330)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 149)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 154)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 146). (¬2) في "ن": "تحريم".

[187]

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}. [187] {أُحِلَّ} أي: أُبِيحَ. {لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} ظَرْفٌ لـ "أُحِلَّ". {الرَّفَثُ} الجماعُ ومقدِّماتُه. {إِلَى نِسَائِكُمْ} قال الزَّجَّاجُ: الرَّفَثُ: كلمةٌ جامِعَةٌ لكلِّ ما يريدُ الرجلُ من النساءِ (¬1). {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} أي: ستر منَ النارِ بالتعفُّفِ. {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} واللباسُ: اسمٌ لكلِّ ما يستُرُ، فكأن كلَّ واحدٍ منهما سترًا لصاحبِهِ عمَّا لا يحلُّ، وجاءَ في الحديث: "مَنْ تزَوَّجَ، فَقَدْ أَحْرَزَ ثُلُثَيْ دِينهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 154)، (مادة: رفث). (¬2) قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 476): رواه ابن الجوزي في "العلل" عن أنس مرفوعًا، وقال: لا يصح. وهو عند الطبراني في "الأوسط" (7647)، بلفظ: "فقد استكمل نصف الإيمان .... "، وقال: لم يروه عن عصمة إلا زافر. ورواه البيهقي في "الشعب" (5486)، من حديث الخليل بن مرة، عن الرقاشي، ولفظه: "إذا تزوج العبد فقد كمل نصف دينه، فليتق الله في =

{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ} تخونونَ. {أَنْفُسَكُمْ} وتظلمونَها بالمجامعةِ بعدَ العشاء. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} تجاوزَ عنكُمْ. {وَعَفَا عَنْكُمْ} مَحا ذنوبَكُمْ. {فَالْآنَ} ظرفٌ لقول: {بَاشِرُوهُنَّ} جامِعُوهُنَّ، وسُمِّيَتِ المجامعةُ مباشرةً لالتصاقِ بَشَرَتيهِما. {وَابْتَغُوا} اطلُبوا. {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} في اللَّوْحِ المحفوظِ منَ الولدِ، وكان في ابتداءِ الإسلام إذا نامَ الإنسانُ أو صلَّى العشاءَ حَرُمَ عليهِ الطعامُ والشرابُ في صيامِ رمضانَ، فنزلَ رخصةً: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} لياليَ الصِّيامِ. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} تَبَيَّنَ الشيءُ: ظهرَ. {لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} هو أولُ ما يبدو من بَياضِ النهار كالخيطِ الممدود. {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} هو ما يمتدُّ من سواد الليل مع بَياض النهار، وشُبِّها بخيطين أبيضَ وأسودَ لامتداهما، والمرادُ: الفجرُ الثاني. ¬

_ = النصف الباقي"، ومن حديث زهير بن محمد، عن أنس مرفوعًا، بلفظ: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي"، وكذا هو عنده شيخه الحاكم في "مستدركه" (2681)، وقال: إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه، انتهى مختصرًا.

{مِنَ الْفَجْرِ} بيان للخيطِ الأبيضِ، واكتفى ببيان الخيطِ الأبيضِ عن بيانِ الأسودِ؛ لدلالتِهِ عليه، ولما أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولم ينزلْ منَ الفجر، كان رجالٌ إذا أرادوا الصوم، ربطَ أحدُهم في رِجْليه الخيطَ الأبيضَ والخيطَ الأسودَ، ولا يزالُ يأكلُ ويشربُ حتى يتبينَ له رؤيتُهما، فأنزل الله: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أَنَّما يعني الليلَ والنهارَ (¬1)، والفجرُ فجرانِ: كاذبٌ، وصادقٌ، فالكاذبُ يطلُعُ أولًا مستطيلًا يصعَدُ إلى السماء، فبطلوعِهِ لا يخرجُ الليلُ، ولا يحرُمُ الطعامُ والشرابُ على الصائم، ثم يغيبُ فيطلُعُ بعدَهُ الصادقُ، ينتشرُ سريعًا في الأفق، ولا ظلمةَ بعدَه، فبطلوعِه يدخلُ النهار، ويحرمُ الطعامُ والشرابُ على الصائم. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (¬2). {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} المباشرةُ: الجِماعُ، نزلَتْ فيمَنْ كان يعتكِفُ في المسجد، فإذا عَرَضَتْ له حاجةٌ إلى امرأته، خَرَجَ فجامَعَها، ثُمَّ اغتسلَ فرجعَ إلى المسجد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1818)، كتاب: الصوم، باب: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ....}، ومسلم (1091)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ... ، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (1853)، كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم، ومسلم (1100)، كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

رُوِيَ عن يعقوبَ: الوَقْفُ على النون المشدَّدَةِ من جمعِ الإناثِ بالهاءِ (¬1) نحو: (هُنَّهْ) (وَمِنْهُنَّهْ) (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّهْ) وشبهِه حيثُ وقعَ. {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} مقيمون ناوونَ الاعتكافَ. {فِي الْمَسَاجِدِ} ولا يجوزُ الاعتكافُ في غيرِ المساجد (¬2)، وهو سنَّةٌ بالاتفاق، وهو لزومُ مسجدٍ لطاعةِ الله تعالى على صفةٍ مخصوصةٍ من مسلمٍ عاقلٍ ولو مميزًا، طاهرٍ مما يوجبُ غسلًا، ولو ساعةً، ويجوزُ غيرَ صائمٍ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، خلافًا لأبي حنيفةَ ومالكٍ -رضي الله عنهما-. المعنى: الجماعُ محرَّمٌ عليكم مدَّةَ اعتكافِكُمْ ليلًا ونهارًا، وهو مُفْسِدٌ له بالاتفاق، وما دونَ الجماعِ من المباشراتِ؛ كالقبلةِ واللمسِ بالشهوةِ، فمكروهٌ، ولا يفسِدُ الاعتكافَ عندَ الشافعيِّ، وقال مالكٌ: يبطل اعتكافه، وعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ: إنْ أنزلَ، بطلَ، وإلَّا فلا. {تِلْكَ} أي: الأحكامُ المذكورةُ وجميعُ المحرَّماتِ. {حُدُودُ اللَّهِ} أي: موانعُه، وأصلُ الحدِّ في اللغة: المنعُ، ومنهُ قيلَ للبواب: حَدّادٌ؛ لأنه يمنعُ الناسَ منَ الدخولِ. قرأ أبو عمرٍو (المَسَاجِد تَلكَ) بإدغام الدال في التاء. {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أي: فلا تأتوها. {كَذَلِكَ} هكذا. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 154)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 147). (¬2) في "ن": "المسجد".

[188]

{يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكي يتقوها فينجوا من العذاب. {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}. [188] {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} أي: لا يأكلْ بعضُكم من مالِ بعضٍ. {بِالْبَاطِلِ} من غيرِ الوجهِ الذي أباحَهُ اللهُ، وأصلُ الباطلِ: الشيءُ الذاهبُ. نزلَتْ في رجلين تخاصَما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أرضٍ بينَهما، فأرادَ أحدُهما أن يحلِفَ على أرضِ أخيه (¬1). {وَتُدْلُوا بِهَا} أي: لا تُلْقوا بالأموالِ الرشوةِ، وأصلُ الإدلاءِ: إرسالُ الدَّلْو وإلقاؤه في البئر، يقال: أدلَى دَلْوَهُ: إذا أرسلَهُ. {إِلَى الْحُكَّامِ} قضاة السوء بإقامة شهادة الزور. {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا} أي: طائفةً. {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} أي: الظلمِ. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مُبْطِلون. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}. ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح مسلم" (حديث رقم: 139).

[189]

[189] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} نزلَتْ في مُعاذِ بنِ جَبَلٍ وثعلبةَ بنِ غنمٍ الأنصارِيَّيْنِ قالا: يا رسولَ الله! ما بالُ الهلالِ يبدو دقيقًا، ثم يزيدُ حتى يمتلئ نورًا، ثم يعودُ دقيقًا كما بدأ، ولا يكون على حالة؟ فأنزل الله الآية (¬1)، والأهلةُ: جمعُ هلالٍ، سُمِّي بذلك؛ لرفعِ الناسِ أصواتَهُمْ عندَ رؤيته، وهو هلالٌ، إلى الليلةِ الثالثةِ (¬2)، ثم يُقْمِرُ. {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} جمعُ ميقات؛ أي: معالِمُ. {لِلنَّاسِ} يعلمون بها أوقات زراعتهم ومتاجرهم. {وَالْحَجِّ} أي: يعلمون أوقات الحجِّ والعمرةِ والصيامِ والإفطارِ وغيرها، فلهذا خالف بينَهُ وبينَ الشمسِ التي هي دائمةٌ على حالةٍ واحدةٍ. {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} كان المحرمُ جاهليةً وإسلامًا لا يدخُلُ بيتًا من بابه، بل يدخلُه من خلفِهِ، فإن كانَ حائطًا، نقبَهُ، أو يَتَّخِذُ سُلَّمًا يصعَدُ منه حتى يُحِلَّ من إحرامِه، ويرونَ ذلك بِرًّا، إلا أنَّ يكون من الحُمْسِ، وهم قريشٌ وكِنانةُ، فأنزل الله الآيةَ، وسُمِّيت قريشٌ حُمْسًا؛ لشجاعتِهم وتصلُّبِهم في دينهم (¬3). قرأ ابنُ كثيرٍ، وقالونُ، وابنُ عامرٍ وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفُ (البِيُوتَ) و (بِيُوتًا) و (بِيُوتكم) (¬4) ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 25)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بسند ضعيف، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 490). (¬2) "الثالثة" ساقطة من "ن". (¬3) انظر "تفسير الطبري" (2/ 188)، و"تفسير البغوي" (1/ 167)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 492). (¬4) في "ن": "بيوتهم".

[190]

وشِبْهَهُ بكسرِ الباء حيثُ وقع، والباقون: بالضمِّ على الأصل (¬1). المعنى: ليس البرُّ ما تفعلونه. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ذلكَ وتجنَّبَهُ. {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} حالَ الإحرامِ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي تظفروا بالهدى والبر. وأولُ ما نزلَ في أمرِ القتال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}. [190] {وَقَاتِلُوا} أي: و (¬2) جاهدوا. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: طاعتِهِ. {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} كانَ في ابتداء الإسلام أُمِرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالكَفِّ عن قتالِ المشركين، ثم بعدَ الهجرةِ أُمر بقتالِ مَنْ قاتلَه منهم بهذه الآية. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 127)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص:178)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 93)، و"الكشف" لمكي (1/ 284 - 285)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 154)، و"تفسير البغوي" (1/ 167)، و"التيسير" للداني (ص: 80)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 226)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 155)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 148). (¬2) الواو زيادة من "ت".

[191]

{وَلَا تَعْتَدُوا} لا تبدؤوهم بالقتال، ثم نُسخت بعدَ ذلك بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} أي: لا يرضى فِعْلَ. {الْمُعْتَدِينَ} المتجاوِزينَ الحلالَ إلى الحرام. {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)}. [191] {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: وجدتُموهم، وتمكَّنتم منهُم، وأصلُ الثقافة: الحذقُ في إدراكِ الشيءِ وفعله. {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} من مكَّةَ؛ لأنهم أخرجوا المسلمين أولًا منها، ثم أَخرجَ - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا منها من لم يؤمنْ منهم يومَ الفتح، وكانوا يستَعْظِمون القتلَ في الحرمِ، ويُعَيِّرونَ بهِ المسلمينَ، فنزل: {وَالْفِتْنَةُ} أي: شِرْكُهم بالله. {أَشَدُّ} أي: أعظمُ. {مِنَ الْقَتْلِ} الذي يحلُّ بهم منكم في الحرَمِ والإحرامِ. {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (ولا تَقْتُلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ) بغير ألفٍ فيهن على معنى: ولا تقتلوا بعضَهم، تقولُ العرب: قتلْنا بني فلانٍ،

[192]

وإنما قتلوا بعضَهم. وقرأ الباقون: بالألف (¬1)، من القتال (¬2). كان في ابتداء الإسلام لا يحلُّ بِدايَتُهم بالقتال في البلدِ الحرام، ثم صارَ منسوخًا؛ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]. {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} يفعل بهم مثل ما فعلوا. {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}. [192] {فَإِنِ انْتَهَوْا} عنِ الشركِ والقتالِ. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما سلَفَ من ذنوبهم. {رَحِيمٌ} بعباده. {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}. [193] {وَقَاتِلُوهُمْ} أي: المشركين. {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شركٌ، يعني: حتى يُسْلموا. ¬

_ (¬1) في "ن": "عن". (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 243)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 128)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 179)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 49)، و "الكشف" لمكي (1/ 285)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 154)، و"تفسير البغوي" (1/ 169)، و"التيسير" للداني (ص: 80)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 226)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 155)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 149 - 150).

[194]

{وَيَكُونَ الدِّينُ} أي: العبادة. {لِلَّهِ} وحدَه، فلا يُعبد سواه، فلا يُقبل من غير الكتابي إلا الإسلامُ أو القتلُ. {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن الشركِ. {فَلَا عُدْوَانَ} لا ظلمَ. {إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} المعنى: لا تظلموا إلا الظالمين غيرَ المنتهين، وسُمِّي جزاءُ الظالمينَ ظلمًا؛ لازدواجِ الكلام؛ كقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] تلخيصُه: من آمنَ سَلِمَ، ويسمَّى الكافرُ ظالمًا؛ لوضعِه العبادةَ في غير محلِّها. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}. [194] {الشَّهْرُ الْحَرَامُ} أي: المحرم. {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أي: مقابَلٌ به وبما فيه من قتالٍ وحجٍّ وغيرِهما. سببُ نزولها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ معتمِرًا في ذي القعدةِ سنةَ ستٍّ، فصَدَّه المشركون عن البيت بالحُدَيبية، فصالح أهلَ مكَّةَ على أن يرجعَ عامَهُ ذلكَ، ثم رجعَ فقضَى عُمرتَهُ في ذي القعدة أيضًا سنةَ سبعٍ من الهجرةِ، فنزلَتْ (¬1). تلخيصه: هذا الشهرُ بذلكَ الشهرِ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 28)، و "تفسير الطبري" (2/ 197)، و"تفسير البغوي" (1/ 170)، و "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 497).

[195]

{وَالْحُرُمَاتُ} جمعُ حُرْمَةٍ. {قِصَاصٌ} مساواةٌ. المعنى: من هتكَ حرمةً، اقْتُصَّ منه بمثلِها، والهتكُ: خرقُ السترِ عمَّا وراءه. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} وقاتلوه. {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أي: جازوه بعقوبةٍ مماثلةٍ عقوبته، قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} إذا انتصرتم ممَّنْ ظلمكم، فلا تظلموهُم بأخذِ أكثرَ من حَقِّكم. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} فيصلِحُ شأنَهم. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}. [195] {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: الجهاد. سببُ نزولها البخلُ وتركُ الإنفاقِ في سبيل الله حينَ قالَ ناسٌ: لو أنفقْنا أموالنا، بقينا بلا أموال (¬1). {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} أصل الإلقاءِ: طرحُ الشيءِ حيث تراه، وعُبِّر عن الأنفسِ بالأيدي. المعنى: لا تطرحوا أنفسَكم. {إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي: الهلاكِ بتركِ الإنفاقِ في سبيل الله، والعربُ لا تقولُ: ألقى بيدِهِ إلَّا في الشرِّ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 29)، و"تفسير الطبري" (2/ 200)، و"تفسير البغوي" (1/ 171)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 499).

[196]

{وَأَحْسِنُوا} باللهِ الظنَّ، وفي الإنفاقِ من غيرِ إسرافٍ ولا تقتيرٍ. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فيما يصدُرُ منهم. {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}. [196] {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وإتمامُهُما أن يؤتَى بهما تامين بمناسكِهما (¬1) وسُنَنِهما، واتفقَ الأئمةُ على وجوبِ الحجِّ على مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا، واختلفوا في العُمرة، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: هي واجبةٌ؛ لأنها قرينةُ الحجِّ في كتاب الله؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: هي سُنَّةٌ، وتأوَّلا قولَه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} معناه: أَتِمُّوها إذا دخلتُم فيها، أما ابتداءُ الشروعِ (¬2) فيها، فتطوُّعٌ. واتفقَ الأئمةُ على جوازِ أداءِ الحجِّ على ثلاثةِ أوجُهٍ: الإفراد، والتمتُّعُ، والقِران. فصورةُ التمتعُّ: أن يعتمرَ في أشهرِ الحجِّ، ثم بعدَ الفراغ من أعمالِ ¬

_ (¬1) في "ن": "مناسكهما". (¬2) في "ن": "الشرع".

العُمرة يُحرِمُ بالحجِّ من مكةَ، فيحجُّ في ذلكَ العامِ، وهو الأفضلُ عندَ الإمامِ أحمدَ. وصورة الإفرادِ: أن يحجَّ، ثم بعدَ الفراغ منه يعتمرُ من خارجِ مَكَّةَ من أدنى الحِلِّ، وهو الأفضلُ عندَ مالكٍ والشافعيِّ. وصورةُ القِرانِ: أن يحرمَ بالحجِّ والعمرةِ معًا، أو يحرمَ بالعمرةِ ثم يُدخلُ عليها الحجَّ قبل أن يطوفَ، فيندرج أفعالُ العمرةِ في أفعال الحجِّ، وهو الأفضلُ عندَ أبي حنيفة. ويأتي الكلامُ على وجوبِ الحجِّ وشيءٍ من أحكامِه في سورة الحج عندَ تفسيرِ قوله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أصل الإحصارِ: المنعُ، والمانعُ المبيحُ للمحرمِ التحلُّلَ ما كان بعدوٍّ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ ومالكٍ، وعندَ أبي حنيفةَ كلُّ ما صَدَّ عن الوصول إلى البيت؛ كعدوٍّ، ومرضٍ، وذهابِ نفقةٍ وراحلة، وتقديرُه: إن صُدِدتم عن الوصول إلى البيت. {فَمَا اسْتَيْسَرَ} أي: فعليه ما تيسرَ. {مِنَ الْهَدْيِ} جمعُ هَدِيَّة، والهديُ: ما يُهْدَى إلى الحَرَم من نَعَمٍ وغيرِها تقرُّبًا إلى الله تعالى، والمرادُ هنا: النَّعَمُ، فأيسرُهُ شاةٌ، وأوسطُه بقرةٌ، وأعلاه بَدَنةٌ، فيتحلَّلُ المحرِمُ بذبحِ الهديِ وحَلْقِ الرأسِ حيث أُحْصرَ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ مالكٍ أن المحصَرَ بعدوٍّ لا يجبُ عليه هَدْيٌ، ويتحلَّلُ بدونه، وقال أبو حنيفةَ: يبعثُ بهديِه إلى الحَرَمِ، ويُقيم على إحرامِهِ، ويواعدُ مَنْ يذبحُهُ عنهُ، ثم يُحِلُّ. تلخيصُه: فإنْ مُنِعْتُم عن البيت مُحْرَمين، فعليكم إذا أردتم التحلَّلَ ما تَسَهَّلَ من الهَدْي.

{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} في حالِ الإحرام، فالحلقُ والتقصيرُ مشروعٌ في الحجِّ بالاتفاقِ، فعندَ الشافعيِّ هو ركنٌ على الأصحِّ، وعندَ الثلاثةِ واجبٌ. {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} مَنْحَرَهُ الذي يُذْبح فيه، فيذبحُه حيثُ يحلُّ، وتقدَّم قريبًا ذكرُ اختلافِ الأئمة في محلِّهِ. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} في جَسده. {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} من هَوامّ أو صُداعٍ صراع (¬1) أو جراحةٍ (¬2). المعنى: يثبتُ على إحرامِه من غيرِ حلقٍ حتى يذبَحَ هَدْيَه، إلا أن يُضْطَرَّ إلى الحلق، فإن فعلَ ذلك (¬3) للضرورةِ {فَفِدْيَةٌ} أي: فعليه فديةٌ، نزلتْ في كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ حينَ رآه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهَوامُّهُ تسقطُ على وجهه، فقال: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ "، فأمره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحلق والفدية، وهو بالحديبية (¬4). {مِنْ صِيَامٍ} أي: صيامِ ثلاثةِ أيامٍ بالاتفاق. {أَوْ صَدَقَةٍ} يُطعمها لستةِ مساكينَ، لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ من طعام عندَ الثلاثة، وعندَ أحمدَ مُدُّ بُرٍّ، أو نصفُ صاعِ تمرٍ أو شعيرٍ. {أَوْ نُسُكٍ} جمعُ نَسيكة، وهي ذبيحةُ شاةٍ بالاتفاق، واتفقوا على أنه مخيَّرٌ بين الصيام والذبح والتصدُّق؛ لأن (أو) للتخيير. ¬

_ (¬1) "صراع" زيادة من "ن". (¬2) "جراحة" ساقطة من "ن". (¬3) "ذلك" زيادة من "ن". (¬4) رواه البخاري (3927)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1201)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم.

واختلفوا في الدماء المتعلِّقَةِ بالإحرام بمن تختصُّ تفرقتُها؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوزُ الذبحُ إلا بالحرم، ولا يختصُّ تفرقتهُ بأهله، وقال مالكٌ: ليس شيءٌ منها مخصوصًا، وجائز أن يفعلَها حيثُ شاء بمكةَ وغيرِها، والاختيارُ أن يأتيَ بالكفارة حيثُ وجبتْ عليه، فإن أتى بها في غيره، أجزأت عنه، وقال الشافعيُّ: الدمُ الواجبُ بفعلِ حرامٍ أو تركِ واجبٍ لا يختصُّ بزمانٍ، ويختصُّ ذبحُه بالحرم، ويجب صرفُ لحمِه إلى مساكينه، إلَّا دمَ الإحصار فحيث أُحصِرَ، وقال أحمدُ: كلُّ هديٍ أو إطعامٍ فهو لمساكين الحرم، إلا فديةَ الأذى والإحصار, فحيث وجدا، ولهُ تفرقتُها في الحرم أيضًا، أما الصومُ فيجزئ بكلِّ مكانٍ بالاتفاق. {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} من خوفكم، وبرئْتُم من مرضِكم. {فَمَنْ تَمَتَّعَ} ومعنى التمتع {بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} في قول ابن عباسٍ وعطاءٍ وجماعةٍ: هو الاستمتاعُ بعدَ الخروجِ من العمرةِ بما كان محظورًا عليه في الإحرام إلى وقتِ إحرامِه بالحج، وقيل: هو الاستمتاعُ والانتفاعُ بالتقرُّبِ بها إلى الله تعالى قبلَ الانتفاعِ بالتقرُّب إلى الله تعالى بالحج (¬1)، {فَمَنْ} شرطٌ محلُّه رفعٌ ابتداء، وجوابُه: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: عليه دمٌ، شاةٌ يذبحُها، لأنه ترفق بأداء النُّسكين في سَفْرَةٍ واحدةٍ، وكذا القارنُ بشرطِ ألَّا يكون (¬2) من حاضري المسجدِ الحرامِ بالاتفاق، ويلزمُ دمُ التمتُّع بطلوعِ الفجرِ يومَ النحر عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ، وعند مالكٍ والشافعيِّ بإحرامِ الحجِّ، وإذا وجبَ، جازَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 179). (¬2) في "ن": "أن يكون".

إراقتُهُ، ولم يتوقَّتْ بوقتٍ عند الشافعيِّ، والأفضلُ عندَه إراقتُه يومَ النحر، وهو مذهبُ الثلاثة. ولوجوب الدم على المتمتع عند أَحمدَ سبعةُ شروط: أحدهما: ألَّا يكونَ من حاضري المسجد الحرام، والثاني: أن يعتمرَ في أشهر الحجِّ، والعبرةُ بالشهرِ الذي أحرم فيه، لا بالذي حَلَّ فيه، الثالث: أن يحجَّ من عامِهِ، الرابع: ألَّا يسافر بين العمرة والحج مسافةَ قصرٍ فأكثرَ، الخامسُ: أن يحلَّ من العمرة قبلَ إحرامه بالحجِّ، السادسُ: أن يحرمَ من الميقات أو من مسافةِ قصرٍ فأكثرَ من مكةَ، السابع: أن ينويَ التمتُعَّ في ابتداء العمرة، أوْ أثنائها، ولا يُعتبر وقوعُ نسكين عن واحدٍ، فلو اعتمر لنفسِه، وحجَّ عن غيره، أو عكسه، أو فعل ذلك عن اثنين، كان عليه دمُ المتعة. وعندَ الشافعيِّ أربعةُ شروطٍ: الثلاثةُ الأُوَلُ، والرابعُ: ألَّا يعود إلى ميقاتِ بلدِه لإحرامِ الحجِّ. وعند مالكٍ خمسةُ شروط: ألَّا يكونَ من حاضري المسجد الحرام، الثاني: أن يخرجَ من العمرة ولو آخرها في أشهر الحج، ولو أحرمَ قبلَها؛ كما لو أحرمَ في رمضانَ، وأكملَ سعيَهُ بدخولِ شوال، الثالث: ألَّا يعود إلى أُفُقِه أو مِثله؛ بخلاف لوْ عاد مثلُ (¬1) المصريِّ إلى نحوِ المدينة، الرابع: أن يكونا عن واحد؛ بأن تكونَ العمرةُ والحجُّ عن نفسه، أو عمَّن استنابَه، أما لو كان أحدُهما عن نفسه، والآخر عن غيره، سقط الهدي، الخامس: أن يكونا في عامٍ. ¬

_ (¬1) "مثل" ساقطة من "ن".

وعند أبي حنيفة أربعة: أن يحرم من الميقات، الثاني: أن يفعل أفعالَ العمرةِ أو أكثرَها في أشهر الحج، فلو طاف أقلَّ أشواطِ العمرة قبلَ أشهر الحجِّ، وأتمها فيها، وحجَّ، كان متمتعًا، وعكسه لا، لأن للأكثر حكمَ الكلِّ، الثالث: أن يحجَّ من عامِه، الرابع: ألَّا يرجع إلى وطنه، فلو خرج من الحرم، ولم يجاوز الميقات، أو خرجَ من الميقات، ولم يرجعْ إلى وطنه، فهو متمتع، وخالفه صاحباه في الثاني (¬1)، فقالا: إذا خرجَ من الميقات، بطلَ التمتُّعُ. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الهدي. {فَصِيَامُ} أي: فعليه صيامُ. {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أي: في وقته وأشهُرِه، فيصوم يومًا قبلَ التروية، ويومَ التروية، ويومَ عرفةَ، وهذا هو الأفضلُ عند أبي حنيفة وأحمدَ، وعند مالكٍ والشافعيِّ يُستحبُّ أن يصومَ الثلاثة قبلَ يوم عرفة؛ لأن صومه يُضعفه عن الدعاء، فإن صامه، أجزأه، ويجوزُ الصومُ قبلَه بعد الإحرام بالعمرة عندَ أبي حنيفة وأحمدَ، وعند مالكٍ والشافعيِّ بعدَ الإحرام بالحج، ولا يجوزُ صومُ هذه الثلاثةِ في أيام التشريق عندَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، وقال مالكٌ وأحمدُ: يجوز، لأن نهيه -عليه السلام- عن صيام أيام منى معناهُ التطوعُ، وهذا واجبٌ. {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أهليكم وبلدكم، فلو صامها قبلَ الرجوع، لم يجزْ في الأظهر من مذهبِ الشافعيِّ، وقالَ الثلاثةُ: يجوزُ صومُها قبلَ ¬

_ (¬1) في "ت": "الباقي".

الرجوع، لكن لا يصحُّ عندَهم صومُها في أيام التشريق، ويجوزُ صيامُها بعدَ الفراغ من أعمال الحجِّ إذا توطَّنَ بمكةَ بالاتفاق. {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} في الثوابِ والأجرِ، أو ذكرَها على وجه التأكيد، وهذا لأنَّ العربَ ما كانوا يهتدون إلى الحساب، فكانوا يحتاجون إلى فَضْلِ شرح وزيادةِ بيانٍ، وكلُّ واحدٍ من صومِ الثلاثةِ والسبعةِ لا يجبُ فيه التتابعُ بالاتفاق، وإذا فاتَ صومُ الثلاثة أيامٍ حتى أتى يومُ النحر، فعندَ أبي حنيفة لم يجزهِ إلا الدمُ، ولا يجوزُ أن يصومَ الثلاثةَ ولا السبعةَ بعدَها. وعند مالكٍ والشافعيِّ إذا فاتَ صومُها في الحج لزمه قضاؤها ولا دم عليه، وعند أحمد إن لم يصمها في أيام منى صام بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم مطلقًا، ويلزمه التفريق من الثلاثة والسبعة عند الشافعي، وعند أحمد لا يلزمه، وعند مالك إن شاء وصل الثلاثة بالسبعة، وإن شاء فرقها منها. {ذَلِكَ} أي: هذا الحكم الواجب من الهدي أو الصيام عند مالك والشافعي وأحمد. {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وذلك عند أبي حنيفة وأصحابه، إشارة إلى التمتع، فلا متعة ولا قران عندهم لحاضري المسجد الحرام، فمن تمتع وقرن منهم فعليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه، واختلفوا في حاضري المسجد الحرام؛ فعند أحمد: هم أهل مكة، ومن كان من آخر الحرم دون مسافة القصر، وعند الشافعي: من كان وطنه من الحرم أقل من مسافة القصر، وعند أبي حنيفة: أهل المواقيت فما دونها، وعند مالك: أهل مكة فقط. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في أداء الأوامر. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} على ارتكاب المناهي.

[197]

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)}. [197] {الْحَجُّ} مبتدأ، خبره: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي: وقته أشهر وهو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عند أبي حنيفة وأحمد، وعند الشافعي: وتسعة من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، وعند مالك: وجميع ذي الحجة، فمن قال: عشر، عبَّر به عن الليالي، ومن قال: تسعة، عبَّر به عن الأيام، فإن آخر أيامه يوم عرفة وهو التاسع، وإن من قال: أشهر بلفظ الجمع وهي شهران وبعض الثالث على قول الأئمة الثلاثة لأنها وقت والعرب تسمي الوقت تامًّا بقليله وكثيره، فتقول: زرتك العام، وإنما زاره في بعضه، فالميقات: زماني ومكاني، فالزماني للحج وهو ما تقدم آنفًا، وأما العمرة: فتصح في جميع السنة بالاتفاق فلو أحرم بالحج قبل أشهر صح، وانعقد عند الثلاثة، وقال الشافعي ينعقد عمرة مجزية عن عمرة الإسلام، وأما المكاني: فميقات أهل المدينة من ذي الحليفة، وهو اسم لجميع الوادي وهو من المدينة على نحو ستة أميال وبينه وبين مكة نحو عشرة أيام، وميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، واسمها في الأصل: مهيعة، وسميت جحفة لأن السيل جحف أهلها؛ أي: استأصلهم، وهي قرية بينها وبين مكة نحو أربعة أيام، وميقات أهل نجد اليمن ونجد الحجاز والطائف قَرْبه بإسكان الراء، ويُسمى قرن المنازل، وقرن الثعالب، وهو جبل مشرف على عرفات، وميقات أهل اليمن يلملم، وميقات أهل المشرق كخراسان

والعراق ذات عرق، وهذه الثلاثة بين كل واحد منها وبين مكة ليلتان وهذه المواقيت يجب الإحرام على من مر بها أو حاذاها برًّا أو بحرًا إذا كان قاصدًا مكة مريدًا للنسك من حج أو عمرة بالاتفاق، فإن لم يرد نسكًا لم يلزمه الإحرام عند الشافعي، كله يستحب. وعند الثلاثة لا يجوز دخول مكة بغير إحرام، واستثنى أبو حنيفة مَنْ منزله في الميقات أو داخله، وأباح القائلون بوجود الإحرام الدخول لمن شأنه التردد؛ كحطاب ونحوه، ويباح لقتال مباح وخوف من عدو عند الشافعي وأحمد، فإن لم يحرم من وجب عليه الإحرام فقد أساء ولا شيء عليه؛ لأن دخول محل الفرض لا يوجب الدخول في الفرض، ولا قضاء عليه لفواته، كما لا تقضى تحية المسجد إذا جلس قبل أن يصليَها، ولا فدية عليه، وهذا قول الأئمة الثلاثة خلافًا لأبي حنيفة في قوله يجب أن يأتي بحجة أو عمرة، فإن أتي بحجة الإسلام أو عمرة أجزأه عن عمرة الدخول، ومَنْ منزله دون الميقات فميقاته من موضعه بالاتفاق، وميقات أهل مكة للحج عند الشافعي نفس مكة فقط، وعند أبي حنيفة من حيث شاؤوا من الحرم، وعند مالك وأحمد من مكة، ويصح من الحل، وميقاتهم للعمرة من الحل كالتنعيم وغيره بالاتفاق، فلو أحرم من الحرم صح وعليه دم بالاتفاق، فلو خرج إلى الحل قبل طوافه سقط الدم عنه (¬1) عند الثلاثة، وعند أبي حنيفة: إن خرج محرمًا ملبيًا سقط الدم، وعند صاحبيه: يسقط بعدده إلى الميقات، لبى أو لم يلبِّ، وإن رجع بعد طوافه لم يسقط الدم بالاتفاق، وعند مالك: يعيد طوافه وسعيه لكونهما وقعا بغير شرطهما، وإن حلق أعادهما أيضًا وأهدى لكونه حلق في إحرامه. ¬

_ (¬1) "عنه" زيادة من "ن".

{فَمَنْ فَرَضَ} أي: أوجب على نفسه. {فِيهِنَّ الْحَجَّ} بالإحرام والتلبية. {فَلَا رَفَثَ} أي: لا جماع فيه. {وَلَا فُسُوقَ} كل أنواع المعاصي فسوق. {وَلَا جِدَالَ} لا خصام. {فِي الْحَجِّ} بأن يقول بعضهم: الحج اليوم، ويقول بعضهم: الحج غدًا. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {فلا رفثٌ ولا فسوقٌ} بالرفع والتنوين فيهما {ولا جدالَ} بالنصب من غير تنوين. وقرأ أبو جعفر الثلاثة بالرفع والتنوين. وقرأ الباقون بالنصب من غير تنوين في الثلاثة، فالقراءة بالرفع والتنوين إخبار بمعنى النهي؛ أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، وبالنصب من غير تنوين نفي، تلخيصه: لا تفعلوا ما نهيتم عنه. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} أي: برٍّ وطاعة. {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أي: لا يخفى عليه. {وَتَزَوَّدُوا} ما تتبلغون به ويقيكم عن السؤال وغيره. نزلت فيمن كان يحج بلا زاد ويقل على الناس. {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي: اجعلوا زاد الحج الطعام، وزاد الآخرة التقوى. {وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} يا ذوي العقول، فمن من لم يتقه فليس بذي لبٍّ، قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر (واتقوني) بإثبات الياء حالة الوصل، وأثبتها يعقوب وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون فيهما.

[198]

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}. [198] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي: إثم، وأصله من الجنوح، الميل عن القصد. {أَنْ تَبْتَغُوا} أي: تقصدوا. {فَضْلًا} أي: رزقًا وتفضلًا، وهو الربح في التجارة. {مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج. نزلت لما تأثم المسلون من التجارة أيام الحج. {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} دفعتم، أصل الإفاضة الدفع بكثرة، من أفاض الرجل ماءه. {مِنْ عَرَفَاتٍ} جمع عرفة، جمع بما حولها، وإن كانت بقعة واحدة، وهي اسم علم للموقف، سميت به لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام، فلما رآها عرفها. وقيل: إن آدم -عليه السلام- لما أهبط وقع بالهند وحواء بجدة، فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة، وتعارفا، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات، وقيل غير ذلك. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالدعاء والتهليل والتلبية. {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} أي: بالقرب منه، وهو ما بين جبلي مزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر، وجميع المزدلفة موقف إلا المحسر،

[199]

وقيل: هو جبل قزح، وسمي مشعرًا، من الإشعار، الإعلام لأنه من معالم الحج، وأصل الحرام: المنع فلا يفعل فيه ما نهي عنه، والإفاضة من عرفات بعد غروب الشمس، ومن المزدلفة قبل طلوعها يوم النحر، وسمي المزدلفة جمعًا؛ لأنه يجمع فيه بين صلاتي العشاء، والمزدلفة لازدلاف الناس إليها؛ أي: دنوُّهم منها. {وَاذْكُرُوهُ} بالتوحيد ذكرًا حسنًا. {كَمَا هَدَاكُمْ} لدينه ومناسك حجه. {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ} أي: قبل الهدى. {لَمِنَ الضَّالِّينَ} الجاهلين بعبادته وذكره. {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}. [199] {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمْس يقفون بالمزدلفة ترفعًا على الناس لئلا يساووهم في الموقف والناس بعرفات، فنهوا عن ذلك بقوله {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} والمراد بالناس: جميع الناس إلا الحمْس. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر ذنب المستغفر وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحمْس، ولكنه يقف مُذْ كان بعرفة هداية من الله.

[200]

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}. [200] {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} جمع منسك، أي: إذا فرغتم من عباداتكم، وذبحتم ذبائحكم بعد رمي جمرة العقبة، قرأ أبو عمرو {مناسككم} بإدغام الكاف الأولى في الثانية، ولم يدغم من المثلين في كلمة إلا موضعين لا غير، أحدهما هذا، والثاني في المدثر {ما سلككم} وأظهر ما عداهما نحو {جباههم} و {وجوههم} و {بشرككم} و {أتحاجوننا} و {أتعدانني} وشبهه. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتكبير والثناء عليه. {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} لأن العرب كانت إذا فرغت من حجها وقفت مفاخر آبائها. {أَوْ أَشَدَّ} أي: وأكثر. {ذِكْرًا} ثم أومأ إلى اختلاف أغراض الخلق بقوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ} يعني المشركين. {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} كانوا لا يسألون الله في الحج إلا الدنيا، يقولون: اللهم أعطنا غنمًا وإبلًا وبقرًا وعبيدًا وغير ذلك. {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} نصيب خير.

[201]

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}. [201] {وَمِنْهُمْ} يعني المؤمنين. {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} العلم والعبادة، قرأ أبو عمرو {يقول ربنا} وشبهه حيث وقع بإدغام اللام في الراء. {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} الجنة. وعن علي رضي الله عنه: "الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء". {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} كل ما يبعد عن الله؛ لأنه سبب العذاب، وقيل: امرأة السوء. وتلخيصه: أكثروا ذكر الله، وسلوه سعادتكم في داريه. {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}. [202] {أُولَئِكَ} أي المؤمنين. {لَهُمْ نَصِيبٌ} حظ. {مِمَّا كَسَبُوا} دعوا، ويسمى الدعاء كسبًا؛ لأنه عمل، والعمل يوصف بالكسب، المعنى: لهم جزء من جنس عملهم. {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} إذا حاسب لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا نظر وفكر، بل أسرع من لمح البصر سبحانه وتعالى.

[203]

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}. [203] {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتكبير عقب الصلوات، وعند رمي الجمرات يكبر مع كل حصاة. {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} هي أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، سميت معدودات لقلتهن كقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]. والتشريقُ: التكبيرُ، وهو في الأضحى (¬1) مطلَقٌ كما تقدَّمَ في الفِطْر، ومقيَّدٌ عَقِبَ الصلواتِ، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ يكبر دُبُرَ كُلِّ فريضةٍ صَلَّاها في جماعة، وعندَ مالكٍ يكبرُ عقبَ الفرائض، ولو منفردًا، وعندَ الشافعيِّ عقبَ كلِّ صلاةٍ، فريضةً كانتْ أو نافلةً، منفردًا صلاها أو في جماعة. وهذا التكبيرُ مسنونٌ عندَ الأئمةِ الثلاثة، واجبٌ عندَ أبي حنيفةَ. واختلفوا في ابتدائه وانتهائه، فقال أبو حنيفةَ: يبتدئُ عقبَ صلاةِ الفجرِ يومَ عرفةَ إلى أن يكبرَ لصلاةِ العصر يومَ النحر، ثم يقطعُ. وقال مالك: يبتدئ عقبَ صلاةِ الظهر من يوم النحر، ويختمُ بعدَ الصبح من آخر أيام التشريق. ولا فرق عندهما بينَ المحرِمِ وغيرِه. وقال الشافعيُّ: يكبرُ الحاجُّ من ظهر النحر، ويختمُ بصبح أيام التشريق، وأما غيرُ الحاجِّ، ففيه خلاف، والذي عليه العملُ عند المحققين ¬

_ (¬1) في "ن": "في الأضحى وهو".

من الشافعية أنه يكبرُ من صبحِ عرفةَ إلى العصرِ من آخرِ أيام التشريق. وقال أحمد: ابتداؤه للمُحِلِّ من صلاةِ الفجرِ يومَ عرفةَ، وللمُحْرِم من, صلاةِ الظهرِ يومَ النحر؛ لأنه كان مشغولًا قبلَ ذلك بالتلبية، وانتهاؤه عقبَ صلاةِ العصر من آخر أيام التشريق مطلقًا. وتقدم اختلافُهم في التكبير للفطر عندَ تفسير قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة: 185]. وأما صفةُ التكبيرِ، فعندَ الشافعيِّ: الله أكبرُ ثلاثًا نَسَقًا في الأول، ثم يهلِّلُ، ويشفَعُهُ، ثم يقول: ولله (¬1) الحمد. وعند أبي حنيفةَ وأحمدَ: يشفعُ التكبير في أوله وآخرِه، وصفتُه: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وعن مالك كالمذهبين، وكلاهما جائز عنده، والله أعلم. {فَمَنْ تَعَجَّلَ} أي: فمن عَجِلَ وطلبَ الخروجَ من مِنًى. {فِي يَوْمَيْنِ} نفرَ في اليوم الثاني من أيام التشريق، فتركَ المبيتَ بمنىً في الليلة الثالثة، وهذا النَّفْرُ الأول. {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} بتعجيلِه؛ لأنه مرخَّص له في ذلك. {وَمَنْ تَأَخَّرَ} حتى نفر في اليوم الثالِث، وهو أفضلُ، وهذا النَّفْرُ الثاني. {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} بتركِ الترخُّصِ. تلخيصه: هم مخيَّرون بينَ نفرين، وإن كان المتأخِّرُ أفضلَ. ¬

_ (¬1) "ولله" ساقطة من "ن".

[204]

{لِمَنِ اتَّقَى} المناهيَ، أي: جوازُ التخيير، ونفيُ الإثم لمن اتقى شيئًا نهاه اللهُ عنه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} للجزاءِ، وأصلُ الحشرِ: الجمعُ وضَمُّ المتفرِّقِ. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)}. [204] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ} يَروقُكَ ويعظُمُ في قلبكَ. {قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: يَسُرُّكَ ما يقولُه في معنى الدنيا؛ لأن دعواهُ مَحَبَّتَكَ إنما هو لطلب حَظٍّ من الدنيا. قرأ أبو عمرٍو: (يَعْجِبُك قَوْلُهُ) بإدغام الكاف في القاف. نزلتْ في الأخنسِ بِن شَرِيقٍ الثقفيِّ، وكان حلوَ الكلامَ، يَلْقى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويحلِف له أنه يحبُّهُ، ويظهر الإسلامَ، وكان منافقًا (¬1). {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أي: يقول: اللهُ شاهدٌ على ما في قلبي من مَحَبَّتِكَ، ومن الإسلامِ. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي: هو شديدُ الجِدالِ والعداوةِ للمسلمين. {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 33)، و"تفسير الطبري" (2/ 312)، و"تفسير البغوي" (1/ 191)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 571).

[205]

[205] {وَإِذَا تَوَلَّى} أدبرَ عنكَ. {سَعَى فِي الْأَرْضِ} بعمل المعاصي. {لِيُفْسِدَ فِيهَا} بقطعِ الرَّحِمِ وسفكِ دماءِ المسلمين. {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} الزَّرع. {وَالنَّسْلَ} ولدَ آدمَ والحيوانَ. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ} أي: لا يرضى. {الْفَسَادَ} فاحذروا غضَبه عليه. {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}. [206] {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} أي: خَفِ اللهَ. {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} حملَتْهُ النَّخْوَةُ والتكبُّرُ على العمل. {بِالْإِثْمِ} أي: الظلم. {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} أي: كافيهِ جزاء. {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراشُ. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}. [207] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} أي: يبيعُها.

{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي: طلبَ رضوانِ الله. قرأ الكسائي: (مَرْضَاةِ) بالإمالة، ووقف بالهاء حيثُ وقعَ (¬1). سببُ نزولِها أن المشركين كانوا (¬2) أَسَروا خُبَيْبَ بنَ عَدِيٍّ الأنصاريَّ وصلبوه بالتَّنْعيم، فلما بلغ (¬3) النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبرُ، قال لأصحابه: "أَيُّكُمْ يُنْزِلُ خُبَيْبًا عن (¬4) خَشَبَتِهِ وَلَهُ الجَنَّةُ؟ فقال الزبيرُ بنُ العوَّام: أنا وأخي المقداد بنُ الأسودِ، فخرجا يمشيان بالليل، ويَكْمُنان بالنهار، حتى أتيا التنعيمَ ليلًا، وأنزلاه، وقَدِما على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريلُ عندَهُ، فقال: يا محمدُ! إن الملائكةَ لَتُباهي بهذين مِنْ أصحابِكَ، فنزل فيهما: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} حينَ شَرَيا أنفسَهما لإنزالِ خُبيب من خَشَبته، وقيلَ غيرُ ذلك، والقصةُ فيها طولٌ واختلافٌ بين المفسرين (¬5). {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} أَن كلَّفهم الجهادَ لحصولِ الثوابِ لهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 129)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 180)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 94 - 95)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 160)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 156)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 175). (¬2) "كانوا" ساقطة من "ن". (¬3) "بلغ" ساقطة من "ت". (¬4) في "ن": "من". (¬5) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 195)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 527).

[208]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)}. [208] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} أصلُه: الاستسلامُ والانقياد، والمرادُ: الإسلامُ، ويقالُ للصلح: سلْم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وأبو جعفرٍ: (السَّلْمِ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (¬1). {كَافَّةً} أي: جميعًا، وأصلُها من الكفِّ: الجمع. نزلت في مؤمني أهلِ الكتاب عبدِ الله بنِ سلامٍ وأصحابِه، وذلك أنهم كانوا يُعَظِّمونَ السبتَ، ويكرهون لحومَ الإبل بعدَما أسلموا، وقالوا: يا رسول الله! إن التوراةَ كتابُ الله، فدعْنا فَلْنُقِمْ بها صلاتنَا بالليل، فأنزل الله تعالى الآية (¬2). {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: آثارَه فيما زَيَّنَ لكم من تحريمِ السبتِ ولحومِ الإبلِ وغيرِه. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ظاهر العداوة. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 130)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 180)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 95)، و"الكشف" لمكي (1/ 287)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 156)، و"تفسير البغوي" (1/ 196)، و"التيسير" للداني (ص: 80)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (5/ 227)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 158). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 33)، و"تفسير البغوي" (1/ 197)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 529).

[209]

{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}. [209] {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} أي: مِلْتُم عن الإسلامِ مجتمعين. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: الدَّلالاتُ على أنَّ ما دعيتم إليه حقٌّ. {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أي: غالبٌ قادرٌ على الانتقام. {حَكِيمٌ} لا ينتقمُ إلا بالحق. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}. [210] {هَلْ يَنْظُرُونَ} أي: ينتظرون، النظرُ والانتظارُ: الإمهالُ. المعنى: ما ينتظرُ تاركو الدخولِ في الإسلام. {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} جمعُ ظُلَّةٍ، وهي ما أَظَلَّ. {مِنَ الْغَمَامِ} وهو السحابُ الأبيضُ الرقيقُ سُمِّيَ غمامًا؛ لأنه يَغُمُّ؛ أي: يَسْتر. {وَالْمَلَائِكَةُ} قرأ أبو جعفرٍ: {والملائكةِ} بالخفضِ عطفًا على الغمام، تقديرُه: معَ الملائكة، وقرأ الباقون: بالرفعِ على معنى: إلا أنْ يأتيهم اللهُ والملائكة في ظُلَلٍ من الغمام (¬1)، والأَوْلى في هذه الآيةِ وفي ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 251)، و "تفسير الطبري" (4/ 261)، =

ما شاكَلَها أن يؤمنَ الإنسانُ بها، ويُمِرَّها كما جاءت بلا كيفٍ، ويَكِلَ علمَها إلى الله سبحانه، وهو مذهبُ أئمةِ السلف وعلماءِ السنة، قال سفيانُ بنُ عُيينةَ: كلُّ ما وصف الله تعالى به نفسَه في كتابه، فتفسيرهُ قراءتُه، والسكوتُ عنهُ، ليسَ لأحدٍ أن يفسِّرَهُ إلا اللهُ ورسولهُ (¬1). {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: فُرِغَ من حسابهم، ووجبَ العذابُ، وذلكَ فصلُ اللهِ (¬2) القضاءَ بالحقِّ بينَ عبادهِ يومَ القيامةِ. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون: بضمِّ التاءِ وفتحِ (¬3) الجيم (¬4). {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (1/ 197 - 198)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 227)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 159 - 160). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 198). (¬2) "الله" لفظ الجلالة لم يرد في "ت". (¬3) في "ن": "ورفع". (¬4) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 131)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 181)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: 95)، و "الكشف" لمكي (1/ 289)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 157)، و "تفسير البغوي" (1/ 198)، و"التيسير" للداني (ص: 80)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 161).

[211]

[211] {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: يا محمدُ! سلْ يهودَ المدينة. {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} أعطينا آباءهم وأسلافَهم. {مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} دلالةٍ واضحةٍ على نبوةِ موسى -عليه السلام-، وقيل: معناه: الدلالاتُ التي في التوراة والإنجيلِ على نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَمَنْ يُبَدِّلْ} يُنْكِرْ ويغيِّرْ. {نِعْمَةَ اللَّهِ} أي: الدلائل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} أي: بعد ما عرفَها وصَحَّتْ عنده. {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيعاقبُه (¬1) أشدَّ عقوبة. {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}. [212] {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} نزلَتْ في مشركي العرب: أبي جهلٍ وأصحابِه، كانوا يتنعمون بما بُسِطَ لهم في الدنيا من المال، ويُكَذِّبون بالمعادِ، والمزيِّنُ اللهُ تعالى بأنْ خلقَ الأشياءَ العجيبةَ، فنظروا إليها فأعجبتهم، فَفُتِنوا بها (¬2). {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يستهزئون بالفقراء من المؤمنين؛ كعبدِ الله بن مسعود، وعمارِ بنِ ياسر، وصُهيبٍ، وخُبيبٍ، وبلالٍ، وغيرهم. ¬

_ (¬1) في "ن": "فيعاقبون". (¬2) "بها" ساقطة من "ن".

[213]

{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لأن هؤلاءِ الفقراءَ في أعلى عليين في الجنة، وهؤلاء الكفارَ في أسفلِ السافلين في النار. {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} رزقًا واسعًا من غيرِ تقتير. {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}. [213] {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} متفقين على دينٍ واحدٍ وهو الإسلامُ، من آدمَ إلى نوحٍ، ثم اختلفوا. {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} وجملتُهم مئةُ ألفِ نبيٍّ وأربعةٌ وعشرونَ ألفَ نبيٍّ، والمرسلون منهم ثلاثُ مئةٍ وثلاثةَ عَشَرَ، والمذكورون في القرآن باسم العَلَم ستةٌ وعشرون نبيًّا، وهم: محمدُ، وآدمُ، وإدريسُ، ونوحٌ، وهودٌ، وصالحٌ، وإبراهيمُ، ولوطٌ، وإسماعيلُ، وإسحاقُ، ويعقوبُ، ويوسفُ، وأيوبُ، وذو الكِفْلِ، وشُعيبٌ، وموسى، وهارونُ، وداودُ، وسليمانَ، وعُزَيْرٌ، ويونُسُ، وزكريّا، ويحيى، وإلياسُ، واليسعُ، وعيسى -صلواتُ الله عليهم أجمعين-، وأُشير إلى أشموئيلَ بقوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} [البقرة: 247]، وأُشير إلى أَرْميا بقوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259]، وأُشير إلى يوشَعَ في سورة الكهف بقولهِ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف: 60]، وأُشير إلى إخوةِ يوسفَ بقوله: {لَقَدْ

كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} [يوسف: 7]، ويأتي ذكرُ أسمائِهم عندَ تفسيرِ الآية، والأسباطُ ذُكروا إجمالًا، وهم من ذريةِ أولادِ يعقوبَ الاثني عَشَرَ، وكانَ فيهم أنبياءُ، وفي لقمانَ وذي القَرْنينِ خلافٌ كالخَضِر. {مُبَشِّرِينَ} بالثوابِ للمؤمن. {وَمُنْذِرِينَ} بالعقابِ للعاصي. {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} المرادُ: الجنسُ، لا أنه معَ كلِّ نبيٍّ كتابٌ؛ لأن منهم من لم يكن له كتابٌ، وإنما أخذ بكتبِ مَنْ قبلَه. {بِالْحَقِّ} أي: الصدق. {لِيَحْكُمَ} قرأ أبو جعفر: (لِيُحْكَمَ) بضم الياء وفتح الكاف؛ لأنَّ الكتابَ لا يحكمُ في الحقيقة إنما يُحْكَمُ به، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الكاف؛ أي: لِيَحْكُم الكتابُ؛ كقوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} (¬1) [الجاثية: 29]. {بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: في دينِ الإسلام. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي: في الحقِّ. {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي: أُعطوا الكتابَ المنزلَ. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} على صدقِ الكتبِ. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 254)، و"تفسير البغوي" (1/ 200)، و"تفسير القرطبي" (3/ 32)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 227)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 156)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 163).

{بَغْيًا} حَسَدًا. {بَيْنَهُمْ} أي: بينَ المختلفينَ؛ بأن كذَّبَ بعضٌ (¬1) بعضًا، وكتموا صفةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على حُطامِ الدنيا ورياستِها. {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وقولُه: {مِنَ الْحَقِّ} بيانٌ للمختلَفِ فيه. تلخيصُهُ: فهدى اللهُ المؤمنين إلى الحقِّ [المختلَف فيه من الحقِّ] (¬2). {بِإِذْنِهِ} بعلمِه وإرادته. قيلَ في هذه الآية: اختلفوا في القِبْلَة، فمنهم من يصلِّي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا اللهُ للكعبةِ، واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام، فأخذتِ اليهودُ السبتَ، والنصارى الأحدَ، فهدانا الله للجمعة، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فجعله اليهودُ لغيرتهم ولدَ زِنًى، وجعلَه النصارى إلهًا، فهدانا الله للحقِّ فيه (¬3). {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لا يَضِلُّ سالِكُه. واختلافُ القراء في الهمزتين من قوله: (يشاء إلى) كما تقدَّم في قوله: و {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]. ¬

_ (¬1) في "ت": "بعضهم". (¬2) ما بين معكوفتين ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 201).

[214]

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}. [214] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} نزلَتْ في غزوةِ الخندق لما أصابَ المسلمين الجهدُ؛ تطييبًا لقلوبهم، وقيل: في حرب أُحد (¬1). تلخيصُه: أَظَننتم أنكم تدخلون الجنةَ من غيرِ مَشَقَّةٍ. {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} و (لما) فيه معنى التوقُّع. المعنى: إن إتيانَ ذلكَ متوقَّع منتظَرٌ. {مَثَلُ} أي: شَبَهُ. {الَّذِينَ خَلَوْا} أي: مضوا. {مِنْ قَبْلِكُمْ} منَ النبيينَ والمؤمنين. {مَسَّتْهُمُ} أصابَتْهُم. {الْبَأْسَاءُ} الفقرُ. {وَالضَّرَّاءُ} المرضُ. {وَزُلْزِلُوا} أُزعجوا بأنواعِ البلاء. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} المعنى: إن الأهوال اشتدَّت عليهم إلى غايةٍ قالَ فيها الرسولُ والمؤمنونَ استبطاءً للنصرِ لا شَكًّا: ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 34)، و "تفسير البغوي" (1/ 201)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 532)، و "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 584).

[215]

{مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} الذي وَعَدناه؟ قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} غيرُ متأخِّر. قرأ نافعٌ: (حَتَّى يَقُولُ) بالرفع على أنه في معنى الحال، نحو: شربتِ الإبلُ حتى يجيءُ البعيرُ يجرُّ بطنَه، فهيَ حالٌ ماضيةٌ مَحْكِيَّةٌ، وقرأ الباقون: بالنصب بإضمارِ (أن)، وجعلِ الفعلِ مستقبَلًا؛ أي: إلى أن يقول (¬1). {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}. [215] {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} نزلتْ في عَمْرِو بنِ الجَمُوح، وكان شيخًا ذا مال، فقال: يا رسول الله! بماذا نتصدَّقُ، وعلى من ننفق؟ فأنزلها الله تعالى (¬2)، و (ما) استفهامٌ. المعنى: أيُّ شيء الذي يُنفقونَهُ؟. {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ} وقوله: {مِنْ خَيْرٍ} بيانٌ للمنفَقِ، ثم بَيَّنَ مَصْرِفَ النفقةِ بقوله: ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 255)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 131)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 181)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 95 - 96)، و"الكشف" لمكي (1/ 289 - 291)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 157)، و"تفسير البغوي" (1/ 202)، و "التيسير" للداني (ص: 80)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 227)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 165). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 34)، و"تفسير البغوي" (1/ 202)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 534).

[216]

{فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} تلخيصُه: ما أنفقتُم من حلالٍ، فهو خيرٌ كلُّه إذا كان على هؤلاء المذكورينَ. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} يجازيكم به، ثم نُسخت بفرض الزكاة. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}. [216] {كُتِبَ} فُرِضَ. {عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أي: الجهادُ، وهو قتالُ الكفار، وهو فرضُ كفايةٍ إذا قامَ به من يَكْفي، سقطَ عن الباقين الفرضُ؛ كصلاةِ الجنازةِ، وردِّ السلامِ بالاتفاق. {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أي: شاقٌّ عليكم. {وَعَسَى} من أفعال المقارَبَةِ فيهِ طَمَعٌ. {أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأن في الغزو إحدى الحسنيين: إما الظَّفَرُ والغَنيمةُ، وإما الشهادةُ والجنةُ. {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} يعني: القعودَ عن الغَزْوِ. {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} لما فيه من فَواتِ الغَنيمةِ والأجر. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} مصالحَكُمْ. {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلكَ.

روي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ عبدَ اللهِ بنَ جَحْشٍ، وهو ابنُ عمةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في آخِرِ جُمادى الآخرةِ قبلَ بَدْرٍ بشهرينِ في سَرِيَّةٍ على رأسٍ سبعةَ عشرَ شَهْرًا من مقدِمِه المدينةَ؛ ليرصُدوا عِيرًا لقريشٍ فيها عمرُو بنُ الحَضرَمِيِّ وثلاثةٌ معهُ، وهم الحَكَمُ بنُ كَيْسانَ، وعثمانُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ المغيرةِ، ونَوْفَلُ بنُ عبدِ اللهِ المخزومِيَّانِ، فقتلوا عَمْرَو بنَ الحضرميِّ، فكانَ أولَ قتيل من المشركين، واستأسروا الحكمَ وعثمانَ، فكانا أولَ من أُسِرَ في الإسلام، وأَفْلَتَ نوفلُ، فأعجزَهم، وكانت الوقعةُ ببطنِ نخلةَ بينَ مكةَ والطائفِ، وجاء عبدُ اللهِ وأصحابُه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالعِيرِ والأسيرينِ، وقالوا: يا رسول الله! قتلنا ابنَ الحضرميِّ، ثم أمسينا فرأينا هلالَ رَجَبٍ، فما ندري أفي رجبٍ أصبناهُ أم في جُمادى؟ قال ابن عباس: كانوا يحسبونَ تلكَ الليلةَ من جُمادى، وكانتْ من رجبٍ، فوقف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - العيرَ والأسيرين، وامتنع عن أخذِها، فعظمَ ذلكَ على أهلِ السريَّةِ، وسُقِطَ في أيديهم، وقال المشركون: قد استحلَّ محمدٌ الشهرَ الحرام، فنزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}.

[217]

[217] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (¬1) يعني: رجبًا، سُمِّيَ بذلك لتحريمِ القتالِ فيه. {قِتَالٍ فِيهِ قُلْ} يا محمدُ. {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} عظيمٌ، تمَّ الكلامُ هاهنا، ثم ابتدأه فقال: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: وصدُّكُم المسلمينَ عن الإسلام. {وَكُفْرٌ بِهِ} أي: باللهِ. {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: مكةَ، عطفٌ على سبيل الله. {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي: أهلِ المسجد. {مِنْهُ} وهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون. {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} أعظمُ وِزْرًا من القتال في الشهر الحرام. {وَالْفِتْنَةُ} أي: الشركُ. {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي: من قتلِ ابنِ الحضرميِّ في الشهرِ الحرام، فلما نزلَتْ أخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - العيرَ، فعزلَ منه الخمسَ، وقسمَ الباقيَ بينَ أصحابِ السريةِ، وكانتْ أولَ غنيمةٍ في الإسلام، وبعثَ أهلُ مكةَ في فداءِ أسيريهم، فقال: بل نَقِفُهُمْ حتى يَقْدُمَ سعدٌ وعُتبةُ، فإن لم يقدما، قتلناهما بهما، فلما قدما، فاداهم، فأما الحكمُ بنُ كيسان، فأسلمَ وأقامَ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فقتل يومَ بئرِ مَعونةَ شَهيدًا، وأما عثمانُ بنُ عبد الله، فرجع إلى مكةَ، فماتَ بها كافرًا، وأما نوفلٌ، فضربَ بطنَ فرسِه يومَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (2/ 348)، و "أسباب النزول" للواحدي (ص: 35)، و"تفسير البغوي" (1/ 203 - 204).

الأحزاب ليدخلَ الخندقَ، فوقعَ في الخندقِ مع فرسه، فتحطَّما جميعًا، وقتلَه اللهُ، فطلب المشركون جيفَتَهُ بالثمن، فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوهُ؛ فَإِنَّهُ خَبِيثُ الجِيفَةِ خَبِيثُ الدِّيَةِ" (¬1)، قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ} أي: الكفار. {يُقَاتِلُونَكُمْ} أيها المؤمنون. {حَتَّى} أي: كي. {يَرُدُّوكُمْ} أي: يصرِفوكم. {عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} قَدَروا، ثُمَّ تهددهم بقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ} أي: يرجعْ. {مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} إلى دينِهم. {فَيَمُتْ} عطفٌ على {يَرْتَدِدْ}. {وَهُوَ كَافِرٌ} أي: مرتدًا و (من) رفع ابتداء، خبرُه: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بَطَلَتْ حسناتهم. {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} لأن عباداتهم لم تَصِحَّ في الدنيا، فلم يُجَازوا عليها في الأخرى. {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في هذا دليلٌ للشافعي ¬

_ (¬1) انظر: "مسند الإمام أحمد" (1/ 248)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 496)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 35 - 36)، و"تفسير البغوي" (1/ 204 - 205)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 537).

[218]

وأحمد أن الردَّةَ لا تحبطُ العمل حتى يموتَ مرتدًّا، وأبو حنيفةَ ومالكٌ يبطلانه بالردَّة، وإن رجعَ مسلمًا. واختلفوا في حكم المرتدِّ، وهو الذي يكفرُ بعد إسلامه - والعياذ بالله -، فقال أبو حنيفةَ: يجبُ قتلُه في الحال، ولكن يُستحبُّ أن يُحبس ثلاثةَ أيامٍ، ويُعرض عليه الإسلامُ، وتُكشف شُبْهَتُهُ، فإن أسلمَ، وإلا قُتل، ويُكره القتلُ قبلَ العرض. وقال مالكٌ وأحمدُ: يجب أن يُستتابَ ثلاثًا، فإن تابَ، وإلَّا قتل. وقال الشافعيُّ: تجبُ استتابتُه في الحال، فإن أَصَرَّ، قُتل، وإن أسلم، صَحَّ وتُرِك. واختلفوا في المرأة إذا ارتدَّتْ، فقال أبو حنيفة: تُحبس وتُخرج في كل أيام، ويُعرض عليها الإسلامُ، وتُضربُ حتى تسلم، ولا تُقتل. وعند الثلاثة: حكمُها كالرجل في الاستتابة والقتل. ولما أنزلت الآية، قال أصحابُ السرية: يا رسول الله! أنؤجَرُ على فعلنا هذا؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}. [218] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} لأنهم فارقوا أهلَهم ومنازلَهم. {وَجَاهَدُوا} فجعلَها جهادًا، جمعَ بينَ هذه الخصالِ ترغيبًا، وإن كان الثوابُ حاصلًا بكلِّ واحدةٍ منها.

[219]

{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: طاعةِ الله. {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} أخبرَ أنهم على رجاء الرحمة، و (رَحْمَتَ) رسمت بالتاء في سبعة مواضع، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفرُ الخطأ، ويُجْزِلُ الثوابَ والأجرَ. وكانت الخمرُ حلالًا إجماعًا، وكان المسلمون يشربونها، فجاء معاذُ بنُ جَبَلٍ وعمرُ بنُ الخطاب بجماعة، فقالوا: يا رسول الله! أَفْتِنا في الخمرِ، فإنها مَذْهَبَةٌ للعقل، مَسْلَبَةٌ للمال، ورُوي أنه سُئل عن الخمرِ والميسرِ معًا فنزلت (¬1): {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}. [219] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} وهو المُسْكِرُ، لأنه يَخْمُرُ العقلَ؛ أي: يسترُهُ. {وَالْمَيْسِرِ} القِمارُ؛ لأنه يأخذ مال غيره بسهولة ويُسر؛ أي: يسألونك عن جوازِ تناولهما واستعمالهما؛ لأن السؤالَ لم يكن عن أعيانهما. ¬

_ (¬1) في "ن": "فنزل". وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 36)، و"تفسير البغوي" (1/ 206)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 605).

{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي: وزر. قرأ حمزة والكسائي: (إثْمٌ كَثِيرٌ) بالثاء المثلثة، والباقون: بالباء (¬1)، فتركَها قوم لقوله: (إِثمٌ كَبِيرٌ)، وشربها قومٌ لقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} بلذَّةِ الشربِ والفرح، وإصابةِ المالِ من غيرِ كَدٍّ ولا تعب. ثم دعا عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ جماعة، فَسَكِروا، فأَمَّهم بعضُهم في المغربِ، فقرأ: قل يا أيها الكافرون. أعبدُ ما تعبدون، بحذف (لا) فنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فتركوها في حالِ السُّكر. ثم دعا عتبانُ بنُ مالكٍ جماعةً، فشربوا الخمرَ، فأنشدَ سعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ قصيدةً فيها هجاءُ الأنصار، فضربَ بعضُ الأنصار رأسَ سعدٍ بِلَحْيِ جمل، فشجَّهُ مُوضِحَةً، فشكا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمرُ: اللهمَّ بَيِّنْ لنا في الخمرِ بيانَ شِفاء، فنزل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} في المائدة إلى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، فقال عمرُ: انتهينا، فَحُرِّمَتِ الخمرُ، وأُريقت (¬2). والخمرُ ما غَلَى واشتدَّ وقذَف بالزَّبَدِ من غيرِ طبخِ النار، من عصيرِ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 260)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 132)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 182)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 96)، و"الكشف" لمكي (1/ 291 - 292)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 161)، و"تفسير البغوي" (1/ 210)، و"التيسير" للداني (ص: 80)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 22)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 168). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 206 - 207).

العنبِ والرُّطَبِ، ونقيعِ الزَّبيبِ والتمرِ، وغيرِها، يُحَدُّ شاربُهُ، ويُفَسَّقُ، ويَكْفُرُ مُسْتَحِلُّها باتفاقِ الأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة: إنما يكفرُ باستحلالِ ما اتخذ من عصيرِ العنب فقط، ولا يُحَدُّ عندَه بشربِ غيرِه حتى يسكرَ. وقدرُ الحدِّ للحرِّ أربعون جلدةً عندَ الشافعيِّ، وثمانون عندَ الثلاثة، ويتنصَّفُ (¬1) بالرِّقِّ باتفاقِهم. والميسرُ: قالَ ابنُ عباسٍ: كان الرجلُ في الجاهليةِ يخاطِرُ الرجلَ على أهله وماله، فأَيُّهما قمرَ صاحبَهُ، ذهبَ بأهلِه ومالِه، فأنزل اللهُ الآيةَ (¬2). وكان أصلُ الميسر أنَّ أهلَ الثروةِ من العرب يشترونَ جَزُورًا، ويُجَزِّئونها عشرةَ أجزاء، ثم يقتسمونَ (¬3) عليها بعشرةِ قِداح يقالُ لها: الأزلامُ لسبعةٍ منها أنصباءُ، وثلاثةٌ لا أنصباءَ لها، فمن خرجَ سهمُه من السبعة، أخذَ نصيبَه، ومن خرج سهمُه من الثلاثة، لا يأخذ شيئًا، ويغرمُ ثمنَ الجزورِ كلِّه، ثم يدفعون ذلكَ الجزورَ إلى الفقراء، ولا يأكلون منه شيئًا، وكانوا يفتخرون بذلك، ويذمُّون مَنْ لم يفعلْه. {وَإِثْمُهُمَا} بعدَ التحريم. {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} قبلَه. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} أي: في الصدقة، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَثَّهم على الصدقة، فقالوا: ماذا ننفقُ؟. {قُلِ الْعَفْوَ} هو ما فضلَ عن الحاجة. قرأ أبو عمرٍو: (العَفْوُ) بالرفع، ¬

_ (¬1) في "ت": "وينتصف". (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (2/ 358). (¬3) في "ن": "يقسمون".

[220]

معناهُ: الذي تنفقون هو العفوُ. وقرأ الباقون: بالنصب؛ أي: قلْ أنفقوا العفوَ (¬1)، ثم نُسخ بآية الزكاة، ثم خاطبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - والمرادُ: الأمةُ، فقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}. [220] {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} المعنى: هكذا يبينُ الله لكم الآياتِ في أمر الدنيا والآخرة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في أمرهما، فتسعَوْنَ فيما هو صلاحُكم فيهما، ولا وقفَ على (تتفكرون) لئلَّا يفصل بين العامل ومعموله. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} لما نزلَ قولُه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام: 152]، وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، فتركوهم، واجتنبوا مُؤَاكلتهم، فاشتدَّ ذلك عليهم، فسألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي: الإصلاحُ لأموالهم من غيرِ أجرةٍ، ولا أخذِ عِوَضٍ خَيرٌ وأعظمُ أجرًا. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 260)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 133)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 182)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 96)، و "الكشف" لمكي (1/ 292 - 293)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 161)، و"تفسير البغوي" (1/ 210)، و "التيسير" للداني (ص: 80)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 227)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 157)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 169).

[221]

{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} أي: تَخْلِطوا أموالَكُم إلى أموالهم، وتشاركوهم فيها. {فَإِخْوَانُكُمْ} أي: فهم إخوانُكم في الدين؛ لأن الأخَ يصيبُ من مال أخيه، ويعينُ بعضُهم بعضًا. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} لأموالِهم. {مِنَ الْمُصْلِحِ} لها. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} إعناتكُم. {لَأَعْنَتَكُمْ} أي: لضيَّقَ عليكم، والعَنَتُ: المشقَةُ. قرأ البزيُّ (لأَعْنَتكُمْ) بتسهيل الهمزة، بخلافٍ عنه، والباقون: بتحقيقها (¬1). {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} آمِرٌ بِعِزَّةٍ، سَهُلَ على العبادِ أَو صَعُبَ. {حَكِيمٌ} في صنعِه. {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}. [221] {وَلَا تَنْكِحُوا} أي: لا تتزوَّجوا. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 161)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 133)، و"التيسير" للداني (ص: 80)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 157).

{الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} والمرادُ: الوثنياتُ: بدليل قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا" (¬1)، فلا يجوزُ لمسلمٍ نكاحُ الوثنيَّات، ولا المجوسيَّات، ولا غيرِهن من أنواعِ المشركاتِ اللاتي لا كتابَ لهنَّ بالاتفاق، وسببُ نزولِها: أن أبا مَرْثَدٍ سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن تزويجِ عَناقَ، وكانت مشركةً، فنزلت (¬2): {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} بجمالِها ومالِها. نزلَتْ في خَنْساءَ: وَليدةٍ سوداءَ كانَتْ لحذيفةَ بنِ اليمان، قالَ حذيفةُ: يا خنساء! قد ذُكِرْتِ في الملأِ على سوادِكِ ودهامَتِكِ، فأعتقَها وتزوَّجها (¬3)، والمرادُ: كلُّ امرأةٍ مؤمنةٍ، حُرَّةً كانت أو أَمَةً. {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} أي: لا تُزَوِّجوهم. {حَتَّى يُؤْمِنُوا} فلا يجوزُ تزويج مسلمة بكافرٍ إجماعًا. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (2/ 378)، وقال: هذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فالقول به لإجماع الجميع على صحة القول به. (¬2) رواه أبو داود (2051)، كتاب: النكاح، باب: في قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} والنسائي (3228)، كتاب: النكاح، باب: تزويج الزانية، والترمذي (3177)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النور، وقال: حسن غريب، وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما -. قال ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" (1/ 136): فظهر أن هذا الحديث ليس في هذه الآية التي في البقرة، وإنما هو في الآية التي في النور، لكن ذكره الواحدي في "أسباب النزول" (ص: 37) في هذه الآية التي في البقرة عن ابن عباس -رضي الله عنهما -. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 213).

[222]

{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} لأنَّ الخلقَ كلَّهم عبيدُ الله وإماؤه، و (لو) هنا بمعنى (إن). {أُولَئِكَ} يعني: المشركين. {يَدْعُونَ إِلَى} أعمالِ أهلِ. {النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو} على لسانِ رسلِهِ (¬1). {إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} أي: إلى أعمالِها. {بِإِذْنِهِ} بإرادتِهِ. {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ} أوامرَهُ ونواهِيَهُ. {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يَتَّعِظون. وكانتِ اليهودُ إذا حاضَتْ منهم المرأةُ، لم يؤاكِلوها، ولم يشارِبوها، ولم يجالِسوها، فسُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}. [222] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (¬2) هو مصدرُ حاضَتْ تحيضُ حَيْضًا ¬

_ (¬1) في "ت": "رسوله". (¬2) رواه مسلم (302)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

ومَحيضًا، وأصلُه: الانفجارُ والسيلانُ. والمعنى: يسألونك عن الوطء في زَمَنِ المحيضِ. {قُلْ هُوَ أَذًى} أي: مستقذَرٌ يؤذي مَنْ يقربُه مُجامِعًا. {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فاتركوا مجامعتَهُنَّ أيامَ حيضِهن. {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} مجامِعينَ، فيحرم وَطْءُ الحائضِ، ويعصي فاعلُه بالاتفاقِ، أما الملامسةُ والمضاجَعَةُ معها، فجائزٌ بالاتفاقِ. واختلفَ الأئمةُ في وجوبِ الكفارةِ على من وَطِئَ الحائضَ، فذهبَ أكثرُهم أَنه لا كفَّارةَ عليه، منهم: مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، قالوا: يستغفرُ اللهَ ويتوبُ إليه، ويُستحبُّ عندَ الشافعيِّ أن يتصدَّقَ بدينارٍ إن جامعَ في إقبالِ الدمِ، أو بنصفِ ينارٍ إن جامعَ في إدبارهِ، وذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه، منهم: الإمامُ أحمدُ -رضي الله عنه-، فيجب عندَهُ على مَنْ جامعَ -ولو بحائلٍ- قبلَ انقطاعِ الحيضِ في الفرجِ دينارٌ أو نصفُه على التَّخْييرِ، ويجزئُ إلى مسكينٍ واحدٍ؛ كنذرٍ مطلقٍ، وتسقط بالعجز، وكذا هي إن طاوعَتْهُ -ولو كانَ ناسِيًا أو مُكْرَهًا أو جاهِلَ الحيضِ أو التحريم، أوهما-، واللهُ أعلم. {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: ينقطعَ الدمُ. وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وخلفٌ: (يَطَّهَّرْنَ) بفتح الطاء والهاء وتشديدهما، يعني: يغتسلْنَ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 134)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 182)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 96)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 161)، و"تفسير البغوي" (1/ 216)، و"التيسير" للداني (ص: 80)، و"النشر في =

[223]

{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلْنَ. {فَأْتُوهُنَّ} أي: جامعوهن. {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} والمرادُ: الفرج. قال ابن عباس: طَؤُوهُنَّ في الفَرْجِ، ولا تَعْدُوه إلى غيرِه (¬1)، أي: اتَّقوا الأدبارَ. ولا يجوز وطءُ الحائضِ حتى ينقطعَ دمُها وتغتسلَ عندَ الشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ، وعند أبي حنيفة يجوزُ وطؤها إذا انقطعَ دمُها نهايةَ حيضِها، وإن لم تغتسلْ. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} من الذنوبِ، ولا يعودون إليها. {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} من الشرك، وبالماءِ من الأحداثِ والنجاساتِ. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}. [223] {نِسَاؤُكُمْ} مبتدأ، خبرُه: {حَرْثٌ لَكُمْ} أي: مَزْرَعٌ ومَنْبَتٌ للولدِ بمنزلةِ الأرضِ للنباتِ؛ تشبيهًا لما يلقى في أرحامِهِنَّ من النُّطَفِ بالبذْرِ. {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} نساءكم. ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 227)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 157)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 171). (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (2/ 387)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 309).

{أَنَّى شِئْتُمْ} مُقبلاتٍ ومُدْبِرات. المعنى: جامِعُوهنَّ من أيِّ شِقٍّ شئتُم في المأتَى، وكانت اليهودُ تقولُ في الذي يأتي امرأتَهُ (¬1) من دُبرِها في قُبلها: إن الولدَ يكونُ أحولَ، فنزلتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ولا يجوزُ إتيانُ المرأةِ في دُبُرِها بالاتفاق، وعن مالكٍ -رضي الله عنه- أنه قيلَ له: إنه نُقِلَ عنكَ أنك أَبَحْتَهْ، فقال: كَذَبُوا عليَّ، كذبوا عليَّ (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا" (¬3). وعن أبي هريرةَ أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَتَى حَائِضًا، أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فقد كَفَرَ بِمَا أُنَزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ" (¬4) رواهُنَّ كُلَّهن الأثرُم. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: (شِيتُمْ) بغير همز، والباقون: بالهمز (¬5). {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} التسميةُ عندَ الجماع. وعن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا ¬

_ (¬1) في "ت": "المرأة". (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (8/ 405). (¬3) رواه أبو داود (2162)، كتاب: النكاح، باب: في جامع النكاح، والنسائي في "السنن الكبرى" (9015)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 444)، وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 180). (¬4) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (9017)، والترمذي (135)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في كراهية إتيان الحائض، وابن ماجه (639)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن إتيان الحائض، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 408). (¬5) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 162)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 172)، حيث ذكرا القراءة عن أبي عمرو فقط.

[224]

الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا؛ فَإِنَّهٌ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضرَّهُ الشَّيْطَانُ" (¬1). {وَاتَّقُوا اللَّهَ} على كلِّ حالٍ. {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} صائِرونَ إليه، فاستعِدُّوا له. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يا محمدُ. {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}. [224] {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} جمعُ يمينٍ. نزلتْ فيمن حلفَ ألَّا يفعلَ شيئًا، وكانَ حنثه أولى، والعُرْضَة أصلُها: الشدَّة والقوَّةُ. معنى الآية: لا تجعلوا الحلفَ باللهِ سببًا مانعًا لكمْ من البِرِّ والتَّقْوى، يُدْعى أحدُكم إلى صلةِ رحمٍ أو بِرٍّ فيقول: حلفتُ باللهِ أَلَّا أفعلَهُ، فيعتلُّ بيمينِهِ في تركِ البِرِّ. {أَنْ تَبَرُّوا} أي: ألَّا تبروا؛ كقولِه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]؛ أي: لئلَّا تضلوا. {وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا} أي: لا تجعلوا الحلفَ باللهِ شيئًا مانعًا لكم من البِرِّ والتقوى والإصلاحِ {بَيْنَ النَّاسِ}. قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْهَا, ¬

_ (¬1) رواه البخاري (141)، كتاب: الوضوء، باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، ومسلم (1434)، كتاب: النكاح، باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع، عن ابن عباس -رضي الله عنهما -.

[225]

فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (¬1). {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بنيَّاتكم. {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}. [225] {لَا يُؤَاخِذُكُمُ} أي: لا (¬2) يعاقِبُكم. {اللَّهُ بِاللَّغْوِ} اللَّغْوُ: كُلُّ مطروحٍ من الكلام لا يُعْتَدُّ به، وأصلهُ: الباطلُ، واللغوُ في اليمين: ما سبقَ إليه اللسانُ من غير قصدِ اليمين؛ نحو: لا واللهِ، وبلى والله عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ هو أن يحلفَ على شيء يرى أنه صادقٌ، ثم يظهرُ خلافُ ذلك، ولا كفارةَ فيه ولا إثمَ بالاتفاق، وقوله: {فِي أَيْمَانِكُمْ} حالٌ من اللغو؛ أي: باللغو كائنًا في أيمانكم. {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} أي: يعاقبُكم. {بِمَا كَسَبَتْ} أي: نَوَتْ. {قُلُوبُكُمْ} وفُهْتُمْ به. قرأ ورشٌ، وأبو جعفرٍ: (يُوَاخِذُكُمْ) بفتح الواو بغير همز (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1650)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) "لا" ساقطة من "ن". (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 162)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

{وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} لا يَعْجَلُ بالمؤاخذةِ. وتنعقدُ اليمينُ باللهِ وبأسمائهِ وصفاتِه بالاتفاق، وعند الثلاثةِ تنعقدُ إذا حلفَ بكلامِ اللهِ، أو بالمصحفِ، أو بالقرآنِ، خلافًا لأبي حنيفةَ، وتنعقدُ عندَ الإمامِ أحمدَ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً؛ خلافًا للثلاثة، فإذا حلفَ على أمرٍ مستقبَلٍ، فَحَنِثَ، فعليه كفارةٌ بالاتفاق، وإن حلفَ على أمرٍ ماضٍ أنه كانَ، ولم يكنْ، أو بالعكسِ، عالمًا كان أو جاهلًا، فَحَنِثَ، فهيَ (¬1) اليمينُ الغموسُ؛ لغمسِهِ في الإثم، فتجبُ الكفارةُ عندَ الشافعيِّ، ولا تجبُ عندَ الثلاثةِ؛ لأنه إنْ كان عالمًا، فهي كبيرةٌ، ولا كفارةَ في الكبائر، وإن كان جاهلًا، فهي يمينُ اللغو. وقد رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ حلَفَ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، نَازَعَ اللهَ فيها حَوْلَهُ وقُوَّتَهُ، عَجَّلَ اللهُ لَهُ العُقُوبَةَ قَبْلَ ثَلاَثٍ"، وصفةُ اليمينِ أن يقولَ: تقلَّدْتُ الحولَ والقوَّةَ دونَ حولِ اللهِ وقُوَّتهِ، إلى حَوْلي وَقُوَّتي إِنْ لَمْ يَكُنْ ما قُلْتُه حَقًّا. ونُقل أَنَّ بعضَ الناسِ حلفَ بهذهِ اليمين، وكان كاذبًا، فهلكَ في يومِهِ، ذُكر ذلكَ في "شرح المقامات" للشريشي (¬2) بأبسطَ من هذا. ¬

_ = (ص: 157)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 172). (¬1) في "ن": "فهو". (¬2) هو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى أبو العباس الشريشي الأندلسي المالكي النحوي، المتوفى سنة (619 هـ)، له ثلاثة شروح على "مقامات الحريري" أصغر وأكبر وأوسط. انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 47).

[226]

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}. [226] {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} يُقْسِمون. {مِنْ نِسَائِهِمْ} المعنى: يَبْعُدُون من نسائِهم مُؤْلينَ. {تَرَبُّصُ} أي: انتظارُ. {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} تلخيصهُ: استقرَّ للمؤلين تربُّصُ أربعةِ أشهرٍ. والإيلاءُ من المرأةِ عندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ: أنْ يحلفَ ألَّا يقربَها أكثرَ من أربعةِ أشهرٍ، فإذا مضتْ، وقفَ، فإما أن يجامِعَ، أو يطلِّقَ، فإن امتنعَ، طلَّقَ عليه القاضي، وإن عجزَ عن الجماعِ، فاءَ بلسانِهِ، فيقولُ: إذا قَدَرْتُ جامَعْتُ، وعند (¬1) أبي حنيفةَ: هو أن يحلفَ ألَّا يقربَها أربعةَ أشهرٍ فصاعدًا، أو ألَّا يقربها مطلَقًا، وعليه كفارةٌ إن وَطِئَها قبلَ المدةِ، فإنِ انقضتِ الأربعةُ أشهر (¬2)، وقعتْ تطليقةٌ بائنةٌ عندَ أبي حنيفةَ. ومدةُ الإيلاءِ في الحرِّ والعبدِ سَواءٌ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ يتَنَصَّفُ (¬3) بالرِّقِّ، فأبو حنيفةَ يعتبرُ رِقَّ المرأة، ومالكٌ يعتبرُ رِقَّ الزوج؛ كما قالا في الطلاق، ويأتي ذكرُه قريبًا. {فَإِنْ فَاءُوا} رَجَعُوا عن اليمين. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للمؤمنين. {رَحِيمٌ} ولهم. ¬

_ (¬1) في "ت": "وعن". (¬2) "أشهر" زيادة من "ن". (¬3) في "ن": "تتنصف".

[227]

{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}. [227] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} أي: أوقَعوه، وأصلُ العزمِ والعزيمةِ: عَقْدُ القلبِ على إمضاءِ شيءٍ يريدُ فعلَه، والطلاقُ: هو حَلُّ قيدِ النكاحِ أو بعضِه بوقوعِ ما يملكُهُ من عددِ الطلقات، أو بعضها، وأصلُه من الإطلاق. {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولهم. {عَلِيمٌ} بنياتهم. {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}. [228] {وَالْمُطَلَّقَاتُ} أى: المُخَلَّياتُ من حبالِ أزواجِهِنَّ بعدَ الدخولِ بهنَّ. {يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرْنَ، وهذا خبرٌ معناه: أَمْرٌ؛ أي: لِيَتَرَبَّصْنَ. {بِأَنْفُسِهِنَّ} فلا يَتَزَوَّجْن. {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} جمعُ قَرْءٍ -بفتح القاف، وقد يضم-, ومعناه في اللغة: الوقتُ المعتادُ ترَدُّدُهُ، وهو الحيضُ عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ، والطهرُ عند مالكٍ والشافعيِّ، وفائدةُ الخلافِ أن المعتدَّه إذا شرَعَتْ في الحيضةِ الثالثةِ، انقضَتْ عِدَّتُها عندَ مَنْ يجعلُه الطهرَ، ويحسبُ بقيةَ الطهرِ الذي وقعَ فيه الطلاق قَرْءًا، وعندَ مَنْ يجعلُه الحيضَ لا تنقضي عِدَّتُها حتى تطهُرَ من

الحيضةِ الثالثةِ، وزادَ الإمامُ أحمدُ: حتى تغتسلَ، أو يمضيَ وقتُ صلاة. {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} من الحيضِ والحبلِ، وهو أن يريدَ الرجلُ مراجعَتَها، فتقول: قد حضتُ الثالثةَ، أو تنكرُ الحبلَ ليبطلَ حقُّ الزوجِ من الرجعةِ والولدِ، وربما أسقطَتِ الولدَ خوفًا ألَّا تعودَ. {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} لأن المؤمنَ يخافُ هذا الفعلَ. {وَبُعُولَتُهُنَّ} جمعُ بَعْلٍ، وهو الزوجُ، سُمِّيَ بذلك لقيامِهِ بأمرِ الزوجةِ، وأصلُ البعلِ: السيدُ والمالكُ، والبِعالُ النكِّاحُ. {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أَوْلى برجعتِهِنَّ. {فِي ذَلِكَ} في العِدَّةِ. {إِنْ أَرَادُوا} أي: الزوجُ والزوجةُ والوليُّ بالرجعَةِ. {إِصْلَاحًا} بينَهُما وحُسْنَ عشرةٍ. {وَلَهُنَّ} على الرِّجالِ. {مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} للرجال من الحقوق. {بِالْمَعْرُوفِ} بما عُرِفَ شَرْعًا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَكْمَلَ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ" (¬1). {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} بالمَهْرِ وإنفاقِ المال. قرأ يعقوبُ: (عَلَيْهُنَّ) بضم الهاء حيثُ وقع (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1162)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها، وقال: حسن صحيح، وابن حبان في "صحيحه" (4176)، وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: (ص: 23) من هذا الجزء.

[229]

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا" (¬1). {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}. [229] {الطَّلَاقُ} تقديرُه: عَدَدُ الطلاقِ الذي يملكُ الزوجُ بعدَهُ الرَّجْعَةَ. {مَرَّتَانِ} كانَ الناس في الابتداءِ يُطَلِّقونَ من غيرِ حَصْر ولا عَدَدٍ، وكانَ الرجلُ يطلِّقُ امرأتَهُ، فإذا قاربَت انقضاء عِدَّتها، راجعَها، ثم طَلَّقَها كذلكَ، ثم راجعَها، يقصدُ بذلك مُضارَّتَها، فنزلتِ الآيةُ، وقولُه مَرَّتان؛ أي: مرةً بعدَ مرةٍ، ولم يُرِدِ الجمعَ بينهما، فإن راجعَها بعدَ الثانيةِ. {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} شرعًا؛ أي: يُمسكُها بما عُرفَ من الحقوق، ولا يراجعُها بقصدِ تطويلِ العِدَّةِ مضارَّةً لها. {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أصلُ التسريحِ: الإرسالُ؛ كالطلاقِ من الإطلاق. المعنى: يتركُها، ولا يقصدُها بسوء. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1159)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة، وقال: حسن غريب، وفي الباب: عن عائشة، وابن عباس، وابن أبي أوفى، وأنس، وابن عمر، ومعاذ، وغيرهم -رضي الله عنهم-.

وصريحُ اللفظِ الذي يقعُ به الطلاقُ من غير نيةٍ عندَ مالكٍ والشافعيِّ ثلاثةٌ: الطلاق، والفِراقُ، والسَّراحُ، وعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ هو لفظُ الطلاقِ. واختلف الأئمةُ فيما إذا كان أحدُ الزوجين رقيقًا، فقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ: يعتبَرُ عددُ الطلاق بالزوج، فيملكُ الحرُّ على زوجتِهِ الأمةِ ثلاثَ طلقاتٍ، والعبدُ لا يملكُ على زوجته الحرَّةِ إلا طلقتينِ، وقال أبو حنيفةَ: الاعتبارُ بالمرأةِ، فيملكُ العبدُ على زوجتِهِ الحرَّةِ ثلاثَ طلقاتٍ، ولا يملكُ الحرُّ على زوجتِهِ الأمةِ إلا طلقتين. {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ} أيها الأزواج. {أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} من المهور. {شَيْئًا} ثم استثنى الخُلْعَ، فقال: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} تقديره: إِلَّا أَنْ يخافا تركَ حدودِ اللهِ المعروفةِ شرعًا من حُسْنِ الصحبةِ. قرأ أبو جعفرٍ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (يُخَافَا) بضمِّ الياء؛ أي: يُعْلَمَ ذلك منهما؛ يعني: يعلم المسلمون والقاضي ذلك من الزوجين؛ بدليل قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} فجعلَ الخوفَ لغيرِ الزوجين، ولم يَقُلْ: فإن خافا. وقرأ الباقون: بفتح الياء (¬1)؛ أي: يعلم الزوجانِ من أنفسِهما. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 265)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 135)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 183)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 97)، و"الكشف" لمكي (1/ 294 - 295)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 164)، و"تفسير البغوي" (1/ 228)، و "التيسير" للداني (ص: 80)، و "النشر في =

{أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} نزلت في جميلةَ بنتِ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيِّ ابنِ سلولَ وزوجِها ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شماس، وكان يحبُّها، وهي تُبْغِضُه، وكان قد أعطاها حديقةً، فافتدَتْ بها نفسَها منهُ، وهو أولُ خُلْعٍ في الإسلام (¬1). {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي: على الزوج فيما أخذ، ولا على الزوجة. {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نفسَها من المال؛ لأنها ممنوعةٌ من إتلافِ المالِ بغيرِ حقٍّ، وهذه الآيةُ دليلُ جواز الخُلْعِ بسؤالِ الزوجةِ على مالٍ تفتدي به نفسَها. واختلفَ الأئمهُّ في الخلع، فقال الثلاثةُ: هو تطليقةٌ بائنةٌ، وقال أحمدُ: هو فَسْخُ عِصْمَةٍ إذا وقعَ بلفظِ خُلْعٍ، أو فَسْخٍ، أو مفاداةٍ لا يُنقصُ عدد الطلاقِ، وهو قولُ ابن عباسٍ، وعبدِ الله بنِ عمَر، واحتجَّ ابن عباس بقولهِ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فذكرَ تطليقتين والخلعَ وتطليقةً بعدها، ولم يَكُ للخُلْعِ حكمٌ يُعْتَدُّ به، فلو كان الخلعُ طلاقًا، لكانَ الطلاق أربعًا، ولأنَّها فُرْقَةٌ خلَتْ عن صريح الطلاقِ ونيتهِ، فكانتْ فسخًا كسائر الفُسوخِ، ومن قالَ: هو طلقةٌ، جعل الطلقة الثالثة: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي: هذه أوامرُه ونواهيه. ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 227)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 158)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 174). (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (2/ 462)، و"تفسير البغوي" (1/ 228)، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 670).

[230]

{فَلَا تَعْتَدُوهَا} لا تتجاوزوها. {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} يتجاوَزُها. {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}. [230] {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الطلقةَ الثالثةَ. {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} أي: بعدَ الطلقةِ الثالثةِ. {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} غيرَ مطلِّقِها، فيجامعُها. والنكاحُ شرعًا: يتناولُ العَقْدَ والوَطْءَ جميعًا، فهو حقيقةٌ فيهما عندَ الإمامِ أحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ هو حقيقة في الوطء، مَجازٌ في العقدِ، وعندَ الشافعيِّ بالعكس، وهو في اللغةِ الضَّمُّ والجمعُ، فعلى القول بأنه حقيقةٌ في العقد، فهو ضمُّ وجمع بالنسبة إلى الإيجابِ والقَبولِ؛ فإنَّ القبولَ يُضمُّ ويُجْمَعُ إلى الإيجاب، وعلى القولِ بأنه حقيقةٌ في الوطءِ، فهو ضمٌّ وجمعٌ بالنسبةِ إلى جمعِ أحدِ الفَرْجينِ إلى الآخر وضمِّهِ إليه؛ لأن الزوجينِ حالةَ الوطءِ يجتمعانِ، وينضَمُّ كلُّ واحدٍ منهما (¬1) إلى صاحبِه حتى يصيرا كالشَّخْصِ الواحدِ، والحقيقةُ: اللفظُ المستعملُ فيما وُضعَ له، والمجازُ: اللفظُ ¬

_ (¬1) "منهما" زيادة من "ن".

المستعمَلُ في غير ما وُضع له على وجهٍ يصحُّ، والحقيقةُ لا تستلزمُ المجازَ، والمجازُ يستلزمُها بالاتفاق. عن عائشةَ -رضى الله عنها- قالت: جاءتِ امرأةُ رفاعةَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنتُ عندَ رفاعةَ، فطلَّقني فَبَتَّ طلاقي، فتزوَّجْتُ بعدَه عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبِيرِ، وإنما معهُ مثلُ هُدْبَةِ الثوبِ، فتبسَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" (¬1). {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي: الزوج الثاني. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي: على الزوجِ الأولِ والزوجةِ بعدَ انقضاءِ العِدَّةِ. {أَنْ يَتَرَاجَعَا} أي: يرجعَ كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه بنكاحٍ جديدٍ. {إِنْ ظَنَّا} أي: رَجَوَا. {أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الواجبةَ في حقِّ الزوجيةِ، وقال مجاهد: إنْ عَلِما أنَّ نكاحَهُما على غيرِ دلسة، وهي التَّحليل. واختلف الأئمةُ في الرجلِ إذا تزوَّجَ امرأةً طُلِّقَتْ ثلاثًا لِيُحِلَّها للزوجِ الأولِ، فقالَ مالكٌ وأحمد: النكاحُ باطِلٌ، ولا تحلُّ للأولِ، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: النكاحُ صحيحٌ، ويحصُلُ بهِ التحليلُ إذا لم يُشْتَرَط في النكاح مع الثاني أن يفارقَها، غيرَ أنه يُكْرَه إذا كانَ في عزمِهِما ذلك. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ما أَمَرَهُمْ به. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5011)، كتاب: الطلاق، باب: إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا غيره فلم يمسها، ومسلم (1433)، كتاب: النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره.

[231]

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}. [231] {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: قَرُبْنَ من انقضاءِ العدةِ. نزلتْ في ثابتِ بنِ يسارٍ الأنصاريِّ، طلقَ امرأتَهُ، فلمَّا دَنَتْ عِدَّتُها، راجَعَها، ثم طلقَها مُضارَّةً (¬1). {فَأَمْسِكُوهُنَّ} راجِعُوهُنَّ. {بِمَعْرُوفٍ} من غيرِ طلبِ ضِرارٍ بالمراجعةِ. {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} أي: اتركوهنَّ. {بِمَعْرُوفٍ} حتى تنقضيَ عدتُهنَّ، فيكُنَّ أملكَ بأنفسِهِنَّ. {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} أي: لا تقصِدوا بالرجعةِ المضارَّةَ. {لِتَعْتَدُوا} لتظلموهُنَّ بتطويلِ الحبسِ. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} قرأ: الليث عن الكسائي (يفعل ذلك) بإدغام الذال في اللام حيث وقع. {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بتعريضِهِ إلى عذابِ الله. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَقَد ظلَمَ) حيثُ وقعَ بإدغامِ الدالِ في الظاء، والباقونَ بالإظهار (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (2/ 493). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 167)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 176).

[232]

{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} بأن يطلِّقَ ويقولَ: كنتُ لاعبًا، ويعتقَ وينكحَ ويقولَ: كنتُ لاعبًا, قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثةٌ جدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلاَقُ وَالنِّكِّاحُ وَالْعِتَاقُ" (¬1). {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإيمان (نعمت) رُسمت بالتاء في أحدَ عشرَ موضعًا، وقفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ. {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ} أي: القرآنِ. {وَالْحِكْمَةِ} يعني: السنَّةَ. {يَعِظُكُمْ بِهِ} بالنازِلِ عليكم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تأكيدٌ وتهديدٌ. ثم خاطبَ الأزواجَ والأولياءَ فقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}. [232] {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: انقضَتْ عدَّتهن. نزلتْ في جميلةَ بنتِ يسارٍ أختِ مَعْقِلِ بن يَسارٍ المزنيِّ، كانت تحتَ أبي البراح ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2194)، كتاب: الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل، والترمذي (1184)، كتاب: الطلاق واللعان، باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (2039)، كتاب: الطلاق، باب: من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

عاصمِ بنِ عديِّ بنِ عَجلانَ، فطلَّقها، فلما انقضتْ عدَّتُها، جاء يخطبُها، فقالَ له أخوها: زَوَّجْتُكَ وفَرَشتُكَ وأكرمتُكَ، فطلَّقْتَها، ثم جئتَ تخطبُها! لا واللهِ لا تعودُ إليكَ أبدًا، وكان رجلًا لا بأسَ به، وكانت المرأةُ تريد أن ترجعَ إليه، فأنزل الله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} (¬1) أصلُ العَضْلِ: المنعُ والشدَّةُ. المعنى: لا تمنعوهن من {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الذين يرغبْنَ فيهم، ويصلحون لهنَّ. {إِذَا تَرَاضَوْا} أي: الخطَّابُ والنساء. {بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} بعقدٍ حلالٍ ومهرٍ جائز. {ذَلِكَ} أي: النهيُ. {يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ} أيها الجمع. {أَزْكَى} أي: خير. {لَكُمْ وَأَطْهَرُ} لقلوبِكم من الرِّيبةِ. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما في قلبِ أحدِهما من حبِّ الآخَرِ. {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلكَ، فلما نزلت الآية، قال أخوها: الآن أَفعلُ يا رسول الله. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4255)، كتاب: التفسير، باب: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ. . .}.

[233]

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}. [233] {وَالْوَالِدَاتُ} أي: المطلَّقاتُ اللاتي لهنَّ أولاد من أزواجهن. {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} خبرٌ، ومعناه: أَمْرُ استحبابٍ. واختلف الأئمةُ هل تُجبر الأمُّ على إرضاعِ ولدِها؟ فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا تُجبر، إلا أن يُضطرَّ إليها، ويُخْشى عليه. وقال مالكٌ: تُجبر إن كانَتْ تحتَ الأبِ، أو رجعيةً، إلا أن تكون عَلِيَّةَ القَدْرِ، فلا تُجبر إلا أَلَّا يقبلَ ثَدْيَ غيرِها، أو يكونَ الأبُ معسِرًا، أو ميتًا، وليس للولدِ مالٌ. وقال الشافعيُّ: يجبُ عليها إرضاعُه اللِّبَأَ، ثم بعدَهُ إن لم يوجدْ إلا هي، أو أجنبيةٌ، وجبَ إرضاعُه، فإن وُجِدتا، لم تُجبرِ الأمُّ. واختلفوا فيما إذا طلبت الأمُّ أجرةَ مثلِها في إرضاعِ ولدها، فقال أبو حنيفة: لها ذلك بشرطِ ألَّا تكونَ في عصمة الأب، ولا عِدَّتِه، فإن وَجَدَ متبرعةً، أو من تُرضعُ بدون أجرةِ المثلِ، كان للأبِ أن يسترضعَ غيرَ الأمِّ، بشرطِ أن تكونَ المرضعةُ عندَ الأمِّ؛ لأن الحضانةَ لها.

وقال مالك: لها طلبُ أجرةِ المثلِ بعد البينونةِ، ولو في العدَّة، فإن وُجد من يُرضعُهُ بدونِ أجرةِ المثل، فإن كان ذلكَ عندَ الأم، فتُخَيَّرُ بينَ إرضاعِه بذلك، أو تسليمِه للظِّئْرِ، وليس لها طلبُ أجرةِ المثلِ، فإن لم يكن عندَها، فليس له ذلك، ولو كانتِ المرضعةُ متبرعةً، وعليه أن يرضعَه عندَ أمِّه، ولا يخرجَهُ من حَضانتها؛ كقولِ أبي حنيفة. وقال الشافعيُّ: لها أخذُ الأجرةِ في العصمةِ والبينونةِ، فإن وجَدَ متبرعة، أو من يرضى بدونِ أجرةِ المثلِ، فله انتزاعُ الولدِ منها. وقال أحمد: هي أحقُّ بأجرةِ مثلها، ولو وجدَ متبرعةً، سواءٌ كانت في حبالِ الزوجِيَّة، أو مطلَّقَةً. {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} يعني: أربعة وعشرين شهرًا، ثم جاء بالتخفيف فقال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ} أي: يكمل. {الرَّضَاعَةَ} أي: هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك حَدٌّ محدود، وإنما هو على مقدار إصلاحِ الصبيِّ أو ما يعيشُ به. {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي: الأبِ. {رِزْقُهُنَّ} طعامُهُن. {وَكِسْوَتُهُنَّ} لباسُهُن. {بِالْمَعْرُوفِ} أي: قدر اليُسْرَةِ. {لَا تُكَلَّفُ} لا تُحَمَّلُ. {نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} أي: طاقَتَها. {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فينزع منها بعدَ رضاها بإرضاعه. قرأ: ابن

كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (تُضَارُّ) برفع الراء نَسَقًا على قوله: {لَا تُكَلَّفُ}، وأصلُه: تُضارَرُ، فأُدغمتِ الراء في الراء. قرأ نافعٌ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ: بنصبِ الراءِ، وقالوا: لما أُدغمت الراءُ في الراء، حركت إلى أخفِّ الحركات، وهو النصب، وأبو جعفرٍ: بإسكانِ الراء (¬1). {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} بأن تلقيَ الولدَ إلى أبيه بعدَما أَلِفَها تضارُّه بذلكَ. {وَعَلَى الْوَارِثِ} أي: وارثِ الصبيِّ عندَ فقدِ أبيه. {مِثْلُ ذَلِكَ} أي: مثلُ الذي كان على أبيه في حياته. واختلف الأئمة في وجوبِ النفقة على القريب، فعند مالكٍ والشافعيِّ: لا نفقةَ للصبيِّ إلا على الوالدينِ فقط، وعندَ أبي حنيفةَ تجبُ إلّا على مَنْ ليس بذي رَحِم محرمٍ؛ كابن العمِّ، وعندَ أحمدَ تجبُ على كلِّ وارثٍ على قدرِ ميراثِه. {فَإِنْ أَرَادَا} الوالدانِ. {فِصَالًا} فِطامًا للصغير قبلَ الحولينِ، فليكنْ. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 268)، و "الحجة" لأبي زرعة (ص: 136)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 183)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 97)، و"الكشف" لمكي (1/ 296)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 166)، و"تفسير البغوي" (1/ 235)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 141)، و"تفسير القرطبي" (3/ 167 - 168)، و"التيسير" للداني (ص: 81)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 227 - 228)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 158)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 178 - 179).

{عَنْ تَرَاضٍ} اتفاقٍ. {مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} بأن يستخرجَ الوالدانِ رأيَ العلماءِ أنَّ الفطامَ لا يضرُّهُ، واعتبرَ اتفاقُهما، لِمَا للأبِ من الولايةِ، وللأمِّ من الشفقة. {فَلَا جُنَاحَ} أي: لا حَرَجَ. {عَلَيْهِمَا} في الفطام قبلَ الحولين. قرأ يعقوبُ: (عَلَيْهُما) بضمِّ الهاء (¬1). {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} أي: لأولادكم مراضعَ غيرَ أمهاتهم إذا أبتْ أمهاتُهم أن يُرْضِعْنَهم، أو تعذَّرَ لعلَّةٍ بهنَّ؛ كانقطاعِ لبنٍ، أو أردْنَ النكاحَ. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ} إلى أمهاتهم. {مَا آتَيْتُمْ} ما سَمَّيتم لهنَّ بقدرِ ما أرضعن. قرأ ابنُ كثيرٍ: (مَا أَتَيْتُمْ) بقصر الألف، ومعناه: ما فعلتم، والباقون بالمدّ (¬2). {بِالْمَعْرُوفِ} أي: سلمتم الأجرةَ إلى المراضعِ بطيبِ نفسٍ وسرور. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} حَثٌّ وتهديدٌ. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 158)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 179). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 137)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 183)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: 97)، و "الكشف" لمكي (1/ 296 - 297)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 166)، و "تفسير البغوي" (1/ 236)، و"التيسير" للداني (ص: 81)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 228)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 158)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 180).

[234]

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}. [234] {وَالَّذِينَ} قائمٌ مقامَ المبتدأ المحذوف؛ أي: وأزواجُ الذينَ (¬1). {يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} أي: يتوفَّى آجالُهم، والتوفِّي: أخذُ الشيءِ وافيًا. {وَيَذَرُونَ} أي: يتركون. {أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} أي: يَعْتَدِدْنَ (¬2). {بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أي: ليال باتفاقٍ؛ لأن التاريخ بالليلة؛ لأنها أول الشهر، واليومُ تَبَعٌ، فإن كانت حاملًا، فانقضاءُ عدتها بوضعِ الحملِ بالاتفاق. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: انقضَتْ عدتهنَّ. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الأولياء. {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} من اختيارِ الأزواجِ، والتزيُّنِ. {بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازيكم عليه. ويجبُ الإحدادُ على المعتدَّةِ من الوفاةِ باجتنابِ الطيبِ و (¬3) الزينةِ ¬

_ (¬1) "أي وأزواج الذين" ساقطة من "ن". (¬2) في "ن": "يعتدون". (¬3) "الطيب و" ساقطة من "ن".

[235]

والادِّهان بالمطيَّبِ بالاتفاق، وجَوَّزَ أبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ الاكتحالُ بالأسودِ للضرورة، وعند الشافعي تكتحلُ به (¬1) ليلًا، وتمسحُه نهارًا للضرورة، وأما المطلقة، فإن كان طلاقُها رجعيًّا، فلا إحدادَ عليها بالاتفاق، وإن كان بائنًا، فقال أبو حنيفة: يجبُ عليها الإحدادُ، وقال مالكٌ وأحمد: لا يجبُ عليها، وعندَ الشافعيِّ يُستحبُّ، وعنه قولٌ يجبُ. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}. [235] {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أي: المعتدَّات، والتعريضُ: التلويح بالشيء، وهو ما يلوحُ؛ أي: يبين منه المرادُ من غيرِ تصريحٍ، فالتعريضُ بالخِطبةِ مباحٌ في العدَّةِ من الوفاةِ والطلاقِ البائنِ بالاتفاق، نحو قوله: إنِّي في مثلِكِ لراغبٌ، ولا تفوتيني بنفسِكِ، وتجيبُه: ما يُرْغَبُ عنكَ، وإن قُضي شيءٌ كانَ، ونحوهما، ولا يجوز التعريضُ للرجعية، ولا التصريحُ للبائن قبلَ انقضاءِ العدةِ بالاتفاق، والخِطْبَةُ: التماسُ النكاح، فإذا خطبَ الرجلُ امرأةً، وأُجيب، حَرُمَ على غيره أن يخطبَ على خِطبته بالاتفاق، فلو خالفَ وفعلَ، صحَّ ¬

_ (¬1) "به" ساقطة من "ن".

النكاحُ، ولزمَ عندَ الثلاثة، وقال مالكٌ: يُفْسخ قبل الدخولِ لا بعده. {أَوْ أَكْنَنْتُمْ} أي: أَضْمَرْتم. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ورَوْحٌ عن يعقوبَ (النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ) وشبهه حيثُ وقعَ بتحقيق الهمزتين والباقون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وهي أن تبدل ياء (¬1). {فِي أَنْفُسِكُمْ} في قلوبكم. تلخيصُه: لا تَبِعَةَ عليكم في التلويح بالنكاح. {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ولكم ميلٌ إليهنَّ، فاذكروهُنَّ. {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} والسرُّ: الجِماعُ؛ أي: لا تَصِفوا أنفسَكُم لهنَّ بكثرةِ الجِماع، وإنما قيلَ للجماعِ: السِّرُّ؛ لأنه يكون في خُفْيَةٍ بينَ الرجل والمرأة. {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} وهو التعريضُ بالخِطبةِ. {وَلَا تَعْزِمُوا} أي: تَنْووا. {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} في العدَّةِ. {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} بانقِضائِها، وسُمِّيتِ العدَّةُ كِتابًا، لأنها فرضٌ في الكتاب، فعَقْدُ النكاحِ في العدَّةِ لغيرِ المطلِّقِ دونَ الثلاثِ باطلٌ بالاتفاق. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} فخافوه عقابه. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 166)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 158 - 159)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 181).

[236]

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يغفرُ. {حَلِيمٌ} لا يعجِّلُ بالعقوبة. ... {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}. [236] {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي: تُجامعوهنَّ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تُمَاسُّوهُنَّ) بالألفِ في الموضعينِ على المفاعَلَة، لأن بدنَ كلِّ واحدٍ يلاقي بدنَ (¬1) صاحبِه كما قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وقرأ الباقون: (تَمَسُّوهُنَّ)؛ لأن الغِشيانَ يكونُ من فِعل الرجل؛ لقوله تعالى حكايةً عن مريم: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} (¬2) [مريم: 20]. {أَوْ تَفْرِضُوا} أي: تُسَمُّوا. {لَهُنَّ فَرِيضَةً} مَهْرًا. نزلتْ في رجلٍ من الأنصار تزوَّج امرأةً من بني حنيفةَ، ولم يُسَمِّ لها مَهْرًا، ثم طلقها قبلَ أن يمسَّها، فنزلتْ هذه الآيةُ، فقالَ ¬

_ (¬1) "بدن" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 183 - 184)، و"الكشف" لمكي (1/ 297 - 298)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 166)، و"تفسير البغوي" (1/ 241)، و"التيسير" للداني (ص: 181)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 228)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 159)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 182).

لهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَتِّعْهَا، وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِكَ" (¬1) ونَفْيُ الجُناحِ عن المطلِّقِ؛ لأنَّ الطلاقَ مكروهٌ، وجاء في الحديث: "أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللهِ الطَّلاقُ" (¬2). تلخيصه: لا تَبِعَةَ عليكم إن أردتُم الطلاقَ قبلَ الدخولِ والمسيسِ، فطلِّقوهُنَّ. {وَمَتِّعُوهُنَّ} أصلُ المتعةِ والمتاعِ: البلاغُ؛ أي: أعطوهُنَّ ما يتبلَّغْنَ وينتفعْنَ به. {عَلَى الْمُوسِعِ} أي: ذي السعة منكم. {قَدَرُهُ} أي: بقدر (¬3) وُسْعِهِ. {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} الضَّيِّقِ الحالِ. {قَدَرُهُ} بقدرِ ضِيقه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ ذَكوانَ، وأبو جعفرٍ (قَدَرُهُ) بفتح الدال فيهما، والباقون: بسكونها، وهما لغتان (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 241)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 596). (¬2) رواه أبو داود (2178)، كتاب: الطلاق، باب: في كراهية الطلاق، وابن ماجه (2018)، كتاب: الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬3) في "ن": "قدر". (¬4) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 137)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 184)، و"الحجة" لابن خالويه (ص:98)، و"الكشف" لمكي (1/ 298 - 299)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 167)، و"تفسير البغوي" (1/ 241)، و"التيسير" للداني (ص: 81)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (4/ 228)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 159)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 182).

{مَتَاعًا} نصبٌ على المصدر. {بِالْمَعْرُوفِ} أي: بما أمركم الله به من غيرِ ظلمٍ. {حَقًّا} مصدرُ حَقَّ. {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} إلى المطلَّقاتِ بالتمتُّع، فمن تزوَّجَ امرأةً، ولم يفرضْ لها مهرًا، ثم طلَّقَها قبلَ المسيسِ، فلها المتعةُ بالاتفاق، وإن طلَّقها قبلَ المسيسِ، وقد فرضَ لها، فلها نصفُ المفروض، ولا متعةَ لها بالاتفاق. واختلف الأئمةُ في المطلقةِ بعدَ الدخول، فقال الشافعيُّ: تستحقُّ المتعةَ؛ لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]؛ لأن استحقاقَها المهرَ بمقابلةِ ما أتلفَ عليها من منفعةِ البُضْعِ، فلها المتعةُ على وحشةِ الفراق. وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ: لا متعةَ لها، واختلفوا في قدر المتعة، فقال أبو حنيفةَ: مبلغُها إذا اختلفَ الزوجانِ قدرُ نصفِ مهرِ مثلِها لا يجاوز، وقال الشافعيُّ: يُستحبُّ ألَّا تنقصَ عن ثلاثين درهمًا، فإن تنازعا، قَدَّرَها (¬1) القاضي بنظرِهِ معتبرًا حالَهما، وقال أحمدُ: أعلاها خادمٌ، وأدناها كسوةٌ تجزئها الصلاةُ فيها، وقال مالكٌ: ليس لها حدٌّ محصور، وإنما يعطيها شيئًا يجري مجرى الهبةِ بحسبِ ما يحسُنُ على قدرِ حالِه من يُسرٍ وعُسرٍ. ... {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ¬

_ (¬1) في "ن" و"ت": "قدره"، والتصويب من "ظ".

[237]

وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}. [237] {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي: قبلَ الدخول. {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي: سميتم لهنَّ مهرًا. {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي: فيجبُ عليكم نصفه، والمرادُ بالمسِّ: الجِماعُ، وإن ماتَ أحدُهما قبلَ المسيسِ، استقرَّ المهرُ كاملًا بالاتفاق، واختلفوا فيما إذا خلا الرجلُ بامرأته، ثم طلقها قبلَ المسيسِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لها كمالُ المهر، وعليها العِدَّةُ، وقال الشافعيُّ: لها نصفُ الصَّداقِ، ولا عِدَّةَ عليها، وقال مالكٌ: عليها العدَّةُ، ولها نصفُ المهرِ، فإن طال مقامُها معه، وقد تلذَّذَ بها وابتذلَها، فلها جميعُ المهر (¬1)، وقد حدَّه ابنُ القاسمِ بالعامِ. {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي: الزوجاتُ، وأصلُ العفوِ: التركُ؛ أي: إلا أن تتركَ المرأةُ نصيبَها، فيعودُ جميعُ الصداقِ إلى الزوج. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الوليُّ عندَ مالكٍ، فيجوزُ عفوُه إن كانَتْ بكرًا، أو غيرَ جائزةِ الأمر، وعند أبي حنيفةَ وأحمدَ، والشافعيِّ في الجديد: هو الزوجُ، وقالوا -أعني الثلاثة-: لا يجوزُ لوليها تركُ شيء من صَداقها، بكرًا كانت أو ثيبًا، كما لا يجوزُ له ذلكَ قبلَ الطلاق، بالاتفاق، وكما لا يجوزُ له أن يهبَ شيئًا من مالها. المعنى: تعفو المرأةُ بتركِ نصيبِها للزوجِ، ويعفو الزوجُ بصرفِ جميعِ الصَّداق إليها. ¬

_ (¬1) "المهر" ساقطة من "ت".

[238]

{وَأَنْ تَعْفُوا} محلُّه رفعٌ بالابتداء؛ أي: والعفوُ. {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: العفوُ أقربُ من أَجلِ التقوى، والخطابُ للرجالِ والنساءِ، معناه: ويعفو بعضكم عن بعض أقربُ للتقوى. {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أي: لا تنسَوا تفضُّلَ بعضِكم على بعض بإعطاءِ الرجلِ جميعَ الصداق، وتركِ المرأةِ نصيبَها منه. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} خبرٌ في ضمنِه الوعدُ للمحسنِ، والحرمانُ لغيره. ... {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}. [238] {حَافِظُوا} داوموا. {عَلَى الصَّلَوَاتِ} أي: المكتوباتِ بمواقيتِها وحدودِها. {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وخُصَّتْ بالذِّكر تفضيلًا، وهي العصر عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ؛ لما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ يومَ الخندقِ: "شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا" (¬1)؛ ولأنها بينَ صلاتيَ نهارٍ وصلاتَي ليلٍ، وقد خَصَّها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالتغليظ. وعندَ مالكٍ والشافعيِّ هي صلاةُ الفجرِ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2773)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (627)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، عن علي -رضي الله عنه-.

[239]

قَانِتِينَ} والقنوتُ: طول القيامُ، وصلاةُ الصبحِ مخصوصةٌ بطولِ القيامِ، وبالقُنوتِ؛ ولأنَّها بينَ صلاتيَ جمعٍ، وهي لا تُقْصر ولا تُجمع إلى غيرها. {وَقُومُوا لِلَّهِ} في صلاتكم. {قَانِتِينَ} طائعين خاضعين، والقنوتُ في صلاة الصبح عندَ مالكٍ قبلَ الركوع سرًّا، وعند الشافعيِّ بعدَه جهرًا، وسيأتي ذكر مذهبِ أبي حنيفةَ وأحمدَ في القنوتِ في صلاةِ الوترِ في سورةِ الفجر -إن شاء الله تعالى-. وأصلُ القنوتِ: الطاعةُ، رُوي عن زيدِ بنِ أرقمَ أنه قال: "كُنَّا نتكلَّمُ في الصلاةِ إلى أن نزل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فَأُمِرْنا بالسُّكوت، ونُهِينا عنِ الكلامِ" (¬1). ... {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}. [239] {فَإِنْ خِفْتُمْ} من عدوٍّ وغيرِه. {فَرِجَالًا} أي: فصلُّوا رجالًا، جمعُ راجِلٍ. {أَوْ رُكْبَانًا} على دوابِّكُم، جمعُ راكبٍ. المعنى: إن لم تمكنْكُم الصلاةُ قانتين، فصلُّوا رجالةً ورُكبانًا، وهذا في حال القتالِ والمُسايَفَةِ (¬2) - ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1142)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: ما ينهى من الكلام في الصلاة، ومسلم (539)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة. (¬2) في "ن": "المسابقة".

[240]

أي: الضرب بالسيف (¬1) - يصلِّي حيثُ كان وجهُه إلى القبلةِ وغيرِها، يومئ بالركوع والسجود على قَدْر الطاقة، ويجعل السجودَ أخفضَ من الركوع، وبذلك قالَ مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ، وقال أبو حنيفةَ: لا يصلِّي ماشِيًا ولا مُسايِفًا إذا لم يمكن الوقوفُ، ولا ينقصُ عددُ الركعات عندَهم بالخوف، وسيأتي في سورة النساء بيانُ أقسامِ صلاةِ الخوف، وصفتها عقبَ تفسيرِ قوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]. {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي: زالَ الخوفُ. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي: صلُّوا الصلواتِ الخمسَ، واشكروهُ على الأمنِ وأداءِ الصلاة. {كَمَا عَلَّمَكُمْ} من صلاةِ الخوفِ وغيرِها. {مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} ذكرَهُ. ... {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}. [240] {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} يا معشرَ الرجال. {وَيَذَرُونَ} يتركون. {أَزْوَاجًا} أي: زوجاتٍ. {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} قرأ أبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وحفص: ¬

_ (¬1) "أي: الضرب بالسيف" زيادة من "ظ".

{وَصِيَّةً} بالنصب؛ أي: يوصون وصيةً، والباقون: بالرفع؛ أي: فعليهم وصيةٌ (¬1). {مَتَاعًا} نصبٌ على المصدر؛ أي: مَتِّعوهنَّ متاعًا. {إِلَى الْحَوْلِ} أي: يوصي لها بنفقةِ حولٍ كاملٍ، وهي مدَّةُ العِدَّةِ في ابتداءِ الإسلام. {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فإن خرجتْ من منزلِ زوجِها، سقطتْ نفقتُها، ثم نُسخَ الحولُ بأربعةِ أشهرٍ وعشر، والنفقةُ بالميراثِ. {فَإِنْ خَرَجْنَ} من قِبَلِ أنفسِهِنَّ. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يا أولياءَ الميت. {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} يعني: التزيُّنَ والنكاحَ، ولرفعِ (¬2) الجناحِ عن الرجالِ وجهان: أحدهما: لا جناحَ عليكم في قطع النفقةِ عنهنَّ إذا خرجْنَ قبلَ انقضاءِ الحولِ، والآخرُ: لا جناحَ عليكم في تركِ منعِهِنَّ من الخروج؛ لأنَّ مقامَها في بيتِ زوجِها حولًا غيرُ واجبٍ عليها، خَيَّرَها الله تعالى بينَ أن تقيمَ حولًا، ولها النفقةُ والسُّكْنى، وبين أن تخرجَ إلى أن نُسختْ بأربعةِ أشهرٍ وعَشْرٍ. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 274)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 138)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 184)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 98)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 167)، و"تفسير البغوي" (1/ 248)، و"التيسير" للداني (ص: 81)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 228)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 159)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 186). (¬2) في "ن": "لدفع".

[241]

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} راعي مصالحهم. ... {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)}. [241] {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} لما نزلَ {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} إلى {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قال رجلٌ من المسلمين: إن أحسنتُ فعلتُ، وإن لم أُردْ لم أفعلْ، فنزلت هذه الآيةُ (¬1)، وجعلَ الله المتعةَ لهنَّ بلامِ التمليك، ثم أكَّد ذلك بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} للشركِ، وتقدم ذكرُ الخلاف في الآية المتقدمة. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}. [242] {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تفهمونها. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}. خرج جماعة من قريتهم داوَرْدانَ قِبَلَ واسط خوفَ الطاعون، فنزلوا واديًا أَفْيَحَ؛ أي: أوسعَ، فلما استقروا فيه، ماتوا جميعًا، وبقوا موتى ثمانية أيام، فسأل حزقيلُ النبيُّ فيهم ربَّهُ، فأحياهم فعاشوا بعدَ ذلكَ دهرًا ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 584)، عن ابن زيد.

[243]

لا يلبسون ثوبًا إلا عادَ رميمًا كالكفن، قال ابنُ عباس: "فإنها لَتوجدُ اليومَ في ذلك السِّبْطِ من اليهودِ تلكَ الريحُ" (¬1) فنزل تعجُّبًا من حالهم: [243] {أَلَمْ تَرَ} أي: تعلمْ؛ لأنها من رؤية القلب، وكذا كلُّ ما لم يعايَنْ. {إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} جمعُ ألفٍ، أي: جماعاتٌ كثيرةٌ، واختُلف في مبلغ عددِهم، فورد فيه أقوال كثيرة، أولاها: قولُ من قالَ: كانوا زيادةً على عشرة آلاف. {حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ} على لسان مَلَكٍ: {مُوتُوا}، فماتوا، ثم عطف على قوله: ماتوا المقدَّرة قولَه: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} ليعلموا أنْ لا فرارَ من القدر، وهذا تبكيتٌ (¬2) لمن يفرُّ من قضاءِ اللهِ المحتومِ. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} كافَّةً في الدنيا، وخاصة على المؤمنين في الأخرى. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} على ذلك، أما الكفارُ، فلم يشكروا، وأما المؤمنون، فلم يبلغوا غايةَ شكرِه، ثم عطف ما بعد على محذوف مخاطِبًا للذين أُحيوا، وتقديره: لا تحذروا الموت. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 587). (¬2) في "ن ": "تنكيت".

[244]

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}. [244] {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعتِه أعداءَه. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بالضمائرِ. أَمَرَهم أن يجاهِدوا، هذا قولُ أكثر المفسرين، وقيل: هو خطابٌ لهذه الأمة، والله أعلم. {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}. [245] {مَنْ} استفهامٌ ابتداء. {ذَا} خبرُه. {الَّذِي} صفةُ الخبر، وصِلَةُ الذي. {يُقْرِضُ اللَّهَ} ينفقُ في طاعته. {قَرْضًا} أي: إقراضًا. {حَسَنًا} حلالًا، وأصلُ القرضِ لغةً: القطعُ؛ لأنه يقطعُ له من مالِه شيئًا يعطيه ليرجعَ إليه مثلُه. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قرأ عاصم: (فَيُضَاعِفَهُ) بنصبِ الفاء، وقرأ ابنُ عامرٍ، ويعقوب: (فَيُضَعِّفَهُ) بالتشديد ونصبِ الفاء، وقرأ ابنُ كثير وأبو جعفرٍ: (فَيُضَعِّفُهُ) بالتشديد وضم الفاء، والباقون: (فَيُضَاعِفُهُ لَهُ) بالألف مخففًا وضمِّ الفاء، وهما لغتان، فالقراءةُ بنصبِ الفاءِ على جواب الاستفهام، وبالضمِّ نَسَقًا على قوله. (يُقْرِضُ) (¬1)، ودليلُ التشديد قولُه: ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 276)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: =

{أَضْعَافًا كَثِيرَةً} لأنَّ التشديدَ للتكثير، وهذا التضعيفُ لا يعلمُ عددَه إلا اللهُ، وأصلُ التضعيفِ: أن يُزاد على الشيء مثلُه أو أمثالُه. تلخيصه: مَنِ المعطي عبادَ اللهِ من حلالِ مالهِ بطيبِ نفسٍ وغيرِ مِنَّةٍ؟ فإنَّ الله يُثيبُه على ذلك أفضلَ ثوابٍ. {وَاللَّهُ يَقْبِضُ} بإمساك الرزقِ. {وَيَبْسُطُ} بتوسيعِه على خلقه. قرأ خلفٌ لنفسِه، وعن حمزةَ، والدوريُّ عن أبي عمرٍو، وهشامٌ عن عامرٍ، ورُوَيْسٌ عن يعقوبَ: (وَيَبْسُطُ) بالسين، لأنها الأصل. وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وروحٌ عن يعقوبَ: بالصاد إبدالًا من السين (¬1)، واختلِفَ عن قنبل، والسوسيِّ، وابنِ ذكوانَ، وحفصٍ، وخلاد، ورسمها بالصاد. {وَإِلَيْهِ} أي: إلى الله. {تُرْجَعُونَ} فيجازيكم. ¬

_ = 138 - 139)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 184 - 185)، و"الكشف" لمكي (1/ 300 - 301)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 138)، و"تفسير البغوي" (1/ 252)، و"التيسير" للداني (ص: 81)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 228 و 291)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 159)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 188 - 189). (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 276)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 139)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 186)، و"الكشف" لمكي (1/ 203 - 203)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 168)، و"تفسير البغوي" (1/ 254)، و"التيسير" للداني (ص: 81)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 228 - 229)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 189).

[246]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}. [246] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الملأُ من القوم: وجوهُهم وأشرافُهم، وأصلُ الملأ: الجماعةُ من الناس. {مِنْ بَعْدِ} موت. {مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} هو أشموئيل، ومعناه بالعبرانية إسماعيل، مولدُه بقرية يقال لها: شيلوا، ويقال: إنها المشهورةُ يومئذٍ بالسيلةِ من أعمالِ نابُلُسَ، بعثه الله نبيًّا لما صار له أربعون سنةً، فدبَّرَ بني إسرائيل، ولبثوا أربعين سنةً بأحسنِ حال، وكان قوامُ أمر (¬1) بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وكان ملوكُهم يطيعون أنبياءهم، فظهر لهم عدوٌّ عظيم، وهم قومُ جالوتَ، وهم العمالقة، كانوا يسكنون ساحلَ بحرِ الروم بينَ مصرَ وفلسطين، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسَبَوا منهم، وأسروا، فقالوا لنبيهم أشموئيل: {ابْعَثْ} أي: آثِرْ وأرسلْ. {لَنَا مَلِكًا} أي: معنا سلطانًا يتقدَّمُنا. {نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فلما قالوا له ذلك. ¬

_ (¬1) "أمر" ساقطة من "ت".

{قَالَ} لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ} استفهامُ شَكٍّ، يقول: لعلكم. قرأ نافعٌ: (عَسِيتُمْ) بكسر السين؛ كخشيتم، والباقون: بالفتح كرميتُم، وهي اللغة الفصيحة (¬1). {إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} مع ذلكَ الملكِ. {أَلَّا} تقوموا بما تقولون، ولا {تُقَاتِلُوا} معه. تلخيصُه: أنتم جبناءُ عن القتال، فكيف تقاتلون؟ فثمَّ استفهموا منكرين، و: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} المعنى: أيُّ عذرٍ لنا في تركِ الجهاد. {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} المعنى: أُخرجَ بعضُنا؛ لأن القائلين كانوا في ديارهم. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الجهاد، وضيَّعوا أمرَ الله. {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} وهم الذين عَبَروا النهرَ مع طالوت، واقتصروا على الغَرْفةِ، وكانوا ثلاثَ مئةِ رجلٍ وثلاثةَ عشرَ رجلًا كأهلِ بدرٍ، ثم تهدَّدَهم فقال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} بترك الجهاد. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 227)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 140)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 187)، و"الكشف" لمكي (1/ 303)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 168)، و"تفسير البغوي" (1/ 254)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 190).

[247]

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}. [247] {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} وكان طالوتُ اسمُه بالعبرانيةِ شاولُ بنُ قيس من سِبْطِ بِنْيامين، ولم يكنْ من أعيانهم، قيل: كان راعيًا، وقيل: سَقّاءً، وقيل: دَبَّاغًا، فلما عَرَّفَهم نبيُّهم أن طالوتَ ملكُهم. {قَالُوا} منكرين: {أَنَّى} أي: كيف. {يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} وليسَ من بيتِ الملك؛ لأن الملكَ كانَ في سِبْطِ يهوذا بنِ يعقوبَ، والنبوة في سبطِ لاوي بنِ يعقوب. {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} لأنه فقيرٌ. {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً} أي: كثرةً. {مِنَ الْمَالِ} تلخيصُه: بعيدٌ تملُّكُه علينا؛ لعدمِ استحقاقِهِ للملكِ لوجود مستحقِّه، وفقره، فثم {قَالَ} نبيُّهم رادًا عليهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ} اختارَهُ. {عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ} نَفَّلَهُ.

[248]

{بَسْطَةً} سَعَة. {فِي الْعِلْمِ} بالحرب. {وَالْجِسْمِ} بالطول، قيل: سُمِّيَ طالوتَ لطوله، وكان أعلمَ بني إسرائيلَ بالحرب، وأطولَ من كلِّ إنسان برأسه ومنكبه، وكان أجملَ رجل في بني إسرائيل. {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} لأنه مختصٌّ بالملْكِ. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} ذو السعة. {عَلِيمٌ} بما يصنع. ثم قالوا لنبيهم: فما آيةُ ملكهِ؟ فأجابهم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}. [248] {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} وهو صندوقُ التوراة، ومن قِصَّته أن الله أنزلَ تابوتًا على آدمَ من خشبِ الشِّمشارِ نحوًا من ثلاثةِ أذرُع في ذراعينِ، فكان عندَ آدمَ، ثم عند شيثٍ، ثم توارثه أولادُ آدمَ إلى أن بلغَ إبراهيمَ، ثم كانَ عندَ إسماعيل، ثم عندَ يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصلَ إلى موسى، فكان موسى

يضعُ فيه التوراة، ومتاعًا من متاعه إلى أن مات، ثم تداولَه أنبياءُ بني إسرائيل، وكان كما ذكر (¬1) الله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: طُمَأنينة وحكمةٌ؛ لأنهم كانوا يسكنون إليه أينما كان، وإذا حضروا القتال، قَدَّموه بينَ أيديهم يَسْتنصرون به، وقيل: كانَ فيه شيءٌ كرأس الهرةِ إذا سمعوا صوتَهُ أيقنوا بالنصر، وإذا اختلفوا في شيء، تكلَّمَ وحكمَ بينهم. {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} أي: موسى وهارون نفسُهما، وكان فيه لوحانِ من التوراة، ورضاضُ المنكسرِ من ألواحِها، وعصا موسى ونعلاه، وعِمامةُ هارون، وخاتمُ سليمانَ، وقفيزٌ من المنِّ الذي أُنزل على بني إسرائيل. {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} قال ابن عباس: "جاءتِ الملائكةُ بالتابوتِ تحملُه بينَ السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعَتْه عندَ طالوتَ، فأقروا بملكه، قال ابنُ عباس: التابوتُ وعصا موسى في بحيرة طبرية يخرجان قبلَ يوم القيامة (¬2). {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} لعبرة. {لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فلما رأوا التابوتَ، أيقنوا بالنصر، فتسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوتُ: لا أبتغي إلا الشابَّ النشيطَ الفارغَ (¬3)، فاجتمعَ له ثمانون ألفًا من شرطه. ¬

_ (¬1) في "ت": "ذكره". (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 609). (¬3) في "ن" و"ت": "الفارع".

[249]

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}. [249] {فَلَمَّا فَصَلَ} أي: خرجَ من بيت المقدس. {طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} وكان حرًّا شديدًا، فشكوا قلةَ الماءِ بينهم وبين عدوهم. {قَالَ} طالوتُ. {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} مختبرُكُم ليرى طاعَتكم، وهو أعلمُ. {بِنَهَرٍ} هو الأُرْدُنُّ نهرُ الشريعة شرقي بيتِ المقدس، وقيل غيره. {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} أي: كرعَ فيه. {فَلَيْسَ مِنِّي} أي: من أتباعي وأهل ديني. {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} لم يذقْه. {فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} قرأ عاصم، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (مِنِّي إِلَّا) (¬1) بسكون الياء، وقرؤوا أيضًا: ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 279)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 140)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 187)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 99)، و"الكشف" لمكي (1/ 303 - 304)، و"تفسير البغوي" (1/ 259)، =

(غُرْفَةً) بضمِّ الغين، وافقهم ابنُ كثير في (مِنِّي إِلَّا). والغرفةُ بالضمِّ: اسمٌ لما يحصل في كفِّ الغارفِ، وبالفتحِ: الاغترافُ. تلخيصُه: الغرفةُ مباحةٌ لكم دونَ الشربِ منها، وكانت الغرفةُ تكفي الرجلَ لشربه ودوابِّهُ. {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} هو استثناء مِنْ (فَشَرِبوا)، والقليلُ الذين لم يشربوا كانوا ثلاثَ مئةٍ وبضعةَ عشرَ على الصحيح، فمن اغترف غرفة كما أمرَ اللهُ قوي قلبه، وصحَّ إيمانُه، وعبر النهرَ سالمًا، والذين شربوا وخالفوا أمر الله، اسودَّتْ شفاهُهم، وغلبَهم العطشُ، وجَبُنوا عن لقاء العدو، فلم يجاوزوا، ولم يشهدوا الفتح. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} يعني: النهرَ. {هُوَ} يعني: طالوتَ. {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} يعني: القليل. {قَالُوا} يعني: الذين شربوا، وخالفوا أمر الله، وكانوا أهل شك ونفاق: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} فانحرفوا ولم يجاوزوا. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يستيقنون. {أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} وهم مَنْ ثبت مع طالوت. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} طائفةٍ. ¬

_ = و"التيسير" للداني (ص: 81)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 230)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 192).

[250]

{قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} بقضاء الله (¬1) وإرادتِهَ. {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالنصرِ والمعونة (¬2). {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}. [250] {وَلَمَّا بَرَزُوا} يعني: طالوتَ وجنودَه المؤمنين. {لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} المشركين، ومعنى برزوا: أي: صاروا في بَرازٍ من الأرض، وهو الفضاء. {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ} أنزلْ. {عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} قلوبنا. {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} كانَ جالوتُ من جبابرةِ (¬3) الكنعانيينَ من العماليقِ من ولدِ عمليقِ بنِ عادٍ، وكان ملكه (¬4) بجهاتِ فلسطينَ، وكان من الشدةِ وطولِ القامةِ بمكانٍ عظيمٍ، فلما تصافُّوا، قال جالوتُ لطالوتَ: إما أن تبَرزَ إليَّ، أو تبُرِز إليَّ أحدًا، فإن قتلني، استحوذْتَ على ملكي، وإن قتلتُهُ، استحوذتُ على ملكِكَ، فخافه طالوتُ؛ لأنه كان يهزمُ الجيوش وحدَهُ، وكان في بيضَتِهِ ثلاثُ مئةِ رطلِ حديدٍ. ¬

_ (¬1) في "ش": "بقضائه". (¬2) في "ن": "والعون". (¬3) في "ن": "جبارة". (¬4) في "ش": "ملكهم".

[251]

{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}. [251] {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} وكانَ من خبرِهم أنهم لما برزوا للقتال، طلبَ طالوتُ داودَ -عليه السلام-، وكان أصغرَ بني أبيه، وكان عمره ثلاثين سنة، وأمرهُ بمبارزةِ جالوتَ بعد أن رأى فيه العلائمَ التي يستدَلُّ بها على أنه هو الذي يقتل جالوتَ، وهي دهنٌ كان يستديرُ على رأسِ مَنْ يكون فيه السرُّ، وأحضر أيضًا تَنُّورًا حديدًا، وقال: الشخصُ الذي يقتلُ جالوتَ يكون ملءَ هذا التنور، فلما اعتبر داود ملأ التنورَ، واستدارَ الدهنُ على رأسه، فلما تحقق ذلك منه بالعلامة، أمرَهُ طالوتُ بمبارزةِ جالوتَ، فبارزه. {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} بثلاثةِ أحجارٍ كانتْ في مِخْلاةٍ، وهو متقلِّدٌ بها، وأخذ مِقْلاعًا بيدِه، وكان جالوتُ على فرسٍ أبلقَ عليهِ السلاحُ التامُّ، فلما نظرَ إلى داودَ، أُلقي في قلبِه الرعبُ، فقال له: أنتَ تبرزُ إلي؟ قال: نعم، قالَ: فأتيتَني بالمقلاع والحجرِ كما يُؤْتى الكلب؟ قال: نعم، أنت شرٌّ من الكلب، قال: لا جرمَ لأقسمنَّ لحمَكَ بينَ سِباعِ الأرضِ وطيرِ السماء، قال داودُ: أو يقسمُ اللهُ لحمَك، فقال داود: باسم اللهِ إلهِ إبراهيمَ، وأخرجَ حجرًا، ثم أخرج الثاني، فقال: باسم الله إلهِ إِسحقَ، ووضعَهُ في مقلاعه، ثم أخرجَ الثالثَ وقال: باسمِ اللهِ إلهِ يعقوبَ، ووضعَهُ في مِقْلاعه، فصارت كلُّها حجرًا واحدًا، ودَوَّرَ المقلاع ورمى به، فسخَّرَ اللهُ لهُ الريَح حتى أصابَ

الحجرُ أنفَ البيضةِ، فخالط دماغَه، وخرجَ من قفاه، وقتل من ورائِه ثلاثين رجلًا، وهزمَ الله الجيشَ، وخرَّ جالوتُ قتيلًا، فأخذه يجرُّهُ (¬1) حتى ألقاه بين يَدَيْ طالوتَ، ففرحَ المسلمون فرحًا شديدًا، وانصرفوا إلى المدينةِ سالمين، ثم بعد ذلك ماتَ أَشموئيل وله اثنتان وخمسون سنةً، فدفنه بنو إسرائيلَ في الليل، وناحوا عليه، وقبرُه بقريةٍ ظاهر بيتِ المقدسِ من جهةِ الشَّمالِ على الطريقِ السالكِ إلى رملةِ فلسطينَ على رأسِ جبلٍ، وهو مشهورٌ، واسمُ القرية عند اليهود رامةُ، وأهل الإسلام يسمونها باسم النبيِّ المشارِ إليه، وتزوج داودُ ابنةَ طالوتَ، وأحبَّهُ الناسُ، ومالوا إليه، فحسدَه طالوتُ، وقصدَ قتلَه مرةً بعد أخرى، فهرب داودُ منه، وبقي داودُ متحرِّزًا على نفسِه، ثم ندمَ طالوتُ على ما كان منه من قصدِ قتلِ داودَ، وتابَ إلى الله، ثم إن طالوتَ قصدَ الفلسطين للغزاة، وقاتلَهم حتى قُتل هو وأولادُه، وانتقل الملكُ إلى داودَ -عليه السلام-. {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} يعني: النبوةَ، ولم تجتمع السلطنةُ والنبوةُ لأحدٍ قبلَ داودَ، بل كانَ الملْكُ في سبط، والنبوةُ في سبط. {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} من صنعةِ الدروع، فكان يصنعُها ويبيعها، ولا يأكلُ إلا من عمل يده، ومنطقِ الطيرِ والصوتِ الطيبِ والألحانِ، فلم يُعْطِ اللهُ أحدًا من خلقِه مثلَ صوته، كان إذا قرأ الزبورَ، تدنو الوحوشُ حتى يؤخذَ بأعناقها، وتُظِلُّه الطير، ويركدُ الماءُ الجاري، ويسكنُ الريح، وسيأتي ذكرُ داود -عليه السلام- ووفاتُه في أواخر سورة النساء -إن شاء الله ¬

_ (¬1) في "ن": "وجرَّه".

تعالى-. قرأ أبو عمرٍو: (وَقَتَلَ دَاوُد جالُوتَ) بإدغام الدال في الجيم (¬1). {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ} أصلُ الدفعِ: صرفُ الشيء، والمعنى: لولا أن يصرف الله. {النَّاسَ بَعْضَهُمْ} أي: المفسدين. {بِبَعْضٍ} بالمؤمنين. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (دِفَاعُ) بألف، والباقون: بغير ألف (¬2)؛ لأن الله تعالى لا يُغالبه أحدٌ، وهو الدافعُ وحدَه، ومن قرأ بالألف قال: قد يكونُ الدفاعُ من واحد، مثل قولِ العربِ: أحسنَ الله عنكَ الدفاع. {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} بقتل المسلمين، وظهورِ الفسادِ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ -عز وجل- لَيَدْفَعُ بِالمسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِئَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ" (¬3). {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. ¬

_ (¬1) انظر: "الإتقان" للسيوطي (1/ 112)، النوع الحادي والثلاثون. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 279)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 140)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 187)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 99)، و"الكشف" لمكي (1/ 304 - 305)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 168)، و"تفسير البغوي" (1/ 265)، و"التيسير" للداني (ص: 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 203)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 193). (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 633)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 403)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 382)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4080)، وغيرهم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- بإسناد ضعيف.

[252]

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}. [252] {تِلْكَ} أي: الأخبارُ المذكورةُ. {آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. ... {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}. [253] {تِلْكَ الرُّسُلُ} المذكورةُ قِصَصُها. {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} يعني: موسى -عليه السلام-. {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصرِّحْ باسمِه تفخيمًا له. المعنى: إنه ساوى الأنبياءَ في فضلِهم، وفضل عليهم بأشياءَ كثيرةٍ، منها: أنه بُعث إلى الأحمرِ والأسود، وأُحِلَّت له الغنائمُ، وغيرُ ذلك -صلواتُ اللهِ عليهِ وعليهم أجمعين-. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} قرأ ابنُ كثيرٍ: (القدْس) بإسكانِ الدال (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 194).

[254]

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعدِ الرسلِ. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} في دينِهم. {فَمِنْهُمْ} أي: الذين بَقُوا بعدَ الرسل. {مَنْ آمَنَ} ثَبَتَ على إيمانِه. {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} ارتدَّ. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} كَرَّرَهُ تأكيدًا. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} يوفِّقُ مَنْ يشاءُ فَضْلًا، ويخذُلُ من يشاء عَدْلًا. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}. [254] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} هي الزكاةُ المفروضةُ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ} أي: لا فداءٌ فيه؛ لأن الفداءَ شراءُ نفسه. قرأ أبو عمرٍو: (أَنْ يَأتِي يَوْمٌ) بإدغام الياء في الياء (¬1). {وَلَا خُلَّةٌ} لا صَداقةٌ. {وَلَا شَفَاعَةٌ} إلَّا بإذن الله. قرأ نافع، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (لاَ بَيْعٌ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ) بالرَّفْع والتنوين، والباقونَ: كلّها بالنصب (¬2). تلخيصُه: تأهَّبوا للحسابِ قبلَ الموتِ. ¬

_ (¬1) انظر: "الإتقان" للسيوطي (1/ 111)، النوع الحادي والثلاثون. (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 282)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 148)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 187)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: =

[255]

{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} بوضعِهِمُ العبادةَ في غيرِ محلها. ... {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}. [255] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هي أعظمُ آيةٍ في كتاب الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ لَها لَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ" (¬1) وَ"مَنْ قَرَأَهَا حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ حَافِظًا، وَلاَ يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ" (¬2). {الْحَيُّ} الذي لا يلحقُه الفناءُ ولا يموتُ. {الْقَيُّومُ} القائمُ بتدبيرِ خلقِه. ¬

_ = 99)، و"الكشف" لمكي (1/ 305 - 306)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 267)، و"التيسير" للداني (ص: 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 211)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 135)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 194). (¬1) رواه مسلم (810)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 141)، عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-، وهذا لفظ أحمد. (¬2) رواه البخاري (4723)، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل سورة البقرة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} هي النعاسُ، وهي أولُ النوم. قرأ الكسائيُّ (سِنَةٌ) بإمالةِ النون حيثُ وقفَ على هاء التأنيث. {وَلَا نَوْمٌ} هو غَشْيَةٌ ثقيلةٌ تقع على القلب، فتمنعُهُ معرفةَ الأشياء. تلخيصُه: هو منزَّهٌ عن جميعِ التغييرات. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأنه خلقَها بما فيهما. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} لأن أحدًا لا يقدرُ على الكلامِ يومَ القيامة. قرأ أبو عمرٍو (يَشْفَع عنْدَهُ) بإدغام العين الأولى في الثانية، و (يَعْلَم ما) بإدغامِ الميمِ في الميم (¬1). {إِلَّا بِإِذْنِهِ} بأن يأذن في الكلام والشفاعة لمن شاء فيمن شاء. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي: بينَ أيدي ما فيهما، والمرادُ: ما وُجِدَ قبلَ خلقِ ما فيهما؛ كالملائكة. {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما يوجَدُ بعد ما فيهما. قرأ يعقوبُ: (أَيْدِيهُمْ) بضم الهاء، وقرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (أَيْدِيهِمُو) واختُلِفَ عن قالون (وَمَا خَلْفَهُمْ) كذلك (¬2). {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي: من معلوماتِه. {إِلَّا بِمَا شَاءَ} مِمَّا (¬3) أخبرَ بهِ الرسلَ. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} قال ابنُ عباس: كرسِيُّهُ: علمُه (¬4)، وقالَ الحسنُ: هو ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الآية (4) من سورة الفاتحة، والقراءة ثمة. (¬2) انظر: الآية (7) من سورة الفاتحة. (¬3) في "ن": "فيما". (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" (3/ 9).

[256]

العرشُ نفسُه (¬1)، وقالَ ابنُ عطيةَ (¬2): والذي تقتضيهِ الأحاديثُ أن الكرسيَّ مخلوقٌ عظيم بينَ يَدَيِ العرشِ، والعرشُ أعظمُ منهُ، قال أبو ذَرٍّ -رضي الله عنه-: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ" (¬3) ومعنى قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: سَعَةً مثلَ سَعَةِ السمواتِ والأرضِ في العظم. {وَلَا يَئُودُهُ} لا يُثْقِلُهُ، ولا يَشُقُّ عليه. {حِفْظُهُمَا} أي: حفظُ السماواتِ والأرضِ. {وَهُوَ الْعَلِيُّ} المتعالي عن الأشباهِ والأندادِ. {الْعَظِيمُ} الذي ليسَ شيْءٌ أعظمَ منه. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}. [256] {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} نزلَتْ في أهلِ الكتابِ إذا قَبِلوا الجزيةَ، وذلكَ أن العربَ كانت أمةً واحدة (¬4) أُميةً، فلم يكن لهم كتابٌ، فلم يُقبل منهم إلا الإسلامُ، فأسلموا طوعًا أو كرهًا، فلما أُنزل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (3/ 10). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (1/ 342). (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" (3/ 10)، وأبو الشيخ في "العظمة" (2/ 587). (¬4) "واحدة" زيادة من "ن".

أُمِرَ بقتالِ أهلِ الكتابِ إلا أَنْ يُسْلِموا، أو يُقِرُّوا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزيةَ، لم يُكْرَهْ على الإسلامِ (¬1)، ويأتي ذكرُ حكمِ الجزيةِ في سورةِ التوبة -إن شاء الله تعالى-. {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ} الحقُّ. {مِنَ الْغَيِّ} الضلال. المعنى: ظهرَ الإيمانُ من الكفرِ بالدلائلِ الواضحةِ. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} وهو ما عُبِدَ من دونِ الله. {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} أي: تمسَّكَ واعتصَم. {بِالْعُرْوَةِ} بالعَقْدِ الثابتِ والحُجَّةِ. {الْوُثْقَى} المحكَمَةِ الموصلةِ إلى رِضا اللهِ تعالى. {لَا انْفِصَامَ} لا انقطاعَ. {لَهَا} وأصل الفَصْمُ: انصداعٌ من غيرِ فصلٍ. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لدعائِكَ إياهم إلى الإسلام. {عَلِيمٌ} بحرصِكَ على إيمانهم. ... {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 43)، و"تفسير البغوي" (1/ 272)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 614).

[257]

[257] {اللَّهُ وَلِيُّ} أي: ناصرُ. {الَّذِينَ آمَنُوا} ومُغيثُهم. {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} أي: الكفرِ. {إِلَى النُّورِ} الإيمانِ. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: اليهودَ. {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابُه. {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ} الإيمان بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {إِلَى الظُّلُمَاتِ} الكفرِ به؛ بأن أنكروهُ، ومنعوا من اتِّباعه. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وعيد وتحذيرٌ. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}. [258] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ} المعنى: هل انتهى إليكَ خبرُ الذي خاصمَ وجادلَ. {إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} وهو نمرودُ بنُ كنعانَ بنِ كوش بنِ سامِ بنِ نوحٍ، وهو أولُ من وضعَ التاجَ على رأسه، وتجبَّرَ في الأرض، وادَّعى رُبوبيَّةً. {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} والعاملُ في (أن) حاجَّ، تقديره: حاجَّ لأنْ أعطاه الله الملكَ، فطغى، فكانت المحاجَّةُ من بطرِ الملكِ وطغيانِه، قال

مجاهد: ملكَ الأرضَ مؤمنانِ: سليمانُ بن داود (¬1)، وذو القرنينِ، وكافران: نمرودُ وبُخْتَ نَصَّر. {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} ظرفٌ لـ"حاجَّ "، وهذا جوابُ سؤالٍ غيرِ مذكورٍ، قال له: من ربُّكَ؟ قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} قرأ حمزةُ: (رَبِّي الَّذِي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (¬2). {قَالَ} نمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فعمدَ إلى رجلينِ، فقتلَ أحدَهما، وتركَ الآخرَ، فجعلَ تركَ القتلِ إحياءً. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَنَا أُحْيِي) بالمدِّ في هذا الحرف وشبهِه حيثُ وقَع (¬3). فانتقلَ إبراهيمُ إلى حجَّةٍ أخرى، لا عجزًا؛ فإن حُجَّتَه كانت لازمة؛ لأنه أرادَ بالإحياءِ إحياءَ الميتِ، فكان له أن يقولَ: فَأَحْيِ مَنْ أَمَتَّ إنْ كنتَ صادقًا، فانتقلَ إلى حجَّةٍ أوضحَ من الأولى. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ} أي: تَحَيَّرَ ودُهِشَ. ¬

_ (¬1) "بن داود" زيادة من "ن". (¬2) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 330)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 274)، و"التيسير" للداني (ص: 86)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 197). (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 284)، و "الحجة" لأبي زرعة (ص: 142)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: 188)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 274)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 213)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 197).

[259]

{الَّذِي كَفَرَ} وانقطعتْ حُجَّتُهُ. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أنفسَهُمْ بعدمِ قبولِ الهداية، وفي انتقالِ إبراهيمَ دليلٌ على جوازِ الانتقالِ من دليلٍ إلى دليل. ... {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}. [259] {أَوْ كَالَّذِي} هذهِ الآيةُ منسوقةٌ (¬1) على الآية الأولى، تقديره: ألم ترَ إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ، أو إلى الذي. {مَرَّ} هو أرميا النبيُّ -عليه السلام- على الأصحِّ، وقيلَ: هو عُزير -عليه السلام-. {عَلَى قَرْيَةٍ} هي بيتُ المقدسِ حينَ خَرَّبَهُ بُخْتَ نَصَّر ملكُ بابلَ بالعراقِ (¬2). {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطةٌ. {عَلَى عُرُوشِهَا} سقوفِها، معناه: أن السقوفَ سقطَتْ، ثم وقعتِ الحيطانُ عليها. وملخَّصُ القصةِ على اختلافٍ فيها أنَّ أَرْميا -عليه السلام- ¬

_ (¬1) في "ن": "مسبوقة". (¬2) في "ن": "العراق".

كان في أيام صدقيا آخرِ ملوكِ بني إسرائيل، وكانوا قد أحدثوا المعاصيَ والطغيان، ونقضوا التوبةَ، فبقي أرميا يعظُهم ويهدِّدهم ببختَ نَصَّرَ عاملِ لهراسفَ على بابلَ، ولهراسفُ هو ملكُ فارسَ، وهم لا يلتفتون إلى وَعْظه، وكان أرميا قد رأى بختَ نَصَّرَ قديمًا وهو (¬1) صبيٌّ أقرعُ، ورآه يأكلُ ويتغوَّطُ ويقتلُ القملَ، فقال له: ما هذا؟ فقال: أَذًى يخرجُ، ومنفعةٌ تدخلُ، وعدوٌّ يُقتل، فقال له: سيكونُ لكَ شأنٌ، فأخذ أرميا من بُخْتَ نَصَّر أمانًا لبيتِ المقدس ومَنْ فيه، وكتبَ لهُ الأمانَ في جلدٍ، فلما صارَ الملكُ إلى بختَ نَصَّرَ، عصى عليه صدقيا، فقصد بُخْتَ نَصَّرُ بيتَ المقدسِ، فلما بلغَ سهولَ الرملة، وأُعلم أرميا بذلك، سار إليه، وأعطاهُ الأمان، فنظره وقالَ: هو أماني، ولكني مبعوثٌ، وقد أُمرت أن أَرميَ بسهمي، فحيثُ وقعَ سهمي، طلبتُ الموضعَ، فرمى بسهمٍ فوقعَ في قبةِ بيتِ المقدس، فرجع أرميا إلى أهل القدس، وأخبرهم بذلك، وفارقهم، واختفى، ثم سار (¬2) بخت نَصَّرُ بالجيوشِ، وكان معه ستُّ مئةِ ألفِ رايةٍ، ودخل بيتَ المقدسِ بجنوده، ووطئ الشامَ، وقتل بني إسرائيلَ، وأَسَرَ منهم، وسَبى ذَراريَّهُمْ، وخَرَّبَ بيتَ المقدسِ، وأمرَ جنوده أن يملأ كلُّ رجلٍ منهم ترسَهُ ترابًا، ثم يقذفَه في بيتِ المقدس، ففعلوا حتى ملؤوه، وبينَ تخريبِ بيتِ المقدسِ على يدِ بختَ نَصَّرَ والهجرةِ النبويةِ الشريفة ألفٌ وثلاثُ مئةٍ وخمسونَ سنةً، فكانت هذه الواقعةُ الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بظلمِهم بعدَ أن لبثَ ¬

_ (¬1) في "ت": "وهي". (¬2) في "ن": "وسار".

بيتُ المقدسِ على العِمارةِ السُّلَيمانية أربعَ مئةٍ وثلاثًا وخمسينَ سنةً، ثم إن الله أوحى إلى أَرميا أني عامرٌ بيتَ المقدسِ، فاخرج إليها، فخرج أرميا، وقدم إلى القدس وهي خرابٌ, فلما رآها. {قَالَ أَنَّى} أي: كيف. {يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} قالَهُ تعجُّبًا لا شَكًّا بالبعثِ، ثم وضعَ رأسه فنام. {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ} ألبثَهُ ميتًا. {مِائَةَ عَامٍ} فلما مضى من موته سبعون سنةً، وهي مدةُ لبثِ بيتِ المقدس على التخريب، أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِكٍ من ملوك الفرسِ اسمُهُ كُورَشُ، وكان مؤمنًا، وأمره بعمارةِ بيتِ المقدس، فعمَره، وعاد إليه بنو إسرائيل، وعمروها ثلاثين سنة، وكثروا حتى كانوا على أحسنِ ما كانوا عليه، وأهلكَ الله بختَ نَصَّرَ ببعوضةٍ دخلتْ في دماغِه، ولما أماتَ الله أرميا، كان معه حمارُه وسَلَّةٌ فيها طعامٌ، وهو تينٌ وركوةٌ فيها عصيرُ عنبٍ. {ثُمَّ بَعَثَهُ} أي: أحياه، وعمَّرَ اللهُ أرميا، فهو الذي يُرى في الفَلَوات، وبعثه الله على السنِّ الذي توفَّاه عليه بعدَ مئةِ سنة، وهو أربعون سنةً، ولابنِه عشرٌ ومئةٌ، ولابنِ ابنِه تسعونَ، وأنشدَ في ذلك: وَأَسْوَدَ رَأْسٍ شَابَ مِنْ قَبْلِهِ ابْنُهُ ... وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ ابْنِهِ فَهْوَ أَكْبَرُ تَرَى ابْنَ ابْنِهِ شَيْخًا يَأُبُّ عَلَى عَصًا ... وَلِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ وَالرَّأْسُ أَشْقَرُ وَمَا لِابْنِهِ حَيْلٌ وَلاَ فَضْلُ قُوَّةٍ ... يَقُومُ كَمَا يَمْشِي الصَّبِيُّ فَيَعْثُرُ يَعُدُّ ابْنُهُ فِي النَّاسِ تِسْعِينَ ... حِجَّةً وَعِشْرِينَ لا يَجْرِي وَلا يَتَحَيَّرُ

وَعُمْرُ أَبيهِ أَرْبَعُونَ أَمرَّهَا ... وَلِابْنِ ابْنِهِ في النَّاسِ تِسْعُونَ غُبَّرُ فَمَا هُوَ فِي المَعْقُولِ إِنْ كُنْتَ دَاريًا ... وَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَبِالجَهْلِ تُعْذَرُ (¬1) فلما بعثه الله {قَالَ} له ملَكٌ: {كَمْ لَبِثْتَ} مَيْتًا. {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا} لأنه كانَ قدْ ماتَ أولَ النهارِ، وأحياه اللهُ بعدَ مئةِ عامٍ آخِرَ النهارِ قبلَ غيبوبةِ الشمس، فلما رأى بقيةً من الشمس قال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ} له الملَكُ: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ، وخلفٌ، (لَبِثْتَ لَبِثْتُمْ) حيثُ وقعَ بالإظهار، والباقون بالإدغام (¬2)، وقرأ أبو جعفرٍ (مِئَةً، ومِئَتَيْنِ، وفِئَةً، وفِئَتَيْنِ) حيث وقع بغير همز (¬3) بخلاف عنه. {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} التينِ. {وَشَرَابِكَ} العصيرِ. {لَمْ يَتَسَنَّهْ} يتغيرْ، كأنه لم يأتِ عليه السنون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (يَتَسَنَّ) بغير هاءٍ في الوصل، فمن أسقط الهاء جعلها صلةً زائدةً، وقال: أصلُه (لم يَتَسَنَّي)، فحذفَ الياء للجزم، ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 325). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 284)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 188)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 100)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 198). (¬3) "همز" ساقطة من "ش".

وأبدل منه هاءً في الوقف، ومن أثبتَ الهاءَ، جعلها أصليةً للامِ الفعل (¬1). {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فنظرَ، فإذا عظامٌ بِيضٌ، فركَّبَ اللهُ العظامَ بعضَها على بعض، وكساهُ اللحمَ والجلد، وأحياه وهو ينظر. تقديره: أريناكَ ذلكَ لتعلمَ قدرتَنا. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ، والدوريُّ عن الكسائيِّ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (حِمَارِكَ) و (الحمار) بالإمالة حيثُ وقعَ (¬2). {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} أي: عبرةً ودلالةً على البعثِ بعدَ الموت. {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ: (نُنْشِزُهَا) بالزاي المعجمة، أي: نرفعُها من الأرض ونردُّها إلى مكانها من الجسد، يقال: نشزتُه فنشزَ؛ أي: رفعتُه فارتفع، والباقون: بالراء المهملة، معناه: نُحييها، قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (¬3) [عبس: 22]. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 143)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص، 189)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 100)، و"الكشف" لمكي (1/ 307 - 308)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 278)، و"التيسير" للداني (ص: 82)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 199). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 199). (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 144)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 189)، و"الكشف" لمكي (1/ 310 - 311)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 278)، و"التيسير" للداني (ص: 82)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 200).

[260]

{ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} فعادت العظامُ كهيئتها حيةً. اختُلف في معنى الآية، فقال الأكثرون: المرادُ عظامُ الحمار، وقال قوم: أرادَ به عظامَ الميتِ نفسِه، وفي الآية تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديرها: وانظرْ إلى حمارك، وانظرْ إلى العظام كيف ننشرها، ولنجعلك آية للناس. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} ذلك عيانًا. {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ (قَالَ اعْلَمْ) موصولًا مجزومًا على الأمر، معناه: قالَ اللهُ لهُ: اعلم، وقرأ الباقون: (أَعْلَمُ) بقطع الألفِ ورفعِ الميم على الخبر أنه لما رأى ذلك، قالَ: أعلمُ (¬1). ... {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}. [260] {وَإِذْ} أي: واذكرْ إذ. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} لأزداد بصيرةً، وإذا سئلتُ ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 144)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 189)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: 100)، و"الكشف" لمكي (1/ 312 - 313)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 280)، و "التيسير" للداني (ص: 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 231)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 201).

هل رأيتَ إحياءَ الموتى؟ فأقولُ: نعم. قرأ ابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ والسوسيُّ عن أبي عمرٍو: (أَرْنِي) بسكون الراء (¬1). {قَالَ} الله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} مع علمِه بإيمانه ليظهر إيمانه لكلِّ سامعٍ. {قَالَ بَلَى} يا ربِّ قد علمتُ فآمنتُ. {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ} أي: ليسكن (¬2). {قَلْبِي} ويصيرَ علمُ اليقينِ بالاستدلال عينَ اليقينِ بالمشاهدةِ. تلخيصُه: آمنتُ وأريدُ مشاهدةَ ذلك لإيمانِ غيري، وفي معنى قولهِ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} من الأمثال الدائرة على ألسنِ (¬3) الناس: ليسَ المُخْبَرُ كالمعايِن، وقد رُوي الحديثِ الشريفِ: "لَيْسَ الْخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ" رواه الإمام أحمدُ وغيرُه (¬4). {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} نسرًا وطاوسًا وغرابًا وديكًا. {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي: قَطِّعْهُنَّ. قرأ أبو جعفرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ، ورُويسٌ: (فَصرْهُنَّ) بكسر الصاد؛ أي: أَمِلْهُنَّ، والباقون: بضمِّها على ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 148)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 202). (¬2) في "ن": "يسكن". (¬3) في "ت": "ألسنة". (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 215)، وابن حبان في "صحيحه" (6213)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (25)، والحاكم في "المستدرك" (3250)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

المعنى الأول (¬1)، والمعنى: أملهنَّ إليك واعتبرهُنَّ، ثم قَطِّعْهُنَّ، ثم اخلِطْ لحمَهُنَّ بعضَه ببعض، ثم أمسكْ رؤوسهن، ثم جَزِّئْهُنَّ أجزاءً. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ} من جبال أرضِك، وكانت سبعة. {مِنْهُنَّ جُزْءًا} قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ (جُزُؤًا) بضم الزاي والهمز حيثُ وقعَ، وقرأ أبو جعفرٍ: بتشديدِ الزاي بغير همز، والباقون: بالجزم والهمز (¬2). {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} قلْ لَهُنَّ تعالَيْنَ بإذنِ الله. {يَأْتِينَكَ} ففعل، فعاد كلُّ جزء إلى جسده، ثم أتينَ إلى رؤوسهن. {سَعْيًا} سريعًا. {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يعجزُ عما يريدُ (¬3). {حَكِيمٌ} في كلِّ ما يفعله. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 145)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: 190)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 101)، و"الكشف" لمكي (1/ 158)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 282)، و"التيسير" للداني (ص: 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 202). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 145)، و"الكشف" لمكي (1/ 247)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 282)، و"التيسير" للداني (ص: 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2216)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 203). (¬3) في "ش": "يريده".

[261]

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}. [261] {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: مثلُ نفقاتِ المنفقين في الجهادِ، أو جميعِ أبوابِ الخير. {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} أي: نفقاتُهم تشبهُ حبةً. {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وقالونُ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (أَنْبَتَتْ سَبْعَ) وشبهَه حيثُ وقعَ بإظهار التاءِ عندَ السين، والباقون: بالإدغام (¬1)، المعنى: يتشعَّبُ من أصلِها سبعُ شعبٍ، في كل شعبةٍ سنبلةٌ. {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ} يزيدُ الثوابَ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (يُضَعِّفُ) بتشديد العين بغير ألف (¬2). {لِمَنْ يَشَاءُ} من المنفقين إلى ما يشاء. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} غنيٌّ يعطي من سَعَةٍ. {عَلِيمٌ} بنيةِ مَنْ ينفقُ. ¬

_ (¬1) انظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 137)، و"تفسير البغوي" (1/ 282)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 159)، "إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 65)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 204). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير القرطبي" (3/ 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 204).

[262]

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}. [262] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} نزلتْ في عثمانَ بنِ عفانَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ -رضي الله عنهما- حين أنفقا أموالَهما في طاعةِ الله (¬1). {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} لا يَمُنُّ على المنفَقِ عليه، ولا يُعَيِّرُهُ. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي: ثوابُهم. {عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فلهم الأَمْنُ مع الفرحِ (¬2). ... {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}. [263] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} ردٌّ جميلٌ. {وَمَغْفِرَةٌ} أن تسترَ عليه. {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} مَنٌّ وتعييرٌ. {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عن صدقةِ من يَمُنُّ. {حَلِيمٌ} عن معاجلتِه بالعقوبة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 283)، و "العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 621). (¬2) في "ظ" و"ن": "الفرج".

[264]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}. [264] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} أي: أُجورَها. {بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ} أي: كإبطال الذي ينفقُ. {مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} ليقال: كريم. قرأ أبو جعفرٍ: (رِيَا النَّاسِ) بغير همز. {وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} يريدُ أنَّ النفقةَ مع الرياء لا تكونُ فعلَ المؤمن، وهذا للمنافق (¬1). {فَمَثَلُهُ} أي: مثلُ نفقةِ المرائي بها. {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} حجرٍ أملسَ. {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} مطرٌ شديدٌ. {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} نَقِيًّا من التراب الذي كان عليه. المعنى: مثلُ المانِّ والمنافِقِ في (¬2) صدقاتِهما يومَ القيامةِ كحجرٍ عليهِ ترابٌ أزالَه عنهُ المطرُ. {لَا يَقْدِرُونَ} أي: المراؤون. {عَلَى شَيْءٍ} أي: على ثوابِ شيءٍ. ¬

_ (¬1) في "ش": "المنافقين". (¬2) "في" ساقطة من "ش".

[265]

{مِمَّا كَسَبُوا} عملوا في الدنيا. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} إلى الخير. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ"، قالوا: يا رسولَ الله! وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرِّيَاءُ يَقُولُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ يُجَازِي الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمُ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذيِنَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟! " (¬1). {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}. [265] {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي: طلبَ رضوانِ الله. {وَتَثْبِيتًا} أي: تصديقًا. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: يُخرجون الزكاةَ طَيِّبَةً بها نفوسُهم على يَقينٍ بالثوابِ وتصديقٍ بوعدِ الله، يعلمون أنَّ ما أخرجوا خير لهم مما تركوا. والمعنى: مثلُ نفقةِ هؤلاء ونموِّها عندَ الله. {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} أي: بستان. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 428)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6831)، عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه-. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4301)، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج -رضي الله عنهما-.

{بِرَبْوَةٍ} هي المرتَفِعُ المستوي من الأرض، لا يعلوه الماء، ولا يعلو عن الماء، فيكون نبتُه حسنًا. قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ: بفتح الراء، والباقون: بالضم (¬1). {أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطرٌ شديدٌ كثير. {فَآتَتْ} أعطَتْ. {أُكُلَهَا} جَناها. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (أُكْلَهَا) بجزم الكاف، والباقون: بالضم (¬2). {ضِعْفَيْنِ} أي: حملَتْ في سنة ما يحملُ غيرها في سنتينِ. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} هو المطرُ الخفيفُ الدائمُ. المعنى: إن هذه الجنةَ تَريعُ، قلَّ المطرُ أو كَثُرَ، كذلك صدقةُ المؤمنِ المخلصِ تنفعُه، قَلَّتْ أو جَلَّتْ. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 146)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 190)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 102)، و"الكشف" لمكي (1/ 313)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 286)، و"التيسير" للداني (ص: 83)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 232)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 206). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 146)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: 190)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: 102)، و"الكشف" لمكي (1/ 313 - 314)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"التيسير" للداني (ص: 83)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 163)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 207).

[266]

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تحذيرٌ عن الرياء. ويتصلُ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} قولُه تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}. [266] {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ} جمعُ نخلٍ. {وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا} رزقٌ. {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وخُصَّ النخيلُ والأعنابُ بالذِّكرِ تفضيلًا لهما. {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} أي: أولادٌ. {ضُعَفَاءُ} صغارٌ. {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} ريحٌ عاصفٌ ترتفعُ إلى (¬1) السماء كالعمودِ. {فِيهِ نَارٌ} المعنى: أيحبُّ أحدُكُم أن يملكَ جنةً في غايةِ الجَوْدَةِ يدَّخِرُها لفاقَتِه، فَأَحْوَجَ ما كانَ إليها (¬2) أصابَتْها نار. {فَاحْتَرَقَتْ} فبقيَ مُتحيرًا مُحتاجًا، لا يجدُ ما يعودُ به عليه، كذلك ¬

_ (¬1) "إلى" ساقطة من "ش". (¬2) "إليها" ساقطة من "ش".

[267]

المرائي بعمله، أحوجَ ما يكونُ إليه لا ينفعُه. تلخيصه: من عملَ لغيرِ الله، ندمَ حينَ لا ينفعُ (¬1) الندم. {كَذَلِكَ} أي: كهذا البيانِ الذي بُيِّنَ فيما تقدَّمَ. {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} أي: الدلالاتِ التي تحتاجون إليها. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فتعتبرون. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}. [267] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} حلالاتِ. {مَا كَسَبْتُمْ} بالتجارةِ والصنعةِ. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ" (¬2) , واستدلَّ الإمامُ أحمدُ -رضي الله عنه- بهذا الحديث، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ" (¬3) على أن للرجلِ أن يأخذَ من مالِ ولدِه ما شاءَ، ويتملَّكَهُ، ¬

_ (¬1) في "ت": "لا ينفعه". (¬2) رواه النسائي (4452)، كتاب: البيوع، باب: الحث على الكسب، وابن ماجه (2137)، كتاب: التجارات، باب: الحث على المكاسب، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 31)، وغيرهم عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬3) رواه أبو داود (3530)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، وابن ماجه (2292)، كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 179)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

[268]

مع حاجتِه وعدِمها، في صغرِ الولدِ وكبرِه، بشرطِ ألَّا تتعلق حاجةُ الابنِ به، وألا يعطيَه لولدٍ آخر، وهو من مفرَداتِ مذهبِه التي خالفَ فيها الثلاثَة. {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} من الحبوبِ والثمرِ. {وَلَا تَيَمَّمُوا} تقصِدُوا. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: بتشديد التاء في الوصل (¬1). {الْخَبِيثَ} الرديء. {مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} يعني: الخبيثَ. {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي: تتسامحوا في أخذِه، وأصلُ الإغماضِ: غَضُّ البصرِ. المعنى: إنكم لا تأخذونَه إلا في حالِ الإغماض. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن صدقاتِكم. {حَمِيدٌ} محمودٌ في أفعاله. {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}. [268] {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ} يُخَوِّفُكم. {الْفَقْرَ} بأن يقولَ: إنْ تصدَّقْتُم، افتقرتُم، والفقرُ: شرُّ الحالِ، وقِلَّةُ ذاتِ اليد. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 146)، و"الكشف" لمكي (1/ 314 - 315)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (1/ 291)، و "التيسير" للداني (ص: 83)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 164)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 208).

[269]

{وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} بالبخلِ ومنعِ الزكاة، وكلُّ فحشاءَ في القرآنِ فهو الزنا إلا هذا. {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} لذنوبِكم. {وَفَضْلًا} خَلَفًا مما أنفقتُم. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} غنيٌّ. {عَلِيمٌ} بما ينفَق. {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}. [269] {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} أي: العلمَ النافعَ، وقيلَ غيرُه. {مَنْ يَشَاءُ} وأصلُ الحكمة: المنعُ، ثم استعمِلَتْ للمنع مع إصلاحٍ. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} قرأ يعقوبُ: (وَمَنْ يُؤْتِ الْحِكْمَةَ) بكسرِ التاء (¬1)؛ أي: من يؤته اللهُ الحكمةَ، وإذا وقفَ، أثبتَ الياء. تلخيصُه: من أعطى ما يُدخلُه الجنةَ {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. {وَمَا يَذَّكَّرُ} يتَّعظ. ¬

_ (¬1) انظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 143)، و"تفسير البغوي" (1/ 293)، و "الكشاف" للزمخشري (1/ 163)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 235)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي. (ص: 164)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 210).

[270]

{إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ذوو العقول. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)}. [270] {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} في طاعةٍ أو معصيةٍ. {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} أَوْجَبْتُموه على أنفسكم، والنذرُ: هوُ إلزامُ مكلَّفٍ مختارٍ نفسَه للهِ تعالى شيئًا بقولٍ غيرِ لازمٍ بأصلِ الشرعِ، فإذا نذرَ في طاعة، انعقدَ ولزمَه فعلُه بالاتفاق، وإذا نذرَ في معصيةٍ، لم يَجُزِ الوفاءُ به بالاتفاق، ويلزمُه عند أحمدَ كفارةُ يمينٍ، خلافًا للثلاثةِ. {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} يحفظُه، فيَجْزيكم به. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الواضعينَ الصدقةَ في غير محلِّها. {مِنْ أَنْصَارٍ} أعوانٍ يدفعونَ عذابَ الله عنهم. {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}. [271] {إِنْ تُبْدُوا} أي: تُظْهروا. {الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي: نعمَ الخصلةُ. قرأ أبو عمرٍو، وقالونُ، وأبو بكرٍ: بكسر النون، واختلاسِ كسرة العين، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بفتح النون، وكسر العين، وأبو جعفرٍ، بكسر النون،

وسكون العين، وتخفيف الميم، والباقون: بكسر النون والعين، وكلها لغاتٌ صحيحة (¬1). {وَإِنْ تُخْفُوهَا} تستُروها. {وَتُؤْتُوهَا} أي: تعطوها. {الْفُقَرَاءَ} سِرًّا. {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وأفضلُ، في الحديث: "صدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ" (¬2) قيل: هذا في صدقة (¬3) التطوع، وأما الزكاةُ، فإظهارُها أفضلُ؛ ليقتدَى به. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 290)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 146 - 147)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 190)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 102)، و"الكشف" لمكي (1/ 316)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (1/ 293)، و"التيسير" للداني (ص: 84)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 235 - 236)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 165)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 210 - 211). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 421)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (102)، عن معاوية -رضي الله عنه-. ورواه الحاكم في "المستدرك" (6418)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (99)، عن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وروى الترمذي (664)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في فضل الصدقة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- بلفظ: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء" وقال: حسن غريب. وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري، وأبي أمامة -رضي الله عنهما-. وأسانيدها ضعاف، انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 114). (¬3) في "ت": "الصدقة".

{وَيُكَفِّرُ} يخففْ. {عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} يعني: الصغائرَ من الذنوب. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، وأبو بكرٍ: بالنون، ورفعِ الراء؛ أي: ونحنُ نكفرُ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ: بالياءِ والرفع؛ أي: ويكفرُ الله، ونافعٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو جعفرٍ: بالنون وجزم الراءِ نسقًا على الفاء التي في قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}؛ لأن موضعها جزمٌ بالجزاء (¬1). {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ترغيبٌ في الإسرار. قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: كانوا يتصدَّقونَ على فقراءِ أهلِ الذمَّةِ، فلما كثرَ فقراءُ المسلمينَ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتصدقوا إِلَّا عَلَى أَهْلِ دينكُم" فنزلَ قولُه تعالى (¬2): ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 291)، و "الحجة" لأبي زرعة (ص: 147 - 148)، و "السبعة" لابن مجاهد (ص: 191)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 102)، و "الكشف" لمكي (1/ 316 - 317)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 170)، و "تفسير البغوي" (1/ 294)، و"تفسير القرطبي" (3/ 335 - 336)، و"التيسير" للداني (ص: 84)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 236)، و"تفسير الرازي" (2/ 352)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 325)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 165)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 212 - 213). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 295)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (1/ 631)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 87).

[272]

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}. [272] {لَيْسَ عَلَيْكَ} أي: لا يلزمُك. {هُدَاهُمْ} هُدى التوفيق، وعليك هُدى البيان، فلا تمنعْهُمُ الصدقةَ لِيُسْلِموا. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فأعطَوْهم بعدَ نزول الآية. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} أي: مالٍ. {فَلِأَنْفُسِكُمْ} ثوابُه لا لغيركم. {وَمَا تُنْفِقُونَ} (ما) بمعنى النهي؛ أي: لا تنفقوا. {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} في أهل الذمة، (ما) هذه شرط كالأول، ولذلك حذف النون منها. {يُوَفَّ} أي: يؤدَّ. {إِلَيْكُمْ} ثوابُه. {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} تُنقَصون من ثواب أعمالكم شيئًا، هذا في صدقة التطوَّع توضَع في المسلمين وأهلِ الذمَّة بالاتفاقِ، أما المفروضةُ فلا توضَعُ إلا في المسلمينَ في الأصنافِ الثمانيةِ، وجَوَّزَ أبو حنيفةَ وحدَه وضعَ صدقةِ الفطرِ في أهل الذمَّةِ.

[273]

{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}. [273] {لِلْفُقَرَاءِ} أي: صدقاتُكم للفقراءِ. {الَّذِينَ أُحْصِرُوا} أي: حَبسوا نفوسَهم عن التصرُّف للتعبُّدِ. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهم أهل الصُّفَّةِ كانوا زهاءَ أربعِ مئةٍ يسكنونَ المسجدَ، يَرْضَخون النوى نهارًا؛ أي: يكسرونَه ويأخذونَ عليه الأجرةَ، ويصرفونَها في النفقة، ويقرؤون القرآنَ ليلًا، يخرجون في كلِّ سَرِيَّةٍ يبعثُها النبي - صلى الله عليه وسلم -. {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا} سيرًا. {فِي الْأَرْضِ} لكثرةِ أعدائِهم من كثرةِ ما جاهدوا. {يَحْسَبُهُمُ} قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ: بفتح السين، والباقون: بالكسر (¬1). {الْجَاهِلُ} بحالهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 148)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 191)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 103)، و"الكشف" لمكي (1/ 317 - 318)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 170)، و "تفسير البغوي" (1/ 296)، و"التيسير" للداني (ص: 84)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 236)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 165)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 214).

[274]

{أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} عن السؤالِ وقناعتِهم، والعِفَّةُ: هي حصولُ حالةٍ للنفس تمتنعُ بها عن غلبةِ الشهوةِ. {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} بعلامتهم التواضُعِ. {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي: إلحاحًا. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} وعليه مُجازٍ. ... {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}. [274] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} نزلَتْ في عليٍّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، كانت عندَه أربعةُ دراهمَ لا يملكُ غيرَها، فتصدَّقَ بدرهم ليلًا، وبدرهمٍ نهارًا، وبدرهمٍ سرًّا، وبدرهمٍ علانيةً (¬1). {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} تلخيصه: من أنفقَ للهِ يُثَبْ مع الأمنِ والفرحِ. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 47)، و "تفسير البغوي" (1/ 298)، و"العجاب" لابن حجر (1/ 634).

[275]

وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}. [275] {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} أي: يعامِلُون به، وخُصَّ بالأكل؛ لأنه معظمُ المقصود، والربا لغةً: الزيادةُ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الرِّبَا) بالإمالةِ حيثُ وقعَ (¬1). {لَا يَقُومُونَ} من قبورِهم. {إِلَّا كَمَا يَقُومُ} أي: إلا قيامًا مثلَ قيامِ. {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ} أي: يضربُهُ ويصرعُهُ. {الشَّيْطَانُ} والخبطُ: الضربُ على غيرِ استواء. {مِنَ الْمَسِّ} أي: الجنون. ومعناه: أن آكلَ الربا يُبْعَثُ يومَ القيامةِ وهو كمثلِ المصروعِ. {ذَلِكَ} أي: العذابُ النازلُ بهم. {بِأَنَّهُمْ قَالُوا} أي: بسببِ قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} لأنه كانَ إذا حَلَّ على رجلٍ مالٌ، يقولُ لغريمه: زِدْني في الأَجَل، وأَزيدُك في الربحِ، فيفعلانِ ذلكَ، ويقولان: سواءٌ علينا الزيادةُ في أولِ البيعِ وعندَ المحلِّ لأجلِ التأخير، فكذَّبهم الله تعالى بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} هذا تصريحٌ أن القياسَ يبطلُه النصُّ؛ لأنه ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 170)، و"تفسير الرازي" (1/ 357)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 215).

جعلَ الدليلَ على بطلانِ قياسِهم تحليلَ الله وتحريمَه. {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} أي: بَلَغَهُ موعظةُ تذكيرٍ وتخويفٍ. {مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} عن أكلِ الربا. {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: مضى من ذنبه قبلَ النهي مَعْفُوٌّ عنه. {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فيما يأمره وينهاه، وليس له شيء من أمر نفِسه. {وَمَنْ عَادَ} إلى الربا بعدَ النهي. {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} عن جابر قالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ" (¬1)، وقد اتفقَ الأئمةُ على تحريم الربا، وجوازِ البيع؛ لنصِّ الكتابِ والسنةِ فيهما، والبيعُ مصدرُ بعتُ، يقال: باعَ يبيعُ بمعنى: ملكَ، واشتقاقُهُ من الباع؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاقِدَين يمدُّ باعَه للأخذِ والعطاء، ومعناهُ لغةً: إعطاءُ شيءٍ، وأخذُ شيء، وشَرْعًا: مبادَلَةُ المالِ بالمالِ لغرضِ التملُّكِ، ويصحُّ بالإيجابِ والقَبُول بالاتفاق، فيقولُ البائعُ: بعتُكَ، أو مَلَّكْتُكَ، ويقولُ المشتري: ابْتَعْتُ، أو قَبِلْتُ ونحوهما، واختلفوا في المعاطاة مثلَ أن يقول: أَعْطِني بهذا الدينار خُبْزًا (¬2)، فيعطيه ما يُرضيه، أو يقولُ البائعُ: خذْ هذا بدرهم، فيأخذهُ، فقال الشافعيُّ: لا يصحُّ، وقال الثلاثة: يصحُّ؛ لأنه يدلُّ على الرضا المقصودِ من الإيجابِ والقبول. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1598)، كتاب: المساقاة، باب: لعن آكل الربا ومؤكله، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. (¬2) "خبزًا" ساقطة من "ش".

[276]

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}. [276] {يَمْحَقُ} أي: ينقصُ. {اللَّهُ الرِّبَا} ويُذْهِبُ بَرَكَتَه. {وَيُرْبِي} أي: يزيدُ. {الصَّدَقَاتِ} ويُبارِكُ فيها. في الحديثِ: "ما نَقَصَتْ زَكَاةٌ مِنْ مَالٍ قَطُّ" (¬1). {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} بتحريمِ الربا. {أَثِيمٍ} مُصِرٍّ على الإثمِ (¬2)، فاجرٍ بأكلِه. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}. [277] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من آتٍ. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على فائِتٍ. ونزلَ في المنعِ من المطالبةِ ببقايا الربا قولُه تعالى: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2588)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: استحباب العفو والتواضع، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ: "ما نقصت صدقة من مال". (¬2) في "ن": "الربا".

[278]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}. [278] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي كاملي الإيمان. ... {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)}. [279] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} تَذَروا ما بقيَ من الربا. {فَأْذَنُوا}. قرأ حمزةُ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (فَآذِنُوا) بالمدِّ على وزنِ آمِنوا؛ أي: فأَعْلِموا غيرَكم أنكم حربُ اللهِ ورسوله، وقرأ الباقون: مقصورًا بفتح الذال؛ أي: فاعلموا أنتم وأَيقنوا (¬1). {بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} عن ابن عباس: "يُقَالُ لِآكِلِ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: خُذْ سِلاَحَكَ لِلْحَرْبِ" (¬2)، وَحَرْبُ اللهِ النَّارُ، وَحَرْبُ رَسُولهِ السَّيْفُ. {وَإِنْ تُبْتُمْ} عن الربا. {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} التي أَرْبَيْتُمْ بها. {لَا تَظْلِمُونَ} بطلبِ الزيادة. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 148)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 192)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 103)، و"الكشف" لمكي (1/ 318)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (1/ 303)، و"التيسير" للداني (ص: 84)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 236)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 165)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 217). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (3/ 102)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 550).

[280]

{وَلَا تُظْلَمُونَ} بأن تنقصوا عن رأسِ المالِ، وهذا خبرٌ بمعنى النهي. فلما نزلت هذه الآية، قال المُرْبونَ: لا طاقةَ لنا بحربِ اللهِ ورسوله، ورَضُوا برأسِ المال، فشكا بنو المغيرةِ العسرةَ، وقالوا: أَخِّرونا إلى أن تدركَ الغلالُ، فأَبَوا، فأنزل الله (¬1): {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}. [280] {وَإِنْ كَانَ} أي: الذي عليه الدينُ. {ذُو عُسْرَةٍ} يعني: معسرًا، والعسرُ: ضدُّ اليُسر. قرأ أبو جعفرٍ: بضم السين، والباقون؛ بالجزم (¬2). {فَنَظِرَةٌ} أي: إمهال. {إِلَى مَيْسَرَةٍ} إلى وقتِ يُسْرٍ. قرأ نافعٌ: بضم السين، والباقون: بالفتح (¬3). {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} بتركِ رؤوسِ الأموالِ، أو بعضِها للمعسرِ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 49). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 304)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 236)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 165)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 218). (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 295)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 103)، و"الكشف" لمكي (1/ 319)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (1/ 304)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 236)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 166)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 219).

[281]

{خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه خير لكم، فتعملون به، فجعلَ من علمَ ولم يعملْ كمن لم يعلمْ. قرأ عاصمٌ: (تَصدَّقُوا) بتخفيفِ الصاد، والباقون: بتشديدها (¬1)، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَنْجَاهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬2)، فإذا أقامَ المفلسُ البيِّنَةَ بإعسارِه، فقال أبو حنيفة: لا يحولُ القاضي بينَهُ وبينَ غُرمائه بعدَ خروجِه من الحبس، ويلازمونه، ولا يمنعونه من التصرُّفِ والسفر، ويأخذونَ فضلَ كسبِه بينهم بالحِصَص، وقال صاحباه: إذا فَلَّسَهُ القاضي، حالَ بينهَ وبينَ الغرماء، وهذا بناء على صحةِ القضاءِ بالإِفلاس (¬3)، فيصحُّ عندَهما؛ خلافًا لأبي حنيفة؛ لأن الإفلاسَ عندَه لا يتحقَّقُ، وقال الأئمةُ الثلاثةُ كقولِ الصاحبين، ولا تُقبل بينةُ الإعسار عندَ أبي حنيفة إلا بعدَ الحبس، وعند الثلاثة: تُقبل قبلَه. {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}. [281] {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 193)، و"الكشف" لمكي (1/ 319)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (1/ 304)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 236)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 166)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 220). (¬2) رواه مسلم (1563)، كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر، عن أبي قتادة -رضي الله عنه-. (¬3) في "ش": "بالفلاس".

(تَرْجِعُونَ) بفتح التاء؛ أي: تَصيرون إلى الله، وقرأ الباقونَ بالضم وفتحِ الجيم؛ أي: تُرَدُّون إلى الله (¬1). {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابٍ، وتضعيفِ عقاب. قال ابنُ عباس: "هَذِهِ آخرُ آيةٍ نزلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -" (¬2)، فَقَالَ جِبْرِيلُ: ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ مِئَتَيْنِ وَثَمانِينَ آيةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (¬3)، وعاشَ بعدَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا وعشرين يومًا، وماتَ يوم الإثنين لاثنتي عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ من ربيعٍ الأولِ حينَ زاغتِ الشمسُ سنةَ إحدى عَشْرَةَ من الهجرة، وله ثلاثٌ وستون سنةً. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 149)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 193)، و"الكشف" لمكي (1/ 319 - 320)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (1/ 306)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 131)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 220). (¬2) رواه البخاري (4270)، كتاب: التفسير، باب: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 306).

[282]

إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}. [282] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} تَعامَلْتُم. {بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} مدةٍ معلومةٍ، قال ابنُ عَبَّاسٍ: "لَمَّا حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا، أَبَاحَ السَّلَمَ، وقالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ المضمونَ إلى أجلٍ مسمًّى قد أحلَّه اللهُ في كتابِهِ وأذِنَ فيه" (¬1)، واختلفَ الأئمةُ في السلم على حكم الحلول، فقال الشافعي: يصحُّ، وقالَ الثلاثةُ: لا يصحُّ إلا مؤجَّلًا، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ يكونُ الأجلُ له وقعٌ في الثمن؛ كالشهرِ ونحوِهِ، وعندَ مالكٍ إلى عدَّةٍ تختلفُ فيها الأسواقُ عُرْفًا؛ كخمسةَ عَشَرَ يومًا. {فَاكْتُبُوهُ} دَيْنًا كانَ أو قَرْضًا، وهذا أمرُ استِحْباب عندَ الأكثر. {وَلْيَكْتُبْ} كاتبُ الدَّينِ. {بَيْنَكُمْ} أي: بينَ الخصمَيْن. {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أي: بالحقِّ. ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 138)، وعبد الرزاق في "المصنف" (14064)، والحاكم في "المستدرك" (3130)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 18).

{وَلَا يَأْبَ} لا يمتنعْ. {كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} هذا نهيٌ عن الامتناع من الكتابة. {فَلْيَكْتُبْ} تلكَ الكتابةَ. {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} بأن يُقِرَّ بلسانِه ليعلمَ ما عليه. {وَلْيَتَّقِ} المُمْلي. {اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ} أي: لا ينقِصْ. {مِنْهُ} أي: من الحق. {شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} أي: جاهلًا بالإملاء. {أَوْ ضَعِيفًا} عن الإملاء لصغرٍ أو كبرٍ. {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} لخرسٍ أو عُجْمة ونحوِ ذلك، المعنى: إذا عجزَ مَنْ عليه الحقُّ عن الإملاءِ. قرأ أبو جعفرٍ: (أَنْ يُمِلَّ هْوَ) بسكون الهاء (¬1). {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي: قَيِّمُهُ أَو تَرْجُمانُه. {بِالْعَدْلِ} بالصدقِ، والحقّ، وقيل: وليُّه: صاحبُ الحقِّ؛ لأنه أعلمُ (¬2) بحقِّهِ. {وَاسْتَشْهِدُوا} اطلبوا. ¬

_ (¬1) انظر: "إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 69)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 345)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 166)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 222). (¬2) "أعلم" ساقطة من "ش".

{شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الأحرارِ البالغينَ العقلاءِ المسلمينَ يَشْهدان على الدَّينِ، وجَوَّزَ أحمدُ شهادةَ العبدِ حَتَّى في حَدٍّ وقَوَدٍ، وشهادةَ الذمِّيِّ على المسلمِ، والذميِّ في الوصيةِ في السفرِ، وسيأتي في سورة المائدة -إن شاء الله تعالى-, وجوز أبو حنيفةَ شهادةَ الكفارِ بعضِهم على بعضٍ على اختلافِ مِلَلِهم، وخالفهما مالكٌ والشافعيُّ. {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} أي: الشاهدان. {رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ} أي: فليشهدْ رجلٌ. {وَامْرَأَتَانِ} وشهادةُ النساءِ مع الرجالِ في الأموالِ جائزةٌ بالاتفاقِ، وعند الثلاثةِ يثبتُ المال بالشاهدِ واليمين؛ خلافًا لأبي حنيفةَ، وعند مالكٍ يثبتُ المالُ بشهادةِ امرأتينِ ويمينِ المدَّعي؛ خلافًا للثلاثة، ومئةُ امرأةٍ عندَه كامرأتين، وتقبلُ شهادة أحدِ الزوجين للآخر عندَ الشافعي؛ خلافًا للثلاثة، وأما في غير الأموال، فتجوز شهادةُ النساءِ مع الرجال في غيرِ العقوبات؛ كالنكاح ونحوه عند أبي حنيفة فقط، وما لا يطَّلعُ عليه الرجالُ غالبًا؛ كعيوبِ النساء تحتَ الثياب، والرَّضاع، والاستهلالِ، والبكارةِ، والثيوبة، ونحوِها يثبتُ عند الشافعيِّ بشهادةِ رجلٍ وامرأتين، وشهادةِ أربعِ نسوةٍ، وعند مالكٍ بشهادةِ امرأتين، ويثبت ما عدا الرضاعَ عندَ أبي حنيفة بشهادةِ امرأةٍ واحدةٍ، وأما الرضاعُ، فلا يُقبل فيه شهادةُ النساءِ منفرداتٍ، ويثبتُ الجميعُ حتى الرضاعُ عندَ أحمدَ بشهادةِ امرأةٍ واحدةٍ، ولو كانت هي المرضعةَ، واتفقوا على عدم جواز شهادةِ النساءِ في العقوباتِ. {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} أي: من كان مَرْضِيًّا في ديانته وأمانِته. {أَنْ تَضِلَّ} أي: لأن تَضِلَّ، أي: تنسى.

{إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} المعنى: إذا نسيت إحداهما، ذَكَّرَتْها الأخرى. قرأ عاصمٌ، وابن عامرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وروحٌ عن يعقوبَ (الشُّهَدَاءِ أَنْ) بتحقيقِ الهمزتين، وقرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: بتحقيقِ الأولى وتسهيلِ الثانية بأن تبدلَ ياءً محضةً، وقرأ حمزةُ: (إِنْ) بكسرِ الألف، (فَتُذَكِّرُ) برفع الراءِ مشددًا، ويعقوبُ: (فَتَذْكُرَ) بالتخفيف وفتح الراء، وقرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَتُذَكِّرَ) بفتح الذال والتشديد وفتح الراء، مع اتفاقهم على فتح الألف في: (أَنْ تَضِلَّ) سوى حمزةَ كما تقدَّم (¬1). {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} لتحمُّلِ الشهادة. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ورَوْحٌ عن يعقوبَ: (الشُّهَدَاءُ إِذَا) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بالتسهيل، وهو إبدال الثانية واوًا خالصة مكسورة (¬2)، فتحمُّلُ الشهادةِ فرضُ كفايةٍ، وأداؤها إذا تعينت فرضُ عينٍ، ولا يحلُّ أخذُ أجرةٍ عليها بالاتفاق. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 150)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 194)، و"الكشف" لمكي (1/ 320 - 321)، و"الغيث" للصفاقسي (ص:170 - 171)، و"تفسير البغوي" (1/ 309 - 310)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 236)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 166)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 222 - 224). وضبط في "معجم القراءات" قراءة يعقوب: فَتُذْكِرَ، بضم التاء. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 171)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 166)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 224).

فعند أبي حنيفة إذا طلبَه المدَّعي، وكان قريبًا من القاضي، لزمه المشيُ إليه، وإن كان بعيدًا أكثرَ من نصفِ يوم لا يأثمُ بتخلُّفه؛ لأنه يلحقُه الضررُ، وإن كان الشاهدُ يقدر على المشي، فأركبه المدَّعي من عنده، لا تُقبل شهادتُه؛ وإن كان لا يقدر، فأركبه، لا بأس به. وعند مالكٍ يلزمُه الأداء من نحوِ البريدين، وإن كانا اثنين، ولا تحلُّ إحالتهُ على اليمين، وإن لم يجتزِ الحاكمُ باثنين، فعلى الثالث، ولا يلزمُ مِنْ أبعدَ، ولا يجوز أن ينتفع منه فيما يلزمه إلا في ركوبِ إن لم يكن له دابةٌ، وعسرَ مشيُه، ويجوزُ فيما لا يلزمُه (¬1) أن يقامَ بما يتكلفه من دابةٍ ونفقةٍ، عجزَ أو لم يعجز. وعند الشافعيِّ إن كان القاضي معه في البلد، لزمه المشيُ إليه، وإن كان يأتيه من مسافة العَدْوى فما فوقها، فله طلبُ نفقةِ المركوب. قال البغويُّ من أصحابه: وكذا نفقةُ الطريق. وعند أحمدَ إذا دُعي إليها وقدرَ بلا ضررٍ يلحقُه، لزمَهُ الأداءُ، فعليه أن يقومَ بها على القريب والبعيد، و (¬2) لا يسعهُ التخلفُ عن إقامتها، ويحرمُ أخذُ أُجرة وجُعْلٍ عليها مطلَقًا، ولكن إن عجزَ عن المشي، وتأذَّى به، فله أَخذُ أجرةِ مركوبٍ (¬3). وتشترطُ عدالةُ الشاهدِ (¬4) عندَ الثلاثة. ¬

_ (¬1) في "ش": "ويجوز فيما يلزمه". (¬2) الواو زيادة من "ت". (¬3) في "ت": "مركب". (¬4) في "ن": "العدالة للشاهدين".

وقال أبو حنيفة: يقتصرُ في المسلم على ظاهرِ عدالتِه إلا في الحدودِ والقصاص، فإن طعنَ الخصمُ فيه، سأل عنه. وقال صاحباه: يُسْأَلُ عنهم في جميع الحقوق سِرًّا وعلانيةً، وعليه الفتوى. {وَلَا تَسْأَمُوا} أي: تملُّوا. {أَنْ تَكْتُبُوهُ} أي: الحقَّ. {صَغِيرًا} كانَ الحقُّ. {أَوْ كَبِيرًا} قليلَّا كَانَ أو كثيرًا. {إِلَى أَجَلِهِ} هو المعلومِ. {ذَلِكُمْ} الكتابُ. {أَقْسَطُ} أعدلُ. {عِنْدَ اللَّهِ} لأنه أمرَ بهِ. {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} أي: أَعْوَنُ؛ لأن الكتابةَ تُذَكِّرُ الشهودَ. {وَأَدْنَى} أقربُ. {أَلَّا تَرْتَابُوا} تشُكُّوا في الشهادةِ. {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} قرأ عاصمٌ: بالنصب فيهما على خبر كان؛ أي: إلا أن تكونَ التجارةُ تجارةً. وقرأ الباقون: بالرفع، وله وجهان: أحدهما: أن يُجْعَلَ الكونُ بمعنى الوقوع، معناه: ألَّا تقعَ تجارةٌ، والثاني: أن يُجعلَ الاسمُ في التجارة،

والخبرُ في الفعل (¬1)، وهو قوله: {حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا} المعنى: إلا أن تكونَ التجارةُ حاضرةً يدًا بيدٍ تُديرونها. {بَيْنَكُمْ} ليسَ فيها أَجَلٌ. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} يعني: التجارةَ. {وَأَشْهِدُوا} على التبايُع. {إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فإنَّه أدفعُ للاختلاف، وهذا أمرُ ندبٍ عندَ الأكثر. {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} نهيٌ عن مُضارَّةِ الكاتبِ (¬2) والشَّهيدِ، المعنى: إذا كانا مشغولينِ ويوجَدُ غيرُهما، فلا يُضارَّانِ بإبطالِ شُغْلِهما. قرأ أبو جعفرٍ (يُضَار) بإسكان الراء، والباقون: بالنصبِ والتشديد (¬3). {وَإِنْ تَفْعَلُوا} الضِّرارَ. {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ} أي: معصيةٌ. {بِكُمْ} وخروجٌ عن الأمرِ. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 300)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 152)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 194)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 103)، و"الكشف" لمكي (1/ 321 - 322)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 171)، و"تفسير البغوي" (1/ 310)، و"التيسير" للداني (ص:85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 166)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 225). (¬2) في "ت": "الكتاب". (¬3) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 354)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص ت 158)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 225).

[283]

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} المعنى: اجتنبوا معصيةَ الله يُعَرِّفْكُمْ طُرَقَ فلاحِكُم. تلخيصُه: من راقبَ اللهَ، أرشدَه. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} كرَّرَ لفظَ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها؛ فإن الأولى حَثٌّ على التقوى، والثانيةَ وَعْدٌ بإنعِامِه، والثالثةَ تعظيمٌ لشأنه. {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}. [283] {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} مسافِرين. {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ} أي: فالتوثُّقُ رُهُنٌ. {مَقْبُوضَةٌ} مسلَّمَةٌ إلى المرتهن، ولا بدَّ من القبضِ، فلا يتمُّ الرهْنُ بدونه، بالاتفاق، واستدامةُ القبضِ شرطٌ للُّزُومِ عند مالكٍ وأحمدَ، فمتى خرجَ عن يدِ المرتهنِ باختياره، زالَ لزومه، وبطلَ الرهنُ، وعندَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ إذا أعادَهُ المرتهنُ مع بقاءِ الرهنِ، فلزومُه باقٍ، والرهنُ صحيحٌ، ونقلَ الزمخشري في "كَشَّافه" عن مالكٍ: أنه يصحُّ عندَه الارتهانُ بالإيجاب والقَبول بدونِ القبضِ (¬1)، وهو وهم. قرأ ابنُ كَثيرٍ، وأبو عمرٍو: (فَرُهُنٌ) بضم الراء والهاء من غير ألف، والباقون: (فَرِهانٌ) بكسرِ الراءِ وفتحِ الهاءِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 194)، و"تفسير البغوي" (1/ 311)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 167)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 227).

وألفٍ بعدَها، وهو جمعُ رَهْنٍ؛ كبَغْلٍ وبِغالٍ (¬1). {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أي: وَثِقَ إليه لأمانتِهِ. {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} أي: فليقضِ المديونُ ما عليهِ من الدَّينِ، وسُمِّيَ أمانةً؛ لتعلُّقِه بالذمَّة؛ كتعلُّقِ الأمانِة. {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} في أداءِ الحقِّ، ثم التفتَ مخاطبًا للشهود فقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} إذا دُعيتم إلى إقامتِها، ثم تهدَّدَهم فقال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ} أي: يأثمُ. {قَلْبُهُ} لأنَّ الكتمانَ يُقَرُّ فيهِ، ولأنَّ القلبَ هو رئيسُ الأعضاءِ، والمضغةُ التي إن صلحَتْ صلحَ الجسدُ كلُّه، وإن فسدَتْ، فسدَ الجسدُ كلُّه، فكأنه قيل: قد تمكَّنَ الإثمُ في أصلِ نفسه، ومَلَكَ أشرفَ مكان فيه، والقلبُ هو محلُّ تحمُّلِ الشهادةِ والعقائدِ والنياتِ. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} قال ابن عباس: "أَكْبَرُ الكبائرِ الإشْراكُ باللهِ، وشَهادةُ الزورِ، وكَتْمُ الشَّهادَةِ" (¬2) والشهادةُ حجَّةٌ شرعيةٌ تُظْهِرُ الحقَّ ولا تُوجِبُهُ، فهيَ الإخبارُ بما عَلِمَهُ بلفظٍ خاصٍّ. {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 305). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (3/ 141).

[284]

[284] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} مُلْكًا وخَلْقًا. {وَإِنْ تُبْدُوا} تُعْلِنوا. {مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} تسُرُّوهُ. {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} والصحيحُ أنَّ هذهِ الآيةَ عامةٌ، تلخيصُه: أن الله تعالى يحاسب بِكُلٍّ عَبيدَهُ. {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} الذنبَ العظيمَ. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} على الذنبِ الحقيرِ، وكلُّ ما يفعلُه عدلٌ - سبحانه -. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (فَيَغْفِرُ) و (يُعَذِّبُ) برفع الراء والباء على الابتداء؛ أي: فهو يغفرُ ويعذبُ، والباقون: بالجزم عطفًا على جواب الشرط (¬1)، وأدغمَ الراءَ في اللام أبو عمرٍو، وأظهر الباءَ عندَ الميم بعدَ سكونها ورشٌ، وابنُ كثيرٍ، بخلافٍ عن الثاني، وأدغَمَها الباقون من أصحابِ الإسكان في الميم (¬2). {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدِرُ على الإحياءِ والمحاسبة. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 304)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 152)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 195)، و"الكشف" لمكي (1/ 323)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 171)، و "تفسير البغوي" (1/ 315)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 167)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 229). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 174)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 361)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 167)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 230).

[285]

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}. [285] {آمَنَ} صدق. {الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} فهو جازمٌ في أمرِه غيرُ شاكٍّ فيه. {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ} أي: كلُّ واحدٍ منهم. {آمَنَ بِاللَّهِ} ولذلكَ وَحَّدَ الفعلَ. {وَمَلَائِكَتِهِ} لتحقيقِ كمالِ العظمة في خلقِهم وانقيادِهم ودخولهم في الملك، وتقديمُ الملائكةِ لا إشعارَ (¬1) فيه بأفضليَّتِهم على الرُّسُلِ بواسطةِ تأخيرِهم ذِكْرًا؛ لأن الغرضَ المسوقَ له الكلامُ مدحُ من صَدَّقَ بالغيب، فما كانَ أدخلَ في الغيبِ كانَ تقديمُه أهمَّ، والمدحُ عليه أَتَمَّ، رعايةً للمقامِ باعتبارِ ما سِيقَ له المقالُ، فتقديمُ ما اشتدَّ فيه الغيبُ حَقُّ السياق، وصرَّحَ بالرسلِ دونَ الأنبياء، مع أن الإيمانَ بالأنبياءِ مستلزمٌ الإيمانَ بالرسل، ولا عكسَ، لأنَّ بالتبليغِ قامتِ الحجَّةُ، واستقامَتِ المحَجَّةُ، وهم المخبرونَ عن المستترِ علمُه بأمر الله لهم، فالتنصيصُ عليهم أنسبُ بالحال. {وَكُتُبِهِ} لما اشتملَتْ عليه من إرشادِ العبيد إلى معبودهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَكِتَابِهِ) بالألف على التوحيد، يعني: القرآن، والباقون: بغير ألف على الجمع؛ لقوله: {وَمَلَائِكَتِهِ} (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت": "لا شعار". (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 152)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 196)، =

{وَرُسُلِهِ} أي: بما جاءتْ به عن الله، فبانَ أن المصيرَ إليه سبحانَهُ في سائرِ الأشياءِ، وجميعِ الأحوالِ، فالرسولُ والمؤمنونَ يقولون: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فنؤمنُ ببعضٍ ونكفرُ ببعضٍ؛ كاليهودِ والنصارى. قرأ يعقوبُ: (لا يُفَرِّقُ) بالياء، فيكونُ خبرًا عن الرسول، ومعناه: لا يفرقُ الكُلُّ، وقرأ الباقون: بالنون على المعنى الأول (¬1). {وَقَالُوا سَمِعْنَا} أَجَبْنا. {وَأَطَعْنَا} دَخَلْنا في الطاعة، وهذا تمامُ المدحِ لهم؛ حيث ضمُّوا إلى الاعتقاد بالجَنان النُّطْقَ باللسان، روُي أنه لما نزلَتْ هذه الآيةُ، قالَ جِبريلُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهْ، فَقَالَ بِتَلْقِينِ جِبْرِيلَ إِيَّاهُ: غُفْرَانَكَ" (¬2)؛ أي: اغفر. ¬

_ = و"الحجة" لابن خالويه (ص: 105)، و"الكشف" لمكي (1/ 171)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 171)، و"تفسير البغوي" (1/ 315)، و"التيسير" للداني (ص: 85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 167)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 231). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 315)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 167)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 232). (¬2) روى ابن جرير الطبري في "تفسيره" (3/ 153)، عن حكيم بن جابر -رضي الله عنه- قال: لما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آمن الرسول ... " قال جبريل: "إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل: "لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها". انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان عند تفسير الآية (131) من سورة البقرة، و"روح البيان" للآلوسي عند تفسير الآية (284) من السورة، وذكر الآلوسي قول الزمخشري بأنه طعن -على عادته- في القراءات =

[286]

{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} المرجعُ بعدَ الموتِ، وهي عبارةٌ عامةٌ شاملةٌ لمآلِ العبدِ في كلِّ أمرٍ وكلِّ نازلةٍ. {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}. [286] {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: طاقَتَها، والوُسْعُ: خِلافُ الضِّيقِ، وهو ما يسعُ الشيءَ ولا يضيقُ عليه، قال ابنُ عباسٍ: "هُمُ المؤمنونَ خاصَّةً، وَسَّعَ عليهم أَمْرَ دينهم، ولم يُكَلِّفْهم إلا ما يستطيعون" (¬1)، والتكليفُ: إلزامُ الكُلْفَةِ على المخاطَب، فلا يكلَّفُ معدومٌ حالَ عدمهِ بالاتفاق، ونَكَّرَ نَفْسًا؛ لأنه أوفى بالشيوع، وأولى بالشُّمول. قرأ أبو عمرٍو: (المَصِير لَّا يُكَلِّفُ) بإدغام الراء في اللام. {لَهَا} أي: للنفسِ. {مَا كَسَبَتْ} من أعمالِ البرِّ. {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من اقترافِ ما يُوقِعُها في الحرجِ، وكان بنو ¬

_ = السبع إذا لم تكن على قواعد العربية، ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء، لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام. ثم قال الألوسي: وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة، والنقل بالمتواتر إثبات علمي، وقول النحاة نفي ظني. وقد أجاب أبو حيان بأن قول الزمخشري الذي ذكره ليس مجمعًا عليه عند النحاة. والله أعلم. (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 316).

إسرائيل إذا نَسُوا شيئًا مما أُمروا به، أو أخطؤوا، عُجِّلَتْ لهم العقوبةُ، فأُمر المسلمون بالدُّعاءِ برفعِ ذلكَ عنهم بقولهم: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} تعاقِبْنا. {إِنْ نَسِينَا} غَفَلْنا. {أَوْ أَخْطَأْنَا} جَهِلْنا. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} ثِقلًا، وأصلُ الإِصْرِ: العَقْدُ والإحكامُ. {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يعني: اليهودَ، فلم يقوموا به، فعذبتَهُمْ. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا} تُكَلِّفْنا. {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} من الأعمالِ الشاقَّة، وهو كلُّ ما نضعُفُ عن حملِهِ. {وَاعْفُ عَنَّا} بمحوِ ذنوبِنا، فلا يبقى لها أثرٌ. {وَاغْفِرْ لَنَا} تفضَحْنا. قرأ أبو عمرٍو: (وَاغْفِر لَّنَا) بإدغام الراء في اللام (¬1). {وَارْحَمْنَا} بإيصالِ فضلِك، واتِّصالِ كرمك، وعن ابنِ عباسٍ: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دَعا بهذِهِ الدَّعَواتِ قِيلَ لَهُ عِنْدَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا: قَدْ فَعَلْتُ" (¬2). {أَنْتَ مَوْلَانَا} سيدُنا وولِيُّنا. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 174)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 168)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 233). (¬2) رواه مسلم (126)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق.

{فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فما النصرُ إلَّا من عندِكَ؛ لأنك سيدٌ، والسيدُ ينصرُ عبيدَه، وصرَّحَ بوصفهم بالكفر؛ لأنه الحاملُ على المبايَنَةِ، والداعي إلى المقاتَلَة، ولا يخفى ما في طلبِ ذلكَ من إرشادِ المؤمنِ إلى تركِ الكافرِ وموادَّتِه والإبعادِ عن مصادقِتِه، وفي الآية إشعارٌ بأن المعاداةَ في الدين مطلوبةٌ، وأن الهجرانَ في الله ليسَ من التقاطُع المذمومِ، بل وردَ في الحديث: عَدُّ البُغْضِ في اللهِ من الإيمانِ. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِألفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ، فَلا تُقْرَأَانِ في دارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا شَيْطَانٌ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ" (¬2). وكانَ مُعاذٌ إذا ختمَ البقرةَ يقولُ: آمين (¬3)، قالَ ابنُ عطيةَ: هذا يُظَنُّ به أنه رواهُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ كانَ ذلكَ، فكمالٌ، وإن كانَ بقياسٍ على سورةِ الحمدِ من حيثُ هناكَ دعاءً، وهنا دعاء، فَحَسَنٌ، والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2882)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في آخر سورة البقرة، وقال: حسن غريب، والنسائي في "السنن الكبرى" (10803)، وغيرهما عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (4722)، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل سورة البقرة، ومسلم (807)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه-. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7976). (¬4) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (1/ 395).

سورة آل عمران

سُوْرَةُ آلِ عِمرَانَ مدنيةٌ آيها مئتا آيةٍ، وحروفُها أربعةَ عشرَ ألفًا، وخمسُ مئةٍ، وخمسةٌ وعشرون حرفًا، وكَلِمُها ثلاثةُ آلافٍ وأربعُ مئةٍ وثمانون كلمةً، وحكى النقاشُ أنَّ اسمَ هذهِ السورةِ في التوراة: طَيِّبَةٌ (¬1). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قدمَ وفدُ نجرانَ (¬2) من النصارى على رسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وزعموا أن عيسى ابنُ الله، فكذَّبَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فخاصموا جميعًا في أمره، فقطعَ حُجَّتهم بالأدلَّةِ الواضحةِ، فأنزل الله صدرَ سورةِ آل عمران إلى بضعٍ وثمانين آيةً منها (¬3)، فقال -عز وجل-: {الم (1)}. [1] {الم} تقدَّم تفسيرُه، ومذهبُ أبي جعفرٍ في تقطيعِ الحروف أولَ سورةِ البقرةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 140). (¬2) جاء على هامش "ظ": "نجران" مدينة بالحجاز. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 320)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 170)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 4).

[2]

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}. [2] {اللَّهُ} ابتداء. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبرٌ. قرأ أبو جعفرٍ، وأبو بكرٍ، بخلافٍ عن الثاني: بسكون الميم، الله: بقطع الألف للابتداء على لغةِ من يقطعُ ألفَ الوصل (¬1)، وإذا قرئ (المالله) بالوصل على مذهب العامة، جاز لكلٍّ من القراء في الياء من (ميم) المدُّ والقصرُ، وفتح الميم وصلًا لالتقاء الساكِنينِ تخفيفًا (¬2). {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} نعتٌ له، وتقدَّم تفسيرُهما في آية الكرسي. ... {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}. [3] {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أي: القرآنَ. {بِالْحَقِّ} بالصدقِ. قرأ أبو عمرٍو: (الْكِتَاب بالْحَقِّ) بإدغام الباء، في الباء واخُتِلف عن رُويس. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما قبلَه من الكتب. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 320)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 170)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 4). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 200)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 105)، و "الكشاف" للزمخشري (1/ 173)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 170)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 4).

[4]

{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} الضياءَ والنورَ. قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ ذَكوانَ: (التَّوْرَاةَ) بالإمالة كيفَ أتتْ في جميع القرآن، بخلافٍ عن قالون (¬1). {وَالْإِنْجِيلَ} إِفْعيل من النَّجْل: الأصل، فهو أصلُ العلوم والحكم، وإنما قالَ في القرآن: (نَزَّلَ) لأنه نزلَ مفصَّلًا، والتنزيلُ للتكثير، وقال في التوراة والإنجيل: (أَنَزَلَ)؛ لأنهما أُنزلا جملة واحدة (¬2). ... {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}. [4] {مِنْ قَبْلُ} متعلق بـ "أنزلَ". {هُدًى لِلنَّاسِ} أي: هادٍ لمن تبعه، والمرادُ بالناسِ: موسى وعيسى وأتباعُهما. {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} القرآنَ المفرِّقَ بينَ الحقِّ والباطلِ، وكرَّرَه تفخيمًا له. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} من كتبِه المنزلةِ. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بسببِ كفرهم. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالبٌ ذَلَّ له كلُّ شيء. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 201)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 105)، و"الكشف" لمكي (1/ 183 - 184)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 173)، و"التيسير" للداني (ص: 86)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 170)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 5). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 320).

[5]

{ذُو انْتِقَامٍ} عقوبةٍ شديدةٍ. ... {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)}. [5] {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ} من الأشياءِ. {فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} عَبَّرَ عن إدراك جميعِ الأشياءِ بذكر الأرضِ والسمِاء؛ لأنهما محلٌّ لها. ... {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}. [6] {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} من الصُّورِ المختلفةِ من الذُّكورةِ والأُنوثة. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وهذا ردٌّ على وفدِ نجرانَ من النصارى حيثُ قالوا: عيسى ولدُ الله، أو اللهُ؛ لأنَّ من صُوِّرَ في الرحم يمتنعُ أن يكون إلهًا أو ولدًا للهِ؛ لكونه مُرَكَّبًا وحالًّا في مركَّبٍ، ولتعاقُبِ الفناءِ عليه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "يَدْخُلُ المَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ في الرَّحِم بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فيقولُ: يَا رَبِّ! أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتبَانِ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُكْتبَانِ، ويَكْتُبُ عَمَلَهُ وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ وَرِزْقَهُ، ثُمَّ يَطْوِي الصُّحُفَ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2644)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي، عن حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه-.

[7]

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}. [7] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} متقَناتٌ (¬1) مفصَّلاتٌ، من الإحكام، فلم يدخلْ فيها شيءٌ من الاشتباه، والمُحْكَمُ: ما ازدادَ وُضوحًا على المفَسَّرِ. {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصلُه الذي تُعْمَلُ عليه الأحكام، وقولُه: {هُنَّ أُمُّ اَلْكتَبِ} ولم يقلْ: أُمَّهات جمعًا؛ لأن الآياتِ في الحكمِ بها بمنزلةِ آيةٍ واحدةٍ. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} المتشابِهُ: ضدُّ المحكَمِ، وهو ما استأثر الله بعلمه؛ لأنه اشتبهَ مرادُ المتكلمِ على السامعِ، لاحتمالِ وجودهِ، وحكمُهُ التوقُّفُ فيه أبدًا، فإن قيل: كيف فرقَ ها هنا بين المحكمِ والمتشابهِ وقد جعلَ كلَّ القرآنِ محكَمًا في قوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وجعلَ كلَّه متشابهًا في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]؟ فالجواب عن الأول: إن المرادَ أنه كلَّه حقٌّ ليس فيه عيبٌ، وعن الثاني: أنه يشبهُ بعضُه بعضًا في الحسنِ والصدقِ، وجعلَ بعضَه هنا محكَمًا وبعضَه متشابهًا أراد بالمحكَمِ: الذي يُعْمَلُ به، ولا يدخلُه تغيير كالناسخِ والمتشابِهِ المنسوخِ. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ميلٌ عن الحق. ¬

_ (¬1) في "ن": "منقاة".

{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} المعنى: الزائغون يتعلقونَ من المتشابهِ بما يوافقُ هواهم ظاهرًا، وهم وَفْدُ نجرانَ، خاصموا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في عيسى، وقالوا: ألستَ تزعُم أنه كلمةُ اللهِ وروح منه؟ قال: "بلى" قالوا: حَسْبُنا، فأنزل الله هذه الآيةَ (¬1). {ابْتِغَاءَ} طلبَ. {الْفِتْنَةِ} الشِّرْكِ. {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي: تفسيرِه بما يشتهون. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} أي: المتشابهَ. {إِلَّا اللَّهُ} والخلقُ متعبَّدُونَ في المتشابِه بالإيمانِ به، وفي المحكَمِ بالإيمانِ به والعملِ، ويحرُمُ تفسيرُهُ برأيٍ واجتهادٍ بلا أصلٍ. والوقفُ التامُّ على قوله: (إلا الله) عندَ الأكثرِ (¬2). {وَالرَّاسِخُونَ} المتمَكِّنون. {فِي الْعِلْمِ} همُ الذين ثبتوا فيه، وتمكَّنوا منه؛ لأن أصلَ الرسوخِ الثبوتُ. {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} معناه: الراسخون لا يعلمونَ تأويلَه، بل يؤمنون به. {كُلٌّ مِنْ} المحكمِ والمتشابهِ من. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (3/ 177)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 596)، عن الربيع. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 324).

[8]

{عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ} يَتَّعِظُ بما في القرآنِ. {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ذوو العقول. ... {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}. [8] {رَبَّنَا} أي: ويقول الراسخوان: ربنا. {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي: ثَبِّتْها على الإيمان، ولا تُمِلْنا عن الحقِّ. {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وَفَّقْتَنا. {وَهَبْ لَنَا} أَعْطِنا. {مِنْ لَدُنْكَ} من عندِكَ. {رَحْمَةً} توفيقًا. {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} لكلِّ سُؤْل. ... {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}. [9] {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ} أي: في يوم. {لَا رَيْبَ} أي: لا شكَّ. {فِيهِ} وهو يومُ القيامة. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} الموعدَ، وحكى البغويُّ قولًا أن الراسخَ

[10]

في العلم مَنْ وُجِدَ فيه أربعةُ أشياء: التقوى بينَهُ وبينَ الله، والتواضُعُ بينَهُ وبين الخَلْق، والزهدُ في الدنيا، والمجاهدةُ بينَهُ وبينَ نفسِه (¬1). {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)}. [10] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ} تنفعَ. {عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: لن تدفعَ عنهم الأموالُ شيئًا من الله. يسكتُ حمزةُ في: (شَيْءٌ وشَيْءٍ وشَيْئًا) حيثُ وقعَ. {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} اسمٌ لما يُوقَدُ، والمرادُ: من كفرَ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. تلخيصُه: لا مخلصَ للكفارِ منَ النار. ... {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)}. [11] {كَدَأْبِ} كعادة. {آلِ فِرْعَوْنَ} والدَّأْبُ مصدرُ دَأَبَ في العمل: جَدَّ فيه، وأصلُه الملازمةُ والدوامُ. تلخيصُه: عادةُ أولاءِ كعادةِ أولئك. {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كفارِ الأممِ الماضية. {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: كلُّهم كفروا. {فَأَخَذَهُمُ} أي: فعاقَبَهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 325).

[12]

{اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تهويلٌ للمخالفةِ. {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}. [12] {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: كفارَ مكةَ. {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بالياء فيهما؛ أي: إنهم يُغلبون ويُحشرون، والباقونَ بالتاءِ على الخطاب؛ أي: قل لهم: إنكم ستُغلبون وتُحشرون (¬1)، والغَلَبَةُ: القهرُ، والحَشْرُ: السَّوْقُ. المعنى: إنهم يُقهرون في الدنيا يومَ بدرٍ، ويُساقون في الأخرى. {إِلَى جَهَنَّمَ} من الجَهَنَّامِ، وهي البئرُ العميقةُ. {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراشُ. فلما نزلت هذه الايةُ، قال لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدرٍ: "إِنَّ اللهَ غَالِبُكُمْ وَحَاشِرُكُمْ إِلَى جَهَنَّمَ" (¬2). ثم خاطبَ كفارَ قريشٍ مشيرًا إلى وقعةِ بدرٍ فقالَ: ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 153)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 201)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 106)، و"الكشف" لمكي (1/ 325 - 326)، و"تفسير البغوي" (1/ 327)، و"التيسير" للداني (ص: 86)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 238)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 170)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 9). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 51)، و"تفسير الطبري" (3/ 192)، و"تفسير البغوي" (1/ 327).

[13]

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}. [13] {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} ولم يقل: كانتْ، والآيةُ مؤنثةٌ، لأنه ردَّها إلى البيان؛ أي: قد كان لكم بيانٌ، فذهبَ إلى المعنى؛ أي: قد ظهرَ لكمْ دلالةٌ على صدقِ قولي (¬1): أَنَّكم تُغْلبون. {فِي فِئَتَيْنِ} فِرْقَتين. قرأ أبو جعفرٍ: (فِيَتَيْنِ) و (فِيَةٌ) بفتح الياء بغير همز (¬2). {الْتَقَتَا} يومَ بدرٍ، إحداهُما. {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في طاعته، وهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، وكانوا ثلاثَ مئةٍ وثلاثةَ عشرَ رجلًا، معهم فرسٌ للمقدادِ ابنِ عمرٍو، وفرسٌ لمرثدِ بنِ أبي مرثدٍ، وسبعون بعيرًا، وستةُ أدرع، وثمانيةُ سيوف، وأكثرهم رَجَّالَة. {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وهم كفارُ قريش، كانوا تسع مئةٍ وخمسين رجلًا من المقاتلة، وكانَ حربُ بدرٍ أولَ مشهدٍ شهدَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. {يَرَوْنَهُمْ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: بالتاء خطابًا لليهود؛ لأن منهم من حضرَ الوقعةَ ينظرُ لِمَنِ الكَرَّةُ، وَقرأ الباقون: بالغيب؛ أي: يرونهم المسلمون (¬3). ¬

_ (¬1) "قولي": ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 171)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 9). (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 157)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 202)، =

{مِثْلَيْهِمْ} كان المسلمون يرون المشركين مثلَي عددِ أنفِسهم، قَلَّلَهم اللهُ في أعينهم حتى رأوهم [سِتَّ مئةٍ وستةً وعشرين رجلًا، ثم قَلَّلَهم في أعينِهم في حالةٍ أخرى حتى رأوهم مثلَ عددِ أنفِسهم، ثم قَلَّلَهم أيضًا في أعينِهم حتى رأوهم] (¬1) عددًا يسيرًا أقلَّ من أنفسهم، وقيل غير ذلك، وهذا التأويل هو الأصح. {رَأْيَ الْعَيْنِ} بارزًا ظاهرًا. {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ} يُقَوِّي. {بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ: (يُوَيِّدُ) بفتح الواو وبغير همز، واختُلِف عن عيسى صاحبِ أبي جعفرٍ (¬2). {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكرتُ. {لَعِبْرَةً} لاعتبارًا. {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} لذوي العقول والنظر، وتقدَّمَ اختلافُ القراء في حكم (¬3) الهمزتين في سورة البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] وكذلك اختلافهم في قوله: {مَنْ يَشَاءُ إِنَّ}. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (1/ 328)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 238)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 171)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 10). (¬1) ما بين معكوفتين ساقط من "ت". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 173)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 74)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 11). (¬3) "حكم": ساقطة من "ن".

[14]

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}. [14] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} جمع شهوة، وأصل الشهوة: نزوع النفس إلى ما تريده. {مِنَ النِّسَاءِ} بدأ بهنَّ؛ لأنهنَّ حَبائلُ الشيطانِ. {وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ} جمعُ القنطار (¬1)، وهو المالُ الكثيرُ، وسُمِّيَ قِنْطارًا مِنَ الإحْكامِ، يقال: قَنْطَرْتُ الشيءَ: إذا أَحْكَمْتُهُ، ومنهُ سُمِّيت القَنْطَرَةُ. {الْمُقَنْطَرَةِ} المضعَّفةُ. {مِنَ الذَّهَبِ} سمي ذهبًا؛ لأنه يذهبُ ولا يبقى. {وَالْفِضَّةِ} لأنها تنفضُّ؛ أي: تتفرَّقُ. {وَالْخَيْل} من الخُيَلاءِ، لا واحد له من لفظه، وواحدُها فَرَسٌ. {الْمُسَوَّمَةِ} المعلَّمةِ، والسِّيما: العلامةُ. {وَالْأَنْعَامِ} جمعُ النَّعَم؛ أي: الإبلِ والبقرِ والغنمِ. {وَالْحَرْثِ} الزرعِ. {ذَلِكَ} أي: المذكورُ. {مَتَاعُ} يتمتع به يسيرًا في. {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم يزولُ. ¬

_ (¬1) في "ن": "القناطر".

[15]

{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} المرجعُ، وهذا تزهيدٌ في الدنيا، وترغيبٌ في الأخرى (¬1). قرأ أبو عمرٍو: (وَالْحَرْث ذلِكَ) بإدغام الثاء في الذال، وأدغم النون في اللام من: (زُيِّن للنَّاسِ) (¬2). {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)}. [15] {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} أخبرُكم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ورُويسٌ: بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزتين، وفصل بينهما بألف أبو جعفرٍ، واختُلِف عن أبي عمرٍو وقالونَ، وهشامٍ (¬3). {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} من الأقذارِ. {وَرِضْوَانٌ} أي: رِضًا. {مِنَ اللَّهِ} قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَرُضْوانٌ وَرُضْوانًا) بضمِّ الراءِ ¬

_ (¬1) في "ش": "الآخرة". (¬2) انظر: "الإتقان" للسيوطي (1/ 113)، في النوع الحادي والثلاثين. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 157)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 174)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 75)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 399)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 171)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 12).

[16]

حيثُ وقع، إلا قوله: {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} ثاني المائدة، والباقون: بالكسر، وهما لغتان؛ كالعِدْوان والعُدْوان (¬1). {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} فيثيبُ المحسنَ، ويعاقبُ المسيء. {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}. [16] {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} صَدَّقنا. {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} اسْتُرْها علينا، وتجاوزْ عَنَّا. {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} صفةٌ للمتقين. {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}. [17] {الصَّابِرِينَ} عن ارتكابِ المعاصي والشهواتِ. {وَالصَّادِقِينَ} في السرِّ والعلانيةِ. {وَالْقَانِتِينَ} المطيعينَ. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 157)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 203)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 106)، و"الكشف" لمكي (1/ 337)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 330)، و"التيسير" للداني (ص: 86)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 238)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 172)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 13).

[18]

{وَالْمُنْفِقِينَ} أموالَهم في طاعةِ الله. {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ} أي: المصلِّين. {بِالْأَسْحَارِ} جمعُ سَحَرٍ، وهو من ثُلُثِ الليلِ الآخِر إلى الفَجْرِ، وأصلُه: الخفاءُ؛ للطفهِ. المراد: الإعلامُ أن الجنة أُعِدِّت لجميعِ المذكورين. ونزل في نصارى نجران: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}. [18] {شَهِدَ اللَّهُ} أي: بَيَّنَ وأَعْلَمَ. {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} أي: وشهدَتِ الملائكةُ. {وَأُولُو الْعِلْمِ} هم الأنبياءُ والمؤمنونَ المثبتونَ التوحيدَ، شهدوا بذلك، وأَقَرُّوا به اعتقادًا، والعلمُ: هو إدراكُ الشيءِ على ما هوَ بِهِ. {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أي: مُقيمًا بالعدلِ وتدبيرِ الخلق، ونصبُه حالٌ مؤكدةٌ من الله، ونظمُ الآيةِ: شهدَ اللهُ قائِمًا بالقسطِ، وتقدَّم الكلامُ على تغليظِ اللامِ منِ اسمِ الله في (شَهِدَ اللهُ) وشبِهه في أول سورة الفاتحة (¬1). {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فهو الموصوفُ بهما. ¬

_ (¬1) في "ن": "البقرة".

[19]

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}. [19] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} يعني: الدينَ المرضيَّ الصحيحَ، والإسلامُ هو الدخولُ في السِّلْمِ، والانقيادُ والطاعةُ. المعنى: الإسلامُ: العدلُ والتوحيدُ، وهما الدينُ عندَ الله لا غيرُ. قرأ الكسائيُّ: (أَنَّ الدِّينَ) بفتح الألف رَدًّا على أَنَّ الأولى، تقديرُه: شهدَ اللهُ أَنَّه لا إلهَ إلَّا هُوَ، وشهدَ أَنَّ الدينَ عندَ اللهِ الإسلامُ، وقرأ الباقون: بكسر الألف على الابتداء (¬1). ونزلَ (¬2) في اليهودِ والنصارى حينَ تركوا الإسلامَ: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} في التوراة أنه نبيٌّ حَقٌّ، فكذَّبوا، وأشركوا؛ بأن ثَلَّثَتِ (¬3) النصارى، وقالتِ اليهودُ: عزير ابنُ اللهِ. {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: طلبًا للمُلْكِ والرياسةِ، فسلَّط اللهُ عليهِمُ الجبايرهَّ. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وعيدٌ لمن كفرَ بسرعةِ ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 157)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 203)، و "الحجة" لابن خالويه (ص: 107)، و"الكشف" لمكي (1/ 338)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 332)، و"التيسير" للداني (ص: 87)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 238)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 172)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 15). (¬2) في "ت": "ونزلت". (¬3) في "ن": "وثلث".

[20]

مجيءِ (¬1) يومِ القيامةِ والحسابِ؛ إذ هي متيقَّنَةُ الوقوعِ، وكُلُّ آتٍ قريبٌ. {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}. [20] {فَإِنْ حَاجُّوكَ} أي: خاصمَكَ يا محمدُ أهلُ الكتابِ في الدين. {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} أي: أَخْلَصْتُ عبادتي. {لِلَّهِ} وانقدْتُ إليه بجميع جوارحي، وخُصَّ الوجهُ بالذكرِ؛ لأنه أكرمُ جوارحِ الإنسانِ، وفيه بَهاؤه، وإذا خضعَ وجهُه، خضعَ سائرُ جوارحه. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وحفصٌ: (وَجْهِيَ) بفتح الياء، والباقون: بالإسكان (¬2). {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي: أسلمَ كما أسلمتُ. أثبتَ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ الياءَ في قوله: (اتَّبَعِنَي) حالةَ الوصل، وأثبتها يعقوبُ وَصْلًا ووقفًا، وحذفَها الباقون في الحالين؛ لأن رسمَها في المصحفِ بغير ياء (¬3). ¬

_ (¬1) "مجيء" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 222)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 172)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 16). (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 158)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 223)، و"الكشف" لمكي (1/ 374)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 334)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات =

[21]

{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اليهودِ والنصارى. {وَالْأُمِّيِّينَ} مشركي العربِ. {أَأَسْلَمْتُمْ} استفهامٌ، ومعناه أَمْرٌ؛ أي: أَسْلِموا؛ كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، وتقدمَ اختلافُ القراء في حكم الهمزتين من كلمة في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، وكذلك اختلافُهم في قوله: {أَأَسْلَمْتُمْ}. {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} لخروجِهم من الضَّلالِ إلى الهدى. {وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الإيمانِ. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} بتبليغ الرسالةِ دونَ الهداية. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} بِمَنْ يؤمنُ ومَنْ لا يؤمن، ثم نُسِخَتْ بآيةِ السيفِ. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}. [21] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ} يَجْحَدون. {بِآيَاتِ اللَّهِ} يعني: القرآنَ، وهم اليهود والنصارى. ¬

_ = العشر" لابن الجزري (2/ 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 172)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 16).

[22]

{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} قرأ حمزةُ: (وَيُقَاتِلُونَ الَّذِينَ) بألفٍ (¬1) مع ضمِّ (¬2) الياءِ وكسرِ التاءِ من القتالِ، وقرأ الباقون: بغير ألفٍ مع فتح الياء وضمِّ التاء، من القتل (¬3)، معناه: إن كفارَ بني إسرائيل قَتَلوا أنبياءهم وأتباعَهُم عِنادًا. {فَبَشِّرْهُمْ} أخبرْهُمْ. {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَجيعٍ. {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}. [22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ} بطلت. {أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} بدفعِ العذابِ عنهم، فبطلانُ العملِ في الدنيا عدُم القبولِ، وفي الآخرةِ عدمُ المجازاةِ عليه. ونزلتْ في اليهودِ لما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، فأبوا: ¬

_ (¬1) "بألف" ساقطة من "ش". (¬2) "ضم" ساقطة من "ش". (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 317)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 158)، و"الكشف" لمكي (1/ 338 - 339)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 334)، و"التيسير" للداني (ص: 87)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 238 - 239)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 18).

[23]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}. [23] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا} حَظًّا. {مِنَ الْكِتَابِ} أي: التوراةِ. {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قرأ أبو جعفرٍ: (لِيُحْكَمَ بَيْنَهُمْ) بضمِّ الياء وفتحِ الكاف، والباقون: بفتح الياء وضمِّ الكاف (¬1)، وتقدم توجيهُ قراءتهم في سورة البقرة عندَ تفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [الآية: 213]. {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عن قَبولِ الحقِّ. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} [24] {ذَلِكَ} أي: التولِّي والإعراضُ. {بِأَنَّهُمْ قَالُوا} أي: بسببِ قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} فَسَهَّلوا أمرَ العذابِ باعتقادِهِمُ الزائغِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 182)، و "تفسير القرطبي" (4/ 50)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 239) و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 172)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 18). (¬2) "فسهلوا ... الزائغ" ساقط من "ش".

[25]

{وَغَرَّهُمْ} والغرّ: الطمعُ فيما لا يحصُلُ منه شيء. {فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} والافتراءُ: اختلاقُ الكذبِ. {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}. [25] {فَكَيْفَ} يصنعونَ. {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} وهو يومُ القيامةِ. {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} من أهلِ الكتابِ وغيرِهم (¬1). {مَا كَسَبَتْ} من خيرٍ أو شَرٍّ. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لا يُزادُ في سيئاتِهم، ولا يُنْقَص من حسناتِهم. قال ابنُ عباسٍ وأنسُ بنُ مالكٍ: "لما افتتحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ، وعدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فارسَ والرومِ، فقالَ المنافقونَ واليهود: هَيْهاتَ هيهاتَ، منْ أينَ لمحمدٍ ملكٌ؟! فارسُ والرومُ أعزُّ وأمنعُ من ذلك، ألم يكفِ محمدًا مكةُ والمدينةُ حتى طمعَ في ملكِ فارسَ والرومِ؟! فأنزلَ الله (¬2): {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}. ¬

_ (¬1) "وغيرهم" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "أسباب النزول "للواحدي" (ص: 52)، و"تفسير البغوي" (1/ 337).

[26]

[26] {قُلِ اللَّهُمَّ} الميمُ عِوَضٌ من حرفِ النداء، وشدِّدَتْ لقيامِها مقامَ حرفين. معناه: يا أَللهُ. {مَالِكَ الْمُلْكِ} أي: مِالكَ العبادِ وما مَلَكوا. {تُؤْتِي الْمُلْكَ} أي: النبوَّةَ. {مَنْ تَشَاءُ} من خلقِكَ. {وَتَنْزِعُ} أي: تُزيلُ وتقلَعُ. {الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} منهم. {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} بالملكِ. {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} بنزعِهِ منهُ. {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي: والشرُّ، فاكتفى بذكرِ أحدِهما، ولأن الآيةَ في ذكرِ ما أعدَّ للمؤمنين. {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم أومأ إلى قدرته الباهرة بقوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}. [27] {تُولِجُ} تُدْخِلُ. {اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} حتى يصيرَ خمسَ عَشْرَةَ ساعةً، والليلُ تسعَ ساعاتٍ. {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} حتى يصيرَ خَمْسَ عَشْرَةَ ساعةً، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ، فما نقصَ من هذا، زِيدَ في هذا.

[28]

{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي: الحيوانَ من النُّطْفَةِ. {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} عكسُ الأول، وقيلَ: المؤمنُ من الكافرِ، وعكسُه، وقيل غير ذلك. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (مِنَ المَيِّتِ) (وتخرج الميت) بتشديدِ الياء حيثُ وقع (¬1). {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} من غير تضييقٍ ولا تقتير. {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}. [28] {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} نزلَتْ نهيًا عن مباطَنَةِ من يُبْطِنُ الكفرَ ويُظْهِرُ الإيمانَ، وعن مُوالاتِهم. المعنى: اجتنبوا موالاةَ الكفارِ، فلكم غُنْيَةٌ عن موالاتهم بموالاةِ المؤمنين؛ لأنهم أعداءُ الله، ومن والاهم فقد دخلَ في عداوة الله، ثم تَهَدَّدَهم فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: ولاءَ (¬2) الكفار. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 159)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 203)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 107)، و"الكشف" لمكي (1/ 339 - 340)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 338)، و"التيسير" للداني (ص: 87)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 172)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 18). (¬2) في "ن": "موالاة".

{فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ} أي: من ديِنهِ. {فِي شَيْءٍ} لأنه منسلخٌ عن ولايةِ اللهِ تعالى ودينِه. قرأ الليثُ عن الكسائيِّ: (يَفْعَل ذلِكَ) بإدغام اللام في الذال (¬1)، ثم استثنى فقال: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} المعنى: إلا لأجلِ خوفكم منهم أمرًا يجبُ الاحترازُ منه، فيداريهم المؤمنُ بلسانِهِ وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان. قرأ يعقوبُ: (تَقِيَّةً) بفتح التاءِ وكسر القافِ وتشديد الياء بعدَها، والباقون: بضم التاء وفتح القاف وألف بعدها، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ يُميلون الألفَ على أصلهم (¬2). {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: يُخَوِّفُكم عقوبَتَهُ بأن يغضبَ عليكم بموالاةِ الكفِار. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} تحذير أيضًا. {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 172)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 19). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 159)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 204)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 107)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 340)، و "تفسير القرطبي" (1/ 57)، و"تفسير الرازي" (2/ 435)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 239)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 19 - 20).

[29]

[29] {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} قلوبِكم من مَوَدَّةِ الكفار. {أَوْ تُبْدُوهُ} من موالاتِهم. {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ويجازيكم بهِ. {وَيَعْلَمُ} رَفْعٌ على الاستئناف. {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فكيف يَخْفَى عليه موالاتُكم الكفارَ؟ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدِرُ على عقوبتكم. {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)}. [30] {يَوْمَ تَجِدُ} أي: اذكروا واتَّقو ايومَ تجدُ. {كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} لم تُبْخَسْ منه شيئًا. {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ} أي: وَدَّتْ. {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} يعني: وبين السوء. {أَمَدًا بَعِيدًا} مسافةً واسعةً. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} إشارةٌ إلى أنه تعالى إِنَّما نهاهُم وحَذَّرَهُمْ رأفةً بهم، ومراعاةً لصلاحهم.

[31]

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}. [31] ونزلَ في اليهودِ والنصارى حيثُ قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]: {قُلْ} يا محمدُ: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فأنا رسولُه إليكم، فحبُّ المؤمنين للهِ اتِّباعُهم أمرَهُ، وابتغاء مرضاتَهُ، وحُبُّ اللهِ المؤمنينَ ثوابُهُ لهم، وعفوهُ عنهم، فذلكَ قولُه تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن تَحَبَّبَ إليه بطاعته. فلما نزلت هذه الآيةُ، قال عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ لأصحابه: إنَّ محمدًا يجعلُ طاعتَهُ كطاعةِ الله، يأمرُنا أن نحبَّهُ كما أَحَبَّتِ النصارى المسيحَ، فنزل (¬1): {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}. [32] {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن طاعتِهما. {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} لا يَرْضى فِعْلَهم، ولا يَغْفِرُ لهم. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 54)، و"تفسير البغوي" (1/ 341).

[33]

[33] قالَ ابنُ عباسٍ: قالتِ اليهودُ (¬1): نحنُ أبناءُ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، ونحنُ على دينه، فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى} اختارَ. {آدَمَ} وهو أبو البشر. {وَنُوحًا} واسمُهُ عبدُ الغَفَّارِ بنُ لامخ بنِ متوشلح بنِ حنوخ -وهو إدريسُ- وُلد بعدَ مضيِّ ألفٍ وستِّ مئةٍ واثنتينِ وأربعينَ سنةً من هُبوط آدمَ -عليه السلام-، وسُمِّيَ نوحًا؛ لكثرةِ نَوْحِهِ على نفِسه، وهو أولُ نبيٍّ بُعث إلى كفارٍ، وهو أبونا الأصغرُ، عاشَ ألفًا وأربعَ مئةٍ وخمسينَ سنةً، وقبرُه بكركِ نوحٍ من أرضِ الشام. {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} أي: إبراهيمَ وعمرانَ أنفسَهُما؛ كقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]، وقيل: آلُ إبراهيمَ: إسماعيلُ وإسحاقُ وأولادُهما، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من أولادِهما، وآلُ عمرانَ: موسى وهارونُ؛ لأنَّ موسى بنَ عمرانَ بنِ يصهرَ بنِ لاوي بنِ يعقوبَ، والآلُ في اللغة: الأهلُ والقرابةُ. المعنى: اختصَّ اللهُ آدمَ والأنبياءَ المذكورين والأنبياءَ من أولادِهم -عليهم الصلاة والسلام أجمعين- بالنبوَّةِ. {عَلَى الْعَالَمِينَ} قرأ ابنُ ذكوانَ بخلافٍ عنه (عِمْرَانَ) بالإمالةِ حيثُ وقعَ (¬2). ¬

_ (¬1) "اليهود" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 173)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 22).

[34]

{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}. [34] {ذُرِّيَّةً} اشتقاقها من ذَرَأ بمعنى: خَلَقَ. {بَعْضُهَا مِنْ} ولد. {بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بأقوالِ الناسِ وأعمالِهم. {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}. [35] {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} العاملُ فعلٌ مُضْمَرٌ تقديره: اذكرْ إذ قالت، وامرأةُ عمران هي حَنَّةُ بنتُ فاقودَ، وعمرانُ بنُ ماثانَ، وكان زمنَ زكريا، فتزوَّجَ زكريا إيساعَ أختَ حَنَّةَ، فكان يحيى وعيسى ابني خالةٍ. و (امرأت) رُسِمَتْ بالتاء في سبعةِ مواضعَ، ووَقَفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو ويعقوب، والكسائيُّ (¬1)، وليس هذا بعمرانَ أبي موسى، كان بينهما ألفٌ وثمانُ مئةِ سنةٍ، فأحبَّتْ حَنَّةُ (¬2) الولدَ بعدَ ما أَسَنَّتْ (¬3)، فدعَتْ بذلك، فلما حملَتْ، قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} أي: غلامًا محرَّرًا، ولم تقلْ: محرَّرَةً؛ لأنهم إنما كانوا يُحَرِّرونَ الغِلْمانَ، فنذرتْ إنْ رزقَها اللهُ ولدًا، ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 437)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 173)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 22). (¬2) "حنة" سقطت من "ن". (¬3) في "ن": "أيست".

[36]

جعلَتْهُ من سَدَنَةِ بيتِ المقدِسِ، والنذرُ: ما يوجِبُهُ الإنسانُ على نفسِه، وتقدَّم الكلامُ عليه، والخلافُ فيه في سورة البقرة، والمحرَّرُ: المُعْتَقُ؛ من الحُرِّ، والحرُّ في الحقيقةِ الذي لم يُمْلَكْ، فأرادتْ أن تجعلَه حُرًّا من كلِّ شيءٍ عبدًا مخلِصًا لله. تلخيصُه: أَوْجَبْتُ عَلَيَّ أن الذي في بطني عتيقٌ مفرَّغٌ لعبادةِ اللهِ تعالى، لا أشغلُه بشيءٍ من الدنيا. {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} لِدُعائي (¬1). {الْعَلِيمُ} بِنِيَّتي، فماتَ عمرانُ وهي حاملٌ بمريمَ، وكانَ من رؤوسِ بني إسرائيل وأحبارهم. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كَثيرٍ، ويعقوبُ (مِنِّي إِنَّكَ) (لِي آيَةً) بسكون الياء، والباقون: بفتحها (¬2). {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}. [36] {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ} معتذرةً وظنًّا أن نذَرها لا يُقبل؛ لأُنوثَتِهِ. {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن ¬

_ (¬1) في "ن": " {فَتَقَبَّلْ} لدعائي {مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 222)، و"الكشف" لمكي (1/ 374)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 22).

عاصمٍ، ويعقوبُ: (وَضعْتُ) بضم التاء، جعلوها من كلامِ أمِّ مريمَ، وقرأ الباقون: بجزم التاء إخبارًا عن الله (¬1). {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} لخدمةِ بيتِ المقدسِ؛ لضعفِها ولِما يعتريها من الحيضِ والنِّفاسِ وغيرِهما مما يلحقُ النساءَ. {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} ومعناهُ: العابدةُ، وكانت مريمُ أجملَ النساءِ في وقتِها، ولم يُذْكَرْ في القرآنِ امرأةٌ باسمِها سوى مريمَ، وبقيةُ النساءِ أُشير إليهنَّ؛ كأزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وامرأةِ إبراهيمَ، وأُمِّ موسى وأختِه، وامرأةِ نوحٍ ولوطٍ وفرعونَ، وغيرِهِنَّ من نساءِ الأنبياءِ وغيرِهم. {وَإِنِّي أُعِيذُهَا} أُجيرها. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (وإِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). {بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا} أولادَها. {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وتقدَّمَ تفسيرهُ في الاستعاذة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 325)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 160)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 204)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 108)، و"الكشف" لمكي (1/ 340 - 341)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 344)، و"التيسير" للداني (ص: 87)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 239)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 173)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 23). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 222)، و"الكشف" لمكي (1/ 374)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 22).

[37]

بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِأُصْبُعَيْهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يَطْعُنُ، فَطَعَنَ في الحِجابِ" (¬1). {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}. [37] {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} أي: قبلَ مريمَ من حَنَّةَ. {بِقَبُولٍ} أي: بأمرٍ ذي قَبولٍ. {حَسَنٍ} وأَصْلُ القَبول: الرِّضا؛ أي: سلكَ بها سبيلَ السُّعداء. {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} سَوَّى خَلْقَها، فكانت تنبُتُ في اليوم ما ينبتُ المولود في عامٍ، ولما وضعَتْها أُمُّها حملَتْها وأَتَتْ بها إلى المسجدِ، ووضعَتها عندَ الأحبارِ وهُمْ يَلُونَ من بيتِ المقدس ما يلي الحَجَبَةُ من الكعبةِ، وقالَتْ: دونَكُم هذهِ المنذورةَ، فتنافَسوا فيها؛ لأن أباها كانَ من أَئِمَّتِهم، فقال زكريا: أنا أحقُّ بها؛ لأن خالتَها زوجتي، فقالوا: لا حتى نقترعَ، فَقَرَعَهم زكريَّا، وأخذها (¬2)، فذلك قولُه تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي: ضَمَّها إليه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كَثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (وَكَفَلَهَا) بتخفيف الفاء (زَكَرِيَّاءُ) بالرفعُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3112)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 345).

على أنه فاعلُ (وكَفَلَها)، وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَكَفَّلَهَا) بتشديدِ الفاء؛ أي: جعلَهُ اللهُ كافِلًا لها، فأبو بكرٍ عن عاصمٍ ينصبُ الهمزةَ مع التشديدِ على أنه مفعولٌ به، وبقيةُ الكوفيين يقرؤون (زَكَرِيَّا) مقصورًا بغيرِ همزٍ حيثُ وقعَ (¬1). فلما ضَمَّها زكريّا، بَنَى لها غرفةً في المسجد، وانقطعت في تلكَ الغرفةِ للعبادةِ، وكان لا يدخلُ على مريم غيرُ زكريا فقط، وكان {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} وهو ابنُ آدن بنِ مسلمِ بنِ صدوق من أولادِ سليمانَ بنِ داود عليه السلام، عاشَ أكثرَ من مئةِ سنةٍ، وقتلَهُ اليهودُ لعنةُ الله عليهم؛ لأنه لما وَلدتْ مريمُ المسيحَ من غيرِ بعلٍ، وقعَ اليهودُ في حَقِّهِ بما لا يليقُ ذكرُه، وطلبوه، فهربَ واختفى في شجرةٍ عظيمةٍ، فقطعوا الشجرةَ، وقطعوا زكريّا مَعها، وكان ذلكَ بعدَ ولادةِ المسيحِ بقليلٍ وقبره بذيلِ جبلِ طور زيتا بمقابرِ الأنبياءِ ببيتِ المقدس، وقيل: بقرية سبسطية من أرض نابلس، وقيلَ: بجامعِ دمشقَ، وبينَ وفاتِه والهجرةِ الشريفةِ الإسلاميةِ سِتُّ مئةٍ ونحو ثلاثينَ سنةً. {الْمِحْرَابَ} أي: الغرفةَ، والمحرابُ: أشرفُ المجالسِ، فكأنها وُضِعَتْ في أشرفِ مكانٍ من المسجدِ، وكان زكريا إذا خرجَ يغلِقُ عليها سبعةَ أبوابٍ، فإذا دخل عليها. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 326)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 161)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 204)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 108)، و"الكشف" لمكي (1/ 341)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 345 - 346)، و"التيسير" للداني (ص: 87)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 239)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 173)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 24 - 25).

[38]

{وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} فاكهةَ الصيفِ في الشتاءِ، وعَكْسه. {قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى} أي: من أين. {لَكِ هَذَا} الرزقُ، والأبوابُ مغلقةٌ عليكِ. {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّه} أي: من الجنة، تكلمت وهي صغيرةٌ. {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير محاسبة. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)}. [38] {هُنَالِكَ} أي: عندَ ذلك. {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} وكان قد شاخَ وأَيِسَ من الولد، فلما رأى قدرةَ الله, طمعَ في الولد، و {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي} أي: أَعْطِني. {مِنْ لَدُنْكَ} أي: من عندِك. {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ولدًا صالحًا، والذريةُ تقعُ على الواحدِ والجمعِ. {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} سامعُه. {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)}. [39] {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} أجابَتْهُ، والمرادُ جبريلُ وحدَه، جُمِعَ تعظيمًا له. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَنَادَاهُ) بألفٍ مُمالة إرادةَ

الجمع، وقرأ الباقونَ: بالتاء؛ لتأنيث لفظ الملائكة (¬1). {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أي: في المسجد. قرأ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (المِحْرَابَ) بالإمالةِ حيثُ وقعَ بالخفضِ، وعنهُ خلافٌ في غيرِ المخفوض (¬2). {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} قرأ ابنُ عامرٍ: (إِنَّ الله) بكسرِ الهمزة (يُبَشِّرُكَ): بضمِّ أولِه وكسرِ الشين مشدَّدًا، وقرأ حمزةُ: (إِنَّ الله) كابنِ عامرٍ (يَبْشُرُكَ) بفتح الياء وضم الشين مخففًا، وقرأ الكسائي: (أَنَّ الله) بفتح الهمزة (يَبْشُرُكَ) كقراءة [حمزة، وقرأ الباقون: (أَنَّ اللهَ) بفتحِ الهمزةِ (يُبَشِّرُكَ) كقراءةِ] (¬3) ابِن عامر، فالقراءةُ بكسر الألف على إضمار القول، تقديرُه: فنادته الملائكة فقالت: إن، وبالفتح بإيقاع النداء عليه، كأنه قال: فنادته الملائكة بأنَّ، والقراءةُ بضمِّ الياءِ وفتحِ الباءِ وكسر الشين مشددًا من بَشَّرَ، وهو الأفصحُ، وبفتح الياء وضَمِّ الشين مُخَفَّفًا من بَشَرَ، وهي لغةُ تهامةَ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 162)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 205)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 108)، و"الكشف" لمكي (1/ 342 - 343)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175 - 176)، و"تفسير البغوي" (1/ 347)، و"التيسير" للداني (ص: 87)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 439)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 173)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 26). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 447)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 173)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 26 - 27). (¬3) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬4) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 328)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: =

{بِيَحْيَى} سُمِّيَ به؛ لأنه حَيِيَ به الرحمُ العاقرُ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَحْيى) بالإمالة حيثُ وقعَ (¬1). {مُصَدِّقًا} نصبٌ على الحال؛ أي: مؤمنًا. {بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني: عيسى عليه السلام؛ أي: بكلمةٍ كائنةٍ منَ الله بأنْ قالَ له: كُنْ من غيرِ أبٍ، فكانَ، فوقعَ عليه اسمُ الكلمة، وكان يحيى أولَ مَنْ آمن بعيسى وصَدَّقه، وكان أَسَنَّ من عيسى بستةِ أشهرٍ، وقيلَ: صدَّقَهُ وهو في بطن أُمِّه، فكانَتْ أُمُّ يحيى تقولُ لمريمَ: إني أجد ما في بطني يسجُد لما في بطنِك تحيةً له، وكانا ابنا الخالة كما تقدَّم، ثم قُتل يحيى قبلَ رفعِ عيسى عليهما السلام بسنةٍ ونصفٍ، وله نيفٌ وثلاثون سنةً، ونُبِّئ صغيرًا، وكان عيسى قد حَرَّمَ نكاحَ بنتِ الأخ، وكان لهرودوس وهو الحاكمُ على بني إسرائيل بنتُ أخٍ، وأرادَ أن يتزوَّجَها كما هو جائزٌ في ملة اليهود، فنهاه يحيى عن ذلك، فأمر بذبحِ يحيى، فَذُبح ووُضع رأسُه بين يديه، فكان الرأسُ يتكلَّمُ ويقول: لا تَحِلُّ لكَ، واستمرَّ غَليانُ دمِه حتى بعثَ الله عليهم مَلِكًا من جهة المشرق يُقال له: حردوس، فقتلَ منهم على دمِ يحيى سبعينَ ¬

_ = 205)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 108)، و"الكشف" لمكي (1/ 343 - 344)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (1/ 347 - 348)، و"التيسير" للداني (ص: 87)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 239)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 174)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 27 - 28)، ولم يذكر البغوي القراءة عن الكسائي، وذكرتها جميع المصادر عنه بكسر الهمزة (إنَّ الله). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"تفسير الرازي" (1/ 447)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 82).

[40]

ألفًا إلى أن سكنَ دمُه، وقبرُه عندَ قبرِ والدِه، على الخلافِ المتقدِّم، وبينَ وفاتِه والهجرةِ الشريفةِ الإسلاميةِ خمسُ مئةٍ ونحوُ سِتٍّ وتسعين سنةً. {وَسَيِّدًا} هو مَنْ سادَ قومَهُ، ويحيى سادَ قومَهُ والناسَ في أَنَّه لم يرتكبْ سيئةً قَطُّ. {وَحَصُورًا} ممتنِعًا من الوَطْءِ معَ القدرةِ عليه، وليسَ كما قالَ بعضهم: إنه كان هَيُوبًا، أو لا ذَكَرَ له؛ لأن هذه نقيصةٌ وعيبٌ لا تليقُ بالأنبياء، وإنما معناه: إنه معصومٌ من الذنوب لا يأتيها؛ كأنه حُصِر عنها. {وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)}. [40] فلما بُشِّرَ بهِ {قَالَ} زكريّا: {رَبِّ أَنَّى} أي: كيفَ. {يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ} أي: نالني، وأَثَّرَ فيَّ. {الْكِبَرُ} وكانَ ابنَ عشرينَ ومئةِ سنةٍ، وقيلَ غيرُ ذلك. {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} عقيمٌ لا تَلِدُ، وكانت بنتَ ثمانٍ وتسعينَ سنةً، وقولُ زكريا لم يكنْ شَكًّا في وعِد الله، إنما شَكَّ في كيفيته؛ أي: كيف ذلك؟ يجعلُني أنا وامرأتي شابَّيْنِ، أم يرزقُنا ولدًا على الكِبَرِ منَّا، أم يرزقُني من امرأةٍ أخرى؟ فقال مستفهِمًا لا شَكًّا. {قَالَ كَذَلِكَ} أي: مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد بين الفاني والعاقر.

[41]

{اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} من خلقِ الولدِ بين هَرِمَيْنِ وغيره. {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}. [41] {قَالَ} زكريا: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} علامةً على وجودِ الحملِ؛ لأزيدَ في الشكر والعبادةِ، وتقدمَ اختلافُ (¬1) القراء في (لِي آيَةً). {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} أي: تمتنعُ عن كلامِهم. {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} إشارةً، اعتُقِلَ لسانُه عَمَّا سوى ذكرِ الله، وكانَتْ إشارتُه بالإصبعِ المُسَبِّحَةِ، وأصلُ الرمزِ: التَّحَرُّكُ. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ} وهو من زَوالِ الشمسِ إلى غُروبها. {وَالْإِبْكَارِ} وهو من طلوعِ الفجرِ الثاني إلى الضُّحى؛ أي: في وَقْتَيهما. {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)}. [42] {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} يعني: جبريلَ عليه السلام. {يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} اختارَكِ. ¬

_ (¬1) في "ت": "خلاف".

[43]

{وَطَهَّرَكِ} من مَسِيسِ الرِّجالِ والحَيْضِ والنِّفاسِ، وكانت لا تَحيضُ. {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} عالَمِي زمانِها؛ لولادتها (¬1) بلا مَسٍّ. {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}. [43] {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي} أطيعي وأطيلي القيامَ {لِرَبِّكِ} في الصلاةِ، فقامَتْ حتى وَرِمَتْ قَدَماها وسالت قيحًا. {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} إنما قدَّمَ السجودَ على الركوعِ؛ لأن الواوَ ليست للترتيب. {مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: صَلِّي جماعةً، ولم يقل: الراكعات، لعمومِ الراكعينَ الرجال والنساءَ. {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}. [44] {ذَلِكَ} أي: المذكورُ من أمرِ زكريا ويحيى ومريمَ وعيسى. {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} نلقيه إليك. {وَمَا كُنْتَ} يا محمدُ. {لَدَيْهِمْ} أي: عندَهم. قرأ حمزةُ، ويعقوبُ: بضم الهاء، وقرأ ابنُ ¬

_ (¬1) في "ت": "لولادها".

[45]

كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، ووَرْشٌ: (لَدَيْهِمُ إِذْ) بضمِّ الميمِ وصلتِها بواو، وكذا شبهُه حيثُ وقعَ، واختُلِفَ عن قالون. {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} أي: سهامهم في الماء للاقتراع، وسُمِّي القلمَ؛ لأنه يُقْلَمُ كالظُّفْر. {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} يَحْضنُها ويُرَبِّيها. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون} في كَفالَتِها. {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)}. [45] {إِذْ} أي: واذكرْ إذ. {قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (يَبْشُرُكِ) بفتح الياء وضمِّ الشين مخففًا، والباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشدَّدًا (¬1). {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وقولُه: ابنُ مريمَ إعلامٌ لها أنها تلدُ من غير أبٍ، فلا يُنْسَبُ إلا لأمه، والمسيحُ لقبٌ لعيسى، معناه: الصِّدِّيق، وقيل: معناه بالعبرانية: المبارَكُ، وقيلَ غيرُ ذلك. {وَجِيهًا} ذا جاهٍ وقَدْر. ¬

_ (¬1) كما تقدم قريبًا. انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 163)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 30).

[46]

{فِي الدُّنْيَا} بالنبوَّةِ والتقديمِ على الناسِ. {وَالْآخِرَةِ} بالشفاعةِ وارتفاعِ درجتِه في الجنةِ. {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} بارتفاعِه إلى السَّماء، وصحبتِه الملائكَةَ. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)}. [46] {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} صغيرًا قبلَ وقتِ الكلامِ معجزةً. {وَكَهْلًا} بعدَ نزولِهِ من السماءِ بالوحي للرسالةِ كما سيأتي عندَ ذكرِ رفعِه إلى السماء، فالطفلُ: مَنْ لم يُمَيِّزْ، والمميِّزُ: مَنْ بلغَ (¬1) سبعًا، والصبيُّ والغلامُ واليافعُ واليتيمُ: من لم يبلُغْ، والمراهِق: من قاربَ البلوغَ، والشابُّ والفتى: منه إلى الثلاثين، والكَهْلُ من تجاوزَ الثلاثين إلى الخمسين، وقاربَ الشيبَ، من اكتهلَ النبتُ: قاربَ اليبسَ، وحالُ الكهولة التي يستحكم فيها العقلُ، ويستنبأ فيها الأنبياء، والشيخُ: من الخمسين إلى السبعين، ثم هَرِمٌ. {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: هو من العباد الصالحين. {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)}. [47] {قَالَتْ رَبِّ} سيدي، تقوله لجبريل عليه السلام. ¬

_ (¬1) "من بلغ" ساقطة من "ن".

[48]

{أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} زوج قالتْ تعجُّبًا؛ إذْ لم تكن جَرَتِ العادة بأن يولَد ولدٌ لا أبَ له. {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا} أرادَ كونَ شيءٍ. {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} كما يريد. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، وروْحٌ عن يعقوبَ: (يَشَاءُ إِذَا) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، وهي أن تبدلَ واوًا خالصةً مكسورةً (¬1)، وقرأ ابنُ عامرٍ: (فَيَكُونَ) بنصب النون، والباقون: بالرفع (¬2)، وتقدَّمَ توجيهُ قراءتهم في سورة البقرة عندَ قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]. {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}. [48] {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} أي: الخطَّ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ (وَيُعَلِّمُهُ) بالياء؛ لقوله تعالى: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [البقرة: 47] وقرأ الباقون: بالنون على التعظيم (¬3)؛ لقوله تعالى: ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 174)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 31). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 174)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 31). (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 334)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 163)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 206)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 109)، و"الكشف" لمكي (1/ 344)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، =

[49]

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 44]. {وَالْحِكْمَةَ} العلمَ والفِقْهَ. {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} علَّمَهُ اللهم لتوراةَ والإنجيلَ. {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}. [49] {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وكان أولُ أنبياءِ بني إسرائيل يوسفَ، وآخرُهم عيسى -عليهما السلام-، فلما بُعِثَ قال: {أَنِّي} أي: بأني. {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} علامةٍ. {مِنْ رَبِّكُمْ} على صِدْقي، فلما قال ذلك لبني إسرائيلَ، قالوا: وما هي؟ قال: {أَنِّي} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: بكسر الألف على الاستئناف؛ أي: قال: (إِنِّي أَخْلُقُ)، وقرأ الباقون: بالفتح على معنى بـ (أَنِّي أَخْلُقُ) (¬1)، ¬

_ = و"تفسير البغوي" (1/ 353)، و"التيسير" للداني (ص: 88)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 240)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 174)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 32). (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 164)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 206)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 109)، و"الكشف" لمكي (1/ 344 - 345)، =

وقراءةُ الكوفيينَ، وابنِ عامرٍ: بإسكان الياء، والمدنيينَ، والبصريينَ، وابنِ كثيرٍ: بفتحِها (¬1). {أَخْلُقُ لَكُمْ} أي: أشكِّلُ شيئًا. {مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ} كصورةِ. {الطَّيْرِ} قرأ أبو جعفرٍ بخلافٍ عنه (كَهَيَةِ) بتسهيل الهمزة؛ وعنه وجهٌ آخَرُ (كَهَيَّةِ) بتشديدِ الياء بغيرِ همز (¬2)، وقرأ أيضًا الطايرِ بألفٍ بعدَ الطاء. {فَأَنْفُخُ فِيهِ} أي: في الشيء المُشَكَّلِ. {فَيَكُونُ} أي: فيصيرُ. {طَيْرًا} قرأ أبو جعفرٍ، ونافعٌ، ويعقوبُ (طَايِرًا) بالألف، وسَهَّلَ أبو جعفرٍ همزةَ الطايرِ و (طَايِرًا) بخلافٍ عنه (¬3)، فمَنْ قرأ: (طَيْرًا) على ¬

_ = و"الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و "تفسير البغوي" (1/ 353)، و"التيسير" للداني (ص: 88)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 175)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 34). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 222)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 175)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 34). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 334)، و"تفسير البغوي" (1/ 353)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 79)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 466)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 34). (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 334)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 206)، و"الكشف" لمكي (1/ 345)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"تفسير البغوي" (1/ 353)، و"التيسير" للداني (ص: 88)، و"النشر في =

الجمع؛ أي: طيرًا كثيرةً، ومَنْ قرأ طايرًا على الإفراد؛ لأنه لم يخلُقْ سِوَى الخفَّاشِ، وإنما خَصَّ الخفَّاشَ، لأنه أكملُ الطيرِ خَلْقًا؛ لأنَّ لها ثَدْيًا وأَسْنانًا، وتحيضُ وتضحكُ، وتُرْضِعُ ولدَها، وتبولُ كما تبولُ ذواتُ الأربعِ (¬1). {بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ} أي: أشفي. {الْأَكْمَهَ} هو الذي يولَدُ أعمى. {وَالْأَبْرَصَ} هو الذي بِهِ وَضَحٌ، وخُصَّ بالذكرِ؛ لأنهما داءُ أعَياءٍ؛ لأنه بُعث زمنَ الطبِّ، وكان يداويهم بالدعاء بشرطِ بالإيمان، قالوا: أبرأ في يوم واحدٍ خمسينَ ألفًا. {وَأُحْيِ الْمَوْتَى} أحيا أربعةَ أنفسٍ عازَرَ، وابنَ العجوزِ، وابنةَ العَشَّارِ، وسامَ بنَ نوحِ، فأمَّا عازَرُ، فكان صَدِيقًا له، فانطلقَ إلى قبره، فدعا اللهَ، فخرجَ من قبرِه، وبقيَ، ووُلِدَ له، وأمَّا ابنُ العجوزِ مَرَّتْ به مَيْتًا على عيسى على سريرٍ يُحْمَلُ، فدعا اللهَ، فجلسَ على سريره، ونزلَ عن أعناقِ الرجالِ، ولبسَ ثيابَهُ، وحملَ سريرَهُ على عنقِه، ورجعَ إلى أهله، وبقيَ، ووُلِدَ له، وأما ابنةُ العَشَّارِ، كانَ رجلًا يأخذ العُشورَ، ماتت له بنتٌ بالأمس، فدعا الله عز وجل، فأحياها، فبقيت وولد لها، وأما سامُ بنُ نوحٍ، فإنَّ عيسى أتى قبرَهُ، فدعا باسمِ اللهِ الأعظمِ، فخرجَ من قبره وقد شابَ نصفُ رأسِه خوفًا ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 240)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 175)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 35). (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 47)، و "معجم القراءات القرآنية" (1/ 36).

[50]

من قيامِ الساعةِ، ولم يكونوا يَشيبونَ في ذلكَ الزمان، فقال: قد قامتِ القيامةُ؟ قال: لا، ولكنْ دعوتُكَ باسمِ اللهِ الأعظمِ، ثم قال له: مُتْ، قال: بشرطِ أن يُعيذَني اللهُ من سكراتِ الموتِ، فدعا الله، ففعل. {بِإِذْنِ اللَّهِ} كَرَّرَها لنفيِ توهُّمِ الألوهيَّةِ فيه. {وَأُنَبِّئُكُمْ} أخبرُكم. {بِمَا تَأْكُلُونَ} مما لم أُعايِنْهُ. {وَمَا تَدَّخِرُونَ} أي: تُخَبئون. {فِي بُيُوتِكُمْ} كان يخبرُ الشخصَ بما أكلَ قبلُ، وبما يأكل بعدُ، ويخبرُ الصبيانَ وهو في المكتبِ بما يصنعُ أهلُهم، وبما يأكلون. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكرتُ. {لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} مُوَفَّقين للإيمان. {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)}. [50] {وَمُصَدِّقًا} حالٌ معطوفٌ على {بِآيَةٍ} أي: جئتكُم بآية، وجئتُكم مصدِّقًا. {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} لما تقدَّمَني. {مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} من الُّلحوم والشُّحوم. {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} كَرَّرها تأكيدًا.

[51]

{فَاتَّقُوا اللَّهَ} لِما جئتكم به (¬1). {وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه. قرأ يعقوبُ: (وَأَطِيعُوني) بإثباتِ الياء بعد النون (¬2). {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}. [51] {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} هذهِ الجملةُ هي الآيةُ التي جاءهم بها. {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هو الطريقُ المشهودُ له بالاستقامة. {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}. [52] {فَلَمَّا أَحَسَّ} أي: علم. {عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} وأرادوا قتلَه، فاستنصرَ عليهم. و {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي} جمعُ نصير. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَنْصَارِيَ) بفتح الياء، وقرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (أَنْصَارِي) بإمالةِ فتحةِ الصاد. ¬

_ (¬1) "لما جئتكم به" سقط من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 22)، و"الكشف" لمكي (1/ 374)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 176 - 178)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 175)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 37).

[53]

{إِلَى اللَّهِ} أي: من أنصاري ذاهبًا إلى الله؟ أي: إلى عباده؛ لأن عيسى مرَّ بالحواريين وهم يَصيدون، فقال: ما تصنعونَ؟ قالوا: نصيدُ السَّمَكَ، قال: أفلا تذهبون نصيدُ الناسَ؟ قالوا: من أنت؟ قال: عيسى. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} أي: الراجعونَ إلى الله، وهم صفوةُ الأنبياءِ، وحَواريُّ الرجُلِ: خالِصَتُه (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيِّ الزُّبَيْرُ" (¬2)، سُمُّوا بذلك لبياضِ ثيابِهم، وكانوا اثني عشرَ رَجُلًا، وهم: شمعونُ الصفا، وبطرسُ وأخوهُ أندراوسُ، ويعقوبُ بن زَبَدة، وفيلبس، وبرطولوماوس، وأندريوس، ومرقُص، ويوحَنَّا، ولوقا، وتوما، ومَتَّى. {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أي: أعوانُ ديِنهِ. {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ} يا عيسى. {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} لتشهدَ لنا يومَ القيامة. {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}. [53] {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} من كتابِكَ. {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} عيسى. {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} لأنبيائِكَ بالصِّدْقِ. ¬

_ (¬1) في "ن": "خاصته". (¬2) رواه البخاري (6833)، كتاب: التمني، باب: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير طليعة وحده، ومسلم (2415)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير -رضي الله عنهما-, عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.

[54]

{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}. [54] {وَمَكَرُوا} أي: كفارُ بني إسرائيل الذين أحسَّ عيسى منهُمُ الكفرَ، والمكرُ: إخفاءُ الكيدِ، ومكرُهم بهِ: إرادةُ قتلِه. {وَمَكَرَ اللَّهُ} بهم؛ أي (¬1): بأن ألقى شبهَهُ على من أرادَ اغتيالَه وقَتْلَه. {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أقدرُهم وأقواهم. ولمَّا أعلمَ الله المسيحَ أنه خارجٌ من الدنيا، جمعَ الحواريين تلكَ الليلةَ، وأوصاهم، ثم قال: ليكفرَنَّ بي أحدُكم قبلَ أن يصيحَ الديكُ، ويبيعُني بدراهمَ يسيرةٍ، وكان اليهودُ قد جَدُّوا في طلبه، فحضرَ بعضُ الحواريين إلى الحاكمِ على اليهود، واسمُه فيلاطوس، ولقبه هرودوس إلى جماعةٍ من اليهود، وقال: ما تجعلونَ لي إذا دَلَلْتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثينَ درهمًا، فأخذها، ودلَّهم عليه، فرفعَ اللهُ المسيحَ إليه، وألقى شبهَهُ على الذي دَلَّهم عليه، فإنَّ اليهودَ لما قصدوه أظلمت الدنيا حتى صارَتْ كالليل، وأظلمتِ الشمسُ، وظهرتِ النجوم (¬2) الكواكبُ، وانشقَّتِ الصخورُ، فلذلك لم يحققوا المشبهَ من شدةِ الظلمة، وحصولِ الإرجافِ، فقتلوه وصلبوه على الخشب، وهم يظنون أنه عيسى، وأنزل اللهُ المسيحَ منَ السماءِ إلى أمه مريمَ وهي تبكي عليه، فقال لها: إن الله رفَعني إليه، ولم يُصبني إلا الخيرُ، وأمرَها فجمعَتْ له الحواريين، فَبَثَّهُمْ في الأرض دُعاة، ¬

_ (¬1) "أي" زيادة من "ن". (¬2) "النجوم" زيادة من "ن".

ثم رَفَعه إليه، وتلكَ الليلةُ التي تدخِّنُ فيها النصارى. وتفرَّقَ الحواريون حيثُ أمرهم، وكسا اللهُ عيسى الريشَ، وألبسَهُ النورَ، وقطعَ عنه لذةَ المطعمِ والمشربِ، وطارَ مع الملائكة، فهو معهم حولَ العرش. وكان رفعُ المسيحِ ليلةَ القدرِ من شهرِ رمضانَ بعدَ نبوته بثلاثِ سنينَ؛ فإنه (¬1) نُبِّيَ على رأس ثلاثينَ سنةً، ورفعهُ الله إليه وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً، وكان رفعُه لمضيِّ ثلاثِ مئةٍ وستٍّ وثلاثينَ سنةً من غلبةِ الإسكندرِ اليونانيِّ على أرضِ بابلَ، وبينَ رفعِهِ ومولدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خمسُ مئةٍ وخمسٌ وأربعون سنةً، فيكونُ بينَ رفعِه والهجرةِ الشريفةِ النبويةِ المحمديةِ خمسُ مئةٍ وثمانٍ وتسعون سنةً. أما أمُّه مريمُ عليها السلام فإنها عاشَتْ نحو ثلاثٍ وخمسين سنةً؛ لأنها حملَتْ به لما صار لها من العمر ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً، وولدته ببيتِ لحم من أرضِ بيتِ المقدسِ، وعاشتْ مجتمعةً معهُ ثلاثًا وثلاثين سنةً وكسرًا، وبقيت بعدَ رفعِه ستَّ سنينَ، وللمؤرخين في ذلك خلاف، والله أعلم. وكان رفعهُ من طور زيتا جبلٍ شرقيَّ بيتِ المقدس. وروي أنه دعا وقتَ رفعِه اللهَ بهذا الدعاءِ، وهو دعاء مُستجابٌ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ القَرِيبُ في عُلُوِّكَ، المتُعَالي في دُنُوِّكَ، الرَّفِيعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ أَنْتَ الَّذِي نَفَذَ بَصَرُكَ في خَلْقِكَ، وحُسِرَتِ الأَبْصارُ دُونَ النَّظَرِ إِلَيْكَ، وغُشِّيَتْ دُونَكَ، وسَبَّحَ لَكَ الفَلَقُ في النُّورِ (¬2)، أَنْتَ الَّذِي جَلَيْتَ الظُّلَمَ ¬

_ (¬1) في "ت": "وأنه". (¬2) "في النور" سقطت من "ت".

بِنُورِكَ، فَتبَارَكْتَ اللَّهُمَّ أَنْتَ خَالِقُ الخَلْقِ بِقُدْرَتكَ، مُقَدِّرُ الأُمُورِ بِحِكْمَتِكَ، مُبْدِعُ الخَلْقِ بِعَظَمَتِكَ، القَاضِي في كُلِّ شَيْءٍ بِعِلْمِكَ، الَّذِي خَلَقْتَ سَبْعًا في الهَواءِ بِكَلِمَاتِكَ مُسْتَوِياتِ الطِّباقِ، مُذْعِنَاتٍ لِطَاعَتِكَ، سَمَا بِهِنَّ العُلُوُّ بِسُلْطَانِكَ، فَأَجَبْنَ وَهُنَّ دُخَانٌ مِنْ خَوْفِكَ، فَأَتَيْنَ طائِعينَ بأَمْرِكَ، فِيهِنَّ المَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَكَ ويُقَدِّسُونَكَ، وجَعَلْتَ فِيهِنَّ نُورًا يَجْلُو الظَّلاَمَ، وضِيَاءً أَضْوَأَ مِنَ الشَّمْسِ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ مَصابِيحَ نَهْتَدِي بِهَا في ظُلُمَاتِ البَرِّ والبَحْرِ ورُجُومًا للشَّياطِينِ، فَتبَارَكْتَ اللَّهُمَّ في مَفْطُورِ سَمَاواتِكَ، وفيما دَحَوْتَ مِنَ الأَرْضِ، ودَحَوْتَها عَلَى الماءِ، فَأَذْلَلْتَ لهَا الماءَ الطَّاهِرَ، فَذَلَّ لِطَاعَتِكَ، وأَذْعَنَ لِأمْرِكَ، وخَضَعَ لِقُوَّتِكَ أَمْوَاجُ البِحَارِ، فَفَجَّرْتَ فِيهَا بَعْدَ البِحارِ الأَنْهارَ وبعدَ الأَنْهارِ العُيُونَ الغِزَارَ واليَنِابيعَ، ثم أَخْرَجْتَ مِنْها الأشجارَ بالثِّمارِ، ثم جَعَلْتَ على ظَهْرِها الجبالَ أَوْتادًا، فَأَطاعَتْكَ أَطْوَادُهَا، فَتبَارَكَت اللَّهُمَّ صفاتُك، ومَنْ يَبْلُغُ صِفَةَ قُدْرتكَ، ومَنْ يَنْعَتُ نَعْتَكَ؟ تُنَزِّلُ الغَيْثَ، وتُنْشِئُ السَّحابَ، وتَفُكُّ الرِّقابَ، وتَقْضي الحَقَّ وأَنْتَ خَيْرُ الفاصِلِينَ، لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، إِنَّما يَخْشَاكَ مِنْ عِبادِكَ العُلَماءُ، وأَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ بِإِلَهٍ اسْتَحْدَثناكَ، وَلا رَبَّ لَنا سِواكَ نَذْكُرُهُ، ولا كانَ لَكَ شُرَكاءُ يَقْضُونَ مَعَكَ نَدْعُوهُمْ وَنَدَعُكَ، ولا أَعَانَكَ أَحَدٌ عَلَى خَلْقِكَ فَنَشُكَّ فِيكَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، وَلَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا، اجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا"، فلما تمَّ دعاؤه، رفعَهُ الله إليه (¬1). ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (47/ 473 - 474)، عن وهب بن منبه.

[55]

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}. [55] {إِذْ قَالَ اللَّهُ} ظرفٌ لـ (مَكَرَ الله). {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: مُنِيمُكَ، من: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60]، وكان عيسى قد نامَ، فرفعَهُ اللهُ نائِمًا إلى السماء. {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} إلى سمائي، ومَقَرِّ ملائكتي، قال جماعة: في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ، معناه: إني رافعُك إليَّ. {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ومتوفِّيكَ بعدَ إنزالِكَ من السماء، وقيل: بل توفاه اللهُ ثلاثَ ساعاتٍ من النهار، ثم رفَعَهُ إليه. {وَمُطَهِّرُكَ} مُنَجِّيك. {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مُخْرِجُكَ من بينِهم. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} هُمْ أهلُ الإسلامِ الذين صدَّقوه واتّبَعوا دينَه في التوحيدِ من أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فهم {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ظاهرينَ عليهم يغلبونهم بالسيفِ والبرهان {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لأنه لا شريعةَ بعدَ شريعةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} في الآخرةِ. {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا منَ الدينِ، وأمرِ عيسى عليه السلام.

[56]

{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)}. [56] {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} بالقتلِ والسبيِ والجزيةِ. {وَالْآخِرَةِ} بالنارِ {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}. [57] {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: جزاءَ أجورهم؛ لأنهم عملوا خيرًا، فأعطاهم الجنةَ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (فَيُوَفِّيهِمْ) بالياء، والباقون: بالنون (¬1). {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} لا يرحمُ الكافرين، ولا يُثني عليهم بالجميل. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 338)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 164)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 296)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 110)، و"الكشف" لمكي (1/ 345)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"تفسير البغوي" (1/ 361)، و"التيسير" للداني (ص 880)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 240)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 175)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 38)، ولم يُذكر "يعقوب" في مطبوعة "تفسير البغوي"، وذكرت القراءة عنه في باقي المصادر: "فنوفيهم" بالنون.

[58]

{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}. [58] {ذَلِكَ} أي: هذا الذي ذكرتُه لكَ من خبرِ عيسى ومريمَ والحواريينَ. {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} نخبرُكَ بهِ بتلاوةِ جبريلِ عليه السلام. {مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} القرآنِ المحكَمِ الممنوعِ من كُلِّ خَلَلٍ. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}. [59] {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} في كونِه خَلْقًا من غيرِ أبٍ. {كَمَثَلِ آدَمَ} في كونِه خَلْقًا من غيرِ أبٍ وأُمٍّ، وتم الكلامُ على قوله: {آدَمَ} ثم قال: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} قَدَّرَهُ جَسَدًا من طينٍ. نزلَتْ لما قالَ وفدُ نجرانَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: تشتمُ صاحِبَنا تقولُ إنَّه عبدٌ؟! قالَ: "أَجَلْ إنَّهُ عَبْدُ اللهِ ورَسُولُه" قالوا: هل رأيتَ وَلَدًا من غيرِ أبٍ؟! فنزلَتِ الآيةُ (¬1)، فَشُبِّهَ عيسى بآدمَ من حيثُ إن آدمَ خُلقَ بغيرِ أبٍ ولا أمٍّ، وهذا من تشبيهِ الغريبِ بالأغربِ؛ لأن خلقَ آدمَ أغربُ من خَلْق عيسى؛ ليكونَ أقطعَ للخَصْم، وأوقَعَ في النفس، والمعنى: خلقَ قالَبَهُ من التراب (¬2). {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يعني: فكان؛ أي: أنشأه بشرًا؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 55). (¬2) في "ت": "بالتراب"، وفي "ن": "على التراب".

[60]

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}. [60] {الْحَقُّ} أي: هو الحقُّ. {مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: الشاكِّينَ، الخطابُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ منه غيرُه. {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}. [61] {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} أي: جادَلَكَ من النصارى في عيسى. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي: الدلالات الموجبةِ للعلم. {فَقُلْ تَعَالَوْا} هَلُمُّوا. {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا} حَسَنًا وحُسَيْنًا {وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا} فاطمةَ. {وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا} النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعليًّا رضي الله عنه. {وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نتضرَّعْ في الدعاء. {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ} تلخيصُه: لنجتمعْ نحن وأنتم جميعًا، ثم نتضرَّعْ في اللعنِ والدعاء. {عَلَى الْكَاذِبِينَ} منَّا ومنكم في شأنِ عيسى، فلما قرأها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على وفدِ نجرانَ، قالوا: حتى ننظرَ في أمرنا، ونأتيكَ غدًا، فقالَ عبدُ المسيحِ منهم، وكان ذا رأيِهم: لقد عرفتُمْ أن محمدًا نبيٌّ حَقٌّ، وأنه واللهِ ما لاعَنَ قومٌ قَطُّ نبيَّهُم فعاشَ كبيرُهُم، ولا نبتَ صغيرُهم، فوادِعُوا الرجلَ،

[62]

وانصرِفوا إلى بلادِكم، فأَتَوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من الغدِ، وقد غدا محتَضِنًا الحسنَ (¬1)، آخِذًا بيدِ الحسينِ (¬2)، وفاطمةُ خلفَهُ، وعليٌّ خلفَها، ويقولُ لهم: "إِذَا دَعَوْت فَأَمِّنُوا"، فقالَ أسقفُ نجرانَ: يا معشرَ النصارى! إني لأرى وجوهًا لو سألوا اللهَ أن يزيلَ جبلًا عن مكانِهِ لأزاله، فلا تَبْتَهِلوا فَتَهْلِكوا ولا يَبْقى على وجهِ الأرض نصرانيٍّ، فأَبَوا المباهلةَ، فصالَحَهم - صلى الله عليه وسلم - على مالٍ يؤدُّونه إليه في كلِّ عامٍ، وهو ألفا حُلَّةٍ، ألفٌ في صَفَرٍ، وألفٌ في رَجَبٍ، وانصرَفوا إلى بلادِهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ! إِنَّ العَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، وَلَوْ لاعَنُوا، لَمُسِخُوا قِرَدَةً وخَنازِيرَ، ولاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الوَادِي نارًا، ولاسْتَأْصَلَ اللهُ نَجْرَانَ، حَتَى الطَّيْرَ عَلَى رُؤُوسِ الشَّجَرِ، وَلَمَا حَالَ الحَوْلُ عَلَى النَّصَارَى كُلِّهِمْ حَتَّى هَلَكُوا" (¬3)، وأما رَسْمُ (لعنت) هنا، وفي النور، فإنه بالتاء، وقفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}. [62] {إِنَّ هَذَا} أي: المذكورَ من خبرِ عيسى. {لَهُوَ الْقَصَصُ} أي: الخبرُ. ¬

_ (¬1) في "ش" "الحسين". (¬2) في "ش": "الحسن". (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 55)، و"تفسير البغوي" (1/ 362 - 363)، و"العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (2/ 682).

[63]

{الْحَقُّ} الذي لا شَكَّ فيه. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ} (من) زائدة؛ أي: وما إلهٌ. {إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لا أحدَ يُساويه في القدرةِ والحِكمة. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}. [63] {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: أعرضوا عن الإيمان. {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} الذينَ يعبدونَ غيرَ الله. {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}. [64] ولما قدمَ وفدُ نجرانَ المدينةَ، والتَقوْا معَ اليهودِ، اختصموا في إبراهيمَ عليه السلام، فزعمتِ النصارى أنه كانَ نصرانيًّا، وهم على دينه، وقالت اليهودُ: بل كانَ يهوديًّا، ونحن على دينه، فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كِلاَ الفَرِيقَيْنِ مِنْهُ بَرِيءٌ، بَلْ كَان حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَأَنا عَلَى دِيِنهِ" فنزل: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} (¬1) هم أهلُ الكتابَيْنِ. {تَعَالَوْا} هَلُمُّوا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 363)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 687).

[65]

{إِلَى كَلِمَةٍ} العربُ تسمِّي كلَّ قصةٍ لها شرحٌ: كلمةً، ومنه سُمِّيتِ القصيدةُ كلمةً {سَوَاءٍ} عدلٍ. {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} المعنى: هَلُمُّوا إلى كلمةٍ يستوي طرفاها، تنصفُ بيننا وبينكم، ليعطي كُلٌّ النَّصَفَةَ من نفِسه، وهي: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: لا نسجدُ لغيرِ الله. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن التوحيد. {فَقُولُوا} أنتم لهم: {اشْهَدُوا} أي: اعلموا {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)}. [65] {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} تزعُمون أنه على دينِكم، وقد حدثَتِ اليهوديةُ بعدَ نزولِ التوراة، والنصرانيةُ بعدَ نزولِ الإنجيل. {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} لأن بين إبراهيمَ وموسى ألفَ سنةٍ، وبين موسى وعيسى ألفي سنةٍ، قاله البغويُّ وغيرُه، وبين المؤرخين في ذلك خلافٌ. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بطلانَ ما تقولون؟!

[66]

{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)}. [66] {هَاأَنْتُمْ}. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ونافعٌ: بتسهيل الهمزة بينَ بينَ، وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: بتحقيقِ الهمزةِ بعدَ الألف (¬1)، وروي عن وَرْشٍ (هآنْتُمْ) مَدًّا بلا همزةٍ، وعنهُ وجهٌ ثانٍ: (هَأَنْتُمْ) بهمزةٍ مقصورةٍ بين الهاء والنون، مثل سألتم (¬2)، وروي عن قنبلٍ كالوجه الثاني عن ورشٍ، أصلها: (أأنتم) قلبت الهمزةُ الأولى هاءً؛ كقولهم: هَرَقْتَ وأَرَقْتَ (¬3). {هَؤُلَاءِ} أصلهُ: أُولاء، دخلتْ عليه هاءُ التنبيه، وهو في موضعِ النداء، يعني: يا هؤلاء! أنتم. {حَاجَجْتُمْ} جادَلْتم. {فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي: فيما علمتموه من التوراة والإنجيل من أمرِ موسى وعيسى. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 165)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 207)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 110)، و"الكشف" لمكي (1/ 346 - 347)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"تفسير البغوي" (1/ 365)، و"التيسير" للداني (ص: 88)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 39 - 40). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 176)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 485)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 40). (¬3) انظر: مصادر التعليق رقم (1).

[67]

{فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} من أمرِ إبراهيمَ، وليسَ (¬1) في كتابكم ذكرُهُ؛ لأنه قبلَكم؟ أي: أنتم تجادلون فيما علمتُمْ وفيما لم تعلموه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وأنتم جاهلون به. {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}. [67] ثم بَرَّأَ تعالى إبراهيمَ فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا} أي: مائلًا عن الأديان كلِّها إلى الدينِ المستقيمِ. {مُسْلِمًا} ثم وَبَّخَهُم مؤكِّدًا براءته فقال: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}. [68] ثم أومأَ إلى بُعدِهم عنه فقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ} أي: أقربَهم وأحقَّهم. {بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} في زمانِه وبعدَه. {وَهَذَا النَّبِيُّ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} من هذهِ الأمةِ. {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ينصرُهم. ¬

_ (¬1) "وليس" ساقطة من "ت".

[69]

{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)}. [69] ونزلَ في معاذِ بنِ جَبَلٍ وحُذيفةَ بنِ اليمَانِ وعَمَّارِ بنِ ياسرٍ حينَ دعاهُمُ اليهودُ إلى دينِهم: {وَدَّتْ} (¬1) تمنَّتْ. {طَائِفَةٌ} جماعةٌ. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني: اليهود. {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} عن دينكم. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أي: وما يضلُّون إلا أمثالهم. {وَمَا يَشْعُرُونَ} بذلك. {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)}. [70] {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} يعني: القرآنَ، وبيانَ نعتِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أنَّ نعتَه في التوراة والإنجيل. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص:58). وقد مضت القصة في سورة البقرة.

[71]

{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}. [71] {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ} تَخْلِطون. {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} الإسلامَ باليهوديةِ والنصرانيةِ. {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي: نعتَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حقّ؟! {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}. [72] {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} فيما بينهم، وهم اليهود. {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} هو القرآنُ. {وَجْهَ النَّهَارِ} أولَهُ. {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ} أي: لعلَّ المسلمين يقولون: ما رجعَ هؤلاءِ عن الإسلام وهمْ أهلُ علمٍ ودرايةٍ إلا أنهم علموا بُطلانه، فيشكُّون فيه، ثم {يَرْجِعُونَ} عنه بعدَما دخلوا فيه. {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)}. [73] {وَلَا تُؤْمِنُوا} هذا متَّصِلٌ بالأول؛ أي: وقالت: لا تؤمنوا.

[74]

{إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} أي: وافقَ ملَّتكم. {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} يهدي من يشاءُ إلى الإيمان. {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} قرأ ابنُ كثيرٍ (أاَنْ يُؤْتى) بهمزتين على الاستفهام، والثانية منهما مسهَّلة (¬1)؛ أي: ولا تصدِّقوا بأن يؤتى أحدٌ. {مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} إلَّا من تبعَ دينَكم. {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} عطفٌ على {يُؤْتَى} أي: يومَ القيامة تكونُ لهم الحجةُ عليكم، والغلبةُ. تلخيصُه: ما يؤتون مثلَه، ولا يحاجونكم، والكلامُ (¬2) كلُّه من قولِ الطائفةِ لأتباعهم، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} اعتراضٌ بين الكلامين. {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ} الهدايةَ والتوفيقَ. {بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ} غنيٌّ. {عَلِيمٌ} بالنيَّاتِ. {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}. [74] {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أي: بنبوَّتهِ. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 165)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 207)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 110 - 111)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 178)، و"تفسير البغوي" (1/ 369)، و"التيسير" للداني (ص: 89)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 176)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 43). (¬2) "الكلام" ساقطة من "ش".

[75]

{مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} رَدٌّ لما زعموا من أن نبوةَ موسى مؤبّدَةٌ، ولن يؤتيَ اللهُ أحدًا مثلَ ما آتى بني إسرائيلَ من النبوَّة والشرفِ. {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}. [75] {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} هو المالُ الكثيرُ. {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} هو عبدُ اللهِ بنُ سلام، استودَعَهُ (¬1) رجلٌ ألفًا ومئتي أوقيةٍ ذهبًا، فأداه إليه. {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} هو القليل. {لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} هو كعبُ بنُ الأشرفِ (¬2)، وقيل: فنحاص بن عازوراء، استودعه قرشيٌّ دينارًا، فلم يردَّه إليه، وجحده. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، وأبو بكر: (يُؤَدِّهْ) (لا يُؤَدِّهْ) بإسكانِ الهاء، وكذلك (نُؤْتهِ) و (نُوَلِّهْ) و (نُصْلِهْ)، واختلِفَ عن أبي جعفرٍ، وهشامٍ، وقرأ يعقوبُ، وقالونُ، وأبو جعفرٍ بخلافٍ عنه: بالاختلاس كسرًا، والباقون: بالإشباع كسرًا، فمن سكَّن الهاء، قال: لأنها وضُعت في موضعِ الجزمِ، وهو الياء الذاهب، ومن اختلسَ، اكتفى بالكسر عن الياء، ومن أشبعَ، فعلى الأصل؛ لأن الأصلَ في الهاء الإشباعُ. ¬

_ (¬1) في "ت": "استوعده". (¬2) انظر "العجاب في بيان الأسباب" لابن حجر (2/ 695).

[76]

{إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} مُلِحًّا في المطالبة. {ذَلِكَ} أي: تركُهم أداءَ الحقِّ. {بِأَنَّهُمْ} أي: بسببِ أنهم. {قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ} أي: العرب. {سَبِيلٌ} أي: إثم؛ لأن اليهود كانوا يستحلُّون أموالَ العرب ومن خالفَ دينَهم. {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} لادعائهم أن ذلك في كتابهم. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بكذبهم. {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}. [76] {بَلَى} إثباتٌ لما نَفَوْهُ من السبيل عليهم في الأميين؛ أي: بلى عليهم سبيلٌ، وتَمَّ الوقفُ هنا. {مَنْ} شرطٌ مبتدأٌ، خبرهُ: {أَوْفَى بِعَهْدِهِ} أي: بعهد الله الذي عُهِدَ إليه في التوراة من الإيمانِ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأداءِ الأمانة. {وَاتَّقَى} الشركَ والخيانة، وجوابُ الشرطِ. {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنهن كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النفاق حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (34)، كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق، ومسلم (58)، =

[77]

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}. [77] {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} يستبدِلون. {بِعَهْدِ اللَّهِ} إليهم في أداءِ الأمانة. {وَأَيْمَانِهِمْ} الكاذبةِ. {ثَمَنًا قَلِيلًا} من حُطامِ الدنيا، قيل: نزلتْ لما بدَّلَ اليهودُ نعتَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعَهْدَ اللهِ الذي عهدَه إليهم في التوراة، وكتبوا غيرهما (¬1)، وقيل: أرادَ بعضُ الصحابةِ أخذَ مالٍ بيمينٍ كاذبةٍ، أو باع رجلٌ سلعةً في السوق، فحلفَ بالله لقد (¬2) أُعْطِيَ ما لم يُعْطَ ليوقعَ فيها مسلمًا، فنزلَتْ (¬3). {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ} لا نصيبَ. {لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ونعيمِها. {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} غَضبًا عليهم. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} لا يطهِّرُهم من الذنوب. ¬

_ = كتاب: الإيمان، باب، بيان خصال المنافق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 60). (¬2) في "ن": "لو". (¬3) رواه البخاري (1982)، كتاب: البيوع، باب: ما يكره من الحلف في البيع، عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-.

[78]

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على فعلِهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ، فَاقْتَطَعَ المَالَ، وَرَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا بَعْد صَلاةِ العَصْرِ أَنَّهُ أُعْطِيَ في سِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ، وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ" (¬1). {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}. [78] {وَإِنَّ مِنْهُمْ} أي: اليهودِ. {لَفَرِيقًا} أي: طائفةً، منهم: كعبُ بنُ الأشرفِ، وحُيَيُّ بنُ أخطبَ، ومالكُ بنُ الصَّيْفِ، وغيرهم. {يَلْوُونَ} أي: يعطِفُون. {أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} والمرادُ: تحريفُهم، كآيةِ الرجمِ، وصفةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وغيرِهما {لِتَحْسَبُوهُ} أي: لتظنوا ما حَرَّفوا. {مِنَ الْكِتَابِ} الذي أنزل الله. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7008)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، ومسلم (108)، كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف .. ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[79]

{وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} المنزل. {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ثم نَفَى ذلكَ، فقال: {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ثم أكَّدَ كذبَهم بقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون، وعنِ ابنِ عباس: "إنَّ الآيةَ نزلَتْ في اليهودِ والنصارى جميعًا، وذلك أنهم حَرَّفوا التوراةَ والإنجيلَ، وألحقوا بكتابِ اللهِ ما ليسَ منه" (¬1). {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}. [79] {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} يعني: القرآنَ. {وَالْحُكْمَ} الفهمَ والعلمَ. {وَالنُّبُوَّةَ} المنزلَةَ الرفيعةَ (¬2) بالإنباء (¬3). {ثُمَّ يَقُولَ} نَصْبًا عطفًا على {يُؤْتِيَهُ}. {لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} نزلَتْ لما قال أبو رافعٍ القُرَظِيُّ من اليهود، والرئيسُ من نصارى أهل نجرانَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا محمدُ! تريدُ أن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 374). (¬2) في"ن": "المرتفعة". (¬3) في "ت" و"ن": "بالأنبياء".

[80]

نعبدَكَ ونَتَّخِذَكَ رَبًّا، فقال: "مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ، ومَا بِذَلِكَ أَمَرَني"، فأنزل الله الآية (¬1)، والبشرُ: جميع بني آدم. {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} علماءَ بالله فقهاءَ. {بِمَا كُنْتُمْ} أي: بما أنتم؛ كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]؛ أي: مَنْ هو في المهدِ. {تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصِمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تُعَلِّمُونَ) بضمِّ التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة؛ أي: تعلِّمون غيرَكم، وقرأ الباقون: بالتخفيفِ مع فتح التاء واللام وإسكان العين، من العلم؛ لقوله: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} تقرؤون (¬2). {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}. [80] {وَلَا يَأْمُرَكُمْ} قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 60)، و"تفسير البغوي" (1/ 374)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 191). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 346)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 167)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 213)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 112)، و"الكشف" لمكي (1/ 351)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (1/ 376)، و"التيسير" للداني (ص: 89)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 240)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 177)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 46).

بنصب الراء عطفًا على قوله: {أَنْ يُؤْتِيَهُ} والمعنى: ولا له أن يأمرَكم، وقرأ الباقون: بالرفع على الاستئناف (¬1)، وأبو عمرٍو على أصلِه في إسكان الراء واختلاِسها على اختلاف (¬2) الرواية عنه (¬3)، معناه: ولا يأمرَكم الله. {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ} كقريشٍ والصابئين حينَ قالوا: الملائكةُ بناتُ الله. {وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} كاليهود والنصارى، وقولهم في العُزير والمسيح. المعنى: ما ينبغي لمن أُعطي النبوَّةَ أن يأمرَ بعبادةِ غيرِ الله، بل يأمرُهم بمعرفتِهِ ومعرفةِ أحكامِه وعبادتِه. {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} تعجُّبٌ وإنكارٌ بمعنى: لا يقولُ هذا. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 347)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 168)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 213)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 111)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (1/ 376)، و"التيسير" للداني (ص: 89)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 240)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 1771)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 47). (¬2) في "ت": "الاختلاف". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 213)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 179)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 177)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 47).

[81]

{وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. [81] {وَإِذْ} أي: واذكُرْ يا محمدُ حين. {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} وأُمَمِهم بما تقدَّمَ، وبما يأتي. {لَمَا آتَيْتُكُمْ} قرأ حمزةُ: (لِمَا) بكسر اللام للجرِّ، وهي متعلقة بأخذ؛ أي: أخذنا الميثاق لذلك فتكون (ما) بمعنى الذي، وقرأ الباقون: بفتحها (¬1)، فتكون (ما) بمعنى الذي، واللام للابتداء، ودخلتْ لتؤكِّدَ معنى القسم؛ لأن أخذَ الميثاق قسمٌ في المعنى، والعائد محذوف؛ أي: الذي آتيتكموهُ، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (آتينَاكُمْ) بالنون على التعظيم، وقرأ الباقون: بالتاء؛ لموافقة الخط، ولقوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ}، وخبر المبتدأ {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، ثم عطف على (آتيتكم): {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} من العلم، وجوابُ القسم. {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} أي: بالرسولِ. {وَلَتَنْصُرُنَّهُ} عطفٌ على (الرسول)، والمرادُ: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، والذين ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 168)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 213 - 214)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 111)، و"الكشف" لمكي (1/ 351 - 352)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (1/ 376)، و"التيسير" للداني (ص: 89)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (241)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 177)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 48 - 49).

أُخذ عليهم الميثاق النبيون عليهم السلام. المعنى: أُخذ الميثاقُ على من تقدَّمَكَ يا محمدُ أن يؤمنوا بكَ، وإن أدركوك، نصروك. {قَالَ} الله تعالى للأنبياء حين استخرجَ الذريَّةَ من صُلْبِ آدَم عليه السلام والأنبياءُ فيه كالمصابيح والسُّرُجِ، وأخذَ عليهم الميثاقَ في أمرِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: {أَأَقْرَرْتُمْ} بذلك؟ وتقدَّم التنبيهُ على اختلاف القراء في الهمزتين من كلمةٍ عند قوله تعالى: {ءَأَسْلَمْتُمْ} وكذلك اختلافهم في قوله: {أَأَقْرَرْتُمْ}. {وَأَخَذْتُمْ} أي: قبلتم. قرأ ابنُ كثيرٍ وحفصٌ ورويسٌ (وَأَخَذْتُمْ) بإظهار الذال عندَ التاء، والباقون: بالإدغام (¬1). {عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} عَهْدي. {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ} اللهُ تعالى: {فَاشْهَدُوا} على أنفسِكم وأتباعِكم. {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} عليكُم وعليهِم. قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنه-: "لم يبعَثِ الله نبيًّا من لَدُنْ آدمَ فَمَنْ بعدَهُ إلا أُخِذَ عليه العهدُ في محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: لَئِنْ بُعِثَ وهو حَيٌّ، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّهُ، ويأخذ العهدَ بذلكَ على قومِه" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 180)، و "معجم القراءات القرآنية" (2/ 50). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (3/ 332).

[82]

{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}. [82] {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} الإقرارِ. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} العاصونَ الخارجونَ عن الإيمان. {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. [83] اختلف أهلُ الكتابَيْن، فادعى كلُّ واحد أنه على دين إبراهيم، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "كِلاَ الفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنَ دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ"، فغضبوا، وقالوا: لا نرضى بقضائِكَ، ولا نأخذُ بدينِك، فأنزل الله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (¬1) دخلتِ الهمزةُ على الفاء العاطفة على محذوفٍ تقديرُه: أيتولَّونَ فغيرَ دين الله يبغون. قرأ أبو عمرٍو، وحفصٌ عن عاصمٍ، ويعقوبُ (يَبْغُونَ) بالغيب؛ لقوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقرأ الباقون: بالخطاب؛ لقوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ} (¬2). {وَلَهُ أَسْلَمَ} خضعَ وانقادَ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 61)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 921). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 170)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 214)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 112)، و"الكشف" لمكي (1/ 353)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 180)، و"تفسير البغوي" (1/ 377)، و"التيسير" للداني (ص: 89)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 241)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 177)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 51).

[84]

{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا} بسهولةٍ (¬1). {وَكَرْهًا} بمشقة، فأهلُ السمواتِ يسجدون طَوْعًا، وأهلُ الأرض يسجدُ بعضهم طَوْعًا، وبعضُهم كَرْهًا؛ كالمنافقين. {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} قرأ حفصٌ، ويعقوبُ: بالغيب، فحفصٌ: بضمِّ الياء ونصبِ الجيم، ويعقوبُ على أصلِه في فتح الياءِ وكسر الجيم، والباقون: بالخطاب مع ضمِّ الياء ونصب الجيم (¬2). {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}. [84] {قُلْ} الخطابُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {آمَنَّا} أي: أنا والمؤمنون. {بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مُنْقادونَ، ذكرَ المللَ والأديانَ، واضطرابَ الناسِ فيها، ثم أمرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقولَ: {آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ن": "سهولة". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 378)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 516)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 177)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 52). وانظر تتمة المصادر في التعليق السابق.

[85]

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}. [85] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ} أي: التوحيدِ. {دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} نزلتْ في جماعة ارتدُّوا عن الإسلام، وخرجوا من المدينة إلى مكةَ كفارًا، منهم الحارثُ بنُ سُويدٍ الأنصاريُّ. {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} هذه الآية قطعتْ عمل كلَّ عاملٍ على غيرِ ملَّة الإسلام. {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}. [86] {كَيْفَ} استفهامُ إنكار. {يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} أي: كيف يهديهم بعدَ اجتماعِ الأمرين. {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} على صدقِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} بوضعِ الكفرِ موضعَ الإيمان، فكيفَ بمَنْ عرفَ الحقَّ ثم أعرضَ (¬1) عنه؟ ¬

_ (¬1) في "ن": "عرض".

[87]

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)}. [87] {أُولَئِكَ} مبتدأ. {جَزَاؤُهُمْ} مبتدأ ثانٍ، خبرُه: {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} أي: عذابَه. {وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} والمرادُ بالناسِ: المؤمنون. {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)}. [88] {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: في اللعنة. {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: يؤخَّرون، ولا راحة إلا في التخفيف أو التأخير، فهما مرتفعان عنهم. {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}. [89] وكان الحارثُ بنُ سويد لما لحقَ بالكفار، ندمَ، فأرسل إلى قومه أن اسألوا رسولَ الله هل لي من توبة؟ ففعلوا ذلك، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لما كان منهم، فحملها إليه رجلٌ من قومه، وقرأها عليه، فقال (¬1) الحارث: "واللهِ ما علمتُكَ إلا صَدوقًا، وإنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأصدقُ منكَ، وإنَّ اللهَ لأصدقُ ¬

_ (¬1) "فقال" ساقطة من "ت".

[90]

الثلاثة"، فرجع الحارثُ إلى المدينة، وأسلم وحسن إسلامُه (¬1). {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}. [90] ونزلَ في اليهود: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بعيسى. {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} بموسى. {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إذا وقعوا في الحشرجَةِ؛ أي: النَّزْعِ. {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} الثابتون على الضلالِ. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}. [91] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ} قرأ ورشٌ عن نافعٍ، وأبو جعفرٍ، (مِلْءُ الأَرْضِ) بالنقل (¬2)؛ أي: ما يملؤها من شرقِها إلى غربها. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (3/ 340)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 61)، و"تفسير البغوي" (1/ 379)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 708). (¬2) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 250)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 187)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 53).

[92]

{ذَهَبًا} نصب على التمييز. {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} المعنى: لن يُقبل من أَحدهم فديةٌ، ولو افتدى بملءِ الأرضِ ذهبًا. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} في رفع العذاب، قال - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ اللهُ لِأقَلِّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَلَّا تشرِكْ بِي، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تشرِكَ" (¬1). {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}. [92] {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الجنَّةَ. {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} أي: من أحبِّ أموالِكم إليكُم. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} يعلمُه ويُجازي عليه. {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3156)، كتاب: الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، ومسلم (2805)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[93]

[93] {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا} أي: حَلالًا. {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} نزلتْ لما قالَ اليهودُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: تزعُم أنك على ملةِ إبراهيمَ، وأنت تأكلُ لحومَ الإِبِل، وتشربُ ألبانَها، وإبراهيمُ ما كانَ كذلكَ! فنزلَتِ الآية ردًّا عليهم، وتكذيبًا لهم (¬1). {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ} وهو يعقوبُ عليه السلام. {عَلَى نَفْسِهِ} وهو لحومُ الإبل وألبانُها؛ فإنهما كانا أحبَّ الطعام إليه، فنذرَ تحريمَهُما إن شفاهُ اللهُ من مرضٍ أصابَهُ، وهو عِرْق النسا، ولم يأكلْهُ ولدهُ اتبِّاعًا له. {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} المعنى: إن المحرَّمَ عليكم إنما حُرِّمَ بعدَ إبراهيمَ قبلَ نزولِ التوراة، فلمَّا أضافوا تحريمَه إلى الله، كذبهم الله، فقال عز وجل: {قُلْ} يا محمدُ: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} ليتبين صدقُكُم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تزعمونَ، فبُهِتوا، ولم يأتوا بها. {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}. [94] فقال الله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} بعد لزوم الحجَّةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 62)، و"تفسير البغوي" (1/ 382)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 716).

[95]

{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين لا يُنْصِفون. {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}. [95] {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} تعريضٌ بكذِبهم. {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} التي أنا عليها، وهي ملَّةُ الإسلام. {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} باللهِ. {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)}. [96] {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} أي: مسجدٍ. {وُضِعَ لِلنَّاسِ} سببُ نزولِها أن اليهودَ قالوا للمسلمين: بيتُ المقدسِ قبلَتُنا، وهو أفضلُ من الكعبةِ وأقدمُ، فأنزل الله الآية (¬1): {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} هي مكةَ، والباء والميم يتعاقبان، وسميت بَكَّة؛ لبكِّها؛ أي: دَقِّها أعناقَ الرجال، وسميت مكةَ؛ لقلة مائها؛ لقول العرب: مَكَّ الفَصيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ، وامْتكَّهُ: إذا امتصَّ كلَّ ما فيه من اللبنِ، وأهلُ مكة كانوا يمتكُّون الماءَ فيها؛ أي: يستخرجونه. {مُبَارَكًا} كثيرَ البركةِ. {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} لأنه قبلَتُهم. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 62)، و"تفسير البغوي" (1/ 384)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 717).

[97]

{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}. [97] {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ثم بَيَّنَ الآياتِ فقالَ: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} هو الحجرُ الذي يصلَّى خلفَه ركعتا الطواف، وهو الذي قام عليه إبراهيمُ وقتَ رفعهِ القواعدَ من البيت لما طالَ البناءُ، فكان كلما علا الجدارُ، ارتفعَ به الحجرُ في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه، وإسماعيلُ يناولُه الحجارةَ والطينَ حتى أكملَ الجدارَ، وكان أثرُ قدميه فيه، فاندرسَ من كثرة المسحِ بالأيدي، ومن تلك الآياتِ الحجرُ الأسودُ، والحطيمُ، وزمزمُ، والمشاعرُ كلُّها، ومنها أن الطيرَ يطيرُ فلا يعلو فوقَهُ، وقد شاهدتُ ذلك عيانًا. {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} من أن يُهاجَ فيه؛ لدعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35]، والضميرُ في قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ} عائدٌ على البيت في قولِ الجمهور، ويفهم من معناه أن من دخلَ الحرم، فهو في الأمن؛ لأنه جزءٌ من البيت إذ هو لسببه ولحرمته. واختلفَ الأئمةُ رضي الله عنهم في الجاني الملتجئ للحرم، فقال مالكٌ والشافعيُّ: يُقْتَصُّ منه في الحرم، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: إن جنى في الحرم، اقْتُصَّ منه، وإن جنى خارجَ الحرم، ثم لجأ إليه، لم يُقْتصَّ منه، لكن يُضَيَّقُ عليه بتركِ البيعِ والشراءِ حتى يخرجَ إلى الحِلِّ، فيقام حينئذ. وأما الكلام في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} فقد روى المحدِّثون عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال: قُلْتُ يا رسولَ الله! أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أَوَّلُ؟ قَالَ: "المَسْجِدُ الحرامُ"، قالَ: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قالَ:

"المسجِدَ الأَقْصى"، قلتُ: كَمْ بينَهما؟ قالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ؛ فَإِنَّ الفَضْل فيهِ" (¬1). وقد رُوي أن الملائكةَ بنوا المسجدَ الحرامَ قبلَ خلقِ آدمَ بألفي عامٍ، فكانوا يحجُّونه. قال الإمامُ أبو العباسِ القرطبيُّ: يجوزُ أن يكونَ بناهُ يعني: مسجدَ بيتِ المقدسِ الملائكةُ بعدَ بنائها البيتَ بإذنِ الله تعالى (¬2). وقد رُوي أن أولَ من بنى مسجدَ بيتِ المقدس وأُرِيَ موضعَه يعقوبُ بنُ إِسحاقَ بنِ إبراهيمَ عليهم السلام، روي أن أباه إسحاقَ أمرَه ألَّا ينكحَ امرأةً من الكنعانيين، وأمره أن ينكحَ من بناتِ خاله، وكان مسكنُ يعقوبَ بالقدس، فلما توجَّه إلى خاله لينكحَ ابنتَهُ، أدركه الليلُ في بعض الطريق، فبات متوسِّدًا حجرًا، فرأى فيما يرى النائمُ أن سُلَّمًا منصوبًا إلى بابٍ من أبوابِ السماء، والملائكةُ تعرُجُ فيه وتنزلُ، فأُوحى الله تعالى إليه: إني إلهكَ وإلهُ أبيكَ (¬3) إبراهيمَ، وقد وَرَّثتكَ هذه الأرضَ المقدسةَ لكَ ولذريَّتِكَ من بعدِك، وباركتُ فيكَ وفيهم، وجعلتُ لكم الكتابَ والحكمَ والنبوةَ، ثم أنا معكَ أحفظُك حتى أردَّكَ إلى هذا المكان، فاجعلْه بيتًا تعبدُني فيه أنتَ وذريتُكَ (¬4). وقد تأولَ بعضُ العلماءِ معنى الحديثِ الشريفِ الواردِ أن بناءَ المسجدِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3186)، كتاب: الأنبياء، باب: {يَزِفُّونَ}، ومسلم (520)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة. (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (4/ 138). (¬3) في جميع النسخ "آبائك"، والمثبت هو الصواب. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 384).

الأقصى كانَ بعدَ بناءِ المسجدِ الحرام بأربعين سنةً على أن المرادَ بناءُ يعقوبَ عليه السلام لمسجد بيتِ المقدسِ بعدَ بناءِ إبراهيمَ عليه السلام الكعبةَ الشريفةَ، والله أعلم. وأما بناءُ داودَ وسليمانَ عليهما السلام لمسجدِ بيتِ المقدس، فإنه بعدَ ذلك بأزمنةٍ متطاولةٍ على أساسٍ قديم، فهما مجدِّدان لا مؤسِّسان. {وَلِلَّهِ} فرضٌ واجب. {عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قرأ أبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (حِجُّ) بكسر الحاء، والباقون: بالفتح، وهي لغة أهل الحجاز، وهما لغتان فصيحتان معناهما واحد (¬1). والحجُّ أحدُ أركانِ الإسلام، قال - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحج، وصَوْمِ رَمَضَانَ" (¬2). {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} والاستطاعةُ: القدرةُ بالمالِ والبدنِ، فمن وجدَ الزادَ والراحلةَ ونفقَة العيال قدرَ الذهابِ والرجوع، مع التمكُّن، وجبَ ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 170)، و"الحجة" لابن خالوية (ص: 112)، و"الكشف" لمكي (1/ 353 - 354)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 180)، و"تفسير البغوي" (1/ 386)، و"التيسير" للداني (ص: 90)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 241)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 178)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 55). (¬2) رواه البخاري (8)، كتاب: الإيمان، باب: الإيمان وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس"، ومسلم (16)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

الحجُّ عليه بالاتفاق، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ يجبُ على الفَوْر، وعندَ الشافعيِّ ومالكٍ يجبُ على التراخي، وقيد مالكٌ بما إذا لم يخشَ الفوتَ، وعندَ مالك فقط يجبُ على الفقيرِ القادرِ على المشي، فلو تكلَّف غيرُ القادرِ فحجَّ، سقطَ عنه الفرض بالاتفاق، والمرأةُ كالرجلِ، واختلفوا في شرطٍ آخرَ في حَقِّها، وهو وجودُ المحرِم، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يُشترط، وهو زوجُها، أو من تحرُمُ عليه على التأبيد بنسبٍ أو سببٍ مُباحٍ؛ كرضاعٍ (¬1) ومصاهرة، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يُشترط إذا وجدَتْ رُفْقَةً مأمونين، قال مالكٌ: رجالٌ أو نساء، وقال الشافعي: نساءٌ ثِقاتٌ. {وَمَنْ كَفَرَ} جحدَ فرضَ الحجِّ. {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} في الحديث (¬2): "مَنْ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ فَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا" (¬3). ¬

_ (¬1) في "ت": "الرضاع". (¬2) "الحديث" ساقطة من "ت". (¬3) رواه الترمذي (812)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في التغليظ في ترك الحج، عن علي -رضي الله عنه-. وقال: حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف في الحديث. ورواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 72)، والروياني في "مسنده" (1246)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 334) وضعفه، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-. وفي الباب عن غيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم-، وانظر: "الدراية" لابن حجر (2/ 292).

[98]

{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)}. [98] {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} الدالَّةِ على صدقِ محمدٍ. {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} فتجازَوْنَ به؟! {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}. [99] {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن دينِ الإسلام. {مَنْ آمَنَ} بتغييركم صفةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليرتابوا، وذكرِكُم وقائعَ الجاهلية ليقتتلوا. {تَبْغُونَهَا} تطلُبونها. {عِوَجًا} ميلًا عن الاستقامة. {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} بما في التوراة من صدق محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيدٌ لهم. يسكتُ حمزةُ قبلَ الهمز إذا كانَ الساكنُ آخرَ كلمةٍ والهمزةُ أولَ كلمةٍ أخرى، نحو (مَنْ آمَنَ) و (قُلْ إِنَّني) وشبهِه حيثُ وقعَ، ويسهل بالنقل إذا وقفَ بخلافٍ عنه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 881)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 178)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 56).

[100]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}. [100] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الذين يريدون كفركم. {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} نزلتْ في نفرٍ من الأوس والخزرج، وكانوا جلوسًا يتحدثون، فمر بهم شاسُ بنُ قيسٍ اليهوديُّ، فغاظَه تألُّفُهُم واجتماعُهم بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فأمر شابًّا من اليهود أن يجلسَ إليهم، ويذكِّرهم يومَ بعاث، وينشدَهم بعضَ ما قيلَ فيه من الأشعار، وكان يومًا اقتتلتْ فيه الأوسُ والخزرج، وكان الظفرُ فيه للأوس، ففعلَ، فتنازعَ القومُ وتغاضبوا، وقالوا: السلاحَ السلاحَ، فبلغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إليهم فيمن معهُ من المهاجرينَ والأنصار، فقال: "أَتَدَّعُونَ الجاهِلِيَّةَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ أَكْرَمَكُمُ اللهُ بِالإِسْلامِ وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الجاهِلِيَّةِ وَأَلَّفَ بَيْنَكُمْ؟! " فعلموا أنها نزغةٌ من الشيطان، وكيدٌ من عدوِّهم فألقَوا السلاحَ، واستغفروا، وعانقَ بعضُهم بعضًا، وانصرفوا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فما كان (¬1) يومٌ أقبحَ أولًا وأحسنَ آخرًا من ذلكَ اليوم (¬2). ¬

_ (¬1) "كان" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (4/ 23)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 62 - 63)، و"تفسير البغوي" (1/ 390)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 721)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 278).

فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيْرِ القُرآنِ تَأليف الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ المولود سنة (860 هـ) - والمتوفى سنة (927 هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى المُجَلَّد الثاني اعتَنَى بِهِ تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا نُوْرُ الدِّيْن طَالب إصدَارات وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ دولة قطر

حُقُوق الطَّبع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطَبعَة الأولى، 1430 هـ - 2009 م قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 518/ 14 هَاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

تتمة سورة آل عمران

تَتِمَّة سُورة آل عِمْران {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}. [101] {وَكَيْفَ} استفهامُ تعجيبٍ وتوبيخٍ. {تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} القرآنُ. {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -؟! المعنى: ومن أينَ لكم الكفرُ والحالُ أنَّ القرآنَ والرسولَ حاضران لديكم؟! {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} يمتنعْ به ويلتجئ إليه. {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} طريقٍ واضحٍ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}. [102] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} بأن يُطاع فلا يُعصى، نزلَتْ لما تفاخر الأنصارُ وأخذوا السلاحَ ليقتتلوا، فلما نزلتْ، شَقَّ ذلكَ عليهم، فقالوا: "يا رسولَ الله! ومن يقوى على هذا؟ "، فأنزل الله {فَاتَّقُواْ

[103]

اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فنسخت هذه الآية، قال مقاتل: ليس في آل عمران منسوخ غيرها (¬1). قرأ الكسائيُّ: (تُقَاتِهِ) بالإمالة. {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: مؤمنون. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}. [103] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} أي: تمسَّكوا بدينِه. {جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} كما افترقت اليهود والنصارى. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلا تّفَرَّقُوا) بتشديد التاء (¬2). كان بين الأنصارِ الأوسِ والخزرج عداوةٌ بسبب قتلى، فتطاولتِ العداوةُ والحربُ بينهم مئةً وعشرين سنةً إلى أن أطفأَ الله عزَّ وجلَّ ذلك (¬3) بالإسلام، فبدَّل ذلك بالأُلفة والمحبة بسببِ اتّبَاعهم للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وانتقالِه إليهم، فنزلَ منةً عليهم: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (4/ 29)، و"تفسير البغوي" (1/ 391)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 278). (¬2) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 315)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 84)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 181)، و"التيسير" للداني (ص: 83)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 178)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 56). (¬3) "ذلك" ساقطة من "ت".

[104]

{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (¬1) أي: إنعامه عليكم أيُّها الأنصار. {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} قبلَ الإسلام. {فَأَلَّفَ} أي: جمعَ. {بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بالإسلام. {فَأَصْبَحْتُمْ} فصرتُم. {بِنِعْمَتِهِ} أي: برحمته. {إِخْوَانًا} جمعُ أخٍ في الدين والوِلاية. {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا} طرفِ. {حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} ما بينكم وبينَ وقوعِكم فيها إلا أن تموتوا كفارًا. {فَأَنْقَذَكُمْ} اللهُ. {مِنْهَا} بالإيمانِ. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إرادةَ ثباتِكم على الهدى. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}. [104] ثم جاءَ بلامِ الأمرِ تأكيدًا فقالَ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أي: تكونوا أمة و (مِنْ) صِلَةٌ، ليسَ للتبعيضِ، و (الخيرُ): الإسلامُ. {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 393).

[105]

المخصوصون بكمال الفلاح، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا، فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ" (¬1). {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}. [105] {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} همُ اليهودُ والنصارى. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ذُكِّر هُنا أرادَ الجمعَ. {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وعيدٌ للذين تفرَّقوا، وتهديدٌ على التشبيه بهم. {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)}. [106] {يَوْمَ} نصبٌ على الظرف؛ أي: في يومٍ. {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} أي: وجوهُ المؤمنين يومَ القيامةِ سرورًا ونورًا. {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} أي: وجوهُ الكافرين خِزْيًا ودُحورًا. {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقالُ لهم توبيخًا: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يومَ أَخْذِ الميثاقِ حينَ قالَ لهم ربُّهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} باللهِ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (49)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

[107]

{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)}. [107] {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُم} وهم أهلُ الطاعة. {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} أي: جنته. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)}. [108] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} بأنْ يأخذَ بغيرِ جُرْمٍ. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}. [109] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فَيُجازي كُلًّا بعمله. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (تَرْجِعُ) بنصبِ التاء وكسر الجيم (¬1)، وقرأ أبو عمرٍو (يُرِيد ظُلْمًا) بإدغام الدال في الظاء (¬2). {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 181)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 178)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 58). (¬2) انظر: "الإتقان" للسيوطي، النوع الحادي والثلاثون، في الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب.

[110]

مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)}. [110] ولما قال اليهودُ للمسلمين: نحن أفضلُ منكم، ودينُنا خيرٌ مما تدعوننا إليه، أنزل الله: {كُنْتُمْ} (¬1) أي: أنتم. {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} أُظْهِرَتْ (¬2). {لِلنَّاسِ} أي: ما أخرجَ الله للناس أمةً خيرًا من أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ} الإيمان. {خَيْرًا لَهُمْ} من كفرِهم. {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ. {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الكافرون. {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)}. [111] روي أن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِهِ، فآذَوْهُم، فأنزلَ الله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ} (¬3) أيها المؤمنون هؤلاءِ اليهودُ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 64)، و"تفسير البغوي" (1/ 402)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 293). (¬2) في "ن": "ظهرت". (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 64)، و"تفسير البغوي" (1/ 405).

[112]

{إِلَّا أَذًى} باللِّسانِ؛ كالسَّبِّ والوعيدِ. {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} مُنْهزمينَ. {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} بل تكونُ لكُمُ النُّصْرَةُ عليهِمْ. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}. [112] {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} حَيْثُما وُجِدوا. {إِلَّا بِحَبْلٍ} أي: عهدٍ {مِنَ اللَّهِ} بأَنْ يُسْلِموا. {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} من المؤمنينَ ببذلِ جزيةٍ أو أمانٍ، يعني: إلا أنْ (¬1) يعتصِموا بحبلٍ فيأْمَنوا. {وَبَاءُوا} (¬2) رَجَعُوا {بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ} الكفرُ والقتلُ. {بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} فإنَّ الإصرارَ على الصغائرِ يُفْضي إلى الكبائر، والاستمرار عليها يؤدِّي إلى الكفر. {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)}. ¬

_ (¬1) "يعني إلا أن" ساقطة من "ت". (¬2) من قوله: "يا محمد حين {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} (1/ 483)، الآية (81) .... إلى قوله {وَبَاءُوا} " سقط من "ش" بمقدار (4) لوحات من النسخة الخطية.

[113]

[113] ولما أسلمَ عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ وأصحابُه، قال اليهود: ما آمنَ بمحمَّدٍ (¬1) إلا شِرارُنا، ولولا ذلك، ما تركوا دينَ آبائهم، فأنزل الله: {لَيْسُوا سَوَاءً} (¬2) أي: ليسَ أهلُ الكتابِ مستوينَ، بل منهم مؤمنون، ومنهم فاسقون، ثم ابتدأ مستأنِفًا مبينًا لقوله: {لَيْسُوا سَوَاءً} فقال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} مستقيمةٌ. {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاتِه. {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي: يصلُّون؛ لأنَّ التلاوة لا تكونُ في السجودِ. {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)}. [114] {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ} قرأ أبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، وورشٌ: (يُومِنُونَ) و (يَامُرُونَ) بغير همز (¬3). {بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والمعروف: ما عرفه العقلُ أو (¬4) الشرعُ بالحُسْنِ، والمنكَرُ: ما أنكرَهُ أحدُهُما لقبحِهِ. {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} متى دُعوا إلى خير، أجابوا. قرأ الدوريُّ عن ¬

_ (¬1) في "ن" و"ت": "لمحمد". (¬2) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (3/ 737)، و"المعجم الكبير" للطبراني (1388)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 64)، و"تفسير البغوي" (1/ 406)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 735)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 296). (¬3) انظر: "الإتقان" للسيوطي، النوع الثالث والثلاثون، في تخفيف الهمز. (¬4) في "ت": "و".

[115]

الكسائيِّ (يُسَارِعُونَ) و (سَارِعُوا) و (نُسَارِعُ) بالإمالة حيثُما وقعَ (¬1). {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: من صَلُحَتْ أحوالُهم عندَ الله. {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}. [115] {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (يَفْعَلُوا) (يُكْفَرُوهُ) بالغيب فيهما إخبارًا عن الأمةِ القائمةِ، والباقون: بالخطاب، لقولِه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]، وأبو عمرو يَرَى القراءتين (¬2)، ومعنى الآية: فلن تَعْدَموا ثوابَهُ، بل يُشْكَرُ لكم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} أي: المؤمنين. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)}. [116] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: لا تدفعُ أموالُهم بالفدية ولا أولادُهم بالنُّصْرَةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 187)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 59). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 170)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 215)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 113)، و"الكشف" لمكي (1/ 354)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (1/ 407)، و"التيسير" للداني (ص: 90)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 178)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 59).

[117]

{شَيْئًا} من عذابِ اللهِ. {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يخرجون منها، وجعلَهم أصحابَ النار؛ كصاحبِ الرجلِ لا يفارقُهُ. {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}. [117] {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} أي: الكفار. {فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على عداوةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} بردٌ شديدٌ. {أَصَابَتْ حَرْثَ} أي: زَرْعَ. {قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالكفرِ. {فَأَهْلَكَتْهُ} فلم ينتفعوا به، المعنى: نفقاتُهم هالكةٌ كالذي تُهلكه الريحُ. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بذلكَ. {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)}.

[118]

[118] قال ابنُ عباسٍ: "كانَ رجالٌ من المسلمينَ يواصلونَ اليهودَ؛ لما بينهم من القرابَةِ والصداقة"، وقال مجاهدٌ: كان قومٌ من المؤمنينَ يُصافونَ المنافقين، فنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة} (¬1) أي: أولياءَ، وبطانةُ الرجلِ: خاصَّتُهُ، مأخوذٌ من بطانةِ الثوب. {مِنْ دُونِكُمْ} من غيرِ مِلَّتِكم. {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} لا يُقَصِّرون في إفسادِ أمرِكُم. {وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ} يَوَدُّونَ ما يَشُقُّ عليكم. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} أي: البغضُ، معناه: ظهرَتْ أَمارةُ العداوة. {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} بالشَّتْمِ والوَقيعةِ في المسلمينَ. {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ} منَ البغضِ لكُمْ وعداوتكم. {أَكْبَرُ} أي: أعظمُ. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} ما بُيِّنَ لكم. {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)}. [119] ثم أردفَ النهيَ بالتوبيخِ على مُصافاة الخادِعين، فقال: {هَاأَنْتُمْ} تقدَّمَ اختلافُ القُرَّاءِ في هذا الحرفِ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (4/ 61)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص 65)، و"تفسير البغوي" (1/ 408 - 409)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 299).

[120]

{أُولَاءِ} المرادُ: أنتم أيها المؤمنونَ. {تُحِبُّونَهُمْ} أي: اليهودَ الذين نهيتكُم عن مُباطَنَتِهم لما بينَكم من القرابةِ والمصاهرةِ. {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} هم عداوةً لمخالفةِ الدين. {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أي: بجميع الكتب، وهم لا يؤمنون بكتابكم. {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا} فكان بعضُهم مع بعضٍ. {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ} أطرافَ الأصابع. {مِنَ الْغَيْظِ} لما يرون من ائتلافِكم، ويعبَّرُ عن شدةِ الغيظ بعضِّ الأنامل، وإن لم يكنْ ثَمَّ عَضٌّ، والغيظُ: هو أشدُّ الغَضَب، وهو الحرارةُ التي يجدُها الإنسان من ثَورَان (¬1) دمِ قلبِه. {قُلْ مُوتُوا} أي: ابْقَوا إلى المماتِ. {بِغَيْظِكُمْ} ولو أرادَ الحالَ، لماتوا من ساعَتِهم. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوبِ، فيجازيهم عليه. {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}. [120] {إِنْ تَمْسَسْكُمْ} أي: تصبْكم أيُّها المؤمنون. ¬

_ (¬1) في "ت": "يكن" بدل قوله "ثوران".

{حَسَنَةٌ} نُصْرَةٌ وغَنيمةٌ وما يحسُنُ به (¬1) حالُكم. {تَسُؤْهُمْ} تحزنهم. {وَإِنْ تُصِبْكُمْ} الإصابةُ بمعنى الَمسِّ. {سَيِّئَةٌ} جَدْبٌ وهزيمةٌ. {يَفْرَحُوا بِهَا} تلخيصُ الآيات: اجتنبوا مُصافاةَ مَنْ هو بهذِه الصِّفاتِ. {وَإِنْ تَصْبِرُوا} على عَداوتهم ومَشَاقِّ الدِّينِ. {وَتَتَّقُوا} الله في محارمِه. {لَا يَضُرُّكُمْ} قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: بكسرِ الضادِ خفيفةً من ضارَهُ يَضيرُه، وقرأ الباقون: بضمِّ الضادِ ورفعِ الراء وتشديدها، من ضرَّهُ يَضُرُّهُ (¬2). المعنى: فليسَ يضرُّكُمْ. {كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيجازيهم، وهذه بشارةٌ بالنصرِ مع الصبرِ والتقوى. ¬

_ (¬1) "به" ساقطة عن "ن" و"ت". (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 361)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 171)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 215)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 113)، و"الكشف" لمكي (1/ 355)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"تفسير البغوى" (1/ 410)، و"التيسير" للداني (ص: 90)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزرى (2/ 242)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 178)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 61).

[121]

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)}. [121] ولما نزلَ المشركونَ بأُحُدٍ يومَ الأربعاء ليأخُذوا بثأرهم في يومِ بَدْرٍ، وكانوا ثلاثةَ آلافِ رجلٍ، وسمعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بنزولهم، استشارَ أصحابه في الخروج إلى قتالهم، فأشارَ بعضُ الصحابةِ بالخروجِ، وأشارَ بعضهم بترك الخروج، وكان المشركون قد أقاموا بأُحُدٍ يومَ الأربعاءِ والخميسِ، وصلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعةَ بأصحابه، وقد ماتَ في ذلك اليوم رجلٌ من الأنصار، فصلَّى عليه - صلى الله عليه وسلم -، ثم خرجَ إليهم في ألفِ رجلٍ، أو تسعِ مئةٍ وخمسينَ، ونزل بالشِّعْبِ من أُحد يومَ السبت لنصفِ شوالٍ سنةَ ثلاثٍ من الهجرة، وجعلَ يقوِّم أصحابَه، إنْ رأى صَدْرًا خارجًا قالَ: "تَأَخَّرْ"، أو متأَخِّرًا قال: "تَقَدَّمْ"، وكان نزولُه في عُدْوَة الوادي، وجعلَ ظهرَ عسكرِهِ إلى أُحد، وأَمَّرَ على الرُّماةِ عبدَ اللهِ بنَ جُبيرٍ، وقال: "انْضَحُوهُمْ عَنَّا بِالنَّبْلِ لا يَأْتُونَنَا مِنْ وَرَائِنَا"، فنزل قولُه تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ} (¬1) أي: واذكرْ إذْ غدوتَ. {مِنْ} بينِ. {أَهْلِكَ} من المدينةِ. {تُبَوِّئُ} أي: تُنَزِّلُ. {الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ} مواطنَ يقفونَ فيها. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 410)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 218).

[122]

{لِلْقِتَالِ} يقالُ: بَوَّأْتُ القومَ: إذا وَطَّنْتُهم. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ما تقولُ ويُقال لكَ، وقتَ المشاورة وغيره. {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}. [122] {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ} هما بنو سَلِمَةَ من الخزرج، وبنو حارثةَ من الأَوْسِ، وكانا جَناحَي العسكرِ. {أَنْ تَفْشَلَا} أَنْ تَجْبُنا وتَضْعُفا؛ فإنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبي ابنِ سَلُولَ المنافقَ انخزلَ (¬1) بثلثِ الناسِ، فهمَّتِ الطائفتانِ بالرجوعِ معه، فَثَبَّتَهما الله تعالى. {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ناصرُهما ومتولِّي أمرِهما. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمرٌ في ضمنِه التغبيطُ (¬2) للمؤمنين بمثلِ ما فعلَه بنو حارثة وبنو سلمةَ من المسيرِ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}. [123] {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} هو موضعٌ بينَ مكَّةَ والمدينةِ، ونزلتِ الآيةُ تذكيرًا لهم بنعمةِ اللهِ عليهم بالنصرة (¬3) في يوم بَدْرٍ، وكانت يومَ الجمعة سابعَ عشرَ رمضانَ لثمانيةَ عشرَ شَهْرًا من الهجرة. ¬

_ (¬1) في "ن": "تحرك". (¬2) في "ت": "التغليظ". (¬3) في "ن": "بالنصر".

[124]

{وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: قليلٌ، وليس المرادُ الذلَّ والهوانَ؛ لأنهم كانوا ثلاثَ مئةٍ وثلاثةَ عشرَ رجلًا، وكان عدوُّهم ما بينَ التسعِ مئةٍ إلى الألف، فنصرهم الله مع قلَّةِ عددِهم. {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أمرَهم بالتقوى، ورجَّاهُم في الإنعامِ الذي يوجبُ الشكرَ. {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)}. [124] {إِذْ تَقُولُ} أي: اذكرْ إذ تقولُ. {لِلْمُؤْمِنِينَ} ببدرٍ. {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} الإمدادُ: إعانةُ الجيشِ بالجيشِ. {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} قرأ ابنُ عامرٍ: (مُنَزَّلينَ) بالتشديدِ على التكثيرِ؛ لقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} [الأنعام: 111]، وقرأ الباقون: بالتخفيف؛ لقوله: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} (¬1) [التوبة: 26] ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 172)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 215)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 117)، و"الكشف" لمكي (1/ 355)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (1/ 414)، و"التيسير" للداني (ص: 90)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 242)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 179)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 63).

[125]

وأبو عمرٍو، وهشامٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخَلَفٌ يُدْغِمون الذالَ في التاء مِنْ (إِذ تقولُ)، والباقونَ يُظهرونَها (¬1). قال ابنُ عباسٍ: "لَمْ يُقاتلِ (¬2) الملائكةُ في المعركةِ إلَّا يومَ بدرٍ، وفيما سواهُ يَشْهدونَ القتالَ ولا يُقاتلون، إنما يكونونَ عددًا ومَدَدًا" (¬3) وبُشِّروا بالملائكةِ قبلَ نزولِهم تَسْكينًا لجأشِهم (¬4)، ثم قال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}. [125] {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا} للمشركين. {وَتَتَّقُوا} مخالفةَ نَبِيِّكُم. {وَيَأْتُوكُمْ} المشركونَ. {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} أي: من ساعَتِهم هذهِ. {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} لم يزدْ خمسةَ آلافٍ غيرَ الثلاثةِ المذكورةِ، بل مَعَها. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وعاصمٌ، ويعقوبُ: بكسر الواو؛ أي: مُعَلِّمينَ، من العلامةِ؛ أي: سَوَّموا خيلَهم، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 61). (¬2) في "ن": "تقاتل". (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12085)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/ 77). (¬4) في "ن": "لحالهم".

[126]

وقرأ الباقون: بفتح الواو (¬1)؛ أي: سَوَّمُوا أنفسَهُمْ، قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِه يومَ بدر: "تسَوَّمُوا (¬2)؛ فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ قَدْ تسَوَّمَتْ بِالصُّوفِ (¬3) الأَبْيَضِ فِي قَلاَنِسِهِمْ ومَغَافِرِهِمْ"، ونزلتِ الملائكةُ على خيلٍ بُلْقٍ، عليهِمْ عَمائِمُ بِيضٌ قد أرسلوها بينَ أكتافِهم، إلَّا جِبريلَ؛ فإنه كانَ بِعِمامةٍ صفراءَ على مثالِ عِمامةِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ (¬4). {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}. [126] {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي: الوعدَ والمددَ. {إِلَّا بُشْرَى} أي: بشارةً. {لَكُمْ} لتستبشِروا بها. {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} لتسكُنَ بالمدَدِ، فلا تجزعَ من كثرةِ عدوِّكُم وقلَّةِ عددِكم. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 173)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 216)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 113)، و"الكشف" لمكي (1/ 355 - 356)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (1/ 414)، و"التيسير" للداني (ص: 90)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (242)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 179)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 64). (¬2) في "ت": "تقوموا". (¬3) في "ت": "بالصفوف". (¬4) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 354)، و"تفسير الطبري" (4/ 82 - 83).

[127]

{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فاستعينوا بهِ، وتوكَّلوا عليه؛ لأن العزَّ (¬1) والحكمَ له. {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}. [127] {لِيَقْطَعَ طَرَفًا} أي: يُهْلِكَ جماعةً. {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقُتِلَ منهم يومَ بدر سبعون، وأُسِرَ سبعونَ. {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أصلُ الكَبْتِ: الإذلالُ والصرفُ عن الشيءِ. المعنى: يُذِلَّهم ويَهْزِمَهم. {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} لم يظفروا بمرادِهم. وعن أنس: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كُسِرَتْ رُباعِيَتُهُ يومَ أُحدٍ، وشُجَّ في رأسِه، فجعلَ يَسْلُتُ الدمَ عنهُ ويقولُ: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبيَّهُمْ، وكَسَرُوا رُبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ"، فأنزلَ الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬2). {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)}. [128] {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فيسلموا. ¬

_ (¬1) في "ش": "العزم". (¬2) رواه مسلم (1791)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[129]

{أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} إن لم يُسْلِموا معطوفان على: {لِيَقْطَعَ} أي: ليقطعَ أو يكبتَ أو يتوبَ أو يعذِّبَ. {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فيكونُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} اعتراضًا بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه. المعنى: ليسَ بيدِكَ من التوبةِ والعقوبةِ شيءٌ، إنْ عليكَ إلا البلاغُ، وإنَّما ذلكَ بيدِ الله. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}. [129] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بعباده (¬1)، فلا تبادروا إلى الدعاءِ عليهم. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)}. [130] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} إشارةٌ إلى تكرارِ التضعيفِ عامًا بعدَ عام. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (مُضَعَّفَةً) بالتشديد مع حذفِ الألفِ في جميع القرآن، وقرأ الباقون: بالإثبات والتخفيف (¬2)، والمراد به (¬3): ما كانوا يفعلونَه عندَ حُلولِ ¬

_ (¬1) في "ظ": "لعباده". (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (4/ 202)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 179)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 65). (¬3) "به" ساقطة من "ن".

[131]

أَجَلِ الدَّينِ من زيادةِ المالِ وتأخيرِ الطلب، وتقدَّمَ ذكرُ الرِّبا وأحكامِه في سورة البقرة، {أَضْعَافًا} نصبٌ في موضعِ الحالِ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في أمرِ الرِّبا فلا تأكلوهُ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)}. [131] ثم خَوَّفهم فقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} قال أبو حنيفةَ: هذه أخوفُ آيةٍ في القرآنِ، حيثُ تَوَعَّدَ المؤمنينَ إنْ لم يَتَّقوا بعقابِ الكافرينَ. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}. [132] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكي تُرْحَموا، فقرَنَ تعالى طاعةَ رسوله بطاعتِه، واسمَه باسمِه بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}، وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التغابن:8]، فجمعَ بينهما بواو العطف المُشَرِّكَةِ، ولا يجوزُ جمعُ هذا الكلامِ في غيرِ حقِّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال عليه السلام: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ، وَلَكِنْ: ما شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ" (¬1) فأرشدَهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الأدبِ في تقديمِ مشيئةِ اللهِ تعالى على مشيئةِ مَنْ سواه، واختارَها بـ (ثُمَّ) التي هي للنسقِ والتراخي، بخلافِ الواو التي هي للاشتراكِ، ومثلهُ الحديثُ الآخَرُ: أَنَّ خَطيبًا خطبَ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4980)، كتاب: الأدب، باب: لا يقال: خبثت نفسي، والنسائي في "السنن الكبرى" (10821)، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 384)، وغيرهم عن حذيفة -رضي الله عنه-.

[133]

[فقال: مَنْ يطعِ اللهَ ورسولَه فقدْ رشدَ، ومَنْ يعصِهما فقد غَوى، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:] (¬1) "بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُمْ، أَوْ قالَ: اذْهَبْ" (¬2) كره منهُ الجمعَ بين الاسمين بحرفِ الكناية؛ لما فيه من التسويةِ، فالواوُ العاطفة لمطلَقِ الجمعِ بالاتفاق، والفاءُ العاطفةُ للترتيب والتعقيب، وثمَّ للتشريكِ وللترتيبِ بمُهْلَةٍ بالاتفاق. {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}. [133] {وَسَارِعُوا} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (سَارِعُوا) بلا واوٍ (¬3)، أي: بادروا. {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: إلى الأعمال التي تُوجِبُ المغفرةَ. {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا} أي: سَعَتُها. {السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} وخُصَّ العرضُ بالذِّكر؛ لأنه يكونُ غالبًا أقلَّ من الطول. المعنى: بادِروا إلى ما يوُجبُ لكمُ المغفرةَ ودخولَ جَنَّةٍ في غايةِ السَّعَةِ. {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} بُقِّيَتْ لهم. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) رواه مسلم (870)، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه-. (¬3) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 174)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 216)، و"الكشف" لمكي (1/ 356)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (1/ 417)، و"التيسير" للداني (ص: 179)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 66).

[134]

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}. [134] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} اليسرِ والعسرِ، فأولُ ما ذَكَر من أخلاقِهم الموجبةِ للجنةِ ذكرَ السَّخاوَةَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بعيدٌ مِنَ اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ" (¬1). {وَالْكَاظِمِينَ} الحابسينَ. {الْغَيْظَ} عندَ امتلاءِ نفوسِهم بهِ. {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} الَّذين يَظْلمونَهم. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}. [135] ونزلَ فيمَنْ أذنبَ ذنبًا وطلبَ التوبةَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} يعني قبيحةً خارجةً عَمَّا أَذِنَ اللهُ فيه. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1961)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في السخاء، وقال: غريب، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 403)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[136]

{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بما دونَ الزِّنا؛ كالقُبلةِ واللَّمسِ والنَّظَرِ. {ذَكَرُوا اللَّهَ} أي: ذكروا وَعيدَه. {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} أي: وما يغفرُ الذنوبَ. {إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا} أي: يُقيموا. {عَلَى مَا فَعَلُوا} ولكن تابوا وأَنابوا. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّها معصيةٌ، وأنَّ اللهَ يغفرُ الذنوب (¬1). {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}. [136] {أُولَئِكَ} مبتدأ، خبرُه (¬2): {جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي: ونعمَ ثوابُ المطيعينَ ما أُعِدَّ لهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيُحْسِنُ الطّهُورَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللهَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ" (¬3)، قال ثابتٌ البُنانِيُّ: لما نزلَتْ هذهِ الآيةُ، بَكى إبليسُ (¬4). ¬

_ (¬1) في "ظ": "الذنب". (¬2) "خبره" ساقطة من "ن". (¬3) رواه أبو داود (1521)، كتاب: الصلاة، باب: في الاستغفار، والترمذي (406)، كتاب الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة عند التوبة، وقال: حسن، عن علي -رضي الله عنه-. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 423).

[137]

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}. [137] {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أي: مضَتْ شرائعُ وطرائقُ، وسنَّةُ الإنسانِ: الشيءُ الذي يعملُه، والخطابُ للمؤمنين. والمعنى: قد مَضَتْ وسَلَفَتْ مني فيمَنْ قبلَكُم من الأممِ الماضيةِ الكافرةِ بإمهالي واستِدْراجي إيَّاهم حَتَّى يبلُغَ الكتابُ فيهِ أَجَلي الذي أَجَّلْتُه لإهلاكي إياهم. {فَسِيرُوا} تقديرُه: إن شَكَكْتُم، فَسيروا. {فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} أي: آخِرُ أَمْرِ {الْمُكَذِّبِينَ} منهم، وهذا في حربِ أهلِ أُحد، يقول: فإنما أُمهلهم فأَستدرِجُهم حتى يبلغَ أجلي الذي أَجَّلْت في نُصْرَةِ النبيِّ وأوليائِه، وإهلاكِ أعدائِه. {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}. [138] {هَذَا} أي: القرآنُ. {بَيَانٌ لِلنَّاسِ} عامَّةً. {وَهُدًى} من الضَّلالةِ. {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} خاصَّةً. {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}. [139] {وَلَا تَهِنُوا} لا تَضْعُفوا عن قتالِ عدوِّكم.

[140]

{وَلَا تَحْزَنُوا} على ما أصابَكُمْ من قَتْلٍ وجَرْحٍ بأُحد، وكان قد قُتل يومئذٍ من المهاجرين خمسةٌ، منهم: حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلِب، ومُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، وسبعونَ رجلًا من الأنصار {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} شأنًا في الآخِرَةِ بدخولِ الجنة، وفي الدنيا بأن تكونَ الغَلَبَةُ لكم. {إِنْ} يعني: إذ. {كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: لأنكم مؤمنون. {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}. [140] {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} أي: جُرْحٌ يومَ أحدٍ. {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ} أي: الكافرين ببدرٍ. {قَرْحٌ مِثْلُهُ} فقتلَ المسلمون من المشركينَ ببدرٍ سبعين، وأَسَروا سبعين، وقتلَ المشركونَ من المسلمينَ بأُحد خمسًا وسبعين، وجرحوا سبعين. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ: (قُرْحٌ) بضمِّ القاف حيثُ وقعَ، والباقون: بالفتح، وهما لغتان معناهما واحد (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 174)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 216)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 114)، و"الكشف" لمكي (1/ 356)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (2/ 424)، و"التيسير" للداني (ص: 90)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 242)، =

[141]

{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} أي: نجعلُها دُوَلةً. {بَيْنَ النَّاسِ} المؤمنينَ والكافرين، فمرةً لهم، ومرةً عليهم. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} علمًا يتعلَّقُ به الجزاء، وهو أن يظهرَ منهم الفعلُ، فيجازَوْنَ عليه. {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} بأن يُكْرِمَهم بالشهادةِ. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين يُضمرونَ خِلافَ ما يُظهرون. {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}. [141] {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} التمحيصُ: تخليصُ الشيء من عَيْبٍ فيه، المعنى: يُطَهِّر المؤمنين من الذنوب. {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} يُفنيهم، المعنى: إن قتلوكُم، فهو تطهيرٌ لكم، وإن قتلتموهم، فهو مَحْقُهُم واستئصالُهم. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}. [142] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} (أَمْ) هي بمعنى الإضراب عن الكلامِ الأولِ والتركِ له، وفيها لازمُ معنى الاستفهام، و (حَسِبْتُمْ) معناه: ¬

_ = و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 179)، و"معجم القراءت القرآنية" (2/ 66).

[143]

ظننتم، وهذه الآيةُ وما بعدها تقريعٌ وعَتْبٌ لطوائفِ المؤمنينَ الذين وقعتْ منهم الهَنَواتُ (¬1) في يومِ أحدٍ. {وَلَمَّا يَعْلَمِ} أي: ولم يعلم. {اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} والقراءةُ بكسر الميم في قولي: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} لالتقاء الساكنين. {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} في الشدائدِ، ونصبُ (يَعْلَمَ) بإضمارِ أَنْ، و (الواو) بمعنى الجمع؛ كقولكَ: لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللَّبنَ. {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}. [143] ثم خاطب الله المؤمنين بقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} أي: الشهادة؛ لما علمتُم من فضلِ الشهداءِ ببدر. قرأ البزيُّ بخلافٍ عنه: (كُنْتم تَّمَنَّوْنَ) بتشديد التاءِ بعد الميم حالةَ الوصلِ (¬2). {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} وذلكَ أن قومًا من المسلمين تمنوا يومًا كيومِ بدرٍ ليقاتِلوا ويُسْتشهدوا، فأراهُم اللهُ يومَ أحدٍ. {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: رأيتُمْ سبَبَهُ. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} عِيانًا أسبابَهُ. ¬

_ (¬1) في "ن": و"الهفوات". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 182)، و"التيسير" للداني (ص: 84)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 164)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 68).

[144]

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}. [144] رُوي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ إلى الشِّعْبِ من أُحد بسبعِ مئةِ رجلٍ، وجعلَ عبدَ اللهِ بنَ خَوَّاتٍ على الرجَّالة، وقال: "أَقِيمُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ، وَانْضَحُوا عَنَّا بِالنَّبْلِ، لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، وَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ حَتَّى أُرْسِلَ إِليْكُمْ، فَلاَ نَزَالُ غَالِبينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمُ"، فجاء المشركون على مَيْمَنَتِهم خالدُ بنُ الوليد، وعِكْرمَةُ بنُ أَبي جَهْل على مَيْسَرَتِهم، فقاتلوا حتى حَمِيَتِ الحربُ، فأخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سيفًا وقالَ: "مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ "، فَأَخَذَهُ أبو دُجانةَ، فأعلمَ بعمامةٍ حمراءَ، فجعل يتبخْتَرُ بينَ الصَّفَّينِ، فقالَ رسولُ الله: - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ"، ففلقَ به هامَ المشركين، فحمل - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابهُ على المشركين، فهزمهم، فتركَ الرماةُ مركزَهم، وجاؤوا إلى المسلمينَ لأجلِ الغنيمةِ، فلما رأى خالدٌ ظهورَ المسلمين منكشفةً، صاحَ في خيلهِ، وحمل على المسلمينَ، فهزمَهم، ورمى عبدُ اللهِ بنُ قَمِيئَةَ الحارثيُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بحجرٍ، فكسرَ أنفَهُ ورَباعِيَتَهُ، وشَجَّهُ فأثقلَهُ، وتفرَّقَ عنه أصحابُه، وحملَ ابنُ قميئةَ ليقتلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذبَّ عنه مصعبُ بنُ عُمير صاحبُ الرايةِ يومئذ، فقتلهَ ابنُ قميئةَ وهو يُرى أنه قتلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وصرخَ صارخ: ألا إنَّ محمدًا قد قُتل، قالوا: كانَ إبليسَ، وانكشفَ المسلمونَ، وأصابَ فيهم العدوُّ، وكان يومَ بلاءٍ على المسلمين، ومَثَّلت هند بنتُ عُتبةَ وصواحبُها بالقتلى من الصحابة، فَجَدَعْنَ الآذانَ والأُنوف، وبقرَتْ هندٌ عن كبدِ حمزةَ عمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولاكَتْها، وصَعِدَ

زوجُها أبو سفيانَ الجبلَ، وصرخَ بأعلى صوته: الحربُ سِجالٌ، يومٌ بيومِ بدرٍ، اعْلُ هُبَل؛ أي: أظهرْ دينَكَ، فأجابَه المسلمون: الله أعلى وأجَلُّ، قال: إنَّ لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فأجابه المسلمون: اللهُ مولانا ولا مولى لكم، ثم نادى: إن موعدَكُم بدرٌ العامَ القابلَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لواحدٍ: "قُلْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ"، ثم التمسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عمَّه حمزةَ، فوجده وقد بُقِر بطنهُ، وجُدِعَ أنفُه وأذناه، فقال: "لَئِنْ أَظْهَرَنِي اللهُ عَلَيْهِمْ، لأُمَثِّلَنَّ بِثَلاَثِينَ مِنْهُمْ". ثم أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسُجِّيَ حمزةُ ببردةٍ، ثم صلَّى عليه، فكبَّرَ سبعَ تكبيرات، ثم أُتي بالقَتْلى يوضَعون إلى حمزةَ، فصلَّى عليه وعليهم ثنتين وسبعينَ صلاةً، وهذا دليل لأبي حنيفةَ؛ فإنه يرى الصلاةَ على الشهيدِ خلافًا للشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ، ثم أمرَ بحمزةَ فدُفن، واحتُمل ناسٌ من المسلمين إلى المدينة، فدفنوا بها، ثم نهاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا"، وأصيبتْ عينُ قَتادَةَ، فردَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيدِه، فكانتْ أحسنَ عينيه. ولما صرخَ الصارخُ بقتلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال بعضُ المسلمين: ليتَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ يأخذُ لنا أمانًا من أبي سفيانَ، وقال ناس من المنافقين: لو كانَ نبيًّا لما قُتل، ارجعوا إلى إخوانِكم وإلى دينِكم، فقال أنسُ بنُ النَّضْرِ عمُّ أَنَسِ بنِ مالك: "يا قوم! إن كانَ (¬1) محمدٌ قُتل، فإن ربَّ محمدٍ حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعدَ رسولِ الله؟ فقاتِلوا على ما قاتلَ عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهمَّ إني أعتذرُ إليك مما يقولُ هؤلاء، وأبرأُ إليك مما جاؤوا به"، ثم شدَّ سيفه فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) "كان" سقط من "ت".

وعن بعضِ المهاجرين أنه مرَّ بأنصاريٍّ يتشحَّطُ (¬1) بدمِه، فقال: يا فلانُ! شعرتَ أن محمدًا قَدْ قُتل؟ فقال: إن كان محمدٌ قُتل فقد بَلَّغَ، قاتلوا على دينِكم. ولما انهزم أصحابهُ جعلَ - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم "إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ (¬2) " حَتَّى انحازت إليه طائفةٌ من أصحابه، فلامهم على هَرَبهم، فقالوا: يا رسول الله! فديناكَ بآبائِنا وأمهاتنا، أتانا خبرُ قتلِك، فَرُعبت قلوبُنا، فولَّينا مدبرين، فنزلَ توبيخًا: {وَمَا مُحَمَّدٌ} (¬3) معناهُ: المستغرقُ لجميعِ المحامدِ، وهو الذي كثر حمدُ الحامدين له مرةً بعد أخرى، ويقال (¬4) حُمِدَ فهو محمَّدٌ، فتسميته - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم لما اشتملَ عليه من مُسَمَّاه، وهو الحمدُ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - محمود عند اللهِ، وعندَ ملائكته، وعندَ إخوانِه من المرسلين، وعندَ أهل الأرض كلِّهم، وإن كفر به بعضُهم، فإنَّ ما فيه من صفاتِ الكمال محمودٌ عند كلِّ عاقل، ومحمدٌ هو المحمودُ حمدًا متكررًا كما تقدم، وأحمدُ هو الذي حمدُهُ لربه أفضلُ من حمد الحامدين غيرِه، وهو الذي يحمدُه أهل الدنيا وأهلُ الآخرة، وأهلُ السماء والأرض، فلكثرة خصائله المحمودة التي تفوتُ عددَ العادِّين سُمِّيَ (¬5) باسمين من أسماء الحمد يقتضيان التفضيلَ والزيادةَ في القدر والصفة، فدلَّ أحدُ الاسمين وهو محمدٌ على كونِه ¬

_ (¬1) في "ن": "يتسخط". (¬2) "إلي عباد الله" سقطت من "ت". (¬3) انظر: "تفسير الطبري" (4/ 111)، و"تفسير البغوي" (1/ 426). (¬4) في "ت" و"ن": "وقال". (¬5) في "ت": "تسمى".

محمودًا، ودل الاسمُ الثاني وهو أحمدُ على كونه أحمدُ الحامدين لربِّه، وأن الحمدَ الذي يستحقه أفضلُ مما يستحقه غيره، وقد أكرمه الله سبحانه بهذين الاسمين المشتقين من اسمه جل وعلا، وفيه يقول حسانُ بنُ ثابتٍ رضي الله عنه: ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ ... بِبُرْهَانِهِ واللهُ أَعْلَى وَأَمْجَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ وأما نسبُه الشريفُ، فهو محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ منافِ بنِ قُصَيِّ بنِ كلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ بنِ فِهْرِ بنِ مالِكِ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إِلْيَاسَ بنِ مُضَرَ بنِ نِزارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنانَ بنِ آد بنِ أددِ بنِ اليسَعِ بنِ الهَمَيْسَعِ بنِ سَلامانَ بنِ نَبْتِ بنِ حملِ بنِ قَيْدار بنِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهما السلامُ بنِ تارح وهو آزرُ بنِ ناحور بنِ ساروع بنِ رعون بنِ فالغ بنِ عابرِ بنِ شالحِ بن قَيْنانَ بنِ أرفَخْشَد بنِ سامِ بنِ نوحٍ عليهما السلام بنِ لامخ ويقال لامك بنِ متوشلح بنِ حنوخ وهو إدريسُ عليه السلام بن يارد بنِ مهلائيل بنِ قينان بنِ أنوش بنِ شيثِ بنِ آدم عليه السلام. {إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} أي: مضت. {مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله. {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} أي: رجعتم. {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} كافرين؟! إنكارٌ لارتدادهم وانقلابِهم على أعقابهم عن الدين؛ لخلوه بموتٍ أو قتلٍ بعد علمِهم بخلوِّ الرسلِ قبلَه وبقاءِ دينهم

[145]

متمسَّكًا به. المعنى: إن محمدًا مضى قبلَه رسلٌ، وبقي أتباعُهم متمسِّكين بدينهم لم يرتدُّوا بعدَهم، وإن محمدًا يمضي، فتمسَّكوا بدينه بعده ولا ترتدُّوا. {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} فيرتدَّ عن دينه. {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} بارتدادِه، وإنما يضرُّ نفسَه. {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} على نعمةِ الإسلام بالثَّبات عليه؛ كأنسٍ ونحوه. {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}. [145] ثم شجَّعهم وأعلمهم أن لا موتَ إلا بمشيئتِه، فقال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بقضائه {كِتَابًا} أي: كِتبَ اللهُ الموتَ كتابًا. {مُؤَجَّلًا} معلومًا، لا يتقدم ولا يتأخر {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ} بطاعته. {ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي: جزاءَ عملِه من الدنيا. {نُؤْتِهِ مِنْهَا} ما قُسم له، نزلتْ في الذين تركوا المركزَ يوَم أُحد طلبًا للغنيمة. {وَمَنْ يُرِدْ} بطاعتِه.

[146]

{ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} جزاءَ عملِه. قيل: أرادَ الذين ثبتوا مع أميرِهم عبدِ اللهِ بنِ جُبير حتى قُتلوا. {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} المطيعين. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (يُرِدْ ثَوَابَ) بإظهار الدال عندَ الثاء فيهما، والباقونَ: بالإدغام (¬1). قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرَىٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" (¬2). {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)}. [146] {وَكَأَيِّنْ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: بألفٍ ممدودةٍ (¬3) بعدَ الكاف، وبعدها همزةٌ مكسورةٌ، وأبو جعفرٍ يُسَهِّلُ الهمزةَ، والباقون: بهمزةٍ مفتوحةٍ بعدَ الكاف، وبعدها ياءٌ مكسورة مشدَّدة، ووقف أبو عمروٍ، ويعقوبُ (وَكَأَيْ) بغيرِ نونٍ حيثُ وقعَ، وَوقف الباقُونَ (وَكَأَيِّنْ)، وهي كافُ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 184)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 179)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 69). (¬2) رواه البخاري (1)، كتاب: الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1907)، كتاب: الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬3) في "ت": "ممدود".

التشبيه ضُمَّتْ إلى أيِّ الاستفهام (¬1)، فصار المعنى: وكَمْ. {مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} أي: جموعٌ. {كَثِيرٌ} قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (قُتِلَ) بضمِّ القاف وكسر التاء؛ أي: قُتل الربيون دون النبيِّ، قال الحسنُ وغيره: ما قُتِلَ نبيٌّ قَطُّ في قتالٍ، وقرأ الباقون: (قَاتَلَ) بفتحِ القافِ والتاءِ وألفٍ بينهما؛ أي: قاتلَ كائِنًا معه ربِّيون (¬2). {فَمَا وَهَنُوا} أي: جَبُنوا. {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} عن الجهادِ. {وَمَا اسْتَكَانُوا} خَضَعوا لعدوِّهم. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} ومحبةُ اللهِ لهم ما يظهرُ عليهم من نصرهِ وتنعيمِه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (7/ 263)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 174)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 216)، و"الكشف" لمكي (1/ 357 - 358)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 183)، و"تفسير البغوي" (1/ 430)، و"تفسير القرطبي" (2/ 228)، و"التيسير" للداني (ص: 90)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (179)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 70 - 71). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 175)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 217)، و"الكشف" لمكي (1/ 359 - 360)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 183)، و"تفسير البغوي" (1/ 430)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 242)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 180)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 71).

[147]

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}. [147] {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} بنصبِ اللامِ خبرُ (كان)، واسمُها: {إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي: الصغائرَ. {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} أي: الكبائرَ. {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} كيلا تزول {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}. [148] {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} النصرةَ والغنيمةَ. {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} الأَجْرَ والجنةَ. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وخُصَّ ثوابُ الآخرةِ بالحسنِ إشعارًا بفضلِه، وأنه المعتدُّ بهِ عندَه. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)}. [149] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: المنافقين في قولهم عندَ الهزيمةِ: ارجِعُوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينِهم.

[150]

{يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي يُرْجعوكم إلى أولِ أمرِكم الشركِ باللهِ. {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} أي: مَغْبونين. {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}. [150] ثم قال: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} ناصرُكُم وحافظُكُم على دينِكم. {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} فاستعينوا به. {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}. [151] وكان المشركون قد ارتحلوا من أُحد متوجِّهينَ نحو مكةَ، ثم عزموا على الرجوع واستئصالِ المسلمينَ، فقُذِفَ الرعبُ في قلوبهم، فلم يرجعوا، فنزل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} أي: الخوف. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: بضم العين، والباقون: بسكونها، وهما لغتان مثل القدس (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 370)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 176)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 217)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 114)، و"الكشف" لمكي (1/ 360)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (1/ 432)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216 - 242)، و"إتحاف فضلاء البشر" =

[152]

{بِمَا أَشْرَكُوا} أي: بسبب إشراكهم. {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجَّةً وبرهانًا. {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} أي: مقامُ الكافرين. {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}. [152] ولما رجعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أُحد، قال المسلمون: كيفَ أُصبنا وقد وُعِدْنا بالنصر؟ فنزل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (¬1) بالنصر لكم؛ لأن النصرَ كان أولًا للمسلمين. قرأ أبو عمرٍو، وهشامٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَقَد صَّدَقَكُمْ) بإدغام الدال في الصاد، والباقون: بالإظهار (¬2). {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} تقتلونهم قتلًا ذَريعًا. ¬

_ = للدمياطي (ص: 180)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 74). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 432). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 184)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 180)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 75).

{بِإِذْنِهِ} بإرادتَه؛ فإنهم قَتلوا من المشركين اثنينِ وعشرينَ رجلًا. {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} جَبُنْتُم، وضعفَ رأيُكم بتركِ الرُّماةِ مركزَهم لطلبِ الغنيمة. {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي: اختلفتم في أمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للرماةِ بالمقام في سفح الجبل، فقال بعضُهم: نذهبُ، فقد نُصر أصحابُنا، وقال بعضُهم: نمتثلُ أمرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا نبرحُ مكانَنا. {وَعَصَيْتُمْ} النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بتركِ المركز. {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ} اللهُ. {مَا تُحِبُّونَ} من الظفرِ والغنيمة. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} وهم الرماةُ الذين تركوا المركزَ وطلبوا الغنيمةَ. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} وهم مَنْ ثبتَ من الرماة في المركز عبدُ الله بنُ جُبيرٍ وأصحابُهُ. {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} أي: ردَّكم. {عَنْهُمْ} بالهزيمِة. {لِيَبْتَلِيَكُمْ} ليمتحِنَكم. {لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} فلم تُسْتأْصَلوا على فِعْلِكم. {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} بالعفوِ.

[153]

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)}. [153] {إِذْ تُصْعِدُونَ} يعني: ولقد عفا عنكم إذ تُصْعِدون هاربينَ، والإصعادُ: السيرُ في مستوى الأرض. {وَلَا تَلْوُونَ} أي: لا تُعَرِّجون ولا تُقيمون. {عَلَى أَحَدٍ} يلتفتُ بعضٌ إلى بعض. {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أي: خلفَكم يقولُ: "إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، مَنْ يَكُرُّ فَلَهُ الجَنّةُ". {فَأَثَابَكُمْ} جازاكم. {غَمًّا} إذ هُزمتم. {بِغَمٍّ} بسببِ غَمٍّ أذقتموهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ عصيتموه. {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من الفتحِ والغنيمِة. {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} من القتلِ والجِراح وذلِّ الانهزام وما نِيل من نبَيِّكم. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تَوَعُّدٌ. {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ

[154]

يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}. [154] {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ} يا معشرَ المسلمينَ. {مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} أي: أَمْنًا {نُعَاسًا يَغْشَى} أي: النعاسُ. {طَائِفَةً مِنْكُمْ} وهم المؤمنون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (تُغَشِّي) بالتاء رَدًّا إلى الـ (أَمَنَةِ)، والباقون: بالياء ردًّا إلى (النعاس) (¬1). قال ابن عباسٍ: "أَمَّنَهُمْ يومئذٍ بنعاسٍ يغشاهُمِ، إِنَّما ينعسُ مَنْ يأمنُ" (¬2) والخائفُ لا ينامُ، فأرادَ الله تمييزَ المؤمنين من المنافقين، فأوقعَ النعاسَ على المؤمنينَ حتى أَمِنوا، ولم يوقعْ على المنافقين، فَبَقُوا في الخوف. {وَطَائِفَةٌ} مبتدأٌ، خبرُه: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وهم المنافقون، لم يكن لهم هَمٌّ بأُحُدٍ سوى أنفسِهم دونَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه. {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ} الظَّنِّ. ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 176)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 217)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 114)، و"الكشف" لمكي (1/ 360)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (1/ 434)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 242)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 180)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 77). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/ 140).

{الْحَقِّ ظَنَّ} أي: ظنًّا مثلَ ظَنِّ {الْجَاهِلِيَّةِ} والذي ظنوه أن محمدًا قُتل، أو أن اللهَ لا ينصرُه. {يَقُولُونَ} للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ} أي: من أمرِ النصرةِ. {مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (كُلُّهُ) برفع اللام على الابتداءُ وخبرُه في (لله)، والباقون: بالنصب على البدل (¬1). {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وذلك أن المنافقين قالوا بينهم مسارِّين: لو كان لنا عقولٌ وتُرِكْنا، ما خرجْنا مع محمدٍ، ولا قُتل رؤساؤنا، فقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - تكذيبًا لهم: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} مصارِعِهم. المعنى: لو قعدتُم في بيوتكم، وفيكُم من علمَ الله أنه يُقتل، لخرجَ الشخصُ المعلوم إلى مصرعِه فَقُتل؛ لأن معلومَ الله كائنٌ حتمًا. {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ} أي: ليختبرَ. {مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ} يُخْرِجَ ويُظْهِرَ. {مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب من خيرٍ وشرٍّ، وقد اجتمع حروف المعجم كلها التسعةُ والعشرون في هذه الآية من ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 177)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 217)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 115)، و"الكشف" لمكي (1/ 361)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (1/ 435)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 242)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 180)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 87).

[155]

قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ} وكذا في سورة الفتح في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] إلى آخر السورةَ، وليس في القرآنِ آيتان كلُّ آية حَوَتْ حروفَ المعجم غيرُهما، مَنْ دعا الله بهما، استُجيبَ له. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}. [155] {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} يا معشرَ المسلمين؛ أي: انهزموا. {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} جمعُ المسلمين وجمعُ المشركين يومَ أُحد، وكأَنَّ قد انهزم أكثرُ المسلمين، ولم يبقَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثةَ عشرَ رجلًا ستةٌ من المهاجرين، وهم أبو بكر، وعمرُ، وعليٌّ، وطلحةُ، وعبدُ الرحمن بنُ عوفٍ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ. {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} طلبَ زلَّتَهم بأن سَوَّلَ لهم تركَ المركز، ومخالفةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} بسبب بعضِ ذنوبٍ كانت منهم، ثم بعدَ توبيخهم لطفَ بهم وطَيَّبَ قلوبَهم فقال: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} لا يعجلُ على العُصاة؛ لأنه لا يخافُ الفوتَ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ

[156]

حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}. [156] ثم حَذَّرَهم فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: المنافقينَ عبدَ اللهِ بنَ أُبيٍّ وأصحابَهُ. {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} في الاعتقادِ. {إِذَا ضَرَبُوا} سافروا. {فِي الْأَرْضِ} لتجارةٍ أو غيرِها. {أَوْ كَانُوا غُزًّى} أي: غزاةً جمع غازٍ. {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} أي: لا تتشبهوا بالكافرين بالنطق واعتقاد القول. {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ} القولَ والظن منهم. {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} في الدنيا. {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَعْمَلُونَ) بالغيب على أنه وعيد للكفار، والباقون: بالخطاب (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 177)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 217)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 115)، و"الكشف" لمكي (1/ 361)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (1/ 436)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 242)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 181)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 79).

[157]

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)}. [157] {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} في العاقبة. {وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من الغنائم. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (يَجْمَعُونَ) بالغيب؛ يعني: خير مما يجمعُ الناس، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬1)؛ لقوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ}. {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}. [158] {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} في العاقبة، فيجازيكم. قرأ نافعٌ وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (مِتُّمُ) و (مِتْنَا) و (مِتُّ) حيثُ وقعَ بكسر الميم، وافقهم في غير هذه السورة حفصٌ، وقرأ الباقون: بالضم، فمن قرأ بالضم من مات يموت، وبالكسر من مات يمات (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 218)، و"الكشف" لمكي (1/ 362)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 185)، و"تفسير البغوي" (1/ 436)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 243)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 181)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 80). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 373)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 178)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 115)، و"الكشف" لمكي (1/ 361 - 362)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (1/ 436)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 243)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 181)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 80).

[159]

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}. [159] {فَبِمَا رَحْمَةٍ} أي: فبرحمة. {مِنَ اللَّهِ} و (ما) صلة؛ كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13]. {لِنْتَ لَهُمْ} سَهَّلْتَ أخلاقَك حينَ خالفوك. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} جافِيًا. {غَلِيظَ الْقَلْبِ} قاسِيَهُ. {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} لنفروا وتفرَّقوا عنك. {فَاعْفُ عَنْهُمْ} تجاوزْ عن فِعلهم بأُحُدٍ. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} اشفعْ حتى أُشَفِّعَكَ. {وَشَاوِرْهُمْ} تطييبًا لقلوبهم. {فِي الْأَمْرِ} أي: أمرِ الحربِ؛ أي: خذْ ما عندَهم من الرأي فيما عرضَ لك فيما ليس عندك فيه وحيٌ. {فَإِذَا عَزَمْتَ} على فعلٍ بعدَ المشاورةِ، والعزمُ: هو عقدُ المرءِ على شيءٍ يريدُ كونَهُ. {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} لا على مشاورتهم. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} فينصرهم.

[160]

{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}. [160] {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} يُعِنْكُم كيومِ بدرٍ. {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} كيومِ أُحد، والخِذلانُ: القعودُ عن النصرةِ. {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} بعدَ خذلانه. {وَعَلَى اللَّهِ} وحده. {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فليخصُّوه بالتوكُّل. عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَوْ أَنَّكمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تغدُو خِمَاصًا، وَتَروحُ (¬1) بِطَانًا" (¬2). {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}. [161] {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: يخونَ. وقرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (يُغَلَّ) بضم الياء ¬

_ (¬1) في "ن": "وتعود". (¬2) رواه الترمذي (2344)، كتاب: الزهد، باب: في التوكل على الله، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (4164)، كتاب الزهد، باب: التوكل واليقين، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 30).

[162]

وفتح الغين (¬1)؛ يعني: يُخانَ. نزلتْ في قَسْم الغنيمةِ أو سترِ شيءٍ منها. روي عن عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيِه، عن جدِّهِ: أَنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكرٍ، وعمرَ رضي الله عنهما حرقوا متاعَ الغالِّ، وضربوه (¬2)، واستدل الإمامُ أحمدُ بذلكَ، فقال في الغالِّ، وهو الذي يكتمُ ما أخذَهُ من الغنيمة، فلا يَطَّلِعُ الإمامُ عليه، ولا يضعُه مع الغنيمة: يجبُ حرقُ رَحْلِه كلِّه، إلا السلاحَ والمصحفَ والحيوانَ ونفقتَه، ويُعَزَّرُ، ويؤخذ ما غَلَّ للمغنم، ولا يُحْرَمُ سهمَه من الغنيمةِ، وخالفه الثلاثة في ذلك، وقالوا: يعزَّرُ فقط، ولا يُحرم سهمَه. {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ} أي: بإثمه. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لأنه عادل. {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)}. [162] {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} قرأ أبو بكرٍ: (رُضْوَانَ) بضم ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 179 - 180)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 218)، و"الكشف" لمكي (1/ 363 - 364)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 1885)، و"تفسير البغوي" (1/ 440)، و"التيسير" للداني (ص: 61)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 243)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 181)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 81). (¬2) رواه أبو داود (2715)، كتاب: الجهاد، باب: في عقوبة الغال، والحاكم في "المستدرك" (2591)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 102)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

[163]

الراء (¬1)، والآية توقيفٌ على تَبايُن المنزلتينِ، وافتراقِ الحالتيِن. {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} متحملًا له. {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)}. [163] {هُمْ دَرَجَاتٌ} أي: هم ذوو درجات. {عِنْدَ اللَّهِ} المعنى: المثابون والمعاقَبون متفاوتون في المنازلِ والجزاءِ يومَ القيامة. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم. {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}. [164] {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} عربيًّا مثلَهم؛ ليفهموا عنه، وليَشْرُفوا به. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ظاهر. ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان، في تفسير الآية الثانية من سورة المائدة.

[165]

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}. [165] ثم أدخلَ همزةَ الاستفهام على الواو العاطفةِ الجملةَ بعدَها على محذوف، فقال: {أَوَلَمَّا} وتقديره: أفعلتم كذا، وقلتم حين {أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} بأُحد بقتل سبعينَ منكم. {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} ببدرٍ بقتلِ سبعينَ وأسرِ سبعينَ منهم. {قُلْتُمْ} تعجُّبًا. {أَنَّى هَذَا} أي: كيف خُذلنا ونحن مؤمنون. {قُلْ هُوَ} أي: الخذلانُ. {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} لمخالفتكم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وترِك المركز. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من النصرِ ومنعِه. {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)}. [166] {وَمَا} مبتدأ؛ أي: والذي. {أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} بأُحدٍ، خبرُه {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بعلمِه. {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)}.

[167]

[167] {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} المعنى: إن ما أصابهم كان بعلمِ الله، وليُظْهِرَ إيمانَ المؤمنين بثبوتهم على ما أصابهم، وليظهرَ نفاقَ المنافقين بقلَّة صبرهم. {وَقِيلَ لَهُمْ} أي: الذين نافقوا، وهم عبدُ الله بنُ أُبيٍّ وحلفاؤه حين انخزلوا عن أُحد. {تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أعداءَهُ. {أَوِ ادْفَعُوا} عن حرمِكم وأهليكم إنْ لم يكن للهِ. {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} فأظهر تعالى كذبهم بقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} لأنهم قبل ذلك لم يظهرْ منهم ما يدلُّ على كفرهم، فلما انخزلوا، ظهر. {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} يُضمرون خلافَ ما يُظهِرون من كلمةِ الإيمان. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} قرأ السوسيُّ عن أبي عمرٍو: (أَعْلَمْ بِمَا) بإسكان الميم عندَ الباء، وتقدم ذِكْرُ ذلك. {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}. [168] {الَّذِينَ قَالُوا} يعني: ابنَ أُبَيٍّ وأصحابَهُ قالوا {لِإِخْوَانِهِمْ} في النسبِ، لا في الدين، وهم شهداءُ أُحد.

[169]

{وَقَعَدُوا} أي: وقد قعدوا عن القتال. {لَوْ أَطَاعُونَا} وانصرفوا عن محمد. {مَا قُتِلُوا} قرأ هشام: (قُتِّلُوا) بتشديد التاء، والباقون: بالتخفيف (¬1). {قُلْ} لهم يا محمد: {فَادْرَءُوا} فادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} برأيِكم وحِيَلِكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن الحذرَ يُنجي من القدر. {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}. [169] {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} نزلتْ في شهداءِ بدرٍ، وقيل: في شهداءِ أُحدٍ: حمزةَ وأصحابِهِ. قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ بخلافٍ عنه (يَحْسَبَنَّ) بالغيب وفتح السين؛ أي: لا يحسبن النبي، وقرأ الباقون: بالخطابِ وكسر السينِ (¬2)، والمراد به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ ابن عامر (قتلوا) بتشديد التاء (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 364)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 185)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 243)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 83). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 185)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءاث العشر" لابن الجزري (2/ 244)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 83). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 129)، و"الكشف" لمكي (1/ 364)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 185)، و"تفسير البغوي" (1/ 447)، و"التيسير" =

[170]

{بَلْ} هم. {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} من الجنة، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ كَطَيْرٍ خُضْرٍ أَوْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الجَنَّةِ أَيْنَ شَاءَتْ" (¬1). {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)}. [170] {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} من الشهادة والكرامة والفضيلة على غيرهم؛ لأنهم أحياءٌ مقرَّبون. {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} إخوانِهم الذين بَقُوا بعدَهم ولم يُقْتلوا. {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} المعنى: يفرحون يومَ القيامةِ بسلامةِ إخوانهم الذين بَقُوا بعدَهم حيثُ وصلوا إليهم آمنين. {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}. ¬

_ = للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 243)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 83). (¬1) رواه الترمذي (3011)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2801)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الشهادة في سبيل الله، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

[171]

[171] ثم كرَّرَ تأكيدًا {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ} قرأ الكسائي: (وَإِنَّ الله) بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ الباقون: بالفتح عطفًا على {بِنِعْمَةٍ} (¬1) أي: يستبشرون بنعمة، وبأن الله {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَجِدُ الشَّهِيدُ أَلَمَ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ألمَ الْقَرْصَةِ" (¬2). {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)}. [172] ولما انصرفَ أبو سفيانَ نحو مكةَ بأصحابه، ندموا حيث لم يَسْتأصلوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه، فأرادوا العودةَ لذلك، فأحبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُرِيَ من نفسِه جَلَدًا وقوةً، فانتدبَ أصحابَه الذين كانوا معه في القتال للخروج في طلب أبي سفيانَ، فخرج - صلى الله عليه وسلم - بمَنْ معه حتى بلغ حمراءَ الأُسْدِ على ثمانيةِ أميالٍ من المدينة، فَجَبُنَ أبو سفيان عن العودِ، فقال لِنُعَيْمِ بنِ مسعودٍ الأشجعيِّ، أو لركبٍ مَرَّ به: إذا رأيتم محمدًا وأصحابَه، فأخبروهم ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 181)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 219)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 116)، و"الكشف" لمكي (1/ 364 - 365)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 185)، و"تفسير البغوي" (1/ 448)، و"التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 244)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 83). (¬2) رواه الدارمي في "سننه" (2408)، وابن حبان في "صحيحه" (4655)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 164)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[173]

أنا قد أجمعنا على الكرة عليهم، فأخبروهم فقالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فنزل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1) أي: أجابوهما. {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} أي: نالهم الجرحُ. وتقدم اختلافُ القرَّاء في فتح القاف وضمِّها. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} بطاعتِهم للهِ ورسوله. {مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا} المعاصيَ. {أَجْرٌ عَظِيمٌ} و (من) في {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} للتبيين، مثلها في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} [الفتح: 29]؛ لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلُّهم واتقوا، لا بعضُهم. {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}. [173] {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} نُعيمٌ الأشجعيُّ، أو الرَّكْبُ: {إِنَّ النَّاسَ} أبا سفيانَ وأصحابَه. {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} ليستأصلوكم. {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ} القولُ {إِيمَانًا} يقينًا وقوةً؛ بأن أخلصوا النيةَ، وعزموا على الجهاد. {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} كافِينا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (4/ 179)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 73).

[174]

{وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: الموكولُ إليه. {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}. [174] وروي أن أبا سفيان كان واعدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يلقاهُ ببدرٍ الصغرى، وكانت موضعَ سوقٍ لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كلِّ عام ثمانيةَ أيام، فلما كان العامُ القابل، جَبُنَ أبو سفيانَ عن الذهاب إلى بدرٍ، وذهب - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، ومعهم تجاراتٌ، فكسبوا في (¬1) تجاراتهم، ولم يلقوا عدوًا. {فَانْقَلَبُوا} أي: رجعوا من بدر (¬2). {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} بسلامةٍ وربحٍ. {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} شيء يسوؤهم. {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} طاعةَ الله ورسولِه. {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} أعطاهم ثوابَ الغزوِ، ورضيَ عنهم. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}. [175] {إِنَّمَا ذَلِكُمُ} أي: القائلُ لكم: ¬

_ (¬1) "في" ساقطة من "ن". (¬2) "من بدر" ساقطة من "ن".

[176]

{إِنَّمَا ذَلِكُمُ} ترهيبًا، فـ (ذلكم) مبتدأ، خبرُه: {الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي: يخوِّفُكم بأوليائه. {فَلَا تَخَافُوهُمْ} أي: الشيطانَ وأولياءه. {وَخَافُونِ} قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (وَخَافُونِي) بإثباتِ الياء حالةَ الوصل، ويعقوبُ يُثْبِتُها في الحالين (¬1). {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: مصدِّقين؛ لأن الإيمانَ يقتضي أن يقدَّمَ خوفُ الله على غيره. {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)}. [176] {وَلَا يَحْزُنْكَ} قرأ نافعٌ: بضم الياء وكسر الزاي من (أَحزنه) في جميع القرآن، إلا قولَه في الأنبياء: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الآية: 103]، وأبو جعفرٍ ضده، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي من حَزَنه يَحْزُنه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 223)، و"الكشف" لمكي (1/ 374)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 86). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 181)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 219)، و"الكشف" لمكي (1/ 365)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (1/ 452)، و"التيسير" للداني (ص:91 - 92)، و"النشر في القراءات =

[177]

{الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} يقعون فيه سريعًا بمظاهرة المشركين، والمراد: كفارُ قريش. المعنى: لا تحزنْ لخوفٍ يلحقُكَ بسببِ المظاهَرةِ عليك. {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} أي: دينَه. {شَيْئًا} بمسارعتهم إلى الكفر. {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا} نصيبًا. {فِي} ثواب. {الْآخِرَةِ} فلذلك خذلهم، وجعلَ وبالَ كفرِهم راجعًا عليهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} مع الحرمان من الثواب. {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)}. [177] {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} استبدَلُوا. {الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} وإنما يضرُّون أنفسهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تكريرٌ للتأكيد. ¬

_ = العشر" لابن الجزري (2/ 244)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 86).

[178]

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}. [178] {وَلَا يَحْسَبَنَّ} قرأ حمزةُ هذا والذي بعده: بالخطاب وفتح السين، وقرأ الباقون: بالغيب وكسر السين، فمن قرأ بالغيب تقديرُه: ولا يحسبَنَّ الكفَّارُ، ومن قرأ الخطاب؛ يعني: ولا تحسبنَّ يا محمد (¬1). {الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} أي: نُمهلُهم ونُخَلِّيهم مع إرادتهم. {خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} والإملاءُ: الإمهالُ والتأخير. {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نمهلُهم. {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} نزلت في مشركي مكة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (¬2). {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 379)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 182)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (1/ 453)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 244)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 87). (¬2) رواه الترمذي (2330)، كتاب: الزهد، باب: (22)، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 40)، والحاكم في "المستدرك" (1256)، عن أبي بكر -رضي الله عنه-.

[179]

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}. [179] ولما قال المشركون: يا محمد! تزعُم أن مَنْ خالفك فهو في النار، واللهُ عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة، واللهُ عنه راضٍ، فأخبرنا بمن يؤمنُ بكَ ومن (¬1) لا يؤمن بك (¬2)، أنزل الله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (¬3) أيها المشركون من الكفر والنفاقِ. {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي: يبينَ المنافقَ من الطيب؛ أي: المؤمِن، فبان المنافقُ يوم أَحُدُ بتخلُّفهم عن الغزو. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبٌ: (يُمَيِّزَ) بضم الياء الأولى وتشديد الثانية للمبالغة؛ من مَيَّزَ يُمَيِّزُ، وقرأ الباقون: بالفتح والتخفيف؛ من مازَ يَميزُ، وهما لغتان (¬4)، وأصل المَيْزِ: الفصلُ بينَ المتشابهات. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} لأنه لا يعلم الغيبَ أحدٌ غيرُه. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} فيُطْلِعهُ على ما يشاء من غيبِهِ. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} بأن تصدِّقوهم. ¬

_ (¬1) في "ت": "وبمن". (¬2) "بك" ساقطة من "ن". (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 73)، و"تفسير البغوي" (1/ 453). (¬4) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 182)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 220)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 118)، و"الكشف" لمكي (1/ 369)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (1/ 454)، و"التيسير" للداني (ص: 92)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 244)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 183)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 88).

[180]

{وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا يُقَدر (¬1) قدرُه. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}. [180] {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ} يعني: البخلَ. {خَيْرًا لَهُمْ} والقراءة بالخطاب للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لا تحسبنَّ يا محمدُ بخلَ الذين يبخلون هو خيرًا. {بَلْ هُوَ} يعني: البخلَ. {شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} أي: المال الذي منعوا زكاته؛ بأن يجعل حَيّهً تُطَوَّقُ في عنق مانعها. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تنهشُه من قَرْنه إلى قدمِه. {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأنه الدائمُ الباقي بعدَ فناءِ خلقه وزوالِ أملاكهم، فيموتون ويرثُهم. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازيهم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (يَعْمَلُونَ) بالغيب، وقرأ الباقونَ: بالخطابِ على الالتفات (¬2)، وهو أبلغ في الوعيد. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ "يقادر" والمثبت هو الصواب. (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 184)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 220)، =

[181]

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)}. [181] {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} نزلت لما قال اليهود عند سماعهم {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]: إِنَّ اللهَ فقيرٌ يستقرضُ مِنَّا، ونحن أغنياءُ، والذي قالَ هذهِ المقالةَ من اليهود فنحاصُ بنُ عازوراءَ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وقالونُ عن نافعٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (لَقَدْ سَمِعَ) بإظهار الدال عند السين، والباقون: بالإدغام (¬1). {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} من الكذبِ في اللوحِ المحفوظِ، فيجازيهم عليه. {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي: النار وهو معنى المُحرِق. قرأ حمزةُ: (سَيُكْتَبُ) بالياء وضمِّها وفتح التاء، (وَقَتْلَهُمْ): برفع اللام، (ويَقُولُ): بالياء، وقرأ الباقون: (سَنَكْتُبُ) بالنون وفتحها وضم التاء، (وَقَتْلَهُمُ): بالنصب، (ونَقُولُ): بالنون (¬2). ¬

_ = و"الكشف"، لمكي (1/ 369)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (1/ 456)، و"التيسير" للداني (ص: 92)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 245)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 183)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 89). (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 381)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 117)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 187)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 183)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 89). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 382)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 184)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 221)، و"الكشف" لمكي (1/ 369)، =

[182]

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}. [182] فإذا أُلقوا في النار، يقال لهم: {ذَلِكَ} أي: النازلُ بكم من العذاب. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} لأنه عادل لا يعاقب غير المسيء، ويثيب المحسنَ. {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)}. [183] {الَّذِينَ قَالُوا} يعني: وسمعَ اللهُ قولَ الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} أمرَنا في كتبِنا. {أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ} أي: لا نصدق رسولًا يزعُم أنه جاء من عند الله. {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} فيكونَ دليلًا على صدقه، والقربانُ كلُّ ما يتقرَّبُ به إلى الله، وكان إذا قُرِّبَ قربانٌ إن قُبِل، جاءت نارٌ بيضاءُ فأحرقته، وإن لم يُقبل، بقيَ مكانه، وسبب نزولها أن كعبَ بنَ الأشرفِ وأصحابَه أتوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا محمدُ! تزعم أن الله بعثك إلينا رسولًا، ¬

_ = و"الغيث" للصفاقسي (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (1/ 457)، و"التيسير" للداني (ص: 92)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 245)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 183)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 89 - 90).

[184]

وأنزل عليك كتابًا، وإن الله قد عهدَ إلينا في التوراة ألَّا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكلُه النار، فإن جِئْتَنا به، صَدَّقناك، فأنزل الله الآية (¬1). قال السُّدِّيُّ: قيل لبني إسرائيل: من جاءكم يزعمُ أنه نبيٌّ، فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكُله النار، إلا محمدًا وعيسى، فإذا أتيا، فآمنوا بهما؛ فإنهما لا يأتيان بقربان، قال الله تعالى إقامةً للحجة عليهم: {قُلْ} يا محمد: {قَدْ جَاءَكُمْ} يا معشرَ اليهود. {رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي} كيحيى وزكريا. {بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} فقتلتموهم. {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي: قتلهم أسلافُكم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}؟ معناه: تكذيبُهم مع علمِهم بصدقك؛ كقتل آبائهم الأنبياءَ مع إتيانهم بالقربان (¬2). {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)}. [184] ثم قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} أي: الصحف، جمعُ زبور؛ كرسول. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (2/ 831)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 74). (¬2) في "ن": "القربان". وانظر: "تفسير البغوي" (1/ 458)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 809).

[185]

{وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} الواضحِ. قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ: {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ} بزيادة (باء) (¬1) بعد الواو فيهما، وافقه ابنُ ذكوان في (وبالزبر) (¬2). المعنى: إن كذبوك، فقد كذبوا الأنبياء قبلك مع قيامِ المعجز، وهذا تسليةٌ له - صلى الله عليه وسلم -. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}. [185] ثم بَشَّرَ المؤمنين، وحذَّرَ الكافرين بقولِه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} المعنى: إن النفوس تزهقُ بملابسةِ أيسرِ جزءٍ من الموت. {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} أي: جزاء أعمالكم. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ. {فَمَنْ زُحْزِحَ} أُبْعِدَ. {عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ظَفِرَ بالنجاةِ، وأصلُ الفوزِ: الظَّفَرُ ¬

_ (¬1) في "ت": "ما". (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 185)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 221)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 118)، و"الكشف " لمكي (1/ 370)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (1/ 458)، و"التيسير" للداني (ص: 92)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 245)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 183)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 92).

[186]

بالخير معَ حصول السلامة. قرأ أبو عمرو (وَزُحْزِح عنِ) بإدغام الحاء في العين، ولم يدغمها فيها في غير ذلك (¬1). {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} الباطل. المعنى: الانتفاعُ بالدنيا يسيرٌ، ثم يزولُ عن قريب. {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}. [186] {لَتُبْلَوُنَّ} لَتُخْتبَرُنَّ و (اللام) للتأكيد، وفيه معنى القسم، و (النونُ) لتوكيد القسم. {فِي أَمْوَالِكُمْ} بالجوائحِ. {وَأَنْفُسِكُمْ} بالموتِ والقتلِ ومفارقةِ الأهل. {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} اليهودِ والنصارى. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مشركي العرب. {أَذًى كَثِيرًا} طعنًا في ديِنكم، وسبًّا كسبِّ ابنِ الأشرفِ لكم ولنبيِّكم، وتشبيِبهِ بنسائكم. {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ} الصبرَ والتقوى. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 183)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 92).

[187]

{مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: من خيرِ الأمور التي يُعْزَمُ عليها، ويُبالَغُ في طلبها، والعزمُ: قَصْدُ الإمضاءِ. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}. [187] {وَإِذْ} أي: واذكر إذ {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو بكرٍ عن عاصم: بالغيب فيهما؛ لقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} أي: طرحوه وضيعوه، وقرأ الباقون: بالخطاب؛ أي: وقلنا لهم (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) (¬1). {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} من حطامِ الدنيا. {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} يختارون لأنفسهم. قال قتادةُ: هذا ميثاقٌ أخذَهُ الله تعالى على أهل العلم، من عَلِمَ شيئًا، فَلْيُعَلِّمْهُ، وإياكم وكتمَ العلم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلجَامٍ مِنْ نَارٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 384)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 185)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 221)، و"الكشف" لمكي (1/ 371)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 187)، و"تفسير البغوي" (1/ 462)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 93 - 94). (¬2) رواه أبو داود (3658)، كتاب: العلم، باب: كراهية منع العلم، والترمذي =

[188]

{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}. [188] {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} أي: بما فعلوا. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامر: بالغيب؛ أي: لا يحسبنَّ الفارحونَ فرحَهم مُنْجيًا لهم من العذاب، وقرأ الكوفيون، ويعقوبُ: بالخطاب؛ أي: لا تحسبَنَّ يا محمدُ الفارحين (¬1). {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} نزلَتْ في المنافقين الذين كانوا إذا خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو، تخلَّفوا عنه، فإذا رجعَ، حلفوا له، واعتذروا إليه، وأحبُّوا أن يُحْمَدوا بما (¬2) لم يَفْعلوا (¬3). {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: بالغيبِ وضمِّ الباءِ [خبرًا عن ¬

_ = (2649)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في كتمان العلم، وقال: حسن، وابن ماجه (266)، في المقدمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 186)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 116 - 117)، و"الكشف" لمكي (1/ 367 - 368)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 187)، و"تفسير البغوي" (1/ 463)، و"التيسير" للداني (ص: 92)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 2/ 94). (¬2) في "ت": "لما". (¬3) رواه البخاري (4291)، كتاب: التفسير، باب: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا}، ومسلم (2777)، في أول كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

[189]

الفارحين؛ أي: فلا يحسبُنَّ أنفسَهم، وقرأ الباقون: بالخطاب وفتح الباء،] (¬1) أي: فلا تحسبَّنهم يا محمدُ (¬2). {بِمَفَازَةٍ} أي: بِمَنْجاة. {مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بكفرِهم وتدليِسهم. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}. [189] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدِرُ على عقابهم. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}. [190] ثم أومأ الله تعالى إلى الاعتبار بعجيبِ الصنعِ وكمالِ القدرةِ وتنزيهِ الخالق بما رُوي أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ إذا قامَ من الليل بعدَ (¬3) أن يتسوَّكَ ثم ينظرَ إلى السماء: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 117)، و"تفسير البغوي" (1/ 463)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 184)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 95). (¬3) "بعد" سقط من "ن".

[191]

{وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ} (¬1) لدلالات على القدرة العظيمة. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ذوي العقول. {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}. [191] ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} أي: مضطجعين. تلخيصُه: يُديمون ذكرَهُ؛ لأن الإنسانَ غالبًا يكونُ على هذه الأحوال. {وَيَتَفَكَّرُونَ} أي: يذكرونه متفكِّرين. {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وما فيهما من العجائب؛ استدلالًا على القدرةِ العظيمةِ والحكمةِ الباهرةِ، والفكرةُ تُذهب الغفلةَ، وتُحدث للقلبِ الخشيةَ، ويقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} أي: الخلقَ {بَاطِلًا} أي: عبثًا. {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} قرأ أبو عمرٍو: (النَّارِ) بالإمالة، ويدغمُ الراءَ في الراء التي بعدها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5957)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء إذا انتبه من الليل، ومسلم (763)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

[192]

{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}. [192] {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ} دخولَ تخليدٍ. {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أَهَنْتهُ وفَضَحْتَهُ. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} تخلِّصُهم منها. {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}. [193] {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} أي: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} لأنه لا شيءَ أعظمُ من النداءِ للإيمان. {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} اقبضْ نفوسَنا واحشُرْنا في جملةِ النبيين والصالحين. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الأَبْرَارِ) بالإمالة، ورواه ورشٌ من طريق الأزرق بينَ بينَ، واختُلِفَ فيه عن حمزةَ، وابنِ ذكوانَ (¬1). {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}. [194] {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} دعاء بمعنى الخبر. تلخيصُه: اغفر لنا جميعَ ذنوبنا لتؤتينا ما وعدتنا. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 187)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 184)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 96).

[195]

{عَلَى} ألسنةِ {رُسُلِكَ} من الفضلِ والرحمةِ. {وَلَا تُخْزِنَا} ولا تُهِنَّا. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} بإثابةِ المؤمنِ، وإجابةِ الداعي، وتكريرُ {رَبَّنَا} مبالغةٌ في التضرُّعِ والابتهال، ومؤذِنٌ بالإجابة. وعن جعفرٍ الصادقِ: "مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ فقالَ: رَبَّنا خمسَ مَرَّاتٍ، أنجاهُ اللهُ مما يخافُ، وأعطاه ما أراد، وقرأ هذهِ الآياتِ" (¬1). {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}. [195] {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي} أي: بأني {لَا أُضِيعُ} لا أُهْمِلَ. {عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} أَيُّها المؤمنونَ. {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} قالتْ أمُّ سَلَمَةَ: "يا رسولَ الله! إني أسمعُ الله يذكرُ الرجال في الهجرةِ، ولا يذكرُ النساء"، فأنزل الله هذه الآية (¬2). {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} في النُّصرةِ والموالاةِ. ¬

_ (¬1) قال المناوي في "الفتح السماوي" (1/ 445): لم أقف عليه. (¬2) رواه الترمذي (3023)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النساء، والطبري في "تفسيره" (4/ 215)، وأبو يعلى في "مسنده" (6958)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 294)، والحاكم في "المستدرك" (3174).

[196]

{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أي: ديني وطاعتي، والمرادُ: المهاجرون؛ لأنهم أُوذوا في الله، وأُخرجوا من مكة. {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} أي: قاتلوا العدوَّ، ثم قُتلوا. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: (وَقُتِّلُوا) بالتشديد؛ أي: قُطِّعوا في المعركة، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ بتقديم (قُتِلُوا)؛ أي: قُتِلَ بعضُهم، وقاتلَ مَنْ بقي، وقرأ الباقونَ بالوجه الذي تقدَّم تفسيرُه أولًا (¬1). {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا} نصبٌ على المصدر؛ أي: لأثيبنَّهُمْ ثوابًا. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} على الطاعة. {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}. [196] ولما قال بعض المؤمنين: إن أعداءَ الله في التجاراتِ والخيرِ، ونحن في الشدةِ، نزلَ خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ غيرُه: {لَا يَغُرَّنَّكَ} قرأ رسٌ عن يعقوبَ: بتخفيف النون (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 187 - 188)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 221)، و"الكشف" لمكي (1/ 373)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 187)، و"تفسير البغوي" (1/ 467)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 182 - 184)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 98). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 387)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 239)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 184)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 99).

[197]

{تَقَلُّبُ} أي: تنقُّلُ. {الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} بالتجاراتِ ووجوهِ المكاسبِ. {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}. [197] {مَتَاعٌ} أي: فتقلُّبهم متاعٌ {قَلِيلٌ} وبُلْغَةٌ يسيرةٌ في الدنيا. {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} مصيرُهم. {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفِراشُ. {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}. [198] {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} قرأ أبو جعفرٍ: (لَكِنَّ) بتشديد النون، والباقون: بتخفيفها (¬1). {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا} جزاءً وثوابًا. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} من متاعِ الدنيا. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 387)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 239)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 95)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 184)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 99).

[199]

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)}. [199] ونزل في مؤمني أهل الكتاب؛ كعبدِ الله بنِ سلامٍ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} أي: القرآن. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} أي: التوراة. {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} أي: متواضعينَ له. {لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} المكتوبةِ في التوراةِ من نعتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. {ثَمَنًا قَلِيلًا} من حُطامِ الدنيا خوفًا على الرئاسة كغيرهم من اليهود. {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ} لا يحتاجُ إلى كَتْبِ يدٍ ولا وَعْيِ صدْرٍ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}. [200] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} على دينكم فلا تتركوه لشدةٍ ولا رَخاءٍ. {وَصَابِرُوا} غالِبوا الكفارَ بالصبرِ. {وَرَابِطُوا} اثبتوا في الثغور رابطينَ خيولَكُم، وأصلُ الرَّبْطِ: الشَّدُّ، ويستعملُ لكلِّ مقيمٍ في ثغرٍ يدفَع عَمَّنْ وراءه، وإنْ لم يكنْ ثَمَّ خَيْلٌ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تَرَجٍّ في حقِّ البشر، قال - صلى الله عليه وسلم -:

"رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبيِلِ اللَّهِ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2735)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله، ومسلم (1881)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-، وهذا لفظ البخاري.

سورة النساء

سُورَةُ النِّسَاء مدنيةٌ، وآيُها (¬1) مئةٌ وسبعون وست آيات، وحروفها ستةَ عَشَرَ ألفًا، وثلاثون حرفًا، وكَلِمُها ثلاثةُ آلافٍ وتسعُ مئةٍ وخمسٌ وأربعونَ كلمة. بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}. [1] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} خطابٌ لجميعِ بني آدَم (يا) حرفُ نداء و (أَيُّ) منادى مفَردٌ، و (ها) تنبيهٌ، و (الناسُ) نعتٌ لأيُّ، والناسُ والمؤمنون ونحوُهما تعمُّ العبيدَ عندَ أحمدَ وأصحابِه وأكثرِ أتباع الأئمة. {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} والربُّ: المالكُ. {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدمَ. قرأ أبو عمرو: {خَلَقَكُمْ} بإدغام القاف في الكاف، ولم يدغم من المتقاربين في كلمة إلا القاف في الكاف التي تكون في ضمير الجمع المذكَّرِينَ إذا تحركَ ما قبلَ القافِ لا غيرُ، ¬

_ (¬1) في "ت": "وآياتها".

وذلك نحو قوله: (خَلَقكُّمْ) و (رَزَقكُّمْ) و (وَاثَقكُّم) وشبهِه، وأظهرَ ما عداه مما قبلَ القاف فيه ساكنٌ، ومما ليس بعد الكاف فيه ميمٌ؛ نحو قولِه تعالى: (مِيثَاقَكُمْ) و (بِوَرِقِكُمْ) و (خَلَقَكَ) و (نَرْزُقُكَ) وشبهِه (¬1). {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: وخلق منهُ أمكم حَوَّاءَ من ضِلَعٍ من أضلاعِه اليسرى. {وَبَثَّ} نشرَ وأظهَر. {مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي: نشرَ من تلكَ النفسِ والزوجِ المخلوقةِ منها بنينَ وبناتٍ كثيرةً (¬2). {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أي: تتساءلون: تقسمون. قرأ عاصمٌ، وحمزةٌ، والكسائيُّ، وخَلَفٌ: (تَسْألونَ) بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين. {وَالْأَرْحَامَ} القرابات، قراءةُ العامة: بالنصب؛ أي: واتقوا الأرحامَ أَنْ تقطعوها، وقرأ حمزةُ: بالخفض، أي: به وبالأرحامِ، والأولى أفصحُ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر قراءة أبي عمرو في: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 185)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 103). (¬2) من قوله: "لا يفلح قوم شجوا ... " (ص: 23) من هذا الجزء، إلى هنا ساقط من "ش"، بمقدار عشر لوحات من النسخ الخطية الأخرى. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 389 - 390)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 188)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 226)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 118)، و"الكشف" لمكي (1/ 375)، و"تفسير البغوي" (1/ 471)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، =

[2]

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} حفيظًا مطلعًا. {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}. [2] ونزل في رجل من غَطَفانَ كان معه مالٌ كثيرٌ لابنِ أخٍ له يتيمٍ، فلما بلغَ، طلبَ المالَ، فمنعَه عمُّهُ. {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (¬1) سلِّموها إليهم إذا بلَغوا، واليتامى: جمعُ يتيمٍ، وهو الذي مات أبوه؛ من اليتمِ، وهو الانفراد. {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ} أي: الحرام. {بِالطَّيِّبِ} بالحلالِ؛ لأنهم كانوا يأخذون الجيدَ من مالِ اليتيم، وهو خبيثٌ في حَقِّهم، ويضعون مكانه الرديءَ من أموالهم، وهو طَيِّبٌ لهم. {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي: معها. {إِنَّهُ} أي: الأكلَ. {كَانَ حُوبًا} إثمًا. {كَبِيرًا} فلما سمعَها العمُّ، قال: "أَطَعْنا اللهَ وأطعْنا الرسولَ، نعوذُ بالله من الحُوبِ الكبير"، فدفع إليه ماله. ¬

_ = و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 185)، و "معجم القراءات القرآنية" (2/ 103). (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 79)، و"تفسير البغوي" (1/ 471).

[3]

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}. [3] {وَإِنْ خِفْتُمْ} يا أولياءَ اليتامى. {أَلَّا تُقْسِطُوا} أي: لا تَعْدِلوا. {فِي الْيَتَامَى} إذا نكحتموهُنَّ. {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} أي: ما حلَّ لكم غيرَهُنَّ. قرأ حمزةُ (طَابَ) بالإمالةِ (¬1). {مِنَ النِّسَاءِ} الغرائبِ. {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أي: تزوَّجوا إن شئتُم مَثْنى، وإن شئتم ثُلاثَ، وإن شئتم رُباعَ، أنتم مُخَيَّرون في ذلك، وهذا إجماع أن أحدًا من الأمة لا يجوزُ له أن يزيد على أربعِ نسوةٍ إذا كان حُرًّا، وأما العبدُ، فلا يجوز له أن يجمعَ بينَ أكثرَ من زوجتين عندَ الثلاثة، وقال مالكٌ: هو كالحرِّ في جواز جمعِ الأربعِ إليه، وكانت الزيادةُ على الأربع من خصائصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لا يشاركه أحدٌ من الأمة فيه، روُي أن قيسَ بنَ الحارثِ كان تحتَه ثمان نسوة، فلما نزلت هذه الآيةُ، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طَلِّقْ أَرْبَعًا، وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا"، قال: ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 188)، و"تفسير القرطبي" (5/ 15)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 162)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 186)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 106).

[4]

فجعلتُ أقولُ للمرأة التي لم تلدْ مني: يا فلانة! أدبري، وللتي قد ولدت: يا فلانة! أقبلي (¬1). {خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} بينَ هذه الأعداد. {فَوَاحِدَةً} أي: فانكحوا واحدةً. قرأ أبو جعفرٍ (فَوَاحِدَةٌ) بالرفع خبرُ مبتدأ؛ أي: فالمُقنعِ واحدةٌ، وقرأ الباقون: بالنصب على المعنى الأول (¬2). {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من السراري؛ لأنه لا يلزمُ فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر. {ذَلِكَ أَدْنَى} أقربُ. {أَلَّا تَعُولُوا} تَجُوروا. {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}. [4] {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} أي: مهورَهُنَّ، جمعُ صَدُقَةٍ. {نِحْلَةً} عطيَّةً عن طيبِ نفسٍ. {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ} أي: من المال؛ لأن الصدقاتِ مالٌ. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير (18/ 359)، والدارقطني في "سننه" (3/ 271)، والبيهقي في "السنن الكبرى". (7/ 183). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 392)، و"تفسير البغوي" (1/ 474)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 245)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 186)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 107).

[5]

{نَفْسًا} نصبٌ تمييز؛ أي: إذا وهبْنَكُم شيئًا عن طيب نفس. {فَكُلُوهُ هَنِيئًا} طيبًا. {مَرِيئًا} سائغًا لا يُنَغِّصُه شيء. قرأ أبو جعفرٍ (هَنِيًّا مَرِيًّا) بتشديد الياء منهما من غير همز، والباقون: بهمزهما (¬1). {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)}. [5] {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} أي: المبذِّرين من الرجال والنساء والصبيان. {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} أي: قوامَ عيشكم. قرأ أبو عمرٍو، وقالونُ، والبزيُّ: (السُّفَهَا أَمْوَالَكُمْ) بإسقاطِ الهمزةِ الأولى بلا عِوَضٍ منها، ويَهْمزون الثانية، وقرأ ورشٌ، وقنبلٌ، وأبو جعفرٍ، ورُويسٌ: بتسهيل الثانية، فيجعلونها بين الهمزة والألف، ويفتحونها شبه مدة (¬2)، وقرأ الباقون، وهم عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ورَوْحٌ: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 475 - 476)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (3/ 167)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 186)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 108). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 396)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 190) و"الكشف" لمكي (1/ 376)، و"تفسير البغوي" (1/ 476)، و"التيسير" للداني (ص: 94)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 186)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 109).

[6]

بتحقيق الهمزتين، واختلفوا في قوله: (قِيَامًا)، فقرأ نافعٌ وابنُ عامر: (قِيَمًا) بغير ألف، والباقون: بالألف. {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} أي: أطعموهم واكسوهم منها لمن يجبُ عليكم رزقُه ومؤنتُه. {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} عِدَةً جَميلةً تطيبُ بها نفوسُهم. {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}. [6] ونزل في ثابتِ بنِ رفاعةَ، وفي عمِّه، وذلك أن رفاعةَ تُوُفِّيَ وتركَ ابنَهُ ثابتًا وهو صغيرٌ، فجاء عمُّه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إن ابن أخي يتيمٌ في حِجْري، فما يحلُّ لي من مالِهِ، وما أدفعُ إليه؟ فأنزل الله عز وجل: {وَابْتَلُوا} (¬1) أي: اختبروا. {الْيَتَامَى} في عقولهم وتصرُّفاتهم في أموالهم. {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} أي: صاروا أهلًا أن يَنْكِحوا أو يُنْكَحوا، ويحصلُ البلوغُ عندَ أبي حنيفةَ في حقِّ الغلامِ بالاحتلامِ والإحبالِ والإنزالِ إذا وطئ، أو إكمالِ ثماني عشرةَ سنةً، وفي حقِّ الجاريةِ بالحيضِ والاحتلامِ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (4/ 259)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 80).

والحبلِ، أو إكمالِ سبعَ عَشْرَةَ سنةً، وعندَ مالكٍ حَدُّ البلوغِ في حَقِّهِما الاحتلامُ والإنباتُ والانتهاءُ من السنِّ إلى ما يُعلم بالعادة بلوغُ مَن انتهى إلى مثله، ولم يحدَّ مالكٌ فيه حدًّا، ويزيد الإناثُ بالحيضِ والحملِ، وعند الشافعيِّ وأحمدَ حَدُّه في حَقِّهما الاحتلامُ، أو إكمالُ خمسَ عشرةَ سنةً، وتزيدُ الجاريةُ بالحيضِ والحمل، وأما نباتُ الشعر، فعند الشافعيِّ يقتضي الحكمَ ببلوغِ الكافرِ دونَ المسلمِ، وعندَ أحمدَ يقتضي البلوغَ مطلقًا. {فَإِنْ آنَسْتُمْ} أي: أبصرتم. {مِنْهُمْ رُشْدًا} هدايةً إلى مصالحهم، والرشدُ: الصلاحُ في المال فقط عندَ الثلاثة، وعند الشافعيِّ إصلاحُ الدينِ والمال. {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} من غير تأخير عن حدِّ البلوغ. {وَلَا تَأْكُلُوهَا} أيها الأوصياء. {إِسْرَافًا} بغير حَقٍّ. {وَبِدَارًا} سراعًا. {أَنْ يَكْبَرُوا} أي: لا تبادروا بالتفريط في إنفاقها قبلَ أن يكبروا حَذَرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمُها إليهم، ثم بَيَّنَ حالَ الأوصياءِ فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي: يطلبِ العفةَ من نفسِه، ويمتنعْ عن أكلها، والعِفَّةُ: الامتناع مما لا يَحِلُّ. {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا} محتاجًا إلى مال اليتيم، وهو يحفظُه. {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} يأخذْ قدرَ أجرته إذا عملَ.

[7]

{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} أمرُ إرشاد ليسَ بواجبٍ فَيُشهدُ لتزولَ عنه التهمةُ. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} كافيًا. {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)}. [7] وكانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساءَ ولا الصبيانَ، فَتُوفي أوسُ بنُ ثابتٍ الأنصاريُّ، وتركَ امرأتَه أُمَّ كُحَّةَ وثلاثَ بناتٍ، فأخذَ سُوَيْدُ وعَرْفَجَةُ ابنا عَمِّهِ ووصيَّاه جميعَ تركته، فنزل: {لِّلرِّجَالِ} (¬1) أي: الذكرِ من أولادِ الميت. {نَصِيبٌ} حَظٌّ. {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} هم المتوارثون من ذوي القرابات دونَ غيرهم. {وَلِلنِّسَاءِ} أي: الوارثاتِ منهنَّ. {نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ} أي: من المال. {أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} حظًّا مقطوعًا بوجوب تسليمِه إليهم. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 80)، و"تفسير البغوي" (1/ 481).

[8]

{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)}. [8] {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} يعني: قسمةَ الميراثِ. {أُولُو الْقُرْبَى} للميتِ ممَّنْ لا يرثُ. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي: فارْضَخُوا لهم من المال قبلَ القسمةِ، وحكمُ هذهِ الآيةِ منسوخٌ. {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} تقدَّم تفسيره قريبًا. {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)}. [9] ثم حضَّ على الشَّفَقَةِ على الأيتام فقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} أي: بعدهم. {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} أي: أولادًا صغارًا. قرأ حمزةُ: (ضِعَافًا) بالإمالة، بخلافٍ عن خلاد (¬1). {خَافُوا عَلَيْهِمْ} الفقرَ، أَمْرٌ للحاضرينَ المريضَ عندَ الإيصاء. {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} في أمرِهم الميتَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 227)، و"الكشف" لمكي (1/ 174 - 377)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 188)، و"التيسير" للداني (ص: 94)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 186)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 111).

[10]

{وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} عَدْلًا؛ بأن يأمروه بالتصدُّق بدونِ الثلث، ويترك الباقي لولده، ويَرْفُق باليتيم كما يرفُقُ بولده. تلخيصه: يفعلُ بالميتِ كما يحبُّ أن يُفْعلَ به لو كان هو الميتَ. {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}. [10] ونزل في الأوصياء الذين يأكلون ما لم يُبَحْ لهم من مالِ اليتيم، وهي تتناولُ كلَّ أَكْلٍ من أولياءِ السوءِ وقُضاتِه، وإن لم يكنْ وَصِيًّا (¬1): {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} بغير حَقٍّ. {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} أي: ملءَ بطونهم. {نَارًا} ما يجرُّ إلى النار، ويَؤُول إليها. {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ: بضم الياء؛ أي: (يُدْخَلُونَ نَارًا) مُسَعَّرَةً، وقرأ الباقون: بالفتح من صَلِيَ النارَ يَصْلاها: إذا حَلَّها وقاساها (¬2). ¬

_ (¬1) في "ن": "وليًّا". (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 398)، و"الحجة" لأبي زرعة (ص: 191)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 227)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 120)، و"الكشف" لمكي (1/ 378)، و"تفسير البغوي" (1/ 483)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 188)، و"التيسير" للداني (ص: 94)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 186)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 112).

[11]

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)}. [11] {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} أي: يأمرُكم، ويعهدُ إليكُم في شأن أولادكم إذا مِتُّمْ. {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إذا اجتمعَ مع الإناثِ بالاتفاق، وإلا فالذكرُ عصبةٌ منفردًا بالاتفاق، وفُضِّل الذكرُ على الأنثى في الميراث بجعلِ حظِّه مِثْلَي حَظِّ الأنثى؛ لأن الذكرَ في مَظِنَّةِ الحاجةِ أكثرَ من الأنثى، فإن كلَّ واحدٍ منهما في العادة يتزوَّجُ، ويكون له الولدُ، فالذكرُ يجبُ عليه نفقةُ امرأتِهِ وأولادِه، والمرأةُ يُنْفِقُ عليها زوجُها، ولا يلزمها نفقةُ أولادِها، وقد فضل الله الذكرَ على الأنثى في الميراثِ على وَفْقِ ذلك. {فَإِن كُنَّ} أي: المتروكاتُ. {نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أي: جماعةً. {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} الميتُ بالاتفاق. {وَإِنْ كَانَتْ} الوارثة. {وَاحِدَةً} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ (وَاحِدَةٌ) بالرفع على معنى: إن وقعتْ

واحدةٌ، وقرأ الباقون: بالنصب على خبر كان (¬1) {فَلَهَا النِّصْفُ} بالاتفاق. {وَلِأَبَوَيْهِ} يعني: لأبوي الميت. {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أرادَ: أن الأبَ والأمَّ يكون لكلِّ واحدٍ سدسُ الميراثِ عندَ وجود الولد، أو ولدِ الابن، بالاتفاق، والأبُ يكونُ صاحبَ فرضٍ. {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} من جميع الميراث، إلا أن يكون مع الأبوين زوجٌ أو زوجةٌ، فللأم ثلثُ ما يبقى بالاتفاق. {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أي: اثنان فصاعدًا، ذكورًا أو إناثًا. {فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} والباقي للأب إن كان معها أبٌ، فالإخوة لا ميراثَ لهم مع الأب، ولكنهم يحجُبون الأمَّ من الثلثِ إلى السدس، سواءٌ كانوا أشقاءَ، أو لأبٍ، أو لأمٍّ، بالاتفاق. قال قتادةُ: وإنما أخذهُ الأبُ دونَهم؛ لأنه يمونُهم، ويلي نكاحَهم والنفقةَ عليهم. قال ابنُ عطية: هذا في الأغلب (¬2). وعن ابن عباسٍ: أن الإخوة يأخذون السدسَ الذي حجبوا الأمَّ عنه (¬3). قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (فَلإِمِّهِ) بكسر الهمزة في الحرفين استثقالًا ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 192)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 227)، و"الحجة" لابن خالويه (ص: 120)، و"الكشف" لمكي (1/ 378)، و"تفسير البغوي" (1/ 489)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 188)، و"التيسير" للداني (ص: 94)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 186)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 113). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 17). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 489)، و"تفسير القرطبي" (5/ 72).

للضمة بعدَ الكسرة، وقرأ الآخرون: بالضمِّ على الأصل (¬1). {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} الميتُ. {أَوْ دَيْنٍ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يُوصَى) بفتح الصاد على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، وكذلك الحرفُ الآتي، ووافق حفصٌ في الثاني، وقرأ الباقون: بكسر الصاد فيهما. ثم حضَّ على تنفيذ وصايا الميت، وقضاء ديونه بقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} الذين يرثونكم. {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} في الدِّينِ والدنيا والآخرة. المعنى: منكم من يَظُنَّ أن ابنَهُ أنفعُ له بأنْ يبادرَ إلى مصالحِهِ وقضاءِ ديونه، فيكونُ الأبُ أنفعَ، وبالعكس، وأنا العالمُ بمن أنفعُ لكم، وقد دبَّرْتُ أمرَكم على ما فيه المصلحةُ، فاتبعوه. ورُوي أنَّ الولدَ إِن كانَ أرفعَ درجةً في الجنة، رُفع إليه والداه (¬2)، وإن كان الوالدُ أرفَع درجةً، رُفع إليه ولدُه؛ لتقرَّ بذلك أعينُهم. {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} أي: فرضَ الله الميراث فريضةً. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ} أي: لم يَزَلْ. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 399 - 400) و"الحجة"، لأبي زرعة (ص: 192 - 193)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 228)، و"الكشف" لمكي (1/ 379 - 380)، و"تفسير البغوي" (1/ 489)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 188)، و"التيسير" للداني (ص: 94)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 187)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 114). (¬2) في "ن": "والده".

[12]

{عَلِيمًا} بأمور العباد. {حَكِيمًا} فيما قضى وقَدَّرَ، فلا يُقْسَمُ إرثٌ إلا بعدَ قضاءِ دَيْنِ الميتِ، وإخراجِ ما أوصى به، بالاتفاق. {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)}. [12] {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} منكم، أو من غيرِكم. {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} هذا في ميراثِ الأزواج. {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} هذا في ميراث الزوجات، للواحدةِ الربعُ أو الثمنُ، وإن كنَّ أكثرَ من واحدة، اشتركْنَ فيه، والحكم في ذلك كلِّه متفقٌ عليه.

{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ} أي: الميتُ، وهو اسمُ (كان). {يُورَثُ} أي موروثٌ منه. {كَلَالَةً} خبرُها، والكلالةُ: مَنْ لا ولدَ لهُ ولا والدَ، فالأبُ والابنُ طرفان للرجل، فإذا ذهبا، تكَلَّلَهُ النسبُ؛ لأنَّ الورثةَ من جميع الإخوة وغيرِهم يحيطونَ بالميت كالإكليل يحيطُ بالرأسِ من جميعِ جوانبِه، وأعلاه وأسفلُه خاليان. {أَوِ امْرَأَةٌ} عطفٌ على (رجلٌ). {وَلَهُ} الضميرُ عائد على الرجل، واكتفى بإعادته عليه دون المرأة إذ المعنى فيهما واحدٌ، والحكمُ قد ضبطه العطفُ الأول. {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي: من الأم. {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} بالاتفاق. {فَإِنْ كَانُوا} أي: أولادُ الأم. {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي: من واحد. {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} بالسوية، لا يزيدُ نصيبُ ذكرِهم على أنثاهم، بالاتفاق. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} أي: مُدْخِلٍ الضررَ على ورثته بمجاوزةِ الثلثِ، ونصب (غير) على الحال، وتقدَّم خلاف القراء في قولِه: (يوصي) في الحرفِ المتقدِّم (¬1). {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكِّدٌ؛ أي: يوصيكم الله وصيةً. ¬

_ (¬1) في الآية رقم (11) من هذه السورة.

[13]

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} لا يعاجلُ بعقوبته. قال قتادة: كرهَ اللهُ الضِّرارَ في الحياةِ وعندَ المماتِ، ونهى عنه (¬1). {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)}. [13] {تِلْكَ} أي: الفروضُ المذكورةُ. {حُدُودُ اللَّهِ} شرائعهُ التي كالحدود المحدودة. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}. [14] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بكفره. {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} جَمَعَ خالدين، وأفرد خالدًا؛ نظرًا إلى معنى (مَنْ) ولفظِها، ونصبَهُما على الحال. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (نُدْخِلْهُ) في الحرفين بالنون، والباقون: بالياء (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (4/ 288). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 228)، و"التيسير" للداني (ص: 94)، =

[15]

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)}. [15] ثم خاطب الحكام فقال: {وَاللَّاتِي} مبتدأ. {يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} أي: الزنا. {مِنْ نِسَائِكُمْ} وخبرُ اللاتي: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} من المسلمين، وفيه بيانُ أن الزنا لا يثبتُ إلا بأربعةٍ من الشهودِ، بالاتفاق، فيسألُهم الحاكمُ عن ماهيته، وكيفيته، ومكانه، وزمانه، والمزنيِّ بها، فإن بينوه وقالوا: رأيناه وَطِئَها كالميلِ في المكحلةِ، وعُدِّلوا سرًّا وجهرًا، حكم به بالاتفاق، ويُشترط عند أبي حنيفةَ ومالكٍ حضورُهم للشهادة مجتمعين غيرَ مفترقين، فإن افترقوا في الشهادة، كانوا قَذَفَةً. قال أبو حنيفة: إلا أن يكونَ في مجلسٍ واحدٍ في ساعةٍ واحدةٍ. وعندَ الشافعيِّ: تصحُّ شهادتهم متفرقين؛ كما في سائر الحقوق؛ لإطلاق الآية. وعند أحمدَ: يشترط مجيئُهم في مجلس واحد، سواءٌ جاؤوا متفرقين، أو مجتمعين، فإن جاء بعضُهم بعدَ أن قام الحاكم، أو شهد ثلاثةٌ وامتنع الرابعُ، أو لم يكمِلْها، فهم قذفةٌ، وعليهم الحد. {فَإِنْ شَهِدُوا} عليهنَّ بالزنا. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (1/ 492)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 117).

{فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي: احبسوهن. {فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} أي: ملائكةُ الموت (¬1). {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} طريقًا في النكاح المغني عن السفاح، ثم نُسخ ذلك بنزول الحدِّ، وهو في حقِّ البِكْر جَلْدُ مئةٍ، وفي حَقِّ الثيِّبِ الجلدُ، والرجمُ، ثم نُسخ الجلدُ، وبقي الرجمُ، واختلف الأئمةُ في تغريبِ البكرِ الحرِّ بعدَ الجلد، فقال أبو حنيفة: لا يُغرَّبُ إلا أن يرى الإمامُ ذلك مصلحةً، فيغربُه على قدرِ ما يرى، وقال مالك: يُغَرَّبُ الرجلُ دونَ المرأة وتغريبهُ أن ينفَى سنةً إلى غيرِ بلده، فيُحْبس فيه، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: يُجمع في حق الزانيينِ البكرينِ بينَ الجلدِ والتغريبِ سنةً إلى مسافةِ قصرٍ، وتُغَرَّبُ المرأةُ مع مَحْرَمٍ، فإن امتنعَ، لم يُجبر. وأما ثبوتُ الزنا بالإقرار، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ لا يثبتُ حتى يقرَّ أربعَ مراتٍ، فأبو حنيفة يشترطُ أن يكونَ الإقرارُ في أربعةِ مجالسَ، وأحمدُ لا يشترطُ المجالس، فلو أقرَّ أربعًا في مجلس واحد، أو مجالسَ، ثبتَ عليه، وعندَ مالكٍ والشافعيِّ يثبتُ بإقراره مرةً واحدة، وإذا أقرَّ بالزنا ثم رجعَ عنه، قُبِلَ رجوعُه، وسقطَ الحدُّ عندَ الثلاثة، وقال مالكٌ: إن رجعَ بشبهةٍ يُعْذَرُ بها؛ كقوله: وطئتُ في نكاحٍ فاسدٍ ونحوِه، قُبِلَ وسقطَ عنه الحدُّ، وإن لم يرجعْ إلى شبهة، فعنه روايتان. واختلفوا في اللوطيِّ، فقال أبو حنيفة: يُعَزَّرُ، ولا حدَّ عليه، خلافًا لصاحبيه، وقال مالكٌ: يجبُ على الفاعلِ والمفعولِ به الرجمُ، أحصنا أو لم يُحصنا، وعند الشافعيِّ وأحمدَ: حكمُه حكمُ الزاني على ما تقدَّم. ¬

_ (¬1) في "ت": "العذاب".

[16]

{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}. [16] {وَاللَّذَانِ} أي: الرجلُ والمرأةُ. قرأ ابنُ كثيرٍ: (وَاللَّذَانِّ) و (اللَّذَيْنِ) و (هَاذَانِ) و (هَاذَيْنِ): مشدَّدَةَ النونِ للتأكيد (¬1). {يَأْتِيَانِهَا} أي: الفاحشةَ. {مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} عَيِّروهما باللسان. قال ابنُ عباسٍ: سُبُّوهُما، وقال: يُؤْذَى بالتعييرِ وضَرْبِ النِّعِال (¬2)، ذكر في الأولى الحبس، وهنا الإيذاء، قالوا: لأنَّ الأُولى في النساء، وهذه في الرجال. {فَإِنْ تَابَا} من الفاحشة. {وَأَصْلَحَا} العملَ. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} لا تُؤْذوهما {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}. وهذا كلُّه قبلَ نزولِ الحدود، فَنُسِخَتْ بالجلدِ والرَّجْمِ، فالجلدُ في القرآن، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، والرجمُ في السنةِ وردَ به الحديثُ الصحيحُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قَضَى به، ويأتي الكلام على الجلد والرجم، وحكمُه، واختلافُ الأئمة فيه في أول سورة النور إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 229)، و"التيسير" للداني (ص: 94)، و"تفسير البغوي" (1/ 494)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 118). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 211).

[17]

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)}. [17] {إِنَّمَا التَّوْبَةُ} أي: قبولُ التوبةِ. {عَلَى اللَّهِ} أي: من الله. {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أي: جاهلين سفهًا. قالوا: وأجمعتِ (¬1) الصحابة أن كلَّ ما عُصِيَ اللهُ تعالى به فهو جهالةٌ، عَمْدًا كان أو سَهْوًا، وكلُّ من عصى الله فهو جاهلٌ. {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} أي: زمان قريب قبلَ مرضِ موته، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" (¬2). {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} تأكيدًا لقوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ}. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} يعلمُ إخلاصَ التائب، ولا يعاقبهُ. {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}. ¬

_ (¬1) في "ن": "واجتمعت". (¬2) رواه الترمذي (3537)، كتاب: الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (4253)، كتاب: الزهد، باب: ذكر التوبة، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 132)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

[18]

[18] ثم فسرَ القريبَ بقوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} المعاصيَ. {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي: وقعَ في النَّزْعِ. {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} وهي حالةُ السوق؛ يعني: تسُاقُ رُوحُه، لا يُقبلُ من كافر إيمانٌ، ولا من عاصٍ توبةٌ. {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} سَوَّى بينَ مُسَوِّفي التوبةِ إلى حضورِ الموت، وبينَ الكفار؛ تغليظًا. {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا} أي: هَيَّأْنا {لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)}. [19] كانوا في الجاهليةِ وفي أولِ الإسلام إذا ماتَ الرجلُ وله امرأةٌ، جاء ابنُه من غيرِها، أو قريبُهُ من عَصبَةٍ، فألقى ثوبَه عليها، وقال: أنا أحقُّ بها، ثم إن شاءَ تزوَّجَها بصداقِها الأولِ، وإن شاءَ زوَّجَها غيرَهُ وأخذَ صداقَها، وإن شاءَ عَضَلَها؛ لتفتديَ بما ورثَتْ من زوجِها، وكان الزوجُ أيضًا يُضارُّ زوجَتَهُ إِذا كَرِهَها لتفتديَ منه، فنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} (¬1) قرأ حمزةُ، ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 81)، و"تفسير البغوي" (1/ 497)، =

والكسائيُّ، وخلفٌ: (كُرْهًا) بضمِّ الكاف، والباقون: بالفتح (¬1)، قال الفَرَّاءُ: الكَرْهُ بالفتح: ما أُكْرِهَ عليه، وبالضمِّ: ما كانَ من قِبَلِ نفسِه من المشَقَّةِ. {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} أي: لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساءَ، ولا أن تمنعوهنَّ عما يحلُّ لهنَّ. {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} من الصَّداقِ وغيرِه. {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي: لا تعضلوهن لعلَّة من العِلل إلا لعلَّةِ إتيانهنَّ بالفاحشة (¬2)، وهي النشوزُ، أو الزنا. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (مُبَيَّنَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها (¬3). {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} بالإجمال في القول، والمبيت، والنفقة. {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} المعنى: فإن كرهتموهنَّ، فاصبروا عليهنَّ، فلعلَّ كراهَتكم لهنَّ مع الصبرِ عليهنَّ يُحْدِثُ بينكم ولدًا صالحًا، أو ألفةً ومحبةً. ¬

_ = و"العجاب" لابن حجر (2/ 849). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 229)، و"التيسير" للداني (ص: 95)، و"تفسير البغوي" (1/ 498)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 119). (¬2) في "ن": "الفاحشة". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 230)، و"التيسير" للداني (ص: 95)، و"تفسير البغوي" (1/ 498)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248 - 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 120).

[20]

{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)}. [20] ونزل فيمنْ كان إذا رأى امرأةً فأعجبَتْهُ، قذفَ التي تحتَهُ؛ ليستبدِلَها بها. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} وأرادَ بالزوجِ: الزوجةَ، ولم يكن من قبلِها نشوزٌ ولا فاحشةٌ. {وَآتَيْتُمْ} أعطيتم. {إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} مالًا كثيرًا صَداقًا. {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ} أي: القنطار. {شَيْئًا} ثم بَشَّعَ الأخذَ فقال: {أَتَأْخُذُونَهُ} استفهامُ نهيٍ وتوبيخٍ. {بُهْتَانًا} هو أن يَبْهَتَها بأمرٍ قبيحٍ يقذِفُها به. {وَإِثْمًا مُبِينًا} تقديرُه: تُصيبون في أَخْذِه بهتانًا وإثمًا. {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}. [21] ثم استفهم منكرًا فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} كناية عن الجِماع، والإفضاءُ: الوصول إلى الشيء من غير واسطة.

[22]

{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} عهدًا وثيقًا، وهو حقُّ الصحبة والممازجة. {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}. [22] ونزل نهيًا عن نكاحِ نساءِ الآباء {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء منقطع، معناه: لكنْ ما قد سَلَفَ؛ أي: مضى في الجاهلية، فإنه معفوٌّ عنه. وتقدَّم اختلافُ القراء في حكم الهمزتين من كلمتين في سورة البقرة عند تفسير قوله: {هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]، وكذلك اختلافهم في قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} في الموضعين، {مِنَ السَّمَاءِ إِن} [الشعراء: 187] و {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ} [سبأ: 40] وشبهه حيثُ وقعَ. {إِنَّهُ} أي: نكاحَ زوجةِ الأبِ. {كَانَ فَاحِشَةً} أقبحَ المعاصي. {وَمَقْتًا} أي: بغضًا؛ لأنه يووِثُ بغضَ الله تعالى، والمقتُ: أشدُّ البغضِ، وكانوا يسمونه: نكاحَ المقتِ، وإذا وُلد لرجلٍ من امرأةِ أبيهِ يقالُ للمولود: المَقْتِيُّ. {وَسَاءَ سَبِيلًا} قَبُحَ طريقًا، فتحرُمُ زوجةُ الأبِ على ابنِه بمجرَّدِ العَقْد، بالاتقاق.

[23]

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}. [23] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أي: نكاحُهن؛ لقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، وهي جمعُ أُمٍّ (¬1)، فيدخل فيهنَّ الجدَّاتُ من قِبَلِ الأمِّ والأبِ وإنْ عَلَوْنَ. {وَبَنَاتُكُمْ} جمعُ بِنْتٍ، فيدخل فيهنَّ بناتُ الأولادِ وإن سَفُلْنَ. {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمعُ أختٍ، سواءٌ كانت من قِبَلِ الأبِ والأمِّ، أو من قبل أحدِهما. {وَعَمَّاتُكُمْ} جمعُ عَمَّةٍ، فيدخل فيهنَّ أخواتُ الآباء والأجداد وإن علونَ. {وَخَالَاتُكُمْ} جمعُ خالَةٍ، فيدخل فيهنَّ جميعُ أخواتِ الأمهاتِ والجدَّاتِ. {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} يدخلُ فيهنَّ بناتُ أولادِ الأخِ والأختِ وإن ¬

_ (¬1) "جمع أم" ساقطة من "ن".

سفلْنَ، فهؤلاء المذكوراتُ محرَّماتٌ بالنسبِ بالاتفاق، وما بقيَ محرَّماتٌ بالسَّبَبِ، وهي: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وتحريمُ الرَّضاعِ كتحريمِ النسبِ؛ لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلاَدَةِ" (¬1)، ولا تثبتُ الحرمةُ بالرضاعِ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ إلا أن يرتضعَ (¬2) قبلَ استكمالِ الحولين؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، فلو ارتضعَ بعدَهما بلحظةٍ، لم تثبتْ (¬3)، وعددُ الرضاعِ المحرِّم عندَهما خمسُ رضعاتٍ متفرقاتٍ، وعندَ أبي حنيفةَ مدةُ الرضاعِ ثلاثون شهرًا؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وعند مالكٍ تحريمُ الرضاعِ في الحولينِ وما قارَبَهما، وعندَهما كثيرُ الرضاعِ وقليلُه محرِّمٌ. {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} فكلُّ مَنْ عقدَ النكاحَ على امرأةٍ حرمَتْ عليه أمهاتُها وجدّاتُها من الرضاعِ والنسبِ بنفسِ العقدِ بالاتفاق. {وَرَبَائِبُكُمُ} جمع رَبيبة، وهي بنتُ المرأة؛ لأن زوجَ الأمِّ يُرَبِّيها غالبًا. {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} جمعُ حِجْرٍ، والمرادُ: البيوتُ؛ لأنها بمثابة الولد في التربية غالبًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4941)، كتاب: النكاح، باب: ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، ومسلم (1444)، كتاب: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) في "ن": "ترضع". (¬3) في "ن": "يثبت".

{مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أي: جامعتموهن. {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} في نكاح بناتِهِنَّ إذا فارقتموهُنَّ، أو مُتْنَ فلا تحرمُ الربيبةُ عليه إلا بالدخولِ بأُمِّها بالاتفاق. {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} جمعُ حليلةٍ، والذَّكَرُ حليلٌ؛ لأن كلَّ واحدٍ حلالٌ لصاحبه، يعني: أزواجُ أبنائكم. {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} أي: ظهوركم، فتحرمُ زوجةُ الابنِ على أبيه بمجرَّدِ العقدِ بالاتفاق، وقولُه: {مِنْ أَصْلَابِكُمْ} ليعلم أن حليلةَ المتبنَّى لا تحرُمُ على الذي تبناه بالاتفاق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَ امرأةَ زيدٍ، وكان قد تَبَنَّاه، وكلُّ امرأةٍ تحرمُ بعقدِ النكاح فتحرمُ بالوطءِ في ملكِ اليمين، والوطءِ بشبهةِ النكاح، فيحرُمُ على الواطئ أمُّ الموطوءة وابنتُها، وتحرُمُ الموطوءةُ على أبي الواطئ وابنِهِ بالاتفاق. واختلفَ الأئمةُ في إثباتِ تحريمِ المصاهرةِ بالزنا المحرَّمِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يثبتُ تحريمُ المصاهرةِ، فلا يحلُّ للرجلِ أن يتزوجَ امرأةً زنى بها ابنُه، أو أبوه، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يثبتُ التحريمُ. واختلفوا في إثباتِ التحريمِ باللِّواطِ، فقال الثلاثةُ: لا يثبتُ التحريمُ، وقال أحمد: يثبته، فمن تَلَوَّطَ بغلامٍ، حرمَ على كلِّ واحدٍ منهما أمُّ الآخرِ وابنتُه. واختلفوا في المخلوقة من ماءِ الزنا، هل يجوزُ لمن خُلقت من مائِه أنْ يتزوَّجَها؟ فقال الشافعي: يجوزُ، وقال الثلاثة: لا يجوز. {وَأَنْ تَجْمَعُوا} أي: وحرم عليكم الجمعُ.

{بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} فلا يجوزُ للرجل الجمعُ بينَ الأُختينِ من نسبٍ أو رَضاع، ولا بينَ المرأةِ وعَمَّتِها، ولا بينها وبينَ خالتِها بالاتفاق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَجْمَعْ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا" (¬1). واختلفَ الأئمةُ هل يجوزُ للرجلِ أن يتزوَّجَ امرأةً والرابعةُ من نسائِه في عِدَّتِهِ من طلاقٍ بائنٍ، أو يتزوَّجَ الأختَ وأختُها في عِدَّته من طلاقٍ بائنٍ، أو يتزوَّجَ بكلِّ واحدةٍ ممن يحرُمُ عليه الجمعُ بينها وبينَ الثانيةِ وهي في العِدَّة، فقالَ مالكٌ والشافعيُّ: يجوز، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يجوزُ. وأما إذا كان الطلاقُ رجعيًّا، فلا يجوزُ باتفاقهم، وكذلك لو ملكَ أُختين لا يجوز له أن يجمعَ بينَهما في الوطء، فإذا وَطِىَ إحداهُما، لم يحلَّ له وطءُ الأخرى حتى يحرِّمَ الأولى على نفسِه بإخراجٍ عن ملكِه، أو تزويجٍ، بالاتفاق. {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ منقطعٌ؛ أي: لكنْ ما مضى في الجاهلية، فإنه معفوٌّ عنه؛ لأنهم كانوا يفعلونه. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}. {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4820)، كتاب: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (1408)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[24]

مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}. [24] ونزلَ في نساءٍ كُنَّ يُهاجرْنَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولهنَّ أزواجٌ، فيتزوَّجُهُنَّ بعضُ المسلمين، ثم يقدُمُ أزواجُهُنَّ مُهاجرينَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} عطفٌ على {وَأُمَّهَاتُكُمُ} يعني: الحرائرَ المزوَّجاتِ؛ لأن الزوجَ قد أحصنَهُنَّ، لا يحلُّ للغيرِ نكاحُهن قبلَ مفارقةِ الأزواجِ، ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: السبايا اللواتي سُبين ولهنَّ أزواجٌ في دار الحرب، فيحلُّ لمالِكِهِنَّ وَطْؤُهُنَّ بعد الاستبراء؛ لأن بالسبي يرتفعُ النكاح بينَها وبينَ زوجها، بالاتفاق، وتقدَّم التنبيهُ على اختلافِ القراء في قوله: {النِّسَاءِ إِلَّا} عند قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} مصدرٌ مؤكِّدٌ؛ أي: كتبَ اللهُ ما حَرَّمَ عليكم كِتابًا، وفَرَضَهُ فَرْضًا. {وَأُحِلَّ لَكُمْ} قرأ أبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (وَأُحِلَّ) بضم الألف وكسر الحاء؛ لقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ}، وقرأ الباقون: بالنصب (¬1)؛ يعني: أَحَلَّ اللهُ لكم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 231)، و"التيسير" للداني (ص: 95)، و"تفسير البغوي" (1/ 505)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 123).

{مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي: ما سوى ذلكم الذي ذكرت من المحرمات. {أَنْ تَبْتَغُوا} أي: تطلبوا النساءَ. {بِأَمْوَالِكُمْ} أي: تنكحوا بصداقِكم، أو تشتروا بثمنٍ. {مُحْصِنِينَ} متزوِّجينَ، وأصلُ الإحصانِ: الحفظُ، والمرادُ هنا: العِفَّةُ عن الوقوعِ في الحرامِ. {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي: زانِينَ، مأخوذٌ من سفحَ الماءَ وصَبَّهُ، وهو المنيُّ. {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} أي: فالذي انتفعتم به من النساء بالنكاح الصحيح. {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهُنَّ على الاستمتاع. {فَرِيضَةً} نصب على المصدر في موضع الحال. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} بأن تهبَ المرأةُ جميعَ مهرِها أو بعضَه لزوجِها، أو يزيدُها الزوجُ على أكثرَ منه. {مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} المفروضةِ للزوجةِ. واختلف الأئمة في الزيادة على الصَّداق المسمَّى بعدَ العقد، فقال أحمد: حكمُها حكمُ الأصل، تلحق به فيما يقرره وينصفه، وتُملك من حينها، واستدلَّ بهذه الآية، وقال أبو حنيفة: هي ثابتة إن دخل بها، أو مات عنها، فإن طلَّقها قبلَ الدخول، أو ماتتْ هي قبلَ الدخول والقبضِ، سقطت، وخالفه أبو يوسفَ، فقال كقول أحمد، وقال مالك: تستقرُّ بالدخول، وتتشطَّر بالطلاق قبلَه، فإن مات أحدُهما قبل القبض، سقطت؛

لأنها هبةٌ لم تُقبض حتى مات الواهبُ أو الموهوبُ له، وقال الشافعي: هي هبة مستأنفة، إن قبضتْها، لم تسقطْ بالطلاق قبلَ الدخول، ولا بعدَه، ولا بالموت، وإن لم تُقبض، فلا شيءَ لها مطلقًا. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فيما شرعَ من الأحكام. وأما تقديرُ الصَّداق فلا حدَّ لأكثره؛ لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، وكان صداق أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خمسَ مئة درهمٍ، وبناتِه أربعَ مئةٍ، فيسنُّ أن يكونَ من أربعِ مئةٍ إلى خمسِ مئةٍ، وإن زادَه، فلا بأسَ، وإِن النجاشي أصدقَ أُمَّ حبيبةَ بنتَ أبي سفيانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أربعَ مئةِ دينارٍ. واختلفَ الأئمةُ في أقلِّه، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: لا حدَّ لأقلِّه، فكلُّ ما جاز أن يكونَ ثمنًا، جاز أن يكون صَداقًا، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يتقدَّرُ بنصاب السرقة، واختلفا في قدره، فعندَ أبي حنيفةَ: عشرةُ دراهمَ، أو ما قيمتُه عشرةُ دراهمَ، وعند مالكٍ: ربعُ دينار من الذهب، أو ثلاثةُ دراهمَ من الوَرِق، أو عرضٌ يساوي أحدَهما. واختلفوا في تعليم القرآن هل يجوز أن يكون صَداقًا؟ فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يجوزُ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: يجوزُ. واختلفوا في منافعِ الحر، فقال أبو حنيفة: لا يجوز أن تكونَ صداقًا، وقال الثلاثة: يجوزُ، إلا أن مالكًا يكرهُه. {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ

[25]

مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}. [25] {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} فضلًا وسَعَةً. {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الحرائرَ. {الْمُؤْمِنَاتِ} قرأ الكسائيُّ (المُحْصِنَاتِ) و (مُحْصِنَاتٍ) بكسر الصاد حيثُ وقع، سوى (وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) في هذه السورة، وقرأ الباقون: بفتح جميعها، فالقراءة بكسر الصاد؛ أي: أَحْصَنَّ أنفسَهُنَّ بالحريَّة، وبالفتح؛ أي: أحصنَهُنَّ غيرهن من زوجٍ أو وليٍّ (¬1). {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} إمائِكم. {الْمُؤْمِنَاتِ} المعنى: من لم يجدْ طولَ حرةٍ، فليتزوج أمةً مؤمنةً، وفيه دليل على أنه لا يجوز للحرِّ نكاحُ الأمةِ إلا بشرطين: أحدُهما: ألَّا يجد طَوْلًا لنكاح حرة. والثاني: أن يخاف على نفسِهِ العَنَتَ، وهو الزنا؛ لقوله تعالى في آخر الآية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ. وجَوَّزَ أبو حنيفةَ للحرِّ نكاحَ الأمة، إلا أن يكونَ في نكاحه أو عِدَّتِهِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 230)، و"التيسير" للداني (ص: 95)، و"تفسير البغوي" (1/ 508)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 122 - 124).

حُرَّةٌ، أما العبدُ فيجوزُ له نكاحُ الأمة، وإن كانَ في نكاحِه حُرَّةٌ أو أمةٌ عندَ الثلاثة، وعندَ أبي حنيفة لا يجوزُ إذا كان تحته حرَّةٌ، وفي الآية دليلٌ على أنه لا يجوز للمسلم نكاحُ الأمَةِ الكتابية؛ لأنه قال: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وإليه ذهبَ الأئمةُ الثلاثة، وجَوَّزَ أبو حنيفةَ للمسلمِ نكاحَ الأمةِ الكتابيةِ، واتفقوا على إباحةِ وطئها بملكِ اليمين، وتقدَّمَ الحكمُ في نكاح الوثنيات والمجوسيات (¬1) وغيرِهنَّ من أنواعِ المشركات في سورة البقرة. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} فاكتفوا بظاهرِ الإيمان؛ فإنه العالمُ بالسرائرِ، والمرادُ: تأنيسُهُمْ بنكاح الإماء، ومنعُهم عن الاستنكاف منه، ثم نفى التفاخر فقال: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} كلكم ولدُ اَدمَ، ودينُكم الإسلام؛ أي: هنَّ مثلُكم. {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي: مَواليهِنَّ. {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهُنَّ. {بِالْمَعْرُوفِ} من غيرِ مطْلٍ. {مُحْصَنَاتٍ} عفائفَ بالنكاحِ. {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} أي: زانياتٍ جهرًا. {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أي: أحبابٍ يزنون بهنَّ في السرِّ. {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي: زُوِّجْنَ. وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، ¬

_ (¬1) في "ن": "المجوسيات والوثنيات".

[26]

وخلفٌ: (أَحْصَنَّ) بفتح الألف والصاد؛ أي: حَفِظْنَ فروجَهُنَّ (¬1). {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} أي: زَنَيْنَ. {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} الحرائرِ الأبكارِ إذا زنينَ. {مِنَ الْعَذَابِ} أي: الحدِّ، فيُجلد الرقيقُ خمسينَ جلدة ولو لم يكنْ تزوَّجَ، ذكرًا كان أو أنثى، ولا يُرجَمُ بالاتفاق، وهل يُغَرَّبُ؟ قال الشافعي: يغرَّبُ نصفَ سنةٍ، وقال الثلاثة: لا يغرَّبُ. فإن كان بعضُه حرًّا، فقال أحمد: يجلَدُ ويغرَّبُ بحسابه. {ذَلِكَ} أي: نكاح الأمة. {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} أي: الزنا. {مِنْكُمْ} بغلبةِ الشهوةِ، وأصلُ العَنَتِ: الضيقُ والمشقَّةُ. {وَأَنْ تَصْبِرُوا} عن النساء متعفِّفينَ. {خَيْرٌ لَكُمْ} من نكاحِ الإماء؛ لئلا يخلقَ الولدُ رقيقًا. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن رَخَّصَ له. {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}. [26] {يريِدُ اَللَّهُ} بما شرعَ من التحليل والتحريم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 231)، و"التيسير" للداني (ص: 95)، و"تفسير البغوي" (1/ 509)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 125).

[27]

{لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: يوضِّحَ لكم شرائعَ الإسلام. {وَيَهْدِيَكُمْ} يُرشدَكم. {سُنَنَ} شرائعَ. {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من الأنبياء في تحريم الأمهاتِ والبناتِ والأخواتِ، فإنها كانت محرمةً على مَنْ قبلكم. {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يُوفِّقَكم للتوبة، ويتجاوزَ عنكم إن تبتم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالح عباده. {حَكِيمٌ} فيما دَبَّرَ من أمورهم. {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)}. [27] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} إن وقع منكم تقصيرٌ. {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} هم الزُّناةُ والكفارُ. {أَنْ تَمِيلُوا} عن الحقِّ. {مَيْلًا عَظِيمًا} بإتيانِكم ما حُرِّمَ عليكم. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}. [28] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} بنكاحِ الإماءِ واتِّبَاع الشريعةِ السمحةِ السهلةِ.

[29]

{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} لا يصبرُ عن الشهوات، ولا يتحمَّلُ مَشاقَّ الطاعات. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)}. [29] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي: الحرامِ؛ كالقمارِ والسرقةِ ونحوِهما. {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} استثناءٌ منقطعٌ، ولكنْ تكونُ تجارةً عن تراضٍ منكم غير منهي عنه. قرأ عاصمٌ وحمزةُ والكسائيُّ وخلفٌ: (تِجَارَةً) بالنصب على خبر كان؛ أي: إلا أن تكونَ الأموالُ تجارةً، وقرأ الباقون: بالرفع؛ أي: إلا أن تقعَ تجارة عن تراضٍ منكم؛ أي: بطيبةِ (¬1) نفسِ كلِّ واحدٍ منكم (¬2)، ورُوي عن قنبلٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياء على (تَرَاضِي)، والتراضي عندَ الشافعيِّ وأحمدَ: الافتراقُ عن مجلسِ البيعِ بتمامِه، فلكلِّ واحدٍ منهما الخيارُ ما داما في المجلس، وعند أبي حنيفةَ ومالكٍ: هو رضا المتبايعين بما تعاقدا عليه، فإذا وجبَ البيعُ ¬

_ (¬1) في "ن": "بطيب". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 213)، و"التيسير" للداني (ص: 95)، و"تفسير البغوي" (1/ 511)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و "معجم القراءات القرآنية" (2/ 126).

[30]

بينهما، فليس لأحدِهما الخيار، وإن كانا في المجلس، وخَصَّ التجارةَ بالذِّكْر؛ لأنها أغلبُ أسبابِ المكاسبِ. {وَلَا تَقْتُلُوا} أي: لا (¬1) تهلكوا. {أَنْفُسَكُمْ} بأكل الأموالِ بالباطل. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} يا أمةَ محمدٍ. {رَحِيمًا} لِما أمرَ بني إسرائيل بقتلِ الأنفس، ونهاكم عنه. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}. [30] {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: ما حُرِّمَ قبلُ. {عُدْوَانًا} تجاوزًا للحد. {وَظُلْمًا} وهو وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه. {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} أي: نُدخله. {نَارًا} ليحترقَ. {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لا عسرَ فيه. {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)}. ¬

_ (¬1) "لا" زيادة من "ت".

[31]

[31] {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الكبيرةُ: كلُّ ذنبٍ رَتَّبَ الشارعُ عليه حَدًّا، أو صَرَّحَ بالوعيد فيه، وعن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنها سبعٌ: "الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَة، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، والرِّبَا، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ" (¬1)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الكبائرُ إلى سبعِ مئةٍ أقربُ منها إلى سبعٍ" (¬2). {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} نغفرْ لكم صغائركم. {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} هو الجنةُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (مَدْخَلًا) بفتح الميم، وهو موضعُ الدخول، وقرأ الباقون: بالضم، بمعنى: الإدخال (¬3). {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)}. [32] ونزل نهيًا عن التحاسُد: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6465)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر، باب: رمي المحصنات، ومسلم (89)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (5/ 41)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 934). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 232)، و"التيسير" للداني (ص: 95)، و"تفسير البغوي" (1/ 516)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 128)، وذُكر في "المعجم" أنَّ قراءة "قدْ خلا" قرأ بها -أيضًا- أبو بكر وعاصم.

[33]

بَعْضٍ} من الأمور الدنيوية؛ كالجاه والمال، فلعلَّ عدمَه خيرٌ؛ أي: لا يحسدْ أحدٌ أحدًا على ما آتاه الله تعالى؛ فإنه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} فلا يعاقَبُ أحدٌ إلا بعمله، ولا يُجازى أحد (¬1) إلا به، فنهى الله عن التمني؛ لما فيه من دواعي الحسد. {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} أي: رزقه. قرأ ابن كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَسَلُوا الله) و (سَلْهُمْ) (فَسَلِ الَّذِينَ) وشبهَه إذا كان أمرًا مواجَهًا به، وقبلَ السينِ واو أو فاء: بغير همزٍ، ونقل حركة الهمز إلى السين، والباقون: بسكون السين مهموزًا (¬2). {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فهو يعلمُ ما يستحقُّه كلُّ إنسانٍ فيفضِّلُ عن علمٍ وتبيان. يسكتُ حمزةُ في (شَيْءٌ) و (شَيْءٍ) و (شَيْئًا) حيثُ وقعَ. {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}. [33] {وَلِكُلٍّ} أي: لكلِّ مالٍ. ¬

_ (¬1) "أحد" زيادة من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 232)، و"التيسير" للداني (ص: 96)، و"تفسير البغوي" (1/ 517)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 128).

{جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أي: وُرَّاثًا، جمعُ مولى، وهو من يواليك. {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} أي: ولكلِّ تركةٍ جعلنا ورّاثًا يلونها ويحرزونها. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: عاهدت أيديكم. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (عَقَدَتْ) بغير ألف (¬1)؛ أي: عقدَتْ لهم أيمانكم، والمعاقدةُ: المحالفة، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يتحالفون، فيكون للحليف السدسُ من مال الحليف، وكان ذلك ثابتًا في ابتداء الإسلام، فذلك قوله تعالى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: حظَّهم من الميراث، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي: عالمًا، وهو تهديدٌ على من منعَ نصيبهم. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 233)، و"التيسير" للداني (ص: 96)، و"تفسير البغوي" (1/ 517)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 129).

[34]

[34] {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} مسلَّطون على تأديبهنَّ. {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ} بتفضيلِ اللهِ. {بَعْضَهُمْ} أي: الرجالَ. {عَلَى بَعْضٍ} على النساء؛ بكمالِ العقل، وحسنِ التدبير، ومزيدِ القوة في الأعمال والطاعات. {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} في نكاحهنَّ؛ كالمهر والنفقة. روي أن سعدَ بنَ الربيعِ أحدَ نُقباءِ الأنصار نَشَزَتْ عليه امرأتُه حبيبةُ بنتُ زيدِ بنِ أبي زهير، فلطمَها، فانطلقَ بها أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشكا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيُقْتَصَّ مِنْهُ"، فنزلت، فقال: "أَرَدْنَا أَمْرًا، وَأَرَادَ اللهُ أَمْرًا، وَالَّذِي أَرَادَ اللهُ خَيْرٌ" (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا" (¬2). ¬

_ (¬1) قال الحافظ الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (1/ 312): غريب بهذا اللفظ، وأقرب ما وجدته ما رواه ابن مردويه في "تفسيره" عن علي قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من الأنصار بامرأة له فقال: يا رسول الله! إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال عليه السلام: "ليس له ذلك" فنزلت {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية، فقال عليه السلام: "أردت أمرًا، وأراد الله غيره". وذكره الثعلبي في "تفسيره"، والواحدي في "أسباب النزول" من قول مقاتل. (¬2) رواه الترمذي (1159)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقال: حسن غريب. ورواه ابن ماجه (1852)، كتاب: النكاح، باب: حق الزوج على المرأة، عن عائشة -رضي الله عنها-.

[35]

{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} مطيعاتٌ لأزواجهنَّ. {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} أي: لفروجهنَّ وأموالِ أزواجهنَّ في غَيْبَتِهم. {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي: بحفظِه. قرأ أبو جعفرٍ (بِمَا حَفِظَ الله} بالنصب؛ أي: بحفظهنَّ اللهَ في الطاعة، وقراءةُ العامة بالرفعِ (¬1). {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} عِصيانهنَّ، وأصلُ النشوزِ: التكبُّرُ والارتفاعُ. {فَعِظُوهُنَّ} بالتخويفِ من الله. {وَاهْجُرُوهُنَّ} اجتنبوهنَّ. {فِي الْمَضَاجِعِ} المراقدِ، والمرادُ: المجامعة. {وَاضْرِبُوهُنَّ} إن لم يرجعْنَ ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، أي: شديد. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} لا تطلبوا عليهنَّ طريقًا بالتوبيخِ والإيذاءِ. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} فاحذَروه؛ فإنه أقدرُ عليكم منكم على مَنْ تحتَ أيديكم. {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}. [35] {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} خلافًا بينَ المرأةِ وزوجِها. ¬

_ (¬1) انظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 188)، و"تفسير البغوي" (1/ 519)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 189)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 130).

[36]

{فَابْعَثُوا} أيها الحكامُ متى اشتبهَ عليكم حالُهما ليتبيَّن الأمرُ. {حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [الحَكَمُ: القَيِّمُ بما يُسْنَدُ إليه، وخُصَّ الحكمُ بالأهل؛ لأن الأقارب أَعْرَفُ بأغراضِ] (¬1) أقاربهم، وأنصحُ لهم، وهذا على وجهِ الاستحباب، فلو نُصبا من الأجانب، جاز. {إِنْ يُرِيدَا} يعني: الحكمينِ. {إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} بينَ الزوجينِ. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} بالظواهرِ والبواطنِ. وهل يجوزُ بعثُ الحكمينِ بغير رِضا الزوجين؟ قال أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ: لا يجوز إلا برضاهما، فليس لحكمِ الزوجِ أن يطلِّقَ إلا بإذنه، ولا لحكمِ الزوجة أن يختلعَ على مالِها إلَّا بإذنِها، وقال مالك: يجوزُ بغيرِ رِضاهما؛ كالحاكمِ يحكمُ بين الخصمينِ، وإن لم يكنْ على وفْقِ مُرادِهما، فيطلِّقُ حكمُ الزوجِ بغير إذنِه، ويختلعُ حكمُ الزوجةِ بغير إذنها. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}. [36] {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} وَحِّدوهُ، والعبادةُ هي الطاعةُ عندَ الشافعيةِ والمالكيةِ والحنابلةِ، وعند الحنفية بشرطِ الأمر. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت".

{وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} صَنَمًا أو غيرَه. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} بِرًّا بهما، وعَطْفًا عليهما. {وَبِذِي الْقُرْبَى} أي: أَحْسِنوا بذي القربى. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي: ذي القرابةِ. {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} القريبِ المنزلِ منك. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (القُرْبَى واليَتَامَى) بالإمالة، وقرأ ورشٌ، والدوريُّ عن الكسائيِّ: (وَالْجَارِ) بالإمالة، بخلافٍ عن ورشٍ (¬1). {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} هي الزوجةُ، أو الرفيقُ في السفر. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (وَالصَّاحِب بالْجَنْبِ) بإدغام الباء الأولى في الثانية (¬2). {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو الضيفُ في قولِ الأكثر، وقيل: المسافر. {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} من الرقيقِ، أحسنوا إلى جميع المذكورين تُثابوا. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} تَيَّاهًا متكبرًا. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 192)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 190)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 131). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 190)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 131).

[37]

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)}. [37] ونزلَ في اليهودِ، وهم: حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ وأصحابُه حيثُ كانوا يبخلونَ، ويأمرون الصحابةَ بالبخل. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بما مُنِحُوا به. {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} به، قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (بِالْبَخَلِ) بفتح الباء والخاء (¬1)، والبخلُ في كلام العربِ: منعُ السائل من فضلِ ما لديه، وفي الشرعِ: منعُ الواجب. {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} من صفةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو العلم. {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} شديدًا يُهانون به. {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)}. [38] {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} أي: مُرائينَ، عطفٌ على {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} قرأ أبو جعفرٍ: (رِيَا النَّاسِ) بفتح الياء بغيرِ همزٍ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 525)، و"الكشاف" للزمخشري (1/ 268)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 190)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 132). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 190)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 133).

[39]

{وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} نزلَتْ في المشركينَ المتفقينَ على عداوةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} صاحِبًا وخَليلًا. {فَسَاءَ قَرِينًا} المعنى: فبئسَ الشيطانُ صاحبًا؛ لأنه هو حملَهم على البُخل والرياء وكلِّ شرّ. {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}. [39] {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} استفهامُ توبيخٍ؛ أي: وما الذي عليهم. {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: يوم القيامة. {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} تلخيصُه: لو آمنوا واتقوا، لم يضرَّهم ذلك. {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} وعيدٌ لهم. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}. [40] {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي: وزنَ ذَرَّةٍ، والذَّرَّةُ: هي النملةُ الحمراءُ الصغيرةُ. {وَإِن تَكُ} مثقال ذرةٍ. {حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} اللهُ، يجعلها أضعافًا كثيرة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ،

[41]

وابنُ كثيرٍ: (حَسَنَةٌ) بالرفع، والباقون: بالنصب (¬1)، وقرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (يُضَعِّفْهَا) بالتشديد مع حذفِ الألف في جميع القرآن (¬2)، وقرأ الباقون: بالإثبات والتخفيف، وحذفت النون من (تَكُ) تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال. {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ} أي: من عندِه على سبيل التفضُّل. {أَجْرًا عَظِيمًا} لا يقدِّرُ قدرَهُ غيرُ الله تعالى؛ لكثرتِهِ. {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}. [41] {فَكَيْفَ} يصنعُ الكفارُ. {إِذَا جِئْنَا} المعنى: كيف يصنعونَ وقتَ مجيئنا. {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} عليها، وهو نبيُّها. {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمدُ. {عَلَى هَؤُلَاءِ} المذكورينَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 233)، و"التيسير" للداني (ص: 96)، و"تفسير البغوي" (1/ 529)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 133). (¬2) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: 203)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 191)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 134).

[42]

{شَهِيدًا} شاهدًا على جميع الأمم. ولما بلغَ ابنُ مسعودٍ في قراءتِهِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أولِ السورةِ إلى هنا، بكى، وقال: "حَسْبُكَ" (¬1). {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}. [42] {يَوْمَئِذٍ} أي: يومَ القيامةِ. {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} المعنى: يودُّون أن دُفنوا فَتُسَوَّى بهم الأرضُ كالموتى، وأصلُ التسويةِ: المعادلةُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ (تَسَّوَى) بفتح التاء وتشديد السين على معنى: تَتَسَّوى، فأُدغمت التاءُ الثانية في السين، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بفتح التاء وتخفيف السين على حذف إحدى التاءين؛ كقوله: {لَا تَكَلَّمُ نَفسٌ إِلَّا بِإِذنِه} [هود: 105] وقرؤوا بإِمالة الواو، وقرأ الباقون: بضم التاء وتخفيف السين على المجهول (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4763)، كتاب: فضائل القرآن، باب: قول المقرئ للقارى: حسبك، ومسلم (800)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظ للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 234)، و"التيسير" للداني (ص: 96)، و"تفسير البغوي" (1/ 529)، و"الكشف" لمكي (1/ 390 - 391)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 134 - 135).

[43]

{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} أي: يودون أن يُدفنوا، وأَنَّهم لم يكونوا كَتَموا أمرَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ولا نَعْتهُ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}. [43] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} أي: لا تصلوا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ (سُكَارَى) بالإمالة، بخلافٍ عنه (¬1)، واتفقَ الأئمةُ على أن السكرانَ الذي يُمَيِّزُ مُكَلَّفٌ، وكذا من لا يميز عندَ الثلاثة، خلافًا لمالكٍ، والمراد: السكرُ من الخمرِ عندَ الأكثر. سببُ نزولها: أن عبدَ الرحمنِ بن عوفٍ صنعَ طعامًا، وجمعَ عليه جماعةً من الصحابة، فأكلوا وشربوا الخمرَ قبلَ تحريِمها، فأخذَتْ منهم، فقدَّموا واحدًا منهم، فصلَّى بهم المغربَ، فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبدُ ما تعبدون، بحذفِ (لا) إلى آخرها، فصاروا يجتنبون السكرَ وقتَ الصلاة حتى نزلَ تحريمُ الخمر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 190)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 135). (¬2) رواه أبو داود (3671)، كتاب: الأشربة، باب: في تحريم الخمر، والترمذي (3026)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النساء، وقال: حسن صحيح غريب، عن علي -رضي الله عنه-.

{وَلَا جُنُبًا} نصبٌ على الحال، يستوي فيه الواحدُ والجمعُ، والذكرُ والأنثى، وأصلُ الجنابةِ: البعد، وسُمِّي جُنبًا؛ لأنه يجتنبُ موضعَ الصلاة. {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} مجتازي سبيلٍ. {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} أي: لا تقربوا الصلاةَ في حالِ سكرٍ ولا جنابةٍ إلا في حالِ السفرِ عُبورًا في المسجدِ، وذلك إذا لم يجد الماء، وتيمم، وقيل معناهُ: لا تقربوا المسجدَ وأنتمْ جنبٌ إلا مجتازينَ فيه للخروجِ منه. واختلفَ الأئمةُ فيه، فأباح الشافعيُّ وأحمدُ المرورَ فيه، ومنع منه أبو حنيفةَ ومالكٌ، وقال أبو حنيفةَ: إنِ احتاجَ إلى ذلك تَيَمَّمَ، ودخلَ، وأما اللبثُ فيه، فلا يجوزُ عند الثلاثة، وعندَ أحمد إذا توضأ جازَ له اللبثُ، فلو تعذَّرَ، واحتاجَ إليه، جازَ من غير تيممٍ، ويتيممُ لأجل لبثهِ للغسل. وحكمُ الخلافِ في الحائضِ والنفساءِ كالجنبِ في ذلك، إلا أن الشافعيَّ لا يُبيح للحائض دخولَ المسجد إلا إذا أَمِنَتْ تلويثَهُ، وأحمدُ لا يبيح للحائض والنفساء اللبثَ فيه إذا توضَّأَتا إلا بعد انقطاعِ دَمِهما. {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} مرضًا يضرُّهُ مَسُّ الماء، أو يُخشى منه زيادةُ الألم، أو تطاولُه. واختلف الأئمة فيمن بعضُ بدنه صحيحٌ، والبعضُ جريحٌ، فقال أبو حنيفةَ: الاعتبارُ بالأكثر، فإن كان هو الصحيحَ، غسله فقط، وسقطَ حكم الجريح إلا أنه يُستحبُّ مسحُه، وإن كان الأكثرُ جريحًا، اقتصرَ على التيمم، وسقطَ الغسلُ، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: يغسلُ الصحيحَ، ويتيمم للجريح، وقال مالكٌ: يغسل الصحيحَ، ويمسح الجريحَ، ولا يتيمم. {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} طويلًا كان السفرُ أو قضيرًا، فيتيمم عندَ فقدِ الماء،

ولا إعادةَ عليه، بالاتفاق، وأما إذا لم يكن مريضًا، ولا في سفر، لكنه عدمَ الماءَ في موضعٍ لا يعدمُ فيه غالبًا؛ كقريةٍ انقطعَ ماؤها، فإنه يصلِّي بالتيمم، ثم يعيدُ عند الشافعيِّ، وعند مالكٍ وأحمدَ لا إعادةَ عليه، وعندَ أبي حنيفةَ يؤخِّرُ الصلاة حتى يجدَ الماءَ. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أي: الحَدَثِ، والغائِطُ: المكان (¬1) المُطْمَئِنُّ من الأرضِ، وكانت عادةُ العربِ إتيانَ الغائطِ للحدث، فكنى به عن الحدث. وتقدَّم اختلافُ القراء في حكم الهمزتين من كلمتين عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، وكذلك اختلافهم في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ}. {أوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (لَمَسْتُمْ) بغيرِ ألفٍ بعدَ اللام، وقرأ الباقون: بالألف (¬2)، واللمسُ والملامسةُ واحدٌ، وهو عبارةٌ عن الجِماعِ عندَ بعضِهم، وقال بعضهم: هو التقاءُ البشرتين بِجماعٍ أو غيرِه. واختلفَ الأئمةُ في نقضِ الوضوءِ بملاقاةِ بَشَرَتي الرجلِ والمرأةِ من غيرِ حائلٍ، فقال أبو حنيفةَ: لا ينتقضُ، وقال الشافعيُّ: ينتقضُ بلمسِ غيرِ المحارمِ، وقال مالكٌ وأحمدُ: إن كان اللمسُ بشهوةٍ، نقضَ، وإلَّا فلا. وهل ينتقضُ وضوءُ الملموس؟ قال مالكٌ والشافعيُّ: حكمُه حكمُ ¬

_ (¬1) "المكان" زيادة من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 234)، و"الكشف"، لمكي (1/ 391)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 250)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 137).

اللامسِ، وقال أحمدُ: لا ينتقض، ولو وجد منه شهوة، وأما الصغيرةُ، فلا ينقضُ (¬1) لمسُها بالاتفاق. {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فلم تتمكَّنوا من استعمالِه إِذِ الممنوعُ عنه كالمفقودِ. {فَتَيَمَّمُوا} اقصدوا. {صَعِيدًا طَيِّبًا} ترابًا طاهِرًا، والتيمُّمُ من خصائصِ هذه الأمة، وهو مبيحٌ للمحدِثِ والجنبِ بالاتفاق. واختلف الأئمةُ فيما يجوزُ به التيممُ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يجوز بسائر أنواعِ الأرضِ؛ من ترابِها وحجرِها ورملِها ومَدَرِها وحَصَائِها، وما ينطبعُ؛ كالنُّورَةِ والجِصِّ والزِّرْنيخِ وغيرِها من طبقاتِ الأرضِ، وقالا: الصعيدُ: وجهُ الأرض، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: لا يجوزُ التيمم إلا بترابٍ طهورٍ له غبارٌ يعلَقُ باليد، فإن خالطه ذو غبار؛ كالجصِّ ونحوه لم يجزِ التيممُ به. {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} أي: فامسحوا وجوهَكم وأيديَكم منه. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} واختلفوا في صفةِ التيمُّمِ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ: يضربُ بيديه على الصعيدِ ضربتين: إحداهما للوجهِ، والأخرى لليدين إلى المرفقين، والاستيعابُ شرطٌ، حتى يخلل أصابعَهُ، وقال أحمدُ: السنةُ في التيمُّمِ أن ينويَ، ثم يسمِّيَ، ويضربَ بيديه مُفَرَّجَتي الأصابعِ ضربةً واحدةً على التراب، فيمسحَ وجهَهُ بباطنِ أصابعه، وكَفَّيه براحتيهِ، وخالفه القاضي من أصحابه، فوافقَ الجماعةَ. ¬

_ (¬1) في "ن" و"ت": "ينتقض".

ولا يصحُّ التيممُ لصلاةٍ إلا بعدَ دخولِ وقتها، ولا يجمعُ بينَ فريضتين بتيمُّم واحدٍ عند الثلاثةِ، وقال أبو حنيفة: التيممُ كالطهارةِ بالماء يجوزُ تقديمُه على وقتِ الصلاةِ، وأَن يصلِّي به ما شاءَ من الفرائض (¬1). واتفقوا على أنه يجوزُ أن يصلِّي بتيمُّمٍ واحدٍ مع الفريضة ما شاء من النوافل، وأن يقرأَ القرآن إن كانَ جنبًا. واختلفوا في طلبِ الماء هل هو شرط؟ فقال الثلاثة: هو شرطٌ، وقال أبو حنيفة: ليسَ بشرطٍ، فيجوزُ التيممُ قبلَ الطلب؛ لأنه عادمٌ حقيقة، إلا إذا غلب على ظنه أن بقربه ماءً، فلا يجوز ما لم يطلبْهُ. واختلفوا فيمن عدمَ الماءَ والترابَ، فقال أحمد: يصلِّي، ولا إعادةَ عليه، وعن مالكٍ أربعُ روايات: إحداهنَّ كمذهب أحمدَ، والثانيةُ: لا يصلِّي حتى يجدَ الماءَ أو الصعيدَ، وهو مذهبُ أبي حنيفة، والثالثة: يصلِّي ويعيد، وهو مذهبُ الشافعي، والرابعة: لا يصلي، ولا إعادةَ عليه، وجزم به الشيخُ خليلٌ في "مختصره"، فقال: وتسقطُ صلاةٌ وقضاؤها بعدمِ ماءٍ وصعيدٍ (¬2)، ونقل القرطبيُّ في "تفسيره" أن هذا الصحيحُ من مذهب مالك، ثم نَقَل عن أبي عمرَ بنِ عبدِ البرِّ إنكارَه (¬3). واتفقوا على أن النيةَ في التيمم واجبةُ. واختلفوا في التسمية فيه، فقال أحمدُ: هي واجبةٌ، وتسقط سهوًا، وقال الثلاثةُ: هي غيرُ واجبةٍ. ¬

_ (¬1) في "ت" "النوافل". (¬2) انظر: "مختصر الشيخ خليل" (ص: 20). (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" (5/ 237).

[44]

واختلفوا في الترتيب والموالاة، فقال أحمد: هما واجبان (¬1)، وقال مالك: الموالاةُ واجبةٌ، والترتيب سنة، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: لا يجبانِ، فلو ضربَ بيديه ومسحَ بيمينِه وَجْهَهُ، وبيسارِهِ يمينَهُ، جاز. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)}. [44] {أَلَمْ تَرَ} أي: ألم يَنْتَهِ علمك. {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} هم اليهودُ، أُعطوا حظًّا من التوراة. {يَشْتَرُونَ} يستبدِلون. {الضَّلَالَةَ} يعني: بالهدى. {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} تُخْطِئُوا طريقَ السعادة أيُّها المؤمنون. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)}. [45] {وَاللَّهُ أَعْلَمُ} منكم. {بِأَعْدَائِكُمْ} فاحذَروهم. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} يلي أمرَكُمْ. {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} يُعينكم. ¬

_ (¬1) في "ن": "واجبتان".

[46]

{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}. [46] {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} قومٌ. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} أي: يُميلونه. {عَنْ مَوَاضِعِهِ} التي وضعَهُ الله فيها، وهو تغييرُهم صفةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في التوراة. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} قولَكَ {وَعَصَيْنَا} أَمْرَكَ. {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمعْ مِنَّا ولا نسمعُ منكَ، أي: غير (¬1) مُجابٍ إلى ما تدعو إليه. {وَرَاعِنَا} يريدون نسبتَهُ - صلى الله عليه وسلم - إلى الرُّعونةِ. {لَيًّا} تحريفًا {بِأَلْسِنَتِهِمْ} استهزاءً به. {وَطَعْنًا} قَدْحًا. {فِي الدِّينِ} لأن قول راعِنا من المراعاة، وهم يحرِّفونه فيريدونَ الرُّعونةَ. {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا} بدلَ ذلكَ (¬2). ¬

_ (¬1) "غير" ساقطة من "ن". (¬2) في "ت": "بذلك".

[47]

{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا} أي: انظر إلينا رحمةً لنا. {لَكَانَ} ذلكَ القولُ. {خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} أي: أعدلَ. {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي: خَذَلهم وأَبْعَدَهم. {بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} منهم؛ كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)}. [47] ولما كَلَّمَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحبارَ اليهود عبدَ اللهِ بنَ صوريا، وكعبَ بنَ أَسَدٍ، فقال: "يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ! اتَّقُوا اللهَ، وَأَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّكمْ لَتَعْلَمُونَ إِنَّ الَّذِي جِئْتْكُمْ بِهِ لَحَقٌّ" قالوا: ما نعرفُ ذلك، وأَصَرُّوا على الكفرِ، فنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} (¬1) أي: القرآنِ. {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي: التوراةِ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} فنجعَلَها كَخُفِّ البعيرِ بلا أَنْفٍ ولا عينٍ ولا حاجبٍ كالأقفاء، وهذا معنى: {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} وأصلُ الطَّمْسِ: إزالةُ الأثرِ بالمحوِ. فإنْ قيلَ: قد أوعدَهُمُ اللهُ بالطَّمسِ إنْ لم يؤمنوا، ثم لم يؤمنوا، ولم يفعلْ بهم ذلك، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3699)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[48]

قيل: هذا الوعيدُ باقٍ، ويكونُ طمسُ مسخٍ في اليهود قبلَ قيامِ الساعة، وقيلَ غيرُ ذلك. {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} فنجعلَهم قردةً وخنازيرً، وتقدَّمَ خبرُ أصحاب السبت في سورة البقرة عندَ تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [الآية: 65]. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} أي: قضاؤه. {مَفْعُولًا} نافِذًا. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}. [48] ولما أحبَّ وَحْشِيٌّ التوبةَ بعدَ قتله حمزة رضي الله عنه يومَ أحدُ، نزلَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مع التوبةِ، فبعثَ بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وحشيٍّ بمكَّةَ، فقالَ وحشيٌّ: لعلِّي مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللهُ، فنزل: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ} [الزمر: 53]، فبعثَ بها إليه، فدخلَ في الإسلام، ورجعَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقبلَ منه، ثم قال له: "أَخْبِرْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ" فلما أخبره، قال: "وَيْحَكَ غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي" (¬1) فلحقَ بالشام، فكانَ بها إلى أن ماتَ. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1800). وانظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1564 - 1565)، و"تفسير البغوي" (1/ 544).

[49]

ثم تهدَّد المشركينَ فقالَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئًا، دَخَلَ النَّارَ" (¬1). {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)}. [49] ونزلَ فيمن زَكَّى نَفْسَه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} فأنكرَ ذلكَ عليهم بصيغةِ الإضرابِ فقالَ: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي} أي: يطهِّرُ. {مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} هو ما في شِقِّ النَّواةِ طُولًا. {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا}. [50] {انْظُرْ} يا محمدُ. {كَيْفَ يَفْتَرُونَ} يختلقون. {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بتغييرهم كتابَهُ. {وَكَفَى بِهِ} أي: بالكذب. {إِثْمًا مُبِينًا} لا يخفى كونُه مأثمًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (93)، كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات مشركًا دخل النار، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.

[51]

والكسائيُّ، وهشامٌ، وخلفٌ: (فَتِيلًا انْظُرْ) و (مُبِينٍ اقْتُلُوا) وشبهَهُ بضمِّ التنوين في الوصل حيثُ وقع. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)}. [51] ولما خرج حُيَيُّ بنُ أخطبَ مع أصحابِه إلى قرُيش ليحالفَهم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: لا نفعلُ حتى تسجُدوا لِصَنَمينا، فسجدوا، فنزل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} (¬1) هما الصنمانِ المذكوران. {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وهم قريشٌ. {هَؤُلَاءِ} يعنون: أبا سفيانَ وأصحابَه. {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يعنون: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه. {سَبِيلًا} دينًا. وتقدَّمَ اختلافُ القُرَّاء في حكمِ الهمزتينِ من كلمتينِ في سورة البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ} [البقرة: 235]، وكذلك اختلافَهم في قوله: {هَؤُلَاءِ أَهْدَى}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول " للواحدي (ص: 86)، و"تفسير البغوي" (1/ 546).

[52]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} [52] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} يمنعُ العذابَ عنه. {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)}. [53] {أَمْ لَهُمْ} يعني: أَلَهُمْ {نَصِيبٌ} أي: حَظٌّ. {مِنَ الْمُلْكِ} وهذا على وجهِ الإنكار، يعني: ليسَ لهم من الملكِ شيءٌ، ولو كانَ لهم حظٌّ مما يُمْلَكُ {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ} أي: أحدًا منهم. {نَقِيرًا} لحسدِهِمْ وبخلِهم، والنقيرُ: هو النقطةُ التي تكونُ على ظهرِ النواةِ، ومنها تنبتُ النخلة، ويأتي تفسيرُ القِطْمير في سورةِ فاطر -إن شاء الله تعالى-. {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)}. [54] {أَمْ يَحْسُدُونَ} أي: اليهودُ. {النَّاسَ} العربَ، والنبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. {عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} من النبوةِ والإسلامِ والتقدُّمِ عليهم، فقال: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ} داودَ وسليمانَ {الْكِتَابَ} المنزلَ عليهما. {وَالْحِكْمَةَ} النبوة. {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} فلا يبعدُ أن يؤتي اللهُ محمدًا مثلَ ما آتاهم.

[55]

{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}. [55] {فَمِنْهُمْ} أي: اليهودِ. {مَنْ آمَنَ بِهِ} بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهم عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ وأصحابُه. {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} أي: أعرض. {عَنْهُ} ولم يؤمنْ به. {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي: نارًا مُسَعَّرَةً يُعَذَّبون بها. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)}. [56] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} نُدْخِلُهم. {نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ} احترقَتْ. {جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} بأنْ يعُاد ذلكَ الجلدُ بعينِهِ على صورةٍ أخرى. قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وأبو جعفرِ، ويعقوبُ، وقالونُ، وورشٌ من طريقِ الأصبهانيِّ، وابنُ عامرٍ: (نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) بإظهارِ التاءِ عندَ الجيم، والباقون: بالإدغام (¬1). {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} أي: ليدومَ بهم ذوقُه. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا} شديدَ النِّقْمَةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 192)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 107)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 191)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 140).

[57]

{حَكِيمًا} يعاقِبُ على وَفْقِ حكمته. عنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنه قالَ: قُرِئ عندَ عمرَ قولُه تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}، فقال معاذٌ: عندي تفسيرُها: تبُدَّلُ في كلَّ ساعةٍ مئةَ مرة، فقال عمر: هكذا سمعتُها من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}. [57] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مبتدأ، خبرُه {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} من الأقذارِ. {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} كثيفًا، لا تنسخُهُ الشمسُ، ولا يُؤْذيهم بردٌ ولا حر. قرأ أبو عمرٍو: (الصَّالِحَات سنُدْخِلُهُمْ) بإدغام التاء في السين. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}. [58] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قرأ أبو عمرٍو: {يَأْمُرُكُمْ} باختلاسِ الحركةِ من طريقِ البغداديين، ورُوي عنهُ من طريق ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 982)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 49)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4517).

العراقيين (¬1) وغيرِهم: بإسكان الراء، والباقون: يشبعون الحركةَ (¬2). نزلت في عثمانَ بنِ طلحةَ الحَجَبِيِّ من بني عبدِ الدار، وكان سادنَ (¬3) الكعبة، فلما دخلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ يومَ الفتح، أغلقَ بابَ الكعبة، وأبى أن يدفعَ له المفتاحَ ليدخلَ فيها، وقال: لو علمتُ أنه رسولُ الله، لم أمنعْه، فمدَّ عليٌّ يدَه وأخذَه منه، وفتح، فدخلَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -، وصلَّى ركعتين، فلما خرجَ، سأله العباسُ أن يعطى المفتاحَ، ويجمعَ له السقايةَ والسدانةَ، فأمر اللهُ أَنْ يُرَدَّ إليه، فأمر عليًّا بأن يردَّ المفتاحَ إلى عثمانَ، ويعتذر إليه، فكان ذلكَ سببًا لإسلامه، فلما ماتَ، دفعه إلى أخيهِ شيبةَ، فالمفتاحُ والسدانةُ في أولادِهِم إلى يومِ القيامة (¬4). {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} أي: بالقسط. {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا} أي: نعمَ الشيءُ الذي. {يَعِظُكُمْ بِهِ} وتقدَّمَ اختلافُ القراء في (نِعِمَّا) في سورةِ البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271]. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ ¬

_ (¬1) في جميع النسخ "الرقيين"، والصواب ما أثبت، والله أعلم. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 192)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 191)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 141). (¬3) في "ت": "سادان". (¬4) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 87)، و"تفسير البغوي" (1/ 550)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 893).

[59]

عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَأَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارِ، فَأَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي، فَالشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكُ لَمْ يَشْغَلْهُ رِقُّ الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَفَقِيرٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، وَالثَّلاَثة الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَأَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لاَ يُؤَدِّي حَقَّ اللهِ مِنْ مَالِهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ" أخرجه الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه (¬2). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}. [59] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} أي: الولاة. {مِنْكُمْ} إذا أمروا بطاعةِ اللهِ. {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} اختلفتم أنتم وأمراءُ العدلِ. {فِي شَيْءٍ} من أمرِ دينِكم، والتنازُعُ: اختلافُ الآراءَ. {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} إلى كتابِه. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1329)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الإمام العادل، وقال: حسن غريب، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 22)، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 425)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2249) وابن حبان في "صحيحه" (4656)، وغيرهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[60]

{وَالرَّسُولِ} مدةَ حياتِه، وبعدَ وفاتِه إلى سُنَّتِهِ. {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ} أي: الردُّ إلى الكتابِ والسنَّةِ. {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} مآلًا وعاقبةً. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)}. [60] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} هو كعبُ بنُ الأشرفِ، سُمِّيَ به؛ لإفراطِه في الطغيانِ. {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أي: بالطاغوت. {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} لا غايةَ له، فلا يهتدون. نزلت في بشر المنافقِ ويهوديٍّ كان بينَهما حكومةٌ، فطلبَ المنافقُ الحكومةَ إلى ابنِ الأشرفِ، فطلبَ اليهوديُّ الحكومةَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فحكم - صلى الله عليه وسلم - على المنافقِ، فلم يرضَ، فأتيا عمرَ رضي الله عنه، فقال اليهوديُّ: إن النبيَّ حكمَ لي، فلم يرضَ، قال عمرُ للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقتله عمرُ، فقال: هكذا أفعلُ بمن لم يرضَ بقضاءِ اللهِ وقضاءِ رسوله، فنزلت الآيةُ، وقال جبريل عليه السلام: "إن عمرَ فرقَ بينَ الحقِّ والباطلِ"، فسمِّي الفاروقَ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي (1/ 232)، و"أسباب النزول" =

[61]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)}. [61] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} للتحاكُم. {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} أي: يُعرضون عنك إعراضًا. قرأ الكسائيُّ، وهشامٌ، ورُويس: (قِيلَ) بإشمِام القافِ الضمَّ (¬1). {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)}. [62] {فَكَيْفَ} يكونُ حالُهم. {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} من قتلِ عمرَ للمنافق. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من التحاكُم إلى غيرِك، واتهامِكَ في الحكم. {ثُمَّ جَاءُوكَ} أي: يجيئونك يطلبونَ ديةَ المقتول، ثم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا} بالمحاكمة إلى عمرَ. {إِلَّا إِحْسَانًا} في القولِ. {وَتَوْفِيقًا} بين الخصمين، ولم نردْ مخالفتَكَ. ¬

_ = للواحدي (ص: 89)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 903 - 904)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 585 - 586). (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 192)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 142).

[63]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)}. [63] ثم أومأَ تعالى إلى كذبِهم بقولِه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من النفاق. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تعاقِبْهم. {وَعِظْهُمْ} بينَ الناسِ ليتوبوا. {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في الخلاء. {قَوْلًا بَلِيغًا} يبلغ منهم ويؤثر فيهم، وهو التخويف بالله تعالى، وتوعدهم بالقتل إن لم يؤمنوا. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)}. [64] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} يعني: بتيسيره وقضائِه؛ أي: وما أرسلْنا رسولًا قَطُّ إلا لِيُطاع، وبطاعِتِه يُطاعُ اللهُ. {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالتحاكُم إلى الطاغوت. {جَاءُوكَ} معتذرينَ. {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} من نفاقِهم. {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} يقبلُ توبةَ التائبينَ.

[65]

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}. [65] {فَلَا وَرَبِّكَ} أي: فَوَرَبِّكَ، و (لا) مزيدةٌ لتوكيدِ القسمِ. {لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي: يجعلوكَ حَكَمًا. {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: اختلفَ، وأصلُ التشاجرِ: الاختلاط والتنازعُ. {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} ضِيقًا. {مِمَّا قَضَيْتَ} أي: لا تضيقُ صدورُهم بحكمِك. {وَيُسَلِّمُوا} ينقادوا. {تَسْلِيمًا} بطيبِ نفسٍ. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)}. [66] {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} أَوْجَبْنا. {عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} كما قُتِل بنو إسرائيلَ. {أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} كما أَمَرْنا بني إسرائيلَ بالخروجِ من مصرَ. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (أنِ اقْتُلُوا) بكسر النونِ على أصل التحريك، (أَوُ اخْرُجُوا) بضمِّ الواو للإتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو {وَلَا تَنْسَوُا

الْفَضْلَ} [البقرة: 237]، وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ بكسرهما، والباقون: بضمهما (¬1). {مَا فَعَلُوهُ} أي: المكتوبَ عليهم. {إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} قرأ ابنُ عامرٍ: (إِلَّا قَلِيلًا) بالنصبِ على أصلِ الاستثناء، وكذلك هو في مُصحفِ أهل الشام، وقرأ الباقون: بالرفع على ضمير الفاعل في قوله: (فعلوه) تقديره: إلا نفرٌ قليلٌ فعلوه (¬2)، والقليلٌ جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: عمر، وعمارُ بنُ ياسر، وعبدُ الله بنُ مسعود، وثابتُ بنُ قيسٍ، قالوا: واللهِ لو أمرَنا محمدٌ بذلكَ، لفعلنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ أُمَّتِي رِجَالًا، الإِيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي" (¬3). {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي: ما يؤمرونَ به من طاعةِ الرسولِ. {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} في عاجِلِهم وآجِلِهم {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} تحقيقًا لإيمانِهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 234)، و"التيسير" للداني (ص: 78)، و"إتحاف فضلاء البشر"، للدمياطي (ص: 192)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 142 - 143). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 235)، و"التيسير" للداني (ص: 96)، و"تفسير البغوي" (1/ 558)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 250)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 143). (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 160)، عن أبي إسحاق السبيعي. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 995)، عن الحسن البصري.

[67]

{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)}. [67] {وَإِذًا} جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ تقديرُه: ماذا يكونُ لهم بعدَ التثبيت؟ فقال: وإذًا لو ثبتوا. {لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} ثواب وافرًا؛ لأن (إذًا) جوابٌ وجزاء. {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)}. [68] {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} وَفَّقْناهم لازديادِ الخيراتِ. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)}. [69] ونزلَ في ثوبانَ مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ شديدَ الحبِّ له حينَ قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي أخشى أَلَّا أراكَ يومَ القيامةِ لِعُلُوِّ منزلتِكَ" (¬1): {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} في أداءِ الفرائضِ {وَالرَّسُولَ} في السُّنَنِ. {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} أي: لا تفوتُهم رؤيةُ الأنبياءِ ومجالستُهم. {وَالصِّدِّيقِينَ} هم أفاضلُ الصحابةِ المبالِغينَ في الصِّدقِ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 91)، و"تفسير البغوي" (1/ 559)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 174).

[70]

{وَالشُّهَدَاءِ} هم شهداءُ أُحُدٍ. {وَالصَّالِحِينَ} سائرِ الصحابةِ، واللفظُ يعمُّ كلَّ صالحٍ وشهيدٍ، والله أعلم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬1). {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} أي: ما أحسنَ أولئكَ رفقاءَ في الجنةِ بأن يُستمتَعَ فيها برؤيتِهم وزيارتِهم والحضورِ معهم، وإن كانَ مقرُّهم في درجاتٍ عاليةٍ بالنسبةِ إلى غيرِهم، ومن فضلِ الله تعالى على غيرِهم أنَّه قد رُزِقَ الرِّضا بحالِه، وذهبَ عنه أن يعتقدَ أنه مفضولٌ؛ انتفاءً للحسرةِ في الجنةِ التي تختلفُ المراتبُ فيها على قَدْرِ الأعمالِ، وعلى قدرِ فضلِ اللهِ على مَنْ يشاء. {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}. [70] {ذَلِكَ} إشارةٌ إِلى ما للمطيعينَ من الأجرِ. {الْفَضْلُ} صفتُهُ. {مِنَ اللَّهِ} خبرُهُ. {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} بجزاءِ مَنْ أطاعَهُ، فإنَّهُ يعطيهم ما عَلِمَهُ لهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5816)، كتاب: الأدب، باب: علامة الحب في الله عز وجل، ومسلم (2640)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: المرء مع من أحب، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

[71]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)}. [71] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} أي: تَيَقَّظوا لعدوِّكم، والحِذْرُ والحَذَرُ واحدٌ، وهو الاحترازُ. {فَانْفِرُوا} فاخرُجوا. {ثُبَاتٍ} سرايا متفرِّقينَ. {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} كلُّكم مع نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم -، وأصلُ النَّفْرِ: الانزعاجُ من الشيءِ أو إلى الشيءِ. {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)}. [72] {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} واللام في {لَيُبَطِّئَنَّ} لامُ القسم، والتبطئةُ: التأخُّرُ عن الأمر، والخطابُ لعسكرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. المعنى: وإن منكم؛ أي: عبدَ اللهِ بنَ أُبي وأصحابَه ليتأخَّرَنَّ عن الغزو تثَاقُلًا. قرأ أبو جعفرٍ: (لَيُبَطِّيَنَّ) بفتح الياء بغير همز، والباقون: بالهمز. {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} قتلٌ أو هزيمةٌ. {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} بالقعودِ. {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} حاضرًا، فيصيبني ما أصابَهُمْ.

[73]

{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)}. [73] {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} سلامةٌ وغنيمةٌ. {لَيَقُولَنَّ} هذا المنافقُ، وفيه تقديمٌ وتأخيرٌ. {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} متصلٌ بقوله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} تقديره: فإن أصابتكم مصيبةٌ، قال: قد أنعمَ الله عليَّ إذ لم أكنْ معهم شهيدًا؛ كأن لم تكنْ بينَكم وبينَهم مودة؛ أي: معرفة. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ، ورويسٌ: (تَكُنْ) بالتاءِ، والباقون: بالتاء (¬1)، ولئن أصابكم فضلٌ من الله ليقولن: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} في تلكَ الغَزاةِ. {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} آخذَ نصيبًا وافرًا من الغنيمةِ (فأفوزَ) نُصب على جوابِ التمنيِّ. {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 235)، و"التيسير" للداني (ص: 96)، و"تفسير البغوي" (1/ 561)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 192)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 250)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 145).

[74]

[74] {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ} أي: يشترونَ. {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} ومعناه: آمِنوا أيُّها المنافقونَ، وجاهِدوا في سبيلِ الله. وقيل: نزلَتْ في المؤمنين، فيكونُ معناه: فليقاتلْ في سبيلِ اللهِ الذين يختارونَ الأُخرى على الدنيا. {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} يُسْتَشْهَدْ. {أَوْ يَغْلِبْ} يظفرْ بعدوِّهِ. {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} في كِلا الحالتين. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلادٌ: (يَغْلِب فسَوْفَ) و (تَعْجَب فعَجَبٌ) وشبهَه حيثُ وقعَ بإدغامِ الباءِ في الفاء، والباقون: بالإظهار (¬1). {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}. [75] {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعةِ اللهِ، استفهامُ توبيخٍ على تركِ الجهادِ. {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} أي: وفي سبيل المستضعفين. {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ} بمكةَ، صَدَّهم المشركونَ عن الهجرة وآذَوْهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 193)، و"تفسير البغوي" (1/ 561)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 192)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 146).

[76]

{يَقُولُونَ} داعِينَ. {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} هي مكةُ. {الظَّالِمِ} أي: التي ظلمَ. {أَهْلُهَا} بكفرِهم وصَدِّهم المسلمينَ عن الهجرةِ. {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} أي: ارزقنا مَنْ يتولى أمرَنا. {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} ينصرُنا على أعدائنا، فاستجابَ اللهُ دعاءَهم، فلما فُتحت مكةُ، ولَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليهم عَتَّابَ بنَ أُسيد، فكان ينصفُ المظلومينَ من الظالمين. {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}. [76] {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: طاعتِه. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} الشيطانِ والأصنامِ. {فَقَاتِلُوا} أيُّها المؤمنونَ. {أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} جنودَه، وهم الكفارُ. {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} مكرَه. {كَانَ ضَعِيفًا} واهِنًا لا يثبتُ للحقِّ (¬1). ¬

_ (¬1) من قوله " {وَإِذَا} جواب سؤال ... " (ص: 151) من هذا الجزء إلى هنا سقط من "ن"، وهو بمقدار لوحة من النسخ الخطية الأخرى.

[77]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)}. [77] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} عن القتالِ. نزلتْ في جماعةٍ من الصحابةِ كانوا يَلْقَوْنَ من المشركينَ بمكة أذًى كثيرًا قبلَ الهجرة، فقالوا: يا رسول الله! ائذنْ لنا في قتالِهم، فإنهم قد آذَوْنا، فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ؛ فَإِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ" (¬1). {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فلما هاجروا إلى المدينة، وأمرهم الله بقتالِ المشركينَ، شَقَّ ذلك على بعضِهم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ} أي: فُرِض. {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} يعني: مشركي مكةَ. {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} أي: كخشيتِهم منَ اللهِ. {أَوْ أَشَدَّ} أكبرَ. {خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} الجهاد. {لَوْلَا} أي: هَلَّا. {أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} إلى أن نجدَ من نستنصرُ به. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 92)، و"تفسير البغوي" (1/ 563)، و"العجاب" لابن حجر (2/ 918).

[78]

{قُلْ} يا محمدُ: {مَتَاعُ الدُّنْيَا} أي: منفعتُها والاستمتاعُ بها. {قَلِيلٌ} سريعُ التَّقَضِّي. {وَالْآخِرَةُ} أي: وثوابُ الآخرةِ. {خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} الشركَ. {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} هو ما في شقِّ النواةِ طولًا، وتقدمَ تفسيرُه. المعنى: لا يقعُ نقصٌ في شيءٍ من الحسناتِ ثَمَّ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وروحٌ: (يُظْلَمُوَن) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬1). {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}. [78] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} أي: ينزلْ بكمُ الموتُ. نزلت في المنافقينَ الذين قالوا في قَتْلَى أُحد: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]، فردَّ الله عليهم، وأخبرَ أنَّ الحذرَ لا ينُجي من القَدَرِ. {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ} حُصونٍ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 235)، و"التيسير" للداني (ص: 96)، و"تفسير البغوي" (1/ 563)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 250)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 146).

{مُشَيَّدَةٍ} مرتفعةٍ. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} أي: المنافقينَ ومَنْ جرى مجراهُمْ. {حَسَنَةٌ} خصبٌ وظفرٌ يومَ بدرٍ. {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لنا. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} جَدْبٌ وهزيمة يومَ أُحُدٍ. {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يا محمدُ؛ أي: بسبب شُؤْمِكَ، فقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ} لهم {كُلٌّ} الحسنة والسيئة. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بقضائه وقَدَرِهِ، ثم عَيَّرَهم بالجهلِ فقال: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ} يعني: المنافقين. {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} والفقهُ لغةً: الفَهْمُ. وقف أبو عمرٍو، والكسائيُّ بخلافٍ عنه على الألف دونَ اللام من قوله (فَمَالِ هَؤُلاَءِ) (¬1)، و (مَالِ هذَا الكِتابِ) في سورةِ الكهفِ، و (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ) في الفرقان، (فَمَالِ الَّذِينَ) في سألَ، ووقف الباقون (فمال) على اللام اتباعًا للخَطِّ، بخلافٍ عن الكسائيِّ، قالَ ابنُ عطية: ومنعه قومٌ جملةً؛ لأنها حرف جر، فهي بعضُ المجرور، وهذا كله بحسب ضرورةِ أو (¬2) انقطاعِ نفسٍ، وأما أن يختارَ أحدٌ الوقفَ فيما ذكرناه ابتداءً، فلا، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 193)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 192)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 147). (¬2) في "ظ": "و". (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" (2/ 81).

[79]

{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}. [79] ثم خاطب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ غيرُه فقال: {وَمَا أَصَابَكَ} يا إنسانُ. {مِنْ حَسَنَةٍ} خيرٍ ونعمةٍ. {فَمِنَ اللَّهِ} تفضُّلًا. {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} بَلِيَّةٍ. {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: بذنبِك؛ كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وتعلَّق القدريَّةُ بظاهرِ هذه الآيةِ، فقالوا: نفى الله عز وجل السيئةَ عن نفِسه، ونسبهَا إلى العبدِ، ولا متعلّقَ لهم فيه؛ بدليل قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} غيرَ أن الحسنةَ إحسانٌ وامتحانٌ، والسيئة مجازاةٌ وانتقامٌ. عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ نَصَبٌ وَلاَ وَصَبٌ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا الْعَبْدُ، وَحَتَّى انْقِطَاعُ شِسْعِ نَعْلِهِ، إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللهُ أَكْثَرُ" (¬1). ¬

_ (¬1) روى البخاري (5317)، كتاب: المرضى، باب: ما جاء في كفارة المريض، ومسلم (2572)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، بلفظ: "ما من مصيبة يصاب بها المسلم إلا كفر بها عنه، حتى الشوكة يشاكها". وروى البخاري (5318)، كتاب: المرض، =

[80]

{وَأَرْسَلْنَاكَ} يا محمدُ. {لِلنَّاسِ رَسُولًا} حالٌ مؤكِّدَةٌ، أي: ذا رسالةٍ. {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على رسالتِك وصدقِك. {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}. [80] {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ} فيما أَمَرَ به. {فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} كانَ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ أَطَاعَنِي، فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ أَحَبَّنِي، فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ"، فقال بعضُ اليهود: ما يريدُ محمدٌ إلا أنْ يُتَّخَذَ رَبًّا، فنزلتِ الآية (¬1). {وَمَنْ تَوَلَّى} أعرضَ عن طاعِته. {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي: حافظًا ورقيبًا، بلْ كِلْ أمورَهُم إلى الله، قيل: نُسخ هذا بآيةِ السيف. ¬

_ = باب: ما جاء في كفارة المريض، ومسلم (2573)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة بلفظ: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه". (¬1) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (1/ 336): غريب جدًّا، ونقل المناوي في "الفتح السماوي" (2/ 504) عن الولي العراقي أنه قال: لم أقف عليه هكذا، وعن ابن حجر: لم أجده.

[81]

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}. [81] {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني: المنافقينَ، يُظهرونَ أنهم يطيعونَكَ. {فَإِذَا بَرَزُوا} خرجوا. {مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ} أي: دَبَّرَ ليلًا. {طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ (بَيَّت طائِفَةٌ) بسكونِ التاء وإدغامِها في الطاء، والباقون: بإظهار التاءِ مفتوحةً (¬1). المعنى: جماعةُ المنافقينَ تُظهر في حضورِكَ خِلافَ ما تُضْمِرُ، وتقولُ في غَيْبَتِكَ قولًا. {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} في مجلسِك. {وَاللَّهُ يَكْتُبُ} يُثْبِتُ في صحائِفِهم للمجازاةِ. {مَا يُبَيِّتُونَ} يُزَوِّرونَ. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تُعاقِبْهم. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: اتَّخِذهُ وكيلًا، فهو كافيكَ. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} ناصِرًا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 235)، و"التيسير" للداني (ص: 96)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 193)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 148).

[82]

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}. [82] {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} يتأمَّلون القرآنَ؛ أي: لو اعتبروا القرآن، لتيقنوا أنه من عندِ الله؛ لعدمِ تناقضِه. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا} تناقُضًا. {كَثِيرًا}. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}. [83] ونزل فيمن كان يُفْشي ما يسمعُ؛ ليضعفَ قلوبَ المؤمنينَ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ} يعني: المنافقينَ. {أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} من الفتحِ والغنيمةِ. {أَوِ الْخَوْفِ} القتلِ والهزيمةِ. {أَذَاعُوا بِهِ} أَفْشَوْهُ. {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي: الخبرَ. {إِلَى الرَّسُولِ} أي: لو لم يحدِّثوا به حتى يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يحدّثُ به. {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أصحابِ الرأيِ من الصحابةِ.

[84]

{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} يستخرجونَه، وهم العلماءُ؛ أي: لوردُّوا ما يسمعونَ من الخبرِ إلى هؤلاء، لعلموا ما يُفْشى فيُفشى، وما يُكْتَمُ فيكتمُ. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإسلامِ. {وَرَحْمَتُهُ} بالقرآنِ. {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} أي: لضللتم باتباعِه. {إِلَّا قَلِيلًا} منكم، والمرادُ: الذين اهتدَوْا قبلَ مجيءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ كزيدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، وَوَرَقَة بنِ نَوْفَلٍ، أو: إلَّا اتِّباعًا قليلًا. {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}. [84] وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعدَ أبا سفيان بعدَ حربِ أُحُدٍ موسمَ بدرٍ الصُّغرى في ذي القعدةِ، فلما بلغَ الميعاد، دعا الناسَ إلى الخروج، فكرهَهُ بعضُهم، فأنزل الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} (¬1) أي: قاتلِ المشركينَ، وانصرِ المستضعفينَ بمكَّةَ، ولو وحدَكَ؛ فإنَّكَ موعودٌ بالنصرِ. {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} حُثَّهم على الجهاد، فخرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعينَ راكبًا، فكفاهُمُ اللهُ لقتالَ، فقال جل ذكرُه: {عَسَى اللَّهُ} أي: لعلَ اللهَ {أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ} صولةَ وحربَ. ¬

_ (¬1) عزاه المناوي في "الفتح السماوي" (2/ 504) إلى ابن جرير في "تفسيره" من حديث ابن عباس، ولم أره فيه.

[85]

{الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد كفى بتخلفِ أبي سفيانَ عن الخروج إلى بدرٍ الصغرى تلكَ السنةَ. {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} صولةً وأعظمُ سلطانًا من قريشٍ. {وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} عقوبةً، وهو تقريعٌ وتهديدٌ لمن لم يتبعْه. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)}. [85] {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} هي الإصلاحُ بينَ الناسِ. {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} وهو ثوابُ الشفاعةِ. {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} هيَ المشيُ بالنميمةِ بينَ الناسِ. {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} أي: نصيبٌ من وِزْرِها، والكِفْل: الضِّعْفُ من الشيء، واشتقاقُه من الكَفَلِ؛ لمشقَّةِ الركوبِ عليه. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} مجازِيًّا. {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)}. [86] {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} إذا قال: السلامُ عليكم، فقلْ: وعليكُمُ السلامُ ورحمةُ اللهِ، وإذا قال: السلامُ عليكم ورحمةُ الله، فقلْ: وعليكم السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه، وإذا قال: السلامُ عليكم

[87]

ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ، فَرُدَّ مثلَها، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: "انتهى السلامُ إلى البركةِ" (¬1). {أَوْ رُدُّوهَا} أي: رُدُّوا مثلَها. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} محاسبًا على السلام وغيره، والسلامُ سنةٌ على الكِفاية مرغَّبٌ فيها، وإذا سلَّم واحدٌ من الجماعةٍ، أجزأَهم، بالاتفاق، والردُّ فرضٌ على الكفايةِ عندَ الثلاثةِ، وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنَّ ردَّ السلامِ من الفروضِ المتعيِّنَةِ، قالَ: والسلامُ خِلافُ الردِّ، لأنَّ الابتداءَ به تطوُّع، وردَّه فَريضةٌ، فإذا ردَّ واحدٌ من جماعةٍ، سقطَ عن الباقينَ باتفاقهم. ويحرمُ بداءةُ أهلِ الذمَّةِ بالسَّلامِ عندَ مالكٍ والشافعيِّ، وعندَ أبي حنيفةَ يُكْرَه؛ لما فيه منْ تعظيمِهم، فإنْ سلَّمَ على ذميٍّ جاهلًا أو ناسيًا، ثم علمَ، فمذهبُ مالكٍ لا يستقيلُه، واختارَ ابنُ عطيةَ المالكيُّ أن يستقيلَه سلامَه، ومذهبُ الشافعيِّ يقولُ: استرجَعْتُ سلامي تحقيرًا له، ومذهبُ أحمدَ يُسَنُّ قولُه: رُدَّ عَلَيَّ سلامي، وإذا سَلَّم ذميٌّ على مسلمٍ، فعندَ أحمدَ وأبي حنيفةَ يقولُ في الرد: وعليكم، وعندَ الشافعيِّ يقول: وعليكَ، وعند مالكٍ يقول: عليكَ، بغير واو، واختارَ بعضُ أصحابه السِّلام بكسرِ السين؛ يعني به الحجارةَ. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}. [87] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} اللامُ في (ليجمعنكم) لامُ القسم، تقديره: اللهُ واللهِ ليحشرنَّكُم. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 959).

[88]

{إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: القيامِ من القبورِ إلى الحسابِ. {لَا رَيْبَ فِيهِ} لا شكَّ في ذلك اليوم (¬1). {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} أي: لا حديثَ أصدقُ من حديثِ الله؛ لأنه سبحانه منزَّهٌ عن الكذب. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ورويسٌ بخلاف عنه: (أَصْدَقُ) و (يَصْدِفونَ) و (تَصْدِيَةً) و (تَصْدِيق) و (فَاصْدَعْ) بإشمام الصاد الزاي حيثُ وقعَ، والباقون بالصادِ الخالصةِ (¬2). {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)}. [88] ونزل فيمن أسلمَ، ثم ندمَ، ثم ارتدَّ: {فَمَا لَكُمْ} يا معشر المؤمنين. {فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} أي: اختلفْتُم فافترقْتُم فرقتينِ، ولم تقطعوا جميعًا بكفرِهم. {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} نَكَّسَهُمْ وردَّهم إلى الكفرِ، وأصلُ الركْسِ: ردُّ الشيءِ مقلوبًا. {بِمَا كَسَبُوا} بسببِ كسبِهم، وهو ارتدادُهم عن الإسلام. {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أتطلبون هدايةَ مَنْ أضلَّ اللهُ. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} عن الهدى. ¬

_ (¬1) "اليوم" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 97)، و"تفسير البغوي" (1/ 570)، و"النشر في القراءات العشر"، لابن الجزري (2/ 250 - 251)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 150).

[89]

{فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} طريقًا إلى الحقِّ. {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)}. [89] {وَدُّوا} تمنوا؛ يعني: أولئكَ الذين (¬1) رَجَعوا عن الدين. {لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ} عطفٌ على {تَكْفُرُونَ}. {سَوَاءً} أي: مستوينَ أنتمْ وهُمْ في الكفرِ. {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} وإنْ أظهروا الإيمانَ. {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هجرةً للهِ ورسوله، لا لأغراضِ الدنيا. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرَضُوا عن الإيمانِ والهجرةِ. {فَخُذُوهُمْ} أُسارى، ومنهُ يُقال للأسير: أَخيذٌ. {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في الحلِّ والحرمِ. {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} أي: لا تقبلوا منهم ولايةً ونصرةً. {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)}. ¬

_ (¬1) "الذين" ساقطة من "ن".

[90]

[90] ثم استثنى من القتل، لا من الموالاة، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ} ينتسبونَ ويلتجئونَ بالحِلْفِ. {إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} عهدٌ، وهم قيل (¬1) قومُ هلالِ بنِ عويمرٍ الأسلميِّ، كان قد وادعَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ خروجِه إلى مكةَ ألا يُعينَه ولا يُعينَ عليه، ومن وصلَ إلى هلالٍ من قومِه وغيرِهم فلهُ من الجوارِ مثل ما لهلالٍ. {أَوْ جَاءُوكُمْ} أي: يَتَّصلونَ بقومٍ جاؤوكم. {حَصِرَتْ} ضاقَتْ. {صُدُورُهُمْ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وأبو جعفرٍ، وقالونُ، وورشٌ، وهشامٌ: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) بإظهار التاء عند الصاد، والباقون: بالإدغام، وقرأ يعقوبُ: (حَصِرَةً) بالفتح والتنوين؛ أي: ضَيِّقَةً صدورُهم (¬2). {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} أي: ضاقت قلوبُهم عن قتالِكم وقتالِ قومِهم، وهم الذين عاهدوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلخيصُه: إن لم يأتوا بالإسلامِ كما ينبغي، فاقتلوهم، واجتنبوهم، إلا المتَّصفينَ بهذهِ الصفاتِ، فاتركوهم. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} لِحكَمٍ يعلَمُها. {فَلَقَاتَلُوكُمْ} مع قومِهم، ولم يكفُّوا عنكم. {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ولم يتعرَّضوا لكم. ¬

_ (¬1) "قيل" زيادة من "ن". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 194)، و"تفسير البغوي" (1/ 573)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 251)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 193)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 151 - 152).

[91]

{وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} الصلحَ والانقيادَ. {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} طريقًا بالقتل. {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)}. [91] ونزل في أُسْدٍ وغَطفانَ ومَنْ جرى مجراهم حيثُ أظهروا الإيمانَ وهم غيرُ مؤمنين، فلما رجعوا إلى قومهم، كفروا: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ} بقولهم لكم: آمَنَّا. {وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} بكفرِهم عندَ عودِهم إليهم. {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ} دُعوا إلى الكفرِ و (¬1) إلى قتالكم. {أُرْكِسُوا فِيهَا} عادُوا إلى الشِّركِ. {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} حتى يسيروا إلى مكةَ. {وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي: الصلحَ. {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} عن قتالِكم. {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} تمكَّنْتُم من قتلِهم. {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} حجةً ظاهرةً بالقتل. ¬

_ (¬1) "و" ساقطة من "ت".

[92]

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)}. [92] ونزل في عَيَّاشِ بنِ أبي (¬1) ربيعةَ أخي أبي جهلٍ من الأمِّ لما لقيَ حارثَ بنَ زيدٍ في طريقٍ، وكانَ قد أسلمَ، ولم يشعرْ به عياشٌ، فقتلَه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} (¬2) أي: ما ينبغي لمؤمنٍ. {أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} استثناءٌ منقطعٌ، معناه: لكنْ إن وقعَ خطأٌ، فتحريرُ رقبةٍ، والخطأُ: ما لم يتعمَّدِ الإنسانُ. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ} أي: فالواجبُ على القاتل عتقُ. {رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} كفارةً باتفاقِ الأئمةِ إذا كان المقتول حُرًّا مسلمًا، فإن كان المقتولُ ذِمِّيًّا أو عبدًا، قال أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ: تجبُ الكفارةُ في قتلِه كوجوبِها في حقِّ الحرِّ المسلمِ، وقال مالكٌ: لا تجبُ بقتلِ عبدٍ ولا كافرٍ، فإن كانَ القتلُ عمدًا، فقال الشافعيُّ: تجبُ الكفارة، وقال الثلاثة: لا تجبُ، وإذا قتلَ الكافرُ مسلِمًا خطأً، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: ¬

_ (¬1) "أبي" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (5/ 215)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 93)، و"تفسير البغوي" (1/ 575).

تجبُ عليه الكفارة، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا كفارةَ عليه. {وَدِيَةٌ} هي المالُ المؤدَّى إلى مَجْنِيٍّ عليه، أو وليِّه بسببِ جنايةٍ (¬1). {مُسَلَّمَةٌ} مُؤَدَّاةٌ. {إِلَى أَهْلِهِ} إلى وَرَثَةِ القتيلِ بدلَ النفسِ، والرقبةُ في مالِ القاتلِ، والديةُ على عاقلتِه، فإن لم يكن له ورثةٌ، فلبيتِ المال. {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} يعفوا ويتركوا الديةَ. {فَإِنْ كَانَ} المقتولُ. {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أي: حربٍ للمسلمين، لا عهدَ بينَكم وبينَهم. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} محكومٍ بإسلامِها، وإن كانتْ صغيرةً، ولا ديةَ فيه بالاتفاق؛ إذ لا وراثةَ بينَه وبينَ أهله؛ لأنهم كفارٌ محاربون. {وَإِنْ كَانَ} المقتول ذميًّا، أو معاهدًا. {مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} لأن حكمَهُ حكمُ المسلمِ بالاتفاق. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي: لم (¬2) يملكِ الرقبةَ، ولا يقدرُ على تحصيلِها. {فَصِيَامُ} أي: فعليه صيامُ. {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} أي: جعل اللهُ ذلكَ توبةً لقاتلِ الخطأ. ¬

_ (¬1) في "ن": "جنايته". (¬2) "لم" ساقطة من "ن".

{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بمن قتل {حَكِيمًا} فيما أمرَ في شأنه. واعلمْ أن القتلَ على ثلاثةِ أقسامٍ: عَمْدٌ محضٌ: وهو أن يقتلَه بما يغلبُ على الظنِّ موته به؛ كالسيفِ ونحوِه، ففيه القصاصُ بشروطِه، أو الديةُ بالاتفاقِ. وشِبْهُ عمدٍ: وهو أن يقصدَ الجنايةَ بما لا يقتُلُ غالبًا؛ كالحجرِ والعصا ونحوِهما، ففيهِ الديةُ دونَ القصاصِ عندَ الثلاثةِ، ومالكٌ رحمه الله لا يرى شبهَ العمد، ولا يقولُ به في شيء، وإنما القتلُ عندَه عمدٌ أو خطأٌ، لا غيرُ، فإذا أصابَه بما لا يقتلُ غالبًا، فماتَ، فعندَه يجبُ فيه القصاصُ. وخطأ: وهو أن يرمي شخصًا يظنُّه صيدًا أو حربيًّا، فإذا هو مسلمٌ، ففيه الديةُ، ولا قصاصَ فيه بالاتفاق. وأما قدرُ ديةِ الحرِّ المسلمِ، فعند أبي حنيفةَ مئةٌ من الإبل، فالمغلَّظَةُ: وهي التي بسببِ العمدِ المحضِ وشبهِ العمدِ تجبُ أرباعًا: خمسًا وعشرينَ بنتَ مخاضٍ، وهي التي طعنَتْ في السنة الثانية، وخمسًا وعشرين بنتَ لَبونٍ، وهي التي طعنت في السنةِ الثالثة، وخمسًا وعشرين حِقَّةً، وهي التي طعنتْ في السنةِ الرابعة، وخمسًا وعشرين جَذَعَةً، وهي التي طعنت في السنة الخامسة، والمخفَّفَةُ: وهي التي بسبب قتلِ الخطأ تجبُ أخماسًا: عشرينَ ابنَ مخاضٍ، ومثلُها بناتُ مخاض، وبناتُ لَبون، وحقاقٌ، وجذعٌ، أو ألفُ دينار، أو عشرةُ آلافِ درهم، كلُّ عشرةٍ وزنُ سبعةِ مثاقيلَ. وديةُ العمدِ المحضِ في مال القاتل مؤجَّلَةٌ في ثلاثِ سنينَ، وديةُ شبهِ العمدِ والخطأ على العاقلةِ مؤجلةٌ كذلك. وعند مالكٍ إن كان الجاني من أهل البادية، فالدية مئةٌ من الإبل تجبُ

في العمدِ أرباعًا، وفي الخطأ أخماسًا، كقول أبي حنيفةَ، إلا أنه جعلَ في الأخماسِ مكانَ ابنِ مخاضٍ ابنَ لبونٍ، والديةُ في التغليظ عندَه تجبُ أثلاثًا: ثلاثينَ حقةً، وثلاثين جذعةً، وأربعينَ خلفةً، وهي التي في بطونها أولادها غيرَ محدودةٍ أسنانُها، والتغليظُ عنده في قتلِ أحدِ الوالدين ولدَه على وجهٍ تقارنه الشبهةُ، وإن كانَ من أهلِ الذَّهَبِ، وهم أهلُ مصرَ والشامِ والمغربِ، فهي ألفُ دينارٍ، وإن كان من أهلِ الوَرِقِ، وهم أهلُ العراقِ وفارسَ وخراسانَ، فهي اثنا عشرَ ألفَ درهمٍ، وديةُ العمدِ على القاتلِ في ماله مؤجَّلَةٌ في ثلاثِ سنينَ كقولِ أبي حنيفة، وقيل: حَالَّةٌ، وديةُ الخطأ على العاقلةِ مؤجَّلَةٌ كذلك. وعندَ الشافعيِّ مئةُ بعيرٍ مثلثةٌ في العمدِ وشبهِه؛ كقولِ مالكٍ في التغليظ، وفي الخطأ مخمسةٌ كقول مالكٍ، فلو عُدمَتْ، فالقديمُ من مذهبه ألفُ دينارٍ، أو اثنا عشرَ ألفَ درهمٍ، والجديدُ قيمتُها بنقدِ بلدِه، وديةُ العمدِ على الجاني معجَّلَةٌ، وشبهِ العمدِ والخطأ على العاقلةِ مؤجَّلَةٌ. وعندَ أحمدَ مئةٌ من الإبلِ، أو مئتا بقرةٍ، أو ألفا شاةٍ، أو ألفُ مثقالٍ ذهبًا، أو اثنا عشرَ ألفَ درهمٍ فضةً، فهذه الخمسُ أصول في الدية، إذا أحضرَ (¬1) مَنْ عليه الديةُ شيئًا منها، لزمَ قبولُه، وتجبُ الإبلُ في العمدِ وشبهِه أرباعًا، وفي الخطأ أخماسًا كقولِ أبي حنيفةَ، ويؤخذ في البقر النصفُ مُسِنَّاتٌ، وهي التي لها سنتانِ، والنصفُ أَتْبِعَةٌ، وهي التي لها سنةٌ، وفي الغنم النصفُ ثَنايا، وهي التي لها سنةٌ، والنصفُ جذعَةٌ، وهي التي لها ستة أشهر، ولا تعتبرُ القيمةُ في شيء من ذلك بعدَ أن يكون سليمًا من العيب، وديةُ العمدِ المحضِ في مال الجاني حالَّةٌ، وشبهِ العمدِ والخطأ ¬

_ (¬1) في "ن": "حضر".

[93]

على عاقلتِه في ثلاثِ سنينَ، وديةُ المرأةِ نصفُ دية الرجل باتفاقهم. واختلفوا في ديةِ الذمِّيِّ والمجوسيِّ، فقال أبو حنيفةَ: هي كديةِ المسلم سواء، وقال مالكٌ وأحمدُ: ديةُ الذميِّ نصفُ ديةِ المسلم، والمجوسيِّ ثمانُ مئةِ درهمٍ، وقال الشافعيُّ: ديةُ اليهوديِّ والنصرانيِّ ثلثُ ديةِ مسلمٍ، والمجوسيِّ ثلثا عُشْرِ دية (¬1) مسلمٍ، وديات نسائِهم نصفُ دياتِ رجالِهم بالاتفاق. وديةُ العبدِ والأمةِ قيمتُهما بالغةً ما بلغَتْ عندَ الثلاثة، وقال أبو حنيفةَ: من قتلَ عبدًا خَطَأً، فعليه قيمتُه، لا يُزاد على عشرةِ آلافٍ إلا عشرةٌ، وفي الأمةِ خمسةُ آلافٍ إلا عشرةً، وإن كانَ أقلَّ من ذلك، فعليه قيمتُه، وخالفه أبو يوسفَ، فوافق الجماعةَ. واختلفوا في العاقلة، فقال الثلاثة: هم العصبة قَرُبوا أو بَعُدوا، ومنهم الأصولُ والفروعُ، وقال الشافعيُّ: هم عصبته إلا الأصلَ والفرعَ، يقدَّمُ الأقربُ فالأقربُ. ولا عقلَ على الصبيانِ والنساءِ بالاتفاقِ. فإن فُقِدَ العاقلُ، عقلَ بيتُ المالِ عن المسلمِ، فإن فُقِدَ، فكلُّ الديةِ على الجاني بالاتفاق. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}. [93] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} بأنْ يقصدَ قتلَه بنيتِهِ وفعلِه مع علمِه بإيمانِه. ¬

_ (¬1) "دية": زيادة من "ن".

{فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} نزلَتْ في مِقْيَسِ بنِ صبابةَ، وجد أخاه هشامًا قتيلًا في بني النجار، ولم يظهرْ قاتلُه، فأمرَهُم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفعوا إليه ديتَهُ، فدفعوا إليه، ثم حملَ على مسلمٍ فقتلَه، ورجعَ إلى مكةَ مرتدًّا (¬1). {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} طردَهُ عن الرحمةِ. {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}. واختلِفَ في قبولِ توبةِ القاتلِ، فجماعةٌ على أن لا تقبلَ توبتُه، والذي عليه الجمهورُ، وهو مذهبُ أهل السنَّةِ: أنَّ قاتلَ المسلمِ عمدًا توبتُه مقبولةٌ؛ لقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ" (¬2)، ويحملون الآيةَ على من قَتَلَ مؤمنًا مستحِلًا لقتله ولم يتبْ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (5/ 217)، و "تفسير ابن أبي حاتم" (2/ 1037)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 94)، و "تفسير البغوي" (1/ 578)، و "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 623). (¬2) تقدم تخريجه.

[94]

[94] ونزل في أسامةَ بنِ زيدٍ لما وُجِّهَ في سريَّةٍ، فسمعَ رجلًا يقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، السلامُ عليكم، فقتلَهُ واستاقَ غنمَهُ، ورجعَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ} (¬1) سافرتُم للجهادِ. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} تأمَّلُوا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَتَثَبَّتُوا) في الحرفين؛ من الثباتِ والتأَنِّي، وقرأ الباقون: [بالياء والنون من التبيُّن، وهو التأمُّلُ (¬2). {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} وهو تحية الإسلام. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ: (السَّلَمَ) بغير ألفٍ، وهو المفاداةُ، وهو قولُ لا إلهَ إلا اللهُ محمدٌ رسولُ الله. وقرأ الباقونَ] (¬3) بالأول (¬4)؛ أي: إذا رأيتم أَمارةً ظاهرةً على إسلامِ شخصٍ، فلا تقتلوه، ولا تقولوا: {لَسْتَ مُؤْمِنًا} إنما تفعلُ هذا تقيَّةَّ لحفظِ مالك ونفسِكَ. قرأ أبو جعفر بخلافٍ عنه (مُوْمِنًا) بإسكانِ الواو بغير همز (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح البخاري" (4315)، و"صحيح مسلم" (3025)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 95). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 97)، و"الكشف" لمكي (1/ 394 - 395)، و"تفسير البغوي" (1/ 581)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 193)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 154). (¬3) من قوله: "بالياء والنون" إلى قوله: "وقرأ الباقون" ساقط من "ت". (¬4) المصادر السابقة. (¬5) انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 291)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 193)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 155).

[95]

{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} منافِعَها. {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أي: غنائمُ. {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تكتمون إيمانَكم من المشركين. {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بالهدايةِ وإظهارِ الإسلام، ورُويَ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَقَتَلْتُمُوهُ إِرَادَةَ مَا مَعَهُ؟ "، ووجَدَ عليه، فقالَ أسامة: استغفرْ لي يا رسولَ الله، فقال: "فكيفَ بِلا إلهَ إلا الله؟ " مرارًا، قال أسامة: فوددْتُ أَني لم أكنْ أسلمتُ إلا يومَئِذٍ" (¬1). قرأ أبو عمرو: (كَذَلِك كنْتُمْ) بإدغام الكاف في الكاف. {فَتَبَيَّنُوا} أن تقتلوا مؤمنًا خطأً، كرَّرها تأكيدًا وزجرًا عن الإقدامِ على القتل. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} عالمًا به، فلا تُقدموا على القتلِ، واحتاطوا فيه. {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)}. [95] {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن الجهادِ. نزلتْ في فضلِ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (97)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله.

الجهادِ والحثِّ عليه، فلما سمعَ ابنُ أمِّ مكتومٍ -وكانَ أَعمى- النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُمليها على زيدِ بنِ ثابتٍ قال: "يا رسولَ اللهِ! لو استطعتُ الجهادَ لجاهدْتُ" فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (¬1) أي: المرض؛ من عمًى وغيرِه. قرأ نافعٌ وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ (غَيْرَ) بنصبِ الراء؛ أي: إلا أولي الضرر، وقرأ الباقون: برفع الراء على نعتِ (القاعِدون) (¬2)، يريدُ: لا يستوي القاعدونَ الذين هم غيرُ أولي الضرر. {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي: لا مساواةَ بينهم وبينَ من قعدَ عن الجهاد من غيرِ عذرٍ. {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} للعذرِ. {دَرَجَةً} فضيلةً؛ لأن المجاهدَ مباشِرٌ مع النية، والقاعدَ له نيةٌ، ولكن لم يباشرْ، فنزلوا عنهم بدرجةٍ. {وَكُلًّا} من الفريقين. {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وهي الجنةُ. {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} مطلقًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2677)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ..} عن سهل بن سعد، ومسلم (1898)، كتاب: الإمارة، باب: سقوط فرض الجهاد عن المعذورين، عن البراء. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 97)، و"تفسير البغوي" (1/ 582)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 251)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 193)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 155).

[96]

{عَلَى الْقَاعِدِينَ} بعذرٍ وغيرِه. {أَجْرًا عَظِيمًا} أي: أَجَرَهم أجرًا عظيمًا. {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}. [96] {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} نصبٌ بدلٌ من {أجرًا}. {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} عطفٌ على درجات. عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا أَبَا سَعِيدٍ! مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ" فعجبَ بها أبو سعيدٍ، قال: أَعِدْها عليَّ يا رسولَ اللهِ، ففعلَ، قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا الْعَبْدَ مِئَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" فقال: وما هي يا رسولَ الله؟ قال: "الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ" (¬1). {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لِما (¬2) عساه يفرطُ منهم. {رَحِيمًا} بما وعدَ لهم. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1884)، كتاب: الإمارة، باب: بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات. (¬2) في "ن": "لمن".

[97]

{مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)}. [97] ونزلَ في أُناسٍ من مكةَ أسلموا ولم يهاجروا حينَ كانتِ الهجرةُ واجبةً، فلما خرجَ المشركونَ إلى بدرٍ، خرجوا معهم، فقُتلوا مع الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} أي: ملكُ الموتِ وأعوانهُ. {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بتركِ الهجرةِ وموافقةِ الكفرةِ. قرأ أبو عمرٍو: (الملائكَة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بإدغام التاء في الظاء (¬1)، وقرأ البزي: (إِنَّ الَّذِين توَفَّاهُمُ) بتشديد التاء حالةَ الوصل (¬2). {قَالُوا} أي: الملائكةُ توبيخًا لهم: {فِيمَ كُنْتُمْ} في أيِّ شيءٍ كنتُم من أمرِ دينِكم. {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} عاجزينَ عن الهجرةِ. {فِي الْأَرْضِ} أرضِ مكةَ. {قَالُوا} أي: الملائكةُ؛ تكذيبًا (¬3) لهم. {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} في الرزقِ. {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} إلى قطر آخرَ. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 193)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 156). (¬2) وهي قراءة البزي، كما في "التيسير" للداني (ص: 83)، و"الكشف" لمكي (1/ 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 156). (¬3) في "ن": "توبيخًا".

[98]

{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} لتركِهم الواجبَ. {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي: بئسَ المصيرُ إلى جهنمَ. {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)}. [98] ثم استثنى أهلَ العذرِ منهم فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} أي: هم عاجزونَ (¬1) عن الهجرةِ؛ لضعفِهم وفقرِهم {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} أي: لا يعرفون طريقًا إلى الخروج. {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}. [99] {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} و (عسى) من اللهِ واجب؛ لأنه للإطماع. {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}. قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: كنتُ أنا وأُمي ممَّنْ عذرَ الله (¬2)؛ يعني: من المستضعفينَ، وكانَ رسولُ اللهِ يدعو لهؤلاءِ المستضعفينَ في الصلاة. ¬

_ (¬1) في "ن": "حاجزين". (¬2) رواه البخاري (4311)، كتاب: التفسير، باب: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...}.

[100]

{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}. [100] {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا} مُتَحَوَّلًا ومُهاجَرًا. {كَثِيرًا} المعنى: مكانًا يتحول به على رغمِ أنفِهم، وأصلُ الرَّغْمِ: لصوقُ الأنفِ بالرّغامِ ذُلًّا، وهو الترابُ. {وَسَعَةً} في الرزقِ، فلما سمعَ جُنْدَعُ بنُ ضَمْرةَ هذه الآيةَ، وكان شيخًا كبيرًا، خرجَ من مكةَ محمولًا على سريرِه مهاجِرًا إلى المدينة، فماتَ في الطريقِ، فقالَ بعضُ المسلمينَ: لو وصلَ إلى المدينةِ، لكانَ أتمَّ أجرًا، وضحكَ المشركون، وقالوا: ما أدركَ هذا ما طلبَ، فنزل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} (¬1) قبلَ بلوغِه مُهاجَرَهُ. {فَقَدْ وَقَعَ} أي: وجبَ. {أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} بإيجابِه على نفسِه فضلًا منه سبحانه. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لِما كانَ منه في الشِّركِ. {رَحِيمًا} حينَ قبلَ توبتَهُ؛ فعندَ الإمامِ أحمدَ والأكثر: لا يجبُ على اللهِ شيءٌ، لا عقلًا، ولا شرعًا، وقال جمعٌ: يجبُ عليه شرعًا بفضلِه وكرمِه، وحكي عن أهل السُّنِة، وعندَ المعتزلة يجبُ علية رعايةُ الأصلحِ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 98)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 515)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 653).

[101]

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}. [101] {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} سافَرْتُم. {فِي الْأَرْضِ} أي: سفرًا يبيحُ القصرَ، وهو مسيرةُ ثلاثةِ أيامٍ بسيرِ الإبلِ ومشيِ الأقدام عند أبي حنيفةَ، ومسيرةُ يومين قاصِدَينِ، وهو ستةَ عشرَ فرسخًا أربعةُ بُرُدٍ عندَ الثلاثةِ. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} حرجٌ {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} بأن تردُّوها من أربعٍ إلى اثنتين، وذلك في الظهرِ والعصرِ والعشاءِ، وهو عزيمةٌ عندَ أبي حنيفةَ، وشدَّد فيه حتى قَال: إذا صلَّى الظهرَ أربعًا، ولم يجلسْ بعدَ الركعتين، بطلَ ظُهره، وإن قعدَ (¬1) في الثانية، أجزأتْهُ اثنتانِ عن الفرضِ، وركعتانِ عن النافلةِ، وقال الثلاثةُ: هو رخصةٌ، واتفقوا على أن القصرَ أفضلُ من الإتمام، وعلى أن المغربَ والصبحَ لا يقصران، واختلفوا في سفرِ المعصيةِ هل يبيحُ الرخصَ الشرعيةَ من القصرِ وغيرِه؟ (¬2) فقال أبو حنيفةَ: يبيحُ، وقال الثلاثة: لا يبيحُ، وتقدَّم نظيرُ ذلك في سورة البقرة عندَ تفسير قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الآية: 173]. {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} أي: يقتلَكُم وينالَكم بما تكرهونَ. {الَّذِينَ كَفَرُوا} فظاهرُ الآيةِ: لا يجوزُ القصرُ إلا عندَ الخوفِ، وليسَ كذلكَ، بل الصحيحُ أن الخوفَ ليسَ بشرطٍ بالاتفاق؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سافرَ ¬

_ (¬1) في "ن": "قعده". (¬2) "من القصر وغيره" ساقطة من "ت".

[102]

بينَ مكةَ والمدينةِ لا يخافُ إلا اللهَ، فكان يصلِّي ركعتين، وقد سألَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقدْ أَمِنَ الناسُ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا (¬1) عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَته" (¬2). {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}. {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}. [102] عن ابنِ عباسٍ وجابرٍ: أنَّ المشركينَ لما رأَوا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه قامُوا إلى الظُّهرِ يصلُّونَ جميعًا، ندموا ألَّا كانوا أَكَبُّوا عليهِم، فقالَ بعضُهم لبعضٍ: دَعوهُم؛ فإنَّ لهم بعدَها صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائِهم وأبنائِهم، يعني: صلاةَ العصر، فإذا قاموا إليها، فشدُّوا عليهم فاقتلوهم، ¬

_ (¬1) في "ن": "تصدق بها الله". (¬2) رواه مسلم (686)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها.

فنزلَ جبريلُ عليه السلام فقالَ: يا محمدُ! إنها صلاةُ الخوفِ، وإن الله (¬1) عزَّ وجلَّ يقول: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} فعلَّمه صلاةَ الخوفِ، وكان نزولُ الآيةِ بينَ الظهرِ والعصرِ (¬2). قال الإمامُ أبو عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلٍ رضي الله عنه: صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صلاةُ الخوفِ من خمسةِ أوجهٍ أو ستةٍ، كلُّ ذلك جائزٌ لمنْ فعلَهُ (¬3)، فمنْ ذلكَ: إذا كان العدوُّ في جهةِ القِبلَةِ، صَفَّ الإمامُ المسلمينَ خلفَه صَفَّينِ، فصلَّى بهم جميعًا إلى أن يسجدَ، فيسجدُ معه الصفُّ الذي يليه، ويحرسُ الآخَرُ حتى يقومَ الإمامُ إلى الثانيةِ، فيسجدُ ويلحقُه، فاذا سجدَ في الثانيةِ، سجدَ معه الصفُّ الذي حرسَ أولًا (¬4)، وحرسَ الآخرُ حتى يجلسَ في التشهُّدِ، فيسجدُ ويلحقُه، فيتشهَّدُ ويسلِّمُ بهم، وهذهِ صلاةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعسفانَ. الوجه الثاني: إذا كانَ العدوُّ في غير جهةِ القبلةِ، جعلَ طائفةً حذاءَ العدوِّ، وطائفةً تصلِّي معه ركعةً، فإذا قاموا إلى الثانيةِ، ثبتَ قائمًا، وأتمتْ لأنفسِها أخرى، وسلمتْ ومضت إلى العدو، وجاءت الطائفةُ الأخرى ¬

_ (¬1) في "ن": "إن ربك". (¬2) انظر: "صحيح مسلم" (840)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 99)، و "تفسير البغوي" (1/ 588). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 138). (¬4) "أولًا": زيادة من "ن".

فصلَّت معه الركعةَ الثانيةَ، فإذا جلسَ للتشهدِ، أتمت لأنفسِها أخرى، وتشهدتْ، وسلَّم بهم. فإن كانت الصلاةُ مغرِبًا صلَّى بالأولى ركعتين، وبالثانيةِ ركعةً، وإن كانت رباعيةً غيرَ مقصورةٍ، صلَّى بكلِّ طائفةٍ ركعتين، وأتمتِ الأولى بالحمدُ لله في كلّ ركعةٍ، والأخرى تتمُّ بالحمدُ لله وسورة، وتفارقُه الأولى عندَ فراغ التشهدِ، وينتظر الإمامُ الطائفةَ الثانيةَ جالسًا، يكررُ التشهدَ، فإذا أتتْ، قامَ، وهذه صلاةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بذاتِ الرقاع، وهي عندَ الشافعيِّ أفضلُ من صلاتِه ببطنِ نَخْلٍ على ما يأتي، وإلى هذا الوجهِ ذهبَ مالكٌ. الوجه الثالث: أن يصلِّي بطائفةٍ ركعةً، ثم تمضي إلى العدو، وتأتي الأخرى فيصلِّي بها ركعةً، ويسلِّم وحدَه، وتمضي هي، ثم تأتي الأولى فتتمُّ صلاتَها، ثم تأتي الأخرى فتممُّ صلاتها، وهذا الوجهُ مذهبُ أبي حنيفة. الوجه الرابع: أن يصلي بكلِّ طائفةٍ صلاةً، ويسلِّم بها، وهذه صلاةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ببطنِ نخلٍ. الوجه الخامس: أن يصلي الرباعيةَ المقصورةَ تامةً، وتصلي معه كلُّ طائفة ركعتين، ولا تقضي شيئًا، فتكون له تامةً، ولهم مقصورةً. واتفقوا على أن صلاةَ الخوفِ في الحضر أربعُ ركعاتٍ غير مقصورة، وفي السفر ركعتان إذا كانت رباعيةً، وغيرُ الرباعية على عددها، لا يختلف حكمُها حضرًا ولا سفرًا ولا خوفًا. فإذا اشتدَّ الخوفُ، صلَّوا رجالًا وركبانًا، إلى القبلةِ وغيرها يومئون بالركوعِ والسجودِ على قدرِ الطاقةِ، ويجعلون السجودَ أخفضَ من الركوع،

وبذلكَ قالَ الأئمةُ الثلاثةُ، وقال أبو حنيفةَ: لا يصلي ماشيًا ولا مُسايِفًا إذا لم يمكن الوقوفُ، ووافقهم على جواز الصلاةِ راكبًا، والإيماءِ إلى أيِّ جهةٍ قدرَ. {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} يا محمدُ حاضرًا في أصحابِك. {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} تقدَّمَ مذهبُ ورشٍ في تغليظِ لامِ (الصَّلاَة). {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} مصليةً، وطائفةٌ وِجاهَ العدوِّ. {وَلْيَأْخُذُوا} أي: غيرُ المصلين. {أَسْلِحَتَهُمْ} وقيل: المرادُ: المصلُّونَ والآيةُ تتناول الكلَّ، ولكنَّ سلاحَ المصلِّين ما خفَّ مما لا يشغلُه عن الصلاة. {فَإِذَا سَجَدُوا} أي: المصلُّون معكَ. {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} مكانَ الذين هم وِجاهَ العدوِّ. {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} وهمُ الذين في وجهِ العدوِّ. {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا} أي: الآتون، وقيل: المصلُّون. {حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} جعلَ الحذرَ آلةً يتحصَّنُ بها الغازي مع الأسلحةِ. {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يتمنى الكفارُ. {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} فيقصدونَكُم، ويحملونَ عليكم حملةً واحدةً، ورَخَّصَ لهم في تركِ السلاحِ للعذر فقال: {وَلَا جُنَاحَ} لا إثمَ.

[103]

{عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} لأن السلاحَ يثقلُ حملُه في هاتين الحالتينِ. {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} كيلا يهجُم عليكم العدوُّ. {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} يُهانون فيه. {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}. [103] {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} فَرَغتم من صلاةِ الخوفِ. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتسبيحِ والتهليلِ. {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي: اذكروه في هذهِ الأحوالِ. {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} أي: أَمِنْتُمْ. {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أَتِمُّوها بأركانِها وشروطِها. {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} واجبًا مفروضًا. {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}. [104] ولما رجعَ أبو سفيانَ وأصحابُه يومَ أُحدٍ بعثَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

[105]

طائفةً في آثارهم، فَشَكَوا ألمَ الجراحاتِ، فنزل قولُه تعالى: {وَلَا تَهِنُوا} (¬1) تَضْعُفوا في. {ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} في طلبِ الكفارِ. {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} تتوجَّعونَ من الجراحِ. {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} أي: ذلكَ مشترَكٌ بينكم وبينهم. {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ} من الثوابَ. {مَا لَا يَرْجُونَ} لأنهم لا يؤمنونَ بالبعثِ. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بأعمالِكم. {حَكِيمًا} فيما يأمر وينهى. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)}. [105] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} بالحدودِ والأحكامِ. {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} بما علَّمك وأوحى إليك. نزلتْ هذه الآيةُ في طُعْمَةَ بنِ أُبَيْرِقٍ الأنصاريِّ، سرقَ درعًا من قَتَادَةَ بنِ النعمان، وخبأَها عندَ زيدٍ السَّمينِ اليهوديِّ، ثم حلفَ أنه ما سرقَ شيئًا، وظهرتِ الدرعُ عند اليهوديِّ، فقال اليهوديُّ: دفعها إليَّ طعمةُ، فهمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقطعَ يدَ اليهوديِّ، فنزلت الآية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (5/ 263)، و"تفسير البغوي" (1/ 594). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (5/ 267)، و"المستدرك" للحاكم (4/ 427)، و"أسباب =

[106]

{وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ} طعمةَ وكلِّ خائنٍ. {خَصِيمًا} مخاصِمًا عنهم. {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)}. [106] {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} مما هممتَ به من معاقبةِ اليهوديِّ. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} لمن يستغفرُه. {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)}. [107] {وَلَا تُجَادِلْ} تخاصِمْ. {عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} هم طعمةُ وقومُه. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا} في الدرع. {أَثِيمًا} في رميهِ اليهوديَّ، والخطابُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والمرادُ غيرُه. {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}. [108] {يَسْتَخْفُونَ} يستترونَ حياء. {مِنَ النَّاسِ} وأصلُه: طلبُ الخفاءِ. ¬

_ = النزول" للواحدي (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (1/ 595).

[109]

{وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} لعلمِه لا يخفى عليه سرُّهم. {إِذْ يُبَيِّتُونَ} يُدَبِّرون ليلًا. {مَا لَا يَرْضَى} اللهُ. {مِنَ الْقَوْلِ} وهو حَلْفُ طعمةَ أنه ما سرقَ شيئًا، وذلك أنَّ قومَ طعمةَ قالوا فيما بينَهم: نرفعُ الأمرَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يسمعُ (¬1) قولَه ويمينه؛ لأنه مسلمٌ، ولا يسمعُ من اليهوديِّ؛ لأنه كافرٌ، فلم يرضَ الله تعالى منه. {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} لا يفوتُ عنه شيء. {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}. [109] {هَاأَنْتُمْ} يا قومَ طعمةَ مبتدأ، خبرُه: {هَؤُلَاءِ} وتقدم في سورة آل عمران اختلافُ القراء (¬2) في قولِه تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ}. {جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} خاصمتُم عن الخائنين. {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ} إذا عُذِّبوا. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} محاميًا عنهم. ¬

_ (¬1) في "ن": "يستمع". (¬2) "القراء" ساقطة من "ن".

[110]

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)}. [110] {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} يعني: السرقةَ. {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختصُّ به ولا يتعدَّاهُ بما دونَ الشِّركِ. {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} يتوبُ إليه. {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} فيه حثٌّ لطعمةَ وقومِه على التوبةِ والاستغفارِ. {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)}. [111] {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} فلا يتعداهُ وَبالُهُ. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بفعلِهِ. {حَكِيمًا} في مجازاتِه. {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)}. [112] {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} هي سرقةُ الدرعِ. {أَوْ إِثْمًا} ذنبًا، وهو يمينُه الكاذبةُ. {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي: بالإثمِ.

[113]

{بَرِيئًا} وهو نسبةُ السرقةِ لليهوديِّ. {فَقَدِ احْتَمَلَ} أي: تحمل. {بُهْتَانًا} أصلُه كلُّ ما يَبْهَتُ له الإنسانُ من ذنبٍ وغيره. {وَإِثْمًا} ذنبًا. {مُبِينًا} ظاهرًا. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}. [113] {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} يا محمدُ؛ بإعلامِ ما هم عليه بالوحي. {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} يعني: قومَ طعمةَ. {أَنْ يُضِلُّوكَ} عن الحقِّ، مع علمِهم بالحال. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لأن وبالَ أفعالِهم راجعٌ عليهم. {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} لأن الله يعصمُك منهم. {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآنَ. {وَالْحِكْمَةَ} القضاءَ بالوحي.

[114]

{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من الأحكامِ والغيبِ (¬1). {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} إذ لا فضلَ أعظمُ من النبوَّةِ. {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}. [114] {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} أي: تنَاجِيهم فيما يديرونه بينهم. قرأ حمزةُ: (لا خَيْرَ) بالمدِّ بحيثُ لا يبلغ الإشباعَ. {إِلَّا} أي: إلا نجوى. {مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} أي: حثَّ عليها إن لم يكنْ له مالٌ. {أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو كلُّ ما يستحسنُه الشرعُ، ولا ينكرُه العقلُ، وجميعُ أعمالِ البرِّ معروف. {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ؟ "، قيل: بلى، قال: "إِصْلاَح ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ" (¬2) الَّتِي تَحْلِقُ الدِّينَ لاَ الشَّعْرَ. ¬

_ (¬1) في "ن": "بالغيب". (¬2) رواه أبو داود (4919)، كتاب: الأدب، باب: في إصلاح ذات البين، والترمذي (2509)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (56)، وقال: صحيح، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-.

[115]

{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} المذكورَ. {ابْتِغَاءَ} أي: طلبَ. {مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي: رضاه. قرأ الكسائيُّ (مَرْضَاتِ) بالإمالة، ووقف عليها بالهاء حيثُ وقعَ (¬1). {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ (يُؤْتيهِ) بالياء؛ يعني: يؤتيهِ اللهُ، وقرأ الباقونَ: (نُؤْتيهِ) بالنون (¬2). {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}. [115] {وَمَنْ يُشَاقِقِ} أي: يخالفِ (¬3). {الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} من بعد وضوحِ الدليلِ. {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ} أي: طريقِ. {الْمُؤْمِنِينَ} وهو الإسلامُ. {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} نَكِلُهُ إلى ما اختارَ من الكفرِ في الدنيا. قرأ أبو عمرٍو، وأبو بكرٍ، وحمزةُ: (نُوَلِّهْ) و (نُصْلِهْ) بسكون الهاء، واختلِفَ عن ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 195)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 194)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 161). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 97)، و"الكشف" لمكي (1/ 397)، و"تفسير البغوي" (1/ 598)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 2551)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 161). (¬3) "أي: يخالف" ساقطة من "ن".

[116]

أبي جعفرٍ، وقرأ (¬1) قالونُ، ويعقوبُ: بكسر الهاء من غير صلتِها، واختلِفَ عن هشامٍ وأبي جعفرٍ، والباقونَ: بصلتها بخلافٍ عن هشامٍ (¬2). {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} في العُقْبى. {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} نزلتْ في طعمةَ، وذلك أنه لما ظهرتْ عليه السرقةُ، خافَ من قطعِ اليدِ والفضيحةِ، فهربَ إلى مكةَ وارتدَّ، ونقبَ حائطًا بها ليسرقَ أهلَها، فسقطَ الحائطُ عليه فقتلَه. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)}. [116] {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} بَعُدَتْ غايتُه عن كلِّ خيرٍ، فلا يُرجى له الفلاحُ. عن ابن عباسٍ: "أنَّ هذهِ الآيةَ نزلتْ في شيخٍ من الأحزابِ جاء إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبيَّ الله! إني شيخٌ منهمكٌ في الذنوب، إلا أني لا أشركُ بالله شيئًا منذُ عرفتُه وآمنتُ به، ولم أتخذْ من دويه أولياءَ، ولم أواقعِ المعاصيَ جرأةً على الله، وما توهَّمْتُ طرفةَ عينٍ أَني أُعجِزُ الله هَرَبًا، ¬

_ (¬1) "وقرأ" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 89)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 194)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 162)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 195)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 162).

[117]

وإني لنادمٌ تائبٌ مستغفرٌ، فما حالي، فأنزلَ الله الآيةَ" (¬1). {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)}. [117] ونزلَ في أهلِ مكَّةَ. {إِنْ يَدْعُونَ} أي: ما يعبدون. {مِنْ دُونِهِ} أي: من دون الله. {إِلَّا إِنَاثًا} يعني: الأوثانَ، وكانوا يسمُّونها باسمِ الإناثِ، كمناةَ واللاتِ والعُزَّى. {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} خارجًا عن الطاعةِ، وهو إبليسُ. {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)}. [118] {لَعَنَهُ اللَّهُ} أبعدَه اللهُ من رحمتِه. {وَقَالَ} إبليسُ. {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أي: حظًّا معلومًا؛ أي: طائفةً أنهم يطيعوني. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 599)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 360).

[119]

{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)}. [119] {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن الحقِّ. {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} أُلقي في أمانيّهم ركوبَ الأهواء. {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ} يقطِّعُنَّ. {آذَانَ الْأَنْعَامِ} يعني: البَحائرَ؛ لأنهم كانوا يشقُّون آذنَ الناقةِ إذا ولدَتْ خمسةَ أَبْطُنٍ، وجاء الخامسُ ذكرًا، ويحرِّمونَ الانتفاع بها. {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ} لَيبدِّلُنَّ. {خَلْقَ اللَّهِ} بالخِصاءِ ونتفِ اللحيةِ والوَشْم ونحوِها. {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا} أي: ربًّا. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} يطيعُه. {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} أي: نقصَ نفسَه، وعَيَّبَها؛ بأن أعطى الشيطانَ حقَّ اللهِ تعالى فيه، وتركَه من أجلِه. {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)}. [120] {يَعِدُهُمُ} ما لا ينجزُ، وهو طولُ العمرِ. {وَيُمَنِّيهِمْ} ما لا ينالونَ من الدنيا. {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} باطلًا.

[121]

{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)}. [121] {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)} مَفَرًّا. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}. [122] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت غرفِها ومساكِنها. {الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ} نصبٌ مصدرٌ مؤكَّدٌ. {حَقًّا} حالٌ من (وعد الله) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}. أي: قولًا. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)}. [123] ولما افتخرَ اليهودُ والنصارى، وقالوا للمسلمين: نبيُّنا قبلَ نبيِّكم، وكتابُنا قبلَ كتابِكم، فنحن أَوْلى بالله منكم، فقال المسلمون: نبيُّنا خاتمُ الأنبياء، وكتابنا يقضي على الكتبِ، وقد آمنَّا بكتابِكم، ولم تؤمنوا بكتابِنا، فنحن أَوْلى بالله منكم، فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} (¬1) أيُّها المسلمونَ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (5/ 288)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 100)، =

{وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} والأمانيُّ: هي ما يَتشَهَّاهُ المرءُ ويُطمِعُ نفسَه فيه؛ أي: ثوابُ الله لا يُنال بالأماني، وإنما الأمرُ بالعمل الصالح. قرأ أبو جعفرٍ: (بِأَمَانِيكُمْ وَلاَ أَمَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ) بسكونِ الياءِ من غيرِ تشديد (¬1). {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} مبتدأٌ، وهو شرطٌ جوابُه: {يُجْزَ بِهِ} عاجِلًا أو آجلًا. وهذه الآية عامة في حقِّ كلِّ عاملٍ، فأما مجازاةُ الكافرِ، فالنارُ، وأما المؤمنُ، فنكباتُ الدنيا، قال أبو بكر رضي الله عنه: لما نزلَتْ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قلتُ: يا رسولَ الله! ما أشدَّ هذهِ الآيةَ! فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ! أَمَا تَحْزَنُ، أَمَا تَمْرَضُ، أَمَا تُصِيبُكَ اللأْوَاءُ؟ فَهَذَا بِذلكَ" (¬2). {وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} يواليه. {وَلَا نَصِيرًا} ينصُره في دفعِ العذابِ. وفي قولِه تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: ما تَزْرَعْ تَحْصُدْ. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (1/ 601)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 694). (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (5/ 396)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 217 - 252)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 194)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 165). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 11)، وأبو يعلى في "مسنده" (98)، وابن حبان في "صحيحه" (2910)، والحاكم في "المستدرك" (4450).

[124]

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}. [124] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} بعضها وشيئًا منها، فإن كلَّ أحدٍ لا يتمكَّن من كلِّها، وليس مكلَّفًا بها. {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وأبو بكرٍ، ورَوْحٌ: (يُدْخَلُونَ) بضمِّ الياءِ وفتحِ الخاء، وقرأ الباقونَ: بفتح الياء وضمِّ الخاء (¬1). {وَلَا يُظْلَمُونَ} أي: لا ينقصُ شيءٌ من ثوابِهم. {نَقِيرًا} هو النقطةُ التي تكونُ على ظهر النواةِ، ومنها تنبتُ النخلةُ. {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}. [125] {وَمَنْ أَحْسَنُ} أي: أحكمُ. {دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي: أخلصَ عملَه لله. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} موحِّدٌ. {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} دينَهُ. {حَنِيفًا} حالٌ مِنْ {وَاتَّبَعَ}. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 97)، و"تفسير البغوي" (1/ 603)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 252)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 166).

[126]

{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشامٌ: (أبراهامَ) بالألفِ في الحرفينِ (¬1). {خَلِيلًا} والخليلُ: الذي ليسَ في محبته خَلَلٌ، والخُلَّةُ: الصداقةُ؛ لأن الله أحبَّه واصطفاه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخِي، وَصَاحِبِي، وَلَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ صاحِبَكُمْ خَلِيلًا" (¬2). {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}. [126] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خَلْقًا وَمُلْكًا، يختارُ منها من يشاءُ وما يشاءُ. {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} إحاطةَ علمٍ وقدرةٍ. {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}. [127] {وَيَسْتَفْتُونَكَ} يستخبرونَكَ. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 221، 252)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 194)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 166). (¬2) رواه مسلم (2383)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

{فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} قرأ يعقوبُ: (فِيهُنَّ) بضمِّ الهاء. {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي: ويُفتيكم فيما يُتلى عليكم. {فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ} أي: تعطوهُنَّ. {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} من الصَّداقِ والميراثِ. {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي: عن أن تنكحوهنَّ؛ فإن أولياءَ اليتامى كانوا يرغبون فيهنَّ إنْ كُنَّ جميلاتٍ، ويأكلونَ مالهنَّ، وإن كانتْ مرغوبةً عنها في قلةِ المالِ والجمالِ، تركَها، وفي رواية: "هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ في حِجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شركَتْهُ في مالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْها أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِذَمَامَتِهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ في مَالِهِ، فَيَحْبسُهَا حَتَّى تَمُوتَ، فَيَرِثُهَا"، فنهاهم اللهُ عن ذلك (¬1). {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} أي: ويفتيكُم في المستضعفينَ. {مِنَ الْوِلْدَانِ} أن تعطوهُم حقَّهم، وكانوا لا يُوَرِّثون إلا الرجالَ دون النساءِ والأطفالِ. {وَأَنْ تَقُومُوا} أي: ويُفتيكم أن تقوموا. {لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} بالعدلِ في إيتائهنَّ مهورَهُنَّ. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} يجازيكم عليه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4838)، كتاب: النكاح، باب: إذا كان الولي هو الخاطب، ومسلم (3018)، في أول كتاب: التفسير، عن عائشة -رضي الله عنها-.

[128]

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)}. [128] ونزلَ في أمرِ المرأةِ التي تكونُ ذاتَ سِنٍّ وذمامةٍ، أو نحو ذلك مما يرغِّبُ زوجَها، عنها فيذهبُ الزوجُ إلى طلاقِها، أو (¬1) إلى إيثارِ شابَّةٍ عليها، ونحو هذا مما يقصدُ به صلاحَ نفسِه، ولا يضرُّها هي ضِرارًا يلزمُه إياها، بل يعرضُ عليها الفُرقةَ، أو الصبرَ على الأثرةِ، فتريدُ هي بقاءَ العصمةِ، فهذه التي أباحَ اللهُ تعالى بينَهما الصلحَ، ورفع الجناحَ فيه؛ إذ الجناحُ في كلِّ صلحٍ يكونُ عن ضررٍ من الزوجِ يفعلُه حتى تصالحَهُ، وأباحَ اللهُ الصلحَ مع الخوفِ وظُهورِ علاماتِ النشوزِ والإعراضِ، وهو مع وقوعِها مباح أيضًا، فقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} (¬2) توقَّعْتَ. {مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} بُغْضًا. {أَوْ إِعْرَاضًا} بوجْهِهِ وقلةِ نفقتِه والتفاتِه إليها. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا}. قرأ حمزةُ، وعاصم، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يُصْلِحَا) بضمِّ الياء وكسر اللام مخفَّفًا من أصلحَ، قرأ الباقون: بفتحِ الياء وتشديدِ الصاد مع فتحها، وبعد الصاد ألفٌ بعدَها لامٌ مفتوحة (¬3). ¬

_ (¬1) في "ن": "و". (¬2) رواه البخاري (2318)، كتاب: المظالم، باب: إذا حلله من ظلمه فلا رجوع فيه، ومسلم (3021)، في أول كتاب: التفسير، عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 606).

{بَيْنَهُمَا صُلْحًا} مصدرٌ (¬1)، واصطلاحُهما: أن يتوافَقا على ما تطيبُ بها أنفسُهما؛ بأن يتركَ أحدُهما شيئًا مما يستحقُّه على صاحبِه؛ طلبًا لصحبتِه. {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} من الفُرقةِ والنشوز. {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} المعنى: إن النفوسَ قد جُبلت على الشحِّ، فهي حاضرتُه لا تفارقُه أبدًا؛ لأن كلَّ واحدٍ من الزوجين يُغَلِّبُ ما فيه راحتُه، والشحُّ: الإفراطُ في البخلِ. {وَإِنْ تُحْسِنُوا} العشرةَ. {وَتَتَّقُوا} الفُرقةَ. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإحسانِ بالخصومةِ. {خَبِيرًا} عليمًا به، والصلحُ: هو التوفيقُ والسَّلْمُ، فيكون بين مسلمينَ وأهلِ حربٍ، وبين أهلِ بغيٍ وعدلٍ، وبين زوجين إذا خيفَ الشقاقُ بينهما، أو خافتِ امرأةٌ إعراضَ زوجِها عنها، وبين متخاصِمَيْنِ في غيرِ مالٍ، وفي مال عبارةٌ عن معاقدةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى موافقةٍ بين مختلفين، وهو عقدٌ يرفعُ النزاعَ، وأصلُه من الصَّلاحِ، وهو ضِدُّ الفسادِ، ومعناه دالٌّ على حسنِهِ الذاتيِّ، بدليلِ ما نطقَ به الكتابُ العزيزُ. واختلفَ الأئمةُ في حكمِه بينَ متخاصِمَيْنِ في مالٍ، فعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ يصحُّ مع الإقرارِ والإنكارِ والسكوتِ، وعند مالكٍ يصحُّ مع الإنكارِ والسكوتِ، ويجوز على الافتداءِ من اليمينِ بمالٍ، وعند الشافعيِّ يصحُّ مع الإقرارِ فقط. ¬

_ (¬1) في "ن": "مصدرًا".

[129]

{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)}. [129] {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} في القَسْمِ والنفقةِ وميلِ القلبِ. {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} على العدلِ، والحرصُ: شدةُ الإرادةِ. {فَلَا تَمِيلُوا} إلى التي تحبونها. {كُلَّ الْمَيْلِ} في القسمةِ والنفقةِ باتبِّاع أهوائِكم. {فَتَذَرُوهَا} أي: فتدَعُوا الأخرى. {كَالْمُعَلَّقَةِ} التي ليستْ أَيِّمًا، ولا ذاتَ بعلٍ، كان - صلى الله عليه وسلم - يقسمُ بينَ نسائِه ويقول: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تلمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ" (¬1) يعني: حبَّهُ عائشةَ رضي الله عنها، وقال: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2134)، كتاب: النكاح، باب: في القسم بين النساء، والنسائي (3843)، كتاب: عشرة النساء، باب: ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، والترمذي (1140)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، وابن ماجه (1971)، كتاب: النكاح، باب: القسمة بين النساء، عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) رواه أبو داود (2133)، كتاب: النكاح، باب، في القسم بين النساء، والترمذي (1141)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[130]

{وَإِنْ تُصْلِحُوا} ما مضى من الميلِ عنها. {وَتَتَّقُوا} الجَوْرَ. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} يغفرُ لكم ما مضى من مَيْلِكم. {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)}. [130] {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} أي: الزوجانِ. {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا} أي: كلَّ واحدٍ منهما. {مِنْ سَعَتِهِ} رزقِهِ؛ بأن تتزوَّجَ غيرَه، ويتزوَّجَ غيرَها. {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} أي: واسعَ الفضلِ. {حَكِيمًا} في القولِ والفعلِ. ويجبُ على الرجلِ التسويةُ في القَسْمِ والنفقةِ، ويعصي بتركِه، وعليهِ القضاءُ للمظلومةِ، ولا يلزمُ التسويةُ في الجِماع، بالاتفاق؛ لأنه يدورُ على النشاط، وليسَ ذلكَ إليه، وإذا كان في نكاحه حرةٌ وأمةٌ، قسمَ للحرةِ ليلتينِ، وللأمةِ ليلةً عندَ الثلاثة، وقال مالكٌ في المشهور عنه: القسمُ بينَهما سواء، وإذا تزوَّجَ بِكْرًا وله نساءٌ سواها، أقامَ عندَها سَبْعًا، ثم دارَ، وإن كانتْ ثَيِّبًا، أقامَ ثلاثًا، وبه قالَ الأئمةُ الثلاثةُ، وقال أبو حنيفةَ: لا يفضِّلُ الجديدةَ في القسم، بل يسوِّي بينَها وبينَ مَنْ عندَه.

[131]

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)}. [131] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تنبيهٌ على كمالِ سَعَته وقدرتِهِ. {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: التوراةَ والإنجيلَ وسائرَ الكتبِ المتقدمةِ في كتبِهم. {وَإِيَّاكُمْ} يا أهلَ القرآنِ في كتابِكم. {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} أطيعوه. {وَإِنْ تَكْفُرُوا} بما وُصِّيتُم به. {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من الملائكةِ وغيرِهم، فهم أطوعُ منكم. {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} عن الخلقِ وعبادتِهم {حَمِيدًا} محمودًا على نِعَمِهِ. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)}. [132] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} مُجيرًا، فلا تتوكَّلوا على غيرِه.

[133]

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)}. [133] {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} أي: يُعْدِمْكم، تهديدٌ للكفارِ. {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} يوجِدْ غيرَكم أطوعَ له منكُم. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ} على الإعدامِ والإيجادِ. {قَدِيرًا} لا يُعجزه مُرادٌ. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}. [134] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} حُطامُها. {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} فمَنْ أرادَ بعملِه عَرَضًا من الدنيا، آتاه اللهُ ما أراد، وليس له في الآخرة من ثوابٍ، ومن أرادَ ثوابَ الآخرةِ، آتاه اللهُ ما أحبَّ من الدنيا، وجزاؤهُ الجنةَ في الآخرة. {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} عالمًا بالأغراضِ، فيجازي كلًّا بحسبِ قصدِه. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا

[135]

تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}. [135] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} مجتهدينَ في إقامةِ العدلِ. {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} تُقيمون شهادَتَكم بالحقِّ لوجهِ الله. {وَلَوْ} كانتِ الشهادةُ. {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} بأن تُقِرُّوا عليها. {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ولو على والدِيكم وأقارِبِكم. {إِنْ يَكُنْ} المشهودُ له أو عليه. {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} فأقيموها، ولا تُحابُوا غنيًّا لغناه، ولا ترحموا فقيرًا لفقره. اتفقَ القراءُ سوى أبي جعفرٍ على إظهارِ النونِ عندَ الغينِ والخاء نحو (مِنْ غِلٍّ) و (مِنْ خَيْرٍ) وشبهِه، وقرأ أبو جعفرٍ: بإخفاءِ النونِ عندَهما، واستثنى بعضُ أهلِ الأداءِ عنه: (إِنَ يَكُنْ غَنِيًّا) (والْمُنْخَنِقَةُ) في المائدة، (فَسَيُنْغِضُونَ) في الإسراء، فأظهرَ النونَ عنه في هذهِ الثلاثةِ، وروي عنه الإخفاءُ فيها أيضًا، والاستثناءُ أظهرُ، وعدمُه أقيسُ. {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} منكم، فكِلُوا أمرَهما إليه. {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} إرادةَ. {أَنْ تَعْدِلُوا} عن الحق من العدولِ. {وَإِنْ تَلْوُوا} تحرفوا الشهادةَ. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ: (تَلُوْا) بضم اللام وواو ساكنة؛ من الولاية؛ أي: تَلُوا أمرَ الناس، وقرأ الباقون: بإسكان

[136]

اللام، وبعدَها واوان، أولاهما مضمومة، والأخرى ساكنة، من لَوى يَلْوي: حَرَّفَ (¬1). {أَوْ تُعْرِضُوا} عن أدائِها فتكتُموها. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيجازيكم به. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}. [136] ثم خاطبَ مؤمني أهلِ الكتابِ فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بموسى وعيسى عليهما السلام. {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} القرآنِ. {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} المرادُ جنسُ الكتبِ المنزلةَ؛ أي: اثبتوا على الإيمان بذلك. قرأ ابن كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو عمرٍو (نُزِّلَ) و (أُنْزِلَ) بضم النون في الحرف الأول، وضم الهمزة في الثاني، وكسر الزاي فيهما، وقرأ الباقون: بفتح النون والهمزة والزاي فيهما؛ أي: أنزل الله (¬2)، ثم قال متهددًا: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 239)، و"التيسير" للداني (ص: 97)، و"تفسير البغوي" (1/ 610 - 611)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 170). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 239)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، =

[137]

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: ومن يكفرْ بشيءٍ من ذلك. {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} عن الهداية. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وابنُ عامرٍ، وخلفٌ (فَقَد ضَّلَّ) وشبهه بإدغام الدال في الضاد، والباقون: بالإظهار (¬1). {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)}. [137] ثم تهدَّد المتلعِّبين بالدِّين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بموسى عليه السلام، وهم اليهود. {ثُمَّ كَفَرُوا} بعبادتِهم العجلَ. {ثُمَّ آمَنُوا} بالتوراةِ. {ثُمَّ كَفَرُوا} بعيسى عليه السلام. {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ما أقاموا على ذلكَ. {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} طريقًا إلى الحقِّ. ¬

_ = و "تفسير البغوي" (1/ 611)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 235)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 170). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 196)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 194)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 171).

[138]

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}. [138] {بَشِّرِ} أي: أخبرْ يا محمدُ. {الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} والبشارةُ: كلُّ خبرٍ تتغيرُ به بشرةُ الوجهِ، سارًّا كانَ أو غيرَ سارٍّ. {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}. [139] ثم وصفَ المنافقين فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ} أي: اليهودَ والنصارى. {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: يتخذونهم أنصارًا وبطانةً. {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} يطلبونَ منهم المعونةَ والظهورَ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه. {فَإِنَّ الْعِزَّةَ} أي: القوةَ والغلبةَ والقدرةَ. {لِلَّهِ جَمِيعًا} لا يتعزَّزُ إلا من أَعَزَّه. {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)}. [140] {وَقَدْ نَزَّلَ} قرأ عاصمٌ، ويعقوبُ: بفتح النون والزاي؛ أي:

نزلَ اللهُ، وقرأ الباقون: بضمِّ النونِ وكسرِ الزاي (¬1)، والكسائيُّ يُميل الزاي من (العِزَّةَ) حيثُ وقفَ على هاء التأنيث. {عَلَيْكُمْ} يا معشرَ المسلمينَ. {فِي الْكِتَابِ} يعني: القرآنَ. {أَنْ} أي: أنه. {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} أي: إذا سمعتُم الكفرَ والاستهزاءَ بآيات الله. {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} أي: مع الكافرين والمستهزئين. {حَتَّى يَخُوضُوا} يَشْرَعوا. {فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي: اجتنبوهُم حينَ استهزائِهم بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - والقرآنِ. {إِنَّكُمْ إِذًا} أي: إذا قعدتُم عندَهم، وسمعتُم استهزاءَهُم، ورضيتُم به، فأنتم كفار. {مِثْلُهُمْ} لأن الرضا بالكفرِ كفر. {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} تهديدٌ للخائضينَ والمستمعينَ الراضين بجمعِهم في جهنَّمَ. {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 239)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، و"تفسير البغوي" (1/ 613)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 171).

[141]

{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}. [141] {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} يعني: المنافقون ينتظرونَ هلاكَكُم، ولمن تكونُ العاقبةُ، لكم أم لعدوِّكم. {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ} ظفرٌ وغنيمةٌ. {مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} في الجهادِ، فلنا نصيبٌ من الغنيمة. {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} دولةٌ وظهورٌ على المسلمينَ. {قَالُوا} يعني: المنافقينَ للكفارِ. {ألم نستحوذ} نستولِ. {عَلَيْكُمْ} ونخبرْكم بعورةِ محمدٍ وأصحابِه، ونطلعْكم على سرِّهم. {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ندفعْ عنكم صولةَ المؤمنين، ونخذلْهم عنكُم. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أيها المؤمنونَ والمنافقونَ. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} حجةً شرعيةً يستظهرون بها. فيه دليلٌ على أن الكافرَ لا يملكُ العبدَ المسلم. واختلفَ الأئمةُ، فقال أحمدُ والشافعيُّ: لا يصحُّ بيعُ عبدٍ مسلمٍ لكافرٍ، إلا أنْ يكونَ ممن يعتَقُ عليه، فيصحُّ، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يصحُّ، ويُجبر على إزالةِ ملكهِ عنه، ولو أسلمَ عبدُ الكافرِ، أُجبرَ على إزالةِ ملكِه عنه، بالاتفاق.

[142]

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)}. [142] {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} يعاملونه معاملةَ المخادِعين بإظهارِ الإيمانِ وإبطانِ الكفر. {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} مُجازيهم جزاءَ خداعِهم. {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} متثاقلينَ، صلاتهم لغير الله. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (كُسَالَى) بالإمالة (¬1). {يُرَاءُونَ النَّاسَ} بفعلِهم. {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا} ذكرًا. {قَلِيلًا} قال ابن عباسٍ: "لو أردوا بذلكَ القليل وجهَ اللهِ، لكانَ كثيرًا" (¬2). {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)}. [143] {مُذَبْذَبِينَ} مضطربينَ. {بَيْنَ ذَلِكَ} بين الكفرِ والإيمان. {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} لا منسوبينَ إلى المؤمنينَ, ولا إلى ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 196)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 195)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 172). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (5/ 335)، و"تفسير البغوي" (1/ 614).

[144]

الكافرينَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ مَرَّةً إِلَى هَذِهِ، وَمَرَّةً إِلَى هَذِهِ" (¬1). {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} طريقًا إلى الحقِّ والصوابِ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}. [144] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فإنه صَنيعُ المنافقينَ. {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} حُجَّةً بينةً في عذابِكم. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)}. [145] {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} وهو أخفضُ مكانٍ. {مِنَ النَّارِ} قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (فِي الدَّرْكِ) بسكونِ الراءِ، والباقون: بفتحها، وهما لغتان؛ كالنَّهْرِ والنَّهَرِ (¬2). {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} يخرجُهم منه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2784) في أول كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 239)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، و"تفسير البغوي" (1/ 615)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 175).

[146]

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)}. [146] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} من النفاقِ. {وَأَصْلَحُوا} ما أفسدُوا من عملِهم. {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} وَثِقوا بهِ. {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} بقلوبهم. {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} في الجنةِ. {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} في الجنةِ. أثبتَ يعقوبُ الياءَ في (يُؤْتِي) حالةَ الوقفِ (¬1). {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}. [147] {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ} أي: أيُّ شيءٍ يفعلُ. {بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ} اللهَ. {وَآمَنْتُمْ} بهِ أَيتشفَّى به غيظًا، أو يدفعُ ضرًّا، أو يستجلبُ به نفعًا، وهو الغنيُّ المتعالي عن النفعِ والضرِّ. {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} مثيبًا. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 195)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 175).

[148]

{عَلِيمًا} بحقِّ شكرِكُم وإيمانِكم. {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)}. [148] {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} القبيحِ. {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} فيدعو على ظالمِهِ، فيقولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عليهِ، اللهمَ خذْ لي حقِّي منه. {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} لدعائِكُم {عَلِيمًا} بأحوالِكُم. {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}. [149] {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} حسنةً. {أَوْ تُخْفُوهُ} أي: الخيرَ. {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} أي: مَظْلَمَةٍ. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} يُكْثِرُ العفوَ عن العُصاة، مع قدرتهِ على الانتقامِ منهم، فاستنوا بهِ وبرسولِه. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)}.

[150]

[150] ونزلَ إخبارًا عن اليهودِ وإيمانهم بموسى والتوراةِ وعُزيرٍ، وكفرِهم بعيسى والإنجيلِ ومحمدٍ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} بأنْ يؤمنوا بالله، ويكفروا برسوله. {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} نؤمنُ ببعضِ الأنبياء، ونكفرُ ببعضِهم. {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ} أي: الكفرِ والإيمانِ. {سَبِيلًا} طريقًا وَسَطًا بينَ الإيمانِ والكفرِ. {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)}. [151] {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أي: هم الكاملونَ في الكفر. {حَقًّا} مصدرٌ مؤكِّدٌ، فالكافرُ ببعضِ الأنبياءِ كالكافرِ بجميعِهم. {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} أي: لجميعِ أصنافِهم. {عَذَابًا مُهِينًا} مُذِلًّا. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}. [152] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} كلِّهم. {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} تلخيصُه: من أَمنَ باللهِ وجميعِ رسلِه.

[153]

{أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} بإيمانِهم باللهِ ورسلِه. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (يُؤْتيهِمْ) (¬1) بالياء، والباقون: بالنون (¬2). {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} بتضعيفِ حسناتِهم. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)}. [153] {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} نزلَتْ في اليهودِ لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتَ صادقًا، فَأْتِنا بكتابٍ من السماءِ جملةً (¬3)؛ أي: كما أُوتي به موسى عليه السلام، وكان سؤالُهم سؤالَ تهكُّم لا انقيادٍ. {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي: أعظمَ من سؤالك. {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} عيانًا. قرأ ابنُ كثيرٍ، والسوسيُّ، ويعقوبُ: (أَرْنَا) بإسكانِ الراء، والباقونَ: بكسرها (¬4). ¬

_ (¬1) "يؤتيهم" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 240)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، و"تفسير البغوي" (1/ 317)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 253)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 176). (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 103)، و"تفسير البغوي" (1/ 617). (¬4) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 196)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

[154]

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} نارٌ جاءتْ من السماءِ فأهلكتْهُمْ. {بِظُلْمِهِمْ} أي: بسببِ ظلمِهم. {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} إلهًا. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} المعجزاتُ. {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} ولم نستأصِلْهم. تلخيصُه: تابَ أولئكَ فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم، فنعفوَ عنكم. {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} حجةً ظاهرةً، وهي الآياتُ التي جاء بها. {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)}. [154] {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} الجبلَ. {بِمِيثَاقِهِمْ} أي: بسبب نقضِهم الميثاقَ الذي أُخِذَ منهم، وهو العمل بما في التوراة. {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} على لسانِ موسى عليه السلام. {وَقُلْنَا لَهُمْ} على لسانِ داودَ عليه السلام: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} أي: لا تعتدوا باصطيادِ الحيتانِ فيه. قرأ أبو جعفرٍ (تَعدُّوا) بجزم العينِ وتشديدِ الدال، وورشٌ: بفتح العين وتشديد الدال مضمومةً، وقالون: باختلاسِ فتحةِ العينِ مع تشديد الدال، والباقونَ: بإسكانِ العينِ والتخفيف (¬1). ¬

_ = (ص: 196)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 177). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 240)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، =

[155]

وتقدَّم في البقرة رفعُ الجبل ودخولُ الباب والاعتداءُ في السبت، وتفسيرُها (¬1). {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} على ذلك، وهو قولُهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7]. {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}. [155] {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أي: فبنقضِهم. {مِيثَاقَهُمْ} و (ما) صلةٌ؛ كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] ونحوِه. {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} لا تَعِي كلامَكَ يا محمدُ، فعلْنا بهم ما فعلْنا. {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ} أي: ختم. {عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فجعلَها محجوبةً عن العلم. قرأ هشامٌ، والكسائيُّ، وخلادٌ بخلاف عن الثالث: (بَل طَبَعَ) بإدغامِ اللام في الطاء، والباقون: بالإظهار (¬2). ¬

_ = و"تفسير البغوي" (1/ 618)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 253)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 196)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 177 - 178). (¬1) في "ن": "في تفسيرها". (¬2) انظر: "الحجة" لابن خالويه (ص: 84)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

[156]

{فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} منهم؛ كعبدٍ الله سلامٍ وأصحابِه. {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)}. [156] {وَبِكُفْرِهِمْ} بعيسى. {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} حينَ رموها بالزنا. قرأ السوسيُّ عن أبي عمرٍو: (مَرْيَمْ بُهْتَانًا) بإسكان الميم عند الباء، وتقدمَ الكلامُ عليه في سورة البقرة. {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)}. [157] {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} سموه رسعولَ اللهِ استهزاءً بهٍ، فأكذبَهم اللهُ تعالى في دَعْواهم بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى أَلْقى شبهَ عيسى على الذي دَلَّهم عليه، وتقدَّمَ الكلامُ على ذلك في سورةٍ آلِ عمران. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: في شأن عيسى. {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} لأن طائفةً من اليهود قالوا: نحن قتلناه، وطائفةٌ من ¬

_ = (ص: 196)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 178).

[158]

النصارى قالوا: نحن قتلناه، وقالت طائفةٌ منهم: ما قتلَه هؤلاءِ ولا هؤلاء، بل رُفع إلى السماء. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} استثناء منقطعٌ؛ أي: لكنْ يَتَّبِعونَ ظنَّهم. {وَمَا قَتَلُوهُ} أي: عيسى قتلًا. {يَقِينًا} كما زعموه بقولهم: إنا قتلْنا المسيحَ. {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)}. [158] {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ردٌّ وإنكارٌ لقتله، وإثباتٌ لرفعِه. {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} لا يُغْلَبُ على ما يريدُه. {حَكِيمًا} فيما دَبَّرَ لعيسى، وتقدَّم في سورة آل عمران قصةُ الصلبِ ورفعِ عيسى عليه السلام إلى السماء. {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}. [159] {وَإِنْ} أي: وما مِنْ أحدٍ. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي: بعيسى. {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: موتِ المؤمنِ عندَ معاينةِ الموتِ حينَ لا ينفعُ نفسًا إيمانُها، وقيلَ غيرُ ذلك. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} عيسى.

[160]

{عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} فيشهد على اليهود أنهم كذَّبوه وقذفُوه وأمَّهُ، ويشهدُ على النصارى بأنهم دَعَوْهُ ابنَ الله. {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)}. [160] {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} وهو ما تقدَّم ذكرُه من نقضِهم الميثاقَ، وكفرِهم بآياتِ الله، وبهتانِهم على مريمَ، وقولهم: إنا قتلْنا المسيحَ. {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وهي ما ذُكر في سورةِ الأنعامِ في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الآية: 146]، المعنى: بظلمٍ صدرَ من اليهودِ حَرَّمْنا عليهم ذلك. {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: عن دينِهِ {كَثِيرًا} من الناس. {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)}. [161] {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} في التوراةِ. {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} من الرِّشَا في الحكم، والمآكلِ يُصيبونها من عَوامِّهم؛ أي: بمجموعِ هذهِ الأشياءِ حَرَّمْنا عليهم تلكَ الطيباتِ. {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} دونَ مَنْ تابَ وآمنَ.

[162]

{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}. [162] {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ} المتمكِّنونَ. {فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه. {وَالْمُؤْمِنُونَ} من المهاجرينَ والأنصارِ، وقيلَ: من أهلِ الكتابِ. {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي: القرآنِ. {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني: جميعَ الكتبِ المنزلةِ. {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} نصبٌ على المدحِ، أو بإِضمارِ فعلٍ تقديرُه: أَعني المقيمينَ الصلاةَ. {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} رفعُه عطفٌ على {الرَّاسِخُونَ}، وكذلك. {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قدَّمَ عليهِ الإيمانَ بالأنبياءِ والكتبِ وما يصدِّقُه من اتباعِ الشرائع؛ لأنه المقصودُ بالآية. {أُولَئِكَ} مبتدأٌ، خبرُه: {سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} على جمعِهم بين الإيمانِ الصحيحِ والعملِ الصالح. قرأ حمزةُ، وخلفٌ: (سَيُؤْتيهِمْ) بالياء، والباقون: بالنون (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 240)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، و"تفسير البغوي" (1/ 622)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 253)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 180).

[163]

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)}. [163] {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الوحيُ: إلقاءُ المعنى في الخفاء (¬1)، وعَرَّفه في الأنبياء بواسطة جبريل عليه السلام، وذلك هو المراد بقوله: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} جوابٌ لأهل الكتابِ عن اقتراحهم أن ينزلَ عليهم كتابًا من السماءِ، واحتجاجٌ عليهم بأنَّ أمره في الوحي كسائر الأنبياءِ، وبدأ بنوحٍ؛ لأنه أولُ نبيٍّ مبن أنبياءِ الشريعةِ، وأولُ نبيٍّ بُعِثَ إلى الكفارِ، وكان أطولَ الأنبياءِ عُمْرًا، وجُعِلَت معجزتُه في نفسِه؛ فإنَّه عُمِّرَ ألفًا وأربعَ مئةِ سنةٍ، فلم تنقصْ له سِنٌّ، ولم تَشِبْ له شعرةٌ، ولم تنقصْ له قوةٌ، وتقدَّم ذكرُه ووفاتُه في سورةِ آلِ عمرانَ عند تفسيرِ قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [الآية: 33] وصَرَفَ نوحًا مَعَ العُجْمَةِ والتعريفِ لِخِفَّتِهِ. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشامٌ: (أَبْرَاهَامَ) بالألف (¬2). {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} وهم أولادُ يعقوبَ، وتقدَّم ذكرُ هؤلاء الأنبياءِ في سورة البقرة. {وَعِيسَى} تقدَّمَ ذكرُه في البقرة وآل عمران. ¬

_ (¬1) في "ن": "خفاء". (¬2) كما تقدم عنه. انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 221 - 222 و 252)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 194)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 180).

{وَأَيُّوبَ} هو ابنُ موصِ بنِ رازحِ بنِ العيصِ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليه السلام، وهو من أمةِ الرومِ، وكان نبيًّا في عهدِ يعقوبَ، وعاشَ ثلاثًا وتسعين سنة، ويأتي ذكرُ قصتِه في سورة الأنبياء، وفي سورة (ص) إن شاء الله تعالى. {وَيُونُسَ} هو ابنُ مَتَّى، ومَتَّى أبوهُ في قولِ الأكثرِ، قيل: إنه من بني إسرائيلَ من سبطِ بنيامينَ، بُعِثَ إلى أهلِ نينوى قبالةَ الموصِلِ، بينهما دجلةُ، وسيأتي ذكرُ قصته في سورةِ الأنبياءِ إن شاء الله تعالى، وكانت وفاته في سنةِ خمسَ عشرةَ وثماني مئة لوفاةِ موسى عليهما السلام، وقبرُه في قرية تسمَّى حلحول بينَ بيتِ المقدس وبلدةِ سيدِنا الخليلِ عليه الصلاة والسلام. {وَهَارُونَ} هو ابنُ عمرانَ أخو موسى عليهما السلام، وكان أكبرَ من موسى بثلاث سنين، وتوفي قبلَ موسى بأحدَ عشرَ شهرًا، ودُفِنَ في التيه بكهفٍ في بعضِ الجبالِ على سرير وجدَ به، وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ ذكرُ موسى ووفاتُه، فيُعلم من ذلكَ تاريخُ وفاةِ هارون. {وَسُلَيْمَانَ} تقدَّمَ ذكرُه ووفاته في سورة البقرة. {وَآتَيْنَا دَاوُودَ} هو ابنُ بشَيِّ بنِ عوفيد بنِ بوعزَ بنِ سَلَمُون بنِ نحشون بنِ عَمِينا ذَاب بنِ رَمْ بنِ حَصْرُون بنِ بارَص بنِ يَهُودا بنِ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصلاة والسلام، كان مقامُه بحبرون، ثم انتقلَ إلى بيتِ المقدسِ، وأَسَّسَ مسجدَه، وهو الأقصى، وماتَ قبل إتمامِه، وله سبعونَ سنةً، وقيلَ غيرُ ذلكَ، وملك أربعينَ سنةً، ودُفِنَ

[164]

بالكنيسةِ المعروفةِ بالجيسمانية (¬1) شرقي بيتِ المقدسِ بالوادي، ويقالُ: إنَّ قبرَه بكنيسةِ صهيون ظاهر بيتِ المقدسِ من جهةِ القبلةِ، وهو مشهورٌ عندَ الناس، وكانت وفاتُه في يوم السبت أواخر سنةِ خمسٍ وثلاثينَ وخمسِ مئةٍ لوفاة موسى عليه السلام. {زَبُورًا} قرأ حمزةُ، وخلفٌ: بضمِّ الزاي حيثُ وقعَ، جمع زَبْرٍ؛ كدَهْرٍ ودُهور، بمعنى: مزبور؛ أي: مكتوبٍ، وقرأ الباقون: بالفتحِ اسمٌ للكتاب المنزَلِ عليه (¬2)، وهو مئةٌ وخمسونَ سورةً بالعبرانيةِ في خمسينَ منها: ما يلقونه من بُخْتَ نَصَّرَ، وفي خمسينَ: ما يلقونَهُ من الرومِ، وفي خمسين: مواعظُ وحكمٌ، ولم يكنْ فيه حلالٌ ولا حرامٌ ولا أحكامٌ، وتقدَّم في سورةِ البقرةِ ذكرُ ما آتاهُ اللهُ من الملكِ والحكمةِ وطيبِ الصوتِ والألحانِ في قراءةِ الزَّبورِ. {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}. [164] {وَرُسُلًا} منصوبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ؛ أي: وأرسلْنا رسلًا؛ لأن معنى {أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} أرسلْنا نوحًا. {قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلِ هذهِ السورة، أو اليومَ. ¬

_ (¬1) في "ن": "الجسمانية". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 240)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، و"تفسير البغوي" (1/ 622)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 196)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 181).

[165]

{وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أي: لم نخبرْكَ بأخبارِهم، قيلَ: لما ذكرَ الأنبياءَ في الآية، ولم يذكر موسى، قالتِ اليهود: أكلمَ الله موسى أم لا؟ فنزل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} مصدرٌ معناهُ التأكيدُ، يدلُّ على بُطلانِ قولِ مَنْ يقول: خَلَقَ لنفسِه كلامًا في شجرةٍ، فسمعَهُ موسى، بل هو الكلامُ الحقيقيُّ الذي يكونُ به المتكلِّمُ متكلمًا، وكلامُ الله تعالى للنبيِّ موسى دونَ تكييفٍ ولا تحديدٍ؛ فإنه سبحانه موجودٌ لا كالموجودات، معلومٌ لا كالمعلوماتِ، فكذلكَ كلامُه لا كالكلامِ. {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}. [165] {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} نصبٌ على المدحِ، ثم عَلَّلَ الإرسالَ فقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ} إرسالِ. {الرُّسُلِ} إليهم، فيقولوا: ما أرسلتَ إلينا، فكيفَ تعذبنا؟! وفيه دليلٌ على أنَّ اللهَ لا يعذِّبُ الخلقَ قبلَ بعثةِ الرسلِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} لا يغلب فيما يريد (¬1). {حَكِيمًا} فيما دَبَّرَ من أمرِ النبوةِ، وخَصَّ كلَّ نبيٍّ من الوحيِ ¬

_ (¬1) في "ن": "يريده".

[166]

والإعجازِ، وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ أسماءُ الأنبياءِ الذين ذُكِروا في القرَآنِ بأسمائِهم، والذينَ أُشير إليهم. {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)}. [166] قال ابن عباس: إن رؤساءَ مكةَ أَتَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا محمدُ! إنا سألْنا عنكَ اليهودَ، وعن صفتِك في كتابِهم، فزعموا أنَّهم لا يعرفونَكَ، ودخلَ عليه جماعةٌ من اليهودِ، فقال لهم: "وَاللهِ إِنَكمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ"، فقالوا: ما نعلمُ ذلك، فأنزلَ الله عز وجل: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} (¬1) من الوحيِ والقرآنِ إن جحدوكَ وكَذَّبوكَ. {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: وهو عالمٌ بأنَّكَ أهلٌ لإنزالهِ عليكَ، وأَنَّكَ تبُلِّغُهُ. {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أيضًا على صدقِكَ. {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} لو لم يشهدْ غيرُه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 31)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (4/ 1120)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 103)، و "تفسير البغوي" (1/ 624)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 750).

[167]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)}. [167] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} جمعوا بينَ الكفرِ والصَّدِّ. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن طريقِ الهدى بكتمِ نعتِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)}. [168] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} باللهِ. {وَظَلَمُوا} بكتمِ نعتِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} من الطرقِ. {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)}. [169] {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} وهو دينُ الكفرِ؛ أي: لم يجعلْهم مسلِمينَ، بل جعلَهم كافرين، وهذا فيمَنْ سبقَ حكمُه تعالى فيهم أنَّهم لا يؤمنونَ. {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لا يصعُبُ عليه.

[170]

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}. [170] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ} محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -. {بِالْحَقِّ} أي: بالشرعِ. {مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا} الإيمانُ. {خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو غنيٌّ عنكُمْ. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بأحوالِهم. {حَكِيمًا} فيما دَبَّرَ لهم. {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}. [171] {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} الخطابُ لليهودِ والنصارى؛ [فإنهم جميعًا غَلَوا في أمرِ عيسى، فقالَتْ طائفةٌ من النصارى] (¬1)، وهم اليعقوبيةُ والملكائيةُ: عيسى هو اللهُ، وقالتْ طائفةٌ، وهم النسطوريةُ: عيسى ابنُ الله، وقالَتِ المرقوسيةُ: عيسى ثالثُ ثلاثةِ آلهةٍ: عيسى ومريمَ واللهِ، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ن".

علَّمَهم ذلكَ رجلٌ من اليهودِ يقالُ له: بولسُ، وقالتِ اليهودُ: هو ولدُ زنا، وكَذَبوا كُلُّهم. {لَا تَغْلُوا} لا تتجاوزوا الحدَّ. {فِي دِينِكُمْ} بزيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تشركوا، وقوله: {فِي دِينِكُمْ} معناه: في الدِّينِ الذي أنتم مطلوبون (¬1) به، وأضافَه إليهم بيانًا أنهم مأخوذونَ بهِ، وليستِ الإشارةُ إلى دينِهم المضلِّلِ، ولا أُمروا بالثبوتِ عليهِ دونَ غلُوٍّ، وإنما أُمِروا بتركِ الغُلُوِّ في دينِ الله، وأن يوحِّدوا. {وَلَا تَقُولُوا} أي: تَذْكُروا. {عَلَى اللَّهِ إِلَّا} القولَ. {الْحَقَّ} يعني: تنزيهَهُ عن الصاحبةِ والولدِ. {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} وهي قولُه لعيسى: كُنْ، فكانَ من غيرِ أبٍ. {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أوصلَها إليها، وحصَّلَها فيها. {وَرُوحٌ مِنْهُ} سُمِّي عيسى رُوحًا؛ لأنه ذو رُوحٍ وجسدٍ كغيره، وأُضيف إلى الله تشريفًا له، المعنى: لا نسبةَ ولا اتصالَ بينَ اللهِ وعيسى، وليسَ بجزءٍ منه، إلا أنه رسولُه؛ لأن عيسى مركَّبٌ، والله مُنزَّهٌ عن التركيبِ، وإنما هو ابنُ مريمَ، وهو جزءٌ منها، خُلِقَ من غيرِ أبٍ؛ لأنه مركَّبٌ مثلَها. تلخيصُه: ليسَ عيسى إلا بعضَ أمِّه لا غيرُ؛ لأن (إنما) للحصر. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا} هم. ¬

_ (¬1) في "ن": "تطلبون".

[172]

{ثَلَاثَةٌ} وكانت النصارى يقولون: أبٌ وابنٌ وروحُ القدس. {انْتَهُوا} عن التثليثِ يكنِ الانتهاءُ. {خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} بالذاتِ، لا تعدَّدَ فيهِ بوجهٍ. {سُبْحَانَهُ} أي: هو منزَّهٌ عن: {أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} كما تزعمونَ أيُّها النصارى. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} مُلْكًا وخَلْقًا، لا يماثلُه شيءٌ من ذلك فيتخذَه ولدًا. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} فإنه مستغنٍ عن الولدِ المحتاجِ إليه ليكونَ وكيلًا لأبيه؛ لأنه سبحانه قائمٌ بحفظِ الأشياءِ، غيرُ محتاجٍ إلى مَنْ يُعينهُ. {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)}. [172] ولما قال وفدُ نجرانَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّكَ تسبُّ عيسى، تقولُ: إنه عبدُ الله، فقال: "إِنَّهُ لاَ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ"، نزل: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} (¬1) أي: لن يأنفَ عِزَّةً. {أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} فإن عبوديتَهُ شرفٌ يتباهى به. {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} عطفٌ على المسيح، وهم حَمَلَةُ العرشِ لا يأنفونَ أن يكونوا عبيدًا لله، واستدلَّ بهذه الآيةِ من يقولُ بتفضيلِ الملائكةِ ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 103)، و"تفسير البغوي" (1/ 627).

[173]

على البشرِ؛ لأنه تعالى ذكرَ عيسى عليه السلام، ثم ارتقى إلى الملائكةِ، والارتقاءُ إنما يكونُ إِلى الأعلى، فلا يقالُ: لا يستنكفُ زيدٌ من كذا، ولا عبده، إنما يقال: لا يستنكفُ من كذا، ولا مولاه، ومن لا يُفَضِّلُهم يقول: لم يذكرِ الملائكةَ تفضيلًا لهم على البشرِ، بل رَدًّا على الذين يقولونَ: الملائكةُ آلهةٌ، كما ردَّ على النصارى قولَهم: المسيحُ ابنُ الله، وتقدَّمَ في سورة البقرة ذكرُ مذهبِ أهل السنَّةِ في تفضيلِ الأنبياءِ على الملائكةِ عندَ تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [الآية: 31]، ثم قالَ مُتَهدِّدًا: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} يترفعْ عنها، والاستكبار دون الاستنكاف. {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} فيجازيهِمْ. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)}. [173] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} من الحسناتِ ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ. {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} وعيدٌ للذين يَدَعون عبادةَ الله أنفةً وتكبُّرًا.

[174]

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}. [174] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} لهُ حجَّةٌ عليكم بالمعجزاتِ، وهو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} هو القرآنُ. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}. [175] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} امتنعوا بهِ من زَيْغِ الشيطانِ. {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} يعني: الجنةَ ونعيمَها. {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} أي: إلى الفضلِ، وهذه هداية طريق الجِنانِ. {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} طريقًا واضحًا. {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}. [176] عن جابرٍ قال: "عادني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريضٌ لا أعقلُ،

فتوضَّأَ وصَبَّ عليَّ من وَضوئِهِ، فعقلْتُ فقلْتُ: يا رسولَ الله! لمنِ الميراثُ؟ إنما يرثنُي كَلالةٌ"، فنزل: {يَسْتَفْتُونَكَ} يستخبرونَكَ فيسألونَكَ. {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} وتقدَّمَ تفسيرُ الكلالَةِ في أول السورة. {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} المرادُ بالولدِ: الابنُ. {وَلَهُ أُخْتٌ} لأبوينِ، أو لأب. {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} لأن الابنَ يُسْقِطُ الأختَ، والبنتُ لا تسقطُها باتفاقِ الأئمة. {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ابنٌ؛ لأن البنتَ لا تسُقطُ الأخَ بالاتفاق، وإن كانَ (¬1) ولدُها أنثى، فللأخِ ما فَضَلَ عن فرضِ البناتِ بالاتفاق (¬2). {فَإِنْ كَانَتَا} أي: الأختانِ. {اثْنَتَيْنِ} فصاعِدًا. {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} فَمَنْ ماتَ وله أخواتٌ، فلهنَّ الثلثانِ بالاتفاقِ. {وَإِنْ كَانُوا} أي: الورثةُ. {إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} أي: ذكورًا وإناثًا. {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أصلُه: وإن كانوا إخوةً وأخواتٍ، فَغُلِّبَ المذكَّرُ (¬3). ¬

_ (¬1) "كان" ساقطة من "ن". (¬2) "بالاتفاق" ساقطة من "ن". (¬3) في "ن": "الذكر".

{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: ألَّا تَضِلُّوا (¬1). {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات. رُويَ أن آخرَ آيةٍ نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ} (¬2) ونزلَتْ في طريقِ حجةِ الوداعِ في زمنِ الصيفِ، فسمِّيَتْ: آيةَ الصيفِ، ورُوي أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عاشَ بعدَها خمسين يومًا (¬3)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في "ن": "لا تضلوا". (¬2) رواه البخاري (191)، كتاب: الوضوء، باب: صب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوءه على المغمى عليه، ومسلم (1616)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الكلالة. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 628).

سورة المائدة

سُوْرَةُ المَائِدَةِ مدنيةٌ، ورُويَ أنها نزلَتْ مُنْصَرَفَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من الحُدَيبيةِ، وآيُها مئةٌ وعشرونَ آيةً، وحروفُها أحدَ عشرَ ألفًا وسبعُ مئةٍ وثلاثةٌ وثلاثون حرفًا، وكَلِمُها ألفانِ وثماني مئةٍ وأربعُ كلمات. وعن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سُورَةُ المَائِدَةِ تُدْعى فِي مَلَكُوتِ اللهِ: المُنْقِذَةَ؛ تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلاَئِكَةِ الْعَذَابِ" (¬1). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}. [1] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أي: العهودِ المحكمةِ، ويقال: وَفَى وأَوْفى بمعنىً واحدٍ، وهذا عامٌّ في كل واجبٍ من أمرٍ ونهيٍ وحفظِ وديعةٍ؛ أي: احفظوا شريعتَهُ (¬2)، ولفظُ المؤمنين يعمُّ مؤمني أهلِ الكتابِ بينَهم وبينَ اللهِ عقدٌ في أداءِ الأمانةِ فيما في كتبهم من أمرِ ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في "تفسيره" (6/ 30) دون عزو. (¬2) "أي: احفظوا شريعته" زيادة من "ظ".

محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ثم خاطبَ كلَّ من التزمَ الإيمانَ على وَجْهِهِ وكمالِهِ، فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وهي الإبلُ والبقرُ والغنمُ، [وأرادَ تحليلَ ما حرمَ أهلُ الجاهليةِ على أنفسِهم من الأنعامِ] (¬1)، وسميتْ بهيمةً؛ لإبهامِها من جهة نقصِ نطقِها وفهمها، وعدمِ مَيْزِها (¬2) وعقلها، وقال ابنُ عباسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ: "بهيمةُ الأنعامِ الأَجِنَّةُ في البطنِ إذا ذُبِحَتْ أُمهاتُها" (¬3)، قال القرطبيُّ (¬4): وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وليسَ في الأجنةِ ما يُستثنى. واختلفَ الأئمةُ في الجنينِ الذي يوجَدُ في بطنِ أُمه مَيْتًا إذا ذُكِّيَتْ، هل تكونُ ذكاتُها ذكاةً لجنينِها، ويحلُّ أكلهُ؟ فقالَ أبو حنيفةَ: لا يحلُّ أكلُه، وقالَ صاحباه: إذا تمَّ خلقُه، حَلَّ أكلُه، وقال مالكٌ: إذا لمَّ خلقُهُ، ونبتَ شعرُه، أُكِلَ، وإلا فلا، وقالَ الشافعيُّ وأحمدُ: يحلُّ أكلُه، سواءٌ نبتَ شعرُه أو لم ينبتْ، واستحبَّ أحمدُ ذبحَهُ، فإنْ خرجَ وفيه حياةٌ مستقرَّة، لم يُبحْ إلا بذبْحه، بالاتفاق. {إِلَّا مَا يُتْلَى} أي: يُقْرَأُ. {عَلَيْكُمْ} تحريمُهُ في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] استثناءً من بهيمةِ الأنعامِ. {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} ومعنى الآية: أُحلَّتْ لكمُ الأنعامُ كلُّها إلا ما كانَ ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) في "ن": "تميزها". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 630)، و"تفسير القرطبي" (6/ 34). (¬4) انظر: "تفسير القرطبي" (6/ 34).

[2]

وحشيًّا؛ فإنه صيدٌ لا يحلُّ لكم في حالِ الإحرامِ، فذلكَ قولُه: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي: ما كانَ صيدًا، فهو حلالٌ في الإحلالِ دونَ الإحرام، وما لم يكنْ صيدًا، فهو حلالٌ في الحالينِ. {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} من تحليلٍ وتحريمٍ، لا دافعَ لمرادِهِ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}. [2] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} جمعُ شَعيرةٍ، وهي العلامةُ، والمرادُ: مناسكُ الحجِّ، وكان المشركون يحجُّون ويُهْدون، فأرادَ المسلمونَ أن يُغيروا عليهم، فنهاهمُ اللهُ عن ذلك. واختلفَ العلماءُ في إشعارِ الهَدْيِ، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: يُسَنُّ إشعارُه بشَقِّ صفحةِ سنامِه اليُمْنى، أو موضعِه ممَّا لا سنامَ لهُ من إبلٍ وبقرٍ حتى يسيلَ الدمُ، وقالَ مالكٌ: في الجانبِ الأيسرِ من السنامِ في الإبلِ، وكذلك في البقرِ إنْ كان لها أسنمةٌ، فإن لم تكنْ لها أسنمةٌ، لم تشعَرْ، ومنعَ من هذا كلِّه أبو حنيفةَ، وقالَ: إنه تعذيبٌ للحيوان. {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} اسمٌ مفردٌ يدلُّ على الجنسِ في الأشهُرِ الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّمُ، ورجَبٌ؛ أي: لا تُحِلُّوا القتالَ فيها.

{وَلَا الْهَدْيَ} بنحرِه قبلَ محلِّهِ، وهو كلُّ ما يُهدى إلى الحرمِ من نَعَمٍ وغيرِها. {وَلَا الْقَلَائِدَ} أي: ذواتَ (¬1) القلائدِ من الهَدْيِ، جمعُ قِلادة، وهي ما قُلِّدَ بالهَدْيِ من نعلٍ (¬2) أو غيرِه؛ كآذانِ القُرَبِ والحبلِ ونحوِ ذلك؛ ليعلمَ به (¬3) أنَّه هديٌ، فلا يُتَعَرَّضُ له. واختلفَ الأئمةُ في تقليدِ الغنمِ، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: تُقَلَّدُ، ومنعَ الشافعيُّ من تقليدِها بالنعلِ، وأباحَهُ أحمدُ، وقالَ أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا تُقَلَّدُ الغنمُ، واتفقوا على تقليدِ ما عدا الغنمِ بالنعلِ (¬4) وغيرِه. {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي: قاصديهِ. {يَبْتَغُونَ} يطلبونَ. {فَضْلًا} رزقًا بالتجارةِ. {مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} بزعمِهم؛ لأن الكافرَ لا نصيبَ له في الرضوان، فلا تتعرضوا إليهم. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (ورُضْوانًا) بضمِّ الراء، والباقون: بالكسر (¬5)، وكلُّ ما في هذهِ الآيةِ من نهيٍ عن مُشركٍ، أو مراعاةِ حرمةٍ (¬6) له بقلادةٍ، أو أمِّ البيتِ الحرامِ ونحوه، فكلُّه منسوخٌ بآية السيف بقوله: ¬

_ (¬1) في "ت": "ذات". (¬2) في "ن": "فعلِ". (¬3) "به" ساقطة من "ت". (¬4) في "ن": "بالفعل". (¬5) تقدمت عند تفسير الآية (15) من آل عمران. (¬6) "حرمة" ساقطة من "ن".

{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وبقوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]. {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من إحرامكم. {فَاصْطَادُوا} أمرُ إباحةٍ (¬1)؛ كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} يَحْمِلَنَّكمْ. {شَنَآنُ قَوْمٍ} بُغْضُهُم. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، وأبو جعفرٍ بخلافٍ عنهُ: (شَنْآنُ) بإسكانِ النونِ الأولى، وهما لغتانِ، والفتحُ أجودُ، وبه قرأ الباقون (¬2). {أَنْ صَدُّوكُمْ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: بكسر الهمزةِ شرطًا، فيكون (صَدُّوكُمْ) مستقبلًا معنًى؛ لأنَّ الشرطَ حقُّه الاستقبالُ، والصدُّ كانَ عامَ الحديبيةِ سنةَ ستٍّ، ونزلت الآية عامَ الفتحِ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، فتقديرُه: إن يقعْ منهم صدُّكم (¬3) فيما يُستقبل مثلما مضى منهم، فلا تعتدوا عليهم، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة (¬4)؛ أي: لأجل صدِّهِمْ إياكُمْ. {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} واختارَ ابنُ عطيةَ، وتبعَهُ القرطبيُّ أن القراءةَ ¬

_ (¬1) في "ت": "بإباحة". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 242)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، و"تفسير البغوي" (1/ 633)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 253 - 254)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 190 - 191). (¬3) في "ن": "صد". (¬4) انظر: المصادر السابقة.

بالفتحِ أمكنُ في المعنى؛ لأن الآيةَ نزلتْ بعدَ الصدِّ (¬1). {أَنْ تَعْتَدُوا} عليهم بالقتلِ وأخذِ الأموالِ. {وَتَعَاوَنُوا} أي: لِيُعِنْ بعضُكم بعضًا. {عَلَى الْبِرِّ} اتِّباعِ الأمرِ. {وَالتَّقْوَى} اجتنابِ النهيِ. {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ} الكفرِ. {وَالْعُدْوَانِ} الظلمِ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فانتقامُه أشدُّ. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلاَ تَّعَاوَنُوا) بتشديد التاء حالةَ الوصلِ (¬2). ثم قالَ تعالى محرِّمًا ما كانوا يُحلُّونه وهو بيان قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 150)، و"تفسير القرطبي" (6/ 46). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 83)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 191).

[3]

[3] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهي ما فارقه الرُّوحُ من غيرِ تذكيةٍ. قرأ أبو جعفرٍ: (الْمَيِّتَةُ) بالتشديد، والباقون: بالتخفيفِ، والكسائيُّ يُميل التاءَ حيثُ وقفَ على هاء التأنيث (¬1). {وَالدَّمُ} أي: المسفوحُ، وكان أهلُ الجاهلية يصبونه في الأمعاء، ويشوونها. {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي: ما ذُكر على ذبحِهِ اسمُ غيرِ اللهِ سبحانه؛ كقولِ: باسمِ اللَّاتِ والعُزَّى. {وَالْمُنْخَنِقَةُ} التي تُخْنَقُ. ورُويَ عن أبي جعفرٍ: (وَالْمُنخَنِقَةُ) بإخفاءِ النونِ عند الخاء، ورُوي عنهُ الإظهارُ كبقية القراءِ، وهو أشهرُ (¬2)، وتقدَّم ذكرُ مذهبِه في ذلك مستوفًى في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا} [النساء: 135]. {وَالْمَوْقُوذَةُ} المقتولةُ بالخشبِ. قرأ الكسائيُّ: (وَالْمَوْقُوذَةُ) بإمالةِ الذالِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيث (¬3). {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} الساقطةُ من عُلُو فتموتُ. {وَالنَّطِيحَةُ} التي تنطَحُها أُخرى فتموتُ. ¬

_ (¬1) كما تقدم عنهم مرارًا. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 254)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:198)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 191). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 198)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 192).

{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي: بعضَه. {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} إلا ما أدركتُم ذَكاتَه وفيه حياةٌ مستقرَّةٌ. {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وهي حجارةٌ كانتْ منصوبةً حولَ البيتِ يعبدُها الجاهليةُ، ويذبحون عندَها، ويعدُّونَ ذلكَ قربةً. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا} تطلبوا القسمَ والحكمَ. {بِالْأَزْلَامِ} جمعُ زَلَمٍ بضمِّ الزاي وفتحِها، وهي القِداحُ التي لا ريشَ لها ولا نصلَ، وذلكَ أنهم إذا قصدوا فعلًا، ضربوا ثلاثةَ قداحٍ مكتوب على أحدِها: أَمَرني ربي، وعلى الآخر: نهاني، والثالثُ: غُفْلٌ، فإن خرجَ الآمرُ، مَضَوا على ذلك، وإن خرجَ الناهي، تجنبوا عنه، وإن خرج الغفلُ، أجالوها ثانيًا، فمعنى الاستقسام: طلبُ معرفةِ ما قُسِمَ لهم دونَ ما لم يقسمْ بالأزلام. {ذَلِكُمْ} أي: المحرَّماتُ في الآية، أو الاستقسامُ. {فِسْقٌ} قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَكَهَّنَّ أَوِ اسْتَقْسَمَ، أَوْ تَطَيَّرَ طيرَةً يَرُدُّهُ عَنْ سَفَرِهِ، لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الدَّرَجَاتِ العُلاَ مِنَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬1). {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} أي: من إبطالِه ورجوعِكم عنه. {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} أن يظهروا عليكم. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2663)، وفي "مسند الشاميين" (2103)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 174)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 201)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1177)، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-.

{وَاخْشَوْنِ} أَخْلِصوا الخشيةَ لي. قرأ يعقوبُ: (وَاخْشَوْنِي) بإثباتِ الياءِ حالةَ الوقفِ (¬1). {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بإتمامِ عِزِّهِ وظُهورِه ونصرِه: نزلتْ يومَ الجمعةِ يومَ عرفةَ بعدَ العصرِ في حجَّةِ الوداعِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واقفٌ بعرفاتٍ على ناقتِهِ العَضْباءِ، فكادَتْ عَضُدُ الناقةِ تَندقُّ مِنْ ثِقَلِها (¬2)، فبركَتْ، قال ابنُ عباسٍ: "لَمْ ينزلْ بعدَ هذهِ الآيةِ حلالٌ ولا حرامٌ" (¬3). {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بالهدايةِ والتوفيقِ، وبدخولِ مكةَ آمنينَ، ومنعِ المشركينَ من دخولِ الحَرمِ بعدَ العام. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ} اخترتُه لكم. {دِينًا} من بينِ الأديانِ، وهو الدينُ عندَ اللهِ لا غيرُ، قال ابنُ عباسٍ: "كانَ ذلكَ اليومَ خمسةُ أعيادٍ: جمعةٌ، وعرفةُ، وعيدُ اليهودِ، والنصارى، والمجوسِ، ولم تجتمعْ أعيادُ أهلِ (¬4) المللِ في يوم قبلَه ولا بعدَه" (¬5). ولما نزلتْ هذه الآيةُ، بكى عمرُ رضي الله عنه، فقال له (¬6) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يُبْكِيكَ؟ " فقال: "كُنَّا في زيادةٍ من دينِنا، وأَمَّا إذا كَمُلَ؛ فإنَّه لا يكمُل ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 198) و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 193). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 636). (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" (6/ 79)، عن السدي. (¬4) "أهل" ساقطة من "ن". (¬5) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 636). (¬6) "له" ساقطة من "ت".

شيءٌ إلا نَقَصَ" فقال: "صَدَقْتَ" (¬1)، وعاشَ بعدَها - صلى الله عليه وسلم - أحدًا وثمانين يومًا، وتُوفي يومَ الاثنين بعدَما زاغتِ الشمسُ لليلتين خَلَتا من ربيعٍ الأولِ (¬2)، وقال ابنُ الجوزيِّ: لاثنتي عشرةَ ليلةً خلَتْ منه سنة إحدى عشرةَ من الهجرةِ (¬3). {فَمَنِ اضْطُرَّ} متصلٌ بذكرِ المحرَّمات، وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ معنى التحريم. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَمَنُ اضْطُرَّ) بضم النون، وأبو جعفرٍ: بكسر الطاء (¬4)، والمعنى: فمن اضطرَّ إلى تناولِ شيء من هذهِ المحرمات. {فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعةٍ. {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} مائلٍ. {لِإِثْمٍ} وهو الأكلُ فوقَ الشبع. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لهُ ما أتى عندَ اضطراره. {رَحِيمٌ} لا يؤاخذُه بأكلِه. وتقدَّمَ اختلافُ الأئمةِ الأربعةِ في جوازِ أكلِ الميتةِ عندَ الضرورةِ، وقدرِ ما يجوز أكلُه في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (34408)، والطبري في "تفسيره" (6/ 80)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (2/ 533). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 637). (¬3) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (2/ 287). (¬4) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 200)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 198)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 193).

[4]

اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الآية: 173]. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}. [4] ولما تلا عليهم ما حُرِّمَ عليهم، سألَ عديُّ بنُ حاتمٍ وزيدُ بنُ مهلهِلٍ وهو زيدُ الخيلِ الذي سماهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زيدَ الخير، قالا: "يا رسولَ الله! إنا قومٌ نصيدُ بالكلابِ والبُزاةِ، وإنَّ الكلابَ تأخذُ البقرَ والحمرُ والظباء، فمنه ما ندركُ ذَكاتَهُ، ومنه ما تقتلُه، فلا ندركُ ذَكاتَهُ، وقد حرَّمَ اللهُ الميتةَ فماذا يحلُّ لنا منها" (¬1) فنزل قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا} مبتدأ {أُحِلَّ لَهُمْ} خبرُه. {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} هي الذبائحُ على اسمِ اللهِ تعالى. {وَمَا عَلَّمْتُمْ} أي: أُحِلَّ لكم صيدُ الذي علَّمْتُم. {مِنَ الْجَوَارِحِ} الصوائدِ من سباعِ البهائمِ والطيرِ؛ كالكلبِ، والفهدِ، والنَّمِرِ، والبازيِّ، والصَّقْر، والشاهينِ، والعُقابِ. {مُكَلِّبِينَ} مُرْسِلي الكلابِ على الصيدِ، والمُكَلِّبُ: مؤدِّبُ الجوارحِ ومُضْرِيها بالصيدِ. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 257). وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص:105).

{تُعَلِّمُونَهُنَّ} أي: تؤدِّبونَ الكلابَ. {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} من تأديبِ الكلابِ للصيدِ. {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} المعنى: إن الجارحةَ إذا خرجَتْ بإرسالِ صاحِبها، فقتلتِ الصيدَ، كانَ حلالًا إذا كانتْ معلَّمَةً، والمعلَّمَةُ: هي التي إذا أُرسلت، استرسلَتْ، وإذا زُجرت، انزجرتْ، وإذا أمسكَتْ، لم تأكلْ، فإذا وُجدَ ذلكَ منها، فهي معلَّمَةٌ، وبه قالَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ، وقال مالكٌ: لا يُشترط تركُ الأكل إذا كانَ معلَّمًا، فيحلُّ أكلُ ما صادَهُ، وإن أكلَ منهُ الكلبُ والبازي. واختلفَ مشترطو تركِ الأكلِ في حدِّ التعليم، فقالَ أبو حنيفةَ: لا تأقيتَ فيه، فمتى قالَ أهلُ الخبرة: هذا معلَّمٌ، حَكَمْنا بكونه معلَّمًا، وقال الشافعيُّ: إذا تكررَ ذلكَ منها مرارًا؛ بحيث يظَنُّ تأدُّبُ الجارحةِ، كانت معلَّمَةً، وقال أحمدُ: لا يُشترطُ التكرار، فإذا أمسكَ ولم يأكلْ، صارَ معلَّمًا. واختلفوا في جوازِ الاصطيادِ بالكلبِ الأسودِ البهيمِ، وهو ما لا بياضَ فيه، فمنع منه أحمدُ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ" (¬1)، وأجازه الثلاثةُ، وأباحوا أكلَ ما قَتَل. واختلف أيضًا مشترطو تركِ الأكلِ في ذي المخلبِ؛ كالبازي والصقرِ ونحوهما، هل يُشترطُ فيها تركُ الأكل كالكلبِ والفهدِ؟ فقال الشافعيُّ: يُشترطُ، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يُشترطُ. واختلفوا في اشتراطِ الجرحِ في الصيدِ، فقال الثلاثةُ: لا بدَّ أن يجرح، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (510)، كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي، عن أبي ذر -رضي الله عنه-.

فإن قتلتْهُ الجارحةُ بصدمته أو خنقِه، لم يُبَحْ، وقال الشافعيُّ: إذا تحاملَتْ عليه فقتلَتْه بثقلِها، حَلَّ. {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: سَمُّوا عليه عندَ إرساله. واختلفَ الأئمةُ في التسميةِ عندَ إرسالِ الكلبِ، أو الرميِ بالسهمِ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: إنْ تركَ التسميةَ عندَ إرسالِه أو رميِه على الصيدِ عامدًا، لم يجزْ أكلُه، وإن تركَها ناسيًا، جازَ، وكذا الحكمُ عندَهما في التسمية عندَ الذبح، وقال الشافعيُّ: يحلُّ الأكلُ، سواءٌ تركَها عامدًا أو ناسيًا في الصيدِ والذبحِ؛ لأن التسميةَ عندَه سُنَّةٌ، وقال أحمدُ: إنْ تركَ التسميةَ في الصيدِ عمدًا أو سهوًا، لم يُبَحْ، والحكمُ عندَه في الذبحِ كأبي حنيفةَ ومالكٍ. ويُشترطُ في الذابحِ والصائدِ أن يكونَ مسلِمًا أو كتابيًّا، فلا يحلُّ صيدُ مجوسيٍّ، ولا وثنيٍّ، ولا مرتدٍّ، ولا ذبائحُهم، بالاتفاق، والشافعيُّ يشترطُ أن يكونَ الكتابيُّ ممن تحلُّ مناكحَتُهُ، وهو أن يُعْلَمَ دخولُ قومِه في دينِ اليهوديةِ أو النصرانيةِ قبلَ نسخِه وتحريفِه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في محرَّماتِهِ. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وهو أخذُكُم بما جَلَّ ودَقَّ. {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}.

[5]

[5] {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} أعادَهُ تأكيدًا؛ أي: الطيباتُ التي سألتُم عنها. {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} همُ اليهودُ والنصارى، ومن دخلَ في دينهم قبلَ مبعثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي: يحلُّ لكم طعامُهم وإطعامُهم. {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، تقديره: حِلٌّ لكمْ. {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وإن كُنَّ حربياتٍ، فيباحُ نكاحُ حرائرِ أهلِ الكتابِ بالاتفاق، والشافعيُّ على أصلِه كما تقدَّم قريبًا في حكمِ الصيد والذبحِ من الاشتراطِ في الكتابيِّ. {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورَهُنَّ. {مُحْصِنِينَ} أَعِفَّاءَ (¬1). {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} مُجاهِرينَ بالزنا. {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} جمعُ خِدْنٍ، وهو الصديقُ، يطلق على الذكر والأنثى؛ أي: ولا مُسِرِّينَ بالزنا، وتقدمَ في سورةِ النساءِ اختلافُ الأئمةِ في نكاحِ الأمةِ الكتابيةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الآية: 25]. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} أي: يُنكرْ شرائعَ الإسلامِ. {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} إن ماتْ عليه. {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} للثوابِ. ¬

_ (¬1) "أعفاء" ساقطة من "ن".

[6]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}. [6] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ} أي: أردتم القيامَ. {إِلَى الصَّلَاةِ} كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]؛ أي: إذا أردتَ القراءةَ، وظاهرُ الآيةِ يوجبُ الوضوءَ على كُلِّ قائم إلى الصلاةِ، وإن لم يكنْ مُحْدِثًا، والإجماعُ على خلافِه، لأن المرادَ: إذاَ قمتُم إلى الصلاةِ وأنتم على غيرِ طهر (¬1)؛ بدليلِ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الخمسَ صلواتٍ بوضوءٍ واحدٍ يومَ الفتحِ (¬2). {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وحدُّ الوجهِ من مَنابِتِ (¬3) شعرِ الرأسِ إلى ما انحدَرَ من اللَّحْيَيْنِ؛ والذَّقَنِ طولًا، ومن الأذنِ إلى الأذنِ عرضًا، فيجبُ غسلُ جميعِه بالاتفاق، فإن كان فيه شعرٌ خفيفٌ يصفُ البشرةَ، وجبَ غسلُها معه، وإن كان يسترُها، أجزأَهُ غسلُ ظاهرها، ويستحبُّ تخليلُهُ. ¬

_ (¬1) في "ظ": "وضوء". (¬2) رواه مسلم (277)، كتاب: الطهارة، باب: جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، عن بريدة -رضي الله عنه-. (¬3) في "ظ": "منبت".

{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وتدخلُ المرافقُ في الغَسْل بالاتفاق؛ لورودِ السُّنةِ بذلك. {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} الباءُ مزيدةٌ. واختلفَ الأئمةُ رضي الله عنهم في قدرِ الواجبِ من مسحِ الرأسِ، فقال أبو حنيفةَ: ربعُه، وقال مالكٌ وأحمدُ: جميعُه، وقال الشافعيُّ: قدرُ ما يُطلقُ عليه اسمُ المسح، وأجاز أحمدُ المسحَ على العِمامة إذا كانَ منها شيءٌ (¬1) تحتَ الحَنَكِ، وعلى خُمُرِ النساءِ المدارَةِ تحتَ حلوقهنَّ؛ خلافًا للثلاثة. {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وهما العظمانِ الناتئانِ من جانبِ القدمين، وهما مجتمعُ مفصلِ الساقِ والقدمِ، فيجبُ غسلُهما مع القدمين بالاتفاق. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وحفصٌ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بنصبِ اللامِ عطفًا على الأيدي، وقرأ الباقون: بالخفضِ عطفًا على الرؤوس (¬2)، وإن كانت غيرَ ممسوحةٍ حثًّا على الاقتصادِ في صَبِّ الماءِ على الرِّجْلينِ؛ لأنهما مَظِنَّةُ الإسرافِ في صبِّ الماء. واختلفوا في الترتيبِ كما ذكرَهُ اللهُ تعالى، فقال الشافعيُّ وأحمدُ بوجوبه، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: هو سنة. واختلفوا في الموالاة، وهي ألَّا يُؤَخَّرَ غسلُ عضوٍ حتى ينشفَ الذي ¬

_ (¬1) في "ظ": "شيء منها". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 242)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، و"تفسير البغوي" (1/ 644 - 645)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 254)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 198)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 194 - 195).

قبلَه، فقال مالكٌ وأحمدُ: هي واجبةٌ، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ: هي مسنونةٌ. واختلفوا في التسميةِ، فقال الثلاثة: هي سُنَّةٌ، وقال أحمدُ: هي واجبةٌ، لكنْ تسقطُ سهوًا. واختلفوا في المضمضةِ والاستنشاقِ، فقال أحمدُ: هما واجبان، ولا يسقطانِ سهوًا، وقال الثلاثة: هما سنَّةٌ. {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فاغتسلوا. واختلفوا في المضمضةِ والاستنشاقِ في الغُسْلِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: هما فرضٌ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: هما سنة كما في الوضوءِ. واختلفوا في الدلكِ في الوضوءِ والغُسْلِ، فعند مالكٍ: هو شرطٌ، وعند الثلاثةِ: لا يُشترط إذا عَمَّ جسدَه بالماء. واختلفوا في النيَّةِ في الوضوءِ والغُسلِ، فقال أبو حنيفةَ: هي مستحبَّةٌ، وقال الثلاثةُ: هي واجبةٌ، واختلافُهم في التسميةِ عندَ الغسلِ كاختلافِهم فيها عندَ الوضوء كما تقدم قريبًا (¬1). {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} أي: من الصعيدِ، وتقدَّم في سورةِ النساء تفسيرُ نظيرِ هذهِ الآيةِ، واختلافُ القراء فيها، واختلافُ الأئمة في حكمِها مستوفًى. {مَا يُرِيدُ اللَّهُ} بالأمرِ بالطهارةِ للصلاةِ أو الأمرِ بالتيممِ. ¬

_ (¬1) "كما تقدم قريبًا" سقط من "ظ".

[7]

{لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ضِيقٍ. {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} منَ الأحداثِ والذنوبِ. {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالترخُّصِ عندَ المرضِ والسفرِ. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لتشكروا نعمتَهُ فَتُقْبِلوا على طاعته. ودلتِ الآيةُ على المسحِ على الخفينِ، وهو جائزٌ بالاتفاق، فعندَ الثلاثةِ: يمسحُ المقيمُ يومًا وليلةً، والمسافرُ ثلاثةَ أيامٍ بلياليها، أولُها من الحدثِ بعدَ اللبس، وعند مالكٍ: لا توقيتَ فيه لمقيمٍ ولا لمسافرٍ، وشرطُه أن يُلْبَسَ بعدَ كمالِ الطهارةِ بالاتفاق. واتفقوا على أن المسحَ يخصُّ ما حاذى ظاهرَ القدمين، ثم اختلفوا هل يُسَنُّ، مسحُ محاذي باطنِ القدمين؟ فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يسنُّ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: يُسَنُّ، و (¬1) اختلفوا في قدرِ الإجزاءِ من المسحِ على الخفينِ، فقال أبو حنيفة: مقدارُ ثلاثةِ أصابعَ من اليدِ، وقال مالكٌ: يستوعبُ محلَّ الفرضِ، وقال الشافعي: ما يقعُ عليهِ اسمُ المسح، وقال أحمدُ: يجبُ مسحُ أكثرِ أعلاه. {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}. [7] {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإسلام. {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} أي: عهدَه الذي عهدَ إليكم. ¬

_ (¬1) في "ظ": "ثم".

[8]

{إِذْ قُلْتُمْ} للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وذلك حين بايعوا رسولَ الله عليه الصلاة والسلام على السمعِ والطاعةِ فيما أَحَبُّوا وكَرِهوا. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في نقضِ ميثاقِه. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بخفيَّاتها. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}. [8] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} لأجلِ ثوابِ اللهِ. {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي: كونوا قائمينَ بالعدلِ قَوَّالينَ بالقسطِ. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} يحملَنَّكمْ. {شَنَآنُ} بغضُ. {قَوْمٍ} يعني: المشركين. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، بخلافٍ عن الأول (شَنْآنُ) بإسكان النون، والباقون: بالتحريك (¬1). {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} فيهم؛ لعداوتكم إياهم، بل (¬2) {اعْدِلُوا} في أوليائِكُم وأعدائِكُم {هُوَ} أي: العدلُ. ¬

_ (¬1) تقدمت عند تفسير الآية (2) من هذه السورة. (¬2) "بل" زيادة من "ظ".

[9]

{أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وإذا كانَ هذا العدلُ معَ الكفارِ، فما ظَنُّكَ بالعدلِ معَ المؤمنين؟ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فَيُجازيكم به. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)}. [9] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} هذا موضعُ النصب؛ لأن فعلَ الوعدِ واقعٌ على المغفرةِ، ورفعُها على تقديرِ: أيْ: وعدَهُمْ وقالَ لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيمٌ. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}. [10] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} نزلَتْ في بني النَّضِيرِ، وقيلَ: في جميعِ الكفارِ. ونزل لما أريدَ الفتكُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُمَكِّنِ اللهُ منه، وذلكَ أنه عليه الصلاة والسلام جاءَ إلى قومٍ من اليهود، وهم كعبُ بنُ الأشرفِ وبنو النضير يستقرضُهم ديةَ مسلِمَيْنِ قتلَهما عَمْرُو بنُ أميةَ الضَّمْرِيُّ خطأً يحسبُهما مُشرِكَينِ، فقالوا: نعم، وهَمُّوا بقتله، فمنعه الله منهم: ***

[11]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}. [11] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (¬1) بالدَّفع عنكم، و (نعمت) رُسمت بالتاء في أحدَ عشرَ موضعًا، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ. {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتلِ، يقال: بسطَ إليهِ يدَهُ: إذا بطشَ بهِ، وبسطَ إليهِ لسانَهُ: إذا شَتَمَهُ. {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ} منعَها {عَنْكُمْ} أن تُمَدَّ إليكم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فإنَّه الكافي لإيصالِ الخيرِ ودفعِ الشرِّ. {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 144)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (1/ 649).

[12]

الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. [12] {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} من كلِّ سبطٍ نقيبًا، والنقيبُ: الضَّمينُ والأمين، وهو الذي ينقبُ عن الأمور، ويتعرَّفُها. رُوي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمرِ فرعونَ، واستقرُّوا بمصرَ، أمرَ اللهُ موسى وقومَه بالخروجِ إلى أريحا من أرضِ الشامِ، وكان يسكنُها الكنعانيون الجبارون ومنهم (¬1) عوجُ بنُ عنق وأصحابُه، ونسبته لأم عناقَ بنتِ آدمَ عليه الصلاة والسلام، وكان طولُه ثلاثةَ آلافٍ وثلاثَ مئةٍ وثلاثةً وثلاثينَ وثلثَ ذِراع، وكان يَحْتَجِزُ بالسحابِ، ويشربُ منه، ويتناولُ الحوتَ من قَرارِ البحرِ فيشويهِ بعينِ الشمسِ يرفعُه إليها، ثم يأكلُه، وعاشَ ثلاثةَ آلافِ سنةٍ حتى أهلكَه الله على يدِ موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه قطع صخرةً على قدرِ عسكرِ موسى ليطرحَها عليهم، وكان العسكرُ فرسخًا في فرسخ، فبعثَ اللهُ الهدهدَ، فقوَّرَ الصخرةَ بمنقاره، فوقعتْ في عنقِه، فصرعَتْهُ، فوثب موسى عليه الصلاة والسلام، وكانت وثبتُهُ عشرةَ أذرعٍ، وطولُه مثلُ ذلك، وطولُ عصاته مثلُ ذلك، ولم يلحقْ إلا عرقوبَه، فضربَهُ فقتله، وتُركَ بموضعِه، وأردمَ عليه بالصخر والرمل (¬2)، فكانَ كالجبلِ العظيمِ في صحراءِ مصرَ، ولما أمرَ اللهُ بني إسرائيلَ بالخروج إلى أريحا، قال لهم: إنِّي كتبتُها لكم دارَ قرارٍ، فاخرجوا إليها، وجاهدوا ¬

_ (¬1) "ومنهم" زيادة من "ظ". (¬2) في "ظ": "بالرمل والصخر".

مَنْ فيها؛ فإني ناصرُكم عليهم (¬1)، واتخذَ موسى من قومِهِ اثني عشرَ نقيبًا، فعاهدَهُم أن يكفلوا بقومِهم، ولا يحدِّثوهم بما يرونَ من الجبارين، فلما رأوهم وما هم عليه من عِظَمِ الأجسادِ، نقضوا العهدَ، وحدثوهم، إلا كالبَ بنَ يوقنا من سبطِ يَهوذا ختنَ موسى على أختِهِ مريمَ بنتِ عمران، ويوشعَ بنَ نون من سبطِ أَفراييمَ بنِ يوسفَ فتى موسى، وأما أسماءُ العشرةِ الذين نقضوا العهدَ من النقباء، فهم شموعُ بنُ زكور من سبطِ روبين (¬2)، وشافاطُ (¬3) بن حوري من سبطِ شمعون، ويغال بنُ يوسفَ من سبطِ يساخر، وبلطي بن رافوا من سبطِ بنيامين، وكدي بن سودي من سبطِ زبولون، وكدي بن سوسي من سبط منشا بنِ يوسفَ، وعميال بن كملي من سبط دان، وستورُ بن ميخائيل من سبطِ آشر، ونحبى بنُ وقسي من سبط نفتالي، وكوئيلُ بنُ ماخي من سبطِ كاد، فهؤلاء الذين دعا موسى عليهم، فهلكوا مسخوطًا عليهم (¬4). {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} ناصرُكم على عدوِّكم. {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} عَظَّمتموهم. {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} بالإِنفاقِ في سبيل الخيرِ. {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ} أي: لأمحوَنَّ عنكمُ. ¬

_ (¬1) "عليهم" زيادة من "ظ". (¬2) في "ظ": "روبيل". (¬3) في "ش": "شافط". (¬4) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 174)، و"تفسير البغوي" (1/ 650)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 39).

[13]

{سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أخطأَ طريقَ الحق. ... {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}. [13] {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أي: فبنقضِهم، و (ما) صلةٌ. {مِيثَاقَهُمْ} بتكذيبِ الرسلِ بعد موسى، وقتلِ الأنبياءِ، ونبذِ كتابِ الله، وتضييعِ فرائضِهِ. {لَعَنَّاهُمْ} طردْناهم من رحمتِنا. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} يابسةً لشوبهم الإيمانَ بموسى والتوراةِ بكفرِهم بمحمدٍ والقرآن. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (قَسِيَّةً) بتشديد الياء من غير ألف، وهما لغتان، مثل زاكِية وزَكِيَّة (¬1). {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} أي: يُبدلون نعتَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {عَنْ مَوَاضِعِهِ} في كتبِهم؛ لأنَّ من قسا قلبُه، يقدمُ على فعلِ (¬2) ما لا يجوزُ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 243)، و"التيسير" للداني (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (1/ 652)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 197). (¬2) "فعل" زيادة من "ظ".

[14]

{وَنَسُوا حَظًّا} تركوا نصيبًا وافِيًا. {مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} من الإيمانِ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والقرآنِ. {وَلَا تَزَالُ} يا محمدُ. {تَطَّلِعُ} تظهرُ. {عَلَى خَائِنَةٍ} أي: خيانة. {مِنْهُمْ} أي: نقضِهم العهدَ، ومظاهرتهم المشركينَ في حَرْبِكَ. {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} هم الذين آمنوا منهم. {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} اتركْهم لا تتعرَّضْ لهم، ونُسخت بآية السيفِ. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. ... {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}. [14] ونزل في النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} سَمَّوا أنفسَهم بذلكَ ادِّعاءً لنُصرةِ اللهِ. {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أي: وأخَذْنا من النصارى ميثاقَهم على التوحيدِ والإيمانِ بالأنبياءِ مثلَ الميثاقِ المأخوذِ قديمًا على اليهود. {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} فنقضوا الميثاقَ. {فَأَغْرَيْنَا} هَيَّجْنا. {بَيْنَهُمُ} أي: بينَ فرقِ النصارى المختلفَةِ.

[15]

{الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بالأهواءِ المختلفةِ؛ كاليعقوبيةِ، والملكائيةِ، والنسطورية، وغيرِهم (¬1)، فكل فرقة تكفِّرُ الأخرى، وتقدَّم اختلافُ القراءِ في حكم الهمزتينِ من كلمتينِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ} [البقرة: 133]، وكذلك اختلافهم في قولِه: {وَالْبَغْضَاءَ إِلَى}. {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} بالعقاب والجزاء (¬2). ... {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}. [15] ثم قال مخاطبًا اليهود والنصارى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} وحدَّ الكتاب؛ لأنه للجنسِ. {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد - صلى الله عليه وسلم -. {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} كنعتِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وآيةِ الرجمِ في التوراةِ، وبِشارةِ عيسى بأحمدَ في الإنجيلِ. {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ممَّا تُخفونه، فلا يؤاخذُكم به. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "وغيرهم" زيادة من "ظ". (¬2) في "ظ": "بالجزاء وبالعقاب".

[16]

{وَكِتَابٌ مُبِينٌ} القرآنُ؛ فإنَّه يبيِّنُ الأحكامَ. ... {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}. [16] {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} أي: بالقرآنِ العظيمِ، وبمحمدٍ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَحَّدَ الضميرَ، لأنَّ المرادَ بهما واحدٌ. {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} أي: ما رضيَهُ الله. قرأ أبو بكرٍ: (رُضْوان) و (رُضْوَانًا) بضمِّ الراء حيثُ وقعَ سوى هذا الحرفِ، ونُبِّهَ عليه في سورة آل عمران (¬1). {سُبُلَ السَّلَامِ} طرقَ السلامةِ الموصلةَ إلى الجنةِ. {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} من أنواعِ الكفرِ. {إِلَى النُّورِ} إِلى الإيمان. {بِإِذْنِهِ} بإرادتِه. {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} طريقٍ هو أقربُ الطرقِ إلى اللهِ تعالى. ... {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الآية (15) من سورة آل عمران.

[17]

وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}. [17] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وهم اليعقوبيةُ والملكائيةُ من النصارى، يقولون: المسيح هو الله. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: فمن يمنعُ من قدرته شيئًا. {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أعلمَ اللهُ سبحانه وتعالى أَنَّ المسيحَ بنَ مريمَ لو كانَ إلهًا، لقدرَ على دفعِ ما ينزلُ به أو بغيرِه، وقد أمات الله أُمَّه ولم يتمكَّنْ من دفع الموتِ عنها، فلو أهلكَهُ هو أيضًا، فمَنْ يدفعه عن ذلك؟ {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} والمسيحُ وأُمُّهُ بينَهما مخلوقانِ محدودانِ، وما أحاطَ به الحدُّ والنهايةُ، لا يصحُّ للإلهيةِ (¬1) وقال: {وَمَا بَيْنَهُمَا}، ولم يقل: بينهنَّ؛ لأنه أرادَ النوعينِ. {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من ذكرٍ وأنثى، ومن أمٍّ بلا أبٍ؛ كعيسى، ومن أبٍ بلا أم؛ كحواء (¬2)، ومن غير أبي ولا (¬3) أم؛ كآدمَ عليه السلام، لا اعتراض عليه عزَّ وجلَّ في خلقِه، ولا في ملكِه. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ... ¬

_ (¬1) في "ظ": "للألوهية". (¬2) "ومن أن بلا أم كحواء" زيادة من "ظ". (¬3) "لا" زيادة من "ظ".

[18]

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}. [18] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قيل: أرادوا أنَّ اللهَ لهمْ كالأبِ في الشفقةِ والرحمةِ، وهم كالأبناءِ له في المنزلةِ عندَه، والقربِ منه - عزَّ وجلَّ -، فأمر سبحانه وتعالى نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يقولَ لهم مُنْكِرًا عليهم ما قالوا (¬1). {قُلْ} إنْ صحَّ ما زعمتُم. {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} لأنَّ الحبيبَ لا يعذِّبُ حبيبَه، والوالدُ لا يعذبُ ولده، وقد عُذِّبْتُم بالمسخِ قديمًا، واعترفتم أنه سيعذِّبُكم بالنارِ أيامًا معدودةً. {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} من بني آدمَ. {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} وهم المؤمنونَ. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وهم الكفار (¬2). {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فلا شريكَ يعارِضُه فيهما (¬3). {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: يَؤولُ أمرُ العبادِ إليه في الآخرةِ. ... ¬

_ (¬1) "ما قالوا" زيادة من "ظ". (¬2) في "ظ": "الكافرون". (¬3) "فيهما" زيادة من "ظ".

[19]

{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}. [19] {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد - صلى الله عليه وسلم -. {يُبَيِّنُ لَكُمْ} شرائعَ الإسلامِ. {عَلَى فَتْرَةٍ} انقطاعِ وجودِ أحدٍ (¬1). {مِنَ الرُّسُلِ} وكانتِ الفترةُ بينَ محمدٍ وعيسى -عليهما الصلاة والسلام- خمسَ مئةٍ ونحوَ تسعين سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك، فكانت الرسلُ تَتْرى من (¬2) موسى إلى عيسى -عليهما الصلاةُ السلام-، ولم يكن بعدَ عيسى عليه السلام سوى نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {أَنْ تَقُولُوا} لَئِلَّا تقولوا معتذرينَ: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} أي: مبشرٍ ومنذرٍ، والفاءُ بعدَها متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: لا تعتذروا. {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} نزلَتْ لما قالتِ اليهودُ: ما أنزلَ اللهُ من كتابٍ بعدَ موسى، ولا أرسلَ بعدَه من بشيرٍ ولا نذيرٍ. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدرُ على إرسال مَنْ شاءَ من خلقِهِ. ... ¬

_ (¬1) "وجود أحد" زيادة من "ظ". (¬2) في "ن": "بين".

[20]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)}. [20] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} فأرشدَكُم بهم، ولم يبعث في أُمَّةٍ ما بعثَ في بني إسرائيلَ من الأنبياءِ. {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} أصحابَ حَشَمٍ وخَدَمٍ. {وَآتَاكُمْ} من الثمن والسَّلْوى وتظليلِ الغَمامِ وفَلْقِ البحرِ وغيرِ ذلكَ من النِّعَمِ. {مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يعني عالَمي زمانِكم، تبيينٌ من اللهِ تعالى أَنَّ أسلافَهم تمرَّدوا على موسى -عليه الصلاة والسلام-، وعصَوْه، فكذلكَ هؤلاءِ مع محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهو تسليةٌ - صلى الله عليه وسلم -. ... {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)}. [21] {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} هي أرضُ بيتِ المقدسِ أو أَريحا. قرأ الكسائيُّ: (الْمُقَدَّسَةَ) بإمالةِ السينِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيثِ. المعنى: اسكنوا الأرضَ الطاهرةَ. {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} في اللوحِ المحفوظِ قبلَ خلقِكم أَنَّكم تقتسمونها،

وتسكنونَها بعدَ أعدائكم {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} لا ترجِعوا على أعقابِكم منهزمينَ خوفَ العدوِّ. {فَتَنْقَلِبُوا} بالخيبة {خَاسِرِينَ} ثوابَ الدارَيْنِ. وأما حدودُ الأرضِ المقدسةِ، فمنَ القِبْلَةِ أرضُ الحجازِ الشريفِ، يفصلُ بينَهُما جبالُ الشورى، وهي جبالٌ منيعةٌ بينَها وبينَ أيلةَ نحوُ مرحلةٍ، وسطحُ أيلةَ هو أولُ حدِّ الحجازِ من جهةِ الشامِ، وهي من تيهِ بني إسرائيلَ، وبينَها وبينَ بيتِ المقدسِ نحوُ ثمانيةِ أيامٍ سير الأثقال، ومن الشرقي من بعدِ دومةِ الجندلِ بريةُ السَّماوَةِ، وهي كبيرةٌ ممتدةٌ إِلى العراقِ، ينزلُها عربُ الشام، ومسافتُها عن بيتِ المقدس نحوُ مسافةَ أيلةَ، ومنَ الشَّمالِ مما يلي الشرقَ نهرُ الفراتِ، ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ نحوُ عشرين يومًا سير (¬1) الأثقالِ، فيدخلُ في هذا الحدِّ المملكةُ الشاميةُ بكمالِها، ومن الغربِ بحرُ الرومِ، وهو البحرُ المالحُ ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ من جهةِ رَمْلَةِ فلسطينَ نحوُ يومينِ، ومن الجنوبِ رمل مصرَ والعريشُ، ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ نحوُ خمسةِ أيامٍ سير الأثقالِ، ثم يليهِ تيهُ بني إسرائيلَ وطورُ سيناءَ، ويمتدُّ من تلكَ الجهةِ إلى تبوكَ، ثم دومةُ الجندلِ المتصلةُ بالحدِّ الشرقيِّ، ويأتي ذكرُ حدِّ حرمِ مكةَ في سورةِ التوبة، وحرمِ المدينةِ في سورةِ الأحزابِ إن شاء الله تعالى. ... {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}. ¬

_ (¬1) في "ن": "بسير".

[22]

[22] ولما علمَ بنو إسرائيلَ بإخبارِ نُقبائِهم أحوالَ الجبابرةِ (¬1)، وما هم عليه من الشدةِ والمنعَةِ وعِظَمِ الأجسادِ، جَبنُوا عن لقائِهم ودخولِ أرضِهم. {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} متغلِّبينَ، والجبارُ: هو الذي يُجبر الناسَ على ما يُريد، وكانوا من العمالقةِ وبقيةِ قومِ عادٍ. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ، وورشٌ بخلافٍ عن الثاني (جَبَّارِينَ) بالإمالة (¬2). {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} إذْ لا طاقةَ لنا بهم. ... {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}. [23] {قَالَ رَجُلَانِ} من النُّقباء هما (¬3) كالبُ ويوشعُ. {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} اللهَ ويتقونَهُ. {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالإيمانِ والتثبيتِ. {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} بابَ مدينتِهم. {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} لتعسُّرِ الكرِّ عليهم في المضائقِ من عظمِ ¬

_ (¬1) في "ظ": "الجبارين". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 202)، و"إتحاف فضلاء البشر، للدمياطي (ص: 199)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 201). (¬3) في "ت": "هم" وهي ساقطة من "ن".

[24]

أجسامهم (¬1)؛ لأنهم أجسامٌ لا قلوبَ فيها، فلا يهولَنَّكمْ منظرُهم، وعَلِما ذلكَ لأنَّ موسى عليه الصلاة والسلام أعلمهما أنَّ الغلبةَ لبني إسرائيل. {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بهِ، ومصدِّقينَ لوعدِه. ... {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}. [24] {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا} نَفَوا دخولَهم على التأكيدِ والتأبيدِ. {مَا دَامُوا فِيهَا} ثم إنَّهم لجهلِهم واستخفافِهم بموسى عليه الصلاة والسلام قالوا له: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} جَهِلوا صفةَ الربِّ سبحانَهُ، ووصفوهُ بالذهابِ والانتقالِ، وهو مُتَعالٍ عن ذلكَ، وهذا يدلُّ على أنهم كانوا مُشَبِّهَةً. ... {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)}. [25] ولما رأى موسى عليه الصلاة والسلام مخالفةَ بني إسرائيلَ وتمرُّدَهم. {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} لا يملكُ إِلا نفسه. ¬

_ (¬1) في "ظ": "أجسادهم".

[26]

{فَافْرُقْ} فافْصِلْ. {بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} بأنْ تحكمَ لنا بما نستحقُّهُ، وتحكمَ عليهم بما يستحقُّونَ، قالَه شَكْوى بَثِّهِ وحزنِهِ إلى اللهِ تعالى لما خالفَهُ قومُه، ولم يبقَ مَعُه مرافقٌ له (¬1) غيرُ أخيهِ هارونَ عليه الصلاة والسلام، والرجلانِ المذكورانِ. ... {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}. [26] {قَالَ} اللهُ تعالى. {فَإِنَّهَا} أي: الأرضَ المقدسةَ. {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} ممنوعةٌ منهم (¬2) لا يدخلونَها بسببِ عصيانِهم. {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} يتردَّدون فيها متحيِّرينَ. {فَلَا تَأْسَ} تحزنْ. {عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} خاطبَ بهِ موسى عليه الصلاة والسلام لما ندمَ على الدُّعاء عليهم، فلبثوا أربعينَ سنةً في ستةِ فراسخَ يسيرونَ كلَّ يومٍ جادِّينَ، فإذا أَمْسَوْا، كانوا في الموضِعِ الذي ارتحلُوا عنهُ، وكانوا ستَّ مئةِ ألفِ مقاتلٍ. والتيهُ: أرضٌ بالقربِ من أيلةَ التي هي حدُّ أرضِ (¬3) الحجازِ من ¬

_ (¬1) "له" زيادة من "ظ". (¬2) "منهم" زيادة من "ظ". (¬3) "أرض" زيادة من "ظ".

جهةِ الشامِ، وطولُ أرضِ (¬1) التيهِ نحوٌ من ستةِ أيام، والصحيحُ أنَّ موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام كانا في التيه، ولم يكنْ عقوبةً لهما، بل كانَ راحةً ورحمةً؛ كإبراهيمَ عليه الصلاة والسلام حين أُلقيَ في النار، وماتَ هارونُ عليه السلام في التيه، كما تقدَّم في أواخرِ سورةِ النساءِ، ولم يحضر بنو إسرائيلَ موتَه، فاتهموا موسى بقتلِه، فقالَ لهم: يا سفهاءَ بني إسرائيلَ! ماذا لقيتُ منكم؟ أقتلُ أخي وشقيقي وعَضُدي؟! ثم دعا اللهَ تعالى أن يبرئَهُ عندَهم من ذلك (¬2)، فأمر اللهُ الملائكةَ أن يحملوا سريرَ هارون الذي وُضعَ عليهِ بداخلِ الكهفِ الذي دُفنَ فيه، فحملوه في الهواء بينَ السماءِ والأرض، ونادتِ الملائكةُ: يا بني إسرائيلَ! لا تتَّهِموا موسى بقتلِ أخيهِ هارونَ (¬3)، فهذا سريرُه قد قبضَهُ اللهُ تعالى، فحزنَ بنو إسرائيلَ على موته؛ لأنه كانَ محبوبًا عندَهم، ولم يدخلِ الأرضَ المقدسةَ أحدٌ مِمَّنْ قالَ: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا}، فلما انقرضوا على رأسِ أربعينَ سنةً، سارَ موسى بالمؤمنينَ نحوَ القريةِ إلى بابِ حِطَّةَ، ومكتوبٌ عليه اسمُ اللهِ الأعظمُ، وأقبلَ المؤمنون فسجَدُوا عندَ الباب، ودخلَ أولادُ الفاسقينَ، وبدَّلوا قولًا غيرَ الذي قِيلَ لهم كما تقدَّم في سورةِ البقرةِ، وغلبَ موسى على مدينةِ أَريحا، ثم تُوفي موسى بعدَ وفاةِ هارونَ بأحدَ عشرَ شهرًا. وفي "الصحيح" من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ، صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ عز ¬

_ (¬1) "أرض" زيادة من "ظ". (¬2) "من ذلك" زيادة من "ظ". (¬3) "هارون" زيادة من "ظ".

وجل، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ! قَالَ (¬1): فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجعْ وَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُل مَا غَطَّتْ بهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَة، قَالَ: أَيْ رَبّ! ثُمَّ ماذا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَ، لأَرَيْتكمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثيبِ الأَحْمَرِ" (¬2)، وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ قَدْرُ عمرِه، وتاريخُ وفاتِه، ومحلُّ قبرِهِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]. ولما تُوفي موسى عليه السلام، قامَ بعدَ وفاتِه بتدبيرِ بني إسرائيلَ يوشعُ بنُ نون، بعثَه اللهُ نبيًّا، وأمرَهُ بقتلِ الجبارين، فتوجَّهَ ببني إسرائيلَ إلى أَريحا، وأحاطَ بها ستةَ أشهرٍ، فلما كانَ الشهر (¬3) السابعُ، نفخوا في القرونِ، وضجَّ الشعبُ ضجةً واحدةً، فسقطَ السورُ، ودخلوا، فقاتلوهم، وهجموا على الجبارينَ فهزموهم وقتلوهم، وكان ذلكَ في (¬4) يومِ الجمعةِ، وقد بقيتْ منهم بقيةٌ، وكادتِ الشمسُ تغرُبُ وتدخلُ ليلةُ السبتِ، فدعا يوشعُ وقال: اللهمَّ ارْدُدِ الشمسَ عليَّ، وسألَ الشمسَ أن تقفَ، والقمرَ أن يقيمَ (¬5) حتى ينتقمَ من أعداءِ اللهِ قبلَ دخولِ السبتِ (¬6)، فوقفتِ الشمسُ، ¬

_ (¬1) "قال" ساقطة من "ظ". (¬2) رواه البخاري (1274)، كتاب: الجنائز، باب: من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها، ومسلم (2372)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى عليه السلام. (¬3) "الشهر" زيادة من "ظ". (¬4) "ذلك في" زيادة من "ظ". (¬5) في "ظ": "يقتمر". (¬6) "قبل دخول السبت" ساقطة من "ظ".

[27]

وزِيدَ في النهارِ ساعة حتى قتلَهم أجمعينَ، وتتَبَّعَ ملوكَ الشامِ واستباحَهم، وملكَ الشامَ، وفَرَّقَ فيها عمالَه، واستمرَّ يدبِّرُ بني إسرائيلَ ثماني وعشرينَ سنةً، ثم تُوفي وله مئةٌ وعشرُ سنينَ، ودُفن في كفل حارس: قريةٍ من أعمالِ نابُلُسَ، وقيل: إنه مدفونٌ في المعرَّةِ، وفي القصةِ اختلافٌ بين المفسرينَ والمؤرخين، واللهُ أعلمُ (¬1). ... {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)}. [27] ثم أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى نبيه (¬2) محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يقصَّ على حاسديهِ ما جرى بسببِ الحسدِ؛ ليتركوهُ ويؤمنوا، فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} هابيلَ وقابيلَ. {بِالْحَقِّ} خبرهما مُتَلَبِّسًا بالصدق. قرأ السوسيُّ عن أبي عَمْرٍو (آدَمْ بِالْحَقِّ) وشبهَهُ بإسكانِ الميمِ عندَ الباء، وتقدَّم الكلامُ عليه في سورةِ البقرةِ. {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} وكان سببُ قربانهما أنَّ حواءَ كانتْ تحمل (¬3) في كلِّ بطنٍ غلامًا وجاريةً، وجميعُ أولادِها أربعونَ ولدًا في عشرينَ بطنًا، إِلَّا شيثًا عليه السلام وُلِدَ منفردًا، وكان آدم عليه السلام (¬4) يزوِّجُ أنثى هذا البطنِ بغيرِ ذكرِه، فقالَ لقابيلَ: إن الله تعالى أمرني أن أُنكح أختكَ إقليميا بهابيلَ، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 441)، و"تفسير البغوي" (1/ 661). (¬2) "نبيه" زيادة من "ظ". (¬3) في "ظ": "تلد". (¬4) في "ظ" زيادة: "فإنه".

وأُنكحك أختَه ليودا (¬1)، فقبلَ هابيلُ، وأبى (¬2) قابيلُ، وكانت أختُ قابيلَ أحسنَ من أختِ هابيلَ، فقالَ له أبوه: إنها لا تحلُّ لكَ، فأبى أن يقبلَ ذلك، وقالَ: إن الله لم يأمرْهُ بهذا، وإنما هو من رأيِه، فقال لهما آدمُ عليه الصلاة والسلام: قَرِّبا قربانًا، فأيُّكما قُبِلَ قربانُه، فهوَ أحقُّ بإقليميا، وكانتِ القرابين إذا قُبلت، نزلَتْ نارٌ من السماءِ بيضاءُ فأكلَتْها، وإذا لم تكنْ مقبولةً، لم تنزلِ النارُ إِليها (¬3) وتأكلُها الطيورُ والسباعُ، فخرجا ليقربا القربانَ، وكان قابيلُ صاحبَ زَرْعٍ، فقرَّبَ صُبْرَة من طعامٍ من أردأ زرعِه، وأضمرَ في نفسِه، وقالَ (¬4): ما أُبالي أَتقبلُ مني أم لا، لا يتزوَّجُ أختي أبدًا، وكان هابيلُ صاحبَ غَنَمٍ، فعمَدَ إلى أحسنِ كبشٍ في غنمِه، فقرب به (¬5)، وأضمرَ في نفسِه رِضا اللهِ -عز وجل-، فوضَعا قربانَهما على الجبل، ثم دعا آدمُ عليه السلام، فنزلت نارٌ من السماءِ فأكلَتْ قربانَ هابيل، ولم تأكلْ قربانَ قابيل، ورُفع قربانُ هابيل، فبقيَ في الجنةِ يرعى حتى فُدِي به إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ -عليهما الصلاة والسلام-، فذلك قوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} (¬6) يعني: هابيلَ. {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} يعني: قابيل، فازداد حَنَقًا في هابيلَ وتهدَّدَهُ. {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} قال: لِمَ؟ قالَ: لأنَّ اللهَ قبلَ قربانَكَ ولم يَقبلْ قُرباني، ¬

_ (¬1) في "ظ": "بيودا". (¬2) في "ظ": "ولم يقبل". (¬3) "إليها" زيادة من "ظ". (¬4) "وقال" زيادة من "ظ". (¬5) في "ظ": "فقربه". (¬6) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 188)، و"تفسير البغوي" (1/ 662 - 663).

[28]

وتنكحُ أختي الحسناءَ، وأنكحُ أختكَ الذميمةَ، فيتحدَّثُ الناسُ أَنَّك خيرٌ مني. {قَالَ} له هابيل: لا ذنبَ لي. {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وأنتَ غيرُ متقٍ. ... {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)}. [28] وكان هابيلُ أقوى وأبطشَ من أخيهِ قابيلَ (¬1)، ولكنْ كانَ في شريعتِهم أنَّ الرجلَ إذا أرادَ قتلَه رجلٌ آخرُ، لا يمتنعُ عليه، فلذلك قال له: {لَئِنْ بَسَطْتَ} مددت (¬2). {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ} أي (¬3): بمادٍّ. {يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (يَدِي إِلَيْكَ) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (¬4)، وقرأ حمزةُ، وعاصمٌ، والكسائيُّ، ¬

_ (¬1) "قابيل" زيادة من "ظ". (¬2) "مددت" زيادة من "ظ". (¬3) "أي" ساقطة من "ظ". (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 101)، و"الكشف" لمكي (1/ 424)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 202)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 203).

[29]

وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي أَخَافُ) بإسكانِ الياء، والباقونَ: بفتحها (¬1). ... {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)}. [29] ولما صمَّمَ قابيل (¬2) على قتلِ أخيه ومخالفةِ اللهِ تعالى، وأبيه، قال له هابيلُ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ} ترجع. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3). {بِإِثْمِي} بإثم قتلي إذا قتلتني. {وَإِثْمِكَ} بإثم معاصيك. {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} بقتلي. {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} وهذا دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلَّفين قد لحقهم الوعد والوعيد. ... {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}. [30] {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} شَجَّعَتْهُ وَزيَّنَتْ له. ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) "قابيل" زيادة من "ظ". (¬3) انظر: المصادر السابقة.

[31]

{قَتْلَ أَخِيهِ} فَجَأَةً اغتيالًا وهو نائم عندَ جبلِ ثورٍ بمكةَ، وقيلَ غيرُه. {فَقَتَلَهُ} والمقتولُ ابنُ عشرين سنةً. {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} دِينًا ودُنيا، وبقي مدةَ عمرِه مطرودًا محزونًا. ... {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}. [31] فلما قتلَه، تركَه بالعراء، ولم يدرِ ما يصنعُ به؛ لأنه كانَ أولَ ميتٍ على وجهِ الأرضِ من بني آدمَ، وقصدَهُ السِّباعُ لتأكلَه (¬1)، فحمله في جِرابٍ على ظهرِه أربعينَ يومًا حتى أَرْوَحَ وأَنْتَنَ (¬2). {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا} أي: غرابين تقاتلا (¬3) فقتل أحدُهما الآخرَ، فجعلَ. {يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} أي: يحفرُ فيها (¬4) حُفيرةً، فوارى فيها الغرابَ المقتولَ، وفعلَ ذلك. {لِيُرِيَهُ} أي: ليريَ قابيلَ. {كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} أي: جيفته، فَثَمَّ قال: ¬

_ (¬1) "لتأكله" زيادة من "ظ". (¬2) "وأنتن" زيادة من "ظ". (¬3) "تقاتلا" زيادة من "ظ". (¬4) "أي: يحفر فيها" زيادة من "ظ".

{قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} على حملِه، لا على قتلِه. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ بخلافٍ عنه: (يُوَارِي) (فَأُوَارِي) بالإمالةِ، ووقفَ رويسٌ بخلافٍ عنهُ: (يَا وَيْلَتَاه) (يَا أَسَفَاه) (يَا حَسْرَتَاه) بزيادةِ هاءٍ (¬1). قالَ ابنُ عباس رضي الله عنهما: لما قُتِلَ ولدُ آدمَ عليه السلام وهو بمكةَ، اشتاكَ الشجرُ، وتغيرتِ الأطعمةُ، وحَمِضَتِ الفواكهُ، واغبرَّتِ الأرضُ، فقالَ آدمُ: قد حدثَ في الأرضِ حدثٌ، فكانَ قتلُ ولدِه (¬2). وقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما أيضًا (¬3): مَنْ قالَ: إنَّ آدمَ قالَ شعرًا، فقد كذبَ؛ إنَّ محمدًا والأنبياءَ في النهي عن الشعر سَواءٌ، بل رثىَ ولدَه بالسريانية، فأخذها يعربُ بنُ قحطانَ، وكان يتكلَّمُ بالعربيةِ والسريانيةِ، وهو أولُ مَنْ خَطَّ بالعربية، وكانَ يقولُ الشعرَ، فرتَّبَها ووزنَها شعرًا، وهي: تغيَّرَتِ الْبِلاَدُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ تغيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنِ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الصبِيحِ وزيدَ فيه أبياتٌ منها: وَمَا لِي لاَ أَزِيدُ بِسَكْبِ دَمْعٍ ... وَهَابِيلٌ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيحُ أَرَى طُولَ الْحَيَاةِ عَلَيَّ غَمًّا ... فهَلْ أَنَا مِنْ حَيَاتِي مُسْتَرِيحُ ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 169، 199)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 204 - 205). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 665)، و"تفسير القرطبي" (6/ 139). (¬3) "أيضًا" زيادة من "ظ".

[32]

وبعدَ قتلِ هابيلَ بخمسِ سنينَ، ولدتْ حواءُ شيثًا، وتفسيرُه: هِبَةُ الله، يعني: أنه خلفٌ من (¬1) هابيلَ، وأُنزل عليه خمسونَ صحيفةً، وصار وصيَّ آدمَ ووليَّ عهدِه، وبقي نسلُه، وأما قابيلُ فإِنه (¬2) هربَ بأختِهِ إقليميا، وعبدَ النارَ، واتخذَ أولادُه آلاتِ اللهو، وانهمكوا في اللهو (¬3) وشربِ الخمورِ والزنا والفواحش، وعبادةِ النار، حتى غَرَّقهم الله تعالى بالطوفان أيام نوح عليه السلام (¬4). {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}. [32] قال - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ (¬5) الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (¬6). {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} أي: بسببِ ذلكَ القتلِ. قرأ أبو جعفرٍ: (مِنِ اجْلِ ذَلِكَ) ¬

_ (¬1) في "ظ": "عن". (¬2) "فإنه" زيادة من "ظ". (¬3) في "ظ": "الملاهي". (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 665)، و"تفسير القرطبي" (6/ 140). (¬5) "آدم" سقطت من "ظ". (¬6) رواه البخاري (3157)، كتاب: الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، ومسلم (1677)، كتاب: القسامة، باب: بيان إثم من سن القتل، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

بكسر النونِ وحذفِ الهمزة ونَقْلِ حركتِها إلى نون (مِن)، وهي لغة، وقراءة العامة: بجزم النونِ وفتح الهمزة مقطوعًا (¬1). {كَتَبْنَا} قضينا. {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وخُصَّ بنو إسرائيل بالذكر؛ لأن قتل النفس فيهم كان محظورًا؛ لأنهم أولُ أمةٍ نزلَ الوعيدُ عليهم في قتلِ الأنفس بحسبِ طغيانِهم وسفكِهم الدماءَ. {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ} قتل. {نَفْسٍ} أي: لم يقتلها قصاصًا. {أَوْ} بغير. {فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} من كفرٍ وزِنًا أو قطعِ طريقٍ ونحوِ ذلك. {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} من حيثُ إن قتلَ الواحد والجميع سواءٌ في استجلابِ غضبِ الله، والعذابِ العظيمِ. {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي: استنقذها من هلكة. {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي: يجبُ على الكلِّ شكرُه. {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر. قرأ أبو عمرٍو (رُسْلُنَا) بجزم السين، والباقون: برفعها، وكذلك (رسلهم) و (رسلكم) حيثُ وقعَ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 209)، و"تفسير البغوي" (1/ 666)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 254)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 206). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 85)، و"الكشف" لمكي (1/ 408)، و"الغيث" =

[33]

{ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} أي: المكتوبِ عليهم. {فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} بالقتلِ وانتهاكِ المحارمِ، والإسرافُ: التباعدُ عن حدِّ الاعتدالِ في الأمر. ... {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}. [33] وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنه: "أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، [فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَرِضُوا، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) بِلِقَاحِ مِنْ الصَّدَقَةِ، وأمرهم أَنْ يشربوا من أبوالِها وأَلبانِها، فانطلقوا، وفعلوا ذلك، فلما صَحُّوا، قَتلوا الراعيَ، وساقوا النَّعَمَ، فبلغَ ذلكَ (¬2) النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خبرهم (¬3) من أولِ النهارِ، فأرسلَ في إثرِهم، فما ارتفعَ النهارُ حتى جِيءَ بهم إليه، فأمر بهم فَقُطعت أَيديِهم وأرجلُهم، وسمر (¬4) أعينهُم، وأُلقوا في الحَرَّةِ يَسْتسقونَ فلا يُسْقَوْنَ". ¬

_ = للصفاقسي (ص: 202)، و"معجم القراءات القرآنية" (207). (¬1) ما بين معكوفتين سقطت من "ش". (¬2) "ذلك" زيادة من "ظ". (¬3) "خبرهم" ساقطة من "ظ". (¬4) في "ظ": "سملت".

وحكى أهلُ التاريخِ أنهم قطعوا أيدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوكَ في عينيه حتى ماتَ، وأُدخلَ المدينةَ ميتًا، وكان اسمه يسارًا، وكان نُوبِيًّا رحمه الله، وكانَ هذا الفعل من هؤلاء (¬1) المرتدين سنةَ ستٍّ من الهجرةِ الشريفة (¬2). قال أبو قلابةَ: فهؤلاء قومٌ سرقوا وقَتَلوا وكفروا بعدَ إيمانهم، وحاربوا اللهَ ورسولَه (¬3). قال (¬4): فأنزلَ الله في ذلكَ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} أي: أولياءه. {وَرَسُولَهُ} ومحاربةُ المسلمينَ في حكمِ محاربةِ رسوله. {وَيَسْعَوْنَ} أي: وَسَعوا {فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} أي: مفسدين. {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ} الذي ذكرت من الحدِّ. {لَهُمْ خِزْيٌ} ذل وفضيحةٌ. {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لِعِظَمِ ذنوبهم. ... ¬

_ (¬1) "هؤلاء" زيادة من "ظ". (¬2) "الشريفة" زيادة من "ظ". (¬3) رواه البخاري (6419)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة، باب: لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا، ومسلم (1671)، كتاب القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين. (¬4) "قال" ساقطة من "ظ".

[34]

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}. [34] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} أي: فإن جاؤوا قبلَ القدرةِ عليهم تائبينَ، استثناءٌ مخصوصٌ بما هو حقُّ الله تعالى، يدلُّ عليه قوله عز وجل: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. اتفقَ الأئمةُ رضي الله عنهم على أن حكمَ هذه الآيةِ مرتَّبٌ (¬1) في المحارِبين، وهم قطاعُ الطريقِ من أهلِ الإسلامِ، وإن كانتْ نزلتْ في المرتدِّين، وقد ثبتَ في "صحيح مسلم"، و"كتاب النسائي"، وغيرِهما: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما سَمَلَ أعينَ أولئكَ؛ لأنهم سملوا أعينَ الرعاء (¬2)، فكان هذا (¬3) قصاصًا منه. واختلفوا فيمن يستحقُّ اسمَ المحاربة، فقال أبو حنيفةَ رحمه الله: لا تكونُ المحاربةُ في المِصْرِ، إنما تكون خارجًا من المصر، وخالفه أبو يوسفَ فقال: لو كانَ في المصر ليلًا، أو بينهم وبين المصر أقلُّ من مسيرة سفر، فهم قطاعُ الطريق، وعليه الفتوى؛ نظرًا لمصلحةِ الناسِ، وقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ رحمهم الله تعالى: حكمُهم في المصرِ والصحراءِ واحدٌ. ¬

_ (¬1) في "ت": "مترتب". (¬2) رواه مسلم (1671)، (3/ 1298)، كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، والنسائي (4043)، كتاب: تحريم الدم، باب: ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث. (¬3) في "ظ": "ذلك".

واختلفوا في حكمِ المحاربِ، فقال أبو حنيفةَ رحمه الله: إذا قتلَ ولم يأخذْ مالًا، قُتِلَ، وإن لم يكنِ المقتولُ مكافِئًا له، وإن أخذَ المالَ ولم يَقتلْ، قُطعت يدُه ورجلُه من خلافٍ، وإذا أخذَ المالَ وقَتَل، فالسلطانُ مخيَّرٌ فيه، إن شاءَ قطع يدَه ورجلَه، وإن شاء لم يقطعْ، وقتلَه وصلَبَهُ، ولا يُصْلَبُ أكثرَ من ثلاثةِ أيام. وقال مالكٌ: الإمامُ مخيرٌ في الحكم على المحاربين، يحكمُ عليهم بما شاءَ من الأحكامِ التي أوجبها الله تعالى؛ من القتلِ، أو الصلبِ، أو القطعِ، أو النفي، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالًا، على ما (¬1) يراهُ فيهم ردعًا لهم، ولا يُشترط أن يكونَ المقتولُ مكافئًا له يقول أبي حنيفة رحمه الله. وقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: إذا أخذَ المالَ، قُطعتْ يدُه اليمنى ورجلُه اليسرى، فإن عادَ، فَيُسراه ويُمناه، وإذا قتلَ مَنْ يكافئه، قُتل حتمًا، وإذا أخذَ المالَ وقتلَ، قُتِلَ، ثم صُلِبَ ثلاثًا. وقال أحمد رحمه الله: إذا قتلَ مَنْ يكافئه أولا؛ كولدِه وعبدٍ، وذمّيٍّ، وأخذَ المالَ، قُتِلَ حتمًا، ثم صُلِبَ المكافئُ دونَ غيرِه، وصلبُه حتى يشتهرَ، ومن قتلَ ولم يأخذِ المال، قُتل حتمًا، فلا أثرَ لعفو وليٍّ، ولم يصلبْ، ومن أخذَ المالَ ولم يقتلْ، قُطعت يدُه اليمنى ورجلُه اليسرى في مقامٍ واحدٍ، وحُسِمَتا، وخُلِّيَ، فإنْ كانتْ يمينُه مقطوعةً، أو مستحقَّةً في قصاصٍ، أو شَلَّاءَ، قطعتْ رجلُه اليسرى فقط، فإذا أخافَ السبيلَ ولم يأخذِ المالَ ولم يَقْتُلْ؛ نُفي بالاتفاق. واختلفوا في معنى النفي. فقال أبو حنيفةَ رحمه الله: نفيُه سجنُه، فينفى من سَعَةِ الدنيا إلى ¬

_ (¬1) في "ظ": "حكم بما".

[35]

ضِيقِها، وقال مالكٌ: هو أن يُطلب أبدًا (¬1) بالخيلِ والرَّجلِ حتى يوجد (¬2) فيقامَ عليه حدُّ اللهِ تعالى، أو يَخْرُجَ من دارِ الإسلام هَرَبًا ممن يطلبُه. وقال الشافعي -رحمه الله-: يُخرجُ من بلد إلى بلدٍ، ويُطلب لتقامَ عليه الحدودُ. وقال أحمدُ: يُشَرَّدُ، فلا يُترك يأوي إلى بلد ولو عبدًا حتى تظهرَ توبتُه، وإن كانوا جماعةً نُفوا متفرقين. وهل يُعتبر النصابُ في المالِ الذي يأخذُه المحارِبُ كما يُعتبر في السارق؟ فقال مالك: لا يُعتبرُ، وقال الثلاثةُ: يُعتبرُ، ويأتي ذكرُ النصابِ قريبًا عندَ تفسيرِ آيةِ السرقة. واتفقوا على أن للرجلِ أن يقاتلَ عن نفسِه وأهلِه وماله، فإن كَفَّ المحارب، تركَهُ، وإن لم يكفَّ وقتلَه، فدمه هدرٌ، فإن تاب المحارِبون، وجاؤوا تائبين قبلَ القدرةِ عليهم، سقطَ عنهم ما كان حدًّا (¬3) لله تعالى، وأُخِذوا بحقوقِ الآدميين من نفسٍ وجراحٍ ومالٍ، باتفاق. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}. [35] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} القربة. ¬

_ (¬1) "أبدًا" سقطت من "ظ". (¬2) في "ظ": "يؤخذ". (¬3) في "ظ": "حقًّا".

[36]

وأصلُ الوسيلةِ: التوصُّلُ إلى الشيء رغبةً فيه. {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بالوصولِ إليه، والفوزِ بكرامته. ... {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)}. [36] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} من صنوف الأموال. {جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} ليجعلوهُ فديةً لأنفسِهم. {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} ذلكَ الفداءُ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تصريحٌ، المقصودُ منهُ: ... {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}. [37] {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا} أي: يتمنونَ الخروجَ. {مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} دائمٌ لا يزولُ. ... {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}. [38] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} مبتدأٌ، خبرهُ:

{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أي: أيمانهما، وكذلك هو في مصحفِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، والمرادُ بأيديهما: يَدَيهما، وُضِعَ الجمعُ موضعَ الاثنين لئلا يجمعَ في كلمةٍ واحدةٍ بينَ تثنيتين نحو: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. والسرقةُ: أخذُ مالِ الغير في خُفيةٍ. واتفقَ الأئمةُ على أن من سرقَ نِصابًا من المالِ من حرزٍ لا شُبهةَ له فيه، تُقْطَعُ يدُه اليمنى من الكوعِ، وتُحْسَمُ، ولا يجبُ القطعُ بسرقةِ ما دونَ النصابِ بالاتفاق. واختلفوا في قَدْرِ النِّصابِ. فقال أبو حنيفة: هو دينارٌ، أو عشرةُ دراهمَ مضروبةٍ من النُّقْرَةِ، أو ما قيمتُه عشرةُ دراهمَ. وقالَ مالكٌ وأحمدُ: ربعُ دينارٌ من الذهبِ، أو ثلاثةُ دراهمَ من الوَرِقِ، أو عرضٌ يساوي أحدَهما. وقال الشافعيُّ: ربعُ دينارٍ خالصًا، أو قيمتُه من دراهمَ وغيرِها. ثم إذا سرقَ ثانيًا، تُقطعُ رجلُه اليسرى من مفصِلِ القدمِ بالاتفاق، فإن سرقَ ثالثًا ورابعًا، فقالَ أبو حنيفةَ وأحمدُ: يُحبسُ حتى يتوبَ، ولا يقطع أكثرُ من يدٍ ورجل، وقال مالكٌ والشافعيُّ: يُقطعُ في الثالثة يدُه اليسرى، وفي الرابعةِ رجلُه اليمنى، ثم إذا سرقَ بعدَه، يُعَزَّرُ ويُحبسُ حتى تظهرَ توبتُه. واختلفوا في ثبوتِ حدِّ السرقةِ بالإقرار، فقالَ الثلاثةُ: يثبتُ بإقرارِ السارقِ مَرَّةً، وقالَ أحمدُ: لا يثبتُ إلا بإقرارٍ (¬1) مَرَّتينِ، وهو قولُ ¬

_ (¬1) في "ن": "بإقراره".

[39]

أبي يوسفَ وزُفَرَ، فإن رجعَ عن الإقرارِ، قُبِلَ رجوعُهُ، وسقطَ القطعُ عندَ الثلاثِة، وعندَ مالكٍ: إن رجعَ إلى شُبْهَةٍ، سقطَ عنه القطعُ، وإن رجعَ إلى غيرِ شبهةٍ، فعنه روايتان، وأما المالُ، فلا يسقطُ بالاتفاق. ولا قطعَ على المنتهِبِ والمختلسِ والغاصبِ والخائنِ بالاتفاق. {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} نصبٌ على الحالِ، ومثلُه. {نَكَالًا} أي: عقوبةً {مِنَ اللَّهِ} يقالُ: نكلْتُ به: إذا فعلتُ به ما يجبُ أن ينكلَ به عن ذلكَ الفعلِ. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فيما يفعله. ... {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}. [39] {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} رجعَ عن ارتكابِ السرقة. قرأ أبو عمرٍو: (مِنْ بَعْد ظلْمِهِ) بإدغامِ الدالِ في الظاء. {وَأَصْلَحَ} العملَ. {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يقبلُ توبتَه، فلا يعذِّبُه في الآخر. فأما القطعُ، فلا يسقطُ عنه بالتوبةِ عندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ، وفي الأظهر من مذهبِ الشافعيِّ، وعندَ أحمدَ إذا تابَ قبلَ ثبُوته، سقطَ بمجرَّدِ التوبةِ قبلَ إصلاحِ العملِ.

[40]

وإذا قُطع السارقُ وكانَ المسروقُ قد تلفَ، فقال أبو حنيفةَ: لا يجبُ عليه ما سرقَ؛ لأنه لا يجتمعُ عندَه قطعٌ وضمانٌ، وقال الثلاثةُ: يجتمعُ، إلا عندَ مالكٍ إذا كانَ السارقُ مُعْسِرًا، وأما إذا كانَ المسروقُ قائمًا عندَه، يُستردُّ لمالكِهِ بالاتفاق؛ لأنَّ القطعَ حَقُّ الله، والغُرْمَ حَقُّ العبدِ، فلا يمنعُ أحدُهما الآخَر. ... {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}. [40] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الخطابُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ بهِ الجميعُ. {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} على الصغيرةِ. {وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} الكبيرةَ. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ... {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ

[41]

الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}. [41] ونزل تسليةً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ}. قرأ نافعٌ: بضمِّ الياءِ وكسرِ الزايِ، والباقونَ: بفتح الياءِ وضمِّ الزاي (¬1). {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي: يبادرونَ إلى موالاةِ الكفار. تلخيصه: لا تهتمَّ بمسارعةِ المنافقينَ في موالاةِ الكفار؛ فإنّي ناصرُك عليهم. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (يُسَارِعُونَ) بالإمالةِ (¬2). {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقونَ {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} يعني: اليهودَ. {سَمَّاعُونَ} أي: قوم سَمَّاعونَ {لِلْكَذِبِ} أي: قابلونَ لما يختلقُه أَحبارُهم من الكذبِ على اللهِ ورسوله؛ كقولِه: سمعَ اللهُ لَمِنْ حَمِدَهُ؛ أي: قَبِلَ. {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ} أي: لأجل قوم. {آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} المعنى: هؤلاءِ الجماعةُ الذين جاؤوك من اليهودِ هم جواسيسُ لطائفةٍ أخرى منهم لم تَجِئْكَ؛ لأنه كانَ قد زنى يهوديٌّ بيهوديَّةٍ, وكانا مُحْصَنَيْنِ شَريفين عندَ أهلِ خيبر، وكان حدُّهما الرجمَ، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 203)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 254)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 209). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 203)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 209).

فكرهوا رَجْمَهما، فأرسلوا بهما مع جماعةٍ من قريظةَ والنضيرِ ليسألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن حدِّهما عندهَ، وقالوا: إنْ أَمَرَكُم محمدٌ بالجَلْدِ، فاقبلوا، وإن أمرَكُم بالرَّجْم، فاحْذَروا، فعلَى هَذا (سَمَّاعونَ) الأولى لأهلِ خيبر، والثانيةُ قريظةُ والنضيرُ، فحكمَ - صلى الله عليه وسلم - بالرجم، فَرُجِما عندَ باب المسجد بعدَ إنكارِهم ذلكَ، وبعد أن أراهم عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ ذلكَ الحكمَ في التوراة، فكان الزاني بالمرأة حالةَ الرجم يَحْنَى على المرأةِ يَقيها الحجارةَ، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ" (¬1). {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي: يميلونه عن مواضعِهِ التي وُضع عليها من الصحةِ {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} أي: الحكمَ المغيَّرَ، وهو الجلدُ {فَخُذُوهُ}. {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} محمدًا وحكمَهُ {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} إضلالَه وعذابَه. {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لن تقدَر على دفعِه عنه. {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} من الكفرِ، فيه رَدٌّ على من يُنْكِرُ القَدَر. {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} هَوانٌ بالجزيةِ، ورؤيتُهم من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه ما يكرهون {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الخلودُ في النار. ... ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1700)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-.

[42]

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}. [42] ونزلَ في كعبِ بنِ الأشرفِ وفيمَنْ كانَ مثلَه يقبلُ شهادةَ الزورِ، ويحكم ويرتشي: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ: (السُّحُتِ) بضمِّ الحاء، والباقون: بسكونها (¬1)، وهو الحرامُ الذي يلزم صاحبَه العارُ، من سحَتَهَ: إذا استأصَلَهُ؛ لأنه مسحوتُ البركة، وسُمِّيَتِ الرِّشوةُ سُحْتًا؛ لسحتِها المروءةَ والدينَ، والرشوةُ في الحكمِ: إذا رشوتَهُ ليحقَّ لكَ باطِلًا، أو يبطلَ عنكَ حَقًّا. ولا خلافَ بينَ الأئمةِ أَنَّ أخذَ الرشوةِ على إبطالِ حقٍّ أو ما لا يجوزُ سحتٌ حرامٌ، ولا ينفذُ القضاءُ بالرشوة بالاتفاق، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتشَيَ" (¬2)، وفي روايةٍ: "وَالرَّائِشَ"، وهو الماشي بينهما (¬3)، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 243)، و"التيسير" للداني (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (1/ 677)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:142)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 210). (¬2) رواه أبو داود (3580)، كتاب: الأقضية، باب: في كراهية الرشوة، والترمذي (1337)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2313)، كتاب الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 279)، والطبراني في "المعجم الكبير" =

وأما إذا لم يكن للقاضي رزقٌ في بيتِ المال، فأخذَ جُعْلًا من الخصمِ، جازَ إذا قضى بالحقِّ، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ، وعنَد أبي حنيفةَ إذا أرادَ القاضي أن يكتبَ السجلَّ، ويأخذَ على ذلك أجرًا، يأخذ منه مقدارَ ما يجوزُ أخذهُ لغيرِه، وكذا لو تولَّى القسمةَ بنفسِه بأجرٍ، وعندَ مالكٍ لا ينبغي أن يأخذَ رزقَه إلَّا من الحبسِ، أو من الجزيةِ، أو من عُشورِ أهلِ الذمَّة. {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} خَيَّرَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - في الحكمِ بينَهم إن شاء، وإن شاءَ تركَ. واختلفوا في حكم الآيةِ اليومَ هل للحاكمِ الخيارُ في الحكمِ بينَ أهلِ الذمَّةِ إذا تحاكموا؟ فقالَ أكثرُ أهلِ العلم: هو حكم ثابتٌ، وليسَ في سورةِ المائدةِ منسوخٌ، وحكامُ المسلمينَ بالخيارِ في الحكمِ (¬1) بينَ أهلِ الكتابِ، إنْ شاؤوا حكموا، وإن شاؤوا لم يحكموا، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وقالَ قومٌ: حكمُ الآيةِ منسوخٌ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، فيجبُ على حاكم المسلمينَ الحكمُ بينهم، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، فأما إذا كانتِ الخصومةُ بينَ مسلمٍ وذميٍّ، فيجبُ الحكم بينَهما بالاتفاق؛ لأنه لا يجوزُ لمسلمٍ الانقيادُ لحكمِ أهل الذمة. {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: عن الحكم بينهم. {فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} نصبٌ؛ لقيامِه مقامَ المصدرِ؛ أي: ضررًا. {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} العادلين. ¬

_ = (1415)، والحاكم في "المستدرك" (7068)، عن ثوبان -رضي الله عنه-. (¬1) "في الحكم" ساقطة من "ن".

[43]

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}. [43] {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} هذا تعجُّبٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: وكيفَ يجعلونك حَكَمًا بينَهم. {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} وهو الرجمُ. {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الحكمِ. {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} بالمصدِّقينَ لك في الحكم. ... {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}. [44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} يكشفُ ما استُبْهِمَ من الأحكام. {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} يعني: أنبياءَ بني إسرائيلَ {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} وانقادوا لأمرِ اللهِ. {لِلَّذِينَ هَادُوا} أي: يحكمون بها في تحاكُمِهم. {وَالرَّبَّانِيُّونَ} من ولدِ هارونَ الذينَ التزموا طريقةَ النبيين، وجانَبوا دينَ اليهودِ.

{وَالْأَحْبَارُ} العلماءُ، واحدُهم (حِبَرْ) بكسرِ الحاءِ وفتحِها، وهو العالمُ المُحْكِمُ. {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} أي: استُودِعوا. {مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} وأُمروا بحفظِه من التضييع والتحريف. {وَكَانُوا عَلَيْهِ} أي: على ما فيه من الأحكامِ. {شُهَدَاءَ} رقباءَ؛ لئلَّا يبدل. {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ} في إظهارِ نعتِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وآيةِ الرجمِ، والحكمِ بالحقِّ خوفَ الظَّلَمَةِ. {وَاخْشَوْنِ} في تركِ أحكامي. أثبتَ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ الياءَ في (وَاخْشوْنِي) حالةَ الوصل، وأثبتَها يعقوبُ وَصْلًا ووَقْفًا، وأسقطها الباقونَ في الحالين (¬1). قالَ البيضاويُّ: نهيٌ للحكَّامِ أن يخشوا غيرَ اللهِ في حكوماتِهم، ويُداهنوا فيها خشية ظالمٍ، أو مراقبةِ كبيرٍ (¬2). {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي} ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتُها. {ثَمَنًا قَلِيلًا} هو الرشوةُ والجاهُ. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} مُستهينًا به، منكِرًا لهُ. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لاستهانتِهم به، وتمرُّدِهم بأنْ حكموا ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 244)، و"التيسير" للداني (ص: 101)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 211). (¬2) انظر: "تفسير البيضاوي" (2/ 328).

[45]

بغيره، ولذلكَ وصفَهم بقولهِ: [(الكافرون) (¬1)] (الظالمون) و (الفاسقون) فكفرُهم لإنكارِه، وفسقُهم بالخروج عنه، وظلمُهم بالحكمِ على خلافِه، ويجوزُ أن تكونَ كلُّ واحدةٍ من الصفاتِ الثلاثِ باعتبار حالٍ انضمَّت إلى الامتناعِ عن الحكم به ملائمةٍ لها، أو لطائفةٍ؛ كما قيل: هذهِ في المسلمين؛ لاتصالها بخطابهم، والظالمونَ في اليهود، والفاسقونَ في النصارى، انتهى تفسير البيضاوي. وقال ابنُ عباس: "وليسَ بكفرٍ ينقلُ عن الملَّةِ، بلْ إذا فعلَ ذلكَ، فهو به كافرٌ، وليسَ كمَنْ كفرَ باللهِ واليوم الآخر" (¬2). وعنه: "الكافرونَ والظالمونَ والفاسقونَ كلُّها في الكافرين" (¬3). ... {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}. [45] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} فَرَضْنا على اليهودِ. {فِيهَا} في التوراةِ {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي: نفسَ القاتلِ بنفسِ المقتول. {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} تُفْقَأُ بها {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} يُجْدَعُ به. ¬

_ (¬1) لم ترد هذه الكلمة في جميع النسخ، والسياق يقتضيها. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (6/ 256). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 680).

{وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} تُقطعُ بها. {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} تُقلعُ بها، وسائر الجوارح قياسٌ عليها في القصاص. {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي: ذاتُ قصاص، فبهذا تعميمٌ بعد تخصيصٍ. قرأ الكسائيُّ: (والعينُ) (والأنفُ) (والأذنُ) (والسنُّ) (والجروحُ) بالرفع على القطع مما قبلَها، والاستئنافِ بها، وافقه في (والجروح) خاصَّةً ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وقرأ الباقون الخمسةَ: بالنصب على العطف، وقرأ نافع (والأُذْنَ بِالأُذْنِ) بإسكانِ الذال فيهما، والباقون: بالرفع (¬1). {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} أي: القصاصِ. {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} للمتصدِّقِ بأن يكفِّرَ اللهُ عنه من سيئاته، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَيْءٍ، كَفَّرَ اللهُ عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ" (¬2). وتقدَّمَ حكمُ القتلِ العمدِ والخطأ، وقدرُ الدِّيَةِ، وحكمُ الكفارة، واختلافُ الأئمةِ في ذلكَ مستوفًى في سورة النساء بعدَ تفسيرِ قولِه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [الآية: 92]، وتقدمَ اختلافُ الأئمةِ في القِصاص بينَ المسلمِ والكافرِ، والحرِّ والعبدِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 244)، و"التيسير" للداني (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (1/ 682)، و"المحتسب" لابن جني (2/ 198)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 142، 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 212 - 213). (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (11146)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (8/ 299)، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- بهذا اللفظ.

[46]

قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وصفٌ لهم بالعتوِّ في كفرِهم حينَ ظلموا آياتِ اللهِ بالاستهانةِ، وتمرَّدوا بأنْ حكموا بغيرها. ... {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)}. [46] {وَقَفَّيْنَا} وأَتْبَعْنا. {عَلَى آثَارِهِمْ} أي: آثار النبيين المتقدِّمي الذِّكْرِ. {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا} حالٌ من (عيسى). {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدَّمَهُ. {مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا} يعني الإنجيل. {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}. ... {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}. [47] {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} قرأ حمزة: (وَلِيَحْكُمَ) بكسر اللام ونصب الميم؛ أي: لكي يحكمَ، وقرأ الباقونَ: بسكون اللامِ وجزمِ الميمِ على الأمرِ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 244)، و "التيسير" للداني (ص: 99)، =

[48]

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجونَ عن أمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والآيةُ تدلُّ على أن الإنجيلَ مشتملٌ على الأحكام، وأن اليهوديةَ منسوخةٌ ببعثةِ عيسى عليه السلام، وأنه كانَ مستقلًا بالشرعِ، وحملُها على: ولْيَحْكُموا بما أنزلَ الله وفيهِ؛ من إيجابِ العملِ بأحكامِ التوراةِ خلافُ الظاهرِ. ... {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}. [48] {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمدُ. {الْكِتَابَ} القرآنَ. {بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي: من الكتب المنزلة من قبل. {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي: رقيبًا وشاهدًا لها بالصحة، قال حَسَّانُ: إِنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِينا ... وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلْبَابِ ¬

_ = و"تفسير البغوي" (1/ 683)، و"الكشف" لمكي (2/ 254)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 214).

{فَاحْكُمْ} يا محمدُ. {بَيْنَهُمْ} أي: بينَ أهلِ الكتابِ إذا ترافَعُوا إليكَ. {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي: بالقرآنِ. {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} عادلًا. {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديرهُ: ولا تُعْرِضْ عَمَّا جاءكَ من الحقِّ متبعًا أهواءَهُم. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} سَبيلًا واضِحًا وسُنَّةً، وأرادَ بهذا: أن الشرائعَ مختلفةٌ، ولكلِّ أهلِ مِلَّةٍ شريعةٌ، قال قتادةُ: الخطابُ للأممِ الثلاثِ: أمةِ موسى، وعيسى، وأمةِ محمدٍ صلواتُ الله عليهم أجمعين: التوراةُ شريعةٌ، والإنجيلُ شريعةٌ، والقرآنُ شريعةٌ، والدينُ واحدٌ، وهو التوحيدُ. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دينٍ واحدٍ. {وَلَكِنْ} فَرَّقَكم فِرَقًا. {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبرَكُم. {فِي مَا آتَاكُمْ} من الكتبِ والشرائعِ المختلفةِ ليظهرَ لكم أَيُّكم الطائعُ من العاصي. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فابتدِرُوا إلى العملِ بالطاعات، وأصلُ السَّبْقِ: التقدُّمُ في السير.

[49]

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} استئنافٌ فيه تعليلُ الأمرِ بالاستباق (¬1)، ووعدٌ ووَعيدٌ للمبادِرينَ والمقصِّرينَ. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بالجزاءِ الفاصلِ بينَ المحقِّ والمبطلِ، والعاملِ والمقصِّرِ. ... {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)}. [49] {وَأَنِ احْكُمْ} التقديرُ: وأمرنا أَنِ احكُمْ. {بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} أي: واحذرْ فتنتَهُمْ. {عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أن يضلُّوكَ ويصرفوكَ عنه. رُوي أنَّ أحبارَ اليهودِ قالوا: اذهبوا بنا إلى محمدٍ نَفْتِنُهُ عن دينه، فقالوا: يا محمدُ! قد عرفتَ أنَّا أحبارُ اليهود، وإنا إن اتبعناكَ، اتبعَنا اليهودُ كلُّهم، وإنَّ بيننا وبينَ قومنا خصومةً، فنتحاكمُ إليكَ، فاقضِ لنا عليهم، ونحن نؤمنُ بك ونصدِّقُكَ، فأبى ذلكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} (¬2) عن الحكمِ المنزَلِ، وأرادوا غيرَهُ. ¬

_ (¬1) في "ن": "بالاستئناف". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 273)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (4/ 11541)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 109).

[50]

{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} بأنْ يعجِّلَ لهم العقوبةَ في الدنيا ببعضِ عمَلهم. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} يعني: اليهودَ. {لَفَاسِقُونَ} متمرِّدُونَ في الكفر، مُعْتَدُونَ فيه. ... {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}. [50] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} يطلبونَ. قرأ ابنُ عامرٍ: (تبْغُونَ) بالخطاب، والباقونَ: بالغيبِ (¬1). {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} خطابٌ للموقنين؛ فإنهم الذين يتبينون أنْ لا أحدَ أحسنُ حكمًا من الله. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}. [51] ونزلَ نهيًا عن موالاةِ الأعداءِ في الدينِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} فلا تعتمدوا عليهم، ولا تعاشروهم معاشرةَ الأحبابِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 244)، و"التيسير" للداني (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (1/ 685)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 254)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 201)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 216).

[52]

{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في العونِ والنُّصرةِ؛ فإنهم متفقونَ على خلافِكم ومضادَّتِكم. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} فيعينهُمْ. {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} من جملتِهم. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسَهُمْ بموالاةِ الكافرينَ. ... {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)}. [52] {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شكٌ ونفِاقٌ، وهم عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ وأصحابُه منَ المنافقينَ. {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: في موالاتِهم ومعونَتِهم. {يَقُولُونَ} اعتِذارًا: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} بأنْ يدورَ الدهرُ علينا من جَدْبٍ وغَلَبَةٍ وغيرِهما، ولا يتمُّ أمرُ محمدٍ، فنزلَ توبيخًا لهم، وإيماءً إلى تتمةِ أمرهِ - صلى الله عليه وسلم -: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} بنصرِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وإظهارِ في دينِه. {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} هو (¬1) إجلاءُ اليهودِ من ديارِهم. ¬

_ (¬1) في "ت": "من".

[53]

{فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} من موالاةِ الكفارِ. {نَادِمِينَ} فضلًا عَمَّا أظهروهُ مما أشعر على نفاقهم. ... {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}. [53] {وَيَقُولُ} أي: وحينئذٍ يقولُ. {الَّذِينَ آمَنُوا} قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (ويقولَ) بالواوِ ونصبِ اللام عطفًا على (أَنْ يَأْتِيَ)؛ أي: وعسى أن يقولَ الذين آمنوا، وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَيَقُولُ) بالواوِ ورفعِ اللامِ على الاستئناف، وقرأ الباقون، وهم ابنُ كثيرٍ، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: بغير واو، ورفعِ اللام، وكذلك هو في مصحفِ أهل العاليةِ (¬1)، واستُغني عن حرفِ العطفِ لمناسبةِ هذه الآية بما قبلَها؛ يعني: يقولُ الذينَ آمنوا في وقتِ إظهارِ اللهِ نفاقَ المنافقين: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: حلفوا بأغلظِ الأيمانِ. {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} مؤمنينَ مثلَكم؟ ثم قالَ المؤمنونَ داعينَ متعجِّبينَ من صنيع المنافقين. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 244)، و"التيسير" للداني (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (1/ 686 - 687)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 254)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 201)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 217، 218).

[54]

{حَبِطَتْ} بَطَلَتْ. {أَعْمَالُهُمْ} الصالحةُ. {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} الدُّنيا بافتضاحِهم، والآخرةَ بالعذابِ. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}. [54] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ} أي: يرجعْ. {مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} كافرًا بعدَ موتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (يَرْتَدِدْ) بدالين مظهرَتين على الأصل، الثانيةُ مجزومة بـ (مَنْ)، وقرأ الباقونَ: (يَرْتَدَّ) بدالٍ واحدةٍ مشدَّدَةٍ مفتوحةٍ لالتقاء الساكنين (¬1). {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} غيرهم مكانَهم. {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} والمرادُ بالقومِ: أبو بكرٍ وأصحابُه الذين قاتلوا أهلَ الردَّةِ ومانعي الزكاةِ، ورُوي أنهم قومُ أبي موسى الأشعري، وقيل: هم أحياءٌ من اليمنِ جاهدُوا يومَ القادسية أيامَ عمرَ (¬2). {أَذِلَّةٍ} أرقَاءَ رحماءَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 245)، و"الكشف" لمكي (1/ 412)، و"تفسير البغوي" (1/ 687)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 218). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 282)، و"تفسير البغوي" (1/ 687).

[55]

{عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي: هم لَيِّنُونَ متواضعون لهم. {أَعِزَّةٍ} أشداء غلظاء. {عَلَى الْكَافِرِينَ} كالسَّبُعِ على فريستِه. {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} المعنى: إنهم الجامعونَ بينَ المجاهدةِ في سبيلِ الله، والتصلُّبِ في دينه؛ بخلافِ المنافقينَ؛ فإنهم يَخرجون في جيش المسلمين خائفينَ ملامةَ أوليائِهم من اليهودِ، فلا يعملون شيئًا يلحقُهم فيه لومٌ من جهتِهم، واللَّوْمَةُ: المَرَّةُ من اللَّومِ. {ذَلِكَ} أي: ما وُصِفَ به القومُ من لينِ جانبِهم للمؤمنين، وشدَّتِهم على الكافرين، وعدمِ خوفِهِم. {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} يمنحُه ويوفِّقُ له. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} كثيرُ الفضل. {عَلِيمٌ} من هو أهلٌ. ... {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}. [55] ولما نَهى عن موالاةِ الكَفَرة، ذَكَرَ عَقِبَهُ مَنْ هو حقيقٌ بها، فقالَ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وإنما قال: وَلِيُّكُمْ ولم يقلْ: أَوْلياؤكم للتنبيه على أن الولايةَ لله على الأصالةِ، ولرسولِه والمؤمنينَ على التبع، رُوي أن عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ جاءَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقالَ: إنَّ قومَنا قُريظَةَ والنضيرَ قد أقسموا إنهم لا يُجالسُونا، فنزلت هذه الآيةُ، فقرأها عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -

[56]

فقالَ: "رَضينا باللهِ وبرسولِه والمؤمنينَ أولياءَ" (¬1). {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} مُتَخَشِّعونَ في صلِاتهم وزكاتهم، وقيل: نزلَتْ في عليٍّ رضي الله عنه حينَ سألَه سائلٌ وهو راكعٌ في صلاتِه، فطرحَ له خاتمَهُ (¬2)، واستدلَّ بها الشيعةُ على إمامتِه زاعمينَ أن المرادَ بالوليِّ: المتولِّي للأمورِ، والمستحقُّ للتصرُّفِ فيها. ... {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}. [56] {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ومَنْ يَتَّخِهذُهم أولياءَ. {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} أنصارَ دينِ اللهِ. {هُمُ الْغَالِبُونَ} لأنه تعالى ناصرهم. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}. [57] ونزلَ في رفاعةَ بنِ زيدٍ وسُويدِ بنِ الحارثِ، أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجالٌ من المسلمينَ يوادُّونهما: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 110). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (6/ 288). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 409)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 106).

[58]

قَبْلِكُمْ} (¬1) هم اليهودُ؛ لأنهم كانوا يستهزئون بالدِّينِ. {وَالْكُفَّارَ} أي: لا تتخذوا المستهزئينَ والكفارَ. {أَوْلِيَاءَ} قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ: (وَالْكُفَّارِ) (¬2) بخفضِ الراء؛ يعني: من الكفارِ، وقرأ الباقونَ: بالنصب؛ أي: لا تتخذوا الكفارَ أولياءَ (¬3). {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بتركِ المناهي. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لأن الإيمانَ حقًّا يقتضي ذلكَ. ... {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)}. [58] {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا} أي: الصلاةَ أو المناداةَ. {هُزُوًا وَلَعِبًا} لأن اليهودَ كانوا يقولونَ للمسلمينَ عندَ قيامِهم إلى الصلاة: قامُوا لا قاموا، صَلَّوا لا صلَّوا، وقالَ نصرانيٌّ من أهلِ نجرانَ لما سمعَ المؤذِّنَ يقولُ: أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله: أَحرقَ اللهُ الكاذبَ، فدخلَ خادمُه ذاتَ ليلةٍ بنارٍ، وأهلهُ نيامٌ، فطارتْ شرارةٌ فأحرقَتْهُ معَ بيتِه وأهلِه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 290)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (4/ 163)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 110). (¬2) "والكفار" سقطت من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 246)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (1/ 691)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 220).

[59]

{ذَلِكَ} مبتدأ، خبرُه: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} فإن السَّفَهَ يؤدِّي إلى الجهلِ بالحقِّ والهزءِ به، والعقلُ يمنعُ منهُ. ... {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}. [59] {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا} أي: هل تنُكرونَ منا وتَعيبونَ إلَّا إيماننا. {بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} من الكتبِ المنزلَةِ. {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} تلخيُصه: وما تنُكرون إلا مخالفَتَنا إياكم؛ حيثُ دخلْنا الإيمانَ وأنتم خارجونَ منه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ: (هَل تنْقِمُون) بإدغامِ اللام في التاء، والباقون: بالإظهارِ (¬1)، والآية خطابٌ لليهودِ حينَ سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عمَّن يؤمنُ به، فقالَ: " {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} إِلى قولِه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] "، فلما ذكرَ عيسى، جَحَدوا نبوَّتَهُ، وقالوا: لا نعلمُ دينًا شَرًّا من دينِكم (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 204)، و"تفسير البغوي" (1/ 692)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 220). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 111)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 412).

[60]

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}. [60] {قُلْ} يا محمدُ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أُخبرُكم. {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} الذي ذكرتمُ (¬1)؛ يعني قولهم: لا نعلَمُ دينًا شَرًّا من دينكم. {مَثُوبَةً} ثوابًا وجزاءً. {عِنْدَ اللَّهِ} والمثوبةُ به (¬2) مختصةٌ بالخيرِ، كالعقوبة بالشرّ، فَوُضعت هاهنا موضعَها توسُّعًا، ونصبُها على التمييزِ. {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أبعدَه من رحمتِه. {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} يعني: اليهودَ، سخطَ عليهم بكفرِهم، وانهماكِهم في المعاصي بعدَ وضوحِ الآيات. {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ} وهم أصحابُ السبت. {وَالْخَنَازِيرَ} وهم كفارُ أهلِ مائدةِ عيسى، وعن ابنِ عباس: "أَنَّ المسخينِ كلاهما من أصحابِ السبتِ، مُسخِتْ شبابُهم قردةً، ومشايخُهم خنازيرَ" (¬3). ¬

_ (¬1) في "ن": "ذكرتموه". (¬2) "به": زيادة من "ن". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 693).

[61]

{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أطاعَ الشيطانَ. قرأ حمزةُ: (وعَبُدَ) بضمِّ الباءِ وجرِّ (الطَّاغُوتِ) إضافةً، جعلَه اسمًا على فعلٍ؛ كَعَضُدٍ، فهو بناءٌ للمبالغةِ والكثرةِ، وقرأ الباقونَ: بفتح الباءِ والتاءِ، جعلوهُ فعلًا ماضيًا، وعطفُه على فعلٍ ماضٍ وهو (غَضِبَ) و (لَعَنَ) (¬1)، والمعنى عندهم: ومَنْ عبدَ الطاغوتَ. {أُولَئِكَ} أي: الملعونونَ. {شَرٌّ مَكَانًا} لأن مكانَهم النارُ. {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي: عن طريقِ الحقِّ، ولما نزلتْ هذه الآيةُ، قالَ المسلمونَ لهم: يا إخوةَ القردةِ والخنازيرِ! فنكسوا رؤوسَهم افْتِضاحًا. ... {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)}. [61] ونزلَ فيمَنْ كان يدخلُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويُظهر الإيمانَ نفاقًا: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ} يعني: هؤلاءِ المنافقينَ. {قَالُوا آمَنَّا} بكَ وصدَّقناك. {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أي: دخلوا وخرجوا كافرينَ. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} من النفاقِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 246)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (1/ 693)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 222).

[62]

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)}. [62] {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} يعني: اليهودَ. {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ} أي: الشركِ. {وَالْعُدْوَانِ} الظلمِ. {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} الرُشَا. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، وخلفٌ: (السُّحْتَ) في الحرفين بجزم الحاءِ، والباقون: بالرفع (¬1). {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لبئسَ شيئًا عملوهُ. ... {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}. [63] {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} يعني: العلماءَ. {عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} ثم وبَّخَ علماءهم في تركِهم نهيَهُمْ، فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ودلَّتِ الآية على أن تارك النهيِ (¬2) عن المنكَرِ كمرتكبِ المنكَرِ، فالآيةُ توبيخٌ للعلماءِ في تركِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ. ¬

_ (¬1) تقدمت عند تفسير الآية (42) من هذه السورة. (¬2) "النهي" ساقطة من "ن".

[64]

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}. [64] قال ابنُ عباسٍ: إنَّ اللهَ قدْ بسطَ على اليهودِ حتَّى كانوا من أكثرِ الناسِ مالًا، فلمَّا عَصَوُا اللهَ في أمرِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كَفَّ عنهم ما بَسَطَ عليهِم من السَّعةِ، فقال فنخاصُ بنُ عازوراءَ: يدُ اللهِ مغلولَةٌ، ولم ينكرِ اليهودُ عليه مقالتَهُ، وأشركوا معه، فنزلَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (¬1) أي: محبوسَةٌ عن إدرارِ الرزقِ علينا، نسبوه إلى البخلِ. {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أُمْسِكَتْ ومُنِعَتْ عن فعلِ الخير، وأجابهم تعالى: أنا الجوادُ وهمُ البخلاء، وأيديهم هي المغلولةُ. {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} أي: أُبْعِدوا وعُذِّبوا بسببِ قولهم. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وليسَ المرادُ حقيقةَ الجارحةِ المتركِّبَةِ؛ لأنه تعالى منزَّهٌ عن التركيبِ، وإنَّما هي صفةٌ من صفاتِ ذاتِه؛ كالسمعِ والبصرِ، قالَ جلَّ ذكرُه: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] , وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ" (¬2)، واللهُ أعلمُ بصفاته، فعلى العبادِ فيها الإيمانُ والتسليمُ، وأَنْ يُمِرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ؟ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 693 - 694). (¬2) رواه مسلم (1827)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

[65]

{يُنْفِقُ} أي: يرزقُ. {كَيْفَ يَشَاءُ} من التوسيعِ والتضييقِ، لا اعتراضَ عليه. قرأ أبو عمرٍو: (يَنْفِق كيْفَ) بإدغام القاف في الكاف. {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} أي: اليهودَ. {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي: القرآنُ. {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي: كلَّما نزلَتْ آيةٌ، كفروا بها؛ لحسدِهم. {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي: بينَ اليهودِ والنصارى، أو بينَ طوائفِ اليهودِ. {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} جعلَهم مختلفين في دينِهم، مُتباغِضين، وتقدَّمَ اختلافُ القراء في حكمِ الهمزتين من كلمتينِ في سورة البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ} [البقرة: 133]، وكذلك اختلافُهم في قوله {وَالْبَغْضَاءَ إِلَى}. {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ} أي: لحربِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإفسادِ أمرهِ. {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} بقهرِهم ونصر نبيِّه؛ أي: كلَّما حارَبوا، غُلِبوا. {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} بكفرِهم وإضلالِ غيرِهم. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} فلا يجازيهم إلا شَرًّا. ... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)}. [65] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا} بمحمدٍ وما (¬1) جاءَ بهِ. ¬

_ (¬1) في "ت": "وبما".

[66]

{وَاتَّقَوْا} الكفرَ {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} التي فعلوها. {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ولجعلناهُمْ من الدَّاخلين فيها، فيه تنبيهٌ أن الإسلامَ يَجُبُّ ما قبلَه، وأن الكتابيَّ لا يدخلُ الجنةَ ما لم يُسْلِمْ. ... {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}. [66] {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} عَمِلُوا بما فيهما. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} يعني: القرآنَ وجميعَ الكتب. {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} بقطرِ السماءِ. {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} بالنباتِ، والمرادُ: سَعَةُ الرزقِ. {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} عادلةٌ، كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابُه. {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} بئسَ شيئًا عملُهم. ... {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}. [67] {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي: جميعَ المنزلِ إليك.

{مِنْ رَبِّكَ} ولا تخفْ إلا اللهَ، ومن خصائصِهِ - صلى الله عليه وسلم - وبِرِّ اللهِ تعالى به أَنَّ اللهَ تعالى خاطبَ جميعَ الأنبياءِ بأسمِائهم، فقال: (يا آدمُ) (يا نوحُ) (يا إبراهيمُ) (يا داودُ) (يا عيسى) (يا زكريا) (يا يحيى)، ولم يخاطَبْ هو إلا (يا أيُّها الرسولُ) (يا أيها النَّبيُّ) (يا أيُّها المزمِّلُ) (يا أيها المدثِّرُ). {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} أي: إن لم تبلغْ مجموعَهُ. {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فما أَدَّيتَ شيئًا منها؛ لأن كتمانَ بعضِها يضيِّعُ ما أُدِّي منها؛ كتركِ بعض أركانِ الصلاة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، ويعقوبُ: (رِسَالاَتِهِ) على الجمع، والباقون: على التوحيد (¬1)، ثم قالَ مشجِّعًا له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ} أي: يحفظُكَ. {مِنَ النَّاسِ} فلا يَصِلونَ إليك بقتلٍ ولا غيرِه، ونزلت بعدَما شُجَّ وجهُه، وكُسرت رَباعِيَتُهُ، والمرادُ بالناسِ: الكفارُ؛ لقولِه بعدُ (¬2): {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. عن عائشةَ رضي الله عنها: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحْرَسُ حتى نزلتْ هذهِ الآيةُ، فأخرجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ من القُبّةِ وقالَ لهم: "يَا أَيُهَا النَّاسُ! انْصَرِفُوا؛ فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 246)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (1/ 696)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و "معجم القراءات القرآنية" (2/ 288). (¬2) في "ت": "بعده". (¬3) رواه الترمذي (3046)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المائدة، وقال: =

[68]

{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)}. [68] {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} من الدِّينِ وما أنتم عليهِ لا اعتدادَ به، فهو كلا شيءٍ. {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} ومِنْ إقامتِها الإيمانُ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ جميعَ الكتبِ ناطقةٌ بوجوبِ الطاعةِ لهُ. {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ} فلا تحزنْ. {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ففي المؤمنين كفايةٌ عنهم. ... {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}. [69] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} على الحقيقةِ. {وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} تقدَّم تفسيرُه، واختلافُ القراءِ فيه في سورةِ البقرةِ. {مَنْ آمَنَ} أي: ثبتَ على الإيمان. ¬

_ = غريب، والحاكم في "المستدرك" (3221)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 8).

[70]

{بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وفي الكلامِ تقديم وتأخيرٌ تقديرهٌ: إنَّ الذين آمنوا، والذين هادوا، مَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخرِ. {وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} والصابئون والنصارى كذلك. قرأ يعقوبُ: (فَلاَ خَوْفَ) بفتحِ الفاءِ وعدمِ التنوين، والباقونَ: بالرفع والتنوين (¬1). ... {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}. [70] {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} في التوحيدِ والنبوَّةِ. {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} ليبينوا لهم أمرَ دينِهم. {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} مما يخالفُ أهواءَهُمْ. {فَرِيقًا كَذَّبُوا} كمحمدٍ وعيسى. {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} يعني: قَتَلوا؛ كزكريا ويحيى. ... {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}. [71] {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ظَنُّوا أنهم لا يُعَذَّبونَ بذنوبهم. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وحمزةُ، والكسائيُّ: (تَكُونُ) برفعِ النونِ على معنى: ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134، 202)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 230).

[72]

أنه لا تكونُ، وقرأ الباقون: بالنصبِ (¬1)، كما لو لم تكنْ قبلَه (لا). {فَعَمُوا وَصَمُّوا} عن الحقِّ بعبادةِ العجلِ. {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قَبِلَ توبتَهم حينَ تابوا. {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} بسؤالِ الرؤيةِ، المعنى: رَماهُم اللهُ بالعمى والصَّمَمِ. {كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فمُجازيهم (¬2) وَفْقَ أعمالِهم. ... {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)}. [72] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} يعني: الملكائيةَ واليعقوبيةَ منهم. {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي: إني عبدٌ مربوبٌ مثلُكم. {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} في عبادتِه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 247)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (1/ 698)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 202)، و "معجم القراءات القرآنية" (2/ 231). (¬2) في "ن": "فيجازيهم".

[73]

{فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} يُمْنَعُ من دخولها. {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} فإنها المعدَّةُ للمشركين. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} يَنصرونهم من النارِ. ... {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}. [73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ} أي: أحدُ. {ثَلَاثَةٍ} يعني: المرقوسيةَ؛ لأنهم يقولون: الإلهيةُ مشتركةٌ بينَ اللهِ ومريمَ وعيسى، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء إلهٌ، فهم ثلاثةٌ، ومن قالَ: إن الله ثالثُ ثلاثةٍ، ولم يردِ الآلهةَ (¬1)، لم يكفرْ؛ لقولي تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، ولقولِه - صلى الله عليه وسلم - لأَبي بكرٍ: "مَا ظَنُّكَ بِاثنيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟ " (¬2)، ثم قالَ ردًّا عليهم: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} وما في الموجوداتِ إلَّا إلهٌ واحدٌ متعالٍ عن الشركَةِ، و (مِنْ) مزيدةٌ للاستغراقِ. {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} ولم يوحِّدوا. ¬

_ (¬1) في "ن": "الإلهية". (¬2) رواه البخاري (3453)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، ومسلم (2381)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن أبي بكر -رضي الله عنه-.

[74]

{لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} أي: ليمسَّنَّ الذين بَقُوا منهم على الكفرِ. ... {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [74] {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} أي: ألا يتوبونَ بالانتهاءِ عن تلكَ العقائدِ، ويستغفرونَ بالتوحيدِ والتنزيهِ. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفرُ لهم إنْ تابوا. ... {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)}. [75] ثم نَفَى عن عيسى الألوهيةَ، وأثبت لهُ ولأمهِ البشريةَ بقولِه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} مضتْ. {مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فهو رسولٌ من جنسِ الرسلِ الماضين، يموتُ ويمضي، ولو كانَ إلهًا، لكانَ دائمًا. {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} كثيرةُ الصِّدْقِ. {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} أي: يحتاجان إليه كالآدميينَ، ومَنْ هذهِ صفتهُ، كيفَ يكونُ إلهًا؟! ثم عجبَ من كفرِهم معَ قيامِ البرهانِ على بشريَّتِهما فقالَ:

[76]

{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} أي: الدَّلالاتِ على ذلك، ثم عجبَ ثانيًا من تركِهمُ الإيمانَ معَ وضوحِ الدليلِ، فجاءَ بـ (ثم) للتراخي بينَ العجبينِ فقال: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيفَ يُصْرَفون عن الحقِّ، وتقدَّم في سورةِ آلِ عمران أنَّ (ثُمَّ) للترتيبِ بمهلَةٍ. ... {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}. [76] {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} هو عيسى وكلّ معبودٍ غيرِ اللهِ. {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يملكُ الضرَّ والنفعَ، فهو الإلهُ على الحقيقةِ. ... {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}. [77] {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} تتجاوَزُوا. {غَيْرَ الْحَقِّ} والغلوُّ والتقصيرُ كلٌّ منهما مذمومٌ في الدين. {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} والأهواءُ جمع الهوى، وهو ما تدعو إليه شهوةُ النفسِ.

[78]

{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} يعني: أسلافَهم وأئمتَهم الذين ضَلُّوا قبلَ مبعثِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في شريعتِهم، والخطابُ للدَّين كانوا في عصرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} من أصحابِهم. {وَضَلُّوا} ثانيًا لما بُعِثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. {عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي: عن قصدِ طريقِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ... {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)}. [78] {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ} يعني: أهلَ أيلةَ، لعنَهم داودُ، فَمُسخوا قردةً، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِهم في البقرةِ. {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي: وعلى لسانِ عيسى؛ يعني: كفارَ أصحابِ المائدةِ، لعنَهم عيسى، فَمُسخوا خَنازير، ويأتي ذكرُ قصتِهم أواخرَ السورة. {ذَلِكَ} المسخُ. {بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي: بسببِ اعتدائِهم بما حرَّمَ اللهُ. ... {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}. [79] {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} أي: لا ينهى بعضُهم بعضًا.

[80]

{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ذَمٌّ لتركِهم النهيَ. ... {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)}. [80] {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} من اليهودِ: كعبِ بنِ الأشرفِ وأتباعِه. {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مشركي مكةَ يستمدُّونَهم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: لبئس شيئًا قدَّموه لمعادِهِم. {أَنْ سَخِطَ} أي: غضبَ. {اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} ابتداءٌ وخبرٌ. ... {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}. [81] {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} يعني: القرآنَ. {مَا اتَّخَذُوهُمْ} يعني: الكفارَ. {أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجونَ عن أمرِ الله تعالى. ... {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}.

[82]

[82] {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني: مشركي العرب؛ لشدةِ شَكيمتِهم وتضاعُفِ كفرِهم. {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} لِلِينِ جانبِهم، وقلَّةِ حرصِهم على الدنيا، وليسَ المرادُ جميعَ النصارى، بلْ مَنْ أسلمَ؛ كالنجاشيِّ وأصحابِه لما قدمَ عليهم المسلمونَ في الهجرةِ الأولى في السُّنةِ الخامسةِ من مبعَثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واسمُ النجاشيِّ أَصْحَمَةُ، ومعناهُ بالعربيِّ عَطِيَّةُ، وإنما النجاشي اسمُ الملكِ؛ كقولهم: قيصرَ، وكسرى. {ذَلِكَ} أي: قربُ المودة. {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} علماءَ. {وَرُهْبَانًا} عُبَّادًا. {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتعظَّمون عن الإيمان. ... {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)}. [83] {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} والمرادُ: وفدُ النجاشيِّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لما سمعوا القرآنَ، رَقَّتْ قلوبُهم، وفاضَتْ عيونُهم بالدمعِ. {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} المقرِّينَ بنبوَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ***

[84]

{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)}. [84] ولما عَيَّرهم اليهودُ بالإيمانِ، قالوا منكِرينَ على أنفسِهم تركَ الإيمانِ بعدَ (¬1) قيامِ البرهانِ: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} وحدَهُ. {وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} أي: في أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ... {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}. [85] {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} الذين أحسنوا النظرَ والعملَ. ... {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}. [86] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وهي النارُ الشديدةُ الاتِّقادِ. ... ¬

_ (¬1) في "ن": "مع".

[87]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [87] ونزلَ نهيًا لجماعةٍ من الصحابةِ -رضي الله عنهم أجمعين- حينَ حلفوا أن يترَهَّبُوا، ويَلْبَسوا المُسُوحَ، ويقوموا الليلَ، ويصوموا النهارَ، ويَجُبُّوا مذاكيرَهم، وهم: أبو بكرٍ الصدّيقُ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ، وأبو ذَرٍّ الغفاريُّ، وسالمٌ مولَى [أبي] (¬1) حذيفةَ، والمقدادُ بنُ الأسودِ، وسلمانُ الفارسيُّ، ومعقلُ بنُ مقرنٍ، وعثمانُ بنُ مظعونٍ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬2) من اللذاتِ التي تشتهيها النفوسُ مما أحلَّ اللهُ. {وَلَا تَعْتَدُوا} لا تتجاوزوا الحلالَ إلى الحرامِ. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ خِصَاءَ أُمَّتي الصِّيَامُ، وَإِنَّ سِيَاحَتَهُمُ الْجِهَادُ فِي سَبيلِ اللهِ، وَإِنَّ رَهْبَانِيَّتَهُمُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ" (¬3). ... ¬

_ (¬1) لم ترد في جميع النسخ، والصواب إثباتها. (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (1/ 704 - 705). (¬3) رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: 290)، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (2/ 370)، وفي "تفسيره" (1/ 705)، وابن عبد البر في "التمهيد" (21/ 226)، عن عثمان بن مظعون -رضي الله عنه-.

[88]

{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}. [88] {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} حثٌّ على استعمالِ الحلالِ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالَتْ: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحِبَّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ" (¬1). ... {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}. [89] {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} كائِنًا. {فِي أَيْمَانِكُمْ} تقدَّمَ تفسيرُه واختلافُ الأئمةِ فيه في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ نظيرِ هذهِ الآيةِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5115)، كتاب: الأطعمة، باب: الحلواء والعسل، ومسلم (1474)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينوِ الطلاق. وانظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 247)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (1/ 707)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 130)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 234).

{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ: (عَقَدْتُمْ) بالقصرِ والتخفيفِ، ورواهُ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ كذلك، إلا أنه بألفٍ بعدَ العين، وقرأ الباقونَ: بالتشديد من غير ألفٍ، وعقدُ اليمينِ: توثيقُها باللَّفظِ معَ العزمِ عليها. المعنى: إنَّما يؤاخِذُكم بيمينِكم إذا حنثتُمْ فيها. {فَكَفَّارَتُهُ} أي: سترُ الحنثِ. {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}. واختلفوا في قدرِ الكفارة وحكمِها: فقال أبو حنيفةَ: نصفُ صاعِ بُرٍّ لكلِّ مسكينٍ، أو صاع من شعيرٍ أو تمرٍ أو زبيبٍ، أو قيمةُ ذلكَ، والصاعُ ثمانيةُ أرطالٍ بالعراقيِّ. وقال أبو يوسف: خمسةُ أرطالٍ وثلثٌ، أو يُغَدِّيهم ويُعَشِّيهم، ولا بدَّ من شِبَعِهم (¬1) في الأكلتينِ، ويجوزُ عنلَه صرفُها إلى العبدِ والذميِّ، ولا يجوزُ عندَه التكفيرُ قبلَ الحنثِ. وقال مالكٌ: لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ من حنطَةٍ أو غيرِها مِمَّا هو قوتٌ لهم بالمدِّ الأصغرِ بمدِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أخرجَ الكفارةَ بالمدينة، وفي بقيةِ الأمصارِ وسطٌ منَ الشبع، وهو رِطْلانِ بالبغداديِّ من الخبز، وشيءٌ من الإدامِ. وقالَ الشافعيُّ: لكلِّ مسكينٍ مُدُّ حَبٍّ من غالبِ قوتِ بلدِه. وقالَ أحمدُ: لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ من بُرٍّ، أو مُدَّانِ من شعيرٍ أو تمرٍ أو ¬

_ (¬1) "ولا بد من شبعهم" ساقطة من "ن".

زببيبٍ (¬1)، وقدرُ المدِّ رطلٌ وثلثٌ عراقيٌّ، ورطلٌ وسبعُ رطلٍ وثلثُ سبعِ رطلٍ مصريٍّ، وثلاثُ أواقٍ وثلاثةُ أسباعِ أوقيةٍ دمشقيةٍ، وأوقيتانِ وستةُ أسباعِ أوقيةٍ حلبيةٍ، وأوقيتانِ وأربعةُ أسباعِ أوقيةٍ قدسيةٍ، ومئةٌ وواحدٌ وسبعونَ درهمًا وثلاثةُ أسباعِ درهمٍ ومئةٌ وعشرونَ مثقالًا، ويأتي ذكرُ الصاعِ في سورةِ التوبةِ عندَ ذكرِ الزكاة إن شاء الله تعالى. واتفق مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ على عدمِ جوازِ صرفها إلى رقيقٍ وذميٍّ، وعلى عدمِ جوازِ إخراجِ القيمةِ وغداء المساكينَ وعشائهم، وعلى أنه يجوز التكفيرُ قبلَ الحنثِ وبعدَه. {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} خيرِ قوتِ عيالِكم. {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فعندَ أبي حنيفةَ المقصودُ منها ردُّ العُرْيِ، فكلُّ ثوبٍ يصيرُ به مُكْتَسِيًا يسمَّى كسوةً، وعندَ مالكٍ إن كانوا رجالًا، ثوبًا ثوبًا، وإن كُنَّ نساءً، فثوبين ثوبين، درعًا وخمارًا لكلِّ امرأةٍ منهنَّ، وعندَ الشافعيِّ ما يُسَمَّى كسوةً؛ كقميصٍ، أو عِمامةٍ، أو إزارِ، وعندَ أحمدَ للرجلِ ثوبٌ يجزئُه أن يصلِّيَ فيه، وللمرأةِ درعٌ وخمارٌ. واختلفوا فيما إذا أطعمَ خمسةً وكسا خمسةً، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يجزئُه، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يجزئُه. وكذلكَ اختلافُهم فيما إذا أطعمَ من جنسينِ، فأطعمَ خمسةً بُرًّا، وخمسةً تمرًا، أو خمسةً برًّا، وخمسة شعيرًا. {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} سليمةٍ من كلِّ عيبٍ يَضُرُّ بالعملِ ضررًا بَيِّنًا بالاتفاق، ¬

_ (¬1) من قوله: "القربة وأصل الوسيلة ... " في الآية (35) من هذه السورة، (ص: 291) إلى هنا سقط من (ش)، وهو بمقدار (8) لوحات من النسخ الخطية الأخرى.

والأئمةُ الثلاثةُ يشترطونَ الإيمانَ في عتقِ الرقبةِ قياسًا على كفارةِ القتلِ، وأبو حنيفةَ جَوَّزَ عتقَ الرقبةِ الكافرةِ في جميعِ الكفاراتِ سوى كفارةِ القتلِ، فالحانثُ مخيَّرٌ بينَ الإطعامِ والكسوةِ والتحريرِ بالاتفاق إنْ وجدَ ما يفضُلُ عن قوته وقوتِ عيالِه. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} واحدًا منها. {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} متتابعاتٍ عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ، وقالَ مالكٌ والشافعيُّ في الأظهر: لا يجبُ التتابعُ. {ذَلِكَ} المذكورُ. {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وحَنِثْتُمْ. {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فلا تنكُثوها إن لم تكن على تركِ مندوبٍ أو فعلِ مكروهٍ، فإن كانتْ على شيءٍ منها، فالأولى الحنثُ، قال - صلى الله عليه وسلم - لعبدِ الرحمنِ بنِ سَمُرَةَ: "لا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (¬1). وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتيتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، وَتَحَلَّلْتهَا" (¬2)، وقولُه: "تَحَلَّلْتُهَا" من التحلُّلِ، وهو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6248)، في أول كتاب: الأيمان والنذور، ومسلم (1652)، كتاب: الإيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها ... ، عن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (2964)، كتاب: أبواب الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ومسلم (1649)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من =

[90]

التخلُّصُ من عُهْدةِ اليمينِ، والخروجُ من حرمتِها إلى ما يحلُّ منها بالكفارةِ. {كَذَلِكَ} أي: مثلَ ذلكَ البيانِ. {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أعلامَ شرائِعِه. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمةَ التعليم. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)}. [90] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} جمعُ نُصُبٍ. {وَالْأَزْلَامُ} تقدَّمَ تفسيرُ الخمرِ والميسرِ في سورةِ البقرةِ، وتقدَّمَ في صدرِ هذهِ السورةِ تفسيرُ الأنصابِ والأزلامِ. {رِجْسٌ} خبيثٌ. {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} من تَزْيينِهِ. {فَاجْتَنِبُوهُ} الضميرُ للرِّجْسِ. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي تُفْلِحوا بالاجتنابِ عنه. ... {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}. ¬

_ = حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها ... ، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.

[91]

[91] {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي: بسببِهما، أمَّا العداوةُ في الخمرِ لأنَّ الشارِبينَ إذا سَكِروا، عَرْبَدُوا وتَشاجَرُوا كما فعلَ الأنصاريُّ الذي شجَّ رأسَ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِه في سورةِ البقرةِ، وأما العداوةُ في الميسرِ، قالَ قَتادةُ: كانَ الرجلُ يُقامِرُ على الأهلِ والمالِ، ثمَّ يبقى حزينًا مسلوبَ الأهلِ والمالِ. {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} واختصاصُ الصلاةِ من بينِ الذكر، كأنه قيلَ: وعن الصلاةِ خصوصًا. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} استفهامٌ، ومعناهُ الأمرُ. ... {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)}. [92] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} المحارمَ. {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} في تحريمِ ما أمرَ بتحريمِه، وعلى المرسِلِ أن يعاقبَ ويُثيبَ بحسبِ ما يُعْصى ويُطاع، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ" (¬1). ... ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5353)، في أول كتاب: الأشربة، ومسلم (2003)، كتاب: الأشربة، باب: عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

[93]

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}. [93] ونزلَ فيمن استعملَ شيئًا من الخمرِ والميسرِ من المؤمنينَ قبلَ التحريمِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} أكلوا من مالِ القمارِ، وشربوا من الخمرِ قبلَ التحريم. قرأ أبو عمرٍو: (الصَّالِحَات جنَاحٌ) بإدغامِ التاءِ في الجيمِ (¬1). {إِذَا مَا اتَّقَوْا} الشركَ {وَآمَنُوا} ثبتوا على الإيمانِ. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا} الخمرَ والميسرَ بعدَ التحريمِ. {وَآمَنُوا} ازدادوا إيمانًا. {ثُمَّ اتَّقَوْا} محارمَ اللهِ تعالى، وكررَ الاتقاءَ تأكيدًا. {وَأَحْسَنُوا} طاعةَ اللهِ تعالى. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فلا يؤاخذُهم بشيء. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 205)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 236).

[94]

[94] ولما كانوا محرِمينَ عامَ الحُدَيبيةِ، ابتلاهُمُ اللهُ بالصيدِ، وكانتِ الوحوشُ تَغْشاهم في رحالِهم بحيثُ تمكَّنُوا من صيدِها أَخْذًا بأَيديهِم، وطَعْنًا برماحِهم وهُم مُحْرِمونَ، فنزلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} (¬1) ليختبرنَّكُمْ ليظهرَ المطيعُ من العاصي. {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} إنما خصَّ فقالَ: {بِشَيْءٍ} لأنهُ ابتلاهمُ اللهُ بصيدِ البرِّ خاصَّةٍ. {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني: الفرخَ والبيضَ وما لا يقدرُ أن يفرَّ. قرأ أبو عمرٍو: (مِنَ الصَّيْد تنَالُهُ) بإدغامِ الدالِ في التاء (¬2). {وَرِمَاحُكُمْ} تنالُ كبارَهُ. {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} ليتميزَ الخائفُ من عقابِه باجتنابِ الصيدِ ممَّنْ لا يخافُهُ؛ لضعفِ قلبِه، وقلةِ إيمانِه. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} بصيدِه بعدَ التحريم. {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فالوعيدُ لاحقٌ بهِ. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 711). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 205)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 236).

[95]

مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}. [95] ونزلَ في رجل يُقالُ له: أبو اليَسَرِ شدَّ على حمارٍ وحشيٍّ وهو محرِمٌ فقتلَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬1) جمعُ حَرامٍ؛ أي: محرِمونَ بالحجِّ وبالعمرةِ. {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} والمتعمدُ: القاصدُ للشيءِ مع العلمِ بالإحرامِ، والمخطيءُ: هو الذي يقصدُ شيئًا فيصيبُ صيدًا، والناسي: هو الذي يتعمَّدُ الصيدَ ولا يذكرُ إحرامَهُ، فيجبُ الجزاءُ في العمدِ والخطأِ والنسيانِ بالاتفاق، وعن أحمدَ روايةٌ: لا شيءَ على المخطئ والناسي؛ لأن اللهَ سبحانه لما خَصَّ المتعمِّدَ بالذكرِ، دلَّ على أنَّ غيرَه يخالفُه، قالَ: والأصلُ براءةُ الذِّمَّةِ، فمنِ ادَّعى شغلَها، فعليهِ الدليلُ، والصحيحُ من مذهبه: وجُوبُ الجزاءِ. {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (فَجَزَاءٌ) منوَّن (مِثْلُ) رَفْعٌ على البدل من الجزاء، وقرأ الباقون بالإضافة (¬2)؛ أي: يجبُ عليه ما يقرُبُ من الصيدِ المقتولِ شَبَهًا بهِ من حيثُ الخلقةُ، والذي يُجزئ من الصيدِ شيئانِ: دوابٌ، وطيرٌ، فيجزئ ما كانَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 712). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 247)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (1/ 712 - 713)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 252)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 237).

من الدوابِّ بنظيرِه في الخِلْقةِ والصورةِ عندَ الثلاثةِ، وقالَ أبو حنيفةَ: إنما يعتبرُ بالمثلِ في القيمةِ دونَ الخِلْقَةِ، فَيُقَوَّمُ الصيدُ بدراهمَ في المكانِ الذي قتلَه، وفي أقربِ موضعٍ إليه إنْ كانَ لا يباعُ الصيدُ في موضعِ قُتِلَ، فيشتري بتلكَ القيمةِ هَدْيًا يذبُحه إن شاءَ، أو يشتري بها طعامًا، ويُطعم للمساكينِ، كُلُّ مسكينٍ نصفَ صاعٍ من بُرٍّ، أو صاعًا من شعيرٍ أو تمرٍ، وإن شاءَ صامَ عن كلِّ نصفِ صاعٍ يومًا. وقال مالكٍ: في النَّعامَةِ بَدَنةٌ، وفي بقرِ الوحشِ وحمارِه بقرةٌ، وفي الضَّبُعِ والثعلبِ شاةٌ، وفي نحوِ الضَّبِّ والأرنبِ القيمةُ طعامًا، وفي الحمامِ كُلِّه قيمتُه، إلا حمامَ مكةَ، فإنَّ فيه شاةً اتباعًا للسلف في ذلكَ. وقالَ الشافعيُّ: في النَّعامةِ وبقرِ الوحشِ وحمارِه كقولِ مالكٍ، وفي الغزالِ عَنْزٌ، وفي الأرنبِ عَناقٌ، واليربوعِ جَفْرَةٌ، وما لا نقلَ فيه يحكمُ بمثلِه عَدْلان، وفيما لا مثلَ لهُ القيمةُ. وقال أحمدُ في النعامة كقولِ مالكٍ والشافعيِّ، وفي حمارِ الوحشِ وبقرِه والأَيَّلِ والثَّيْتَلِ والوعِلِ بقرةٌ، وفي الضبع كبشٌ، وفي الغزالِ شاةٌ، وفي الوَبْرِ والضَّبِّ جَدْيٌ، وفي اليربوعِ جفرةٌ لها أربعةُ أشهرٍ، وفي الأرنبِ عناقٌ، وفي الحمامِ شاةٌ، وفيما لا مثلَ له وهي سائرُ الطير قيمتُه. واتفق مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ على أنه مخيَّرٌ في الصيدِ المِثْلِيِّ بينَ ذبحِ مثلِه، والصدقةِ به على مساكينِ الحرمِ، أو بينَ أن يقوَّمَ المثلُ ويَشتري به طعامًا، فيطعمَ كلَّ مسكينٍ مُدًّا، أو يصومَ عن كلِّ مدٍّ يومًا. واختلفوا في المحرِمِ إذا دلَّ حلالًا على صيدٍ فقتلَهُ الحلالُ، فقال مالكٌ والشافعيُّ: لا شيءَ عليه، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: عليه الجزاءُ.

{يَحْكُمُ بِهِ} أي: بالجزاءِ. {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: عدلانِ من المسلمينَ، فينظرانِ أشبهَ الأشياءِ إلى المقتولِ، فيحكمان به، ويجوزُ أن يكونَ القاتلُ أحدَ العدلينِ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا يجوز. {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي: يبلغُ بالهديِ الحرمَ، فَيُنْحَرُ فيه، ويُتصدُّقُ به على مساكينِه عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، وعندَ أبي حنيفةَ يُذبحُ بالحرمِ، ويُتصدَّقُ به حيثُ شاءَ، والاختيارُ عندَ مالكٍ أن يطعمَ القاتلُ حيثُ وجبَ الجزاءُ عليه، فإِن أطعمَ في مكانٍ غيرِه، أجزأَ عنه. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} أي: هي طعام. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ: (كَفَّارَةُ) بغير تنوين (طَعَامٍ) بالخفضِ على الإضافة، والباقون: بالتنوين، ورفعِ (طعام) (¬1). {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} أو ما ساواه من الصوم، والعَدْل بالفتح: المثلُ من غيرِ جنسِه، والمراد: أن الجانيَ مخيرٌ في جزاءِ الصيدِ بينَ ذبحِ المثلِ من النَّعَمِ، والتصدُّقِ بلحمه، وبينَ أن يقوَّمَ المثلُ دراهمَ يشتري بها طعامًا، فيتصدقُ به، أو يصومُ كما تقدَّمَ ذكرُه قريبًا في فقهِ الآيةِ، وله أن يصومَ حيثُ شاءَ بالاتفاق؛ لأنه لا نفعَ فيه للمساكين. {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} جزاءَ معصيته، وأصلُ الوبالِ: الثقلُ. {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} قبلَ تحريمِ الصيدِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 248)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 203)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 238).

[96]

{وَمَنْ عَادَ} إلى ما نُهي عنه. {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} في الآخرةِ. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} مِمَّنْ أصرَّ على عصيانِه. ... {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}. [96] {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} كلُّ ما صِيدَ منه، والمراد بالبحرِ، جميعُ المياهِ. {وَطَعَامُهُ} المأكولُ منهُ. {مَتَاعًا} أي: تمتيعًا. {لَكُمْ} بأنْ تأكلوه طَرِيًّا. {وَلِلسَّيَّارَةِ} المارَّةِ؛ بأنْ يتزوَّدوهُ لأسفارِهِمْ، فكلُّ ما صِيدَ من البحرِ مما لا يعيشُ إلا في الماءِ حلالٌ عندَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في البحرِ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" (¬1)، ويحرمُ عندَ الشافعيِّ ما يعيشُ في برٍّ وبحرٍ؛ كضِفْدِعٍ، وسَرَطانٍ، وحيَّةٍ، ويحرمُ عندَ أحمدَ الضفدعُ، والحيَّةُ، والتمساحُ، ومالكٌ أباحَ جميعَهُ سواءٌ كانَ مِما له شبهٌ في ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (83)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، والنسائي (59)، كتاب: الطهارة، باب: ماء البحر، والترمذي (69)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في ماء البحر أنه طهور، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (386)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[97]

البرِّ، أو مما لا شبهَ لهُ، من غيرِ احتياجٍ إلى ذَكاةٍ، وسواءٌ تلفَ بنفسِه، أو بسبٍ، وتَوَقَّفَ في خنزيرِ الماءِ فقط، وقالَ أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يحلُّ مما في البحرِ إلَّا السمكُ. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} صيدُ البحرِ حلالٌ للمحرِم كغيرِه بالاتفاق، وأما صيدُ البرِّ، فحرامٌ على المحرِمِ، ويحرُمُ في الحرَمِ مطلَقًا بالاتفاق، والصيدُ: هو الحيوانُ الوحشيُّ الذي يحلُّ أكلُه، فلا يجوزُ للمحرِمِ أن يأكلَ مما صادَهُ، بالاتفاقِ، واختلفوا فيما اصطادَهُ الحلالُ لأجلِه، فقالَ الثلاثةُ: لا يجوزُ للمحرِم أكلُه، سواءٌ صِيدَ بعلمِهِ، أو بغيرِ علمِه، وقالَ أبو حنيفةَ: يجوزُ لهُ أكلُ ما صِيدَ له إِذا لم يكنْ قَدْ دَلَّ عليهِ، وأما إذا لم يُصَدْ لهُ، ولا من أجلِه، فيجوزُ أكلُه، بالاتفاقِ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تشديدٌ وتنبيهٌ عقبَ هذا التحليلِ والتحريمِ. ... {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}. [97] {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} سميت كعبةً؛ لتربيِعها، والعربُ تسمِّي كلَّ بيتٍ مربعٍ كعبةٍ. قرأ الكسائيُّ: (الكَعْبَةَ) بإمالة الباء حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيث. {قِيَامًا لِلنَّاسِ} قرأ ابنُ عامرٍ: (قِيَمًا) بغيرِ ألفٍ بعدَ الياء، والباقون:

[98]

بالألف؛ أي: قوامًا لهم في أمرِ دينهِم ودنياهم (¬1). {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي: الأشهرَ الحرمَ، وهي: ذو القعدةِ, وذو الحجَّةِ والمحرَّمُ، ورجبٌ. {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} تقدَّم تفسيرُهما في أولِ السورةِ. {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} قرأ أبو عمرٍو: (وَالْقَلاَئِد ذَّلِكَ) بإدغامِ الدالِ في الذال في هذا الحرفِ لا غيرُ. {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ} من مصالِحِكم، وجميعِ الوجودِ. {عَلِيمٌ} فتتقونَهُ. ... {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}. [98] {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عَصاهُ. {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن أَطاعَهُ. ... {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)}. [99] {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} التبليغُ، ليسَ له الهدايةُ والتوفيقُ. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي: تظهرونَهُ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 248)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (1/ 719)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 256)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 239).

[100]

{وَمَا تَكْتُمُونَ} أي: تسُرُّونَ وتُخفونَ من كفرٍ ونفاقٍ. ... {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}. [100] ونزل نهيًا للمسلمين عن الإيقاعِ بحجاجِ المشركينَ، وتقدمتِ القصةُ في أولِ السورةِ: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} أي: الحرامُ والحلالُ. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} فإنَّ المحمودَ القليلَ خيرٌ من المذمومِ الكثيرِ. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} ولا تتعرَّضُوا للحجَّاجِ، وإنْ كانوا مشركينَ. {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجينَ أن تبلُغوا الفلاحَ. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}. [101] ونزلَ تأديبًا للمؤمنينَ لما أكثروا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - السؤالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} أي: تظهرْ لكم، وتقدَّمَ التنبيهُ على اختلافِ القرَّاء في حكمِ الهمزتين من كلمتينِ عندَ قولِه: (وَالْبَغْضَاءَ إِلى)، وكذلكَ اختلافهم في (أَشْيَاءَ إِنْ).

[102]

{تَسُؤْكُمْ} إن أُمِرْتُم بالعملِ بها. {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} أي: التكاليفِ الضيقةِ. {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} أي: زمنَ الوحيِ. {تُبْدَ لَكُمْ} أي: تلكَ التكاليفُ التي تسؤكم، وتُؤْمروا بتحمُّلها. {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي: ما سَلَفَ من مسائِلِكم. {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} لا يُعاجِلُكُم بعقوبةِ ما يفرطُ منكُم. ... {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}. [102] {قَدْ سَأَلَهَا} الضميرُ للمسألة التي دلَّ عليها: (تسألوا). {قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} كما سألَتْ ثمودُ صالحًا الناقةَ، وسألَ قومُ عيسى المائدة. {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} فأُهلكوا. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ: (قَد سأَلهَا) بإدغام الدالِ في السين، والباقون: بالإظهار (¬1). ... {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)}. [103] {مَا جَعَلَ اللَّهُ} أي: ما شَرَعَ. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 205)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 203)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 240).

[104]

{مِنْ بَحِيرَةٍ} كانَ في الجاهليةِ إذا ولدَتِ الناقةُ خمسةَ أَبْطُنٍ، بَحَرُوا أُذُنَها؛ أي: شَقُّوها، وترُكَتْ، فلا تُركبُ، ولا تُحلبُ. {وَلَا سَائِبَةٍ} البعيرِ يُسَيَّبُ بِنَذْرٍ يكونُ على الرجلِ، فيكونُ بمنزلةِ البَحيرةِ. {وَلَا وَصِيلَةٍ} الشاةُ إذا ولدَتْ ذكرًا، كانَ لآلهتِهم، وإن ولدَتْ أنثى، فهي لهم، فإن ولدَتْ ذكرًا وأنثى، قالوا: وَصَلَتْ أَخاها، فلم تُذْبح للآلهة. {وَلَا حَامٍ} هو من رُكِبَ ولدُ ولدِه منَ البعيرِ، يقال: حَمَى ظهرَهُ، فلا يُركبُ. فمعنى الآية: الردُّ والإِنكار لما ابتدعَهُ أهلُ الجاهلية. رُوِيَ عن قنبلٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياءِ على (حَامِي) (¬1). {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بتحريمِهم ما حَرَّموا. {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبةِ ذلكَ إليهِ. {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الحلالَ من الحرامِ، لكنَّهم يقلِّدونَ كبارَهم. ... {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}. [104] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} في تحليلِ الحرثِ والأنعامِ، وبيانِ الشرائعِ والأحكامِ. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 205)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 241).

[105]

{قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} المعنى: إذا دُعِيَ الكفارُ إلى الإيمانِ، قالوا: كافِينا دينُ آبائِنا. {أَوَلَوْ} واوُ الحالِ دخلَتْ عليها همزةُ الإنكارِ، وتقديرُه: أَحَسْبُهُمْ دينُ آبائِهِمْ ولو. {كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا} من التوحيد. {وَلَا يَهْتَدُونَ} إليه. المعنى: لا يجوزُ الاقتداء إلا بالعالمِ المهتدي. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}. [105] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي: الزموا صلاحَ أنفسِكم. {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وليسَتْ هذهِ الآيةُ نازلةً في تركِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ؛ لما رُوي أن أبا بكرٍ الصديقَ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنَّ النَاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعَذَابِهِ" (¬1)، وعنِ ابنِ مسعودِ في هذهِ الآية: "مُرُوا بالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4338)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، والترمذي (2168)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، وقال: صحيح، وابن ماجه (4005)، كتاب: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1227)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7552).

[106]

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} جميعًا، الضالُّ والمهتدي. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وعدٌ ووعيدٌ للفريقين، وتنبيهٌ على أن أحدًا لا يؤاخَذُ بذنبِ غيرِه. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)}. [106] ولما سافرَ تميمُ بنُ أوسٍ الداريُّ، وعَدِيُّ بنُ بَدَّاءَ إلى الشامِ، وهما نصرانيانِ، ومعهما بُدَيْلٌ مولى عمرِو بنِ العاصِ، وكانَ مسلِمًا، فلما قَدِموا الشامَ، مرضَ بديلٌ، فكتبَ كتابًا فيه جميعُ ما معه، وألقاه في متاعِه، ولم يخبرْ صاحبيهِ، فلما اشتدَّ وجعُه، أمرَهما أن يدفَعا متاعَه إذا رجَعا إلى أهلِهِ، وماتَ بديلٌ، ففتشا متاعَه، فأخذا منهُ إناءً من فِضَّةٍ منقوشًا بالذهبِ فيه ثلاثُ مئةِ مثقالٍ فضةً، فَغَيَّباهُ، ثم قَضيا حاجَتَهما، وانصرَفا إلى المدينةِ، فدفعا المتاعَ إلى أهلِ الميت، ففتشوا، وأصابوا الصحيفةَ فيها تسميةُ ما كانَ معه، فجاؤوا تميمًا وعديًّا، فقالوا: هل باعَ صاحبُنا شيئًا من متاعِه؟ قالا: لا، قالوا: فهل اتَّجَرَ تِجارةً؟ قالا: لا، قالوا: فهل طالَ مرضُه فأنفقَ على نفسِه؟ قالا: لا، قالوا: إنا وجدْنا في متاعِه صحيفةً فيها تسميةُ ما معه، وإِنا فقدنا منها إناءً من فضةٍ مموهًا بالذهب، فيه ثلاثُ مئةِ مثقالٍ فضةً، فجحدا، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأصرَّا على الإنكار، فأنزل الله تعالى:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (¬1) أي: فيما أُمرتم شهادةُ بينِكم، والمرادُ بالشهادة: الإشهادُ. {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ} وإذا شارَفَهُ فظهَرَتْ أمارتُهُ. {الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} أي: ليشهدِ اثنانِ على الوصية. {ذَوَا عَدْلٍ} أي: أمانةٍ وعقلٍ. {مِنْكُمْ} أي: من أهلِ دينِكم يا معشرَ المؤمنين. {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أو من غيرِ دينِكم ومِلَّتِكُمْ. {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} سافرتُم فيها. {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي: قاربتم الأجلَ. {تَحْبِسُونَهُمَا} أي: تستَوقفونهما. {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} أي: صلاةِ العصرِ؛ لأنَّ جميعَ أهلِ الأديانِ يعظِّمونَ ذلك الوقتَ، ويتجنبونَ فيه الحلفَ الكاذبَ. {فَيُقْسِمَانِ} يَحْلِفانِ. {بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي: شَكَكْتُم، ووقعتَ لكم الريبةُ في قولِ الشاهدينِ وصدِقهما اللَّذينِ ليسا من أهلِ ملَّتِكم، فإن كانا مسلمينِ، فلا يمينَ عليهما بالاتفاق. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2628)، كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ..} , عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 117).

[107]

{لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} لا نحلفُ باللهِ كاذبينِ على عوضٍ نأخذُه، أو مالِ نذهبُ به، أو حقٍّ نجحدُه. {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ولو كانَ المشهودُ له ذا قرابةٍ مِنَّا. {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} وأضيفتِ الشهادةُ إلى اللهِ تعالى لأمرِه بها. وقرأ يعقوبُ: (شَهَادَةً) بالتنوين (آللهِ) ممدودٌ، جُعل الاستفهامُ عوضًا عن حرفِ القسمِ، ورُويَ عن أبي جعفرٍ: (شَهَادَةً) منونة (أَللهِ) بقطعِ الألفِ وكسر الهاءِ من غيرِ استفهامٍ على ابتداءِ اليمين؛ أي: واللهِ (¬1). {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} إنْ كتمناها، فلما نزلَتْ هذه الآيةُ، صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - العصرَ، ودَعا تميمًا وعَدِيًّا، فاستحْلَفَهُما عندَ المنبرِ باللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هوَ أنهما لم يختانا شيئًا مما دُفِعَ إليهِما، فحلَفا على ذلك، وخلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سبيلَهما. ... {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)}. [107] ثم ظهرَ الإناءُ، واختلفوا في كيفيةِ ظهورِه، فرُوي عن ابنِ عباسٍ: "أنه وُجدَ بمكةَ، فقالوا: اشتريناهُ من تميمٍ وعَدِيٍّ"، وقال آخرونَ: لما طالتِ المدةُ، أظهراهُ، فبلغَ ذلكَ بني سهم، فأتوهما في ذلك، فقالا: إنا كنا قد اشترينا منهُ هذا، فقالوا: ألم تزعما أنَّ صاحبَنا لم يبعْ شيئًا من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 727).

متاعِه؟! قالا: لم يكنْ عندَنا بينةٌ، وكرهنا أن نقرَّ لكم به، فكتمْنا ذلك، فرفعوهما إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل: {فَإِنْ عُثِرَ} (¬1) اطُلِعَ، وأصلُ العَثْرَةِ: الوقوعُ على الشيءِ. {عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي: فَعَلا ما أوجبَ إِثمًا بخيانتِهما وبأيمانِهما الكاذِبة. {فَآخَرَانِ} من أولياءِ الميتِ. {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي: مقامَ اللَّذَيْنِ خانا. {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} أي: استحقَّ فيهم ولأجلهم الإثمُ، وهم ورثةُ الميتِ، استحق الحالفانِ بسببهما الإثمَ، و (على) بمعنى (في). قرأ حفصٌ: (اسْتَحَقَّ) بفتح التاء والحاء، وقراءة العامة: بضمِّ التاءِ على المجهولِ و (الأَوْلَيَانِ) تثنيةُ الأَوْلى، والأَوْلى هو الأقربُ؛ أي: الأحقُّ بالشهادةِ؛ لقرابتِه ومعرفتِه، وقرأ حمزةُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، ويعقوبُ (الأَوَّلِينَ) بالجمعِ، فيكونُ بدلًا من (الذين) (¬2)، والمرادُ منهم: أولياءُ الميتِ، ومعنى الآيةِ على القراءاتِ كلِّها: إذا ظهرتْ خيانةُ الحالِفَيْنِ يقومُ اثنانِ آخرانِ من أقاربِ الميتِ. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي: يمينُنا أحقُّ من ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 728)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 221 - 222). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 248)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (1/ 728)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 256)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 203)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 243 - 244).

[108]

يمينِهما؛ كقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]؛ أي: يمينُه. {وَمَا اعْتَدَيْنَا} في قولنا: إنَّ شهادتَنا أحقُّ من شهادتِهما. {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إنْ كُنَّا حلفْنا على باطلٍ، وأخذنا ما ليسَ لنا، فلما نزلَتِ الآيةُ، قام عمرُو بنُ العاصِ، والمطَّلِبُ بنُ أبي وداعةَ السَّهميانِ، فحلفا باللهِ بعدَ صلاةِ العصرِ، ودُفِعَ الإناءُ إليهِما وإلى أولياءَ الميتِ، فكانَ تميمٌ الداريُّ بعدما أسلمَ يقولُ: صدقَ اللهُ ورسولُه، أنا أخذتُ الإناءِ، فأتوبُ إلى اللهِ وأستغفرُه. ... {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}. [108] {ذَلِكَ} الحكمُ الذي تقدَّمَ. {أَدْنَى} أقربُ. {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} على نحوِ ما تحمَّلُوها من غيرِ تحريفٍ وخيانة فيها. {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أن تردَّ اليمينُ على المدَّعِينَ بعدَ أيمانِهم فيفضَحُوا بظهورِ الخيانةِ، واليمينِ، وإنَّما جُمعَ الضميرُ؛ لأنه حكمٌ يَعُمُّ الشهودَ كلَّهم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} سماعَ قَبولٍ. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} إلى طريقِ الجنةِ. واختلِفَ في حكمِ الآية، فقالَ قومٌ: هو منسوخٌ، ولا تُقبلُ شهادةُ الذميِّ

[109]

على مسلمٍ، وإِنما جازتْ أولَ الإسلامِ؛ لقلةِ المسلمينَ، ثم نُسختْ بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وإليه ذهبَ أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ رضي الله عنهم، وقالَ قومٌ: حكمُها ثابتٌ، وقضى به أبو موسى الأشعريُّ بالكوفةِ بعدَ وفاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعملَ بهِ القاضي شُرَيْحٌ، وإليه ذهبَ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه، واستدلَّ بالآيةِ على جوازِ قبولِ شهادةِ أهلِ الكتابِ الرجالِ في الوصيةِ في السفرِ إذا لم يوجَدْ غيرُهم، وحضرَ الموصيَ الموتُ، مسلمًا كانَ أو كافرًا، ويحلِّفُهما الحاكمُ بعدَ العصرِ وُجوبًا: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} وإِنها لوصيةُ الرجلِ، فإنِ اطُّلِعَ على خيانتِهما، قامَ آخرَانِ من أولياءِ الموصي، فحلَفا باللهِ: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ولقدْ خانا وكَتَما، ويقضى لهم، والله أعلمُ. ... {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}. [109] {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} هو يومُ القيامةِ ظرفًا ليهدي؛ أي: لا يَهْديهم إلى الجنةِ يومئذٍ. {فَيَقُولُ} لهم. {مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي: ما الذي أجابَتكم به أمَمُكم حينَ دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي؟ وهذا السؤالُ للأنبياءِ الرُسلِ إنما هو لتقومَ الحجَّةُ على الأمم.

[110]

{قَالُوا} أي: فيقولون. {لَا عِلْمَ لَنَا} قال ابن عباس: "معناه: {لَا عِلْمَ لَنَا} إلا علم أنتَ أعلمُ بهِ مِنَّا" (¬1). {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} فتعلمُ ما نعلمُ مما أجابونا وأظهروا لنا، وما لم نعلمْ مما أضمَرُوا في قلوبِهم. قرأ حمزةُ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (الْغِيُوبِ) بكسر الغين حيثُ وقعَ، وضَمَّها الباقون (¬2). ... {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}. [110] {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} هذا من صفةِ يومِ القيامة؛ كأنه قالَ: اذكرْ يومَ يجمعُ اللهُ الرسلَ، وإذْ يقولُ اللهُ لعيسى، وذكرُ النعمةِ: شكرُها، والمرادُ: النعمُ، لفظُه واحدٌ، ومعناه جمعٌ. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1236). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 101)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 205)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 155، 203)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 245).

{وَعَلَى وَالِدَتِكَ} مريمَ، ثم ذكرَ النعمَ فقال: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعني: جبريلَ عليه السلام. {تُكَلِّمُ} يعني: وتكلِّمُ. {النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} صَبِيًّا. {وَكَهْلًا} نَبِيًّا، قالَ ابنُ عباسٍ: "أرسلَه اللهُ وهو ابنُ ثلاثينَ سنةً، فمكثَ في رسالتِه ثلاثينَ شهرًا، ثم رفعَهُ اللهُ إليه" (¬1). {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} يعني: الخَطَّ. {وَالْحِكْمَةَ} يعني: العلمَ. {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ} كصورةِ. {الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا} حَيًّا يطيرُ. {بِإِذْنِي} وتقدَّمَ اختلافُ القراءِ في (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) و (طَيْرًا) في سورةِ آلِ عمرانَ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} وكذلكَ اختلافُهم هاهنا. {وَأُبْرِئُ} تُصَحِّحُ. {الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} من قبورِهِمْ أحياءً. {بِإِذْنِي} وتقدَّم تفسيرُه في سورةِ آل عمران. {وَإِذْ كَفَفْتُ} منعتُ. {بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني: اليهودَ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 730).

[111]

{عَنْكَ} حينَ هَمُّوا بقتلِك. {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الدَّلالاتِ المعجزاتِ، وهي التي ذكرنا. {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا} يعني: ما جاءكُم به من البيناتِ. {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: سَاحِرٌ بعد السينِ، فيكونُ راجعا إلى عيسى عليه السلام (¬1). ... {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}. [111] {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} أي: ألْهَمْتُهُم، وهم (¬2) خواصُّ أصحابِ عيسى عليه السلام، وتقدَّمَ ذكرُهم في سورةِ آلِ عمرانَ. قرأ ابنُ ذكوانَ عنِ ابنِ عامرٍ بخلافٍ عنه: (الْحَوَارِيِّينَ) بالإمالة. {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} عيسى. {قَالُوا آمَنَّا} حينَ وَفَّقْتُهم. {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} مخلِصونَ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 249)، و"التيسير" للداني (ص: 101)، و"تفسير البغوي" (1/ 730 - 731)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 247). (¬2) في "ن" و"ت": "وهو".

[112]

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)}. [112] {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} والمائدةُ: الخوانُ الذي عليه الطَّعامُ. قرأ الكسائيُّ: (هَل تَّسْتَطِيعُ) بالتاء وإدغام لام (هَلْ) (رَبَّكَ) بنصبِ الباء؛ أي: هل تستطيعُ أن تدعُوَ وتسألَ ربَّكَ، وقرأ الباقون: (يَسْتَطِيعُ) بالياء (رَبُّكَ) برفعِ الباء (¬1)، ولم يقولوه شاكِّينَ في قدرةِ الله تعالى، ولكن معناهُ: هل يُنْزِلُ أم لا؟ {قَالَ} لهم عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ} في أمثالِ هَذَا السؤالِ. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بكمالِ قدرته، وصِحَّةِ نبوَّتي. ... {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)}. [113] {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} أكلَ تبرُّكٍ لا أكلَ حاجةٍ. {وَتَطْمَئِنَّ} تسكنَ. {قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي: نزدادَ إيمانًا ويقينًا بأنَّكَ رسولُ الله. {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} للهِ بالوحدانيةِ والقدرةِ، ولكَ بالنبوةِ والرسالةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 249)، و"التيسير" للداني (ص: 101)، و"تفسير البغوي" (1/ 731)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 247).

[114]

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)}. [114] {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا} أي: يكونُ يومُ نزولِها عيدًا نُعَظِّمُهُ. {لِأَوَّلِنَا} لمن في زمانِنا. {وَآخِرِنَا} لمن يأتي بعدَنا، قالوا: نزلَتْ يومَ الأحدِ، فلذلكَ اتَّخَذَهُ النصارى عيدًا. {وَآيَةً مِنْكَ} دلالةً وحجَّةُ. {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي: خيرُ مَنْ أَعْطى ورَزَقَ. ... {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}. [115] {قَالَ اللَّهُ} مُجيبًا لعيسى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} يعني: المائدة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ: (مُنَزِّلُهَا) بالتشديد؛ لأنَّها نزلَتْ مراتٍ، والتَّفعيلُ يدلُّ على التدبيرِ مرةً بعدَ أخرى، وقرأ الباقون: بالتخفيف؛ لقوله: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا} (¬1). {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} أي: بعدَ نزولِها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 250)، و"التيسير" للداني (ص: 101)، و"تفسير البغوي" (1/ 732)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 249).

{فَإِنِّي} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (فَإِنِّي) بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {أُعَذِّبُهُ عَذَابًا} أي: جنسَ عذابٍ. {لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يعني عالَمي زمانِهم، والصحيحُ أنها نزلَتْ، رُوي أن عيسى عليه السلام لما سألوه نزولَ المائدةِ، لبسَ صوفًا وتضرَّعَ وبكى، وقالَ: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} الآية، فنزلَتْ سفرةٌ حمراءُ بينَ غَمامتينِ من فوقِها وتحتِها، وهم ينظرونَ، وهي تهوي مُنْقَضَّةً حتى سقطَتْ بينَ أيديهم، فبكى عيسى، وقالَ: اللهمَّ اجعلْني منَ الشاكرين، اللهمَّ اجعلْها رحمةً، ولا تجعلْها عقوبة، فقالَ عيسى: لِيَقُمْ أحسنكم عملًا فَلْيَكْشِفْ عنها، ويذكرِ اسمَ اللهِ تعالى، فقالَ شمعونُ رأسُ الحواريين: أنتَ أولى بذلك، فقامَ عيسى فصلَّى وبكى طويلًا، ثم كشفَ المنديلَ عنها، وقال: باسمِ اللهِ خيرِ الرازقينَ، فإذا هو بسمكةٍ ليسَ عليها فُلوسُها، تسيلُ دسمًا، عندَ رأسِها ملحٌ، وعندَ ذَنَبِها خَلٌّ، وحولَها من جميعِ ألوانِ البقولِ ما خلا الكُرَّاثَ، وخمسةُ أرغفةٍ على واحدٍ زيتونٌ، وواحد عسلٌ، وواحد سمنٌ، وواحد جبنٌ، وواحد قديدٌ، فقالَ شمعونُ: أمن طعامٍ الدُّنيا أمْ منْ طعامِ الآخرة؟ فقال عيسى: ليسَ منهُما، ولكنه شيءٌ افتعلهُ اللهُ بالقدرةِ الغالبةِ، كلوا مما سألتُم يُمْدِدْكم ربكم، فقالوا: كنْ أولَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 250)، و"التيسير" للداني (ص: 101)، و"تفسير البغوي" (2/ 256)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 256)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 204)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 249).

آكلٍ منها، فقال: معاذَ اللهِ أن آكلَ، لكنْ يأكلُ منها مَنْ سألها، فخافوا فلم يأكلوا، فأطعمَها أهلَ الفاقةِ، وكانوا أكثرَ من ألفٍ، فيهم المرضى والفقراءُ، فأكلوا حتى شبعوا، وإِذا هي كهيئتها حينَ نزلَتْ، ثم طارتْ وما أكل منها فقيرٌ إلا استغنى، ولا مريضٌ إلا عوفيَ، [وكانتْ تنزلُ ضحًى، فيأكلُ منها الأغنياءُ والفقراءُ، فإذا فاءَ الفيءُ، طارتْ] (¬1)، وكانت تنزلُ يومًا وتغيبُ يومًا كناقةِ ثمودَ، ترعى يومًا، وتَرِدُ يومًا، فلبثت كذلكَ أربعينَ صباحًا، وأوحى الله إليه أنِ اجعلْ رزقي في الفقراءِ دونَ الأغنياءِ، ففعلَ، فعظُمَ على الأغنياءِ، وأذاعوا القبيحَ حتى شَكُّوا وشَكَّكوا فيهِ الناسَ، فوقعتْ فيه الفتنةُ في قلوبِ المرتدِّينَ، ثم أوحى الله إلى عيسى أني آخِذٌ بشرطي من المكذِّبينَ، قد اشترطتُ عليهم أَنّي معذبُ من كفرَ منهم عذابًا لا أُعذِّبُه أحدًا من العالمينَ بعدَ نزولِها، فقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَمُسخ منهم ثلاثُ مئةٍ وثلاثونَ رجلًا، باتوا من ليلتِهم على فُرُشِهم معَ نسائِهم، فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْنَ في الطرقاتِ، ويأكلونَ العَذِراتِ، فلما رأى الناسُ ذلكَ، فزعوا إلى عيسى، وبَكَوا، فلما أبصرتِ الخنازيرُ عيسى، بكَتْ وجعلَتْ تُطيف بعيسى، وجعلَ عيسى يدعوهُم بأسمائِهم، فيشيرونَ برؤوسِهم ويبكونَ، ولا يقدرونَ على الكلام، قال الله تعالى لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} [الرعد: 6]، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78]، فسألَ ¬

_ (¬1) من قوله: "وكانت تنزل ضحىً ... " إلى قوله: "طارت" ساقط من "ن".

[116]

عيسى ربَّهُ أَنْ يُميتهُم، فأماتهم بعدَ ثلاثةِ أيام، فما رأى أحدٌ من الناسِ منهم جيفةً في الأرضِ (¬1). ... {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)}. [116] {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي} أي: صَيِّروني. {وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} والصحيحُ أنَّ هذا القولَ إنَّما يُقالُ له يومَ القيامةِ، بدليلِ قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109]؛ لأن هذا استفهامُ توبيخٍ وإثباتِ الحجةِ على قوم عيسى؛ لأنه تعالى عالم أَنَّ عيسى لم يقلْ ذلكَ، وتقدَّمَ اختلافُ القُرَّاءِ في حكمِ الهمزتينِ من كلمةٍ في سورةِ البقرةِ عندَ قوله تعالى: {أَأَنْذَرْتَهُمْ}، وكذلك اختلافُهم في (أَأَنْتَ). قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (وَأُمِّي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (¬2)، قالوا: فإذا سمعَ عيسى هذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 734). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 250)، و"التيسير" للداني (ص: 101)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 256)، و "معجم القراءات القرآنية" (2/ 250).

[117]

الخطابَ، أرعدَتْ مفاصلُهُ، وانفجرت من أصلِ كلِّ شعرةٍ عينُ دمٍ، ثم {قَالَ} منزِّهًا مبرهنًا عن نفسِه: {سُبْحَانَكَ} تنزيهًا لك عن الشريك. {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي: ما ينبغي لي قولُ ما لم يثبتْ لي قولُه. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (لِي) بإسكانِ الياءِ: والباقون: بفتحها (¬1). {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: تعلمُ معلومي، ولا أعلمُ معلومَك. {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ما كانَ وما يكون. ... {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}. [117] {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} ثم فَسَّرَ ما أُمِرَ بهِ فقالَ: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وَحِّدُوهُ، ولا تشركوا بهِ شيئًا. {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} رَقيبًا أَمنعُهم من الكفرِ. {مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي: وقتَ دوامي فيهم. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} قَبَضْتَني إليكَ. ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة.

[118]

{كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} تحفظُ أعمالَهم. {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} من مقالَتي ومقالَتِهم. ... {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}. [118] {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} لا اعتراضَ عليكَ، وفيه تنبيهٌ على أنهم استحقُّوا التعذيبَ. {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} أي: للمؤمنين منهم. {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} في الملكِ. {الْحَكِيمُ} في القضاءِ، معناه: إن تعذِّبْ، فعدلٌ، وإن تغفرْ، ففضلٌ. ... {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}. [119] {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ} قرأ الجميعُ سوى نافعٍ: (يَوْمٌ) برفعِ الميم على خبرِ (هذا)، وقرأ نافع: بنصبِ الميم ظرفًا لخبر (هَذا) (¬1)، وهو محذوفٌ تقديرُه: هذا المذكورُ من كلامِ عيسى يقعُ يومَ. {يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ} في الدنيا. {صِدْقُهُمْ} في الآخرةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 250)، و"التيسير" للداني (ص: 101) و"تفسير البغوي" (1/ 737)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 256)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 216).

[120]

{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت غرفِها وأشجارِها. {الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ} أي: الظَّفَرُ. {الْعَظِيمُ} الذي عَظُمَ خيرُه وكَثُرَ. ... {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}. [120] ثم عَظَّمَ نفسَه تعالى فقالَ: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تنبيهٌ على كذبِ النصارى، وفسادِ دعواهُم في المسيح أنَّه إلهٌ، فأخبرَ تعالى أنَّ ملكَ السمواتِ والأرضِ له دون عيسى، ودونَ سائرِ المخلوقين، والله أعلم. ***

سورة الأنعام

سُوْرَةُ الأَنْعَامِ مكيةٌ، وآيُها مئةٌ وخمسٌ وستونَ آيةً، وحروفُها اثنا عشرَ ألفًا وأربعُ مئةٍ واثنانِ وعشرونَ حرفًا، وكَلِمُها ثلاثةُ آلافٍ واثنتانِ وخمسونَ كلمةً، نزلتْ ليلًا جملةً، حولها سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يُسَبِّحون، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وخرَّ ساجدًا" (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَنْعَامِ لَمْ يَقْطَعْهَا بِكَلاَمٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ ما سَلَفَ مِنْ عَمَلٍ" (¬2). وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنه: "نزلَتْ سورةُ الأنعامِ بمكَّةَ، إلا قولَه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى آخرِ ثلاثِ آياتٍ، وقولَه تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهذه الستُّ آياتٍ مدنياتٌ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6447)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2433)، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. وفي الباب: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 450)، و"الفتح السماوي" للمناوي (2/ 628). (¬2) ذكره العيني في "عمدة القاري" (18/ 218)، وعزاه إلى أبي القاسم عبد المحسن القيسي في كتاب "الفائق في اللفظ الرائق". (¬3) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 244).

[1]

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)}. [1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بدأ سبحانهَ بحمدِ نفسِه تنبيهًا على أنَّ الحمدَ كلَّه لهُ، لا شريكَ له فيه، وتقدَّمَ تفسيرهُ في الفاتحة. {الَّذِي خَلَقَ} أي: اخترعَ وأوجدَ. {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} خَصَّهما بالذِّكْرِ؛ لأنهما أعظمُ الموجودات، وجمعَ السمواتِ لأنها سبعُ طباق، ووَحَّدَ الأرضَ لاتِّصالِ بعضِها ببعضٍ طولًا وعرضًا. {وَجَعَلَ} أي: وخلقَ. {الظُّلُمَاتِ} الكفرَ. {وَالنُّورَ} الإيمانَ، وجمعَ الظلمةَ ووَحَّدَ النورَ؛ لأن التوحيدَ متحدٌ، والكفرَ مِلَلٌ، وهما كنايتان عنهما، وقالَ الجمهورُ من المفسرين: المرادُ بهما سوادُ الليلِ وضياء النهارِ، قال ابنُ عطيةَ: والنورُ هنا للجنسِ فإفرادُهُ بمثابةِ جمعِهِ (¬1). {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بعدَ هذا البيان. {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} يُساوونَ بينهَ وبينَ أصنامهم، وأصلُ العدلِ: المساواةُ، وعن كعبٍ قالَ: "فاتحةُ التوراةِ فاتحةُ الأنعامِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (2/ 266).

[2]

{يَعْدِلُونَ} وخاتمةُ التوراةِ خاتمةُ هودٍ {بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ} (¬1) [هود: 123]. ... {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)}. [2] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} يعني: آدم عليه السلام، والخلقُ نسلُه، والفرعُ يضافُ إلى أصلِه، فلذلكَ خاطبَهم بالجمعِ إذ كانوا ولدَه، رُوي: "أن الله عز وجل بعثَ جبريلَ إلى الأرضِ ليأتيَهُ بطائفة منها، فقالتِ الأرضُ: إني أعوذُ باللهِ منكَ أن تنقصَ مني، فرجعَ ولم يأخذْ، قالَ: يا ربِّ! إنها عاذَتْ بك، فبعثَ ميكائيلَ فاستعاذَتْ، فرجعَ، فبعثَ اللهُ مَلَكَ الموتِ، فعاذَتْ منه بالله، فقال: وأنا أعوذُ باللهِ أن أخالفَ أمرَهُ، فأخذَ من وجهِ الأرضِ، فخلطَ الحمراءَ والسوداءَ والبيضاءَ، فلذلكَ اختلفَت ألوانُ بني آدمَ، ثم عجنَها بالماءِ العذبِ والملحِ والمرِّ، فلذا اختلفتْ أخلاقُهم، فقال اللهُ لملكِ الموت: رحمَ جبريلُ وميكائيلُ الأرضَ ولم ترحَمْها، لا جرمَ أجعل أرواحَ من أخلُقُ من هذا الطين بيدِكَ" (¬2). وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: "خلقَ اللهُ آدمَ من ترابٍ، وجعلَه طينًا، ثم تركَهُ حتى كانَ حمأً مسنونًا، ثم خلقَهُ وصَوَّرَهُ وتركَهُ حتى كانَ ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (30274)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 378)، وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 493). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 6).

[3]

صلْصالًا كالفَخَّارِ، ثم نَفَخَ فيهِ روحَه" (¬1). {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} أي: قدَّرَ مدةً إلى الموتِ. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} من الموتِ إلى البعثِ، وهو البرزَخُ. {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} تشُكُّونَ في البعثِ لاستبعادِ الإيمانِ بعدَ نصبِ الدلائلِ. ... {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}. [3] {وَهُوَ اللَّهُ} المعبودُ. {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} المستحقُّ للعبادةِ، والمدُعوُّ بالألوهِيَّةِ. {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} فلا يخفى عليه شيءٌ. {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} تعملونَ من خيرٍ وشرٍّ، فيُثيبُ عليه، ويعاقِبُ. ... {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)}. [4] {وَمَا تَأْتِيهِمْ} يعني: أهلَ مكةَ. {مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} كانشقاقِ القمرِ وآيِ القرآنِ. {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} تارِكينَ لها غيرَ ملتفتينَ إليها. ... ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى في "مسنده" (6580).

[5]

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)}. [5] {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} يعني: القرآنَ. {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ} أخبارُ، جمعُ نبأ. {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: سيعلمونَ عاقبةَ استهزائِهم إذا عُذِّبوا. ... {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)}. [6] {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أهلِ كلِّ عصرٍ، وهم الجماعةُ المقترنون في زمانٍ واحدٍ. {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} أعطيناهم ما لم نُعْطِكُم. {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ} أي: المطرَ. {مِدْرَارًا} أي: دارًا. {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} أي: تحثَ بساتينهم، فكفروا. {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا} خَلَقْنا. {مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} بَدَلًا منهم. ***

[7]

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}. [7] ولما قيلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لن نؤمنَ لكَ حتى تأتِيَنا بكتابٍ من عندِ اللهِ، ومعه أربعةٌ من الملائكةِ يشهدونَ عليه أنَّه من عندِ اللهِ، وأنَّك رسولُه، أنزلَ اللهُ تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} (¬1) أي: مكتوبًا في صحيفةٍ. {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ولم يقتصروا على الرؤية؛ لأن اللمسَ أنفى للشكِّ. {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} تَعَنُّتًا وعِنادًا. ... {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)}. [8] {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ} أي: هلا أُنزل على محمدٍ. {مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} لوجبَ العذابُ؛ فإنَّ سنةَ اللهِ جَرَتْ في الكفارِ بإهلاكهم عندَ وجودِ ما يقترحونَ. {ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} لا يُمْهَلون طرفةَ عينٍ. ... {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 9).

[9]

[9] {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} أي: المرسَلَ إليهم. {مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} أي: على صورةِ رجلٍ؛ ليتمكَّنوا من رؤيتِه؛ لأن البشرَ يضعُفونَ عن مشاهدةِ الملائكِة. {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي: خَلَطْنا عليهم ما يخلِطون، وشَبَّهْنا عليهم، فلا يدرون أملكٌ هو أم آدميُّ؟! ... {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)}. [10] ثم قال مسليًّا نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} كما استُهْزئ بكَ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَقَدُ اسْتُهْزِىَ) بضم الدال حيثُ وقع، وأبو جعفرٍ: بنصب الياءِ بغيرِ همزٍ (¬1). {فَحَاقَ} أحاطَ. {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: جزاءُ استهزائهم من العذابِ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 206)، و "إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 137)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 153، 205)، و"معجم القراءات القرآنيِة" (2/ 256).

[11]

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}. [11] {قُلْ} يا محمدُ لهؤلاءِ المستهزئينَ: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} معتبرينَ. {ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} الهالِكين قبلَكُم. ... {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}. [12] {قُلْ} يا محمدُ توبيخًا للكفارِ: {لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإن سكتوا، كانت تقريرًا لهم. {قُلْ لِلَّهِ} ثم قالَ استعطافًا لهم ليؤمنوا: {كَتَبَ} أي: أوجبَ. {عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فلا يعاجلُهم بالعقوبةِ، في الحديثِ: "إنَّ رَحْمَتِي سَبقَتْ غَضَبِي" (¬1). {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} اللامُ لامُ القسم، والنونُ نونُ التوكيدِ، مجازهُ: واللهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6986)، كتاب: التوحيد، باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، ومسلم (2751)، كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[13]

{إِلَى} أي: في. {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فيجازيكُم على شِرْكِكُم. {لَا رَيْبَ فِيهِ} لا شكَّ فيه. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} غَبَنُوها؛ لاختيارِهم الكفرَ. {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لأنهم محكومٌ عليهم بالعذابِ. ... {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}. [13] {وَلَهُ مَا سَكَنَ} أي: ما استقرَّ. {فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} والمراد: ما سَكَنَ وما تحرَّكَ. {وَهُوَ السَّمِيعُ} لكلِّ مسموعٍ. {الْعَلِيمُ} لكلِّ معلومٍ. ... {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)}. [14] ولما دُعِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الشركِ، قالَ تعالى: {قُلْ} يا محمدُ. {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} رَبًّا ومعبودًا. {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مبدعِهِما بلا مثالٍ. {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أي: يرزقُ ولا يُرْزَقُ.

[15]

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} من هذهِ الأمةِ، وقيلَ لي: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}. [15] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} بعبادةِ غيرِه. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني: يومَ القيامة. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (¬2). ... {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}. [16] {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} يعني: العذابَ. قرأ نافع، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يُصْرَفْ) بضمِّ الياءِ وفتحِ الراء، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (مَنْ يَصْرِفْ) بفتح الياء وكسر الراء (¬3)؛ أي: من يصرفِ اللهُ عنهُ العذابَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 275)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 267)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 206)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 257 - 258). (¬2) انظر: المصادر السابقة. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 254)، و"التيسير" للداني (ص: 101)، =

[17]

{يَوْمَئِذٍ} يعني: يومَ القيامة. {فَقَدْ رَحِمَهُ} نَجَّاهُ وأنعمَ عليهِ. {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} النجاةُ الظاهرةُ. ... {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}. [17] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} أي: يُنْزِلْ بكَ يا محمدُ شدةً وبليةً. {فَلَا كَاشِفَ} لا دافعَ. {لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} عافيةٍ ونعمةٍ. {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من الخير والضرِّ. ... {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)}. [18] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} القادرُ الغالبُ، والمرادُ بفَوْقَ: علوُّ القدرةِ والشأنِ؛ كقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]. {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في أمرِه. {الْخَبِيرُ} بالعبادِ. ... ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 12)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 258).

[19]

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}. [19] ولما أتى أهلُ مكةَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أَرِنا مَنْ يشهدُ بصدقِكَ، فإنا لا نَرى أحدًا يصدِّقُكَ. {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أي: أيُّ شهيدٍ أعظمُ شهادةً؟ فإن أجابوك، وإلا. {قُلِ اللَّهُ} هو. {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهدُ لي بالحقِّ، وعليكم بالباطلِ؛ لأنه سبحانه إذا كانَ الشهيدَ، كانَ أكبرَ شيءٍ شهادةً. {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ} لأخوِّفَكُم. {بِهِ} يا أهلَ مكةَ. {وَمَنْ بَلَغَ} أي: ومن بلَغَهُ القرآنُ إلى يومِ القيامةِ، وهو دليلٌ على أنَّ أحكامَ القرآنِ تعمُّ الموجودينَ وقتَ نزولِه ومَنْ بعدَهم، وأنه لا يُؤاخَذُ بها من لم يبلغْهُ، ثم استفهمَ مُوَبِّخًا فقالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} فإن شهدوا، فأنت. {قُلْ لَا أَشْهَدُ} مثلَ شهادتِكم. {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: بل أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا هوَ. {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} يعني: الأصنامَ. واختلفَ القراءُ في (أَئِنَّكُمْ) فقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ورُوَيْسٌ عن يعقوبَ: بتحقيقِ الهمزةِ الأولى، وتسهيلِ الثانيةِ بينَ بينَ؛ أي: بينَ الهمزةِ والياء،

[20]

وفصلَ بينَ الهمزتين بألفٍ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وقالونُ، واختلِفَ عن هشام، وقرأ الكوفيونَ، وابنُ عامرٍ، وروحٌ عن يعقوبَ: بتحقيقِ الهمزتين (¬1). ... {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}. [20] {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني: التوراةَ والإنجيلَ. {يَعْرِفُونَهُ} أي: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} من الصبيانِ. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} غَبَنوها. {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لتضييعِهم ما يُكتسَبُ به الإيمانُ. ... {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}. [21] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} الافتراءَ العظيمَ من الكذِب. {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فأشركَ به غيرَه. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} يعني: القرآن. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 206)، و"تفسير القرطبي" (6/ 400)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (4/ 92)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 206)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 259).

[22]

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فضلًا ممن لا أحدَ أظلمُ منه. ... {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)}. [22] {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} مَنْ عَبَدَ ومَنْ عُبِدَ. {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} آلهتُكم. {الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم شركاءُ الله، فيشفعوا لكم؟ والزعمُ قولٌ بالظنِّ شبهِ الكذبِ، والمرادُ من الاستفهامِ: التوبيخُ. قرأ يعقوبُ: (يَحْشُرُهُمْ) (ثُمَّ يَقُولَ) بالياء فيهما، والباقون: بالنون فيهما (¬1). ... {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)}. [23] {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} أي: قولَهم وجوابَهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يَكُنْ) بالياءِ على التذكير؛ لأنَّ الفتنةَ بمعنى الافتتانِ، وقرأ الباقون: بالتاء، لتأنيثِ الفتنة (¬2)، وقرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع، وجعلوهُ اسمَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 14)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 257)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 206)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 259). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 540)، و"تفسير البغوي" (2/ 14)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 206)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 259).

[24]

كان، وقرأ الباقونَ: بالنصبِ، فجعلوا اسمَ كانَ قولَه: (إِلَّا أَنْ قَالُوا)، و (فِتْنَتَهُمْ) الخبرَ (¬1). {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (رَبَّنَا) بالنصبِ على النداءِ المضافِ، وقرأ الباقونَ: بالخفضِ على نعتِ (واللهِ) (¬2)، وجوابُ القسم. {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَثَمَّ يُختم على أفواهِهم، وتشهدُ عليهم جوارحُهم. ... {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}. [24] ثم عجبَ تعالى منهم فقالَ: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} باعتذارِهم بالباطلِ. {وَضَلَّ} ذهبَ. {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يختلقونَ من الشركاءِ. ... {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 255)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 206)، و"تفسير البغوي" (2/ 14)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 265). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 255)، و"التيسير" للداني (ص: 102)، و"تفسير البغوي" (2/ 15)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 257)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 261).

[25]

[25] ولما قالَ النضرُ بنُ الحارث: واللهِ ما أدري ما يقولُ محمدٌ، إلا أَني أراهُ يحرِّكُ لسانَه، ويقولُ أساطيرَ الأولين مثلما كنتُ أحدثُكم عن القرونِ الماضية، فقالَ أبو سفيان: إني أرى بعضَ ما يقولُ حقًّا، نزل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (¬1) حينَ تتلو القرآنَ. {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطيةً، جمعُ كِنان. {أَنْ يَفْقَهُوهُ} لئلَّا يفهموا القرآنَ. {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} صمَمًا وثِقَلًا. {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} أي: دلالةٍ على صدقِكَ. {لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا} أي: ما القرآنُ. {إِلَّا أَسَاطِيرُ} أباطيلُ. {الْأَوَّلِينَ} جمعُ أسطورة، وأُسطارة، وهو ما سُطرَ، وقيل: هي التُّرَّهاتُ. ... {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}. [26] {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي: عن القرآنِ والرسولِ واتِّباعِه. {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} بأنفسِهم؛ أي: يبعدونَ، فَيضِلُّون ويُضلون، نزلت في كفار مكة، وقال ابن عباس: نزلتْ في أبي طالبٍ، كان ينهى الناسَ عن أذى ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 15).

[27]

النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وينأى عن الإيمانِ به، ورُوي عنه: أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - لما عرضَ عليهِ الإسلامَ، قالَ: لولا أن تُعَيِّرني قريشٌ، لأقررتُ بها عينَكَ، ولكنْ أَذُبُّ عنكَ ما حَييتُ، وقال في ذلك أبياتًا: وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهم ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا فَاصدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَابْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُونَا وَدَعَوْتنَي وَعَرَفْتُ أَنَّكَ نَاصِحِي ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينَا وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَلِمْتُ بِأَنُّه ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حَذَارَ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا (¬1) {وَإِنْ يُهْلِكُونَ} أي: وما يُهلكونَ بذلك. {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أي: لا يرجعُ وبالُ فعلِهم إلا عليهم. {وَمَا يَشْعُرُونَ} أنَّ ضررَهُ لا يتعدَّاهم إلى غيرِهم. ** {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)}. [27] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} حُبسوا على الصراطِ، معناه: لو تراهُمْ في تلكَ الحالةِ، لرأيتَ عجبًا. {فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ} تمنيًّا للرجوعِ إلى الدُّنيا. {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قرأ العامةُ: (وَلاَ نُكَذِّبُ) ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص:118 - 119)، و"تفسير البغوي" (2/ 16)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 435).

[28]

(ونَكُونُ) بالرفع على معنى: ياليتنا نُرَدُّ ونحنُ لا نكذِّبُ ونكونُ من المؤمنينَ، وأبو عمرٍو: على أصلهِ في إدغامِ الباءِ في الباءِ، وقرأ حمزةُ، وحفصٌ عن عاصمٍ، ويعقوبُ (وَلاَ نُكَذِّبَ) (ونَكُونَ): بنصبِ الباءِ والنونِ بإضمارِ (أن) على جواب التمني؛ أي: ليتَ ردَّنا وقعَ وألا نكذبَ ونكونَ، والعربُ تنصبُ جوابَ التمنِّي بالواوِ كما تنصبُ بالفاءِ، وقرأ ابنُ عامرٍ: (نكذبُ) بالرفعِ إخبارٌ، (ونكونَ) بالنصبِ تمنيًّا؛ لأنهم تمنوا أَن يكونوا من المؤمنينَ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذِّبونَ بآياتِ ربهم إن رُدُّوا إلى الدنيا (¬1). ... {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}. [28] {بَلْ} ردٌّ لقولهم؛ أي: ليسَ على ما قالوا: أنهم لو رُدُّوا لآمنوا، بل. {بَدَا لَهُمْ} أي: ظهرَ لهم. {مَا كَانُوا يُخْفُونَ} يُسِرُّونَ. {مِنْ قَبْلُ} من نفاقِهم وقبائحِ فعالِهم بشهادةِ جوارحِهم عليهم، فتمنَّوا ذلكَ ضَجَرًا، لا عَزْمًا على أنهم لو رُدُّوا لآمنوا. ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (1/ 542)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 255)، و"التيسير" للداني (ص: 102)، و"تفسير البغوي" (2/ 16 - 17)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 257)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 206)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 262 - 263).

[29]

{وَلَوْ رُدُّوا} إلى الدنيا. {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} من الكفر والمعاصي. {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم. ... {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)}. [29] {وَقَالُوا} عطفٌ على (لعادوا): {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الضميرُ للحياةِ. {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} كما كانوا يقولونَ قبلَ معاينةِ القيامةِ. ... {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}. [30] {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي: حُبِسوا للتوبيخِ والسؤال. {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا} أي: البعثُ والعذابُ. {بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} إقرارٌ مؤكَّدٌ باليمينٍ. {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بسببِ كفركم. ... {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)}.

[31]

[31] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} وإذا فاتَهم النعيمُ، ولقاءُ اللهِ: البعثُ. {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} القيامةُ، وسميت ساعةً؛ لسرعةِ الحساب. {بَغْتَةً} فجأة. {قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا} ندامَتَنا. {عَلَى مَا فَرَّطْنَا} قَصَّرْنا. {فِيهَا} في الحياةِ الدنيا. {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} آثامَهم. {عَلَى ظُهُورِهِمْ} قَيَّدَهُ بالظهرِ؛ لأن الحملَ غالبًا يكونُ عليه. {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي: بئسَ الحملُ حملوا. ... {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)}. [32] {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطلٌ وغرورٌ. {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الشركَ. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أنَّ الآخرةَ أفضلُ من الدنيا. قرأ ابنُ عامرٍ: (وَلَدَارُ الآخِرَةِ) بلام واحدةٍ وجرِّ (الآخِرَةِ) إضافةً؛ أي: دارُ الساعةِ الآخرةِ، وكذلكَ هي في مصاحفِ أهلِ الشام، وقرأ الباقون: بلامينِ وتشديدِ الدالِ للإدغام، وبالرفعِ على النعتِ، وكذا هو في مصاحِفهم (¬1)، وسميتْ آخرةً؛ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 256)، و"التيسير" للداني (ص: 102)، =

[33]

لتأخُّرِها على الدار الأولى، كما سُميت الأولى دُنيا؛ لدنوِّها من الخلقِ الأولِ، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَعْقِلُونَ) بالخطاب، وقرأ الباقونَ: بالغيب (¬1). ... {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)}. [33] ولما قالَ أبو جهلٍ: إنَّا لا نكذِّبُكَ يا محمدُ، بل نكذِّبُ ما جئتَ به، نزلَ تسليةً له، ووعدًا ووعيدًا لهم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} فيكَ، وفيما جئتَ به؛ من التكذيبِ؛ لأنَّهم إذا كذَّبوا ما جاءَ به، فقد كذبوه. قرأ نافع: (لَيُحْزِنُكَ) بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي، والباقونَ: بفتح الياء وضمِّ الزاي (¬2)، وكلُّ ما جاءَ في القرآنِ بعدَ العلمِ لفظةُ (إِنَّ)، فهي بفتحِ الهمزةِ إلَّا في موضعين: أحدُهما: هنا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} والثاني: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} في سورةِ المنافقين، وإنما كانَ كذلكَ في هذينِ ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 18)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 257)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 264). (¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 257)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 244، 257)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 207)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 265).

[34]

الموضعينِ؛ لأنه يأتي بعدَهما لامُ الخبرِ، فلذا انكسرا. {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} أي: في الحقيقةِ؛ إذْ جحدُهم عنادٌ؛ أي: إنما يكذِّبونَ اللهَ بجحدِهم. قرأ نافعٌ، والكسائيُّ: (يُكْذِبُونَكَ) بسكونِ الكافِ وتخفيفِ الذالِ؛ من الإكذابِ، وهو أن يجدَه كاذبًا، وقرأ الباقونَ: بالتشديدِ؛ من التكذيبِ، وهو أن ينسبَه إلى الكذب، ويقولَ له: كذبت (¬1). {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ} الدالةِ على صدقِك {يَجْحَدُونَ}. ... {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)}. [34] ثم آنسَهُ بقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} كَذَّبَهم قومُهم كما كَذَّبَكَ قومُكَ قريشٌ. {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الذي كُنَّا وعدْناهم به في قولنا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51]، وهذا تسليةٌ له. {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} المتضمنةِ للنصرِ. {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} أي: من أخبارهم ما تسكنُ بهِ نفسُك. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 257)، و"التيسير" للداني (ص: 102)، و"تفسير البغوي" (2/ 19)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 265).

[35]

{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}. [35] وكان - صلى الله عليه وسلم - يكرهُ كفرَهم، ويحبُّ مجيءَ الآياتِ لِيُسلموا، فنزل: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ} عَظُمَ وشقَّ عليكَ. {إِعْرَاضُهُمْ} عن الإسلامِ. {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ} تطلبَ. {نَفَقًا} سَرَبًا تستترُ فيه. {فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا} مصعدًا. {فِي السَّمَاءِ} فتصعدَ فيه. {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} فافعلْ، ثم عَرَّفَهُ تعالى أنه ليسَ بيدِه شيءٌ من أمرِهم فقالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} مشيئةَ قدرةٍ وقهرٍ. {لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} فآمَنوا كلُّهم، وهذا ردٌّ على القدريَّةِ المفوضةِ الذين يقولون: إن القدرةَ لا تقتضي أن يؤمنَ الكافرون، وإنَّ ما يأتيه الإنسانُ من جميعِ أفعالِه لا خلقَ لله فيه، تعالى اللهُ عن قولهم. {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ليسَ المرادُ لا تكونَنَّ ممن يجهلُ أنَّ اللهَ لو شاءَ لجمعَهم على الهدى؛ إذ فيه إثباتُ الجهلِ لصفةٍ من صفاتِ الله، وذلك لا يجوزُ على الأنبياء، وإنما المقصودُ وعظُه ألَّا يتشبَّهَ في أمرِه بسماتِ الجاهلين.

[36]

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} [36] ثم أخبرَ أن حرصَه على هدايتِهم لا ينفعُ؛ لعدم سمعهم كالموتى بقولِه: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} يعني: المؤمنينَ الذين يقبلونَ ما يسمعونَ فينتفعونَ به. {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} يعني: الكفارَ. {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} فيَجزيهم بأعمالِهم. ... {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)}. [37] {وَقَالُوا} يعني: رؤساءَ قريشٍ. {لَوْلَا} هلَّا. {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي: مما اقترحوه. {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} تضطُّرهم إلى الإيمان؛ كنتق الجبل لبني إسرائيل. قرأ ابنُ كثير: (يُنْزِلَ) بالتخفيف، والباقون: بالتشديد (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 207)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 134 و 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 267).

[38]

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ما عليهم من إنزالها؛ لأنها لو نزلت ولم يؤمنوا، لأُهلكوا. ... {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}. [38] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} تدبُّ على وجهها. {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} في الهواء، وقيدَ بالجناح؛ لنفيِ المجاز؛ لأنه يقالُ لغير الطائر: طارَ: إذا أسرعَ. {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في كونها مرزوقةً مقدرًا (¬1) آجالُها. {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي: ما غفلْنا في اللوحِ المحفوظِ؛ لأن جميع الأشياء مكتوبةٌ فيه. {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال ابن عباس: "حَشْرُهَا مَوْتُها" (¬2)، وقال أبو هريرةَ: "يحشرُ اللهُ تعالى الخلقَ كلَّهم يومَ القيامةِ البهائمَ والدوابَّ والطيرَ وكلَّ شيءٍ، فيؤخذُ للجَمَّاءِ من القَرْناءِ، ثمَّ يُقال: كوني تُرابًا، فحينئذ يتمنَّى الكافرُ أنْ لو كانَ تُرابًا" (¬3). ... ¬

_ (¬1) في "ن": "مقدرةً". (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1286)، وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 267). (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1286)، والحاكم في "المستدرك" (3231).

[39]

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}. [39] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} مبتدأ، خبرُه: {صُمٌّ وَبُكْمٌ} لا يسمعون خيرًا، ولا يقولونه. {فِي الظُّلُمَاتِ} في الضلالاتِ. {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ} مبتدأٌ، خبرُه: {يُضْلِلْهُ} بخذلانِه. {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بأنْ يرشدَه إلى الهدى. ... {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)}. [40] {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَرَأيْتكمْ) وَ (أَرَأَيْتُمْ) و (أَرَأَيْتَ) (أَفَرَأَيْتَ) بتسهيلِ الهمزةِ التي بعدَ الراء، وجعلِها بينَ الهمزةِ والألفِ تخفيفًا؛ لئلَّا يجتمعَ همزتان في فعلٍ مع اتصالِ الضميرِ به، وعن ورشٍ إبدالُها ألفًا، والكسائيُّ يُسقطها أصلًا حيثُ وقعَ، والباقونَ بتحقيقِها على الأصل، والتاءُ مفتوحةٌ مع الكافِ والهاءِ في الواحدِ والاثنينِ، وجمعِ المذكرِ والمؤنث، نحو: (أرأيتَكَ) (أرأيتكما) (¬1) (أرأيتكنَّ) (¬2)، ولا محلَّ ¬

_ (¬1) "أرأيتكما" ساقطة من "ش" و"ظ". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 102)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (2/ 21)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 208)، =

[41]

للكافِ من الإعرابِ، ولا يجوزُ أن يكونَ مرفوعًا، تقديره: أرأيتُم أنفسَكم، وليس الغرضُ أن يَرَوْا أنفسَهم، إنما الغرضُ أن يروا غيرَهم، ومعنى أرأيتكُمْ: أخبروني، ومفعولُه محذوفٌ تقديرُه: أرأيتكمْ عبادَتَكُمُ الأصنامَ هل تنفعُكُم. {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} عندَ الموتِ. {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} أي: القيامةُ. {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} في صرفِ العذابِ عنكم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنَّ الأصنامَ تنفعُكم؟ وجوابُه محذوفٌ؛ أي: فادعوهُ. ... {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)}. [41] ثم أخبر أنهم لا يدعونَ سواهُ في الشدائدِ فقالَ: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} بلْ تَخُصُّونَهُ بالدعاءِ. {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي: ما تدعونَ إلى كشفِه. {إِنْ شَاءَ} أن يتفضَّلَ عليهم، ولا يشاءُ في الآخرةِ. {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وتتركونَ آلهتكُمْ في ذلكَ الوقتِ. ... ¬

_ = و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 267 - 268).

[42]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)}. [42] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} فلم يؤمنوا. {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} بالشدَّةِ والجوعِ. {وَالضَّرَّاءِ} المرضِ والزَّمانةِ. {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي: يتوبون، والتضرُّعُ: السؤالُ بالتذلُّلِ. ... {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)}. [43] {فَلَوْلَا} فهلَّا. {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} عذابُنا. {تَضَرَّعُوا} فآمَنوا، معناه: نفيُ التضرعِ؛ أي: لم يتضرَّعوا إذْ جاءهم بأسُنا. {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فلم يؤمنوا. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي. ... {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}. [44] {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} تركوا ما ذُكِّروا به من المواعِظِ والإنذارِ.

[45]

{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} من نِعَمِ الدُّنيا، وهذا فتحُ ابتلاء. قرأ ابنُ عامرٍ، وابنُ وردانَ عن أبي جعفرٍ: (فَتَّحْنَا) بتشديد التاء، والباقونَ: بالتخفيف (¬1). {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} أُعْجِبوا. {بِمَا أُوتُوا} من النعمِ، وبَطِروا فلم يتوبوا. {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} فجأةً. {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} آيِسون، والإبلاسُ: الحزنُ المعترضُ من شدةِ اليأسِ، وأصلُه الإطراقُ ومن الحزنِ والندمِ. ... {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}. [45] {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} المتخلفُ في أدبارِهم؛ أي: استُؤْصِلوا فلم يبقَ لهم (¬2) باقيةٌ. {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على إهلاكِهم. ... {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 257)، و"التيسير" للداني (ص: 102)، و"تفسير البغوي" (2/ 22)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 268). (¬2) "لهم" ساقطة من "ش".

[46]

[46] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أيُّها المشركون. {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} أي: أَصَمَّكُم. {وَأَبْصَارَكُمْ} أَعماكُم. {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} فلا تفقهونَ شيئًا. {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} بما أخذَ منكم. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} الدَّالة (¬1) على صدقِكَ. {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يُعرضون عنها. قرأ ورشٌ (بِهُ انْظُرْ) بضم الهاء (¬2)، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ورويسٌ بخلافٍ عنه: (يَصْدِفُوَن) بإشمامِ الصادِ الزايَ (¬3). ... {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}. [47] {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} فجأةً. {أَوْ جَهْرَةً} معاينةً ترونَه، ثم استفهمَ مقرِّرًا فقال: ¬

_ (¬1) في "ش": "والدلالات". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 258)، و"تفسير القرطبي" (6/ 428)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 269). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 207)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 251، 258)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 270).

[48]

{هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} هلاكَ سخطٍ وتعذيبٍ. ... {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)}. [48] {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ} المؤمنين بالجنةِ. {وَمُنْذِرِينَ} الكافرينَ بالنار. {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} ما يجبُ إصلاحُه. {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من العذابِ. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بفوتِ الثوابِ. ... {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}. [49] {وَالَّذِينَ} كفروا و: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ} يُصيبهم. {الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} يكفرونَ. ... {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)}. [50] ونزل حين اقترحوا الآيات:

[51]

{قُلْ} لهم. {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} مقدوراتُه، فأُنزِلُ ما اقترحتُموه. {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبرُكم به. {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فأقدرُ على ما لا يقدرُ عليه البشرُ. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} من الله، وذلك غيرُ مستحيلٍ في العقلِ مع قيامِ الدليلِ والحججِ البالغةِ. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى} الكافرُ. {وَالْبَصِيرُ} المؤمنُ. {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} أنهما لا يستويانِ؟! ... {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}. [51] {وَأَنْذِرْ} خَوِّفْ. {بِهِ} أي: بالقرآنِ. {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} يُبْعَثوا. {إِلَى رَبِّهِمْ} واللفظُ يعمُّ كلَّ مؤمنٍ بالبعثِ من مسلمٍ ويهوديٍّ ونصرانيٍّ. {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} أي: من دون الله. {وَلِيٌّ} قريبٌ ينفعُهم.

[52]

{وَلَا شَفِيعٌ} يشفعُ لهم. تلخيصُه: خَوِّفْهم بالقرآنِ. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فينزجروا. {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}. [52] ولما أُمِرَ - صلى الله عليه وسلم - بإنذارِ غيرِ المتقين ليتقوا، أُمِرَ بعدَ ذلكَ بتقريبِ المتقينَ، ونُهي عن طردِهم؛ تكريمًا لهم، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كانَ قد عزمَ على إزالةِ بلالٍ وأصحابِه الفقراءِ من مجلسِه، ومجالسةِ الأقرعِ بنِ حابسٍ وأصحابِه رجاءَ حسنِ إسلامِهم، قالوا: وكتبَ لابنِ حابسٍ بذلكَ كتابًا، فنزل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ} (¬1) يعبدونَ. {رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} والمرادُ: الدوامُ على ذلك. قرأ ابنُ عامرٍ (بِالغُدْوَةِ) بضمِّ الغينِ وسكون الدال، وواوٍ بعدها، وقرأ الباقون: بفتح الغين والدال، وألفٍ بعدها (¬2). {يُرِيدُونَ} بعملِهم. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (4127)، كتاب: الزهد، باب: مجالسة الفقراء، عن خباب -رضي الله عنه-. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 119). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 258)، و"التيسير" للداني (ص: 102)، و"المحتسب" لابن جني (2/ 305)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 271).

[53]

{وَجْهَهُ} أي: يخلصون عملَهم لله تعالى، ولما طُعِنَ في هؤلاء، وتُكُلِّم فيهم عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، نزلَ: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إنْ حسابُهم إلَّا على الله. {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: لا تُؤْخَذُ بحسابهم، ولا هم بحسابِكَ حتى يهمَّكَ إيمانُهم بحيثُ تطردُ المؤمنين طمعًا فيه. {فَتَطْرُدَهُمْ} فتبعدَهم، جوابٌ للنفي، وهو قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}. {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} إنْ فعلتَ ذلكَ، جوالب النهي، وهو قوله: {وَلَا تَطْرُدِ} فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. ... {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}. [53] {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي: مثلَ ذلكَ الاختبار اختبرنا بعضَ الناسِ ببعضٍ، فابتلَيْنا الغنيَّ بالفقيرِ، والشريفَ بالوضيعِ، فإذا رأى الشرفاءُ والأغنياءُ الوضعاءَ والفقراءَ سبقوهم إلى الإيمانِ، تكَبَّروا، فكانَ ذلكَ فتنةً لهم، فذلك قولُه: {لِيَقُولُوا} يعني: المشركين. {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} أي: أهؤلاءِ الذين أُنْعِمَ عليهم

[54]

بالإسلام دونَنا، ومُيِّزوا به علينا، {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، فقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} استفهامٌ بمعنى التقرِير؛ أي: اللهُ أعلمُ بمَنْ يشكرُ الإسلامَ إذا هداه. قرأ السوسيُّ عن أبي عمرٍو: (بِأَعْلَمْ) بإسكانِ الميم عند الباء، وتقدم الكلامُ عليه في سورة البقرة. ... {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}. [54] ثم أُمر - صلى الله عليه وسلم - بالسلام عليهم إكرامًا لهم فقيل: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} ثم قل لهم: {كَتَبَ} أي: أوجبَ. {رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فكان - صلى الله عليه وسلم - إذا رآهم، بدأَهم بالسلامِ وقال: "الْحَمْدُ لله الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ" (¬1). {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} أي: جاهِلًا بتحريمِهِ. {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} بعدَ عملِه المعصيةَ. {وَأَصْلَحَ} أخلصَ توبتَهُ. {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 121).

[55]

وخلفٌ: (إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ) (فَإِنَّهُ) بكسرِ الألف فيهما على الاستئنافِ، وقرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: بفتحِ الألفِ فيهما بدلًا من الرحمة؛ أي: كتبَ على نفسِه أنَّه من عملَ منكم، ثم جعل الثانيةَ بدلًا عن الأول؛ كقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]. وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: بفتح الأولى بدلًا من الرحمة، وكسرِ الثانية على الاستئناف؛ لأنها بعدَ الفاء (¬1)، قال القرطبيُّ: وهي قراءةٌ بينةٌ (¬2). ... {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}. [55] {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} آياتِ القرآنِ في صفةِ المطيعين والمجرمين. {وَلِتَسْتَبِينَ} أي: ليظهرَ. {سَبِيلُ} طريقُ. {الْمُجْرِمِينَ} العاصِين. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء، و (سَبِيلَ) نصبٌ على خطابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لتعرفَ يا محمدُ طريقَ المجرمين، يقال: استنبتُ الشيءَ وَتَبيَّنْتُه: إذا عرفتُهُ، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ (وَلِيَسْتَبِينَ) بالياءِ (سَبيلُ) رفعٌ، وقرأ الباقون: (ولتستبينَ) بالتاء (سبيلُ) رفعٌ؛ أي: ليظهرَ ويتَّضح، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 258)، و"التيسير" للداني (ص: 102)، و"تفسير البغوي" (1/ 26 - 27)، و"تفسير القرطبي" (6/ 436)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 272). (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (6/ 436).

[56]

و (¬1) السبيلُ يُذَكَّر؛ لقوله: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]، ويؤنَّثُ؛ لقولِه: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} (¬2) [آل عمران: 99]. ... {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)}. [56] {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ} بما أُنزلَ عليَّ من الآياتِ في أمرِ التوحيدِ. {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} أي: تعبدون. {مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} في طردِ الفقراءِ وعبادةِ الأوثان. {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} إنِ اتبعتُ أهواءكم. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} إن فعلتُ ذلك. ... {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)}. [57] {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ} ويقينٍ. ¬

_ (¬1) "و" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 258)، و"التيسير" للداني (ص: 203)، و"تفسير البغوي" (2/ 27)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 273).

{مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أي: بما جئتُ به، وكانوا قد استعجلوا العذابَ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذابِ. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} لا لي. {يَقُصُّ الْحَقَّ} من القضاءِ: الحكمِ؛ أي: يقضي القضاءَ الحقَّ. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ: (يَقُصُّ الْحَقَّ) بضمِّ القاف والصادِ المهملة مشدَّدًا؛ أي: يقولُ الحقَّ؛ لأنه في جميعِ المصاحفِ بغير ياء، ولأنه قالَ: (الحقَّ) ولم يقلْ: بالحق، وقرأ الباقون (يَقْضِ) بسكون القافِ وكسر الضادِ المعجمةِ (¬1)؛ من قضيتُ؛ أي: يحكمُ بالحقِّ؛ بدليل أنه قالَ: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي: الحاكمين، وحذفتِ الياءُ لاستثقالِ الألف واللامِ؛ كقوله: {صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163]، ونحوها، وأثبتَ يعقوبُ الياءَ وقفًا. والقضاءُ شرعًا: هو الإلزامُ وفصلُ الحكوماتِ، ومنصبُ القضاءِ فرضُ كفايةٍ بالاتفاق، ويجبُ على من يصلُحُ له إذا طلبَ ولم يوجد غيرُه ممَّنْ يوثَقُ به الدخولُ فيهِ بغيرِ خلافٍ، قال الإمامُ أحمدُ: إلا أن يشغلَهُ عمَّا هو أهمَّ منه. ويُشترطُ في القاضي: العدالةُ والاجتهادُ عندَ الثلاثةِ، وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ قضاءُ الفاسقِ، ولا ينبغي أن يُوَلَّى، ويجوزُ تقليدُ الجاهلِ؛ لأنه يقدرُ على القضاءِ بالاستفتاءِ، والأَوْلى أن يكونَ عالمًا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 275)، و"تفسير البغوي" (2/ 27)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 274).

[58]

واختلفوا في صحَّةِ قضاءِ المرأةِ، فقال أبو حنيفةَ: يصحُّ قضاؤها فيما تُقْبَلُ فيه شهادتُها، وهو ما عدا الحدودَ والقصاصَ، وقال الثلاثةُ: لا يصحُّ قضاؤها مطلَقًا. ويجوز القضاء على الغائبِ عندَ الثلاثةِ خلافًا لأبي حنيفةَ. ويصحُّ التحكيمُ لمن يصلحُ للقضاء بالاتفاق، واختلفوا في حكمِه، فقال أحمد: ينفُذُ حتى في حدٍّ وقَوَدٍ، فهو كحاكم الإمامِ مطلقًا، وقال مالكٌ: حكمهُ ماضٍ في الأموالِ، فلو حكمَ بقتلٍ، أو اقتصَّ أو حدَّ أو لاعَنَ أُدِّبَ ومضى ما لم يكنْ جَوْرًا بَيِّنًا، قالَ الشافعيُّ: يصحُّ مطلقًا في غيرِ حَدٍّ للهِ تعالى، وقال أبو حنيفة مثلَهُ، لكنْ إذا رُفعَ إلى حاكمٍ آخرَ أمضاهُ إن وافقَ مذهبَهُ، وإن لم يُوافقْه أبطلَه، والحكمُ شرعًا: أمرٌ ونهيٌ يتضمَّن إلزامًا. ... {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}. [58] {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذابِ. {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: لو كان عندي ما استعجَلْتُم به من العذابِ عندي، لأنزلتهُ وتخلَّصْتُ منكم. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} أي: بالمشركينَ، وبوقتِ عقوبتِهم. ... {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}.

[59]

[59] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} خزائنُه، جمعُ مِفْتَح بكسرِ الميم، وهو المفتاحُ، قال الكواشيُّ: وزعمَ بعضُهم أنه جمع مَفْتَحِ بفتحِ الميم، وهو المخزنُ، ومفاتحُ الغيبِ: الطرقُ الموصلةُ إلى علمهِ تشبيهًا بمفتاحِ الدارِ؛ لأن به يُفتح البابُ، فَيُتَوصَّلُ إلى ما فيها، والمرادُ: علمُ كلِّ ما غابَ؛ كقيامِ الساعةِ، ومتى يأتي المطرُ، وما تَغيضُ الأرحامُ، وما في غدٍ، والموتُ. {لَا يَعْلَمُهَا} أي: الطرقَ الموصلةَ إلى الغيبِ. {إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ} من المفاوِزِ والقِفارِ. {وَالْبَحْرِ} من القرى والأمصارِ خَصَّهما بالذكر لأنهما أعظمُ المخلوقاتِ المجاورةِ للبشرِ. {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} يريدُ: ساقطةٍ وثابتةٍ. {إِلَّا يَعْلَمُهَا} مبالغةً في إحاطةِ علمِه بالجزئيات. {وَلَا حَبَّةٍ} من الحباتِ المعروفةِ. {فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} بطونِها. {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} قال ابنُ عباسٍ: "الرَّطْبُ الماءُ، واليابسُ الباديةُ" (¬1). {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: في اللوحِ المحفوظِ ليعتبرَ الملائكةُ بذلكَ، لا أنه سبحانه كتبَ ذلكَ لنسيانٍ يلحقُه، تعالى عن ذلكَ المعنى، ما من شيءٍ من الأشياءِ إلا وهو يعلمُه حيثُما كان. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 29)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 279).

[60]

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)}. [60] {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} بأن يقبضَ أرواحَكم إذا نِمْتُم. {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} كَسَبْتُم من الآثامِ وغيرِها. {بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي: يوقظُكم بالنهار. {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} أي: يتمَّ، وهو مدةُ الحياةِ. {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} بعدَ المماتِ. {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ} يخبرُكم. {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمجازاةِ عليه. ... {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)}. [61] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} تقدَّمَ تفسيرُه في أول السورة. {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} ملائكةً، لكلِّ إنسانٍ مَلَكَينِ بالليلِ، ومَلَكَينِ بالنهارِ يحفظونَ أعمالَ بني آدم. {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} تقدَّم اختلافُ القراءِ في حكمِ الهمزتين من كلمتين في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولهِ تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وكذلك (¬1) اختلافُهم {جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}. ¬

_ (¬1) في "ت": "وكذا".

[62]

{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} مَلَكُ الموتِ وأعوانُه، رُوي أن الدنيا بينَ يَدَي ملكِ الموتِ كالمائدةِ الصغيرةِ يقبضُ من هنا وهنا، فإذا كثرتْ عليه الأرواحُ يدعوها فتُجيب. قرأ حمزةُ: (تَوَفَّاهُ) بألفٍ ممالة (¬1). {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} أي: يُضَيِّقون وَيُقَصِّرون، ومعنى فَرَّطَ: قدم العَجْزَ. ... {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}. [62] {ثُمَّ رُدُّوا} أي: جميعُ العباد. {إِلَى اللَّهِ} للحسابِ والجزاءِ. {مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} أي: مالِكِهم ومتولِّي أمورِهم حقيقةً، والحق: اسمٌ من أسماءِ الله تعالى، والشيءُ الحقُّ: هو الثابتُ حقيقةً، ويُستعملُ في الصدقِ والصوابِ أيضًا، يقالُ: قَوْلٌ حَقٌّ؛ أي: صدق وصوابٌ. {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} يومئذٍ لا حكمَ لغيرِه فيه (¬2). {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} يحاسبُ الخلائقَ في مقدارِ حلبِ شاة، لا يحتاجُ إلى فكرةٍ ولا عَدٍّ. ... {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 29). (¬2) "فيه" ساقطة من "ت".

[63]

[63] {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} قرأ يعقوبُ: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد (¬1). {مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} شدائِدهما، وكانوا إذا سافروا في البرِّ والبحرِ، وضلوا الطريقَ، وخافوا الهلاكَ، دعوا اللهَ مخلصينَ، فينجيهم، فذلك قولُه: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا} علانيةً. {وَخُفْيَةً} سرًّا. قرأ أبو بكر عن عاصم: (خِفْيَةً) بكسر الخاء، والباقون: بضمها، وهما لغتان (¬2). {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ} خَلَّصنا (¬3). قرأ عاصمٌ, وحمزة، والكسائيُّ، وخلفٌ: (أَنْجَانَا) بألفٍ بينَ النونِ والجيمِ من غير تاءٍ؛ أي: لئن أنجانا اللهُ من هذهِ الظلمةِ، وقرأ الباقون: بالياء، والتاءِ المفتوحة بينَ الجيم والنون، وكذلك هو في مصاحِفهم (¬4). {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لله تعالى، والشكرُ: هو معرفةُ النعمةِ معَ القيامِ بحقِّها. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 259)، و"التيسير" للداني (ص: 103)، و"تفسير البغوي" (2/ 30)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 272). (¬2) المصادر السابقة. (¬3) "ت" و"ظ" و"ن": "خلصتنا". (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 259 - 260)، و"تفسير البغوي" (2/ 30)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 279).

[64]

{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}. [64] {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ. (يُنَجِّيكُمْ) بالتشديد، والباقون: بالتخفيف (¬1). {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} أي: غَمٍّ. {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} الأصنامَ به، وهي لا تضرُّ ولا تنفعُ. ... {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}. [65] {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} الصيحةُ، والريحُ، والحجارةُ، والطوفانُ؛ كعادٍ وثمودَ وقومِ لوطٍ وقومِ نوحٍ وأصحابِ الفيل. {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} الخسفُ والرجفةُ؛ كقارونَ وقومِ شُعيبٍ. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} يَخْلِطَكم فِرَقًا مختلفينَ. {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} بالحربِ والقتلِ في الفتنةِ. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} نبيِّنُ لهم بالحجَجِ والدَّلالاتِ. {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} يفهمونَ ما هم عليه من الشركِ والمعاصي. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 259)، و"التيسير" للداني (ص: 103)، و"تفسير البغوي" (2/ 30)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 279).

[66]

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)}. [66] {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} أي: القرآنِ. {وَهُوَ الْحَقُّ} الصدقُ لا محالةَ. {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بمسلِّطٍ أُلْجِئكم إلى الإيمانِ، إنما أنا منذرٌ. ... {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}. [67] {لِكُلِّ نَبَإٍ} خبر. {مُسْتَقَرٌّ} منتهى، فيتبين الصدقُ من الكذبِ، والحقُّ من الباطلِ. {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديدٌ. ... {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)}. [68] {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} بالاستهزاءِ. {فِي آيَاتِنَا} يعني: القرآنَ. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تجالِسْهم. {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غيرِ الاستهزاءِ. {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ} المعنى: إن شغلَكَ. {الشَّيْطَانُ} بوسوستهِ حتى تنسى النهيَ. قرأ ابنُ عامرٍ (يُنَسِّيَنَّكَ) بفتح

[69]

النون وتشديد السين، من نَسَّى، وقرأ الباقونَ: بسكون النون وتخفيف السين (¬1)، من أَنْسَى (¬2). {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} أي: التذكرِ للنهيِ. {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بالتكذيبِ والاستهزاءِ. {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}. [69] ولما تحرَّج المسلمونَ من مجالسةِ المشركينَ بعدَ النهي، نزل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} الخوضَ. {مِنْ حِسَابِهِمْ} آثامِهم. {مِنْ شَيْءٍ} أي: ما يلزمُهم بمجالسَتِهم إثمٌ يُحاسَبون عليه. {وَلَكِنْ ذِكْرَى} أي: عليهم أن يُذَكِّروهم بإظهارِ الكراهةِ لهم. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوضَ. ... {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا ¬

_ (¬1) في "ن": "النون". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 260)، و"التيسير" للداني (ص: 103)، و"تفسير البغوي" (2/ 32)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 280).

[70]

{شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}. [70] {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} أي: الذي كان يجبُ عليهم أن يَتَّخِذوه، وهو دينُ الإسلامِ والقرآنِ. {لَعِبًا وَلَهْوًا} لأنهم كانوا إذا سمعوا القرآنَ، تلاعبوا استهزاءً ولهوًا عنهُ. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} حتى أنكروا البعثَ، المعنى: أعرضْ عن المشركينَ، ولا تلتفتْ إليهم. {وَذَكِّرْ بِهِ} أي: بالقرآنِ. {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} أي: مخافةَ أن تُسْلَم للهلاكِ. {بِمَا كَسَبَتْ} وأصلُ الإبسالِ: المنعُ، ومنهُ: أسدٌ باسلٌ، لأن فريستَه لا تُفْلِتُ منه. {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} يدفعُ عنها العذابَ. {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} أي: تَفْتَدِ كلَّ فداءٍ. {لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ} إشارةً إلى الذين اتخذوا دينَهم لعبًا ولهوًا. {الَّذِينَ أُبْسِلُوا} ارتهنوا. {بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} شديد الحرارةِ. {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} بسببِ كفرِهم. ***

[71]

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}. [71] قيل: ونزلَ لما دعا أبا بكر ابنُه عبدُ الرحمنِ إلى عبادةِ الأصنامِ: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا} إن عبدْناه. {وَلَا يَضُرُّنَا} إن تركْناه. {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} إلى الشركِ مرتدِّينَ. {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} بإنقاذِنا منه. {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} هَوَتْ به؛ أي: طلبتْ هُوِيَّهُ وضلالَته. قرأ حمزةُ: (اسْتَهْوَاهُ) بألف ممالة (¬1). {فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} متردِّدٌ، لا يدري أين يذهبُ. {لَهُ أَصْحَابٌ} على الطريقِ. {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} يقولون له: {ائْتِنَا} ارجعْ إلينا، فلا يلتفتُ إليهم، وهذا مثلٌ ضربَهُ الله لمن يدعو إلى الآلِهة، ولمن يدعو إلى الله. {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} يزجرُ عن عبادةِ الأصنامِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 260)، و"التيسير" للداني (ص: 103)، و"تفسير البغوي" (2/ 29)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 284).

[72]

{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} أي: وقُل: وأُمِرْنا أن نسلمَ {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. ... {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}. [72] {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} أي: وأُمِرْنا بإقامةِ الصلاةِ وتقوى الله. {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تُجمَعون يومَ القيامة. ... {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}. [73] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي: حقًّا. {وَيَوْمَ} أي: واذكر يوم. {يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} والمعنى: فيكونُ جميعُ ما أرادَ من موتِ الناسِ وحياتِهم. {قَوْلُهُ الْحَقُّ} أي: الواقعُ لا محالَة. {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} يعني: ملكُ الملوك يومئذٍ زائلٌ، كقوله: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، والأمرُ للهِ في كلِّ وقتٍ، والصورُ: القَرْنُ الذي يُنْفَخُ فيه، وهو كهيئةِ البوق. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: ما غابَ عن العبادِ وما يشاهدونَه.

[74]

{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} سبحانه. ... {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)}. [74] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} أي: واذكرْ إذْ قالَ. {لِأَبِيهِ آزَرَ} واسمُه تارحُ، وآزرُ لقبٌ، ومعناهُ: المعوجُّ، واشتقاقُه من الوِزْرِ: الإثم. قرأ يعقوبُ: بضمِّ الراء؛ يعني: يا آزَرُ، وقرأ الباقون: بالنصبِ في محل الخفضِ؛ لأنه أعجميُّ لا ينصرفُ (¬1). {أَتَتَّخِذُ} أي: تعبدُ. {أَصْنَامًا آلِهَةً} دونَ الله. {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ} عن الحقِّ. {مُبِينٍ} ظاهرِ الدلالةِ. قرأ عاصمٌ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إنِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 144)، و"تفسير البغوي" (2/ 35)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 283). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 275)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 267)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 248).

[75]

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)}. [75] {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} أي: كما أريناهُ البصيرةَ في دينه، والحقَّ في خلافِ قومِه، نُريهِ. {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خلقَهما وخلقَ ما فيهما الدَّالِّ على الربوبيةِ والوحدانيةِ، رُوي أنه رأى جميعَ السمواتِ والأرضِ وما فيهما حتى العرش، وأسفل السفل، فرأى عاصيًا، فدعا عليه فهلك، ثم آخرَ فدعا عليه فهلك، ثم آخرَ فدعا عليه فهلكَ، ثم آخر فأراد أن يدعوَ عليه، فقال تعالى: أنت مُستجابُ الدعوةِ، فلم تدعُوَنَّ على عبادي، فإنما أنا من أعبدي علي ثلاثِ خلالٍ (¬1): إما أن يتوبَ إليِّ فأتوبَ عليه، وإما أن أُخرجَ منه نسمةً تعبدني، وإما أن يُبعثَ إليَّ، فإن شئتُ عفوتُ عته، وإن شئتُ عاقبته (¬2). {وَلِيَكُونَ} عطفٌ على المعنى، معناه: نريهِ ملكوتَ السماواتَ والأرضِ؛ ليستدلَّ به. {مِنَ الْمُوقِنِينَ} من الموقنين، الموقنُ: العالمُ بالشيء عِلْمًا لا يمكنُ أن يطرأَ له فيه شكٌ. ... ¬

_ (¬1) "ت": "خصال". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 256 - 257، 261)، و"التيسير" للداني (ص: 103 - 104)، و"تفسير البغوي" (2/ 38)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 284 - 286).

[76]

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)}. [76] {فَلَمَّا جَنَّ} أي: أظلمَ. {عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ، وورشٌ، وابنُ ذكوانَ: (رأى كَوْكَبًا) و (رَأَى أَيْدِيَهُمْ) وشبهَه بإمالةِ الراءِ والهمزةِ حيثُ وقع، وافقَهم أبو عمروٍ في إمالةِ الهمزةِ فقط، ورُوي عن السوسيِّ أربعةُ أوجه: فتحُ الراءِ والهمزة وكسرُهما، وفتحُ الراء وكسرُ الهمزة، وعكسُه، ورُوي عن أبي بكر وجهان: كسرُ الراءِ وفتحُ الهمزة، وكسرهما، وروُي عن حمزةَ: كسرُ الراءِ وفتحُ الهمزة، والباقون: بفتحهما وكذلك (رَأَى الشَّمْسَ)، و (رَأَى الَّذِينَ) في النحل، و (رَأَى المُجْرِمُونَ) في الكهف، و (رَأَى الْمُؤْمِنُونَ) في الأحزاب (¬1). رُوي أن إبراهيمَ عليه السلامُ ولد في زمنِ نمرودَ بنِ كنعانَ بن سنحاريب بن كوش بن سام بنِ نوح، وهو أولُ من وضعَ التاجَ على رأسِه، ودعا الناسَ إلى عبادته، حُكي أنه رأى له منجِّموه أن مولودًا يولد له في سنةِ كذا في عملِه يكونُ خرابُ الملكِ على يديه، فجعل يتتبع الحبالى، ويُوكِّلُ بهنَّ حُرّاسًا، فمن وضعتْ أنثى تُركت، ومن وضعت ذكرًا حُمل إلى الملكِ فذبحه، وإنَّ أمَّ إبراهيم حملتْ به، واسمها يُوَنَّا، وقيلَ غيرُ ذلك، وكانت شابةً قويةً، فسترتْ حملَها، فلما قربَتْ ولادتُها بعثت تارح أبا إبراهيم إلى سفر، فمضى إليه، ثم خرجت هي إلى غار، فولدت فيه إبراهيمَ وتركَتْه في الغار، وكان مولدُه عليه السلام بكوثى، من إقليم بابل، من أرضِ العراقِ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 36)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 302).

على أرجحِ الأقوال، في ليلةِ الجمعةِ ليلة عاشوراءَ لمضيِّ ألفٍ وإحدى وثمانين سنةً من الطوفانِ، وكان الطوفانُ بعدَ هبوط آدمِ بألفين ومئتين واثنتين وأربعين سنة، وبين مولد إبراهيم عليه السلام والهجرةِ النبويةِ المحمدية على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلامِ ألفانٌ وثمانُ مئةٍ وثلاثٌ وتسعون سنةً على اختيار المؤرخين، والاختلافُ في ذلك كثير، وتقدَّمَ ذكرُ وفاتِه وقدرُ عمرِه ومحلُّ قبرِه في سورة البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [الآية: 124]، وكانت تفتقدُه في الغارِ، فتجده يغتذي بأن يمصَّ أصابعَه فيخرجُ منها عسلٌ وسمنٌ ونحوُ هذا، وكان يشبُّ شبابًا لا تشبُّهُ الغلمانُ، يومُه كالشهر، وشهرُه كالسنة، ولم يمكثْ في الغار إلَّا خمسةَ عشرَ شهرًا، وتكلَّم فقالَ لأمِّهِ يومًا: من ربي؟ قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن ربُّ أبي؟ قالت: نمرود قال: فمن ربُّ نمرود؟ قالت له: اسكتْ، فسكتَ فرجعَتْ إلى زوجِها، فقالت له: أرأيتَ الغلامَ الذي كنا نتحدَّثُ به أنه يغيرُ دينَ أهلِ الأرض؟ فإنه ابنُك، ثم أخبرتْه بأمره ومكانِه، فأتاه ونظرَهُ وفرَح به، فقال له إبراهيم: يا أبتاهُ! من ربي؟ فقالَ: أمك، قال: من ربُّ أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربُّكَ؟ قال: النمرود، قال: فمن ربُّ النمرود؟ فلطمَه لطمةً، وقال له: اسكتْ، فذلكَ قولُه عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]، ثم إن إبراهيمَ قال لأمه يومًا: أخرجيني من الغارِ، فأخرجَتْه عشيًّا، فلما خرجَ نظرَ وتفكَّر في خلقِ السمواتِ والأرض، ثم قال: إن الذي خلقني ورزقَني ويطعمُني ويسقيني لَرَبِّي، ما لي إلهٌ غيرهُ، ثم نظر إلى السماء فرأى كوكبًا، قيل: إنه الزُّهرة، وقيلَ: المشتري (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (8/ 2776).

[77]

{قَالَ هَذَا رَبِّي} ثم أتبعَهُ بصرَهُ ينظرُ إليه. {فَلَمَّا أَفَلَ} أي: غاب سَئِمَه. {قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي: لا أحبُّ ربًّا لا يدوم، وهذا يدلُّ على إعمالِ عقلِه وعلمِه؛ إذِ الآفلُ لا يجوز أن يكون إلهًا. ... {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)}. [77] {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} طالِعًا أولَ طلوعِه. {قَالَ هَذَا رَبِّي} فأَتبعَهُ بصرَهُ. {فَلَمَّا أَفَلَ} سئمَه ورجعَ بفكره متوجِّهًا إلى ربه، و {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} أي: يثبتْني على الهدى. {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} استعجز نفسَه، واستعاذ بربه في دركِ الحقِّ؛ لأن الهدايةَ والتوفيقَ بيده سبحانه. ... {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)}. [78] {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا} أي: الطالعُ. {رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} من الكواكبِ والقمر. {فَلَمَّا أَفَلَتْ} سَئِمَها وتوجَّه إلى ربِّه بقلبٍ سليم، ووَجَّهَ وجهَه للحقِّ

[79]

بالصدقِ واليقين، و {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} من الأجرام المحدثَةِ. ... {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}. [79] {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ (وَجْهِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} مائِلًا إلى الحقِّ. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فنقلَه اللهُ من علمِ اليقين إلى عينِ اليقين. ... {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)}. [80] ثم إن أباه ضمَّه إليه، فشبَّ شبابًا حسنًا، وروي أن القصةَ التي وقعتْ له في حال مراهقته، وأن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنامَ والشمسَ والقمرَ والكواكبَ، فأراد أن يُنبههم على الخطأ في دينهم، ويرشدَهم إلى الحقِّ من طريقِ النظرِ والاستدلال، فقاله على وجه الاستفهام والتوبيخِ لهم، وإقامةِ الحجةِ عليهم في عبادةِ الأصنامِ والكواكبِ؛ كأنه قالَ لهم: أهذا ربي بزعمكم؟! أو مثلُ هذا يكون ربًّا؟! ثم عرضَ إبراهيمُ عليه السلام ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 108)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 267)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 286).

عليهم في حركتهِ وأفولهِ أمارة الحدوثِ، وأنه لا يصلحُ أن يكونَ ربًّا، ثم في أخرى أعظم منه، ثم في الشمسِ كذلك، فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المنيرات أنها لا تصلُحُ للربوبيةِ، فأصنامُكم التي هي خشبٌ وحجارةٌ أحرى أن يبينَ ذلكَ فيها، ولا زال - صلى الله عليه وسلم - في جميعِ أحوالِه مجمِلًا مكمِّلًا حتى أكرمَه اللهُ تعالى بما أكرمَهُ من الآيات البيناتِ، والكراماتِ الباهرات، ثم ألبسَهُ خلعةَ الخلَّة، وجعلَهُ من أولي العزم من الرسل، وجعلَه أبا الأنبياء، وتاجَ الأصفياء، ونورَ أهلِ الأرضِ، وشرفَ أهل السماء، وكان أبوه آزرُ يصنعُ الأصنامَ ويعطيها له ليبيعَها، فكانَ إبراهيمُ يقول: مَنْ يشتري مَنْ يَضُرُّهُ ولا ينفعُه؟! فلا يشتريها أحدٌ، فإذا بارتْ عليه، ذهبَ بها إلى نهرٍ، فصوَّبَ فيه رؤوسَها، وقال لها (¬1): اشربي؛ استهزاءً بقومِه وما هم فيه من الضلالة، حتى فشا استهزاؤه بها في قومِهِ وأهلِ قريتِهِ. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} خاصَمُوه في دينه. {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} أتجادِلُونني في توحيدِ اللهِ. {وَقَدْ هَدَانِ} للتوحيدِ والحقِّ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (أَتُحَاجُّونِي) بتخفيف النون، بخلافٍ عن هشامٍ، والباقون: بتشديدِها إدغامًا لإحدى النونين في الأخرى، ومن خَفَّفَ حذفَ إحدى النونين تخفيفًا (¬2)، وأثبت أبو عمروٍ، وأبو جعفرٍ الياءَ في: (هَدَانِي) وصلًا، ¬

_ (¬1) "لها" ساقطة من "ت" و"ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 261)، و"التيسير" للداني (ص: 104)، و"تفسير البغوي" (2/ 40)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 286).

[81]

وأثبتها يعقوبُ في الحالين، وقرأ الكسائيُّ: (هَدَانِ) بالإمالة (¬1). {وَلَا أَخَافُ مَا} أي: الذي. {تُشْرِكُونَ بِهِ} أي: لا أخافُ معبوداتِكم؛ لأنها لا تضرُّ ولا تنفعُ، وذلك أنهم قالوا له: احذرِ الأصنامَ؛ فإنا نخافُ أن تمسَّكَ بسوءٍ من خَبَلٍ أو جنونٍ؛ لعيبِكَ إياها، فأجابهم بذلكَ. {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} أي: إلا أن يشاء أن يُلْحِقَني بشيء من المكروهِ بذنبٍ عملتُه، فتتمُّ مشيئتُه. {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي: أحاطَ علمُه بكلِّ شيء. {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} فتعرفونَ الحقَّ من الباطلِ. ... {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)}. [81] {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} ولا يتعلقُ به ضررٌ. {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} حجةً. المعنى: لمَ تنُكرون عليَّ الأَمْنَ في محلِّه، ولا تنكرونَ على أنفسِكم الأمنَ في محلِّ العَطَبِ لأنكم تشركون باللهِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 261)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 212)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 287).

[82]

{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} الموحِّدون أم المشركون؟ وإنما لم يقلْ: أيُّنا أنا أم أنتم؛ احترازًا من تزكيةِ نفسِه. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} صدقَ القول. ... {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}. [82] فقال الله تعالى قاضِيًا بينَهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} يَخْلِطوا. {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} بشركٍ. {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فلما نزلتِ الآيةُ، شقَّ ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسولَ الله! فأيُّنا لم يظلمْ نفسَهُ؟ فقال: "ذَلِكَ إِنَّما هُوَ (¬1) الشِّرْكُ، ألمْ تسمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهْ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬2) [لقمان: 13]. ... {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}. [83] {وَتِلْكَ} إشارةٌ إلى ما احتجَّ به إبراهيمُ على قومِه من قوله: ¬

_ (¬1) "هو"ساقطة من "ت". (¬2) رواه البخاري (6538)، كتاب: استتابة المرتدين، باب: ما جاء في المتأولين، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

[84]

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} إلى قوله: {وَهُم مُّهتَدُونَ}. {حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} حجةً. {عَلَى قَوْمِهِ} حتى خصَمَهم. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بالعلمِ. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} يضعُ كلَّ شيء في موضعِهِ. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (دَرَجَاتٍ) بالتنوين، والباقون: بغير تنوين (¬1)، وتقدم اختلافُ القراءِ في حكمِ الهمزتينِ من كلمتينِ في سورةِ البقرةِ من تفسيرِ قوله تعالى: {مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وكذلك اختلافُهم في (نشاءُ إِنَّ رَبَّكَ). ... {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)}. [84] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} تقدَّم ذكرُهما في سورة البقرة. {كُلًّا} منهما. {هَدَيْنَا} ووفَّقْنا وأرشدْنا. {وَنُوحًا هَدَيْنَا} أي: {مِنْ قَبْلُ} إبراهيمَ، وتقدَّمَ ذكرُه في سورةِ آل عمرانَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 261)، و"التيسير" للداني (ص: 104)، و"تفسير البغوي" (1/ 41)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 288).

{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} يعني: نوحًا؛ لأنه ذكرَ في جملتِهم يونسَ ولوطًا، ولم يكونا من ذريةِ إبراهيمَ و {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ} تقدم ذكرُ سليمانَ في سورةِ البقرةِ، وداودَ وأيوبَ في سورةِ النساءِ. {وَيُوسُفَ} هو ابنُ يعقوبَ بنِ إسحقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهم السلام، ولد لما كان لأبيه من العمر إحدى وتسعون سنةً، ووقعَ له مع إخوته وفي ملكِ مصرَ ما سنذكرُه في سورةِ يوسفَ إن شاء الله تعالى، وعاش مئةً وعشرينَ سنةً، وبينَه وبينَ موسى أربعُ مئةِ سنةٍ، وتوفِّيَ بمصرَ، ودُفِنَ بها في وسطِ بحرِ النيلِ في صندوقٍ من الرخامِ، وذلك أنه لما ماتَ، تشاحنَ عليه الناسٌ حتى هموا أن يقتتلوا، كلٌّ يحبُّ أن يُدفنَ في محلَّتِهِ رجاءَ بركتِه، ثم رأوا أن يُدفنَ في النيل، فيمرَّ عليه الماءُ، ثم يصلُ إلى جميع مصرَ، فتعمُّهم بركتُه، ففعلوا ذلكَ، ولم يزلْ مدفونًا ثَمَّ حتى كانَ زمنُ موسى وفرعونَ، فلما سارَ موسى ببني إسرائيلَ، نبشَهُ كما تقدَّمَ ذكرُه ملخَّصًا في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [الآية: 50]، وحَمَلَهُ على عجلٍ من حديدٍ، ودفنَه بحبرونَ (¬1) في البقيعِ خلفَ المغارةِ التي بُني عليها الحيزُ السليمانيُّ حذاءَ قبرِ يعقوبَ وجوارَ جَدَّيه إبراهيمَ وإسحاقَ عليهم السلام، وقيل: دُفن بقرب نابلسَ، والأولُ هو المشهورُ عندَ الناس، وقد استفاض فلم ينكرْ. {وَمُوسَى} تقدَّمَ ذكرُه في سورةِ البقرةِ. ¬

_ (¬1) في "ن": "جبرون".

[85]

{وَهَارُونَ} في سورةِ النساءِ، تلخيصُه: ومن ذريةِ نوحٍ هَدَينا جميعَ المذكورينَ بعدُ. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي: ونجزي المحسنين جزاءً مثلَ جزاءِ إبراهيمَ برفعِ درجاتِه وكثرةِ أولادِهِ والنبوةِ فيهم. ... {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)}. [85] {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} تقدَّم ذكرُهم في آلِ عمرانَ، والمائدةِ، وفي ذكرِ عيسى دليل على أنَّ أولادَ البناتِ من الذريَّةِ، فإذا وقفَ على ذريتِهِ، دخلَ أولادُ البناتِ، وهو مذهبُ مالكٍ، وبه قالَ أبو يوسفَ، وعن أبي حنيفةَ روايتان، والراجحُ المقدَّم من مذهبِ أحمدَ المنصوصُ عنه أنهم لا يدخلونَ إلا بقرينة؛ كقوله: من ماتَ فنصيبُه لولده ونحوه، وعنه روايةٌ ثانيةٌ أنهم يدخلون، اختاره جماعةٌ من أصحابِه، وعليه العملُ. {وَإِلْيَاسَ} هو ابنُ بشرِ بنِ فنحاضِ بنِ العيزارِ بنِ هارونَ بنِ عمرانَ، أُرسل إلى أهلِ بعلبكَّ، وسيأتي ذكرُه في سورةِ الصافات إن شاء الله تعالى. {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} الكاملينَ في الصلاحِ. ... {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)}. [86] {وَإِسْمَاعِيلَ} هو ابنُ إبراهيمَ، تقدَّمَ ذكرُه في سورة البقرة. {وَالْيَسَعَ} هو ابن أخطوبَ بن العجوزِ، استحفظَه إلياسُ على بني

[87]

إسرائيلَ، ثم استُنبئ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (واللَّيْسَعَ) بتشديد اللام وسكون الياء، وقرأ الباقون: مخففًا بفتح الياءِ وسكون اللامِ (¬1)، وهما لغتانِ، فمن قرأ بلامينِ، فأصلُ الاسم: لَيْسَعُ، ثم دخلتِ الألفُ واللامُ للتعريف، ومن قرأ بلامٍ واحدةٍ، فالاسمُ يَسَعُ، ودخلت الألفُ واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسةَ عشرَ، قال وهبٌ: اليسعُ صاحبُ إلياسَ، وكانا قبل زكريا عليه السلام. {وَيُونُسَ} هو ابنُ مَتَّى، وتقدَّمَ ذكرُه في سورةِ النساءِ. {وَلُوطًا} هو ابنُ هارانَ بنِ آزرَ، سمي لوطًا؛ لأنَّ حبَّه ليطَ بقلبِ عمِّه إبراهيمَ؛ أي: تعلَّق ولَصِقَ، وكانَ إبراهيمُ يحبُّه حبًّا شديدًا، وكان ممن آمنَ به، وهاجرَ معه إلى مصرَ، وعادَ إلى الشام، وأرسلهَ اللهُ إلى أهل سَدُوم، وكانوا أهلَ كفرٍ وفاحشةٍ، وسنذكر ملخَّصَ أخبارِهم في محلِّه إن شاء الله تعالى، وقبرُه في قريةِ كَفْرِ بَرِيك، [تبعدُ] (¬2) عن حبرونَ نحوًا من فرسخٍ من جهةِ الشرق. {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} بالنبوَّةِ. ... {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)}. [87] {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} عطفٌ على (كلًّا)؛ أي: وفضَّلْنا ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 262)، و"التيسير" للداني (ص: 104)، و"تفسير البغوي" (2/ 42)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 289). (¬2) لم ترد في جميع النسخ والسياق يقتضيها.

[88]

بعضَ آبائهم وذرياتِهم وإخوانِهم؛ فإنَّ منهم من لم يكنْ نبيًّا ولا مَهْدِيًّا. {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} واخْتَرْناهم. {وَهَدَيْنَاهُمْ} أرشَدْناهم. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تكريرٌ لبيانِ ما هُدوا إليه. ... {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)}. [88] {ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما دانو به. {هُدَى اللَّهِ} دينُ الله. {يَهْدِي} يرشدُ. {بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} لأنه المتفضلُ بالهداية. {وَلَوْ أَشْرَكُوا} أي: المذكورونَ مع جلالةِ قدرِهم. {لَحَبِطَ} لبطلَ. {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وكانوا كغيرِهم في سقوطِ ثوابِ أعمالهم. ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)}. [89] {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي: الكتبَ المنزلةَ عليهم.

[90]

{وَالْحُكْمَ} العلمَ. {وَالنُّبُوَّةَ} الرسالةَ. {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} أي: بهذهِ الثلاثةِ. {هَؤُلَاءِ} يعني: كفارَ مكةَ. {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي: بمراعاتها. {قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} يعني: الأنصارَ، وأهلَ المدينة، وقيلَ: الأنبياءُ الثمانيةَ عشرَ الذين ذكرَهم هاهنا، والباء في {بكافرين} زائدةٌ لتأكيدِ النفي، والمعنى: جميعُ مَنْ ذُكر وَفَّقْنا للإيمانِ بهذهِ الأشياءِ، وليسوا كافرينَ بها، بل يحفظونها. ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)}. [90] {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} يعني: الأنبياءَ المتقدِّمَ ذكرُهم. {فَبِهُدَاهُمُ} فَبِسُنَّتِهم. {اقْتَدِهْ} اتبعْ طريقَتَهم في التوحيدِ والصبرِ على الميثاقِ دونَ الشرائعِ؛ لأنها مختلفةٌ، والهاءُ فيه هاء الوقف. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (اقْتَدِ قُلْ) بحذفِ الهاءِ في الوصل استغناءً به عنها، وقرأ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: بإشباعِ كسرةِ الهاءِ وصلتِها بياءٍ في الوصلِ، وهشامٌ: باختلاسِ كسرتها في الوصلِ بغيرِ صلةٍ تشبيهًا لها بما هو أصلٌ،

[91]

وقرأ الباقون: بإثباتها في الحالين؛ لثبوتها في المصاحف، وسَكَّنوها وَصْلًا؛ لأنها للسَّكْتِ (¬1). {قُلْ} يا محمدُ لهؤلاءِ الكفرةِ المعاندينَ: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: القرآنِ. {أَجْرًا} جُعْلًا من جهتِكم كما لم يسألْ مَنْ قبلي من النبيينَ. {إِنْ هُوَ} أي: القرآنُ. {إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} أي: تذكيرٌ وعِظَةٌ لهم. ... {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}. [91] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظَّموه حقَّ عَظَمته فيما وجبَ لهُ، واستحالَ عليه. {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} رُوي أن مالكَ بنَ الصيفِ من أحبارِ اليهود ورؤسائهم جاء يخاصمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بزعمِه، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى! هَلْ تَجِدُ فِيهَا أَنَّ اللهَ يُبْغِضُ الحَبْرَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 262)، و"التيسير" للداني (ص: 105)، و"تفسير البغوي" (2/ 43)،، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 213)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 290 - 291).

السَّمِينَ؟! فَأَنْتَ الْحَبْرُ السَّمِينُ، قَدْ سَمِنْتَ مِنْ مَالِكَ الَّذِي يُطْعِمُكَ الْيَهُودُ"، فضحكَ القومُ، فغضبَ، ثم التفتَ إلى عمرَ فقالَ: ما أنزلَ اللهُ على بشرٍ من شيء، فقالَ له قومُه: وَيْلَكَ! ما هذا الذي بلغَنا عنكَ؟! فقالَ: إنه أغضبني، فقلتُ ذلك، فقالوا له: وأنتَ إذا غضبتَ تقولُ على الله غيرَ الحق؟! فَنَزعوهُ من الحبرية، وجعلوا مكانه كعبَ بنَ الأشرفِ، فنزلت الآيةُ (¬1)، ثم قالَ نَقْضًا لقولهم، ورَدًّا عليهم: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} يعني: التوراة. {نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} نَيِّرًا وهادِيًا. {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} دفاترَ مبدَّدة. {تُبْدُونَهَا} تُظهرون ما تحبون. {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} من نعتِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وآيةِ الرجم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ: (يَجْعَلُونَهُ) (يُبْدُونَهَا) (وَيُخْفُونَ) بالغيبِ في الثلاثة؛ لقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}، وقرأ الباقون: بالخطاب فيهن (¬2)؛ لقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}، وقولُه: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} بالخطابِ لليهودِ؛ أي: علمتم على لسانِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما لم تعلموا. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1342)، عن سعيد بن جبير، وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 122). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 262)، و"التيسير" للداني (ص: 105)، و"تفسير البغوي" (2/ 44)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 392 - 393).

[92]

{أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} زيادةً على ما في التوراة، وبيانًا لما التبسَ عليكم وعلى آبائِكم الذين كانوا أعلمَ منكم. {قُلِ اللَّهُ} هذا راجع إلى قوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}، فإنْ أجابوكَ، وإلا أنتَ: فـ {قُلِ اللَّهُ} أنزلَهُ. {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} باطِلِهم وجهلِهم. {يَلْعَبُونَ} أي: لاعبينَ، ومعنىَ الكلامِ التهديدُ. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}. [92] س {وَهَذَا كِتَابٌ} يعني: القرآنَ. {أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} كثيرُ الفائدةِ والنفعِ. {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتبِ المنزلةِ قبلَه. {وَلِتُنْذِرَ} يا محمدُ. قراءة الجمهورِ: بالخطابِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: بالغيبِ إخبارًا عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). {أُمَّ الْقُرَى} أصلَ البلادِ مكةَ. {وَمَنْ حَوْلَهَا} هم أهلُ شرقِ الأرضِ وغربِها. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بالكتابِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 263)، وباقي المصادر السابقة.

[93]

{وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ} الخمسِ. {يُحَافِظُونَ} يداوِمون. ... {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)}. [93] ونزل في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة حين زعم أنه نبيٌّ يوحى إليه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق. {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعم أن الله بعثه نبيًّا. {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} وهو عبد الله بن سعد بن سرح, كان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فلما نزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} فلما بلغ قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} قال عبد الله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14] تعجبًا من تفصيل خلق الإنسان, فقال عليه الصلاة والسلام: "اكتبها, فكذلك أنزلت", فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد صادقًا, لقد أوحي إلي كما أوحي إليه, ولئن كان كاذبًا, لقد قلت كما قال, ولحق بالمشركين مرتدًا, ثم أسلم قبل الفتح والنبي - صلى الله عليه وسلم - بمرِّ الظهران (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 122) و"تفسير البغوي" (2/ 45) , =

[94]

{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يريدُ المستهزئينَ الذين قالوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31]. {وَلَوْ تَرَى} يا محمد. {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} شدائده، وأصلُه من: غمرَ الشيءُ. {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} لقبضِ أرواحِهم، ويقولون إزعاجًا لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أرواحَكم؛ لنقبضَها، والجوابُ محذوفٌ، أي: ولو تراهم في هذه الحالة لرأيت عجبًا. {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: الهوانِ. {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} من ادِّعاء الولدِ والشريكِ له، ودعوى النبوة والوحي. {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} تتعَظَّمونَ فلا تؤمنون. ... {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}. [94] {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} وُحدانًا بلا مالٍ ولا شافعٍ، جَمعَ وحدان كسَكران، هذا خبرٌ من الله أنه يقولُ للكفارِ يومَ القيامة. {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} على الهيئة التي ولِدتم عليها. ¬

_ = و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 317).

[95]

{وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} أعطيناكُم. {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} في الدنيا بغيرِ اختياركم. {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} أي: الأصنامَ. {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} للهِ. {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قرأ نافع، وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (بَيْنَكُمْ) بنصبِ النونِ؛ أي: تقطَّعَ ما بينَكم من الوصلِ، وقرأ نافع والباقون: بضم النون؛ أي: تقطع (¬1). {وَضَلَّ عَنْكُمْ} ضاعَ وبطلَ. {مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها شفعاؤكم. ... {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)}. [95] {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أي: شاقُّهما بالنباتِ بينَ الزرعِ والنخلِ. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي: البشرَ الحيَّ منَ النطفةِ الميتةِ. {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أي: النطفةَ الميتةَ من البشرِ الحيِّ، وكذلكَ الطيرُ منَ البيضِ، والحوتُ، وسائرُ الحيوان. قرأ نافع، وأبو جعفرٍ، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 263)، و"التيسير" للداني (ص: 105)، و"تفسير البغوي" (2/ 46)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 296).

[96]

وحمزةُ، والكسائيُّ، وحفص، وخلفٌ: (الْمَيِّتِ) بتشديدِ الياء في الحرفين، والباقون: بالتخفيفِ (¬1). {ذَلِكُمُ اللَّهُ} أي: المحيي المميتُ. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيفَ تُصرَفون عن الحقِّ إلى ضِدِّه؟ ... {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}. [96] {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} أي: شاقُّه حينَ يتبيَّنُ الصبحُ. {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} يسكنُ فيه خلقُه. قرأ الكوفيون: (وَجَعَلَ) على الماضي (اللَّيْلَ) نصبًا اتِّباعًا للمُصحفِ، وقرأ الباقون: بالألف وكسر العين ورفع اللام وخفض (اللَّيْلِ) إضافةً (¬2). {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي: عَلَمي حُسبانٍ يُعْلَم بدورِهما حسابُ الأوقات. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الذي سَيَّرَهما. {الْعَلِيمِ} بتدبيرِهما. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 105)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 260)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 297). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 263)، و"التيسير" للداني (ص: 105)، و"تفسير البغوي" (2/ 47)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 298).

[97]

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)}. [97] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} أي: خلقَها لكم. {لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ} الليلِ في. {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} لأن راكبَ البحرِ والسائرَ في القفارِ يهتدي بها في الليلِ إلى مقاصدِه. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} بيناها فَصْلًا فَصلًا. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فإنَّهم المنتفعونَ به. ... {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}. [98] {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} خلقَكُم، والإنشاءُ: إثباتُ شيءٍ لم يكنْ قبلَه. {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدمَ عليه السلام. {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، وروحٌ عن يعقوبَ: (فَمُسْتَقِرٌّ) بكسر القاف؛ أي: فمنكم مستقرٌ، ومنكم مستودعٌ، وقرأ الباقون: بفتحهما؛ أي: فمنكم مستقَرٌّ ومستودَع، والمستقَرُّ: أرحامُ الأمهاتِ، والمستودعُ: أصلابُ الآباء، وقيلَ غيرُ ذلك، واتفقوا على فتح الدال من مستودَع (¬1)؛ لأن المعنى أن الله استودَعه، فهو مفعولٌ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 263)، و"التيسير" للداني (ص: 105)، و"تفسير البغوي" (2/ 48)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 299).

[99]

{قَدْ فَصَّلْنَا} أي: بَيَّنَّا. {الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} والفقهُ لغةً: الفهمُ. ... {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. [99] {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أي: من السحابِ. {مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بالماءِ. {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} من النباتِ. {خَضِرًا} أي: زرعا رَطْبًا. {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} بعضُه فوقَ بعضٍ مثلَ سنابلِ البُرِّ والشعيرِ وسائرِ الحبوب. {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} والطَّلْعُ: أولُ ما يخرجُ من ثمر النخلِ. {قِنْوَانٌ} جمعُ قِنْوٍ، وهو العِذْقُ. {دَانِيَةٌ} قريبةُ المتناوَلِ. {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} قرأ العامةُ: (جَنَّاتٍ) نصبًا عطفًا على (نَبَات)، وقرأ الأعشى عن عاصمٍ: (وَجَنَّاتٌ) بالرفعِ نَسَقًا على قوله: (قِنْوَانٌ) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 49)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (1/ 148)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 214)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 300).

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أي: وأخرَجْنا شجرَتَهما. {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} المعنى: مشتبهًا ورقُهما، مختلفًا ثمرُهما؛ لأنَّ ورقَ الزيتونِ يشبهُ ورقَ الرمان. {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (ثُمُرِهِ) بضمِّ الثاء والميم على جمع الثمار، والباقون: بفتحهما على جمع الثمرة (¬1). {إِذَا أَثْمَرَ} إذا خرجَ ثمرُه لا يكادُ ينتفعُ به. {وَيَنْعِهِ} نضجِه كيفَ يعودُ فخمًا ذا نفعٍ ولذةٍ. وأما الحكمُ في بيعِ الثمرةِ منفردةً عن الشجرِ، فإذا بدا صلاحُها، جازَ بيعُها مطلَقًا، وبشرطِ التبقيةِ، وبشرطِ القطعِ عندَ الثلاثةِ، وعندَ أبي حنيفةَ يجبُ القطعُ في الحالِ، فإذا شرطَ التبقيةَ، بطلَ البيعُ، وإذا لم يبدُ صلاحُها، يجوزُ بيعُها إذا كانت منتفعًا بها بشرطِ القطعِ في الحال، فإن باعَ بشرطِ التبقية بطلَ البيعُ بالاتفاق، وإِن لم يشترط القطعَ، بطلَ عندَ الثلاثة، وقال أبو حنيفةَ: البيعُ صحيحٌ، ويؤمرُ بالقطعِ. وأما الزرعُ إذا اشتدَّ حَبُّهُ، صحَّ بيعُه عند الثلاثةِ، وعندَ الشافعيِّ لا يصحُّ بيعُه دونَ سنبُلِهِ، ولامعَهُ في الجديدِ. إذا أصابتِ الثمارَ جائحةٌ بأمرٍ سماويِّ، وهي التي لا صنعَ لآدميّ فيها، فهي من ضمانِ المشتري عندَ أبي حنيفةَ، والشافعيُّ لا يجبُ له وضعَ شيءٍ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 264)، و"التيسير" للداني (ص: 105)، و"تفسير البغوي" (2/ 49)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 301).

[100]

من الثمن، وعند مالكٍ إن أتلفتِ الجائحةُ ثلثَ الثمرةِ فصاعدًا، سقطَ عن المشتري بقدرِ ما تَلِفَ، وإن كان دونَ الثلث، لم يرجعْ على البائع بشيء، وعند أحمدَ إن تلفتْ أو بعضُها ولو بعدَ قبضِها وتسلُّمِها رجعَ على البائع ما لم يشترِها مع أصلها، ويؤخِّرْها عن وقتِ أخذِها المعتاد، ولكن يسامحُ في الشيء اليسير الذي لا ينضبطُ، ولو تَعَيَّنَتْ به، خُيِّرَ بينَ الإمضاءِ مع الأَرْشِ، وبين الردِّ وأخذِ الثمنِ كاملًا. {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تنبيهٌ وتذكيرٌ، ونزلَ توبيخًا لمن أشركَ باللهِ، وردًّا عليه. ... {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)}. [100] {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} يعني: الكافرينَ صَيَّروا الجنَّ شركاءَ لله. {وَخَلَقَهُمْ} يعني: وهو خلقَ الجنَّ. {وَخَرَقُوا} قرأ نافع، وأبو جعفرٍ: (وَخَرَّقُوا) بتشديدِ الراءِ على التكثير، وقرأ الباقون: بالتخفيف، أي: اختلفوا (¬1). {لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} بل تخرُّصًا؛ كقولِ اليهود: عُزيرٌ ابنُ اللهِ، وقولِ النصارى: المسيحُ ابنُ اللهِ، وقولِ كفارِ العربِ: الملائكةُ بناتُ الله، ثم نَزَّهَ نفسَهُ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 264)، و"التيسير" للداني (ص: 105)، و"تفسير البغوي" (2/ 50)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 303).

[101]

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} من وصَفْهِم الفاسدِ المستحيلِ عليه تبارَكَ وتعالى. ... {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}. [101] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: مبدِعُهما لا على مثالٍ سبقَ. {أَنَّى} أي: كيف. {يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} زوجةٌ. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} من المخلوقاتِ مع عدمِ حاجتِه إليها. قرأ أبو عمرو: (وَخَلَقَ كلَ شَيْءٍ) (وَخَلَقَ كلَّ دَابة) وشبهَه بإدغامِ القافِ في الكاف حيثُ تحرَّكَ ما قبلَها، فإن سكن ما قبلَها, لم يدغمها، نحو قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] وشبهِه. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا تخفى عليه خافية. ... {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}. [102] {ذَلِكُمُ} إشارة إلى الموصوفِ بما سبقَ من الصفاتِ، وهو مبتدأ.

[103]

{اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أخبارٌ مترادفة، تلخيصه: ذلكُمُ اللهُ المنعوتُ بهذهِ النعوتِ لا يجوزُ أن يُعْبَدَ غيرُه. {فَاعْبُدُوهُ} فأطيعوهُ. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} رقيب على أعمالِكم، فيجازيكم عليها. ... {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. [103] {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} لا تحيطُ به. {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} لا يفوتُه منها شيء، فيبصرُ ما لا يبصرُ خلقُه، وخلقُهُ لا يُبصرون ما يُبصرُ، والمعتزلةُ يتمسَّكون بظاهرِ هذهِ الآية في نفي رؤيةِ الله عَزَّ وَجَلَّ، ومذهبُ أهلِ السُّنةِ إثباتُ رؤيتِه سبحانه في الآخرةِ، جاء به القرآنُ والسنةُ، وعليه اتفاقُ الأئمة، قال الله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وقال في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيانًا" (¬1)، وقالَ مالكٌ: لو لم يرَ المؤمنونَ ربَّهم يومَ القيامةِ، لَمْ يُعَيِّروا الكفارَ بالحِجابِ، وقال أبو حنيفةَ: واللهُ تعالى يُرَى في الآخرةِ، يراهُ المؤمنونَ في الجنة بأعينِ رؤوسِهم بلا شُبهةٍ ولا كيفيةٍ، ولا يكونُ بينَه وبينَ خلقه مسافةٌ، وقال الشافعيُّ: لما حُجِبَ قومٌ بالسخطِ، دلَّ على أن قومًا يرونه بالرِّضا، وقال أحمدُ: إنَّ الله تعالى يتجلَّى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6998)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}، عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-.

[104]

في القيامةِ لعبادِه الأبرارِ، فيرونَهُ بالعيونِ والأبصار. {وَهُوَ اللَّطِيفُ} الرفيقُ بعبادهِ. {الْخَبِيرُ} بهم. ... {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}. [104] {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ} حُجَج. {مِنْ رَبِّكُمْ} تبُصرون بها الهدى من الضلالة. {فَمَنْ أَبْصَرَ} أي: عرفَها، وآمنَ بها. {فَلِنَفْسِهِ} عملَ. {وَمَنْ عَمِيَ} عنها، فلم يصدِّقْها. {فَعَلَيْهَا} فعلى نفسِه، ولها خسرَ. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظُ عليكم أعمالَكم، إنْ عليَّ إلا البلاغ. ... {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}. [105] {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} نُبيِّنُها. {وَلِيَقُولُوا} أي: لئلا يقولوا. {دَرَسْتَ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو: بألفٍ بعدَ الدالِ وإسكانِ السينِ

[106]

وفتحِ التاء؛ يعني: قرأتَ، وقرئَ عليكَ؛ أي: قارأتَ أهلَ الكتاب بأن أعنتَهم وأعانوك، نحو: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4]، وقرأ الكوفيون، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ: (دَرَسْتَ) بغير ألف وإسكانِ السين وفتح التاء؛ أي: قرأتَ كتبَ الأولين وجئتَ بالقرآنِ منها، وقرأ ابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (دَرَسَتْ) بغير ألفٍ وفتحِ السينِ وإسكانِ التاءِ؛ أي: انمحَتِ الأخبارُ التي تأتينا بها (¬1). {وَلِنُبَيِّنَهُ} أي: القرآنَ. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الحقَّ من الباطلِ، فيسعدُ قوم، ويشقى آخرون. ... {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)}. [106] {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} بالتديُّن به. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: منفردًا. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} لا تجادِلْهُمْ. ... {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}. [107] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} توحيدَهُمْ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 265)، و"التيسير" للداني (ص: 105)، و"تفسير البغوي" (2/ 52)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 304 - 305).

[108]

{مَا أَشْرَكُوا} وهو دليلٌ على أنه تعالى لا يريدُ إيمانَ الكافرِ. {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} مُراعِيًا أعمالَهم. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} مسلَّطٍ على إكراهِهم على الإِسلامِ. ... {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)}. [108] قال قتادة: كانَ المسلمون يَسُبُّونَ أوثانَ الكفار، فنهاهم الله عن ذلك؛ لئلا يسبوا الله؛ لأنهم قومٌ جَهَلَةٌ، فقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ} أي: المدعُوِّينَ آلهةً. {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} اعتداءً وظلمًا. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بجهلٍ. قرأ يعقوبُ: (عُدُوًّا) بضمِّ العين والدال وتشديد الواو (¬1)، فلما نزلتْ قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا رَبَّكُمْ"، ونهُوا عن سبِّ الآلِهة (¬2)، وإن كانَ طاعة؛ لإفضائِه إلى مفسدةٍ أعظمَ منه، قال القرطبيُّ في "تفسيره": إنَّ الحكمَ بالنهيِ باقٍ في هذهِ الأمةِ، فمتى خِيفَ أنَّ الكافرَ يسبُّ الإِسلامَ والنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - واللهَ جَلَّ جلالُه، فلا يحلُّ لمسلم أن يسبَّ دينَهم، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 53)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 261)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 215)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 307). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 123).

[109]

ولا صُلْبانَهم، ولا كنائِسَهُم، ولا يتعرَّضَ إلى ما يؤدِّي إلى ذلك (¬1). {كَذَلِكَ} أي: كما. {زَيَّنَّا} لهؤلاء المشركين عبادةَ الأوثانِ وطاعةَ الشيطانِ. {لِكُلِّ أُمَّةٍ} منَ الكفارِ. {عَمَلَهُمْ} وفيه ردٌّ على القدرية. {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بالمحاسبةِ والمجازاةِ عليه. ... {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)}. [109] ولما طلبتْ قريشٌ منه - صلى الله عليه وسلم - نزولَ الملائكةِ، وإحياءَ الموتى، وجَعْلَ الصَّفا ذهبًا، وحلفوا أنهم يؤمنونَ عند ذلك، وكان المؤمنون يحبون ذلك ليؤمنَ المشركون، نزل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} مجتهدينَ في الحلفِ. {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} يا محمدُ. {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} لا عندي، وهو القادرُ على المجيء بها، لا أنا. {وَمَا} استفهامٌ مبتدأ، خبرُه: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (7/ 61).

[110]

{يُشْعِرُكُمْ} أي: يدريكم أيها المؤمنون. رُوي عن أبي عمرو: (يُشْعِرْكُمْ) بإسكانِ الراء، وروي عنهُ باختلاسها، وقرأ الباقون: بإشباع الحركة، وتقدم في سورة البقرة (¬1). {أَنَّهَا} أي: الآيةَ المقترحةَ. {إِذَا جَاءَتْ} الكفارَ (¬2). {لَا يُؤْمِنُونَ} بها؛ لسبق علمِه بعدمِ إيمانهم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، ويعقوبُ، وخلفٌ، وعاصمٌ بخلافٍ عن راويه أبي بكرٍ (إِنَّهَا) بكسرِ الألف على الابتداء، وقالوا: تمَّ الكلامُ عندَ قوله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ)، وقرأ الباقونَ: بفتح الألف بمعنى لعلَّ، وقرأ ابنُ عامرٍ: (لا تُؤْمِنُونَ) بالتاءِ على خطاب الكفار، والباقون: بالياء على الخبر (¬3). ... {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}. [110] {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} أي: نحولُ بينهم وبينَ الإيمان, فلا يؤمنونَ عندَ نزول الآيات. {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ} أي: بما جاءهم. ¬

_ (¬1) عند تفسير الآية (67)، وانظر: "تفسير البغوي" (2/ 54)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 136، 215)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 308). (¬2) "الكفار" ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 265)، و"التيسير" للداني (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (2/ 54)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 308 - 309).

[111]

{أَوَّلَ مَرَّةٍ} من الآياتِ؛ كانشقاقِ القمرِ وغيرِه. {وَنَذَرُهُمْ} نَدَعُهم. {في طُغْيَانِهِمْ} ضَلالَتِهم. {يَعْمَهُونَ} يتمادَوْنَ عَمَهَةً لا يبصرون. ... {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}. [111] {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} فرأَوهم عيانًا. {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كما طَلَبوا. {وَحَشَرْنَا} جميعًا. {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} طلبوهُ. {قُبُلًا} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء؛ أي: معاينةً، وقرأ الباقونَ: بضمهما؛ أي: أولًا (¬1). {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ذلكَ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أنهم لو أوتوا بكلِّ آيةٍ، لم يؤمنوا، فيحلفون أنهم يؤمنونَ عندَ نزولِ الآياتِ، أو المؤمنون يجهلونَ أن الكافرينَ لا يؤمنون، فيطلبون نزولَ الآياتِ طمعًا في إيمانهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 265)، و"التيسير" للداني (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (2/ 55)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 311).

[112]

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}. [112] ثم سُلِّيَ رسول الله (¬1) - صلى الله عليه وسلم - فقيلَ له: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} [أي: كما جَعْلنا لك أعداءً، فكذلكَ جعلْنا لمن تقدَّمَكَ من الأنبياء، ثم فَسَّرَهُمْ فقال:] (¬2) {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} وللإنس شياطينُ كما أن للجنِّ شياطينَ، وكلُّ عاتٍ شيطانٌ، قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذَرٍّ: "هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللهِ مِنْ شَيْطَانِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ؟ "، قال: وهل للإنسِ من شياطين؟! قال: "نَعَمْ، هُمْ شَرٌّ مِنْ شَياطينِ الْجِنِّ" (¬3). {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي: يوسوس ويلقي شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنسِ، وبالعكسِ. {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} مموَّه لا معنى تحتَه. {غُرُورًا} خدعا. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي: الإيحاءَ من الزخرفةِ والغرورِ وعداوةِ الأنبياءِ. ¬

_ (¬1) "رسول الله" سقطت من "ظ". (¬2) ما بين معكوفتين ساقط من "ت". (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 187)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4721)، (4721)، عن أبي ذر -رضي الله عنه-.

[113]

{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أمر فيه معنى التهديد. ... {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}. [113] {وَلِتَصْغَى} لتميل. {إِلَيْهِ} أي: إلى زخرفِ القولِ. {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} لأنفسِهم. {وَلِيَقْتَرِفُوا} يكتسِبوا. {مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} من الذنبِ. ... {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)}. [114] {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} فيه إضمارٌ؛ أي: قل لهم يا محمَّد: أفغيرَ الله. {أَبْتَغِي} أطلبُ. {حَكَمًا} قاضيًا بيني وبينكم؛ لأنهم قد طلبوا منه قاضيًا يقضي بينهم وبينَه، فأجابهم به. {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} أي: القرآنَ. {مُفَصَّلًا} أي: مُبَيَّنًا فيه الحقُّ من الباطلِ.

[115]

{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني: علماءَ اليهودِ والنصارى الذين آتيناهم التوراةَ والإنجيلَ. {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يعني: القرآن. {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} قرأ ابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصم: (مُنَزَّلٌ) بالتشديد مبالغة؛ لأنه نزلَ نجومًا متفرقةً، وقرأ الباقون: بالتخفيف، من الإنزال؛ لأنه نزلَ مرة واحدة إلى بيتِ العزة (¬1)، والمعنى: العالمون يعلمون أن القرآن منزلٌ من ربِّكَ. {بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكِّينَ في أنهم يعلمون ذلك. ... {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}. [115] {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} بالوعدِ والوعيدِ. قرأ الكوفيون، ويعقوبُ: (كَلِمَةُ) على التوحيد، والباقون: (كَلِمَاتُ) بالجمع (¬2). {صِدْقًا وَعَدْلًا} فيما وعدَ، وعدلًا فيما حكمَ. {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لا رادَّ لقضائِه، ولا مُغَيِّرَ لحكمِه. {وَهُوَ السَّمِيعُ} لما يقولون. {الْعَلِيمُ} بما يُضمرون. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 266)، و"التيسير" للداني (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (2/ 75)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 313). (¬2) المصادر السابقة عدا "السبعة" لابن مجاهد.

[116]

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)}. [116] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} أي: الكفارَ. {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يَصرِفوكَ عن دينهِ. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} وهو ظنُّهم أن آباءهم كانوا على الحقِّ. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يَحْزِرون. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}. [117] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} و (من) في محل نصب بنزع حرف الصفة؛ أي: بـ (مَنْ يَضِلُّ)، أو في محلٍّ رفعٍ بالابتداء، ولفظُه لفظُ الاستفهام، والمعنى: إن ربك هو أعلمُ أَيّ الناسِ يَضِلُّ عن سبيلِهِ. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي: أعلمُ بالفريقين، فيجازي كلًّا بما يستحقُّه. {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)}. [118] {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: كلوا مما ذُبح على اسمِ الله. {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} وذلك أنهم كانوا يُحَرِّمون أصنافًا من النَّعَمِ، ويُحِلُّون الأموات. ***

[119]

{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)}. [119] ثم وَبَّخَهم على تركِ الأكلِ منه فقالَ: {وَمَا لَكُمْ} وأيُّ مانعٍ لكم من. {أَلَّا تَأْكُلُوا} شيئًا. {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} من الذبائحِ. {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو عمرو: بضم الفاءِ والحاءِ وكسرِ الصادِ والراءِ على غير تسمية الفاعل؛ لقوله: (ذُكِرَ)، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصم: (فَصَّلَ) و (حَرَّمَ) بالفتح فيهما؛ أي: فَصَّلَ اللهُ ما حرَّمَه عليكم؛ لقوله (اسمُ الله)، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ: (فَصَّلَ) بالفتح، و (حُرَّمَ) بالضم (¬1)، وأرادَ بتفصيل المحرمات ما ذُكر في قولهِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]. {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} من هذه الأشياءِ؛ فإنه حلال لكم عندَ الاضطرار. قرأ أبو جعفرٍ بخلافٍ عنهُ: (اضْطِرِرْتُمْ) بكسرِ الطاء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 267)، و"التيسير" للداني (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (2/ 58)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 262)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 314). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 226، 262)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 315).

[120]

{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ} قرأ الكوفيون: بضم الياء؛ أي: يُضِلُّون غيرَهم، وقرأ الباقون: بالفتحِ؛ أي: يَضِلُّون هم (¬1). {بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قوله بِتَشَهِّيهم من غيرِ تعلُّقٍ بدليلٍ يفيدُ العلمَ. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} الذين يجاوزونَ الحلالَ إلى الحرام. ... {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)}. [120] {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} سِرَّهُ وعلانيتهُ. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ} في الآخرةِ. {بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} يكتسبون (¬2) في الدنيا. ... {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)}. [121] {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} من الميتاتَ وما في معناها من المنخنقةِ وغيرِها، وما ذُبح على اسمِ غيرِ الله. {وَإِنَّهُ} أي: الأكلُ منه. {لَفِسْقٌ} لمعصيةٌ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 267)، و"التيسير" للداني (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (2/ 58)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 315). (¬2) في "ن": "يكسبون".

[122]

واختلف الأئمةُ في ذبيحةِ المسلمِ إذا لم يذكرِ اسمَ اللهِ عليها، فقال الشافعيُّ: تحلُّ، سواءٌ تركَ التسميةَ عامدًا أو ناسيًا؛ لأن التسميةَ عنده سنة، وقال الثلاثة: إنْ تركَها عمدًا، لم تحلَّ، وإن تركها ناسيًا، حلَّتْ، وتقدم اختلافُهم في التسميةِ على الصيدِ والذبيحةِ أيضًا في سورةِ المائدةِ عندَ تفسيرِ قولهِ تعالي: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} لَيوسْوِسونَ. {إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} المشركين. {لِيُجَادِلُوكُمْ} بقولهم: تأكلونَ ما قتلتُم أنتم وجوارُحُكم، وتدعونَ ما قتلَه الله؟! يعنونَ الميتة. {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في أكلِ الميتةِ. {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فيه دليلٌ على أن من أحلَّ شيئًا مما حرَّمَ الله، وحرَّم شيئًا مما أحلَّ الله، فهو مشركٌ. ... {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}. [122] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا} بالكفرِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (مَيِّتًا) بالتشديدِ، والباقون: بالتخفيف (¬1). ¬

_ (¬1) وقد تقدم. وانظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 268)، و"التيسير" للداني =

{فَأَحْيَيْنَاهُ} هَدَيناهُ. {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} أي: الإيمانَ. {يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} بينَهم متبصِّرًا به (¬1)، فيعرف الحقَّ من الباطلِ. {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} أي: كمن هو في الظلماتِ. {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} يعني: في ظلمةِ الكفرِ. {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفرِ والمعصيةِ. قال ابنُ عباسٍ: " {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} يريدُ: حمزةَ بنَ عبدِ المطلبِ رضي الله عنه، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} يريدُ: أبا جهلِ بنَ هشامٍ، وذلك أن أبا جهلٍ رَمَى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِفَرْثٍ، فأُخبرَ حمزةُ بما فعل أبو جهلٍ وهو راجعٌ من قَنْصِهِ، وبيدِه قوسٌ، وحمزةُ لم يؤمنْ بعدُ، فأقبلَ غضبانَ حتى علا أبا جهلٍ بالقوسِ وهو يتضرَّعُ إليه ويقولُ: يا أبا يَعْلَى! أَما تَرى ما جاءَ به؟ سَفَّهَ عقولَنا، وسبَّ آلهتَنا، وخالفَ آباءنا! فقال حمزةُ: ومَنْ أسفهُ منكم؟! تعبدونَ الحجارةَ من دونِ اللهِ! أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله، فأنزلَ الله هذه الآيةَ" (¬2). ... ¬

_ = (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (2/ 60)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 315). (¬1) "به" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 124).

[123]

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)}. [123] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} أي: كما أن فُسَّاقَ مكةَ أكابرُها، كذلك جعلْنا فساقَ كلِّ قريةٍ أكابرَها؛ أي: عظماءها، جمع أكبر، وخَصَّ الأكابرَ بالذِّكر؛ لأنهم الصادُّونَ عن الدين، ثم قالَ معللًا: {لِيَمْكُرُوا فِيهَا} بالصدِّ عن الإيمان, ورميِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالكذبِ والسحرِ. {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ} لأن وبالَ كفرِهم راجعٌ عليهم. {وَمَا يَشْعُرُونَ} بذلك. ... {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}. [124] ولما قالَ الوليدُ بنُ المغيرةِ: لو كانتِ النبوةُ حقًّا، لكنتُ أَولى بها منك؛ لأني أكبرُ منكَ سنًّا، وأكثرُ منكَ مالًا، فقال أبو جهل: واللهِ لن نرضى به، ولن نَتَّبِعه أبدًا إلَّا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزل: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} (¬1) حجةٌ على صدقِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 61).

[125]

{قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} من النبوةِ، وتقدَّم الكلامُ على تغليظِ اللامِ من اسمِ الله في قوله (رُسُلُ اللهِ) وشبهِه في أولِ سورةِ الفاتحةِ، ثم استأنفَ منكِرًا أنهم لا يصلُحون للرسالة فقالَ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ: (رِسَالَتَهُ) بحذفِ الألفِ بعد اللام ونصبِ التاءِ على التوحيد، وقرأ الباقون: بالألف وكسر التاء على الجمع (¬1)؛ يعني: اللهُ أعلمُ بمن هو أحقُّ بالرسالةِ، ثم قال متهدِّدًا: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} من الكفار. {صَغَارٌ} أشدُّ الذلِّ. {عِنْدَ اللَّهِ} في الآخرة. {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} الأسرُ والقتلُ ثم النار. {بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} في الدنيا. ... {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)}. [125] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ} ينوِّرْ قلبَهُ ويفتحْهُ. {لِلْإِسْلَامِ} فيتَّسعُ به، ويفسح فيه مجاله. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (2/ 62)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 316).

[126]

{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا} قرأ ابنُ كثيرٍ: (ضَيْقًا) بالتخفيف، والباقونَ: بالتشديد. {حَرَجًا} وهما لغتان؛ مثل: هَيْن، وهَيِّن، حَرَجًا: أشدَّ الضيقِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو بكرٍ: بكسرِ الراء، والباقون: بفتحِها، وهما لغتانِ أيضًا؛ مثل: الدَّنَف، والدَّنِف؛ يعني: لا ينورُ قلبَه، ولا يفتحُه لقبولِ الإِسلام. {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} قرأ ابنُ كثيرٍ (يَصْعَدُ) بإسكانِ الصادِ وتخفيفِ العينِ من غيرِ ألفٍ، من الصعودِ، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يَصَّاعَدُ) بفتحِ الياءِ والصادِ مشدَّدةً وألفٍ بعدَها وتخفيفِ العين؛ أي: يتصاعَدُ، وقرأ الباقون: بتشديدِ الصادِ والعينِ من غيرِ ألفٍ؛ أي: يَتَصَعَّدُ (¬1)؛ يعني: يَشُقُّ عليه الإيمانُ كما يشقُّ عليه صعودُ السماء، وأصلُ الصُّعودِ: المشقةُ. {كَذَلِكَ} أي: كهذا الجعلِ. {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} أي: العذابَ. {عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وأصلُ الرِّجْسِ في اللغة: النتنُ. ... {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)}. [126] {وَهَذَا} أي: الذي أنتَ عليهِ يا محمدُ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 268)، و"التيسير" للداني (ص: 106)، و"تفسير البغوي" (2/ 62 - 63)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 316 - 318).

[127]

{صِرَاطُ رَبِّكَ} الطريقُ الذي ارتضاه. {مُسْتَقِيمًا} لا اعوجاجَ فيه. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فيعلمونَ أن القادرَ هو اللهُ. ... {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}. [127] {لَهُمْ} أي: المتذكِّرينَ. {دَارُ السَّلَامِ} الجنةُ؛ لأن كلَّ من دخلَها سَلِمَ من البلاء والرزايا. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: مضمونة لهم عندَه أن يوصِلَهم إليها بفضله. {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} ناصرُهم. {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يتولَّاهم في الدنيا بالتوفيق، وفي الآخرةِ بالجزاء. ... {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}. [128] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي: واذكرْ يومَ نحشرُهم جميعًا. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ، وروح عن يعقوبَ: (يَحْشُرُهُمْ) بالياء، والباقون: بالنون (¬1). {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ} أي: ثم يقالُ: يا معشرَ الجنِّ، أي: الشياطينِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 269)، و"التيسير" للداني (ص: 107)، و"تفسير البغوي" (2/ 64)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 318).

[129]

{قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أي: من إغوائِهم. {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ} أي: أولياءُ الشياطين. {مِنَ الْإِنْسِ} الذين أطاعوهُم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} بأن وافقَ بعضُنا ببعض (¬1). {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} يعني: القيامةَ. {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} مقامكم. {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي: مدةَ العرضِ والحسابِ. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في أفعالِه. {عَلِيمٌ} بأعمالِ الثقلينِ وأحوالِهم. ... {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)}. [129] {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} نسلِّطُ بعضَهم على بعض. {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الكفرِ والمعاصي. ... {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)}. [130] {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} أي: يومَ نحشرُهم نقولُ: ¬

_ (¬1) في "ت" و"ن: "بعض بعضًا".

[131]

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ومعنى منكم: في الخلقِ والتكليفِ والمخاطبةِ، ولما كانتِ الجنُّ ممن يخاطَبُ ويعقلُ، قال: (منكم)، وإن كانتِ الرسلُ من الإنسِ، وغُلِّبَ الإنسُ في الخطابِ كما يغلَّبُ المذكَّرُ على المؤنث، ورُوي أن الله تعالى أرسلَ رُسُلًا من الجن كما أرسلَ من الإنسِ؛ لظاهرِ الآيةِ. {يَقُصُّونَ} يقرؤون. {عَلَيْكُمْ آيَاتِي} كتبي. {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} يعني: يومَ القيامةِ. {قَالُوا} جوابًا. {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أنهم قد بلغوا. {وَغَرَّتْهُمُ} خَدَعَتهم. {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} وظَنُّوا أنها تدومُ، فلم يؤمنوا. {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} ذَمَّهم على سوءِ نظرِهم وخطأ رأيِهم. ... {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)}. [131] {ذَلِكَ} المذكورُ من بعثِ الرسلِ والتعذيبِ. {أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أي: لم يهلكْ قريةً بشِرْكٍ. {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} لم يُنذرُوا ببعثِ رسلٍ تنذِرُهم. ***

[132]

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}. [132] {وَلِكُلٍّ} من العاملين. {دَرَجَاتٌ} جزاء. {مِمَّا عَمِلُوا} من الثوابِ والعقابِ. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيخفى عليه عمل. قرأ ابنُ عامرٍ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬1). ... {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)}. [133] {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} عن خَلْقِه. {ذُو الرَّحْمَةِ} بأوليائِه. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يُهْلِككم، وعيدٌ لأهلِ مكةَ. {وَيَسْتَخْلِفْ} ينشئ. {مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} خَلْقًا غيرَكم أمثلَ وأطوعَ. {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} يعني: أباءهم الماضين. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 269)، و"التيسير" للداني (ص: 107)، و"تفسير البغوي" (2/ 66)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 319).

[134]

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}. [134] {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} من مجيءِ الساعةِ. {لَآتٍ} كائنٌ، رُوي عن قنبل، ويعقوب: بالوقف بالياء على (لآتِي). {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بغائبينَ. ... {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}. [135] {قُلْ} يا محمدُ: {يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} تمكُّنكم. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مَكَانَاتِكُمْ) بالجمع؛ أي: حالاتكم، وقرأ الباقون: بالأول (¬1)، وهذا أمرُ وعيدٍ على المبالغةِ. {إِنِّي عَامِلٌ} ما أمرَني به ربي. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: الجنة. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بالياءِ على التذكير؛ لأن تأنيثَ العاقبةِ غيرُ حقيقي، والباقون: بالتاء لتأنيث العاقبة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 270)، و"التيسير" للداني (ص: 107)، و"تفسير البغوي" (2/ 67)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 320). (¬2) المصادر السابقة.

[136]

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي: لا ينجحُ سعيُهم. ... {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)}. [136] {وَجَعَلُوا} أي: مشركو العرب. {لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} خلقَ. {مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} وذلك أنهم كانوا يجعلونَ نصيبًا من زُروعهم وأنعامِهم لله، ونصيب منها لأصنامِهم، فنصيبُ اللهِ للضيفانِ والمساكينِ، ونصيبُ آلهتهم لخدمِها، فما سقطَ بهبوبِ الريحِ ونحوِه من نصيبِ الله في نصيبِ آلهتهم تُرِكَ، وقالوا: إنَّ الله غنيٌّ عن هذا، وما سقطَ من نصيبِ آلهتِهم في نصيبِ الله رُدَّ، ويقولون: هي محتاجة. قرأ الكسائئ: (بِزُعْمِهِمْ) بضم الزاي، والباقون: بفتحها، وهما لغتان (¬1)، وقولُه: (بزعمهم) تنبيه على أنَّ ذلك مما اخترعوه، لم يأمرهم به اللهُ. {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} أي: إلى الجهاتِ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 107)، و"تفسير البغوي" (2/ 68)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 263)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 321).

[137]

التي كانوا يَصْرِفون نصيبَ اللهِ إليها. {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} إلى ما كانوا يصرفون نصيبَهم إليهم. {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} بئس ما يقضونَ. ... {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)}. [137] {وَكَذَلِكَ} ومثلَ ذلكَ التزيينِ في قسمةِ القُرُبات. {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}. قراءة العامَّة: (زَيَّنَ) بفتحِ الزاء والياء ونصبِ (قَتْلَ) مفعولًا صريحًا، وجرِّ (أَوْلادِهِمْ) إضافة، ورفعِ (شُرَكَاؤُهُمْ) فاعل (زَيَّنَ)؛ أي: شياطينُهم حَسَّنوا لهم وَأْدَ البناتِ، وهو دَفْنُهُنَّ في حياتهن خيفةَ العيلةِ، وقرأ ابنُ عامرٍ: بضمِّ الزايِ وكسرِ الياء مجهولًا، ورفعِ (قَتْلُ) ونصبِ دالِ (أَوْلادَهُمْ)، وخفضِ همزةِ (شُرَكَائِهِمْ) بإضافةِ (قتل) إليه (¬1)، كأنه قال: زُيِّنَ لكثيرٍ من المشركين قَتْلُ شركائِهم أولادهم، فُصِلَ بمنَ الفعلِ وفاعلِه بالمفعول به، وهم الأولادُ، وأُضيفت الفعلُ وهو القتلُ إلى الشركاء، وإن لم ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 270)، و"التيسير" للداني (ص: 107)، و"تفسير البغوي" (2/ 68 - 69)، و"الكشف" لمكي (1/ 453 - 454)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 263)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 321 - 322).

[138]

يتولَّوا ذلك؛ لأنهم الذين زينوا ذلكَ، ودَعَوا إليه، فكأنهم فعلوهُ، وقد اعترضَ الزمخشريُّ في "كَشَافه" على ابنِ عامرٍ في قراءته (¬1)، فردَّ ابنُ الجزريِّ اعتراضَه في كتابِه "النَّشْر"، وصَوَّبَ قراءةَ ابنِ عامرٍ، وكذلكَ الكواشي في "تفسيرِه"، وكلٌّ منهما أشبعَ (¬2) الكلامَ في ذلك. {لِيُرْدُوهُمْ} لِيُهلكوهم. {وَلِيَلْبِسُوا} لِيَخْلِطوا. {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} ويُدْخِلوا عليهم الشكَّ فيه. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} بَيَّنَ أن كفرَهم بمشيئة الله تعالى، وهو ردٌّ على القدريةِ. {فَذَرْهُمْ} يا محمدُ. {وَمَا يَفْتَرُونَ} من الكذبِ؛ فإن الله لهم بالمرصادِ. ... {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)}. [138] {وَقَالُوا} يعني: المشركين. {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي: حَرامٌ، المعنى: إنهم كانوا يُعَيِّنون أشياءَ لآلِهتهم، ويُحَرِّمونها، ويقولونَ: ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (2/ 66). (¬2) في "ن": "شنع".

[139]

{لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} من النساءِ والرجالِ. {بِزَعْمِهِمْ} قرأ الكسائيُّ: بضمِّ الزايِ كما تقدم. {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} وهي البحائِرُ والسوائبُ والحوامي، وتقدَّمَ تفسيرُها في سورة المائدة. {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} وهي قربانُ آلِهتهم. {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} لأن ما قالوه تَقَوُّلٌ عليه. {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: بسببه. ... {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}. [139] {وَقَالُوا مَا} أي: الذي. {فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} كانوا يقولون في أَجِنَّةِ البحائرِ والسوائبِ: ما وُلد حيًّا، هو خالصٌ للذكور، وأَنَّثَ (خَالِصَةٌ) للتأكيد كالخاصَّةِ والعامَّةِ. {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} أي: نسائِنا. {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} أي: مما وُلد مَيْتًا، اشتركَ فيه الرجال والنساء (¬1) الإناثُ والذكور. قرأ ابنُ كثيرٍ: (يَكُنْ) بالياءِ على التذكير (مَيْتَةٌ) بالرفع؛ ¬

_ (¬1) "الرجال والنساء" زيادة من "ن".

[140]

لأن المرادَ بالميتةِ الميتُ؛ أي: وإن وقعَ في البطونِ ميتٌ. وقرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (تَكُنْ) بالتاءِ على التأنيثِ (مَيْتَةٌ) بالرفع، ذكر الفعل بعلامة التأنيث؛ لأن الميتةَ في اللفظِ مؤنثةٌ، وأبو جعفر: على أصلِه في تشديد الياء، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصم: (تَكُنْ) بالتأنيثِ (مَيْتة) نصبٌ؛ أي: وإن تكنِ الأجنةُ ميتةً، وقرأ الباقون: (وإنْ يَكُنْ) بالياء على التذكير (مَيْتةً) نصبٌ، ردَّه إلى (ما) (¬1)، أي: وإنْ يكنْ ما في البطونِ ميتةً، يدلُّ عليه أنه قال: {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} ولم يقل: فيها، وأرادَ: أن الرجالَ والنساءَ فيهِ شركاءُ. {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي: جزاءَ وصفِهم للكذبِ على الله. {إِنَّهُ حَكِيمٌ} في عذابِهم. {عَلِيمٌ} بأقوالهم. ... {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)}. [140] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 270)، و"التيسير" للداني (ص: 107)، و"تفسير البغوي" (2/ 70)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 265 - 266)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 218)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 324 - 325).

[141]

(قَتَّلُوا) بالتشديدِ على التكثير، والباقون: بالتخفيف (¬1). {سَفَهًا} جَهْلًا. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلتْ فيمن كان يئدُ (¬2) البناتِ أحياءً مخافةَ السبي والفقرِ. {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} يعني: البحيرةَ والسائبةَ والوصيلةَ والحام. {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} حيثُ قالوا: الله أمرنا بذلك. {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} إلى الحقِّ. ... {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}. [141] {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} بساتينَ (¬3). {مَعْرُوشَاتٍ} كالكرمِ ونحوِه. {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} كالنخلِ ونحوِه. {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} أي: ثمرُه وطعمُه. قرأ نافعٌ، وابنُ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 271)، و"التيسير" للداني (ص: 93)، و"تفسير البغوي" (2/ 70)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 326). (¬2) في "ت" و"ظ": "يبيد". (¬3) "بساتين" ساقطة من "ن".

كثيرٍ: (أُكْلُهُ) (¬1) بإسكانِ الكاف، والباقون: بتحريكها. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا} في المنظرِ (¬2). {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعمِ؛ مثل الرمانينِ، ولونهما واحدٌ، وطعمُهما مختلفٌ. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أمرُ إباحة. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (ثُمُرِهِ) بضمِّ الثاء والميم، والباقون: بفتحهما (¬3)، وتقدَّمَ تفسيرُ القراءتين في السورة. {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} هي الزكاةُ المفروضةُ إن جعلت (¬4) الآيةَ مدنيةً، وإن جعلتها مكية، فالمرادُ بحقِّه ما يُتَصَدَّقُ به على المساكين وقتَ الحصاد، والقولانِ منقولان، وكان ذلك واجبًا، فنسخ بالزكاة. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ: (حَصادِهِ) بفتح الحاء، والباقون: بكسرها، ومعناهما واحد (¬5). {وَلَا تُسْرِفُوا} في التصدُّقِ بإخراج جميعِ المال؛ كقوله: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]. ¬

_ (¬1) "أكله" ساقطة من "ن". (¬2) في "ن": "النظر". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 83، 105)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 260، 266)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 326). (¬4) في "ن": "جعلنا". (¬5) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 271)، و"التيسير" للداني (ص: 107)، و"تفسير البغوي" (2/ 71)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 219)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 327).

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ولا يرتضي فعلَهم في وجوب الزكاة. واتفقَ الأئمةُ على وجوبِ الزكاةِ في الحبوب كلِّها مما يُقتات به من القمحِ والشعيرِ والأرزِ ونحوِه، وعند مالكٍ والشافعيِّ تجبُ من الثمارِ في التمرِ والزبيبِ، وعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ تجبُ فيهما وفي كلِّ مَكيلٍ يُدَّخَرُ؛ كاللوزِ والفستقِ والبندقِ ونحوِها. واتفقَ مالك والشافعيُّ وأحمدُ على عدمِ وجوبِها في الفواكهِ والبقولِ والخضراواتِ، وقال أبو حنيفةَ بوجوبها فيها، وافقه (¬1) صاحباه في الثمار، وخالفاه في الخضراوات. واختلفوا في وجوبها في الزيتونِ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: تجبُ فيه، وقال الشافعيُّ في الجديدِ وأحمدُ: لا تجب. واختلفوا في قدرِ النصابِ فيها، فقال أبو حنيفةَ: لا يُعتبر النصاب، وقال (¬2): بل يجبُ العشرُ فيما قَلَّ أو كثرَ مما سَقَتْه السماءُ، أو سُقي بها، وما سُقِي بكُلْفةٍ؛ كالدواليبِ والدِّلاءِ وغيرِهما نصفُ العشر، وما سُقِيَ منهما يعتبرُ فيه أكثرُ السنة، فإن استويا، يجبُ نصف العشر، وقالَ الثلاثةُ وأبو يوسفَ ومحمدٌ: يعتبر النصابُ وقدرُه بعدَ التصفية في الحبوبِ، والجفافِ في الثمارِ خمسةُ أَوْسُق، والوسقُ ستون صاعًا، والصاعُ: خمسةُ أرطالٍ وثلث بالعراقيِّ، فيكونُ ذلك ألفًا وستَّ مئةِ رطلٍ عراقيٍّ، وألفًا وأربعَ مئةٍ وثمانيةً وعشرين رطلًا وأربعةَ أسباعِ رطلٍ مصريٍّ، وثلاثَ مئةٍ واثنينِ وأربعينَ رِطْلًا وستةَ أسباعِ رطلٍ دمشقيٍّ، ومئتين وخمسةً وثمانينَ ¬

_ (¬1) في "ن": "ووافقه". (¬2) "وقال" زيادة من "ن".

رِطلا وخمسةَ أسباعِ رطل حلبي، ومئتين وسبعةً وخمسينَ رطلا وسُبع رطلٍ قدسي، إلا الأرزَ والعلسَ؛ نوع من الحنطةِ يُدَّخر في قشره، فنصابُ كلِّ واحد منهما عندَ الشافعيِّ وأحمدَ عشرةُ أوسُقٍ، ومالكٌ لم يستثنِ شيئًا، بل جعل النصابَ في الكلِّ خمسةَ أوسُقٍ. واتفق القائلونَ باعتبارِ النصاب على أن الواجبَ فيما (¬1) سُقي بغير مؤنةٍ العشرُ، وفيما سُقي بكلفةٍ نصف العُشْرِ؛ يقول أبي حنيفةَ في القليلِ والكثيرِ، وفيما سُقي بهما، بحسابه، فإن سُقِيَ بأحدِهما أكثرَ من الآخر، اعتبر أكثرُهما نفعًا ونموًا للزرع (¬2). واختلفوا في وقتِ وجوبِ الزكاةِ، فقال أبو حنيفةَ: عندَ ظهورِ الثمرةِ، وقال أبو يوسفَ: عندَ الإدراكِ، وقال الثلاثةُ: عندَ اشتدادِ الحبّ وبُدُوِّ الصَّلاحِ في الثمر، ويستقر الوجوبُ بجعلِها في الجرينِ والبيدَرِ والمِسْطاحِ ونحوِها. واختلفوا في وجوبِ الزكاةِ في العسل، فقال أبو حنيفة: فيه العشرُ، قَلَّ أو كثرَ إذا أُخِذَ من أرض العشرِ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا زكاة فيه، وقال أحمدُ: فيه العشرُ إذا بلغ نصابًا، ونصابُه عندَهُ عشرة أفراقٍ، كل فرق ستة عشرَ رطلًا عَراقيةً، سواءٌ أخذه من أرضِ العشرِ أو غيرِها. والعشريةُ: ما أسلمَ أهلُها عليها؛ كالمدينةِ ونحوهِا، وما اختطَّه المسلمون كالبصرة ونحوِها، وما صولح أهلُه على أنه لهم بخراج يُضْرَبُ عليهم؛ كأرضِ ¬

_ (¬1) في "ن": "في". (¬2) في "ن": "نمو الزرع".

[142]

اليمنِ، وما فُتح عَنْوَةً وقُسم، كنصفِ خيبر، وما قطعه الخلفاءُ الراشدون من السوادِ إقطاعَ تمليكٍ. واختلفوا هل تُضَمُّ الحنطةُ إلى الشعيرِ، والقطنياتُ بعضُها إلى بعضٍ في تكميل النصابِ؟ فأبو حنيفة على أصلِه في عدمِ اعتبارِ النصابِ، فيوجبُ الزكاةَ في قليلِه وكثيرِه، وقال مالكٌ: تُضَمُّ الحنطةُ إلى الشعير، والقطاني نوعٌ واحد يضمُّ بعضها إلى بعض، ويُخرج من كلِّ واحدٍ منها بحسابه, [وقال الشافعيُّ وأحمدٌ: لا يُضَمُّ جنس إلى آخرَ في تكميلِ النصاب] (¬1). واختلفوا في الأرضِ الخراجيّة، وهي التي فُتحت عَنْوَةً، ولم تُقسمْ، وما جلا عنها أهلُها خوفًا منا، وما صُولِحوا على أنها لنا، ونقرُّها معهم بالخرَاج، هل يجتمعُ فيها العشرُ والخراجُ؟ فقال أبو حنيفةَ: لا يجتمعُ, وقالَ الثلاثةُ: يجتمع؛ لأنَّ الخراجَ في رقبتِها، والعشرَ في غَلَّتِها. ... {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)}. [142] {وَمِنَ الْأَنْعَامِ} أي: وأَنْشَأَ من الأنعام. {حَمُولَةً} وهي ما يُحمَلُ عليه من الإبلِ الكبارِ. {وَفَرْشًا} وهي الصغارُ من الإبلِ التي لا تحملُ, سميت بذلك للطافةِ أجسامِها، وقربِها من الفرشِ، وهي الأرضُ المستويةُ التي يطؤها الناس. {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي: مما أحلَّ لكم منه. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ن".

[143]

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: لا تسلُكوا طريقَه في تحريمِ الحرثِ والأنعام. قرأ ابنُ عامر، والكسائيُّ، وقنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ، وحفصٌ عن وعاصمٍ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (خُطُوَاتِ) بضمِّ الطاء، والباقون: بإسكانها (¬1). {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ظاهرُ العداوةِ. ... {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)}. [143] ثم بَيَّنَ الحَمولةَ والفرشَ فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي: وأنشأَ من الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ، أي: أعدادٍ، يريدُ: الذكرَ والأنثى، والعربُ تسمي الواحدَ: زوجًا، إذا كانَ لا ينفكُّ عن الآخرِ، أجملَها أولًا، ثم فَصلَها ثانيًا، فقال: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} الكبشَ والنعجةَ، وهي ذواتُ الصوفِ من الغنم. {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} التيسُ والعنزُ، وهي ذواتُ الشعرِ من الغنم. قرأ أبو عمرو، ويعقوبُ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ (الْمَعَز) بفتح العين، والباقون: بإسكانها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 219)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216، 266)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 327). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 271)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، =

[144]

{قُلْ} يا محمدُ. {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} عليكم، يعني: ذكرَ الضأنِ والمعزِ. {أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} أي: أنثى الضأن والمعز. {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} وما حملَتْ إناثُ الجنسين، ذكرًا كان أو أنثى. {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} فَسِّروا لي ما حَرَّمتم بتحقيق. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَنَّ الله حَرَّمَ ذلك. ... {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}. [144] {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} والكلامُ في الإبلِ والبقرِ كما سبقَ في الضأنِ والمعز. وأجمعَ القراءُ على مدِّ (آلذَّكَرَيْنِ)؛ لأنها همزةُ استفهامٍ دخلَتْ على همزةِ الوصلِ؛ لتفرقَ بينَ الاستفهامِ والخبرِ، وأجمعوا على عدمِ تحقيقِها؛ لكونها همزةَ وصل، وهمزةُ الوصلِ لا تثبت إلا ابتداءً، وأجمعوا على تليينها، واختلفوا في كيفيته، فقال كثيرٌ منهم: تُبدلُ ألفًا خالصة، وقال آخرون: تسُهَّلُ بينَ بينَ. معنى الآية: إنكارُ أن الله حَرَّمَ شيئًا ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 72)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 328).

[145]

من جنسَي الغنمِ والإبلِ والبقرِ، وذلك أنهم كانوا يحرِّمون ذكورَ الأنعامِ تارةً، وإناثَها تارةً، وأولادَها تارة، ويقولون: قد حَرَّمَها الله، فأنكرَ ذلك عليهم. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} الهمزةُ للإنكار، و (أم) بمعنى (بل)، المعنى: بل أكنتم حُضورًا. {إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} التحريمِ، وهذا تجهيلٌ لهم، وتقدَّم اختلاف القراءِ في الهمزتين من (شُهَدَاءَ إِذْ) في سورة البقرة. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنسبَ إليه تحريمَ ما لم يحرِّمْ. {لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} والمرادُ: عَمْرُو بنُ لُحَيٍّ ومَنْ تبعَه. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ... {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}. [145] ثم بَيَّنَ أنَّ التحريم إنما يثبتُ بوحيِ اللهِ وشرعِه، فقال: {قُلْ} يا محمد: {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} شيئًا. {مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} آكلٍ. {يَطْعَمُهُ} يأكلُه. {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الحرامُ والمحرَّمُ: هو الممنوعُ عنهُ، وحكمُه

ما يأثم بفعله، ويثاب على تركه بنيةِ التقربِ إلى الله تعالى، قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامر (تكون) بالتاء على التأنيث (ميتةٌ) رفع، أي: إلا أن تقع ميتة، وأبو جعفر على أصله في تشديد الياء. وقرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ: (تَكُونَ) بالتأنيث (مَيْتةً) نصبٌ على تقديرِ اسم مؤنثٍ؛ أي: إلا أن تكونَ النفسُ أو الجثةُ ميتةً، وقرأ الباقونَ: بالياء على التذكير (ميتةً) نصبٌ؛ يعني: إلا أن يكونَ المطعومُ ميتةً (¬1). {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} مصبوبًا. {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} حرامٌ. {أَوْ فِسْقًا} عطف على {لَحْمَ خِنْزِيرٍ}، وما بينهما اعتراض للتعليل. {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ذُبح على غيرُ اسمِ الله، وسُمي ما ذُبح على غير اسم الله فسقًا؛ لتوغُّله في الفسقِ. {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى أكلِ شيءٍ من هذه المحرماتِ، فأكلَ. {غَيْرَ بَاغٍ} على مضطرٍ مثلِه. {وَلَا عَادٍ} قدرَ الضرورةِ. {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لا يُؤاخذه. وتقدَّم اختلاف القراء في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} ومذاهبُ الأئمةِ في حكمِ أكلِ الميتةِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولهِ تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: 173]. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 108)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 266)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 219)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 330).

[146]

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)}. [146] {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} يعني: اليهودَ. {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} وهو ما ليسَ بمفرقِ الأصابعِ؛ كالبطِّ، والإبلِ، والنعامِ، وقيلَ: كلُّ ذي مخلبٍ من الطيرِ، وحافرٍ من الدواب، لما ذكرَ الله عَزَّ وَجَلَّ ما حرَّمَ على أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، عَقَّبَهُ بذكرِ ما حَرَّمَ على اليهودِ تكذيبًا لهم في قولهم: إنَّ الله لم يحرمْ علينا شيئًا، وإنما نحنُ حَرَّمنا على أنفسِنا ما حرَّمه إسرائيلُ على نفسِه، وهذا التحريمُ تكليفُ بلوى وعقوبةٍ، فأولُ ما ذكرَ من المحرماتِ عليهم: كلُّ ذي ظفرٍ. {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} وهي الثروبُ، وشحمُ الكليتين. {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} أي: ما علقَ بالظهرِ والجنبِ من داخلِ بطونهما. قرأ أبو عمرو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وورشٌ، وابنُ عامرٍ، وخلفٌ: (حَمَلَت ظُّهُورُهُمَا) وشبهَه بإدغامِ التاء في الظاء، والباقون: بالإظهار (¬1). {أَوِ الْحَوَايَا} وهي المصارينُ. {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} هو شحمُ الألية؛ لما فيها من العظم، هذا كله ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 220)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 220)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 331).

[147]

دخلَ في الاستثناءِ، والتحريم مختصٌّ بالثربِ وشحمِ الكلية. {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} أي: تحريمُ الطيباتِ عقوبةٌ لهم. {بِبَغْيِهِمْ} بسببِ ظلِمهم؛ لأنها كانت حلالًا لهم، فلما عَصَوا بقتلِهم الأنبياءَ، وأخذِهم (¬1) الربا، واستحلالِ أموالِ الناسِ، حُرِّمَتْ عليهم. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما أخبرنا. ... {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}. [147] {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} فيما جئتَ به. {فَقُلْ} استعطافًا لهم. {رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} حيثُ لم يعاجلْكم بالعقوبةِ. {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} عقابُه. {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} حينَ ينزلُ. ... {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)}. ¬

_ (¬1) في "ن" و"ظ": "وأخذ".

[148]

[148] ثم أخبر عما هم قائلوه بعدَ لزومِ الحجةِ لهم، فقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} من قبلُ. {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} من البَحائرِ والسوائبِ وغيرِها، فكأنهم جعلوا إقامتَهم على الشركِ وتحريمَهم ذلك بمشيئةِ الله، ولم يقولوا هذا القولَ تعظيمًا، بلْ سخريةً واستهزاءً وهم مكذِّبون. {كَذَلِكَ} أي: كهذا التكذيبِ الذي كذبوكَ. {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأممِ الخاليةِ أنبياءَهم. {حتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} عذابَنا المنزلَ عليهم. {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} حجَّةٍ أو دليلٍ على صحةِ دعواكم. {فَتُخْرِجُوهُ} فتُظْهِروه. {لَنَا} ليثبتَ ما تدَّعونَ من الشركِ والتحريمِ. {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} من غيرِ علمٍ. {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} تكذِبون. ... {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [149] {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} التامَّةُ على خلقِه بالكتابِ والرسول. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ولكنْ شاءَ هدايةَ قومٍ وضلالَ آخرين، فيه دليلٌ على أنه لم يشأْ إيمانَ الكافرِ، ولو شاءَ، لهداه. ***

[150]

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}. [150] {قُلْ هَلُمَّ} كلمة دعوةٍ إلى شيءٍ؛ أي: أَحْضِروا. {شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} لكم. {أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} الذي حَرَّمتموه. {فَإِنْ شَهِدُوا} كاذِبينَ. {فَلَا تَشْهَدْ} يا محمدُ. {مَعَهُمْ} لا تصدِّقْهم، فهذا أمرٌ له - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ غيرُه. {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} يشركون. {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}. [151] ولما سألوه وقالوا: ما الذي حرم الله تعالى؟ فقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا} من العُلُوِّ، وأصلُها أن يقولَها مَنْ هو بمكانٍ عالٍ لمن هو بمكانٍ أخفضَ منه، فاتُّسِعَ فيه بالتعميم، المعنى: جيئوا.

{أَتْلُ} أقرأ. {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} عليكم يقينًا لا ظنًّا كما تزعمون. {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أي: الزموا تركَ الإشراك، وداوموا على الإِسلام. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: وأحسنوا بهم إحسانًا. {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} فقرٍ. {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي: لا تئِدُوا بناتِكم خشيةَ العَيْلَة، وكان منهم مَنْ يفعلُ ذلكَ بالإناثِ والذكورِ خشيةَ الفقرِ. {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني: العلانية. {وَمَا بَطَنَ} يعني: السرَّ، وكان أهلُ الجاهليةِ يستقبحون الزنا في العلانية، ولا يَرَون به بأسًا في السر، فحَرَّمه اللهُ سرًّا وعلانية. {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} كقتلِ رِدَّةٍ وقصاصٍ أو رجمٍ. {ذَلِكُمْ} الذي ذكرتُ. {وَصَّاكُمْ} أَمَرَكم. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ترشدُون. ... {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا

[152]

وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}. [152] {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بما فيه صلاحُه. {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} الحلمَ، والأشدُّ جمعُ شَدٍّ، وهو استحكامُ قوةِ شبابهِ، وفي الكلامِ حذفٌ؛ أي: فإذا بلغَ أشدَّه، وأُويسَ رشدُه، فادفعوا إليه مالَه، وتقدَّمَ اختلاف الأئمةِ في حكمِ (¬1) البلوغِ والرشدِ في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولي تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ} [النساء: 6]. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدلِ. {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: طاقتَها، المعنى: لِمَ نكلِّف المعطيَ أكثرَ مما وجبَ عليه، ولا نكلِّفُ صاحبَ الحقِّ الرِّضا بأقلَّ من حقَّهِ. {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} فاصدُقوا في الحكمِ والشهادةِ. {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ولو كانَ المقولُ لهُ أو عليه من ذَوي قرابتِكم. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} عامٌّ في جميعِ ما عهدَه اللهُ إلى عباده. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (تَذْكُرُونَ) بالتخفيف على حذف إحدى التاءين، والباقون: بالتشديدِ حيثُ وقع (¬2). ¬

_ (¬1) "حكم" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 272)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"تفسير البغوي" (2/ 79)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 332).

[153]

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}. [153] {وَأَنَّ هَذَا} الذي وُصِّيتُم به. {صِرَاطِي} طريقي. {مُسْتَقِيمًا} مستويًا، {فَاتَّبِعُوهُ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَإِنَّ هَذَا) بكسرِ الألفِ على الاستئناف، وقرأ الباقونَ بفتحِ الألفِ، تقديرُه: ولأن هذا صراطي مستقيمًا، وقرأ ابنُ عامرٍ بسكونِ النونِ، وفتحِ الياءِ من (صِرَاطِيَ) وافقه يعقوبُ في إسكانِ النونِ (¬1)، واختلف راوياه، فقرأ رويسٌ (سِرَاطِي) بالسين (¬2)، وروح: بالصاد. {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الطرقَ المختلفةَ في الأديانِ. {فَتَفَرَّقَ} تشتتَ. {بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} دينه الذي ارتضى. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (فَتَّفَرَقَ) بتشديدِ التاء، والباقون: بالتخفيف (¬3). {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الضلالَ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 273)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"تفسير البغوي" (2/ 80)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 333). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 273)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 202)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 334). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 83)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 220)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 335).

[154]

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)}. [154] {ثُمَّ} أي: ثم أخبرُكم أنا. {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني: التوراةَ. {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: إتمامًا للنعمةِ عليه؛ لإحسانه في الطاعة. {وَتَفْصِيلًا} بيانًا. {لِكُلِّ شَيْءٍ} يحتاجُ إليه من شرائعِ الدينِ. {وَهُدًى وَرَحْمَةً} هذا في صفةِ التوراة. {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} كي يؤمنوا بالبعث. ... {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}. [155] {وَهَذَا} يعني: القرآن. {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} كثيرُ النفعِ. {فَاتَّبِعُوهُ} واعملوا بما فيه. {وَاتَّقُوا} وأطيعوا. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} باتِّباعِه والعملِ به. ... {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)}.

[156]

[156] {أَنْ تَقُولُوا} لِئَلَّا تقولوا: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} يعني: اليهود والنصارى. {وَإِنْ} أي: وقدْ. {كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ} قراءتهم. {لَغَافِلِينَ} لا نعلمُ ما هي. ... {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}. [157] {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} وقد كان جماعةٌ من الكفارِ قالوا: لو أُنزل علينا ما أُنزل على اليهودِ والنصارى، لَكُنَّا خيرًا منهم، قال الله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} حُجَّةٌ واضحةٌ بالغةٌ تعرفونها. {وَهُدًى} بيانٌ. {وَرَحْمَةٌ} نعمةٌ لمن اتبعه، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ} أعرضَ. {عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} بشدَّتِهِ. {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} يُعْرِضون. ***

[158]

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}. [158] {هَلْ يَنْظُرُونَ} أي: ينتظرون بعدَ تكذيبِهم الرسلَ، وإنكارِهم القرآنَ. {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} لقبضِ أرواحِهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَأْتِيَهُمُ) بالياء على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (¬1). {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} هذا من المتشابِه الذي لا يعلمُ تأويلَه إلا اللهُ. {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} طلوعُ الشمسِ من مَغْرِبِها. {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} أي: لا ينفُعُهم الإيمانُ عندَ ظهورِ الآيةِ التي تَضْطَرُّهم إلى الإيمانِ. {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا} السابقِ لظهورِ الآياتِ. {خَيْرًا} توبةً. {قُلِ انْتَظِرُوا} يا أهلَ مكةَ. {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} وعيدٌ لهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ: الدَّجَّالُ، والدَّابّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 247)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"تفسير البغوي" (2/ 82)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 337). (¬2) رواه مسلم (158)، كتاب: الإيمان, باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه =

[159]

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}. [159] {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} أي: جعلوا دينَ إبراهيمَ أديانًا مختلفة، فتهوَّدَ قومٌ، وتنَصَّرَ قومٌ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، (فَارَقُوا) بالألف؛ أي: خرجوا من دينهم وتركوه، وقرأ الباقون: بغير ألف مشدَّدًا على المعنى الأول (¬1). {وَكَانُوا شِيَعًا} صاروا فِرَقًا مختلفةً. {لَسْتَ مِنْهُمْ} أي: لستَ منَ السؤالِ عنهم. {فِي شَيْءٍ} والآيةُ منسوخةٌ بآيةِ القتالِ. {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} يتولَّى جزاءهم. {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} إذا وَرَدوا القيامةَ. ... {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}. [160] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أي: عشرُ حسناتٍ فَضْلًا من الله. قرأ يعقوبُ: (عَشْر) منونٌ (أَمْثَالُهَا) رفع على الوصفِ؛ أي: فله ¬

_ = الإيمان, عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 274)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"تفسير البغوي" (2/ 83)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 266)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 338).

[161]

حسناتٌ عشرٌ أمثالُها، وقرأ الباقون: بغير تنوين، وخفضِ (أَمْثَالِهَا) على الإضافة، وحذفتِ الهاءُ من (عَشْر) لتأنيثِ الأمثالِ في المعنى؛ لأن مثلَ الحسنةِ حسنةٌ (¬1). {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقصِ الثوابِ، وزيادةِ العقابِ. ... {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}. [161] {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بالوحْيِ والإرشادِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (هَدَانِي) بالإمالة (¬2)، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3). {دِينًا قِيَمًا} منصوبًا بِمُضْمَرٍ؛ أي: عَرَّفَني دينًا. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ: بكسر القافِ وفتحِ الياء خفيفة، والباقون: بفتح القافِ وكسر الياءِ مشددةً، ومعناهما: المستقيم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 266 - 267)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 220)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 338). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 220)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 339). (¬3) كما تقدم. وانظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 276)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 339). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 274)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، =

[162]

{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} بدلٌ من دينًا. قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ: (أَبْرَاهَامَ) بألف (¬1). {حَنِيفًا} حال من إبراهيمَ. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نفيٌ للنقيصةِ عنه - صلى الله عليه وسلم -. ... {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)}. [162] {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} يعني: الذبيحةَ في الحجَ والعمرةِ. {وَمَحْيَايَ} قرأ أبو جعفرٍ، وورش بخلافٍ عن الثاني: (مَحْيَايْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2)، وقرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (مَحْيَايَ) بالإمالةِ (¬3). {وَمَمَاتِي} قرأ نافع، وأبو جعفرٍ: بفتح الياء، والباقون بإسكانها (¬4). {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: هو يُحييني ويُميتني. ... ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 86)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 339). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 220)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 340). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 274)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"تفسير البغوي" (2/ 86)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 340). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 220)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 341). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 274)، و"التيسير" للداني (ص: 108)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 341).

[163]

{لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}. [163] {لَا شَرِيكَ لَهُ} هو خالصةً له، لا أشركُ فيها غيرَه. {وَبِذَلِكَ} بالإخلاصِ. {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة؛ لأن كلَّ نبيٍّ إِسلامُه يتقدَّمُ على إسلامِ أمته. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (وَأَنا أَوَّلُ) بالمدِّ (¬1). ... {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)}. [164] ولما قالَ المشركونَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ارجعْ إلى ديننا، فنزل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} وما سواهُ مربوبٌ مثلي لا يصلُحُ للربوبية. ولما قالَ الوليدُ بنُ المغيرةِ: اتّبعوني أحملْ أوزارَكُم، نزلَ: {وَلَا تَكْسِبُ} لا تجني. {كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} إلا كانَ الإثمُ على الجاني. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لا تحملُ حاملةٌ حملَ غيرِها، وأصلُ الوزرِ: الثِّقلُ. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} يومَ القيامةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 220)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 221)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 341).

[165]

{فَيُنَبِّئُكُمْ} فيعلِمُكم. {بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بتمييزِ المحقِّ من المبطلِ. ... {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}. [165] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} جمعُ خليفةٍ، وهي النيابةُ عن الغيرِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خاتمُ الأنبياء، فخلفتْ أمتهُ سائرَ الأممِ بأنْ سكنوا الأرضَ بعدهم. {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} في الخلقِ والرزقِ والعلمِ والدينِ. {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبرَكُم. {فِي مَا آتَاكُمْ} من المالِ وغيرِه؛ ليظهر لكم منكم المطيعُ من العاصي. {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} لمن عصاه، ووصفَ العقابَ بالسرعةِ؛ لأن ما هو آتٍ قريبٌ. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن تابَ وأطاعَهُ، والله أعلمُ. ***

سورة الأعراف

سورة الأعراف مكيةٌ غيرَ ثمانِ آياتٍ من قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} إلى قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ}، آيُها سِتٌّ ومِئَتا آيةٍ، وحروفُها أربعةَ عشرَ ألفًا وثلاثُ مئةٍ وعشرةُ أحْرُفٍ، وكَلِمُها ثلاثةُ آلافٍ وثلاث مئة وخمسٌ وعشرونَ كلمةً. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {المص (1)}. [1] {المص} قيل: معناه: أنا اللهُ الملك الصادق. قرأ أبو جعفر: بتقطيعِ الحروفِ يسكُتُ على كلِّ حرفٍ سكتة يسيرة، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سورةِ البقرةِ (¬1)، وموضِعُه رفيع بالابتداءِ. ... {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}. ¬

_ (¬1) عند تفسير الآية (1) منها، وانظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 232)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 344).

[2]

[2] {كِتَابٌ} خبرُ مبتدأ (¬1) محذوفٍ؛ أي: هذا كتابٌ. {أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وهو القرآنُ. {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} أي: صيقٌ. المعنى: لا يضيقُ صدرُك بالإبلاغِ مخافةَ أن تُكَذَّبَ فيه، فإنما عليك البلاغ. {لِتُنْذِرَ بِهِ} أي: بالكتابِ المنزلِ، فالكلامُ فيه تقديم وتأخيرٌ؛ أي: أُنزلَ عليك الكتابُ لتنذرَ به، فلا يكنْ في صدرِكَ حرجٌ منه. {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} عِظَة لهم. ... {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}. [3] وقيل لهم: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعمُّ القرآنَ والسنَّةَ؛ لقولهِ تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ} أي: دونِ اللهِ. {أَوْلِيَاءَ} تطيعونهم في معصيةِ اللهِ. {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} أي: تتَّعِظون قليلًا، حيثُ تتركونَ (¬2) دينَ الله، و (ما) مزيدةٌ لتأكيدِ القِلَّة. قرأ ابنُ عامرٍ: (يَتَذَكَّرُونَ) بياء قبلَ التاء على أن الخطابَ بعدُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكذا هو في مصاحفِ أهلِ الشام، والباقون: بتاء واحدة ¬

_ (¬1) "مبتدأ" زيادة من "ن". (¬2) في "ن": "تتذكرون".

[4]

من غير ياءٍ قبلَها كما هي في مصاحِفِهم، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ (¬1): على أصلِهم في تحفيفِ الذال (¬2). ... {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)} [4] {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي: وكثيرًا من القرى. {أَهْلَكْنَاهَا} أي: أردْنا إهلاكَ أهلِها. {فَجَاءَهَا} أي: فجاء أهلَها. {بَأْسُنَا} عذابُنا. {بَيَاتًا} ليلًا. {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} نائِمون نصفَ النهارِ، والقيلولةُ: استراحةُ نصفِ النهارِ وإنْ لم يكنْ (¬3) نومٌ. ... {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}. [5] {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} أي: تضرُّعُهم وقولهم. {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بفعلِنا، اعترفوا حيثُ لم ينفعِ ¬

_ (¬1) "وحفص" سقط من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 278)، و"التيسير" للداني (ص: 109)، و"تفسير البغوي" (2/ 89)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 344). (¬3) في "ن": "يك".

[6]

الاعتراف. وقرأ أبو عمرو، وهشام: (إذ جاءَهُمْ) وشبهَه بإدغامِ الذالِ في الجيم، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1). ... {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)}. [6] {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي: الأممَ عمَّا بلغوا؛ توبيخًا. {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عَمَّا أُجيبوا؛ تقريرًا لذلكَ. ... {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)}. [7] {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ} على المسؤولين ما عَمِلوا. {بِعِلْمٍ} عالمينَ بجميعِ ما صدرَ منهم. {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عنهُم فيخفى علينا شيء من أحوالِهم. ... {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)}. [8] {وَالْوَزْنُ} أي: القضاءُ. {يَوْمَئِذٍ} أي: يومَ السؤال. {الْحَقُّ} العدلُ، وقيل: المرادُ: حقيقةُ الوزنِ، وقد وردَ في الحديث: ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 222)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 345).

[9]

"أَنَّهُ يُنْصَبُ مِيزَانٌ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ، كُل كِفَّةٍ بِقَدْرِ ما بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَتُوزَنُ فِيهِ صحُف الأَعْمَالِ" (¬1). {فَمَنْ ثَقُلَتْ} رَجَحَتْ. {مَوَازِينُهُ} جمعُ ميزانٍ؛ لأنَّ لكلِّ عبدٍ ميزانًا، وقيلَ: جمعُ موزونٍ، وهو الحسناتُ. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزونَ بالنجاةِ والثواب. ... {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}. [9] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} يجحدون. ... {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)}. [10] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ} ملَّكْناكم. ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" (2/ 90) في معرض شرحه لهذه الآية، فقال: وقال الأكثرون: أراد به وزن الأعمال بالميزان, وذاك أن الله تعالى ينصب ميزانًا له لسان وكفتان، كل كفة بقدر ما بين المشرق والمغرب. واختلفوا في كيفية الوزن، فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال ...

[11]

{فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أسبابًا تعيشون بها، جمعُ مَعِيشَةٍ، ولا تُهمزُ ياؤها؛ لأنها مَفاعِلُ من العَيْش. {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} فيما صنعتُ لكم. ... {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)}. [11] {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أي: آدمَ. {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في ظهرِه، وذُكر آدمُ بلفظِ الجمع لأنه أبو البشرِ، ففي خَلقِه خلقُ مَنْ يخرجُ من صُلْبِهِ. {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} لآدمَ، وتقدَّمَ مذهبُ أبي جعفرٍ في ضمِّ التاءِ من قوله: (لِلْمَلاَئِكَةُ اسْجُدُوا)، والكلامُ عليه، وعلى تفسيرِ السجودِ مستوفىً في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الآية: 34]. ... {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)}. [12] {قَالَ} اللهُ: يا إبليسُ. {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (لا) زائدة؛ أي: أيُّ شيءٍ منعَكَ من السجودِ وقتَ أمري؟ فيه دليل على أن مطلقَ الأمرِ للوجوبِ، وأنه على الفَوْرِ. {قَالَ} إبليسُ مجيبًا له:

[13]

{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} لأنَّكَ {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} والنارُ خير وأنورُ من الطينِ، وقد أخطأ الخبيثُ بتفضيلِ النارِ على الطينِ، وليس كذلك، وإنما الفضلُ لما فضَّلَه اللهُ، وقد فَضَّلَ الطينَ على النارِ، ولأن الترابَ سببُ الحياةِ للنباتِ والأشجارِ، والنار سببُ الهلاكِ. ... {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}. [13] {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} أي: من الجنةِ؛ لأنها مكانُ المطيعين. {فَمَا يَكُونُ} فما ينبغي. {لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ} بمخالفةِ الأمرِ. {فِيهَا} وفيه تنبيهٌ على أن التكبُّرَ لا يليقُ بأهل الجنة. {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} الذَّليلينَ. ... {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)} [14] {قَالَ} إبليسُ عندَ ذلك: {أَنْظِرْنِي} أَخِّرْني فلا تُمِتْني. {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من قبورِهم وَقْتَ النفخةِ الآخرةِ عندَ قيامِ الساعة، قال ابنُ عباسٍ: أرادَ الخبيثُ أَلَّا يذوقَ الموتَ (¬1)؛ لأنه لا موتَ بعدَها، فلم يُجَبْ، وإنما أُنْظِرَ إلى الوقتِ المعلومِ، وهي النفخةُ الأولى، فيموتُ مَعَ مَنْ يموتُ. ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 79).

[15]

{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}. [15] {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} إلى وقتِ النفخةِ الأولى، وانظر فتنةً للعبادِ، ولبيانِ الطائعِ والعاصي، ولِيَعْظُمَ الأجرُ والوِزْرُ. ... {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}. [16] {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} والغيُّ: الضلالُ والخَيْبةُ، ومعنى الكلام القَسَمُ؛ أي: فبإغوائِك إيايَ بواسطتِهم. {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} أي: على صراطِكَ. {الْمُسْتَقِيمَ} أي: لأجلسنَ لهم على طرقِ الإِسلامِ والخيراتِ، وأحولُ بينَهم وبينَها. ... {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}. [17] {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ} بِوَسْوَسَتي. {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من جهةِ الآخرةِ، فَأُشَكِّكُهم فيها. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من جهةِ الدنيا، فأُرغِّبُهم فيها. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} طرقِ الحسناتِ. {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} جمع شِمال: طرقِ السيئاتِ، رُوي أنه يأتي ابنَ آدمَ من جميعِ الجهاتِ إلَّا من فَوْق؛ لئلَّا يحولَ بينَ العبدِ والرحمةِ. تلخيصُه: أَسْعى في إغوائهم بكلِّ طريقٍ.

[18]

{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} مؤمنين، قالَ الخبيثُ ذلكَ ظنًّا، فأصابَ، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]. ... {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}. [18] {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا} بالهمز، أي: مَعيبًا. {مَدْحُورًا} مُبْعَدًا. {لَمَنْ} بفتح اللام؛ لأنها مُوَطِّئَةٌ لقسمٍ محذوفٍ تقديره: والله لَمَنْ. {تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي: من بني آدمَ، وجوابُ القَسَم: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ} أي: منكَ ومن أتباعِك من الجنِّ والإِنْسِ. {أَجْمَعِينَ} تلخيصُه: هذا الوعيدُ لمن تبعَكَ. ... {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}. [19] {وَيَاآدَمُ} أي: قلنا: يا آدَمُ. {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} فتصيرا (¬1) من الذين ظلموا أنفسَهم، تقدَّم اختلافُ القراءِ في قولهِ (حَيْثُ شِئْتُما) و (حَيْثُ شِئْتُمْ) في سورة البقرة. ¬

_ (¬1) في "ن": "فتصير".

[20]

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}. [20] {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} ألقى في أنفسِهما سِرًّا. {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ} بواوين، الأولى مضمومة، المعنى: زَيَّنَ لهما ما نُهِيا عنه ليكشفَ لهما ما سُتِرَ. {عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} عَوْراتِهما؛ أي: فعلَ ذلكَ بهما ليريَهما ما يَسوءُهما, ولذلك سُميت سوءَة، وفي هذا دليل على (¬1) أن كشفَ العورةِ في غايةِ القُبْحِ في كلِّ زمانٍ، ثم بين الوسوسة فقال: {وَقَالَ} يعني: إبليسُ لآدمَ وحواءَ. {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا} أي: إلا كراهةَ أن تكونا. {مَلَكَيْنِ} روحانِيَّيْنِ. {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} الباقينَ في الجنةِ لا تموتان، واستدلَّ بعضُ الناسِ بهذه الآية على فضلِ الملائكةِ على الأنبياءِ، قالَ ابنُ فُوْرَك: لا حجَّة في هذهِ الآيةِ؛ لأنه يُحتمل أن يريدَ مَلَكَين في ألَّا تكونَ لهما شهوةٌ في طعامٍ (¬2)، وتقدَّمَ ذكرُ مذهبِ (¬3) أهلِ السنَّةِ في تفضيلِ الأنبياءِ على الملائكةِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]. ¬

_ (¬1) "على" زيادة من "ن". (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (7/ 178). (¬3) "مذهب" ساقطة من "ن".

[21]

{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}. [21] {وَقَاسَمَهُمَا} حلفَ لهما يمينًا مَوَثّقةً. {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} بحلفي، وإبليسُ أولُ مَنْ حلفَ كاذِبًا. ... {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)}. [22] {فَدَلَّاهُمَا} حَطَّهما عن منزلتهِما. {بِغُرُورٍ} بباطلٍ؛ أي: خَدَعَهما بحلفِه، والغرورُ: إظهارُ النصحِ مع إبطانِ الغِشِّ. {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} ليتَعرَّفاها. {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} ظهرتْ لهما عوراتُهما، وتهافتَ عنهما لباسُهما حتى أبصرَ كلٌّ منهما ما تَوارى عنهُ من عورةِ صاحبِه، وكانا لا يريان ذلك من أَنفسِهما, ولا أحدٌ منهما من صاحِبه، وكانَ لباسُهما نورًا يسترُهما، فاستحييا. {وَطَفِقَا} أَخَذا {يَخْصِفَانِ} يُلْصِقان ورقةً بعدَ ورقةٍ. {عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} وهو ورقُ التينِ حتى صارَ كالثوبِ؛ ليستَتِرا به، وهو يتهافتُ عنهما، وأصلُ الخَصْفِ: وَصْلُ الشيءِ بالشيء يسيرٍ أو غيرِه. {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} عتابًا وتوبيخًا.

[23]

{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} ظاهرُ العداوةِ بينُها، فيه دلالةٌ أنهما كانا قد عَرَفا عداوةَ إبليسَ لهما، وحُذِّرا منه. ... {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}. [23] {قَالَا} معتذرين {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} ضَرَرْناها بالمعصيةِ. {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الهالكين. ... {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)}. [24] {قَالَ اهْبِطُوا} يا آدمُ وحواءُ وإبليسُ. {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} متعادينَ، فَيُعادِيانِ إبليسَ ويُعاديهما. {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} إلى تَقَضِّي (¬1) آجالِكم، وتقدَّمَ ذكرُ هبوطِ آدمَ وحواءَ وإبليسَ والحيةِ في سورةِ البقرةِ. ... {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}. [25] {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} يعني: فيها تعيشون. {وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا} أي: من الأرض. ¬

_ (¬1) في "ن": "أن تقضى".

[26]

{تُخْرَجُونَ} للبعثِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلف، ويعقوبُ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (تَخْرُجُونَ) بفتح التاء وضم الراء، والباقون: بضم التاء وفتح الراء (¬1). ... {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}. [26] {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ} أي: خلقنا لكم. {لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} التي قصدَ الشيطانُ إبداءها، ونُغنيكم عن خصفِ الورقِ، رُوي أن العربَ كانوا يطوفون بالبيتِ عُراةً، ويقولون: لا نطوفُ في ثيابٍ عَصَيْنا الله فيها، فكان الرجالُ يطوفونَ بالنهارِ، والنساءُ بالليل عراةً، فنزلَتْ (¬2)؛ أمرًا بالستر. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ بخلافٍ عنه: (يُوَارِي) بالإمالة (¬3)، وهذه الآيةُ دليل على وجوبِ سترِ العورةِ، ولا خلافَ بينَ الأئمةِ في وجوبِ سترِها عن أعينِ الناسِ. واختلفوا في العورةِ ما هي؟ فقال أبو حنيفةَ: عورةُ الرجلِ ما تحتَ سُرَّتِهِ إلى تحتِ ركبتِه، والركبةُ عورة، ومثلُه الأَمَةُ، وبالأولى بطنُها وظهرُها؛ لأنه موضع مشتهىً، والمكاتَبَةُ وأمُّ الولدِ والمُدَبَّرَةُ كالأمَةِ، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 279)، و"التيسير" للداني (ص: 109)، و"تفسير البغوي" (2/ 96)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 350). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 125). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 350).

وجميعُ الحرةِ عورةٌ إلا وجهَها وكَفَّيْها، والصحيحُ عنهُ أن قَدَميها عورةٌ خارجَ الصلاةِ لا في الصلاةِ، وقالَ مالكٌ: عورةُ الرجلِ فَرْجاه وفَخِذاهُ، والأَمَةُ مثلُه، وكذا المدبَّرَةُ والمعتقَةُ إلى أَجَلٍ، والحرَّةُ كلُّها عورةٌ إلا وجهَها ويديها، ويُستحبُّ عندَه لأمِّ الولدِ أن تَستر من جسدِها ما يجبُ على الحرةِ سترُه، والمكاتَبَةُ مثلُها. وقال الشافعيُّ وأحمدُ: عورةُ الرجلِ ما بينَ السُّرةِ والركبةِ، وليستِ الركبةُ من العورةِ، وكذا الأمَةُ، والمكاتبةُ وأمُّ الولدِ والمدبَّرَةُ والمعتَقُ بعضُها، والحرَّةُ كلُّها عورة سوى الوجهِ والكفَّين عندَ الشافعيِّ، وعندَ أحمدَ سوى الوجهِ فقط على الصحيح، وأما سُرَّةُ الرجلِ، فليستْ من العورةِ بالاتفاق. {وَرِيشًا} لباسَ زينةٍ تتجمَّلُون بها، فهي للأناسي كالريشِ للطائرِ، المعنى: أنزلَ لكم لباسينَ: أحدُهما لسترِ عوراتِكم، والآخرُ لجمالكم. {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} هو خشيةُ الله والتورُّعُ، وقيلَ: هو ما يُلْبَس من الدروع ويُتقى به. {ذَلِكَ خَيْرٌ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابن عامرٍ، والكسائيُّ: (وَلبَاسَ) بنصبِ السين عطفًا على قوله: {لِبَاسًا}، وقرأ الباقونَ: بالرفع على الابتداء، وخبرُه (خير)، وجعلوا (ذَلِكَ) صِلَةً في الكلام (¬1). {ذَلِكَ} أي: إنزالُ اللباسِ. {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} الدالَّةِ على فضلِه ورحمتِه. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيعرفونَ نعمتَه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 280)، و"التيسير" للداني (ص: 109)، و"تفسير البغوي" (2/ 97)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 351).

[27]

{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)}. [27] {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ} لا يُضِلَّنَكُم. {الشَّيْطَانُ} بأنْ يمنعَكُم دخولَ الجنةِ. {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} آدمَ وحَوَّاءَ. {مِنَ الْجَنَّةِ} بفتنتِه، النهيُ في اللفظِ للشيطان، والمعنى: نهيُهم عن اتّبَاعه. {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} ليريَ كلَّ واحدٍ سوءةَ الآخَر؛ أي: أخرجهما نازعًا ثيابَهما؛ لكونه سببَ النزعِ، ثم حذَّر منه مُعَلِّلًا فقالَ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} جموعُه وأعوانُه {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} لأن الله سبحانه خلقَهم خَلْقًا لا يُرَوْنَ فيه، وإنما يُرَوْنَ إذا نُقِلُوا عن صورتهم. {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ} أعوانًا {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} يزيدون في غَيِّهم. ... {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)}. [28] {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} كعبادةِ الصنمِ، وكشفِ العورةِ في الطوافِ. {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} ولم يَكْفِهِمْ تقليدُهم حتى قالوا مفترين: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} لاستحالتِها في حقِّه؛ لأن عادتَهُ جرتْ على الأمرِ بمحاسنِ الأفعال.

[29]

{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} إنكار يتضمَّنُ النهيَ عن الافتراءِ على الله، وتقدَّم اختلاف القراء في الهمزتين من كلمتين في سورةِ البقرة (¬1) عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ} [البقرة: 235]، وكذلكَ اختلافُهم في قوله: (بِالْفَحْشَاءِ أَتقولُونَ). ... {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)}. [29] {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} بالعدلِ والتوحيدِ. {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} أي: صَلُّوا. {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} متوجِّهينَ للكعبةِ حيثُما صَلَّيتم، ولا تُؤَخِّروها حتى تعودوا إلى مساجِدِكم. {وَادْعُوهُ} اعبدوه. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} العبادةَ، ولما أنكروا البعثَ، قالَ محتجًا عليهم: {كَمَا بَدَأَكُمْ} أنشأَكُمْ حُفاةً عُراةً. {تَعُودُونَ} بإعادتِه، فيجازيكم على أعمالِكم. ... {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ "النساء" والصواب ما أثبت.

[30]

[30] {فَرِيقًا هَدَى} أي: هداهم اللهُ بأنْ وَفَّقهم للإيمانِ {وَفَرِيقًا حَقَّ} أي: وجبَ {عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} بمقتضَى القضاءِ السابقِ؛ أي: وخذلَ فريقًا. {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} تعليل لخذلانِهم. {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} يدلُّ على أن الكافرَ المخطئ والمعاندَ سواءٌ في استحقاقِ الذنبِ. قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، وأبو جعفرٍ: (وَيَحْسَبُونَ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (¬1). ... {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}. [31] قالَ أهلُ التفسير: كان بنو عامرٍ يطوفونَ بالبيتِ عُراة، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} (¬2) لباسَكُم. {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} كُلَّما صلَّيتم أو طُفْتم، وفيه دليلٌ على وجوبِ سترِ العورةِ في الصلاةِ، والحكمُ كذلكَ بالاتفاق. {وَكُلُوا} اللحمَ والدسمَ. {وَاشْرَبُوا} اللبنَ؛ لأن طائفةً كانوا في حَجِّهم لا يأكلونَ إلا قوتًا. {وَلَا تُسْرِفُوا} في شيءٍ ما. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أي: لا يرضَى فعلَهم، وفي معنى قوله ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 353). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 99)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 436).

[32]

تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} من الأمثالِ الدائرةِ على ألسُنِ الناسِ: الحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ. ... {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}. [32] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} هي ما سترَ العورةَ، وكلُّ ما يُتَجَمَّلُ به الإنسان (¬1) من الثيابِ وغيرِها حلالًا. {وَالطَّيِّبَاتِ} الحلالاتِ {مِنَ الرِّزْقِ} من المآكلِ والمشاربِ. {قُلْ هِيَ} أي: الزينةُ والطيباتُ. {لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فيه حذفٌ تقديره: هي للمؤمنين والمشركين في الدنيا, وللمؤمنين. {خَالِصَةً} أي: مختصَّة بهم. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لا يُشاركهم فيها غيرُهم. قرأ نافع: (خَالِصةٌ) بالرفع على أنها خبرٌ بعدَ خبرٍ، أو خبرُ ابتداءٍ تقديرُه: وهي خالصة يومَ القيامة، وقرأ الباقون: بالنصب على الحال و (¬2) القطع؛ لأن الكلام قد تمَّ دونه (¬3). ¬

_ (¬1) "الإنسان" زيادة من "ن". (¬2) في "ن": "أو". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 280)، و"التيسير" للداني (ص: 109)، و"تفسير البغوي" (2/ 100)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 353).

[33]

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: كتفصيلنا هذا الحكمَ نفصلُ سائرَ الأحكامِ لهم. ... {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}. [33] {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} ما قَبُحَ فحشُه، ويعمُّ كلَّ فاحشةٍ، قرأ حمزة: (ربِّي الْفَوَاحِشَ) بإسكانِ الياءِ، والباقون: بفتحها (¬1). {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} جهرَها وسرَّها. {وَالْإِثْمَ} الذنبَ {وَالْبَغْيَ} الظلمَ والكِبْرَ. {بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حُجَّةً وبرهانًا. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من التحريمِ والتحليلِ. ... {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}. [34] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} مُدَّة، وهو وعيدٌ لأهلِ مكةَ. {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} انقضَتْ مُدَّتُهم. {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} لا يتأخَّرونَ، ولا يتقدمونَ، وقُيِّدَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 301 - 302)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 354).

[35]

بساعةٍ؛ لأنها أقلُّ ما يُستعملُ في الإمهال، وذلكَ حينَ سألوا العذابَ، فأنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ، ويُستدَلَّ بهذا على أن المقتولَ إنما يُقْتَلُ بأَجَلِهِ، وأجلُ الإنسانِ هو الوقتُ الذي يعلمُ الله أنه يموتُ الحيُّ فيه لا محالةَ، كما أن أَجَلَ الدَّيْنِ هو وقتُ حُلوله، وتقدَّم اختلافُ القراء في حكمِ الهمزتينِ من كلمتينِ في سورةِ النساء عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، وكذلك اختلافُهم في قولِه: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ). ... {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}. [35] {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} الخطابُ في هذه الآيةِ لجميعِ الأممِ، و (إن) الشرطيةُ دخلَتْ عليها (ما) لتأكيدِ معنى الشرط، لذلكَ جازَ دخولُ (النون الثقيلة) على الفعلِ، وإذا لم تكنْ (ما)، لم يجزْ دخولُ (النون الثقيلة)؛ أي: إنْ يَأْتِكُم، أخبرَ أنه أرسلَ إليهم الرسلَ منهم؛ لتكونَ إجابتُهم أقربَ، وتَحَصَّلَ من هذا الخطابِ لحاضري محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا حكمُ اللهِ في العالَم منذُ أنشأه، وَ (يَأْتِيَنَّكمْ) مستقبلٌ وُضعَ موضعَ ماضٍ؛ ليفهمَ أن الإتيانَ باقٍ وقتَ الخطابِ، لتقوى الإشارةُ بصحةِ النبوةِ إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {يَقُصُّونَ} والقصصُ: إتباعُ الحديثِ بعضِه بعضًا. {عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أحكامي، وجوابُ الشرطِ: {فَمَنِ اتَّقَى} الشركَ. {وَأَصْلَحَ} العملَ.

[36]

{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إذا خافَ الناسُ. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} إذا حَزِنوا. ... {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}. [36] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} تَكَبَّروا عن الإيمانِ بها. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وإدخالُ الفاءِ في الخبرِ الأولِ دون الثاني للمبالغةِ في الوعدِ، والمسامحةِ في الوعيد. ... {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}. [37] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} جعلَ له شريكًا. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} بالقرآن. {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} أي: ما قُدِّرَ لهم من خيرٍ وشَرٍّ في اللوح المحفوظِ. {حَتَّى} غاية لما يصلُ إلى الكفار. {إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} عندَ انقضاءِ ذلك. {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يقبضون أرواحَهم؛ يعني: ملكَ الموتِ وأعوانَه.

[38]

{قَالُوا} يعني: الرسلَ للكفارِ: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ} تعبدون. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: أين آلهتكم فيذبُّونَ عنكم؟ سؤالُ تبكيتٍ وتقريع. {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} غابوا فلم نَرَهُمْ. {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} عندَ معاينةِ الموتِ. {أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} اعترفوا بالضلالِ فيما كانوا عليه. ... {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)}. [38] {قَالَ} يعني: يقولُ اللهُ لهم يومَ القيامةِ: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} أي: معَ جماعاتٍ {قَدْ خَلَتْ} مضتْ. {مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} يعني: كفارَ الأممِ الخاليةِ. {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} أي: المماثلةَ لها؛ لضلالِها بها (¬1). {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا} تَلاحَقوا {فِيهَا جَمِيعًا} واجتمعوا في النارِ. {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} السفلةُ والأتباعُ. ¬

_ (¬1) في "ت": "به".

[39]

{لِأُولَاهُمْ} القادةِ والرؤساءِ، ومعنى لأُولاهم؛ أي: لأجلِ أولاهم؛ لأنَّ خطابَهم مع اللهِ لا مَعهم. {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} عن الهدى، وتقدَّم التنبيهُ على اختلافِ القراءِ في الهمزتينِ عند قولِه: (لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتقولُونَ) [الأعراف: 28]، وكذلك اختلافُهم (هَؤُلاَءِ أَضَلُّونا). {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} مُضاعَفًا {مِنَ النَّارِ} لأنهم ضلُّوا، وأَضَلُّوا. {قَالَ} اللهُ: {لِكُلٍّ} من القادةِ والأتباعِ. {ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} ما لكلِّ واحدٍ من العذابِ. قراءة (¬1) الجمهورِ: (تَعْلَمُونَ) بالخطاب، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ بالغيب (¬2)؛ أي: لا يعلمُ الأتباعُ ما للقادةِ، ولا القادةُ ما للأتباعِ. ... {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}. [39] {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ} القادةُ {لِأُخْرَاهُمْ} للأتباع: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي: نحن وأنتم في الكفرِ سواءٌ، فَثَمَّ تعالى يقولُ لهم جميعًا: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}. ... ¬

_ (¬1) في "ن": "قرأ". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 280)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، و"تفسير البغوي" (2/ 102)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 357).

[40]

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)}. [40] {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} أي: لا يصعَدُ لهم عملٌ صالح. قرأ أبو عمرو (تُفْتَحُ) بالتأنيثِ والتخفيف، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بالتذكير والتخفيف، والباقون: بالتأنيثِ والتشديدِ (¬1). {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ} يدخل. {الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ثُقْبِ الإبرةِ، المعنى: هؤلاء لا تُجاب أدعيتُهم، ولا يدخلون الجنةَ أبدًا. {وَكَذَلِكَ} أي: ومثلَ ذلكَ الجزاءِ. {نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} المشركينَ. ... {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}. [41] {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} فِراشٌ. قرأ أبو عمرو، ورويسٌ عن يعقوبَ: (جَهَنَّم مهَادٌ) بإدغام الميم في الأولى في الثانية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 280)، و"التيسير" للداني (ص: 100)، و"تفسير البغوي" (2/ 102)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 358). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 234)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

[42]

{وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} جمعُ غاشيةٍ؛ وما يُغَطِّيهم من أنواع العذابِ. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الكفارَ، رُوي عن يعقوبَ الوقفُ بالياء على (غَوَاشِي). ... {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)}. [42] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} طاقتَها من الخيرِ والعملِ الصالحِ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. ... {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}. [43] عن عليٍّ رضي الله عنه قال: فينا واللهِ أهلَ بَدْرٍ نزلَتْ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} حقدٍ كانَ بينَهم في الدنيا، وإن كانتْ نازلةً في الصحابة رضي الله عنهم، فهي عامةٌ في جميعِ أهلِ الجنة؛ لأنهم لا يتحاسدون ولا يتباغضون، وقال علي أيضًا: "إِنِّي لأرجو أن أكونَ أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ مِنَ الذينَ قالَ لهم اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} " (¬1). ¬

_ = (ص: 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 361). (¬1) انظر: "تفسير عبد الرزاق الصنعاني" (2/ 229)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (5/ 1478)، والدر المنثور" للسيوطي (3/ 457).

[44]

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} زيادة في لَذَّتِهم وسرورِهم. {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا} وَفَّقَنا. {لِهَذَا} لما جزاؤه هذا {وَمَا كُنَّا} قرأ ابن عامرٍ: (مَا كُنَّا) بغير واو (¬1). {لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} وجوابُ (لولا) محذوفٌ؛ أي: فلولا هدايةُ الله، ما كنا نهتدي، فعندَ معاينةِ أهلِ الجنةِ صدقَ إخبارِ الرسلِ - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: سرورًا. {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فَثَمَّ أُكرِموا {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} أُعطيتُموها. {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بسببِ أعمالِكم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ، وابنُ ذكوانَ عنِ ابنِ عامرٍ: (أُورِثْتُمُوهَا) بإظهارِ الثاءِ، والباقون: بالإدغام (¬2). ... {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)}. [44] {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} من الثوابِ {حَقًّا} صِدْقًا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 280)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، و"تفسير البغوي" (2/ 104)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 362). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 281)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 362).

[45]

{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} من العقابِ. {حَقًّا} تقديرُه: وعد ربُّكم، فحذفَ (كُمْ) لدلالة (نا) الأول عليه؛ لأن وعدَ يُستعملُ في الخيرِ والشرِّ. {قَالُوا نَعَمْ} وأجاب الكفار بنعم دون بلى؛ لأنَّ (نعم) جوابُ استفهامٍ دخلَ على إيجاب، وهو (وَجَدْتُم)، و (بلى) جوابُ استفهامٍ دخلَ على نفي؛ نحو: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]. قرأ الكسائيُّ: (نَعِم) بكسر العين حيثُ وقعَ، والباقون: بفتحها، وهما لغتان (¬1). {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} أي: نادى منادٍ أسمعَ الفريقين. {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الكافرين. قرأ ورشٌ عن نافعٍ، وأبو جعفرٍ: (مُوَذِّن) بفتح الواو بغيرِ همز (¬2)، وقرأ نافع، وأبو عمرو، ويعقوبُ، وعاصمٌ: (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) بإسكانِ النونِ مخففةً، ورفعِ (لَعْنَةٌ)، واختلفَ عن قنبلٍ راوي ابنِ كثير، وقرأ الباقون: بتشديد النون، ونصبِ (لَعْنَةً) (¬3). ... {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)}. [45] {الَّذِينَ يَصُدُّونَ} يَصْرِفون الناسَ {عَنْ سَبِيلِ} طاعةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 281)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، و"تفسير البغوي" (2/ 105)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 363). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 363). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 281)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، و"تفسير البغوي" (2/ 105)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 363).

[46]

{اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يطلبون اعوجاجَها، ويذُّمونها، فلا يؤمنون بها {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ}. ... {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}. [46] {وَبَيْنَهُمَا} أي: بينَ الجنةِ والنارِ. {حِجَابٌ} مانعٌ ليمنعَ وصولَ أثرِ إحداهما إلى الأُخرى، وهو السورُ المعروفُ بالأعراف، جمعُ عُرْفٍ؛ سُمِّي بذلكَ؛ لارتفاعه، ومنهُ عُرفُ الديكِ؛ لارتفاعِه على ما سواهُ من جسدِه. {وَعَلَى الْأَعْرَافِ} أي: أعالي الحجاب، وهو السورُ الذي ذكره اللهُ في قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد: 13]. {رِجَالٌ} هم قومٌ استوَتْ حسناتُهم وسيئاتُهم، فقصرتْ بهم سيئاتُهم عنِ الجنة، وتجاوزت بهم حسناتُهم عن النار، فوقفوا هناكَ حتى يقضيَ الله فيهم ما شاءَ، ثم يُدخلُهم الجنةَ بفضلِ رحمتِه، وهم آخرُ من يدخلُ الجنةَ. {يَعْرِفُونَ كُلًّا} من أهلِ الجنةِ والنارِ {بِسِيمَاهُمْ} بعلامَتِهم، وهي بياضُ الوجهِ للمؤمنين، وسوادُه للكافرين. {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أي: إذا نظروا إليهم، سَلَّموا عليهم، وقيل: المعنى: سَلِمْتُم من العقوبة. {لَمْ يَدْخُلُوهَا} أي: أصحابُ الأعرافِ لم يدخلوا الجنةَ. {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} في دخولها، فيدخلونها بعد، قالَ الحسنُ: "واللهِ

[47]

ما جعلَ اللهُ ذلكَ الطمعَ في قلوبهم إلا لخيرٍ أرادَهُ بهم" (¬1). ... {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}. [47] {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} أبصارُ أهلِ الأعرافِ. {تِلْقَاءَ} ظَرْفٌ؛ أي: تُجاهَ. {أَصْحَابِ النَّارِ} فعرفوهم، {قَالُوا} مستعيذينَ داعينَ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني: الكافرين في النار، وتقدَّم اختلافُ القراءِ في حكمِ الهمزتينِ من كلمتين في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، وكذلك اختلافهم في {تِلْقَاءَ أَصْحَابِ}. ... {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)}. [48] {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} من رؤساءِ الكفرةِ. {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ} المالُ والولدُ في الدنيا. {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان. ... ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" (2/ 230)، ومن طريقه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1488). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 466).

[49]

{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}. [49] ثم يقولون للكفار، وهم الوليدُ بنُ المغيرةِ، وأبو جهلِ بنُ هشامٍ ونحوُهما؛ تنبيهًا على الأبرارِ ممن دخلَ الجنةَ، وهم سَلْمانُ (¬1)، وصُهَيْبٌ، وخَبَّابٌ، وبلالٌ وأشباهُهم الذين كانوا يحتقرونهم لفقرهم: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} حلفتُم. {لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} أي: لا يدخلون الجنةَ؛ ثم يقالُ لأصحابِ الأعراف: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} لا تخافون على ما يأتي، ولا تحزنون على ما فات. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ بخلافٍ عن ابنِ ذكوانَ راوي ابنِ عامرٍ: (بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا) (خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) بضم التنوين في الوصل (¬2). ... {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)}. [50] {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا} صُبُّوا. {عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ} وَسِّعوا علينا. ¬

_ (¬1) في "ن": "سليمان". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 224)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 153، 225)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 365).

[51]

{مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من طعام الجنة، وفيه دليل على أنَّ الجنةَ فوقَ النار، وتقدَّم التنبيه على اختلافِ القراءِ في حكم الهمزتين من كلمتين عندَ قوله تعالى: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38]، وكذلك اختلافهم في {مِنَ الْمَاءِ أَوْ}. {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا} يعني: الماءَ والطعامَ. {عَلَى الْكَافِرِينَ} منعَهما عنهم. ... {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)}. [51] {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} كتحريمِ البَحيرةِ وأخواتِها، والمُكَاءِ والتَّصْدِيَةِ حولَ البيتِ، وغيرها مما كانوا يفعلونَ (¬1) في الجاهلية. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} نفعلُ بهم فعلَ (¬2) الناسين، فنتركُهم في النار {كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فلم يُخْطِروه ببالِهم. {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} يُنكرون أنها من عند الله. ... {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}. ¬

_ (¬1) في "ن": "يفعلونه". (¬2) في "ن": "كما فعل".

[52]

[52] {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} يعني: القرآنَ. {فَصَّلْنَاهُ} أحكامًا وقصَصًا. {عَلَى عِلْمٍ} أي: عالِمينَ بتفصيلِه. {هُدًى وَرَحْمَةً} أي: جعلناه هاديًا وذا رحمةٍ. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنهم المنتفعونَ به. ... {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}. [53] {هَلْ يَنْظُرُونَ} أي: ينتظرونَ. {إِلَّا تَأْوِيلَهُ} ما يؤول إليه من (¬1) أمرهم يومَ القيامةِ من الوعيد {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} جزاؤه. {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} اعترافًا حينَ لا ينفعُ. {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا} حقيقةً. {بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا} اليومَ. {مِنْ شُفَعَاءَ} استفهامٌ فيهِ معنى التمنِّي. {فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ} إلى الدنيا. {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وجوابُ الاستفهامِ. ¬

_ (¬1) "من": زيادة من: "ت".

[54]

{قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أهلَكوها. {وَضَلَّ} بطلَ. {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فلمْ ينفعْهم. ... {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}. [54] {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي: في مقدارها؛ لأن اليومَ من لَدُنْ طلوعِ الشمسِ إلى غروبها, ولم يكنْ يومئذٍ يومٌ ولا شمسٌ، وخلقَهُنَّ فيهنَّ تعليمًا لخلقه التثبُّتَ والتأنِّي؛ لأنه سبحانه كان قادرًا على خلقهنَّ في لمحةٍ (¬1)، وقد جاءَ في الحديث: "التَّأنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬2). {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليقُ بعظمتِه بِلا كيفٍ، وهذا من المشكِلِ الذي يجبُ عندَ أهل السُّنَّةِ على الإنسانِ الإيمانُ به، ويَكِلُ العلمَ فيه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وسُئِلَ الإمامُ مالكٌ رضي الله عنه عن الاستواءِ فقالَ: "الاستواءُ معلومٌ؛ يعني: في اللغة، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ ¬

_ (¬1) في "ن": "كلمحة". (¬2) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (3/ 389)، وأبو يعلى في "مسنده" (4256)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 104)، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

عنهُ بِدْعَةٌ" (¬1)، وسُئِل الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فقال: "هُوَ كما أخبرَ، لا كما يخطرُ للبشَرِ" (¬2)، والعرشُ في اللغة: هو السريرُ، وخُصَّ العرشُ بالذكرِ تشريفًا له؛ إذ هو أعظمُ المخلوقات. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يُغَطِّي أحدهما بالآخرَ، وفيهِ حذفٌ؛ أي: ويُغْشي النهارَ الليلَ، ولم يُذْكَرْ؛ لدلالةِ الكلامِ عليه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصم، وخلفٌ، ويعقوبٌ: (يُغَشِّي) بالتشديد مع فتح الغين، وله قولٌ بإسكانِ الغين والتخفيفِ (¬3). {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} يَعْقُبُه سريعًا. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ} مُذَلَّلاتٍ. {بِأَمْرِهِ} بمشيئته. قرأ ابنُ عامرٍ: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) كلُّها بالرفع على الابتداء والخبرِ، فالشمسُ مبتدأ، والبقيةُ معطوفة عليه، وخبرُه (مُسَخَّراتٌ)، وقرأ الباقونَ: بالنصبِ وكسرِ التاء من (مُسَخَّرَاتٍ) تاء جمع المؤنث السالم عطفًا على قوله: (خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ)، فتنصب (مُسَخَّراتٍ) حالًا (¬4). ¬

_ (¬1) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (3/ 398)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 325 - 326). (¬2) انظر: "اعتقاد أهل السنة" للالكائي (3/ 401). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 282)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، و"تفسير البغوي" (2/ 109)، و"الكشف" لمكي (1/ 464)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 368). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 282)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، =

[55]

{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ} جميعًا {وَالْأَمْرُ} بأن يأمرَهم ويحكُمَ فيهم ما شاء. {تَبَارَكَ اللَّهُ} أي: دامَ {رَبُّ الْعَالَمِينَ} وتعظَّمَ بالتفرد في الربوبية. ... {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}. [55] {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} تذلُلًا {وَخُفْيَةً} سِرًّا. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَخِفْيَةً) بكسر الخاء، والباقون: بالضم (¬1)، وقد أثنى الله على زكرياء بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]، قال الحسنُ: "بينَ دعوةِ السرِّ ودعوةِ العلانيةِ سبعون ضِعْفًا" (¬2)، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوتٌ، إن كان إلا همسًا بينَهم وْبينَ ربِّهم. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} المتجاوزينَ برفعِ الصوتِ والتشدُّقِ في الدعاءِ. ... {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}. [56] {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالظلمِ والشركِ. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 109)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 369). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 283)، و"التيسير" للداني (ص: 103)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 370). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 110).

[57]

{بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} بالعدلِ ببعثِ الأنبياءِ وشرعِ الأحكامِ. {وَادْعُوهُ خَوْفًا} من الردِّ {وَطَمَعًا} في الإجابة. {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ذُكِّرَ (قريبٌ) على تأويلِ أنها الثوابُ {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} و (رَحْمَتَ) رُسمت بالتاء في سبعةِ مواضعَ، وقفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، والكسائيُّ، ويعقوبُ (¬1). ... {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}. [57] {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الرِّيحَ) بغيرِ ألف بعدَ الياء، والباقون: بالألف (¬2). {بُشْرًا} قرأ عاصمٌ (بُشْرًا) بالباء الموحدة وضمِّها وإسكانِ الشين؛ أي: تبشِّرُ بالمطر، وقرأ ابنُ عامرٍ: بالنونِ وضمِّها وإسكانِ الشين، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بفتحِ النونِ وإسكانِ الشين، وقرأ الباقون: ¬

_ (¬1) انظر: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" للداني في باب: ذكر ما رسم في المصاحف من هاءات التأنيث (ص: 24)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 242)، والمواضع السبعة هي: في هو و {وَلَا تُفْسِدُوا فِي}، وفي مريم: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ}، وفي الزخرف: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}، {رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وفي الروم: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} وفي هذه الآية. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 283)، و"التيسير" للداني (ص: 78)، و"تفسير البغوي" (2/ 111)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 370).

بضمِّ النونِ والشينِ، جمعُ نشُور (¬1)، والقراءة بالنون معناها على القراءات كلِّها متفرقةً، وهي الرياحُ التي تهبُّ من كل ناحيةٍ. {بَيْنَ يَدَيْ} أي: قُدَّامَ {رَحْمَتِهِ} نعمتِه، وهو المطرُ. {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} حملَتِ الرياحُ. {سَحَابًا} جمعُ سحابةٍ. {ثِقَالًا} بالماءِ. {سُقْنَاهُ} أي: السحابَ، وقيلَ: المطرُ. {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} محتاجٍ إلى الماء. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصم: (مَيِّتٍ) بتشديد الياء، والباقون: بالتخفيف (¬2). {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي: بالبلد، وقيل: بالسحاب {الْمَاءَ} يعني: المطرَ. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالبلدِ، وقيل: بالسحابِ. {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} مثلَ إخراجِنا النباتَ. {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} منَ الأجداثِ ونُحييها. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتؤمنونَ بالبعثِ. وتقدَّمَ اختلاف القراءِ في تخفيفِ (تَذْكُرونَ) في أولِ السورةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 283)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، و"تفسير البغوي" (2/ 111)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 255)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 371 - 372). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 87)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 152)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 373)، ورويت بخلاف عن عاصم.

[58]

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}. [58] ثم ضربَ مثلًا لمن ينتفعُ بالوعظ، ولمن لا ينتفعُ به بعدَ ذكرِ المطرِ وإخراجِ النباتِ والثمراتِ تشبيهًا له بها فقال: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} أي: الأرضُ الكريمةُ التربةِ. {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} حسنًا. {وَالَّذِي خَبُثَ} كالسَّبخةِ ونحوِها. {لَا يَخْرُجُ} نباتُه. {إِلَّا نَكِدًا} عسرًا. قرأ أبو جعفرٍ: (نَكَدًا) بفتح الكاف مصدرًا؛ أي: ذو نكد، والباقون: بكسرها (¬1)، وعن أبي جعفر وجهٌ: (لا يُخْرِجُ) بضمِّ الياء وكسر الراء، وعنه: وجهٌ آخرُ بضمِّ الياءِ وفتحِ الراء، فالأولُ مثَلُ المؤمنِ الذي يسمعُ القرآنَ فيعقلُه وينتفعُ به، والثاني مَثَلُ الكافرِ الذي لا يسمعُ القرآنَ، فلا يؤثِّر فيه كالبلدِ الخبيثِ. {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} نُردِّدها ونوضِّحُها. {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} نعمةَ الله. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 112)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 374).

[59]

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [59] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} اللام في (لَقَدْ) للتأكيدِ المنبِّهِ على القسم، أقسمَ اللهُ تعالى أنّه أرسلَ نوحًا، وتقدَّمَ ذِكْرُ نوحٍ -عليه السّلام-، ونسبُه، وقدرُ عمره، ومحلُّ قبرِه في سورةِ آلِ عمرانَ، بعثه اللهُ إلى قومِه وهو ابنُ خمسينَ سنةً، وقيل: ابنُ أربعينَ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ، وقيلَ: ابنُ مئتين وخمسين، وقيل: ابنُ ثلاثِ مئةٍ وخمسين، وقال مقاتل: ابنُ مئةِ سنةٍ، وقال وهبُ بنُ منبِّهٍ: بُعث نوحٌ وهو ابنُ أربعِ مئةِ سنةٍ، وهو أولُ نبيٍّ بعثه اللهُ بعدَ إدريس، وكان نجارًا، ومن أولادِه سامٌ وحامٌ ويافثٌ، فسامٌ هو أبو العربِ وفارسَ والرومِ وأهلِ الشامِ وأهلِ اليمنِ، وكان هو القيِّم بعدَ نوحٍ في الأرض، ومن ولدِهِ الأنبياءُ كلُّهم، عربُهم وعجمُهم، وجعلَ اللهُ في ذريته النبوةَ والكتابَ، وهو الّذي اختطَّ مدينةَ القدسِ، وأَسَّس المسجدَ الأقصى، وكان مَلِكًا عليها، وحامٌ أبو السودانِ وأهلِ الهندِ والسندِ والزنْج والحبشةِ والنوبةِ وكلِّ جلدٍ أسودَ، ويافثٌ أبو التركِ ويأجوجَ ومأجوجَ والفرنجِ. {فَقَالَ} لقومِه، وكانوا أهلَ أوثانٍ: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّه} وَحِّدُوهُ. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} قرأ أبو جعفرِ، والكسائيُّ: (غَيْرِهِ) بكسر الراء على نعتِ الإلهِ حيثُ وقعَ، والباقونَ: بالرفع، على التقديم؛ أي: ما لكم غيرهُ من إلهٍ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 284)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، =

[60]

{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إنَّ لم تؤمنوا. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يومُ القيامةِ، أو يومُ الطوفان. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1). * * * {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. [60] {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي: الأشرافُ، فإنهم يملؤون العيونَ والنفوسَ. {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ} خطأٍ {مُبِينٍ} واضحٍ. ** * {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. [61] {قَالَ} هو نوحٌ: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} أي: شيءٌ من الضلال، وهي أعمُّ، وفي نفيِها نفيُ جميعِ الضلالِ؛ نحو: ألكَ تمرٌ؟ ويقولُ: ولا تمرةٌ، ثمّ استدرَكَ مؤكِّدًا نفيَ الضلالةِ فقالَ: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} المعنى: ولكني على هُدًى في الغاية؛ لأني رسولٌ من الله. ... ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 113)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 375). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 301 - 302)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"تفسير البغوي" (2/ 114)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 377).

[62]

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)}. [62] {أُبَلِّغُكُمْ} أُوصلُ إليكم. {رِسَالَاتِ رَبِّي} بالأحكامِ، وجُمِعَ الرسالاتُ؛ لاختلاف أوقاتها؛ أو لتنوُّعِ معانيها. قرأ أبو عمرٍو: (أُبْلِغُكُمْ) بالتخفيفِ من الإبلاع، والباقون: بالتشديد من التبليغ. {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} وحقيقةُ النصحِ: إرادةُ الخيرِ لغيرِه كما يريدهُ لنفسه. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أن عقابَه لا يُرَدُّ عن القومِ المجرمين. * * * {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)}. [63] {أَوَعَجِبْتُمْ} ألفُ استفهامٍ دخلتْ على واوِ العطف لمعنى التقرير والتوبيخِ، تقديره: أَكَذَّبْتُم وعَجِبتم. {أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ} موعظةٌ. {مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} على لسانِه. {لِيُنْذِرَكُمْ} العذابَ إنَّ لم تؤمنوا. {وَلِتَتَّقُوا} اللهَ {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بالتقوى. ***

[64]

{فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)}. [64] {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ} من الطوفان. {وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} السفينةِ، وهم من آمن به، وكانوا أربعين رجلًا، وأربعين امرأة. {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} بالطوفانِ. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} عُمْي القلوب. * * * {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)}. [65] {وَإِلَى عَادٍ} أي: وأرسلْنا إلى عادٍ، وهم ولدُ عادِ بنِ عوصِ بنِ عبدِ الله بنِ سامِ بنِ نوحٍ، وهي عادٌ الأولى. {أَخَاهُمْ هُودًا} في النَّسبِ لا في الدِّينِ، هو ابنُ عبدِ اللهِ بنِ رباحِ بنِ الخلودِ بنِ عادِ بنِ عوصِ بنِ إرَمِ بنِ سامِ بنِ نوحٍ، بعثه الله إلى عادٍ نبيًّا، وكان من أوسطِهم نسبًا، وأفضلِهم حسبًا، وهودٌ اسمٌ (¬1) أعجميٌّ، وانصرَفَ لخفتِه؛ لأنّه على ثلاثةِ أحرفٍ، وبعثه اللهُ بعدَ نوحٍ وقبلَ إبراهيم، وكانت عادٌ ثلاثَ عشرةَ قبيلةً ينزلونَ الرمالَ رملَ عالجٍ، وكانوا أهلَ بساتينَ وزروعٍ وعمارةٍ، بنَواحي حضرموتَ باليمنِ، فسخطَ اللهُ عليهم، فجعلهم مفاوزَ، وكانوا يعبدون الأصنامَ، وهم جَبَّارونَ، طِوالُ القاماتِ، فبُعثَ إليهم ¬

_ (¬1) "اسم" ساقطة من "ن".

[66]

بالتوحيدِ وتركِ الظُّلْمِ، ولم يأمْرهم بغيرِ ذلك. {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تقدَّمَ اختلافُ (¬1) القراء في (إِلَهٍ غَيْرُهُ) في الحرفِ المتقدم {أَفَلَا تَتَّقُونَ} نقمته. * * * {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)}. [66] {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ} يا هودُ. {فِي سَفَاهَةٍ} جهالةٍ وخِفَّةِ عقلٍ حيثُ تركتَ دينَ قومِك. {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في رسالتِكَ. * * * {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)}. [67] {قَالَ} هودٌ: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)}. * * * {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)}. [68] {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ} أدعوكم إلى التوبة. {أَمِينٌ} على الرسالة. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في (أُبَلِّغُكُمْ) في الحرف المتقدِّم. ¬

_ (¬1) في "ش": "خلاف".

[69]

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)}. [69] {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} يعني: نفسَه. {لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي: سكانَ الأرضِ من بعدِ إهلاكِهم. {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} قوةً وطولًا، وكانَ طولُ الطويلِ منهم مئةَ ذراع، والقصيرِ ستين ذراعًا. قرأ خلفٌ لنفسِه، وعن حمزةَ، والدوريُّ عن أبي عمرٍو، وهشامٌ عنِ ابنِ عامرٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (بَسْطَةً) بالسين؛ لأنّها الأصل، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصم، وروحٌ عن يعقوبَ: بالصاد بدلًا من السين، واختلف عن قنبلٍ والسوسيِّ وابنِ ذكوانَ وحفصٍ وخلادٍ، ورسمُها بالصادِ (¬1). {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} نِعَمَهُ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تدركونَ البغيةَ والآمال. * * * {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}. [70] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} أي: مفردًا موحَّدًا. {وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الأصنامِ؟ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 225)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 378)، وقد ذكرت القراءة بالصاد عن نافع والكسائي والبزي وابن ذكوان.

[71]

{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذابِ. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قالوا ذلكَ له استهزاءً. * * * {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)}. [71] {قَالَ} هود {قَدْ وَقَعَ} وَجَبَ {عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ} عذابٌ {وَغَضَبٌ} سخطٌ. {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} أو وضعتموها. {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} حجةٌ وبرهان؛ أي في أشياء سميتموها آلهةً، وليس فيها معنى الإلهية، وكانت الأصنام يعبدونها ويسمونها بأسماء مختلفة، وهي: صُداءُ، وصَمُودُ، والهُبَاءُ، وكانوا قد فَشَوْا في الأرض، وقهروا أهلَها بقوَّتهم. {فَانْتَظِرُوا} نزولَ العذابِ. {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} فأُرسلتِ الريحُ العقيمُ عليهم، فدخلوا بيوتَهم، فأخرجَتْهم الريحُ منها، وأَهالت عليهم الرمالَ سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ، ثمّ رمتْ بهم في البحر. * * * {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}.

[72]

[72] {فَأَنْجَيْنَاهُ} يعني: هودًا {وَالَّذِينَ مَعَهُ} من المؤمنينَ. {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} بأَنْ جُعلوا في حظيرة ما يصلُ إليهم من الريح إِلَّا ما يُلَيِّنُ عليهم جلودهم. {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: استأصلناهم عن آخرِهم. {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أي: هلكَ الكفارُ، ونجا المؤمنون. ويُروى أنّه كان من عادٍ شخصٌ اسمهُ لُقمانُ، وهو غيرُ لقمانَ الحكيمِ الّذي كانَ على عهدِ داودَ النبيِّ -عليه السّلام-، ولحقَ هودٌ حين أُهلك قومُه بمن آمنَ معه بمكَّة، فلم يزالوا فيها حتّى ماتوا فيها، وقيل إنَّ قبرَه بحضرموتَ، ورويَ (¬1) أن النبيَّ من الأنبياءِ كان إذا هلكَ قومُه، أقام بصالحيه بمكةَ يعبدونَ اللهَ حتّى يموتون (¬2). * * * {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}. [73] {وَإِلَى ثَمُودَ} هو ثمودُ بنُ عابرِ بنِ إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ، والمراد هنا: القبيلةُ، وقيلَ: سُميت ثمودَ؛ لقلةِ مائِها، والثَّمَدُ: الماءُ القليلُ، ¬

_ (¬1) في "ن": "ويروى". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 116 - 117).

وكانت مساكنُهم الحِجْرَ بينَ المدينةِ الشريفةِ والشامِ، وكانوا عربًا يعبدونَ الأصنامَ. {أَخَاهُمْ} أي: أرسلْنا إلى ثمودَ أخاهم في النَّسبِ لا في الدِّينِ. {أَخَاهُمْ صَالِحًا} هو ابنُ عبيدِ بنِ أسفِ بنِ ماسحِ بنِ عبيدِ بن حاذرِ بنِ ثمودَ. {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وبالغَ صالحٌ في الإنذارِ، وادَّعى (¬1) النبوةَ وقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} حجةٌ {مِنْ رَبِّكُمْ} على صِدْقي، فقالَ سيدُهم جُندعُ بنُ عمرٍو: تُخرِجُ لنا من هذهِ الصخرةِ ناقةً مُخْتَرِجَةً وَبْراءَ عُشَراءَ، والمخترجةُ: ما شاكلَتِ البخت من الإبل، فقال: إنَّ فعلتُ تؤمنوا؟ قالوا: نعم، فأخذَ مواثيقَهم على ذلك، فتمخَّضَتِ الصخرةُ عن ناقةٍ كما أرادوا، ثمّ نُتِجَتْ مثلَها في العِظَم. {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} أضافها إلى الله على التفضيل؛ لأنّها جاءت من عندِه بلا وسائطَ (¬2) وأسبابٍ معهودةٍ. {لَكُمْ آيَةً} نصبٌ على الحالِ. {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} من المرعى {فِي أَرْضِ اللَّهِ}، فالأرضُ له، والناقةُ ناقته، لا اعتراضَ لكم عليها. {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} بِعَقْرٍ وَلا ضَرْبٍ. {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فآمنَ جُندعُ ورهطُه. ¬

_ (¬1) في "ن": "وادعاء". (¬2) في "ن": "بلا واسط".

[74]

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}. [74] ولما هلكت عادٌ، خلفتها ثمودُ في الأرض، وعَمَّروا القصورَ، ونحتوا البيوتَ في الجبال، فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ} أَنْزَلَكُم. {فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} أي: تبنونَ من سهولها بما تعملون من اللَّبِنِ والآجُرِّ. {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} كانوا ينقبونَ في الجبال البيوتَ، ففي الصيفِ يسكنون بيوتَ الطين، وفي الشتاءِ بيوتَ الجبلِ. {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} نعمَه. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} والعَيْثُ: أَشَدُّ الفسادِ. * * * {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)}. [75] {قَالَ الْمَلَأُ}. قرأ ابنُ عامرٍ (وَقَالَ الْمَلأُ) بواو، وقرأ الباقون: بغير واو (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 284)، و"التيسير" للداني (ص: 111)، و"تفسير البغوي" (2/ 125)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 379).

[76]

{الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} يعني: الأشرافَ والعامةَ الذين تعظَّموا عن الإيمانِ بصالح. {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} يعني: الأتباعَ. {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} يعني: قالَ الكفارُ للمؤمنين: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} إليكم. {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} لا شكَّ عندَنا فيه. * * * {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)}. [76] {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} جاحِدونَ. * * * {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)}. [77] فلما أَضَرَّتِ النَّاقَةُ بمواشيهم، كَمَنَ لها قُدار بنُ سالفٍ بطريقِها بجماعةٍ تسعةٍ، وكمنَ لها مصدعُ بنُ مِهْرجٍ بطريقٍ آخرَ، فمرَّتْ بمصدعٍ فرماها بسهمٍ، فانتظمَ ساقَها، وشدَّ قُدارٌ عليها، فَعَرْقَبَها بالسيفِ، فخرَّتْ ورَغَتْ تحذِّرُ سَقَبَها، ثمّ طَعَنَ في لَبَّتِها فنحَرها هو {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} عَرْقَبوها فقتلوها، واقتسموا لحمَها، فجاءَ صالحٌ فرآهُ الفصيلُ فبكى، ثُمَّ رغَا ثلاثًا، فانفجرتِ الصخرةُ الّتي خرجتْ منها أمُّه فدخَلَها، وكانَ يومَ الأربعاء.

[78]

{وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} واستكبروا عن امتثالِهِ، فقال صالحٌ: انتهَكْتُمْ حرمةَ اللهِ، فأبْشِروا بعذابِه ونِقْمته، وقالوا وهم يستهزئون: ومتى ذلكَ يا صالح؟ قال: تعيشونَ بعدَه ثلاثةَ أيّام تصفرُّ وجوهُكم أولَ يومٍ، وتحمرُّ في الثّاني، وتسوَدُّ في الثّالث، ويُصَبِّحُكُم العذابُ في الرّابع، وكان كذلك، فاستهزَؤوا {وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. * * * {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)}. [78] {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلةُ الشديدةُ، وجاءتهم صيحةٌ من السَّماء فيها صوتُ كلِّ صاعقةٍ، فتقطَّعَتْ قلوبُهم فماتوا. {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} بعضُهم على بعضٍ. * * * {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}. [79] {فَتَوَلَّى} أعرضَ. {عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}: لم تقبلوا نُصْحي، ناداهُم بذلك توجُّعًا على ما فاتَهُ من إسلامهم، وتوبيخًا لهم، كما خاطبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ قَليب بَدْرٍ وقال: "إِنَّا وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا" (¬1)، وسارَ ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (3757)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، ومسلم (2874)، كتاب: الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميِّت من =

[80]

صالحٌ إلى فلسطين، ثمّ انتقل إلى الحجاز يعبدُ الله إلى أن ماتَ بمكةَ، وقيل: بحضرموتَ، وهو ابنُ ثمانٍ وخمسينَ سنةً، وأقامَ في قومِه عشرين سنةَ، وقيل: إنّه أقامَ بعدَ مهلكِ قومِه بفلسطينَ، وأن قبرَه بالمغارةِ الّتي بالجامعِ الأبيضِ بالرَّمْلَةِ، وهودٌ وصالحٌ عَرَبيان، وكذلكَ شعيبٌ وإسماعيلُ. * * * {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)}. [80] {وَلُوطًا} أي: وأرسلْنا لوطًا، وتقدَّمَ ذكرهُ في سورةِ الأنعامِ، ولوطٌ اسمٌ أعجميٌّ صُرِفَ لخفَّتِه، لأنّه على ثلاثةِ أحرفٍ وهو ساكنُ الوَسَط. {إِذْ قَالَ} أي: وقتَ قوله. {لِقَوْمِهِ} وهم أهلُ سَدومَ وقُراها، وهي (¬1): عَمُورا، وأَدْم، وأَصْبُوئِن، ولُوشَع، وكان لوطٌ قد هاجرَ مع عمِّهِ إبراهيمَ -عليه السّلام- إلى الشامِ، فنزل إبراهيمُ فلسطينَ، وأنزلَ لوطًا الأردنَّ، وهو نهرُ الشريعةِ شرقيَّ بيتِ المقدسِ، فأرسله الله إلى أهل سدومَ، فقالَ لهم مستفهمًا على جِهَةِ التوبيخ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي: السيئة القبيحةَ، وهي إتيانُ الذكورِ (¬2). ¬

_ = الجنَّة أو النّار عليه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬1) في "ن": "وهم". (¬2) في "ن": "الرجال".

[81]

{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} رُوي أنّه لم تكن هذه المعصية في أمةٍ قبلَه، عَلَّمَهم إياها الخبيثُ إبليسُ. * * * {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)}. [81] {إِنَّكُمْ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (إِنكمْ) بهمزةٍ واحدةٍ على الخبرِ، والباقونَ: بهمزتين على الاستفهام، وهم على أصولهم تسهيلًا وتحقيقًا وفصلًا (¬1)، كما تقدَّمَ في سورة الأنعامِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام: 19]. {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} في أدبارِهم. {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} يعني: أدبارُ الرجالِ أشهى عندَكم من فروج (¬2) النساءِ. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} مجاوزونَ الحلالَ إلى الحرام؛ وتقدَّمَ حكمُ الزِّنا واللواطِ ومذاهب الأئمة فيه في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} [النساء: 15]. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 286)، و"التيسير" للداني (ص: 32، 111)، و"تفسير البغوي" (2/ 127)، و "معجم القراءات القرآنية" (2/ 380). (¬2) في باقي النسخ: "دون".

[82]

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}. [82] {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} بعدَ موعظتِه إياهم. {إِلَّا أَنْ قَالُوا} أي: قالَ بعضُهم لبعضٍ: {أَخْرِجُوهُمْ} أي: لوطًا وأَتباعَهُ. {مِنْ قَرْيَتِكُمْ} ثمّ قالوا استهزاءً: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} هو يَتَنَزَّهونَ عن أدبارِ الرجالِ. * * * {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)}. [83] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} المؤمنينَ. {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الماضينَ؛ لأنّها كانتْ مواليةً لهم، فهلكَتْ معهم. * * * {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}. [84] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} حجارةً، وقيلَ: الكبريت، قال أبو عبيدة: يقالُ في العذابِ: (أَمْطَرَ)، وفي الرّحمة (مَطَرَ) (¬1) {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 128).

[85]

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. [85] {وَإِلَى مَدْيَنَ} هو ابنُ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصّلاة والسلام، سميت المدينةُ باسمه، وهي (¬1) على بحر القُلْزُمِ تحاذي تبوكَ على نحوِ ستِّ مراحلَ، وهي البئرُ الّتي استقى منها (¬2) موسى لسائمةِ شعيبٍ، وهي في عصرِنا منزلةٌ للحجاجِ المتوجِّهين من مصرَ وبيتِ المقدسِ إلى مكةَ المشرفةِ، وتسمَّى في هذهِ الأزمنةِ مغارةَ شُعيب، والمغارةُ في لحفِ الجبلِ، وفيها شجرٌ عظيمٌ من الجانبِ الغربيِّ، وقومُ شعيبٍ هم أصحابُ الأيكة، وكانت الأيكةُ من شجرٍ مُلْتَفٍّ. {أَخَاهُمْ} أي: أرسلْنا إليهم أخاهم في النَّسَبِ لا في الدِّينِ. {شُعَيْبًا} واختُلِفَ في نسبه، فقيل: هو ابنُ ثوبهَ (¬3) بنِ مدينَ بنِ إبراهيمَ، وقيل: ابنُ مَيْكيكَ بنِ يَشْجُرَ بنِ مدينَ بنِ إبراهيمَ، وأُمُّ ميكيكَ بنتُ لوطٍ، وكان شعيبٌ أعمى، وكان يقال له: خَطيبُ الأنبياءِ، لحسنِ مراجعتِه قومَه، وكانوا أهلَ كفرٍ وبَخْسٍ للمكيالِ والميزانِ، وكانوا يظلمونَ الناسَ. ¬

_ (¬1) في "ن": "وهو". (¬2) في "ن": "به"، وفي "ظ" و"ت" و"ش": "بها". (¬3) في "ن": "ذوبة".

[86]

{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} على صِدْقي، ولم تُذْكَرْ معجزاتُه في القرآنِ كما يذكَرُ جميعُ معجزاتِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ومن معجزاتِهِ تَغَصُّنُ العَصا، وحملُها أيَّ ثمرةٍ شاءَ موسى، وحملُها متاعَ موسى في رعايةِ الغنمِ، ومحاربةُ عدوٍّ إن عرضَ لهُ، وأن تصيرَ كالدَّلْوِ يسقي بها غنمَهُ إنَّ احتاجَ، فإنَّ ذلكَ كانَ معجزةً لشُعيبٍ؛ لأنّ موسى لم يكنْ بعدُ نبيًّا. وكان الغريبُ إذا دخلَ إلى قومِهِ، أخذوا دراهَمه، وقالوا: هي زُيوفٌ، فيقطِّعونَها ثمّ يشترونَها بنُقصانٍ، وربما أعطوهُ بدلَها زُيوفًا، فقال: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ} أَتِمُّوهُ {وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا} تنقُصوا {النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} حقوقهم. {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} ببعثِ الرسلِ وتوضيحِ الشرائع. {ذَلِكُمْ} أي: العدلُ {خَيْرٌ لَكُمْ} في الدنيا والدين. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} مصدِّقين قولي. * * * {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}. [86] {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} طريقٍ من طرقِ الحقِّ {تُوعِدُونَ} مَنْ آمنَ بشعيبٍ العقوبةَ.

[87]

{وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن دينِهِ {مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} تطلبونَ اعْوِجاجَها بإلقاءِ الشُّبَهِ للناس نَهْيِهم عن الإسلام. {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} بَعْدَ قلَّةِ العَدَد والعُدَدِ بالبركةِ في النسلِ والمالِ (¬1). {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي: آخِرَ أمْرِ قوم لوطٍ. * * * {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)}. [87] {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} فصِرْتُم فريقين: مُصدِّقين ومكذِّبين. {فَاصْبِرُوا} فانتظروا {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} بإنجاءِ المؤمنين، وإهلاكِ الكافرين. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} لأنّ الحكَمُ العدل، وليس هذا أمرًا بالمقام على الكفر، ولكنه وَعيدٌ وتهديدٌ. * * * {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)}. [88] {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} يعني: الرؤساءَ الذين تعظَّموا عن الإيمانِ لشعيبٍ وأتباعِهِ: ¬

_ (¬1) في "ن": "والولد".

[89]

{لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ} لترجِعُن. {فِي مِلَّتِنَا} ديننِا، ولم يكنْ شعيبٌ قطُّ على دينهم، وإنّما تناولَهَ الخطابُ تغليبًا للجَمْع على الواحد؛ لأنّ مَنْ تبعَه كانَ منهم. {قَالَ} شعيبٌ {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي: وإن كُنَّا كارهينَ فتجبرونا على الخروج عليه (¬1)؟ * * * {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}. [89] ثمّ استأنفَ قائلًا: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: ما أكذَبَنا على الله. {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} ثمّ قال مشيرًا إلى أن لا حكمَ له: {وَمَا يَكُونُ} وما يَصِحُّ {لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} خِذْلاننا فنعود، وفيه دليلٌ على أن (¬2) الكفرَ بمشيئته. {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أحاطَ علمهُ بكلِّ شيءٍ. {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فيما تُوعِدوننا به، ثمّ دعا شعيبٌ بعدما ما أَيِسَ من صلاحِهم فقال: ¬

_ (¬1) "على الخروج عليه" زيادة من "ن". (¬2) "أن" ساقطة من "ن".

[90]

{رَبَّنَا افْتَحْ} اقض {بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} والفَتَّاحُ: القاضي {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} القاضِينَ. * * * {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)}. [90] {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} وتركتُمْ دينَكُم. {إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} مَغْبونونَ. * * * {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)}. [91] {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلةُ، وأهلَكَهم اللهُ بسحابةٍ أمطرَتْ عليهم نارًا يومَ الظُّلَةِ، وذلك أنّهم رَأَوا حَرًّا شديدًا، فدخَلُوا الأسرابَ، فوجدُوها أشدَّ حَرًّا، فخرجوا منها، فرأَوا سحابةً، فاستظلُّوا بها، فأمطرَتْ عليهم نارًا، فاحترقوا، وصاروا رمادًا. {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} سبقَ تفسيرُه في قصةِ صالحٍ. ولما نزلَ بهمُ العذابُ، نَجَّينا شعيبًا بمن آمنَ معه إلى الموضعِ المعروفِ بأيلةَ، ويأتي ذكرُه في السورةِ إن شاء الله تعالى. قال أبو عبد الله البجلي: كانَ أبو جادٍ، وهَوَّز، وحُطِّين، وكَلَمُنْ، وسَعْفص، وقُرِشَتْ، مُلوكَ مَدْيَنَ، وكان ملِكُهم في زمنِ شُعيبٍ يومَ الظُّلَّة كَلَمُن، فلما هلكَ قالتِ ابنتُه تبكيه: كَلَمُنَ قد هَدَّ رُكْنِي هُلْكُهُ وَسْطَ الْمَحِلَّهْ

[92]

سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ الْحَتْفُ نارًا تَحْتَ ظُلَّهْ جُعِلَتْ نَارًا عَلَيْهِمْ دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّهْ (¬1) * * * {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)}. [92] {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} مبتدأٌ، خبرُه {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا} يُقيموا {فِيهَا} والمغاني: المنازلُ، واحدُها مَغْنَى. {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} دينًا ودنيا، لا الذين اتَّبَعُوه كما زعمَ الكفارُ. * * * {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}. [93] {فَتَوَلَّى عَنْهُم} أعرضَ شعيبٌ من بينِ أظهُرِهم حينَ أتاهُمُ العذابُ. {وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} قالَه تأسُّفًا لشدةِ حزبه عليهم، ثمّ أنكرَ على نفسِه فقال: {فَكَيْفَ آسَى} أَحْزَنُ {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} بعدَ إنذاري لهم، ومبالغتي في نُصْحِهم، وقبرُ شعيبٍ بقريةِ حِطِّينَ من أعمالِ مدينةِ صَفَد، مسافتُها عن بيتِ المقدسِ نحوُ ثمانيةِ أيّام. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطّبريّ" (12/ 568)، و"تفسير البغوي" (2/ 130 - 131).

فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيْرِ القُرآنِ تَأليف الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ المولود سنة (860 هـ) - والمتوفى سنة (927 هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى المُجَلَّد الثالث اعتَنَى بِهِ تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا نُوْرُ الدِّيْن طَالب إصدَارات وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ دولة قطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح الرحمن

حُقُوق الطَّبع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطَبعَة الأولى، 1430 هـ - 2009 م قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 518/ 14 هَاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

تتمة سورة الأعراف

تَتِمَّة سُورَة الأعْرَاف {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)}. [94] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} فيه إضمارٌ، يعني: فكذبوه. {إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ} الفقرِ {وَالضَّرَّاءِ} المرضِ. {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} ليتذلَّلوا ويتوبوا. * * * {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)}. [95] {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ} الشدةِ {الْحَسَنَةَ} الرخاءَ. {حَتَّى عَفَوْا} كَثُروا عددًا وأموالًا (¬1)، فَطَغَوا. {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} أي: ليسَ ما أصابنا بالابتلاء، وإنّما هذا (¬2) دأبُ الدهرِ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بنزولِ العذابِ. ¬

_ (¬1) في "ن": "أموالًا وعددًا". (¬2) في "ش": "هو".

[96]

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}. [96] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} المكذِّبينَ. {وَاتَّقَوْا} المعاصيَ. {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (لَفَتَّحْنَا) بتشديد التاء، والباقون: بالتخفيف (¬1). {بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} لجاءَهم المطرُ والخصبُ، وعمَّهُم الخيرُ من كلِّ جهةٍ {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الكفر والمعاصي. * * * {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)}. [97] {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} المكذبونَ، وهم أهلُ مكةَ ومَنْ حولَها، الاستفهامُ للإنكارِ، والفاءُ للعطفِ نظيرُه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]. {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} عذابُنا {بَيَاتًا} ليلًا {وَهُمْ نَائِمُونَ}. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 286)، و"التيسير" للداني (ص: 102، 111)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 382).

[98]

{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}. [98] {أَوَأَمِنَ أَهْلُ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: (أَوْ أَمِنَ) بسكون الواو، جعلوها (أو) العاطفةَ تكونُ لأحدٍ الشيئين؛ كقولك: ضربتُ زيدًا أو عَمْرًا؛ وورشٌ يحذفُ الهمزةَ، ويلقي فتحتَها على الواو الساكنة، فتتصل فتحةُ الواو بكسرةِ الميم في اللّفظ، والباقون: بفتح الواو، وجعلوها واوَ العطف دخلَتْ عليها ألفُ الاستفهام (¬1)، نظيره: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ} [البقرة: 100]. {أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} أي: نهارًا، والضحى: صَدْرُ النهار وقتَ انبساطِ الشّمسِ. {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} لاهُونَ من فرطِ الغفلةِ. * * * {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}. [99] {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} استدراجَه إياهم بما أنعمَ عليهم في دنياهم. {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خَسِروا بالكفرِ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 286)، و"التيسير" للداني (ص: 111)، و"تفسير البغوي" (2/ 132)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (2/ 383).

[100]

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)}. [100] {أَوَلَمْ يَهْدِ} أي: يُبَيَّنْ. قرأ العامة: (يَهْدِ) بالياء، وقرأ زيدٌ عن يعقوبَ: بالنون على التعظيم. {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} أي: يسكنونها. {مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} الهالكينَ. {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} أهلَكْناهم كما أَصَبْنا مَنْ قبلَهم، واختلافُ القراء في الهمزتين من (نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ) كاختلافِهم فيها من (السُّفَهَاءُ أَلَا) في سورةِ البقرةِ. {بِذُنُوبِهِمْ} كمَنْ تقدَّمَهم {وَنَطْبَعُ} نختمُ. {عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} سماعَ تفهُّمٍ واعتبار. * * * {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)}. [101] {تِلْكَ الْقُرَى} المذكورةُ وأهلُها؛ يعني: قومَ نوحٍ وعادٍ وثمودَ، وقومَ لوطٍ وشعيبٍ. {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} أخبارِها؛ لما فيها من الاعتبارِ.

[102]

{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} المعجزاتِ. {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} عندَ مجيءِ الرُّسلِ بالبيناتِ. {بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلِ قيامِ المعجزاتِ، المعنى: لم تؤثرْ فيهم الموعظةُ، واستمروا على الكفرِ. {كَذَلِكَ} مثلَ ختمِنا على قلوبِ الكافرينَ قبلَكَ. {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} من قومِك فلا يؤمنونَ. * * * {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}. [102] {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ} أي: الناسِ. {مِنْ عَهْدٍ} أي: وفاءِ عهدٍ. {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ} أي: عَلِمْناهم. {لَفَاسِقِينَ} خارجينَ عن الطاعةِ، و (إنْ) للنفي، و (اللام) بمعنى إِلَّا، التقدير: وما وجَدْنا أكثرَهم إِلَّا فاسقينَ. * * * {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)}. [103] {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعدِ الأنبياءِ المتقدِّمِ ذكرُهم، وأممهم. {مُوسَى بِآيَاتِنَا} يعني: المعجزاتِ.

[104]

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا} أي: كفروا {بِهَا} والظلمُ: وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، فظلمُهم وضعُ الكفرِ موضعَ الإيمان. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وكيفَ فعلنا بهم. * * * {وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)}. [104] {وَقَالَ مُوسَى} لما دخلَ على فرعونَ: {يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فقال فرعونُ، كذبتَ. * * * {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)}. [105] فقال موسى {حَقِيقٌ} من الحقّ. {عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} قرأ نافعٌ: (عَلَيَّ) بتشديد الياءِ وفتحِها على أنّها ياءُ الإضافة، معناه: حقٌّ واجبٌ عليَّ، وقرأ الباقونَ: (عَلَى) على أنّها جرٌّ (¬1)، معناهُ: جديرٌ بألَّا أقولَ إِلَّا الحقَّ. {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} اليدِ والعصا. {فَأَرْسِلْ} أطلِقْ. {مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وخَلِّهِمْ حتّى يرجِعوا إلى الأرضِ المقدسةِ الّتي هي ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 287)، و"التيسير" للداني (ص: 111)، و"تفسير البغوي" (2/ 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 385).

[106]

وطنُ آبائِهم، وكانَ فرعونُ قد استعبدَهُم بعدَ موتِ يوسفَ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (مَعِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). * * * {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)}. [106] {قَالَ} فرعونُ {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} على دعواكَ. {فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في الدعوى، وكان بينَ دخولِ يوسفَ مصرَ ودخولِ موسى أربعُ مئةِ سنةٍ. * * * {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)}. [107] {فَأَلْقَى} موسى {عَصَاهُ} من يدِهِ. {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} هو ذَكَرُ الحياتِ، عظيمُ الجسمِ {مبِينٌ} ظاهرٌ أمرُهُ. قال ابنُ عباسٍ: "لما أَلْقَى العَصا، صارتْ حَيّةً عظيمةً صفراءَ شعراءَ فاغرةً فاها، ما بين لَحْيَيْها ثمانون ذراعًا، واضعةً لَحْيَها الأسفلَ في الأرضِ، والأعلى على سورِ القصر، ثمّ تنفَّسَتْ في البيوتِ والخزائنِ، فاشتعلتْ نارًا، وجعلتْ تهيجُ كالجملِ، ولها صوتٌ كالرَّعد، وحملتْ على الناسِ، فانهزموا وصاحوا، وماتَ منهم خمسةٌ وعشرونَ ألفًا، قتلَ بعضُهم بعضًا، وتوجَّهَت نحوَ فرعونَ لتأخذَهُ، فوثبَ من (¬2) سريرِه هاربًا، وأحدَثَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 301 - 302)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 386). (¬2) في "ن": "عن".

[108]

في ثيابِه، وأخذتِ الحيةُ أذياله (¬1) حتّى رمى نفسَه خلفَ السريرِ وصاحَ: يا موسى! أَنْشُدُكَ بالذي أرسلَكَ! خُذْها وأنا أؤمن بكَ، وأُرسلُ معكَ بني إسرائيل، فأخذها موسى، فعادت عصًا كما كانت" (¬2). * * * {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)}. [108] فلما نظرَ فرعونُ إلى ذلك، قال: يا موسى! لقد تعلمتَ سحرًا عظيمًا، هل عندَكَ غيرُ هذا؟ قالَ: نعم {وَنَزَعَ يَدَهُ} أدخلَها جيبَهُ ثمّ نزعَها. {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} لها شعاعٌ يغلبُ نورَ الشّمس، ثمّ أَدخلها جيبَهُ فصارَتْ كما كانت. * * * {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)}. [109] فّثّمَّ {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} بالسحر. * * * {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)}. [110] {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ} معشرَ القبطِ. {أَرْضِكُمْ} مصرَ. {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} تشيرون؟ هذا من قولِ فرعونَ، وما قبلَه من قولِ الملأ. ¬

_ (¬1) في "ن": "بأذياله". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 134).

[111]

{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)}. [111] {قَالُوا} يعني: الملأُ. {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} المعنى: اتركِ التعرُّضَ له بالقتلِ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وهشامٌ عنِ ابنِ عامرٍ: (أَرْجِئهُو) بالهمزِ وضمِّ الهاء ووصلِها بواو، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: بالهمزِ وبكسرِ الهاءِ، ولا يصلُها بياء، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: بالهمزِ والضمِّ من غيرِ صلة، والباقون: بغير همزٍ، ثمّ نافعٌ بروايةِ ورشٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ يُشبعونَ الهاءَ كَسْرًا، ويُسكنها عاصمٌ، وحمزةُ، ويختلِسُها أبو جعفرٍ، وقالونُ (¬1)، وكذلك اختلافُهم في حرفِ الشعراءِ. {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ} هي مدائنُ بالصعيدِ من نواحي مصرَ. {حَاشِرِينَ} جامعينَ. ... {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)}. [112] {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (سَحَّارٍ) على وزنِ فَعّال مبالغةً، وأمال فتحةَ الحاءِ الدوريُّ عن الكسائيِّ، والسحارُ: هو العالِمُ المعلمُ السحر. وقرأ الباقون: (سَاحِر) على وزنِ فاعِل (¬2)، والساحرُ: من يعلمُ ولا يعلِّمُهُ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 287 - 288)، و"التيسير" للداني (ص: 111)، و"تفسير البغوي" (2/ 135)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 226 - 227)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 227 - 288)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 386 - 387). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 289)، و"التيسير" للداني (ص: 112)، =

[113]

{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)}. [113] {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} بعدما أرسلَ الشُّرَطَ في طلبِهم، قيلَ: كانوا ثمانينَ ألفًا، متقدَّمُهم شمعونُ، وقيلَ غيرُ ذلك، فلما اجتمعوا. {قَالُوا} لفرعونَ {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} أي: جُعْلًا. {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} لموسى. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ وحفصٌ: (إِنَّ لَنَا) بهمزة واحدة على الخبر، أخبروا أَنهم يستحقُّون على غَلَبِهم موسى جُعْلًا، والباقون: بهمزتين على الاستفهام (¬1)؛ أي: أَتجعلُ لنا جُعلًا؟ وهم على أُصولهم تسهيلًا وتحقيقًا وفصلًا كما تقدَّمَ في سورةِ الأنعامِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام: 19]. * * * {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)}. [114] {قَالَ} فرعونُ: {نَعَمْ} لكم عليَّ جعلٌ. {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} في المنزلةِ عندي. * * * ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 135)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 227)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 228)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 387). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 286 - 289)، و"التيسير" للداني (ص: 32، 111 - 112)، و"تفسير البغوي" (2/ 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 388).

[115]

{قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)}. [115] فعندَ اجتماعِهم بالإسكندريةِ {قَالُوا} تأدُّبًا. {يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} عصاكَ {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} آلاتِنا. * * * {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}. [116] {قَالَ} موسى: بل {أَلْقَوْا} أنتم. {فَلَمَّا أَلْقَوْا} آلاتِهم. {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} صَرَفوها عن إدراكِ حقيقةِ سحرِهم بما فعلوهُ من التَّمْويهِ والتَّخْييلِ. {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أخافوهم لما رَأَوا منَ الحيَّاتِ أمثال الجبالِ يركبُ بعضُها بعضًا، وكانتِ الأرضُ الملقى فيها مِيلًا في مِيل. {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} في فَنِّه. * * * {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)}. [117] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فألقاها، فصارت حيةً سدَّتِ الأفقَ، وفتحتْ فمهَا ثمانينَ ذراعًا. {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تبتلعُ.

[118]

{مَا يَأْفِكُونَ} يَكْذِبون، فابتلعَتْ جميعَ ما أَلْقَوا، وقصدتِ القومَ، فهلكَ في الزحام منهم خمسةٌ وعشرونَ ألفًا، فأخذها موسى، فعادت عصًى. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (تَلْقَفُ) بإسكانِ اللام وتخفيفِ القاف، والباقون: بفتح اللام وتشديد القاف، والبزيُّ يشدِّدُ التاءَ وصلًا على إدغامٍ في التاء من تتلقف (¬1). * * * {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)}. [118] {فَوَقَعَ} أي: ظهرَ {الْحَقُّ} أنّه مع موسى. {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من السحر، وقالوا: لو كان موسى ساحرًا، لبقيتْ عِصيُّنا. * * * {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)}. [119] فعلموا أن ذلكَ من أمرِ الله {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} ذليلين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 290)، و"التيسير" للداني (ص: 83، 112)، و"تفسير البغوي" (2/ 137)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 228)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 389 - 390).

[120]

{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)}. [120] {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} خَرُّوا سُجَّدًا لله تعالى متطارحين. قرأ أبو عمرٍو: (السَّحَرةَ ساجِدِينَ) بإدغام التاء في السين. * * * {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)}. [121] {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. * * * {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}. [122] فقال فرعون: إياي تعنون؟ فقالوا: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}. * * * {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}. [123] {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ} أي: بالله. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (آمنتم) بهمزةٍ واحدةٍ على الخبر، وقرأ قنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَآمَنْتُمْ بِهِ) يُبدل في حال الوصلِ من همزةِ الاستفهامِ واوًا مفتوحةً، ويمدُّ بعدَها مدة في تقديرِ أَلِفين، والباقون: بهمزتين على الاستفهامِ، فحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وخلفٌ، وروحٌ عن يعقوبَ: يقرؤون بتحقيقِ الهمزتينِ على الأصلِ، والباقونَ بتحقيقِ الأولى وتسهيلِ الثّانية (¬1)، ولم يُدْخِلْ أحدٌ ألفًا بينَ الهمزةِ المحقَّقةِ والمسهَّلة في ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 290)، و"التيسير" للداني (ص: 112)، =

[124]

هذا المحلِّ كما أدخلَها مَنْ أدخلَها منهم في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) وبابِهِ؛ لكراهيةِ اجتماعِ ثلاثِ أَلِفاتٍ بعدَ الهمزةِ، ومعنىَ الكُلِّ إنكارٌ؛ أي: أَصَدَّقْتُم بموسى، وآمنتم بربِّهِ. {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي: من غيرِ أَمْري إياكم. {إِنَّ هَذَا} الّذي صنعتُم أنتمْ وموسى. {لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ} لَحِيَلةٌ احْتَلْتُموها. {فِي الْمَدِينَةِ} في مصرَ قبل أن تخرُجوا إلى هذا الموضعِ. {لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} القبطَ، وتخلصُ لكم ولبني إسرائيلَ. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ ما فعلتم. * * * {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}. [124] وهو تهديدٌ مجملٌ تفصيلُه: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} من كلِّ شِقٍّ طَرَفًا، وهو أولُ مَنْ قطعَ من خلافٍ وصَلَبَ. {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} على شاطئ نهرِ مصرِ؛ تفضيحًا لكم، وتنكيلًا لأمثالِكم. * * * {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)}. [125] وكان موسى قد قالَ للسحرةِ لكبيرهم: أتؤمنُ بي إِنْ غلبتُك؟ ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 390 - 391).

[126]

فقال: لآتينَّ بسحرٍ لا يغلبُه سحرٌ، وإن غَلَبتني لأومننَّ بكَ، وفرعونُ يسمعُ، فلذلك قالَ ما قال. {قَالُوا} يعني: السحرةُ لفرعونَ: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} راجعونَ إلى الآخرة، فيرحَمُنا ويُثيبنا، فلا نُبالي بعذابِك. * * * {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}. [126] ثمّ قالوا توبيخًا: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} أي: تكرَهُ مِنَّا. {إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} وهو خيرُ الأعمالِ، ثمّ فزعوا إلى اللهِ فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي: ارزقْنا صبرًا كثيرًا يفيضُ علينا عندَ القطعِ والصَّلْبِ. {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ثابِتينَ على الإسلامِ، فقطعَ أيديَهم وأرجُلَهم، وصَلَبهم، وقيل: إنّه لم يقدرْ عليهم، لقوله تعالى: {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35]، ورُوي أنّه آمنَ بموسى عندَ إيمانِ السحرةِ سِتُّ مئةِ ألفٍ. * * *

[127]

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)}. [127] و {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} لهُ: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بتغييرِ الناسِ عليكَ، ودعوتِهم إلى مخالفتِكَ. {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} مَعْبوداتِك، فلا يعبدُكَ ولا يعبدُكَ، لأنّه كانَ قد أمرَ قومَه بعبادةِ الأصنامِ، فقالَ؛ هذه آلهتُكم، وأنا رَبُّها وربُّكم، ولذلكَ قالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، وقيل: كان له بقرةٌ يعبدُها، فلذلك أخرجَ لهم السامريُّ عِجْلًا، وقيل: كانَ يعبدُ الكواكبَ، وقيل: الشمسَ. المعنى: أيكونُ منكَ تركُ موسى، ويكونُ تركُهُ إياكَ فلا يلتفِتُ إليكَ؟! {قَالَ} فرعونُ: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (سَنَقْتُلُ) بفتحِ النونِ وإسكانِ القافِ وضمِّ التاءِ من غيرِ تشديدٍ، من القتلِ، وقرأ الباقون: بضمِّ النونِ وفتحِ القافِ وكسرِ التاءِ وتشديدِها، من التقتيلِ، على التكثيرِ (¬1). {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} نتركُهم أحياءً كفعلِنا بهم قبلُ، وتقدَّمَ ذكرُ قِصتهم في القتلِ في سورةِ البقرةِ. {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} غالِبونَ، وهم مقهورونَ تحتَ أيدينا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 292)، و"التيسير" للداني (ص: 112)، و"تفسير البغوي" (2/ 138)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 393).

[128]

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)}. [128] فأعادَ فرعونُ عليهمُ القتلَ، فشكَتْ بنو إسرائيل ذلكَ، فَثَمَّ: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} أرضَ مصرَ. {يُورِثُهَا} يُعطيها {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وعدٌ لهم بالنصرِ. * * * {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}. [129] {قَالُوا} يعني: قومَ موسى. {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} بالرسالةِ بقتلِ الأبناءِ. {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإعادةِ القتلِ علينا. {قَالَ} لهم موسى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعونَ. {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: يُسْكِنَكم أرضَ مصرَ. {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} من طاعةٍ وعصيانٍ، فيجازيكم، فحقَّقَ اللهُ ذلكَ، وأغرقَ فرعونَ، واستخلَفَهم فيها، فعبدوا العجلَ. * * *

[130]

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)}. [130] {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} أي: سِني القحطِ لأهلِ البوادي. {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} لأهلِ الأمصارِ. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يَتَّعِظون فيؤمنون؛ لأنّ البلاءَ يرقِّقُ القلوبَ، ويرغِّبُ في الآخرَة، رُوي أن فرعونَ عاشَ أكثرَ من ستِّ مئةِ سنةٍ، وملكَ أربعَ مئةِ سنةٍ لا يَرى مكروهًا فيها، ولو رآه، لما ادَّعى الربوبيةَ. * * * {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)}. [131] {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} الخصبُ والسَّعَةُ. {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي: نحنُ مستحقُّوها، ولم يشكروا اللهَ. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قحطٌ وغلاءٌ. {يَطَّيَّرُوا} يتشاءموا. {بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} من المؤمنين. {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ} أي: ما يصيبُهم من خيرٍ وشرٍّ. {عِنْدَ اللَّهِ} أي: من قِبَلِ اللهِ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون} ذلكَ. * * *

[132]

{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)}. [132] {وَقَالُوا} هو يعني: القبطَ لموسى {مَهْمَا} أصلهُ: (ما) الشرطية أضيفتْ إليها (ما) المزيدة للتأكيد (¬1)، فصارت ماما، ثمّ قلبتْ ألفُها استثقالًا للتكثير. {تَأْتِنَا بِهِ} أي: أيُّما شيءٍ تُحضِرُنا تأتنا به. {مِنْ آيَةٍ} بيانٌ لـ: "مهما"، وسموها آيةً استهزاءً لموسى. {لِتَسْحَرَنَا بِهَا} لتنقلَنا عمَّا نحن عليه. {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: لا نخدِعُ لك بدليلٍ ما، ولا نصدِّقُك. قرأ أبو عمرٍو: (نَحْن لكَ) وشبهَه حيثُ وقعَ بإدغامِ النونِ في اللام (¬2). * * * {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)}. [133] {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} وهو السيلُ الشديدُ، ودخلَ بيوتَهم حتّى بلغَ تَراقِيَهم، فمن جلسَ منهم غرقَ، ودامَ سبعةَ أيامٍ من السبتِ إلى السبتِ، ولم يدخلْ بيتَ إسرائيليٍّ معَ اشتباكِها ببيوتهم، فقالوا لموسى: ادعُ رَبَّكَ يكشفْ عَنَّا، ونحن نؤمنُ بكَ، ونرسلُ معكَ بني إسرائيل، فدعا، فَرُفِعَ، فأخصبتْ بلادُهم، فلم يؤمنوا. ¬

_ (¬1) "للتأكيد" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "الإتقان" للسيوطي في النوع "الحادي والثلاثون".

{وَالْجَرَادَ} المعروفَ، بُعِثَ عليهم بعدَ الطوفان، فأكلَ جميعَ نباتِهم وثيابِهم، وسقوفَ بيوتهم وأبوابَها، ولم يضرَّ بإسرائيليٍّ، فقالوا له: اكشفْ عنا نؤمنْ، فأشار بعصاهُ شرقًا وغربًا، فذهبَ الجرادُ من حيثُ جاء، وفي الخبر: مكتوبٌ على صدرِ كُلِّ جرادةٍ: جُنْدُ اللهِ الأعظمُ، فلم يؤمنوا. {وَالْقُمَّلَ} بُعِثَ عليهم بعدَ الجراد، قيل: هو جرادٌ بلا أجنحةٍ، وقيل: هو القَمْلُ المعروف، وقيل: هو السوسُ يخرجُ من الحنطة، فأكلَ ما تركَ الجرادُ وأشعارَهم وأبشارَهم، وآلَمَهُمْ قرصًا، وخبثَ عليهم أطعمتَهم لوقوعها فيها وفي أفواهِهم، ولم يضرَّ بإسرائيليٍّ، فاستغاثوا بموسى، فدعا، فَرُفِعَ عنهم، فلم يؤمنوا. {وَالضَّفَادِعَ} بُعثتْ عليهم بعدَ القمل، فملأَتْ بيوتَهم وأطعمتَهم، وخَبَّثَتْها عليهم، ودخلَتْ أفواهَهُم، فاستغاثوا بموسى، فدعا، فَرُفِعَ عنهم، فلم يؤمنوا. {وَالْدَّمَ} بُعثَ عليهم بعدَ الضفادع، فصارت جميعُ مياهِهم دمًا أحمرَ عبيطًا، فكانَ فرعونُ يجمعُ بينَ القبطيِّ والإسرائيليِّ على الإِناء الواحد، فيكونُ ما يلي الإسرائيليَّ ماءً، وما يلي القبطيَّ دمًا، وتأخذُ المرأةُ الإسرائيليةُ الماءَ في فمِها فتلقيه في في القِبْطِيِّ فيصيرُ دمًا، وجعلَ (¬1) فرعونُ يمضغُ الشجارَ فيصيرُ ماؤها في فيه دمًا. {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} مبيناتٍ، حالٌ من هذهِ المذكوراتِ، وتفصيلُها أَن كانَ كلُّ عذابٍ أُسبوعًا، وبينَ كلِّ عذابينِ شهرٌ، رُوي أن موسى بقيَ بعدَما ¬

_ (¬1) في "ن": "وصار".

[134]

غلبَ السحرةَ عشرينَ سنةً يُريهم الآيات. {فَاسْتَكْبَرُوا} عن الآيات {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}. * * * {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)}. [134] {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} العذابُ المفضَّلُ، وبعدَهُ طاعونٌ أَنزله اللهُ بهم، ماتَ منهم في ليلةٍ سبعون ألفَ قبطيٍّ. {قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي: بعهدِهِ، وهو النبوةُ {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} وهو الطاعونُ {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}. قال - صلى الله عليه وسلم -: "الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" (¬1). * * * {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)}. ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (3286)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (2218)، كتاب: السّلام، باب: الطّاعون والطيرة والكهانة وغيرها، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-.

[135]

[135] {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} وهو وقتُ غَرَقِهِم. {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} ينقُضون العهدَ. * * * {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)}. [136] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} البحرِ {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: بسببِ تكذيبِهم بها {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي: عن النِّقْمَةِ قبلَ حُلولِها غافلينَ. * * * {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)}. [137] {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} بالاستعبادِ وذبحِ الأبناءِ، وهم بنو إسرائيلَ {مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} والأرضُ: الشامُ ومصرُ، ومشارقُها ومغاربُها: جهاتُ الشرقِ والغربِ بها، ملكَها بنو إسرائيلَ بعدَ الفراعنةِ والعمالقةِ. {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالماءِ والأشجارِ والثمارِ.

[138]

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} عِدَاتُه (¬1) الجميلةُ. و (كلمت) وقفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، أبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ. {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} بنصرِهِ إياهم {بِمَا صَبَرُوا} على الشدائِد. {وَدَمَّرْنَا} أهلَكْنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} في أرضِ مصرَ من العماراتِ. {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} من البساتين. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يَعْرُشُونَ) بضمِّ الراء، والباقون: بكسرها (¬2). * * * {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)}. [138] {وَجَاوَزْنَا} عَبَرْنا {بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} وكانَ ذلكَ يومَ عاشوراء. {فَأَتَوْا} فمروا {عَلَى قَوْمٍ} من لخم. {يَعْكُفُونَ} يُقيمون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بكسر الكاف، والباقون: بضمها (¬3). {عَلَى} عبادةِ {أَصْنَامٍ لَهُمْ} كانتْ على صورةِ البقرِ يعبدونها. ¬

_ (¬1) في "ش": "عدته". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 292)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (2/ 144)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 396 - 397). (¬3) المصادر السابقة.

[139]

{قَالُوا} يعني: بني إسرائيل لما رأوا ذلك. {يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} صنمًا نُعَظِّمُه {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} يعبدونها. {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} المعبود. * * * {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)}. [139] {إِنَّ هَؤُلَاءِ} أي: عبدةَ الأصنامِ. {مُتَبَّرٌ} مُهْلَكٌ {مَا هُمْ فِيهِ} من الشركِ. {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: شركُهم يزولُ، ويَهْلِكون إن لم يؤمنوا. * * * {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)}. [140] ثمّ {قَالَ} موبِّخًا: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} أطلبُ لكم إلهًا معبودًا. {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} في زمانكم. * * * {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}. [141] {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ} قرأ ابنُ عامرٍ: (أَنْجَاكُمْ)، وكذلكَ هو في مُصحفِ أهلِ الشامِ، والباقون: بياء ونون وألف بعدها، وكذلك هو في

[142]

مصاحِفهم (¬1)، المعنى: واذكروا إنقاذنَا لكم. {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ} يذيقونكم {سُوءَ الْعَذَابِ} أشدَّه وأسوأَه. {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ} قرأ نافع: (يَقْتُلُونَ) خفيفةً من القَتْل، والباقون: بالتشديدِ على التكثيرِ من التَّقتيل (¬2) {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} سبقَ تفسيرُه. {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} وفي الإنجاءِ والعذابِ محنةٌ عظيمةٌ. * * * {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)}. [142] {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (وَعَدْنَا) بقصرِ الألفِ من الوعدِ، والباقون: (وَاعَدْنَا) بالمدِّ من المواعدة (¬3). {ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ذا القعدةِ {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} من ذي الحجةِ {فَتَمَّ ¬

_ (¬1) في "ن": "مصحفهم". وانظر: "التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (1/ 145)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 271)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 397). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 291)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (2/ 145)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 398). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 212 و 271)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 230)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 398).

مِيقَاتُ رَبِّهِ} أي: الوقتُ الّذي وعدَه أن يخاطِبَه بَعْدَهُ. {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} تمييزٌ، وأربعين حالٌ؛ أي: بالغًا هذا العدد. {وَقَالَ مُوسَى} عندَ انطلاقِه إلى الجبلِ للمناجاةِ. {لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي} خليفتي. {فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} أي: ومُرْهُمْ بالإصلاحِ. {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} لا تطعْ مَنْ عصى الله، وصَدَّهُمْ عن المعصيةِ، وذلك أن موسى وعدَ بني إسرائيلَ بمصرَ أن يأتيَهم بعدَ مهلكِ فرعونَ بكتابٍ من عندِ اللهِ فيه بيانُ ما يَأْتون ويَذَرون، فلما هلكَ، سألَ ربَّهُ الكتابَ، فأمره اللهُ أن يصوم ثلاثينَ يومًا، فلما تَمَّت، أنكرَ خُلُوفَ فَمِهِ، فاستاكَ بعودِ خَرُّوبٍ، فقالت له الملائكة: كنا نشمُّ من فيكَ رائحةَ المسكِ فأفسَدْتَهُ بالسِّواكِ، وأوحى الله إليه: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدِي أَطْيَبُ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ؟ " فَأُمِرَ بصيامِ عشرةِ أيامٍ من أولِ ذي الحجة، ثمّ أَنزلَ عليه التوراةَ في العشرِ، وكلَّمه فيها، فكانتْ فتنتُهم في العشرِ الّتي زادَها (¬1). * * * {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 146).

[143]

[143] {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} الوقتِ الّذي وعَدْناه أن نكلِّمَه فيه، تَطَهَّرَ وَطَهَّرَ ثيابَه {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من غير واسطةٍ كما يشاءُ، وجبريلُ عليه السّلام معه لم يسمعْ ما كلَّمه به، فلما سمعَ موسى كلامَ رَبِّهِ اشتاقَ إلى رؤيتِه، فَثَمَّ {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قرأ ابنُ كثيرِ، والسوسيُّ عن أبي عمرٍو، ويعقوبُ: (أَرْني) بإسكانِ الراء، والباقون: بالكسرِ (¬1)؛ أي: أرني نفسَك لأتمكَّنَ من رؤيتِكَ. {قَالَ} اللهُ: {لَنْ تَرَانِي} وليسَ لبشرٍ أن يطيقَ النظرَ إليَّ في الدنيا، وسؤالُ الرؤيةِ دليلٌ على أن رؤيتَهُ تعالى جائزةٌ في الجملةِ؛ لأنّ طلبَ المستحيلِ من الأنبياءِ محالٌ، خُصوصًا ما يقتضي الجهلَ بالله، ولذلك ردَّهُ بقولِه: {لَنْ تَرَانِي} دونَ لَنْ أُرى، ولَنْ أُرِيَك، ولن تنظرَ إليَّ، وتعلّقَتْ نُفاةُ الرؤيةِ بظاهرِ هذهِ الآيةِ وقالوا: قال الله تعالى: {لَنْ تَرَانِي}، و (لن) تكونُ للتأبيد، قال البغويُّ: ولا حجَّةَ لهم فيه، ومعنى الآية: لن تراني في الدنيا، أو في الحال، و (لن) لا تكونُ للتأبيد؛ كقوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] إخبارًا عن اليهودِ، ثمّ أَخبَرَ عنهم أنّهم يتمَنَّونَ الموتَ في الآخرَة، ويقولونَ: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، {يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة: 27]، وقد وردتِ السنَّةُ بالحديثِ المتواترِ أَنَّ أهلَ الإيمانِ يرونَ الله يومَ القيامةِ، وقيل: إنَّ طلبَ الرؤية لأجلِ الذينَ كانوا معه، الذين قالوا: أَرِنا اللهَ جَهْرَةً، وردَّ البيضاويُّ هذا القولَ، وجعلَهُ خطأً، وتقدَّمَ كلامُ الأئمةِ الأربعةِ على رؤيتِه سبحانَه في الآخرةِ في سورةِ الأنعام. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 229)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 230)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 399).

{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} وهو أعظمُ جبلٍ بمدْيَنَ يقالُ له: زبير؛ أي: لكنْ سأتجلَّى على الجبلِ الّذي هو أقوى منكَ وأشدُّ. {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} لم يتزلزلْ. {فَسَوْفَ تَرَانِي} أي: سوف تثبتُ رؤيتي وتُطيقُها، وقد علمَ تعالى أن الجبلَ لا يثبتُ عندَ التجلِّي، فلذلكَ علَّقَ الرؤيةَ على ثبُوته. {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ} أي: ظهرَ نورُ ربِّه. {لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} أي: مستويًا بالأرضِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (دَكَّاءَ) بالمدِّ والهمزِ مفتوحًا؛ أي: كأرضٍ دَكَّاءَ، وقرأ الباقون: بالتنوينِ من غيرِ مَدٍّ ولا همزٍ، مصدرُ دَكَّه (¬1)، ومعناه التفسيرُ الأولُ. {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} مَغْشِيًّا عليه لهولِ ما رأى، رُوي أنّه خرَّ صَعِقًا يومَ الخميسِ يومَ عرفةَ، وأُعْطِيَ التوراةَ يومَ الجمعة يومَ النَّحر. {فَلَمَّا أَفَاقَ} من غشوتِهِ {قَالَ سُبْحَانَكَ} تنزيهًا لكَ عن الإدراكِ. {تُبْتُ إِلَيْكَ} عن سؤالِ الرؤيةِ {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} من بني إسرائيل، وقيل: أولُ المؤمنينَ بأنك لا تُرى في الدنيا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (وَأَنا أَوَّلُ) بالمدِّ، والباقون: بغير مد (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 293)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (2/ 148)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 400). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 82)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 230)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 400).

[144]

{قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}. [144] {قَالَ} اللهُ {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} اخترتُكَ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (إِنِّيَ) بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {عَلَى النَّاسِ} في زمانِكَ. {بِرِسَالَاتِي} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وروحٌ عن يعقوبَ: (بِرِسَالَتِي) على التّوحيد، والباقون: على الجمع (¬2)، وإن كانَ هارونُ شريكَه في الرسالة، فهو تابعٌ له {وَبِكَلَامِي} وبتكليمي. {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} أعطيتُكَ من الرسالة. {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} للهِ على نعمِه. رُويَ أنَّ موسى -عليه السّلام- مكثَ بعدَ أن كلَّمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- أربعينَ ليلةً لا يراهُ أحدٌ إِلَّا ماتَ من نورِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. * * * {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 293)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"تفسير البغوي" (2/ 149)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 401). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 293)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (2/ 149)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 401).

[145]

[145] {وَكَتَبْنَا لَهُ} أي: لموسى. {فِي الْأَلْوَاحِ} جمعُ لَوْح، سُمِّي بهِ لأنّه يلوحُ فيه ما يُكْتَبُ، والمرادُ: ألواحُ التوراةِ، وفي الحديثِ: "كَانَتْ مِنْ سِدْرِ الجنَّةِ، طولُ اللَّوْحِ اثنا عَشَرَ ذِرَاعًا" (¬1)، وقيلَ: كَانَتْ من زُمُرُّدٍ، وقيلَ: من ياقوتةٍ حمراءَ، وقيل: من زَبَرْجَدٍ، وقيلَ: من صخْرَةٍ صماء (¬2) لَيَّنَها اللهُ لموسى، فقطعَها بيدِه، ثمّ شقَّها بأصابعِه فأطاعَتْه كالحديدِ لداودَ، وكانت عشرةً، وقيل: سبعةً، وقيل: وقْرَ سبعينَ بعيرًا، كلُّ لوحِ كطولِ موسى، وإضافةُ الكتابةِ إلى نفسِه على جهةِ التشريفِ؛ إذْ هيَ مكتوبةٌ بأمرِهِ، كتبها جبريلُ بالقلمِ الّذي كتبَ به الذِّكْر، واستمدَّ من نهرِ النورِ، وسمعَ موسى صريرَ القلمِ بالكلماتِ العشرِ. {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ممّا أُمروا به، ونُهوا عنه، وعن مقاتل: كتب في الألواحِ: إِنِّي أَنَا اللهُ الرّحمنُ الرحيمُ، لا تُشْركوا بي شيئًا، ولا تَقْطَعوا السبيلِ، ولا تَحْلِفوا باسمي كاذبًا؛ فإنَّ من حلفَ باسمي كاذبًا، فلا أُزكيه، ولا تَقتلوا، ولا تَزْنوا، ولا تَعقُّوا الوالدينِ. {مَوْعِظَةً} تذكيرًا وتحذيرًا بما يُخافُ عاقبتُه. {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} تبيينًا لكلِّ ما يحتاجون في دينهم إليه. {فَخُذْهَا} أي: الألواحَ {بِقُوَّةٍ} بجدٍّ واجتهادٍ. {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} بالأحسنِ منها، وهو الجمعُ بينَ فضائِلها وفرائِضها. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1563). (¬2) "صماء" ساقطة من "ش".

[146]

{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} دارَ فرعونَ وقومِه بمصرَ خاويةً على عروشِها. * * * {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)}. [146] {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} عن تَدَبُّرِها (¬1) وفَهْمِها. {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} على الناسِ. {فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} بأن أَخْذُلَهم وأُعميَ بصائرَهم. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ: (آيَاتِي الَّذِينَ) بإسكانِ الياء، والباقون: بالفتح (¬2). {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} دالَّةٍ على التوحيدِ {لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} لعنادِهم. {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الرَّشَدِ) بفتح الراء والشين، والباقون: بضم الراء وسكون الشين، وهما لغتان (¬3)؛ كالبُخْل والبَخَل، ومعناه: الفلاحُ. ¬

_ (¬1) في "ن": "تدبيرها". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 301)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 275)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 402). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 293)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (2/ 152 - 153)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 452).

[147]

{لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} لأنفسِهم؛ لاستيلاءِ الشيطنةِ عليهم. {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ} أي: طريقَ الضلال. {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} فهم ضالُّون. {ذَلِكَ} أي: الصرفُ. {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} ساهِين. * * * {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)}. [147] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ} الدَّارِ {الْآخِرَةِ} الّتي هي موعدُ الثوابِ والعقابِ {حَبِطَتْ} بَطَلَتْ {أَعْمَالُهُمْ} وصارَتْ كأنْ لم تكنْ. {هَلْ يُجْزَوْنَ} أي: لا يجزون في الآخرة. {إِلَّا} جزاءَ {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا. * * * {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)}. [148] {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعدِ ذهابِه إلى المناجاة. {مِنْ حُلِيِّهِمْ} الّتي استعاروها من القِبْطِ بسببِ عرسٍ كانَ لهم، ونُسِبَ الاتخاذُ إليهم، وإن اتخذَهُ السامريُّ وحدَه؛ لأنّهم رَضُوا بفعلِه، واتخذوا العجلَ معبودًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (حِلِيِّهِمْ) بكسر الحاء، ويعقوبُ: بفتح الحاءِ وإسكانِ اللام وتخفيفِ الياءِ على الإفراد، والباقون: بضمِّ

[149]

الحاء، جمع حَلْي، وكلُّهم كسرَ (¬1) اللامَ وشدَّدَ (¬2) الياءَ مكسورةً سوى يعقوبَ (¬3)؛ أي: اتخذَ السامريُّ منها. {عِجْلًا} مفعولُ (اتخذَ). {جَسَدًا} ذا لحمٍ ودمٍ. {لَهُ خُوَارٌ} صوتُ البقرِ، رُوي أنَّ السامريَّ لما صاغَ العجلَ ألقى في فمِه من ترابِ أثرِ فرسِ جبريلَ، فصار حَيًّا، وقيل: الصوتُ من دخولِ الريحِ فيه، ثمّ عجبَ من عقولهم السخيفةِ فقال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} تقريعًا على فرطِ ضلالَتِهم، ثمّ قال تعالى: {اتَّخَذُوهُ} تكريرٌ للذمِّ، أي: اتخذوه إلهًا. {وَكَانُوا ظَالِمِين} بذلكَ. * * * {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)}. [149] {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي: ندموا على عبادةِ العجل، يقال لكلِّ من ندمَ: (سُقِطَ في يدِهِ)؛ فإن النادمَ المتحسِّرَ يَعَضُّ يدَه غمًّا، فتصيرُ يدُه مسقوطًا فيها. ¬

_ (¬1) في "ن": "كسروا". (¬2) في "ن": "وشددوا". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 295)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (2/ 153)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 230)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 403).

[150]

{وَرَأَوْا} عَلِموا {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا}} بعبادةِ العجلِ. {قَالُوا} تائبينَ: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تَرْحَمْنَا) (وَتغفِرْ لَنَا) بالتاءِ فيهما على الخطاب (رَبَّنَا) بنصبِ الباء على النِّداء، وقرأ الباقون: بالغيب فيهما، ورفعِ الباء فاعلًا (¬1). * * * {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)}. [150] {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} شديدَ الغضبِ، وقيلَ: حزينًا. {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} قُمتم مَقامي؛ أي: بئسما عملْتُم. {مِنْ بَعْدِي} أي: بعدَ ذهابي. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (بَعْدِي) بإسكانِ الياء، والباقونَ: بفتحها (¬2). {أَعَجِلْتُمْ} أَستَبقتم بعبادةِ العجلِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 295)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (2/ 154)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 404). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 301 - 302)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 275)، و (معجم القراءات القرآنية" (2/ 405).

{أَمْرَ رَبِّكُمْ} وهو انتظارُ موسى ليأتِيَهم بالتوراة بعدَ أربعينَ ليلةً، وأصلُ العجلةِ: طلبُ الشيءِ قبلَ حينه. {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} الّتي فيها التوراةُ غَضَبًا لدينِه، وكان حاملًا لها، فتكَسَّرَتْ، فرفعَ ستةَ أسباعِ التوراةِ، وبقي سُبْعُها، وهو ما فيه الموعظةُ والأحكامُ، ورفعَ ما كانَ من أخبارِ الغيبِ. {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي: بشعرِ رأسِه ولحيتِه {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} غَضبًا عليه؛ كيفَ مَكَّنَهم من عبادةِ العجلِ، وكانَ هارونُ أكبرَ من موسى بثلاثِ سنينَ، وأحبَّ إلى بني إسرائيل؛ لرقَّتِه لهم. {قَالَ} هارونُ عندَ ذلكَ: {ابْنَ أُمَّ} قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصم: (ابْنَ أُمِّ) بكسرِ الميم؛ أي: يا بن أمي، فحذفت الياء بالإضافة، وبقيتِ الكسرة لتدلَّ على الإضافة؛ كقوله: (يَا عِبَادِ)، وقرأ الباقون: بالفتح؛ أي: يا بنَ أماهُ (¬1)، وذَكَرَ الأُمَّ ليرقِّقَهُ عليه، وكانا من أبٍ وأمٍّ. {إِنَّ الْقَوْمَ} يعني: عبدةَ العجل. {اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا} هَمُّوا أن. {يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ} تُفرِحْ {بِيَ الْأَعْدَاءَ} بإهانتِكَ إيايَ. {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} بعبادةِ العجلِ؛ أي: قرينًا لهم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 295)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و "تفسير البغوي" (2/ 154)، و"الأمالي" لابن الشجري (2/ 75)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 406).

[151]

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}. [151] فلما اتَّضَحَ عذرُ أخيه {قَالَ} موسى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} ما صنعْتُ بأخي. {وَلِأَخِي} إنْ كانَ منهُ تقصيرٌ؛ ليرضيَ أَخاه، ويسيءَ الشامتين. {وَأَدْخِلْنَا} جميعًا. {فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أرحمُ بنا منا (¬1) على أنفسِنا. * * * {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}. [152] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} مخاطبةٌ من الله سبحانه لموسى عليه السّلام؟ لقولِه تعالى: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} هو أمرُهم بقتلِ أنفسِهم توبةً. {وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} خروجُهم من ديارهم؛ لأنّ في الغربة ذلةً. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} على الله، قال أبو قلابة: هو واللهِ جزاءُ كلِّ مُفْتَرٍ إلى يومِ القيامة أَنْ يُذِلَّهُ الله. * * * ¬

_ (¬1) "منا" زيادة من "ت".

[153]

{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}. [153] {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} من معصيةٍ وكفرٍ. {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} أي: السيئاتِ. {لَغَفُورٌ} لجميعِ الذنوب. {رَحِيمٌ} لمن تابَ. * * * {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}. [154] {وَلَمَّا سَكَتَ} أي: سكنَ وزالَ. {عن مُوسَى الْغَضَبُ} باعتذارِ هارونَ. {أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} بعدَ إلقائِها. {وَفِي نُسْخَتِهَا} أي: ما نُسخَ فيها؛ أي: كُتب. {هُدًى} من الضلالِ. {وَرَحْمَةٌ} من العذابِ. {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} يخافونَ من ربهم. ***

[155]

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}. [155] {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي: من قومِه، فَحُذِفَ الجارُّ، فتعدَّى الفعلُ فنصبَ (قَوْمَهُ). {سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} للوقتِ الّذي واعدناه أن يأتينا فيه بسبعين رجلًا من خيارِ قومِه يعتذرونَ إلينا من عبادةِ العجلِ، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء، فسمعوا أمرَ الله ونهيَه، فقالوا: أَرِنا اللهَ جهرةً، فزجرَهم موسى فلم ينزجِروا، فأخذتهم الرجفةُ؛ أي: الصاعقةُ، فماتوا يومًا وليلة، وتقدَّم ذكرُ القصةِ في سورة البقرة، وقال وهبٌ: لم تكنِ الرجفةُ موتًا، ولكن لما رأوا تلكَ الهيبةَ العظيمةَ، أخذتهم الرِّعْدَةُ، ورجفوا حتّى كادت تبينُ مفاصلُهم. {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} رحمَهم موسى. {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ} عن عبادةِ العجلِ. {وَإِيَّايَ} بقتلِ القبطيِّ. {أَتُهْلِكُنَا} أتعمُّنا بالهلاك. {بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} استفهامُ استعطافٍ، ومعناهُ نفي؛ أي: ما تعذِّبنا بذنبِ غيرِنا. {إِنْ هِيَ} أي: الفتنة.

[156]

{إِلَّا فِتْنَتُكَ} محنتُك واختبارُك حينَ أَسْمعتَهم كلامَك حتّى طَمِعُوا في الرؤية. {تُضِلُّ بِهَا} أي: بالامتحانِ. {مَنْ تَشَاءُ} ضلالَهُ. {وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} هُداهُ. {أَنْتَ وَلِيُّنَا} القائمُ بأمرنا، وتقدَّمَ التنبيهُ على اختلافِ القراءِ في حكمِ الهمزتينِ من كلمتينِ عندَ قوله تعالى: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100]، وكذلك اختلافُهم في (مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ). {فَاغْفِرْ لَنَا} واغفرْ معناهُ: استر ما قارَفْناه. {وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} تغفرُ السيئةَ، وتبدلها بالحسنة، وقيل: إنَّ السبعينَ الذين قالوا: لن نؤمنَ لكَ حتّى نرى اللهَ جهرةً، فأخذتهم الصاعقةُ، كانوا قبلَ السبعينَ الذين أخذَتْهم الرجفةُ. * * * {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}. [156] {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} عافيةً. {وَفِي الْآخِرَةِ} الجنةَ. {إِنَّا هُدْنَا} تُبْنا. {إِلَيْكَ} أي: حَرَّكْنا نفوسَنا إليك بالتوبةِ.

[157]

{قَالَ} الله سبحانه: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} من خَلْقي. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (عَذَابِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ} عَمَّتْ. {كُلَّ شَيْءٍ}، فلما نزلت، قال الخبيثُ إبليسُ: أنا شيءٌ، فأُخْرِجَ منها بقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا} أي: أثبتُها في الآخرة. {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفرَ. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} خَصَّها بالذكرِ؛ لأنّها كانتْ أشقَّ عليهم. {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}. * * * {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}. [157] فقالَ أهلُ الكتاب: نحن نَتَّقي ونزكِّي ونؤمنُ، فخرجوا منها بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ} هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 301 - 302)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 409).

{الْأُمِّيَّ} الّذي لا يكتبُ ولا يقرأ، منسوبٌ إلى الأمِّ؛ أي: هو على ما ولدته أمُّهُ، وصفه به تنبيهًا على أنَّ كمالَ علمِه مع حالِه أحدُ معجزاتِه. {الَّذِي يَجِدُونَهُ} أي: وصفُه. {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} الإيمانِ. {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الشركِ، والمعروفُ: ما عرفَهُ العقلُ أو الشرعُ بالحُسْنِ، والمنكرُ: ما أنكرَهُ أحدُهما لقبحِه. {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} كالشحومِ ونحوِها ممّا كان حُرِّمَ (¬1) عليهم. {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ما يُسْتَخْبَثُ حِسًّا؛ كالدمِ والميِّتةِ ونحوِهما. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} وهو كلُّ ما يَثْقُلُ على الإنسانِ من قولٍ أو فعلٍ. قرأ ابنُ عامرٍ: (آصَارَهُمْ) على الجمع، والباقون: على الإفراد (¬2). {وَالْأَغْلَالَ} الأثقالَ. {الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} من التكاليفِ الشاقَّةِ؛ كتعيُّنِ القصاصِ في القتلِ العمدِ والخطأِ، وتحريمِ أخذِ الدية، وقطعِ الأعضاءِ الخاطئةِ، وَقَرْضِ موضعِ النّجاسةِ من الجلدِ والثوبِ بالمقراضِ، وتركِ العملِ في السبتِ، وأنَّ صلاتَهم لا تجوزُ إِلَّا في الكنائسِ، وغيرِ ذلك من الشدائدِ. {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} أي: بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَعَزَّرُوهُ} عَظَّموه. ¬

_ (¬1) في "ن": "حرام". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 295)، و"التيسير" للداني (ص: 113)، و"تفسير البغوي" (2/ 159)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 410).

[158]

{وَنَصَرُوهُ} على الأعداء. {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} أي: عليه، يعني: القرآنَ. {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزونَ. * * * {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}. [158] {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} هذا أمرٌ من الله سبحانه لنبيِّهِ بإشهارِ الدعوةِ والحضِّ على الدخولِ في الشرعِ، والمعنى: إنَّ كلّ رسولٍ بُعِثَ لأمَّتِه، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعِثَ إلى كافةِ الثقلينِ. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صفةٌ لله، وإن حيلَ بينَ الصِّفَةِ والموصوفِ بقوله: {إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} لأنّه كالمقدَّمِ عليه. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ولا معبودَ سواه. {يُحْيِي وَيُمِيتُ} مزيدُ تقريرٍ؛ لاختصاصِه بالألوهية. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} ما أَنزَلَ عليهِ وعلى سائرِ الرسلِ من كتبِه ووحيِه. {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إرادةَ أن تهتدوا. * * *

[159]

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}. [159] {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى} يعني: المؤمنينَ الثابتينَ من بني إسرائيل. {أُمَّةٌ} جماعة. {يَهْدُونَ} الناسَ. {بِالْحَقِّ} أي: يرشدونهم بكلمةِ الحقِّ. {وَبِهِ} أي: بالحقِّ. {يَعْدِلُونَ} بينَهم في الحكم. * * * {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}. [160] {وَقَطَّعْنَاهُمُ} أي: صَيَّرْناهم، يعني: بني إسرائيلَ. {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} والسِّبْطُ مذكَّرٌ، فرجعَ التأنيثُ إلى قوله: {أُمَمًا} أي: قبيلةً، والأسباطُ: القبائلُ، واحدُها سبطٌ، وكانوا اثنتي عشرةَ قبيلةً من اثني عشرَ ولدًا من ولدِ يعقوبَ -عليه السّلام-، وكانَ كلُّ سبطٍ أمةً عظيمةً، والسبطُ في ولدِ إسحاقَ كالقبيلةِ في ولدِ إسماعيلَ، وتُنصبُ (أسباطًا) بدلًا من (اثنتي عشرة) وتُنصب (أممًا) نعتًا لأسباطًا.

[161]

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} في التيهِ. {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ} انفجرَتْ. {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} لكلِّ سبطٍ عينٌ. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كلُّ سبطٍ. {مَشْرَبَهُمْ} وكلُّ سبطٍ بَنو أبٍ واحدٍ. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} ليقيَهم حرَّ الشّمسِ. {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} سبقَ تفسيرُهما في سورةِ البقرة. {كُلُوا} أي: وقلْنا لهم: كلوا. {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وسبق تفسيرُه أيضًا فيها. * * * {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)}. [161] {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} أي: واذكرْ إذ قيل لهم: {اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} هي بيتُ المقدسِ. {وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وعدٌ بالغفرانِ والزيادةِ عليه بالإثابةِ، وتقدَّم تفسيرُه في سورة البقرة، وتقديمُ (قُولُوا حِطَّةٌ) على (وَادْخُلوا) هنا لا أثرَ له في المعنى؛ لأنّه لا يوجبُ التّرتيب. قرأ نافعٌ،

[162]

وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ، وابن عامرٍ: (تُغْفَرْ) بالتاء مضمومةً وفتحِ الفاء، والباقون: بالنونِ مفتوحةً وكسرِ الفاء، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (خَطِيَئاتُكُمْ) بجمع السلامة ورفعِ التاء، وابنُ عامرٍ: (خَطِيئَتُكُمْ) بالإفراد ورفعِ التاء، وأبو عمرٍو: (خَطَايَاكُمْ) على وزن عَطاياكم بجمعِ التكسيرِ، والباقون وهم الكوفيون، وابنُ كثيرٍ: بجمع السلامةِ وكسرِ التاء نَصْبًا (¬1)، واتَّفقوا على (خَطَايَاكُمْ) في البقرةِ من أجلِ الرسم. * * * {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}. [162] {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} تقدَّم تفسيره في البقرة. * * * {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا وَاسْأَلْهُمْيَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)}. [163] {وَاسْأَلْهُمْ} أي: سَلْ يا محمدُ هؤلاءِ اليهودَ الذين هم جيرانُك سؤالَ توبيخ. قرأ أبنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَسَلْهُمْ) بنقل ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 295 - 296)، و"التيسير" للداني (ص: 114)، و"تفسير البغوي" (2/ 161)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 412 - 413).

حركة الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها وهو السينُ (¬1). {عَنِ الْقَرْيَةِ} أي: سَلْهم عن خبرِ أهلِ القرية. {الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي: على شاطئِهِ، وهي أيلةُ مدينةٌ كانت على شاطئ البحرِ بينَ مصرَ ومكةَ، سُميت بأيلةَ بنتَ مَدْيَنَ بنِ إبراهيمَ -عليه السّلام-، وهي أولُ حَدِّ الحجازِ من جهةِ الشّام، وكانت حدَّ مملكةِ الروم في الزمنِ الماضي، وبينَها وبينَ بيتِ المقدسِ نحوُ ثمانيةِ أيامٍ، والطورُ الّذي كلَّمَ اللهُ عليه موسى -عليه السّلام- على يومٍ وليلةٍ منها. {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} يتعدَّوْنَ ما أُمروا به من تركِ الصَّيدِ. {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} أي: تَعْظِيمِهم أمرَ السبتِ. {شُرَّعًا} ظاهرةً على الماءِ، جمعُ شارعٍ. {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} لا يقطعونَ الشغلَ. {لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} مثلَ ذلكَ البلاءِ الشديدِ نبلوهم بسببِ فسقِهم، وتقدَّم ذكرُ القصة مستوفىً؛ وحكمُ طلب القاضي لليهوديِّ في يومِ السبتِ في سورة البقرة. * * * {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)}. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 229)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 232)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 414).

[164]

[164] {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} جماعةٌ من صُلحائِهم بعدَ يأسِهم من توبةِ العادِين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} في الآخرةِ؛ لتماديهم في العصيان؛ أي: وجبَ عذابُهم، فلا ينفعُهم الوعظُ. {قَالُوا} أي: الناهون {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (مَعْذِرَةً) بالنصب؛ أي: نفعلُ ذلكَ معذرةً إلى ربكم، وقرأ الباقون: (مَعْذِرَةٌ) بالرفع (¬1)؛ أي: موعظتُنا عذرٌ عندَه لئلَّا نُنْسَبَ إلى تقصيرٍ ما في النهيِ عن المنكرِ. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} اللهَ. * * * {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)}. [165] {فَلَمَّا نَسُوا} أي: تركَ أهلُ القرية. {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} من الوعظِ من الصَّيدِ. {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} وهو أخذُ الحيتانِ. {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} بأخذِها. {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شديدٍ. قرأ ابنُ عامرٍ (بِئْسٍ) بكسرِ الباء وهمزةٍ ساكنة ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 296)، و"التيسير" للداني (ص: 114)، و"تفسير البغوي" (2/ 163)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 415).

[166]

بعدَها، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: بكسرِ الباءِ وياءٍ ساكنةٍ بعدَها من غيرِ همزٍ، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ (بَيْئَسٍ) بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن (فَيْعَلٍ)، [وقرأ الباقون: بفتح الباءِ وكسرِ الهمزة وياءٍ بعدها على وزن (فَعِيل)] (¬1)، وكلُّها لغاتٌ (¬2)، وكانَ أهلُ القريةِ نحوَ سبعينَ ألفًا، ثلثٌ نهوا، وثلثٌ لم ينهوا وسكتوا وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} وثلثٌ هم أصحابُ الخطيئة، فنجتِ الساكتةُ والناهيةُ، وعُذِّبتِ الصائدةُ عذابًا شديدًا. {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} بسببِ فسقِهم. * * * {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}. [166] {فَلَمَّا عَتَوْا} تجبَّروا. {عَنْ مَا نُهُوا} من الصَّيدِ، فلم يمتثلوا النهيَ. {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} مُبْعَدِينَ، فمكثوا ثلاثةَ أيامٍ ينظرُ إليهم النّاسُ، ثمّ هلكوا، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ مستوفاة في سورةِ البقرة، وذكرُ الخلافِ في حكمِ الحيلِ. * * * ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 296)، و"التيسير" للداني (ص: 114)، و"تفسير البغوي" (2/ 163)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 416 - 418).

[167]

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}. [167] {وَإِذْ تَأَذَّنَ} أعلمَ. {رَبُّكَ}. قرأ أبو عمرٍو: {تَأَذَّنَ رَبُّكَ} بإدغامِ النونِ في الراء (¬1)، المعنى: وإذ أوجبَ وحكمَ رَبُّكَ. {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} ليرسلَنَّ على اليهودِ. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ} يُذيقُهم {سُوءَ الْعَذَابِ} فبعثَ الله عليهم بعدَ سليمانَ -عليه السّلام- بُخْتَ نَصَّرَ، فخرَّبَ ديارَهم، وقتلهم، وسبى نساءهم وذراريَّهم، وضربَ الجزيةَ على مَنْ بقيَ منهم، وكانوا يؤدُّونَ الجزيةَ إلى المجوسِ إلى بعثِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فضربَها عليهم إلى يوم القيامة. {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} عاقبَهم في الدنيا. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن تابَ وآمنَ. * * * {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}. [168] {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} فِرَقًا، حالٌ. {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} المؤمنونَ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أي: مُنْحَطُّون عن رتبةِ الصالحينَ، وهم الكفرةُ. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 232)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 420).

[169]

{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ} النعمِ. {وَالسَّيِّئَاتِ} النِّقَمِ. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ينتهون عن كفرِهم. * * * {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)}. [169] {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: فخلفَ بعدَ المذكورين جماعةٌ، وهم مَنْ عاصر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من اليهود، والخَلَفُ بفتحِ اللام: الصالحُ، وبالسكون: الطالح، والتلاوةُ بسكونِ اللام. {وَرِثُوا الْكِتَابَ} أي: التوراةَ. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} هذا الشيء الدنيءَ من حُطامِ الدنيا، وهو الرشوةُ لتغييرِ بعضِ ما في التوراةِ، وصفةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} لا نُؤاخَذُ بذلك. {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} أي: يرجونَ المغفرةَ وهم عائدونَ إلى مثلِ فعلِهم، والمغفرةُ إنّما تحصُلُ للتائب. قرأ رويسٌ عن يعقوبَ: (يَأْتِهُمْ) بضمِّ الهاء (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 232)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 420).

[170]

{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ} أي: إنّما أُخذَ عليهم العهدُ في التوراةِ. {أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} والمرادُ توبيخُهم على البَتِّ بالمغفرةِ مع عدمِ التوبةِ، وليسَ في التوراةِ إيعادُ المغفرةِ معَ الإصرارِ. {وَدَرَسُوا} أي: قرؤوا. {مَا فِيهِ} وعلموه. {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ممّا يأخذُ هؤلاء. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فيعلمون ذلك. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَعْقِلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬1). * * * {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}. [170] {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ (يُمْسِكُونَ) مخفَّفًا، والباقون: مشددًا (¬2)؛ أي: يعتصمونَ، وهم المؤمنون من أهلِ الكتابِ: عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ وأصحابُه تمسكوا. {بِالْكِتَابِ} الّذي جاء به موسى، فلم يحرِّفوه، ولم يكتموهُ. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 102 و 114)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 232)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 421). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 297)، و"التيسير" للداني (ص: 114)، و"تفسير البغوي" (2/ 166)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 421).

[171]

{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وخُصّتِ الصلاةُ بالذكرِ تفضيلًا لها. * * * {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}. [171] {وَإِذْ نَتَقْنَا} رَفَعْنا. {الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} فَرُفع على رؤوسِهم. {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} هو كلُّ ما غَطَّى وسترَ من سحابٍ وغيرِه. {وَظَنُّوا} علموا وأيقنوا. {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} فلما تَيَقَّنوا الهلاكَ، قبلوا التوراةَ، فقلنا لهم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} عزمٍ، وإن شَقَّ عليكم. {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} من الأحكام، واعملوا بها. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قبائحَ الأعمالِ، وذلكَ حينَ أَبَوا أن يقبلُوا أحكامَ التوراة، فرفعَ اللهُ على رؤوسِهم جبلًا، فلما نظروا إلى الجبل، خَرَّ كلُّ رجلٍ ساجدًا للهِ على حاجبِه الأيسرِ ينظرُ بعيِنه اليمنى إلى الجبل فَرَقًا من أن يسقُطَ عليه، ولذلك لا تجدُ يهوديًّا إِلَّا ويكونُ سجوده على حاجبِهِ الأيسرِ، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ في سورةِ البقرة. * * *

[172]

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)}. [172] {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ومعنى أَخذُ ذُرياتهم من ظهورِهمْ: إخراجُهم من أصلابِهم كالذَّرِّ، ولم يذكرْ ظهرَ آدم؛ للعلمِ به، والإخراجُ كانَ منهُ؛ لأنهم استُلُّوا من ظهرِ آدم، ثمّ استلُّوا نسلًا من نسلٍ كما يتوالدُ الأبناءُ من الآباء، المعنى: واذكرْ وقتَ أخذِ اللهِ تعالى الميثاقَ على بني آدم حين استُلُّوا من ظهرِه، واستلَّ أولادُهم من ظهورِهم. قرأ الكوفيون، وابنُ كثيرٍ: (ذُرِّيتَهم) على الإفرادِ مع نصبِ التاء؛ لأنّها جنسٌ تعمُّ القَليلَ والكثير، وقرأ الباقون؛ (ذُرِّيَّاتِهِمْ) على الجمعِ مع كسرِ التاءِ (¬1)، رُويَ أَن الله مسحَ صفحة ظهرِ آدمَ اليُمنى، فأخرجَ منه ذريةً بيضاءَ كهيئةِ الذرِّ يتحرَّكون، ثمّ مسحَ صفحة ظهرِه اليسرى، فأخرجَ منه ذريةً سوداءَ كهيئةِ الذرِّ، فقال: يا آدمُ! هؤلاءِ ذريتُك، ثمّ قال لهم: ألستُ بربِّكُمْ؟ قالوا: بلى، فقالَ للبيض: هؤلاءِ في الجنةِ برحمتي، وهم أصحابُ اليمين، وقال للسودِ: هؤلاء في النارِ ولا أبالي، وهم أصحابُ الشمال، ثمّ أعادهم جميعًا في صُلبه، فأهلُ القبورِ محبوسون حتّى يخرج أهل الميثاقِ كلُّهم من أصلابِ الرجالِ وأرحامِ النِّساء، قال الله تعالى فيمن نقضَ العهدَ الأوّل: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102]، ورُوي أنَّ أهلَ السعادةِ أقروا طوعًا، وقالوا: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 298)، و"التيسير" للداني (ص: 114)، و"تفسير البغوي" (2/ 168)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 422).

{بَلَى}، وأهلُ الشقاوة قالوه تقيةً، وكُرْهًا، وذلكَ معنى قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (¬1) [آل عمران: 83]، وكان الميثاقُ بنعمانَ، وهي عرفةُ وما يليها، وقيل: بأرض الهندِ حيثُ هبطَ آدمُ -عليه السّلام- فيه، وقيلَ: في سماء الدنيا حينَ هبطَ من الجنَّة إليها. {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: أشهدَ بعضَهم على بعضٍ حينَ قالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} استفهامُ تقريرٍ؛ أي: ما تُقِرُّونَ وتعترفونَ بأني رَبُّكُم؟ {قَالُوا بَلَى} نحنُ نقرُّ ونعترفُ بهذا الاعترافِ والإقرارِ، وهذا شأنُ بني آدَمَ لا يُسأَلُ أحدٌ منهم: ألَيس اللهُ ربَّكَ؟ إِلَّا قال: بلى، فهم مفطورونَ على ذلك، فكلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، فالإقرارُ بالخالقِ فطريٌّ لهم، كلُّهم يُقِرُّ به، وقولهم: (بلى) ردٌّ للنفي، فثبتَ إيمانُهم؛ لجوابهم ببلى، ولو أجابوا بنعم، لكفروا، لأنّ (نعم) تصديقٌ لما سبقَها من نفيٍ أو إثباتٍ، و (بلى) إثباتٌ لما بعدَ النَّفْي، وليسَ نفيٌ، واستفهامُ التقريرِ أكَّدَ معنى النَّفْي، والباءُ في خبر (ليس) زادته تأكيدًا، وتقديرُه: بلى أنتَ ربُّنا. {شَهِدْنَا} على أنفسِنا، وأقررْنا بوحدانيتكَ. {أَنْ تَقُولُوا} أي: فعلْنا ذلكَ بهم حتّى اعترفوا لئلَّا يقولوا. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} الإقرارِ. {غَافِلِينَ} لم نشعرْ، فلم يبقَ لهم حجةٌ علينا. قال القرطبيُّ: فقد استُدِلَّ بهذه الآية أنَّ من ماتَ صغيرًا دخلَ الجنةَ؛ لإقراره في الميثاقِ الأولِ، ومن بلغ العهدَ، لم يُغْنِه الميثاقُ (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البرّ في "التمهيد" (18/ 85). (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (7/ 317).

[173]

{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}. [173] {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فاقتدَيْنا بهم. قرأ أبو عمرٍو: (أَنْ يَقُولُوا) و (أَوْ يَقُولُوا) بالغيب، لأنَّ أولَ الكلامِ على الغيبة، وقرأ الباقون: بالخطاب فيهما (¬1)، ردًّا على لفظِ الخطابِ المتقدِّم في قوله: (ألسْتُ بِرَبِّكُمْ)؛ أي: أخاطِبُكم بذلك لئلَّا تقولوا يومَ القيامةِ: إنَّا كُنَّا عن هذا غافلينَ. {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} فتعذِّبُنا بجنايةِ آبائِنا المبطِلينَ، فلا يُمكنُهم الاحتجاجُ بذلكَ معَ الإقرارِ. * * * {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}. [174] {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أي: نُبَيِّنُها ليتدبَّرَها العبادُ. {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الكفرِ إلى التّوحيد، قال البغويُّ: فإن قيلَ: كيف تلزمُ الحجةُ واحدًا لا يذكرُ الميثاق؟! قيل: قد (¬2) أوضحَ اللهُ الدلائلَ على وحدانيته، وصدقِ رسلِهِ فيما أخبروا، فمن أنكرَهُ، كان معانِدًا ناقِضًا للعهد، ولزمَتْه الحجةُ، وبنسيانِهم وعدمِ حفظِهم لا يسقطُ الاحتجاجُ بعدَ إخبارِ المخبرِ الصادقِ صاحبِ المعجزةِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 298)، و"التيسير" للداني (ص: 114)، و"تفسير البغوي" (2/ 168). (¬2) في "ت": "وقد". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 423).

[175]

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)}. [175] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أي: اسرُدْ وقُصَّ عليهم، والضميرُ في (عليهم) عائد على حاضري محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من الكفارِ وغيرِهم. {نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} قيلَ: نزلت في أميةَ بنِ أبي الصَّلْتِ، كانَ قد قرأ الكتبَ، وعلمَ أن الله مرسِلٌ رسولًا في ذلك الزّمان، ورجا أن يكونَ هو، فلما بُعِثَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، حسدَهُ، وكفرَ به، وقيل: نزلتْ في عالمٍ من علماءِ بني إسرائيلَ اسمُه بَلْعَمُ بنُ باعوراءَ، أُوتي علمَ بعضِ كتبِ الله، فطلبَ قومُه منه أن يدعوَ على موسى ومَنْ معه، فأبى، وقالَ: كيف أدعو على مَنْ معه الملائكةُ، فألحوا عليه، فلم يزالوا به حتّى فعلَ، فانقلبَ دعاؤه عليه، وخرجَ لسانُه على صدره، ونزع الله منه المعرفَة. {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} فخرجَ من الآياتِ. بكفرِه كما تخرجُ الحيةُ من جلدِها، ولم ينتفعْ بعلمِه (¬1). {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: لحقَه وصارَ قرينًا له. {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} الضالِّينَ، وهذه أشدُّ آيةٍ على العلماء، وأيُّ مصيبةٍ أعظمُ من أن يؤتى العالُم علمًا، فيكونَ وبالًا عليه؟! * * * ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 126)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 608).

[176]

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}. [176] {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ} بعلمِه. {بِهَا} إلى منازل الأبرارِ من العلماء. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ} اطمأنَّ. {إِلَى الْأَرْضِ} يعني: الدنيا. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} في إيثارِ الدنيا واسترضاءِ قومِه. {فَمَثَلُهُ} صفتُه. {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} في أخسِّ أوصافِه، وهي. {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} يدلعُ لسانَه. {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي: إِن زجرتَهُ بالموعظة، فلم ينزجِر، وإن تركته، لم يهتدِ، فالحالتانِ عنده سواءٌ. {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وابن عامرٍ بخلافٍ عن قالونَ: (يَلْهَثْ ذَلِكَ) بإظهارِ الثاءِ عندَ الذالِ، والباقون: بالإدغام (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 133)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 424).

[177]

{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} أي: اسرُدْ عليهم ما يعلمون أنّه من الغيوبِ الّتي لا يعلَمُها إِلَّا أهلُ الكتبِ الماضيةِ. {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلكَ، فيؤمنون. * * * {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)}. [177] {سَاءَ} أي: بئسَ. {مَثَلًا الْقَوْمُ} التقديرُ: ساءَ مثلًا مَثَلُ القومِ. {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} بعدَ علمِهم بها. {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} أي: جمعوا بينَ التكذيبِ وظلمِ أنفسهم. * * * {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}. [178] {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} أجمع القراء على إثباتِ الياءَ هنا في (المهتدي) (¬1). {وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} تصريحٌ بأنَّ الهدى والضلالَ من الله تعالى، وفيه رَدٌّ على القدريَّةِ، وعلى من قال: إنَّ الله تعالى هدى جميعَ المكلَّفينَ، ولا يجوز أن يُضِلَّ أحدًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" باب: ذكر ما رسم بإثبات الياء على الأصل، (ص: 14).

[179]

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}. [179] {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خَلَقْنا. قرأ أبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَقَد ذرَأْنَا) بإدغامِ الدالِ في الذال، والباقون: بالإظهار (¬1). {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} وهم الذين حقَّتْ عليهمُ الكلمةُ الأزليةُ بالشقاوة. {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} إذ لا يُلقونها إلى معرفةِ الحقِّ. {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ} سبيلَ الرشادِ. {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} مواعظَ القرآن فيؤمنون، ثمّ ضربَ لهم مثلًا في الجهلِ فقال: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ} في عدمِ الفهمِ والاقتصارِ على نيل الشهواتِ. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأنَّ الأنعامَ تطلبُ منافعَها، وتهربُ من مضارِّها. {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الكاملونَ في الغفلة. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 230)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 233)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 424).

[180]

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}. [180] رُوي أن رجلًا دعا اللهَ في صلاته، ودعا الرّحمنَ، فقال بعضُ مشركي مكةَ: إنَّ محمدًا وأصحابَه يزعمون أنّهم يعبدون ربًّا واحدًا، فما بالُ هذا يدعو اثنين؟! فأنزلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ} (¬1) الصفاتُ. {الْحُسْنَى} العُليا الدالَّةُ على معانٍ حسنةٍ. {فَادْعُوهُ} سَمُّوهُ {بِهَا}. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للهِ تِسْعًا وَتِسعينَ اسْمًا، مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاها، دَخَلَ الجَنَةَ، إِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحبُّ الْوِتْرَ" (¬2)، ومعنى أحصاها: حفظها وهي: "هو اللهُ الّذي لا إلهَ إِلَّا هوُ الرّحمنُ الرحيمُ الملكُ القدوسُ السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ الجبارُ المتكبرُ الخالقُ البارئُ المصورُ الغفارُ القهارُ الوهابُ الرزاقُ الفتاحُ العليمُ القابضُ الباسطُ الخافضُ الرافعُ المعزُّ المذلُّ السميعُ البصيرُ الحكمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ الحليمُ العظيمُ الغفورُ الشكورُ العليُّ الكبيرُ الحفيظُ المقيتُ الحسيبُ الجليلُ الكريمُ الرقيبُ المجيبُ الواسعُ الحكيمُ الودودُ المجيدُ الباعثُ الشهيدُ الحقُّ الوكيلُ القويُّ المتينُ الوليُّ الحميدُ المحصي المبدي المعيدُ المحيي المميتُ الحيُّ القيومُ الواجدُ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 175). (¬2) رواه البخاريّ (6047)، كتاب: الدعوات، باب: لله مائة اسم غير واحدة، ومسلم (2677)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الماجدُ الواحدُ الأحدُ الصمدُ القادرُ المقتدرُ المقدِّمُ المؤخِّرُ الأولُ الآخِرُ الظاهرُ الباطنُ الوالي المتعال البرُّ التوابُ المنتقمُ العفوُّ الرؤوفُ مالكُ الملكِ ذو الجلالِ والإكرامِ المقسطُ الجامعُ الغنيُّ المغني الضارُّ النافعُ النورُ الهادي البديعُ الباقي الوارث الرشيدُ الصبورُ" حديثٌ حسنٌ رواه الترمذيُّ وغيرُه (¬1). قال اليافعيُّ رحمه الله في كتابه "الدرّ النظيم في فضائلِ القرآنِ العظيم": وهي في القرآن على هذا الترتيب، في سورةِ الفاتحةِ خمسةٌ: اللهُ ربُّ الرّحمن الرحيمُ مالكٌ، وفي سورةِ البقرةِ ستةٌ وعشرون: محيطٌ قديرٌ عليمٌ حكيمٌ توابٌ نصيرٌ واسعٌ بديعٌ سميعٌ كافي رؤوفٌ شاكرٌ إِلهٌ واحدٌ غفورٌ حليمٌ قابضٌ باسطٌ لا إلهَ إلَّا هوَ حيٌّ قيومٌ عليٌّ عظيمٌ وليُّ غنيٌّ حميدٌ، وفي سورةِ آلِ عمرانَ ثلاثةٌ: قديمٌ وهابٌ سريعٌ، وفي سورةِ النساءِ سبعةٌ: رقيبٌ حسيبٌ شهيدٌ غافرٌ غفورٌ مُقيتٌ وكيلٌ، وفي الأنعامِ خمسةٌ: باطنٌ ظاهرٌ قادرٌ لطيفٌ خبرٌ، وفي سورةِ الأعرافِ اثنان: مُحْيي مُميتٌ، وفي سورةِ الأنفالِ اثنان: نعمَ المولى ونعمَ النصير، وفي سورةِ هودٍ سبعةٌ: حفيظٌ قريبٌ مجيبٌ قويٌّ مَجيدٌ وَدودٌ فَعَّالٌ لما يريدُ، وفي سورةِ الرعدِ اثنان: كبيرٌ مُتَعالٍ، وفي سورة إبراهيم: مَنَّانٌ، وفي سورةِ الحجِّ: باعثٌ، وفي سورةِ المؤمنين: كريمٌ، وفي سورةِ النورِ: ثلاثةٌ: نورٌ حقٌّ مبينٌ، وفي سورةِ سبأ: فتاحٌ، وفي سورة المؤمن أربعةٌ: قابلُ التوبِ شديدُ العقابِ ذو الطول غفارٌ، وفي سورة الذاريات اثنان: رزاقٌ ذو القوةِ المتينُ، وفي سورة الطورِ: بَرٌّ، وفي سورةِ القمرِ: مقتدرٌ، وفي سورة الرّحمن: ذو الجلالِ والإكرامِ، وفي ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3507)، كتاب: الدعوات، باب: (83) وقال: غريب.

[181]

سورة الحديد أربعة: أولُ آخرُ ظاهرٌ باطنٌ، وفي سورة الحشرِ عشرةٌ: قُدُّوسٌ سلامٌ مؤمنٌ مهيمنٌ عزيزٌ جبارٌ متكبرٌ خالقٌ بارئ مصورٌ، وفي سورة البروج: مبدىٌ معيدٌ، وفي سورة الإخلاص أَحَدٌ صَمَدٌ. انتهى. {وَذَرُوا} اتركوا. {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ويسمونه بما لا توقيفَ فيه، والإلحادُ: الميلُ عن الحق. قرأ حمزةُ: (يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء، والباقون: بضمِّ الياءِ وكسرِ الحاء (¬1)، وهما لغتان، والملحِدون: هم المشركون، عَدَلوا بأسماء الله عَمَّا هي عليه، فسمَّوا بها أوثانَهم، فزادوا ونَقَصوا، فاشتقوا اللاتَ من الله، والعزَّى من العزيز، ومناة من المنَّانِ. {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الآخرَة، وهذه الآيةُ منسوخةٌ بآيةِ السيف. * * * {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}. [181] {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} هم المسلمون. {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} يأخذونَ به. {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في الأمرِ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 298)، و"التيسير" للداني (ص: 114)، و"تفسير البغوي" (2/ 175)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 225).

[182]

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}. [182] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} سنأخذُهم قليلًا قليلًا كما يترقى الدرجة درجةً درجةً. {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} ما نريدُ بهم. * * * {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}. [183] {وَأُمْلِي لَهُمْ} أطيلُ المدَّةَ. {إِنَّ كَيْدِي} أَخْذي. {مَتِينٌ} شديدٌ، وسمي كيدًا؛ لأنَّ ظاهرَه إحسانٌ، وباطنه خِذْلانٌ. * * * {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}. [184] رُوي أنّه - صلى الله عليه وسلم - قامَ على الصفا ليلًا يدعو قريشًا فَخذًا فَخذًا يحذِّرُهم وقائعَ الله تعالى، فقالَ قائلُهم: إنّه مجنونٌ باتَ يصوِّتُ على الصَّفا إلى الصباح، فنزل: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} (¬1) أبِصاحِبهم جنونٌ أم لا؟ ثمّ نفى عنه الجنونَ بقوله: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي: جنون. {إِنْ هُوَ} أي: ما هو. {إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} واضحٌ إنذارُه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (5/ 1624)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 475)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 618).

[185]

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}. [185] ثمّ وَبَّخَهم على تركِ النظرِ المؤدِّي إلى العلمِ فقالَ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ} أي: مُلْكِ. {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: ما فيهما من الصُّنع. {وَمَا} أي: وفي ما. {خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} فيعلموا صدقَه. {وَأَنْ} أي: وأنّه. {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} فيموتوا قبلَ الإيمان. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} أي: بعدَ القرآن. {يُؤْمِنُونَ} إنْ لم يؤمنوا به؟! فإنّه ليسَ بعدَه كتابٌ، ولا بعدَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبيٌّ. * * * {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}. [186] ثمّ ذكرَ علةَ إعراضهم عن الإيمانِ فقالَ: {مَنْ يُضْلِلِ} أي: يُضْلِلْهُ. {الله فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} قرأ أبو عمرٍو، وعاصم، ويعقوبُ (وَيَذَرُهُمْ) بالياء، ورفع الراء على الاستئناف؛ أي: واللهُ يذرُهم، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: بالنون والرفعِ، أي: ونحنُ

[187]

نذرُهم، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بالياءِ وجزمِ الراءِ عطفًا على موضعِ الفاء وما بعدَها من قوله: (فَلَا هَادِيَ لَهُ)؛ لأنّه موضعُ جزمٍ (¬1). {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يتردَّدونَ مُتَحيرين. * * * {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)}. [187] ولمّا قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ بيننا وبينكَ قرابةً، فأسرَّ إلينا متى الساعة؟ فأنزلَ الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ} (¬2) أي: متى. {مُرْسَاهَا} أي: الوقتُ الذي تقومُ فيه. {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا عِلْمُهَا} متى يكونُ. {عِنْدَ رَبِّي} استأثرَ بعلمِها. {لَا يُجَلِّيهَا} يظهرُها. {لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} لاختصاصِه به. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 298 - 299)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"تفسير البغوي" (2/ 177)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 426). (¬2) انظر: "تفسير عبد الرزّاق الصنعاني" (2/ 245)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 127)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 622).

[188]

{ثَقُلَتْ} خَفِيَتْ. {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خفيتْ معرفتُها على أهلِها، وإذا خفيَ الشيءُ، ثقلَ. {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} فجأةً على غفلةً كما قالَ -عليه السّلام-: "إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ بِالنَّاسِ والرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، والرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ، والرَّجُلُ يَقُومُ بِسِلْعَتِهِ في سُوقِه، والرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ" (¬1). {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: كأنكَ ألححْتَ في طلبِ علمِها فعلِمْتَها. {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} كرَّرَهُ تأكيدًا؛ أي: لا يعلمُ وقتَ مجيئِها، ولا يأتي بها فيه بغتةً إِلَّا اللهُ تعالى. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أنَّ علمَها عندَ الله، بل يَظُنُّ أكثرُهم أنّه ممّا يعلمُه البشرُ. * * * {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}. [188] قال ابنُ عباسٍ: "إنَّ أهلَ مكةَ قالوا: يا محمدُ! ألَّا يخبرُك ربُّكَ بالسعرِ الرخيصِ قبلَ أن يغلوَ، فتشتريَه وتربحَ فيه عندَ الغلاءِ، وبالأرضِ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (10/ 3197 - 3198)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 475).

الّتي تريدُ أن تُجْدِبَ فترتحلَ منها إلى ما قد خَصُبَت؟ فأُمر - صلى الله عليه وسلم - بالاعترافِ بأنّه عبدٌ محكومٌ عليهِ بما نزلَ جوابًا عن قول المشركين، وهو: {قُلْ لَا أَمْلِكُ} (¬1) أي: لا أقدرُ. {لِنَفْسِي نَفْعًا} أي: جلبَ نفعٍ. {وَلَا ضَرًّا} أي: دفعَ ضرٍّ. {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أن يوصلَه إليَّ من الضرِّ والنفعِ؛ فإني أملكُه؛ لاختصاصِه بي. {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي: لو كنتُ أعلمُ الخصبَ والجدبَ. {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أي: المالِ لسنةِ القحطِ. {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي: الضرُّ والفقرُ. {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} للكافرينَ بالنارِ. {وَبَشِيرٌ} بالجنةِ. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدِّقون. واختلافُ القراء في الهمزتين من (السُّوءُ إِنْ) كاختلافِهم فيهما من (يَشَاءُ إِلى) في سورةِ البقرةِ، وقرأ أبو جعفرٍ، وقالونُ عن نافعٍ بخلافٍ عنه: (أَنَا إِلَّا) بالمدِّ حيثُ وقعَ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 127 - 128). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 231، 273)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 234)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 427).

[189]

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)}. [189] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدمَ. {وَجَعَلَ} أي: خلقَ. {منها زَوْجَهَا} حواءَ {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليأنسَ بها. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} علاها بالنِّكاحِ {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} لم يثقلْ عليها، وهي النطفةُ {فَمَرَّتْ بِهِ} استمرَّتْ إلى وقتِ ميلاده. {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} أي: كبرَ الولدُ وأثقلَها حملُها وقاربت الوضعَ. {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} آدمُ وحواءُ. {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} بشرًا سويًّا قد صلحَ بدنُه. {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لكَ على هذه النعمةِ، ودلت الآيةُ على أن الحملَ مرضٌ من الأمراضِ؛ لقوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} ولأجل عظمِ الأمرِ وشدةِ الخطْبِ جُعِلَ موتُها شهادةً كما وردَ في الحديث. واختلف الأئمةُ في حكمِ الحاملِ، فقال مالك: إذا مضت لها ستةُ أشهرٍ من يومِ حملَتْ، صارتْ في حكمِ المريضِ في أفعالِه، لم ينفذ لها تصرفٌ في مالها بأكثرَ من الثلثِ، وقال الثّلاثة: إنّما يكونُ ذلكَ عندَ المخاضِ، واختارَ الخرقيُّ من أصحابِ أحمدَ: ما قاله مالكٌ. * * *

[190]

{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}. [190] وروي أن الخبيثَ إبليسَ جاءهما، فقال: إنَّ ولدتِهِ سَوِيًّا، فسميهِ عبدَ الحارثِ، وكانَ اسمُه في الملائكةِ الحارثَ (¬1). {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} كما طلبا. {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} بتسميتِهِ عبدَ الحارثِ من غيرِ اعتقادٍ لذلك، وإنّما كان شركًا في التسميةِ والصِّفَة، لا في العبادةِ والربوبية، وجاء في الحديث: "خَدَعَهُا إِبْلِيُس مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْجَنَّةِ، وَمَرَّةً فِي الأَرْضِ" (¬2). قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (شِرْكًا) بكسر الشين وإسكان الراء مع التّنوين؛ أي: ذوي شركٍ، وهم الشركاء، والباقون: بضمِّ الشينِ وفتح الراء والمدِّ والهمزِ من غيرِ تنوين، على جمع شريك، يعني: إبليس (¬3)، وفي الآية قولٌ آخرُ، وهو أن الضميرَ في (آتيتَنا) و (لنكونَنْ) لهما ولأولادِهما، وفي (آتاهما) و (جعلا) لأولادِهما، وفيه حذفُ مضافٍ وإقامةُ المضافِ إليه مقامَه، تقديره: فلما آتى أولادَهما ¬

_ (¬1) رواه التّرمذيّ (3077)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأعراف، وقال حسن غريب، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 11)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6895)، والحاكم في المستدرك (4003)، عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه-. وقد ذكره ابن كثير في "تفسيره" (2/ 275) من ثلاثة أوجه. (¬2) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (5/ 1635). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 299)، و"التيسير" للداني (ص: 1115، و"تفسير البغوي" (2/ 181)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 429).

[191]

صالحًا، جعلَ أولادُهما للهِ شركاء؛ بأن سَمَّوا عبد (¬1) شمسٍ، وعبد العزَّى، وعبد يَغوثَ، وغيرِ ذلك، كما أضافَ فعلَ الآباءِ إلى الأبناءِ في تعييرِهم بفعلِ الآباءِ فقال: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 92] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72] خاطبَ بهِ اليهودَ الذين كانوا في عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ ذلكَ الفعلُ من آبائِهم، حكى المفسرون كُلًّا من التأويلينِ، وقدم البيضاويُّ في "تفسيره" هذا التأويلَ الثّاني (¬2)، قال القرطبيُّ: وهو الّذي يُعَوَّلُ عليه (¬3)، وقال البغويُّ: وهذا قولٌ حسنٌ لولا قولُ السلفِ وجماعةِ المفسرين إنّه في آدمَ وحواءَ (¬4)، وقال الكواشيُّ: وهو أوجهٌ يعضدُه قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} بأن آدمَ وحواءَ لم يكونا مشرِكينِ بإجماعٍ، ولجمعِه الضميرَ في (يشركون). * * * {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)}. [191] {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا}: إبليسَ والأصنامَ. {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: مخلوقون. * * * {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)}. [192] {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أي: الأصنامُ لعَبَدَتِهم. ¬

_ (¬1) في "ش": "بعبد". (¬2) انظر: "تفسير البيضاوي" (3/ 82). (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" (7/ 338). (¬4) انظر "تفسير البغوي" (2/ 182).

[193]

{نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} من كسرٍ وغيرِه، بل عَبَدَتُهم يدفعونَ عنهم، فالمعبودُ أذلُّ من العابِد. * * * {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}. [193] ثمّ خاطب المؤمنين فقال: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ} يعني: المشركين. {إِلَى الْهُدَى} الإسلامِ. {لَا يَتَّبِعُوكُمْ} قرأ نافعٌ: (يَتْبَعُوكُمْ) بإسكانِ التاءِ وفتحِ الباء، وقرأ الباقون: بفتح التاءِ مشدَّدَةٍ (¬1) وكسرِ الباء، وهما لغتان، يقال: تبعَه تبعًا واتّبَعه اتِّباعًا (¬2). {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إلى الدينِ. {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} عن دعائِهم؛ كما قال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. * * * {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)}. [194] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدونَ {مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنامَ ¬

_ (¬1) "مشددة" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 299)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"تفسير البغوي" (2/ 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 430).

[195]

{عِبَادٌ} مملوكةٌ {أَمْثَالُكُمْ} متصرَّفٌ فيها. {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أي: يجيبوكم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن لكم عندَها منفعةً. * * * {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)}. [195] ثمّ وَبَّخهم على عبادةِ مَنْ هو في غايةِ العجزِ فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} أي: يأخذونَ بشدة. رُوي عن قنبلٍ راوي ابنِ كثيرٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياءِ على (أَيْدِي)، وقرأ أبو جعفرٍ: (يَبْطُشُونَ) بضمِّ الطاء، والباقون: بكسرها (¬1). {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ومَنْ أنتم أقدرُ منه كيفَ تعبدونه؟! احتقارًا بهم وبمعبودِهم. {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} يا معشرَ المشركين. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (قُلِ ادْعُوا) بكسرِ اللامِ، والباقون: بالضمِّ (¬2). {ثُمَّ كِيدُونِ} احتالوا أنتم وشركاؤكم في أمري وإهلاكي سريعًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 183)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 274)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 435). (¬2) انظر: "إملاء ما منَّ به الرّحمن" للعكبري (1/ 167)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 234)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 430).

[196]

{فَلَا تُنْظِرُونِ} أي: تُؤَخِّرونِ. أثبتَ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ الياءَ في: (كِيدُوني) وصلًا، وأثبتها في الحالين يعقوبُ، وهشامٌ بخلافٍ عن الثّاني (¬1)، وأثبت يعقوبُ الياءَ في (تُنْظِرُونِي) في الحالَين (¬2). * * * {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)}. [196] {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} أي: ناصري. واختُلِف عن أبي عمرٍو في (إنَّ وَلِيَّيَ اللهُ) فروي عن السوسيِّ حذفُ الياء وإثباتُ ياءٍ واحدةٍ مشددةٍ مفتوحةٍ، وهو الأصحُّ عنه، ورُوي عن السوسيِّ أيضًا يكسر الياء المشددةِ بعدَ الحذف، وقرأ الباقون: بياءين، الأولى مشددةٌ مكسورةٌ، والثّانية مخففةٌ مفتوحةٌ، وقد أجمعتِ المصاحفُ (¬3) على رسمِها بياءٍ واحدة. {الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} القرآن. {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} الذين لا يعدِلون بالله شيئًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 299)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 275)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 431). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 301)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 274)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 431 - 432). (¬3) في "ت ": "الصّحابة".

[197]

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)}. [197] {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} كرره لتببينِ أنَّ ما يعبدونه لا ينفعُ ولا يضرُّ. * * * {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)}. [198] {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ} أي: الأصنامَ. {إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا} مبالغةٌ في التوبيخ. {وَتَرَاهُمْ} يا محمدُ {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} يُشْبهون الناظرينَ إليك؛ لأنّهم صُوِّروا بصورةِ مَنْ ينظر إلى مَنْ يواجهُه. {وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} لأنّ أعينَ الأصنامِ مصنوعةٌ. * * * {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}. [199] {خُذِ الْعَفْوَ} أي: المساهلةَ، وهو ضدُّ الصَّعب، رُويَ أنّه لما نزلتْ هذه الآيةُ، قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لجبريلَ: "مَا هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزّاق في "التفسير" (2/ 246)، والطّبريّ في "تفسيره" (13/ 303)، =

[200]

{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: بالمعروفِ، وهي كلُّ خَصلَةٍ حميدةٍ يقتضيها العقلُ والشرعُ. قرأ أبو عمرٍو: (خُذِ الْعَفْو وَّأْمُرْ) بإدغامِ الواوِ بالواو. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أبي جهلٍ وأصحابِه، ونُسخت بآية السيفِ. * * * {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}. [200] {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} أي: يُحَرِّكَنَّك للشرِّ، المعنى: فإنْ يوسوسْ (¬1) لك الشيطانُ بوسوستِه {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي: استجِرْ به {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمعُ استعاذتَكَ، ويعلمُ ما فيه صلاحُ أمرِكَ فيحملُكَ عليهِ. * * * {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}. [201] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} يعني: المؤمنين. {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ: (طَيْفٌ) بياء ساكنةٍ بين الطاء والفاء من غيرِ همزٍ ولا ألف؛ أي: لمسةٌ ¬

_ = وابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1638)، عن أبي المرادي. وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 628). (¬1) في جميع النسخ "يوسوسك"، والصواب ما أثبت.

[202]

ووسوسةٌ، وقرأ الباقون: (طَائِفٌ) بألفٍ بعدَ الطاءِ وهمزةٍ مكسورةٍ بعدَه (¬1)، وهو ما يطوفُ حولَ الشيء. {الشَّيْطَانِ} المعنى: إنَّ المتقين إذا وسوسَ لهم (¬2) الشيطانُ. {تَذَكَّرُوا} ذكروا اللهَ، واستعاذوا به. {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون} مواقعَ خطئِهم، فيستغفرون. * * * {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [202] {وَإِخْوَانُهُمْ} أي: إخوانُ الشّياطينِ من المشركينَ. {يَمُدُّونَهُمْ} المعنى: وإخوانُ المشركينَ من الشّياطينِ يزيدونهم. {فِي الْغَيِّ} وهو الضلالُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (يُمِدُّونَهُمْ) بضمِّ الياء وكسرِ الميمِ، من الإمدادِ، وقرأ الباقونَ: بفتح الياء وضمِّ الميم، وهو من المدِّ (¬3)، ومعناهما واحد، وهو الزيادةُ. {لَا يُقْصِرُونَ} لا يُمسكون عن إغوائِهم. * * * {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 301)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"تفسير البغوي" (2/ 185)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 432 - 433). (¬2) في جميع النسخ: "وسوسهم"، والصواب ما أثبت. (¬3) المصادر السابقة.

[203]

[203] {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ} يعني: إذا لم تأتِ المشركينَ. {بِآيَةٍ} من القرآنِ. {قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} هلَّا افتعلْتَها من نفسِك؛ أي: يطلبونَ أن تكذبَ لهم. {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} لستُ بمختلقٍ للآيات. {هَذَا} أي: القرآنُ {بَصَائِرُ} حججٌ ودلائلُ. {مِنْ رَبِّكُم} تقودُكم إلى الحقِّ. {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} والهدى: الرشدُ، والرّحمةُ: النعمةُ. * * * {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}. [204] {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} قرأ أبو جعفرٍ: (قُرِيَ) بفتح الياء بغيرِ همز، وقرأ ابنُ كثيرٍ: (القُرْانُ) بنقل حركة الهمزِ إلى الساكنِ قبلَها وهو الراءُ. {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} للقرآن. {وَأَنْصِتُوا} أصغوا. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قال ابن عباسٍ، وأبو هريرةَ، وجماعةٌ من المفسرين: "نزلتْ في الصّلاةِ خاصَّةً حين كانوا يقرؤون خلفَه -عليه السّلام-" (¬1)، وقيلَ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطّبريّ" (13/ 345)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 128)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (5/ 1645)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 634).

[205]

غيرُ ذلك، وعامةُ العلماءِ على استحبابِ الإنصاتِ للقراءةِ خارجَ الصّلاة. واختلفَ الأئمةُ في القراءةِ خلفَ الإمام، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ: لا تجبُ القراءةُ على المأمومِ بحالٍ في صلاةِ جهرٍ ولا سِرٍّ، ويُستحبُّ له عندَ مالكٍ أن يقرأ في صلاةِ السرِّ الفاتحةَ، وقالَ أحمد: يُسَنُّ، وخالفَهما أبو حنيفةَ، واستدلُوا بالآيةِ على عدمِ الوجوبِ، وقال الشّافعيُّ: تجبُ على المأمومِ قراءةُ الفاتحةِ فيما أسرَّ به الإمامُ وما جهرَ، واستدلَّ بقولِه عليه السّلام: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا" (¬1). * * * {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)}. [205] {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} عامٌّ في الأذكارِ من القراءة والدعاءِ وغيرِهما {تَضَرُّعًا وَخِيفَة} مستكينًا إليَّ متخوِّفًا مِنِّي. {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْل} دونَ رفعِ الصوتِ والصياح فيه. {بِالْغُدُوِّ} البُكَرِ {وَالْآصَالِ} العَشِيّاتِ، جَمْعُ أَصْلٍ، وهو ما بينَ العصرِ والمغربِ. {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} عن ذكرِ الله تعالى. ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه.

[206]

{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}. [206] {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} يعني: الملائكةَ. {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ} ويُنَزِّهونهَ. {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} يخصُّونه بالعبادةِ، وهو تعريضٌ بمن عداهم من المكلَّفينَ، ولذلك شُرِعَ السجودُ لقراءته، وعن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ! أُمِرَ هَذَا بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِي النَّارُ" (¬1). واتفق الأئمةُ على أن هذا موضعُ سجودٍ للقارئ. وأمّا عددُ سجداتِ القرآنِ، فهي خمسَ عشرةَ سجدةً، أولُها خاتمةُ الأعرافِ، وآخرُها خاتمةُ العَلَق، منها خمسُ سجداتٍ مختلَفٌ فيها، وهي ثانيةُ الحجِّ عندَ الشّافعيِّ وأحمدَ هي من عزائمِ السجودِ، خلافًا لأبي حنيفةَ ومالكٍ، وسجدةُ {صَ} عند أبي حنيفةَ ومالكٍ خِلافًا للشافعيِّ وأحمدَ؛ فإنها عندَهما سجدةُ شكر تُستحبُّ في غيرِ الصّلاةِ، فلو سجد بها فيها عالمًا عمدًا، بطلَتْ صلاتُه عندهما، وسجداتُ المفصَّل، وهي: النجمُ، والانشقاقُ، والعلّقُ عندَ الثّلاثة، خلافًا لمالكٍ، والعشرُ الباقيةُ متفقٌ عليها، وهي آخرُ الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، والأُولى في الحجِّ، والفرقان، والنمل، والم تنزيل، وحم السجدة، ومحلُّها في حم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (81)، كتاب: الإيمان، باب: بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصّلاة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

عند مالكٍ عندَ (¬1) قوله: {إياه تعبدون}، وعند الثّلاثة عند قوله: {لا يسئمون}. وسجودُ التلاوةِ كالصلاةِ يُشترطُ له (¬2) الطهارةُ، واستقبالُ القبلةِ بالاتفاقِ، ولا يُسجد له في وقتِ نهيٍ عند الثّلاثة، خلافًا للشافعيِّ. واختلفوا في حكم سجودِ التلاوة، فقال أبو حنيفةَ: هو واجبٌ على التالي والسامع، سواء قصدَ السماعَ أو لم يقصدْ، فإذا أرادَ السجودَ، كَبَّرَ وسجدَ بلا رفعِ يدٍ، ثمّ كبر ورفعَ، ولا تشهُّدَ عليه ولا سلامَ، ومن تلاها في الصّلاة فلم يسجدها، سقطتْ عنه، ولو تلاها فيها، إن شاءَ ركعَ، وإن شاءَ سجدها، ثمّ قام فقرأ، وهو الأفضلُ. وقالَ مالكٌ: هو فضيلةٌ للقارئ وقاصدِ الاستماعِ إنَّ كانَ القارئُ يصلُح للإمامة، ويكبرُ لخفضِهِ ورفعِه، وليس له تسليمٌ، وتُكره قراءتُها في صلاةِ الفرضِ جهرًا أو سِرًّا، ويسجدُ في صلاةِ النفلِ مطلقًا. وقال الشّافعيُّ: هو سنةٌ للقارئ والمستمعِ والسامع، فإن قرأ في الصّلاة، سجدَ الإمامُ والمنفردُ لقراءتِهِ فقطْ، والمأمومُ لِسجدةِ إمامِه، فإن سجدَ إمامُه، فتخلف أو انعكس، بطلَتْ صلاتُه، ولا تُكره قراءتها في جهريَّةٍ ولا سرية، وإذا سجدَ خارجَ الصّلاة، نوى، وكبرَ للإحرام رافعًا يديه، ثمّ للهُوِيِّ بلا رفعٍ، وسجدَ كسجدةِ الصّلاة، ورفع مكبرًا، وسلَّم من غير تشهُّد، والاختيارُ تركُ القيامِ له، وإن سجدَ في الصّلاةِ، كبر للهُوِيِّ والرفع، ولا يرفعُ يديه، ولا يجلسُ للاستراحة. ¬

_ (¬1) في "ت": "بعد". (¬2) في "ن": "لها".

وقال أحمدُ: هو سنةٌ للقارئ والمستمع دونَ السامعِ، ويعتبر أن يكونَ القارئُ يصلُحُ إمامًا، فلا يسجدُ قدامَ إمامِه، ولا عن يسارِه مع خلوِّ يمينه، ولا رجلٌ بتلاوةِ امرأةٍ وخنثى، وسجودُه عن قيامٍ أفضلُ، ويكبر إذا سجدَ وإذا رفع، والسلامُ ركنٌ وتجزئُ واحدة بلا تشهُّدٍ، وإن سجدَ إمامٌ في صلاةِ جهر أو خارجَها، سُنَّ رفعُ يديهِ كالمنفردِ مطلقًا، ويلزمُ المأمومَ متابعتُه في صلاة الجهرِ، فلو تركَه عمدًا، بَطَلَتْ صلاتُه، وإذا قامَ المصلِّي من سجودِ التلاوةِ، فهو مُخَيَّرٌ بينَ القراءةِ والركوعِ بدونها، ويُكره للإمام قراءةُ سجدةٍ في صلاةِ سرٍّ، والسجودُ لها، فإن فعلَ، فالمأمومُ مخيرٌ بين اتِّباعِه وتركِه. واختلفوا في سجودِ الشكرِ عندَ تجدُّد النعمِ واندفاعِ النِّقَم، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يُكره، فيقتصر على الحمدِ والشكرِ باللسانِ، وخالفَ أبو يوسفَ ومحمدٌ أبا حنيفةَ، فقالا: هي قُرْبَةٌ يثاب عليها، وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: يُسَنُّ، وحكمُه عندَهما كسجودِ التلاوة، لكنه لا يُفعل في الصّلاة، واللهُ أعلم. * * *

سورة الأنفال

سُوْرَةُ الأَنْفَال مدنيّةٌ بدريَّةٌ، وآيها خمسٌ وسبعونَ آيةً، وحروفها خمسة آلافٍ ومئتانِ وأربعةٌ وتسعونَ حرفًا، وكَلِمُها ألفٌ ومئتانِ وإحدى وثلاثونَ كلمةً. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)}. [1] لما خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدرٍ، ولَقُوا العدوَّ، افترقَ أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ فِرَقٍ: فرقة أقامتْ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في العريشِ الّذي صُنِعَ له وحَمَتْهُ وآنَسَتْهُ، وفرقةٌ أحاطتْ بعسكرِ العدوِّ لما انكشفوا، وفرقةٌ اتّبَعوا العدوَّ، فقتلوا وأَسَروا، وكانتِ الواقعةُ صبيحةَ الجمعةِ لسبعَ عشرةَ ليلةً خلتْ من شهرِ رمضانَ من السنَّةِ الثّانيةِ من الهجرةِ الشريفةِ، وتقدم ملخَّصُ القِصَّةِ في سورةِ آلِ عمرانَ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123]، وكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قد حَرَّضَ الناسَ قبلَ ذلكَ وقالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا أَوْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا"، فسارعَ الشبانُ وبقيَ الشيوخُ عندَ الراياتِ، فلما انجلتِ الحروبُ، واجتمعَ النّاسُ، رأتْ كلُّ فرقةٍ الفضلَ

لنفسِها، وقالتْ: نحن أَوْلى بالمغانم، وساءَتْ أخلاقُهم في ذلكَ، فأنزلَ اللهُ تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (¬1) الغنائِمِ، واحدُها نَفَلٌ بتحريكِ الفاءِ، وهو الزيادةُ؛ لأنّها عَطِيَّةٌ من اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لهذهِ الأمةِ. {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أمرُها له، فيقسِمُها الرسولُ على ما يأمرُه اللهُ به، فقسمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَهم على السَّواء. واختلفوا فيما إذا قالَ الإمامُ: من فعلَ كذا، فله كذا، ومن جاء بكذا، فله كذا، فقال أبو حنيفةَ: يجوزُ ذلكَ قبلَ إحرازِ الغنيمةِ، وقبلَ أن تضعَ الحربُ أوزارَها؛ لما فيه من التحريضِ على القتال، واستدلَّ بما قال عليه السّلام يوم بدرٍ، وأمّا بعدَ الإحرازِ، يُنَفَّلُ من الخمس. وقال مالكٌ: يُكره؛ لئلَّا يشوبَ قصدَ المجاهدين إرادةُ الدنيا؛ فإن شَرَطَه، كانَ من الخمس، لا من أصلِ الغنيمةِ. وقال الشّافعيُّ: يجوزُ، ويكون من المصالحِ المرصَدَةِ ببيتِ المال. وقال أحمد: يجوزُ ما لم يجاوزْ ثلثَ الغنيمةِ بعدَ الخمس. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} ولا تختلفوا بسببِ حُطام الدنيا {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} الحالَ الّتي بينكم بتركِ الاختلافِ. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيه (¬2) {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} كاملي الإيمان. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطّبريّ" (13/ 367)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 315)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 128 - 129)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 7)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 6). (¬2) قوله: " {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيه" سقط من "ت".

[2]

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}. [2] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} والإيمانِ، و (إنّما) لفظٌ لا تفارقُه المبالغةُ والتأكيدُ حيثُ وقعَ. {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} استِعْظامًا له. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} يقينًا وتصديقًا. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يفوِّضونَ أمرَهم إليه. * * * {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}. [3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} سُجودًا ورُكوعًا وقِيامًا. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يتصدَّقون. * * * {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}. [4] {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} يقينًا، لا شك في إيمانهم. {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} منازِلُ وشرفٌ في الجنَّة. {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} حَسَنٌ أُعِدَّ لهم في الجنةِ. * * *

[5]

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)}. [5] {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} أي: كما أمرَكَ بالخروجِ. {مِنْ بَيْتِكَ} أي: من المدينةِ إلى بدرٍ إخراجًا. {بِالْحَقِّ} بالوحي خبرٌ مبتدؤُه محذوفٌ، تقديرُه: هذهِ الحالُ في كراهتِهم إياها كحالِ إخراجِكَ للحربِ على كراهتهم له. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} أي: أخرجَكَ في حالِ كراهتهم، وذلك أن عيرَ قريشٍ أقبلتْ من الشامِ مع أبي سفيانَ، ومعها أربعون راكبًا، فأعلمَ جبريلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بها، فأعلمَ أصحابه، فَسُرُّوا وأحبوا الخروجَ إليها لكثرةِ المالِ وقلةِ الرجال، فأُعْلِمَتْ قريشٌ بذلك، فخرج أبو جهل ومعه مقاتِلَةُ مكةَ ذابًّا عنها، وهم النَّفْيرُ، فعلم أبو سفيانَ ذلك، فأخذ بها طريق الساحل فنجت، فقيل لأبي جهلٍ: ارجعْ بالناس، فقد نجتِ العيرُ، فأبى، وسارَ بمن معه إلى بدرٍ، فشاورَ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَهُ في لقاء العيرِ أو النَّفْيرِ، فقال أبو بكرٍ فأحسنَ، وقال عمرُ فأحسنَ، وقال المقدادُ بن عمرو: "امضِ بنا يا رسولَ الله، فنحن معكَ، واللهِ ما نقولُ لكَ كما قالتْ بنو إسرائيل لموسى: اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون، ولكنِ اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلا إِنَّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سرتَ بنا إلى بَرْكِ الغِماد؛ يعني: مدينة الحبشة، لجالَدْنا معكَ من دونِه حتّى تبلُغَه"، فدعا له - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ قال: "أَشِيرُوا عَلَيَّ" يريدُ: الأنصار، فقال سعدُ بنُ معاذٍ: "لَكأنَّكَ تريدُنا يا رسول الله؟ فقال: "أَجَلْ"، فقال: امضِ يا رسول الله لما أردْتَ، والذي بعثَكَ بالحق! لو استعرضْتَ بنا هذا البحرَ فَخُضته لَخُضناهُ

[6]

معكَ، ما تخلَّفَ منا واحدٌ، وما نكرهُ أن تَلْقَى بنا عَدُوَّنا، وإنا لَصُبرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللِّقاء"، فَسُرَّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ثمّ قال: "سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللهِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، واللهِ لَكَأَنِّي الآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ" (¬1). * * * {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}. [6] {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} وذلكَ أنّهم قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما خرجْنا إِلَّا للعير، هَلَّا قلتَ لنا فنستعدَّ للقتال. {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} لهم أنّهم يُنصرون بإعلامِ اللهِ ورسوله. {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} أي: حينَ يُدْعون إلى القتال. {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} يشاهِدونَ أسبابَه، وقيلَ: هؤلاءِ المشركونَ جادلوه في الحقِّ كأنما يُساقون إلى الموت حينَ يُدْعون إلى الإسلامِ؛ لكراهتهم إياه. * * * {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)}. ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 14)، و"تفسير الطّبريّ" (13/ 399)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 283)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 289)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 12)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 26).

[7]

[7] {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} أي: واذكر إذ يعدكم الله. {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} العيرَ أو النَّفْيرَ {أَنَّهَا لَكُمْ} أي: إحداهما. {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} يعني: العيرَ الّتي ليسَ فيها قتال، والشوكةُ: شدةُ البأس. {تَكُونُ لَكُمْ} وكان أبو سفيانَ مع العير، وأبو جهل مع النَّفْير. قرأ أبو عمرٍو: (الشَّوْكَة تكُونُ) بإدغامِ التاءِ في التاء (¬1). {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} يظهرُه {بِكَلِمَاتِهِ} بأمرِه إياكم بالقتال. {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} أي: إنّما تَوَدُّون لقاءَ العير، والله يودُّ لقاءَ النَّفْير؛ ليعزَّ الإسلامَ، ويستأصلَ الكفَّارَ بالهلاك. * * * {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}. [8] {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} ليثبتَ الإسلامَ {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} يمحقَ الكفر. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} المشركون. * * * {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}. [9] {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} أي: اذكر إذ تستغيثون {رَبَّكُمْ} واستغاثَتُهم ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (4/ 464)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 438).

أنّهم لما علموا أَنْ لا محيصَ من القتال، أخذوا يقولون: أَيْ رَبّ! انصرْنا على عدوِّكَ، أغثنا يا غياثَ المستغيثين. وعن عمرَ رضي الله عنه: لما نظرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركينَ وهم ألفٌ، وأصحابُه ثلاثُ مئةٍ وبضعةَ عشرَ، دخل العريشَ هو وأبو بكرٍ، واستقبلَ القبلةَ، ومدَّ يديه يدعو: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ" وما زالَ كذلكَ حتّى سقطَ رداؤُه عن منكبيه، فأخذه أبو بكرٍ فألقاه على مَنْكِبيه، ثمّ التزمه من ورائه وقال: "يا نبيَّ الله! كفاكَ مُناشَدَتَكَ رَبَّكَ؛ فإنه سينجزُ لكَ ما وعدكَ" (¬1). {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي} أي: بأني {مُمِدُّكُمْ} مُعينكم. {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (مُرْدَفِينَ) بفتح الدال؛ أي: أردفَ الله المسلمين، وجاء بهم مَدَدًا، وقرأ الباقون: بكسر الدال؛ أي: متتابعين بعضُهم في إثرِ بعض (¬2). وروي أنّه نزلَ جبريلُ في خمس مئةٍ، وميكائيلُ في خمس مئةٍ في صورة الرجالِ على خيلٍ بُلْقٍ عليهم ثيابٌ بِيض، وعلى رؤوسهم عمائمُ بيضٌ قد أَرْخَوا أطرافَها بين أكتافِهم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، عن عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 304)، و"التيسير" للداني (ص: 116)، و"تفسير البغوي" (2/ 199)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 439). (¬3) انظر: "تفسير الطّبريّ" (4/ 83)، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 102 - 103)، و"الدر المنثور" للسيوطي (2/ 310).

[10]

وعن ابنِ عبّاس رضي الله عنهما: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: "هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ" (¬1). وقالَ ابنُ عباسٍ: "كانتْ سيما الملائكةِ يومَ بدرٍ عمائمُ بيضٌ، ويومَ حُنينٍ عمائمُ حمر، ولم تقاتل الملائكةُ في يوم سوى يومِ بدرٍ، وكانوا يكونون فيما سواه عَدَدًا ومَدَدًا" (¬2). وتقدم في سورةِ آلِ عمران أنَّ جبريلَ كان يومَ بدرٍ بعمامةٍ صفراءَ على مثالِ عمامةِ الزبيرِ بن العوَّام. * * * {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}. [10] {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي: الإمدادَ بالملائكة. {إِلَّا بُشْرَى} أي: بشارة لكم بالنصر. {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} فيزولَ ما بها من الوَجَل. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وإمددُ الملائكةِ وكثرةُ العدد لا تأثيرَ لها، فلا تحسبوا النصرَ منها. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (3773)، كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12085).

[11]

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)}. [11] {إِذْ يُغَشِّيكُمُ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (يَغْشاكُمُ) بفتح الياء فعلًا. {النُّعَاسَ} فاعلُه، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (يُغْشِيكُمُ) بضم الياء وكسر الشين خفيفةً (النعاسَ) نصبٌ، وقرأ الباقون: بضم الياء وكسر الشين مشدَّدًا و (النعاسَ) نصبٌ، وهو مفعول، والفاعلُ مضمَرٌ يرجع إلى الله تعالى (¬1). {أَمَنَةً} أمنًا {مِنْهُ} أي: من الله، قال عبدُ الله بنُ مسعود: "النعاسُ في الحرب أمنةٌ من الله، وفي الصّلاةِ وسوسةٌ من الشيطان" (¬2). {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} من الأحداث والجنابة، وذلك أن المسلمين نزلوا يومَ بدر على كثيبٍ أعفرَ تسوخُ فيه الأقدام، وسبقَهم المشركون إلى ماءِ (¬3) بدر، وأصبح المسلمون وقد أجنبَ بعضُهم، وأحدثَ بعضُهم، وعطشوا، فوسوس إليهم الشيطانُ وقال: لو كنتم على الحقِّ، ما كنتم كذا، والمشركون على ماء بدر، فجاء المطرُ فارتووا هم وركابُهم، وتطهروا من الأحداث. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 304)، و"التيسير" للداني (ص: 116)، و"تفسير البغوي" (2/ 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 440). (¬2) رواه عبد الرزّاق في "المصنِّف" (4219)، وابن أبي شيبة في "المصنِّف" (19394)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9451). (¬3) "ماء" زيادة من "ظ".

[12]

{وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أي: وسوستَهُ، وسَمَّى الوسواسَ رجزًا، لأنّه سببُ الرجزِ، وهو العذابُ. {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} أي: يشدَّ عليها بالصبرِ واليقين. {وَيُثَبِّتَ بِهِ} أي: بالماء {الْأَقْدَام} لئلا تسوخَ في الرمل؛ فإنّه لَبَّدَ الأرضَ. * * * {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)}. [12] {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ} الذين أمدَّ بهم المؤمنين. {أَنِّي مَعَكُمْ} بالعونِ والنصرِ. {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} بقتالِكم معهم، وبشارتِكم لهم بالنصر، فكان الملَكُ يمشي بين الصفين في صورةِ الرجلِ يقول للمؤمنين: أَبْشِروا بالنصر؛ فإن الله ناصرُكم. {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} أي: الخوفَ من أوليائي. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (الرُّعُبَ) بضم العين، والباقون: بالإسكان (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 91، 116)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 219)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 236)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 442).

[13]

{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} أي: الرؤوس؛ لأنّها فوق الأعناق. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} هي المفاصلُ والأطرافُ، قال ابنُ الأنباري: ما كانت الملائكةُ تعلم (¬1) كيفَ تقتلُ الآدميين، فعلَّمهم اللهُ تعالى. * * * {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)}. [13] فلما التقى الصفان، انهزم المشركون، وقُتل منهم سبعون، وأُسر منهم سبعون، منهم العباسُ رضي الله عنه. {ذَلِكَ} مبتدأٌ، وخبرُه: {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: جادلوه وجانبوا دينَهُ، والكافُ لخطابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أي: ذلكَ العذابُ الواقعُ بهم بسببِ مشاقَّتِهم اللهَ ورسولَه. {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} والمشاقَّةُ: المخالفةُ. {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وعيدٌ بما أعدَّ لهم في الآخرة بعدَ ما حاق بهم في الدنيا. * * * {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)}. [14] {ذَلِكُمْ} خطابٌ للكفارِ على سبيل الالتفات؛ أي: ذلكم العقابُ. ¬

_ (¬1) في "ت": "تعرف".

[15]

{فَذُوقُوهُ} عاجلًا. {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} أي: واعلموا أن للكافرين آجِلًا في المعادِ. {عَذَابَ النَّارِ}. عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: قيلَ لرسولِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ فرغَ من بدرٍ: عليكَ بالعيرِ ليس دونَها شيء، فناداهم العباسُ وهو أسير (¬1) في وَثاقه: لا يصلحُ، فقال رسول الله: "لمه؟ " قال: لأنّ الله وعدَك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدَك (¬2)، فكره بعضُهم قوله. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)}. [15] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} والتزاحُفُ: تقارُبُ القوم إلى القوم في القتال ببطء، والمعنى: إذا لقيتُم الكافرين وهم في غايةِ الكثرة. {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} أي: لا تولُّوهم ظهورَكم مُنْهزمينَ. * * * {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}. ¬

_ (¬1) "أسير" ساقطة من "ت". (¬2) رواه الترمذي (3080)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأنفال، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 314).

[16]

[16] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظهرَه. {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} بأنْ يريَهم الفَرَّةَ وهو يريدُ الكَرَّةَ. {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} منضَمًّا إلى جماعة يريدون العودَ إلى القتال؛ أي: من انهزمَ إِلَّا على هذه النية. {فَقَدْ بَاءَ} رجعَ {بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ} أي: مُقامُه. {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} هذا إذا لم يزدِ العدوُّ على الضَّعْفِ؛ لقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية [66]. واختلفوا في حكم الآية، فقال قومٌ: هو خاصٌّ بأهلِ بدر، واحتجوا بقوله: (يَوْمَئِذٍ)، قالوا: وهو إشارة إلى يومِ بدرٍ، وأنّه نُسخ حكمُ الآيةِ بآيةِ الضعيف، وبقي الفرارُ من الزحفِ ليسَ كبيرةً، وقد فرَّ النّاسُ يومَ أحد، فعفا الله عنهم، وقال يومَ حنين: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، ولم يعنِّفْ على ذلك، وإليه ذهبَ أبو حنيفةَ، وقال آخرون: حكمُ الآية باقٍ إلى يوم القيامة، فلا يجوزُ الفرارُ إِلَّا إذا زادَ الكفارُ على ضعفِ المسلمينِ، وليس في الآية نسخٌ، والدّليل عليه أنّها نزلت بعدَ القتالِ وانقضاءِ الحرب، وذهابِ اليوم بما فيه، وأمّا يومَ أحد، فإنّما فر النَّاس من أكثرَ من ضعفِهم، ومع ذلك عُنِّفوا، وأمّا يومَ حنين، فكذلك، وإلى هذا ذهب مالكٌ والشّافعيُّ وأحمدُ. * * * {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}. [17] ولما التقى الجمعان ببدر، أخذ - صلى الله عليه وسلم - كَفًّا من حصباءِ الوادي معه

ترابٌ، وألقاه في وجوه القوم وقال: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ"، فلم يبقَ منهم أحدٌ إِلَّا دخل عينيه ومَنْخِرَيه منه شيءٌ، فانهزموا (¬1)، وتمكَّن المسلمون منهم قتلًا وأَسْرًا، فلما رجعوا، قال بعضُهم: قتلتُ فعلتُ، فنزلَ تأديبًا: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} (¬2) بقوَّتكم؛ لضعفِكم عنهم. {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} بنصرِه إياكم. {وَمَا رَمَيْتَ} يا محمدُ رميًا توصلُه إلى أعينِهم، ولم تقدرْ عيه. {إِذْ رَمَيْتَ} أتيتَ بصورةِ الرميِ. {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أي: بلغَ التراب أعينَهم، إذ ليس في وُسع أحدٍ من البشر أن يرميَ كفًّا من الحصى إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عينٌ إِلَّا ويصيبُها منه شيء. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَكِنِ) في الحرفين خفيفةَ النون (اللهُ) رفعٌ، والباقون: (وَلَكِنَّ) مشددةَ النون (اللهَ) نصبٌ (¬3)، ومعنى (لكن) نفيُ الخبرِ الماضي وإثباتُ المستقبل، وقرأ ورشٌ عن نافعٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وخلفٌ: (رَمَى) بالإمالة (¬4). {وَلِيُبْلِيَ} اللهُ {الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} أي: لينعمَ عليهم نعمةً ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1777)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في غزوة حنين. (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 129). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 75)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 276)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 144، 236)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 443). (¬4) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 233)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 236)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 443).

[18]

حسنةً، وهي الغنيمةُ في الدنيا، والجنةُ في الأخرى، والإبلاءُ هنا: الإعطاءَ. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لدعائِكم {عَلِيمٌ} بنياتِكم. * * * {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}. [18] {ذَلِكُمْ} أي: القتلُ والإبلاءُ الحسنُ. {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ} مُضْعِفُ. {كَيْدِ الْكَافِرِينَ} أي: المقصودُ إبلاءُ المؤمنين، وإبطالُ حيلِ الكافرين. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (مُوَهِّنٌ) بفتح الواو وتشديد الهاء وبالتنوين ونصب (كَيْدَ)، وروى حفصٌ عن عاصمٍ: بالتخفيف من غير تنوين وخفضِ (كَيْدِ) على الإضافة، والباقون: بالتخفيف والتّنوين ونصب (كَيْدَ) (¬1). * * * {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}. [19] {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} تستنصِروا، الخطابُ للكفارِ على سبيلِ التهكُّمِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 304)، و"التيسير" للداني (ص: 116)، و"تفسير البغوي" (2/ 206)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 443 - 444).

[20]

بهم، وذلك أنّهم حينَ أرادوا الخروجَ من مكةَ، أخذوا بأستارِ الكعبةِ وقالوا: اللهمَّ انْصر أعلى الجُنْدَين، وأهدى الفئتين، وأكرمَ الحزبين، وأفضلَ الدينين، فنزلت الآية. {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} (¬1) النصرُ. {وَإِنْ تَنْتَهُوا} عن الكفرِ وحربِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} من ذلكَ، فلم ينتهوا، فقُتل أبو جهل وغيرُه من المشركين. {وَإِنْ تَعُودُوا} لحربِه {نَعُدْ} لنصرِه. {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} جماعتُكم {شَيْئًا} من الإغناء. {وَلَوْ كَثُرَتْ} فئتكم. {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصرِ والمعونة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (وَأَنَّ الله) بفتح الهمزة؛ أي: ولأن الله، وقرأ الباقون: بالكسر على الابتداء (¬2). * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)}. [20] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي: ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 131)، و"تفسير البغوي" (2/ 208). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 305)، و"التيسير" للداني (ص: 116)، و"تفسير البغوي" (2/ 209)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 445).

[21]

لا تُعْرِضوا عن الرسول. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثير: (وَلَا تُوَلُّوا) بالمدِّ وتشديد التاء (¬1). {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} مواعظَ القرآنِ. * * * {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}. [21] {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} بآذانِنا. {وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} بقلوبِهم؛ لأنّهم غيرُ مصدِّقين، نزلت في المنافقين. * * * {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}. [22] ثمّ قَبَّحَ حالَ المكذِّبين فقال: أي: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} أي: جميعِ ما دبَّ على الأرض. {الصُّمُّ} عن الحقِّ {الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أَمْرَ الله، سُمُّوا بالدوابِّ؛ لقلةِ انتفاعِهم بعقولهم كما قال: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]. قال ابنُ عبّاس: "هُمْ نَفَرٌ من بني عبدِ الدَّارِ بن قصيٍّ، كانوا يقولون: نحن صُمٌّ بكمٌ عميٌ عما جاءَ به محمدٌ فقُتلوا جميعًا بأُحد، وكانوا أصحابَ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 83)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 276)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 236)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (2/ 446).

[23]

اللواء، ولم يُسلم منهم إِلَّا رجلان: مصعبُ بنُ عميرُ، وسوبيطُ بنُ حرملةَ. * * * {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}. [23] {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} سماعَ التفهُّم والقبولِ. {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} بعدَ أن علمَ أن لا خيرَ فيهم، ما انتفعوا بذلك، و {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عن الإيمان عنادًا. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}. [24] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} الرسولُ. {لِمَا يُحْيِيكُمْ} من العلمِ والدينِ، كان - صلى الله عليه وسلم - دعا أُبيًّا وهو في صلاتِه، فلم يُجبه، ثمّ أتاه فقال: "ما مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبنَي؟! "، فقالَ: كنتُ في الصّلاةِ، فقال: "ألم تسمعْ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ} الآيةَ؟ "، فقال أبي: لا جرمَ لا تدعوني إِلَّا أجبتُ (¬1)، وهذا من خصائِصه - صلى الله عليه وسلم - أنّه إذا دعا إنسانًا في الصّلاةِ يجبُ عليه قطعُها وإجابتُه. ¬

_ (¬1) رواه التّرمذيّ (2875)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، وقال: حسن صحيح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[25]

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} أي: يملك عليه قلبَه فيصرفه كيف شاءُ {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازيكم بأعمالكم. * * * {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}. [25] {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} عذابًا. {لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} يعني: لا تَختصُّ الظالمين، بل تعمُّ، قيل: نزلتْ في عليٍّ وعمارٍ وطلحةَ والزبيرِ، والفتنةُ يومَ الجمل، رُوي أن الزبيرَ بنَ العوامِ قال يومَ الجمل: "ما علمتُ أنا أُرِدْنا بهذهِ الآية إِلَّا اليومَ، وما كنتُ أظنُّها إِلَّا فيمن خوطبَ بها ذلكَ الوقت"، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِفِعْلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِروهُ فَلَا يُنْكِرُونَهُ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِك، عَذَّبَ اللهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ". {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وعيدٌ. * * * {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}. [26] {وَاذْكُرُوا} يا معشرَ المهاجرين. {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} أرضِ مكةَ قبلَ الهجرةِ.

[27]

{تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} يستَلِبَكُم النّاسُ بسرعة؛ لأنّهم كانوا جميعًا عدوًا لكم. {فَآوَاكُمْ} إلى المدينةِ {وَأَيَّدَكُمْ} قَوَّاكم. {بِنَصْرِهِ} إياكم بالأنصارِ وبملائكتِه يومَ بدرٍ. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الغنائمِ؛ لأنّها لم تحلَّ لأحدٍ قبلَكم. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعمَ. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}. [27] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} نزلت في أبي لُبابةَ هارونَ بنِ عبدِ المنذرِ الأنصاريِّ من بني عوفِ بنِ مالكٍ، رُوي: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حاصرَ يهودَ بني قريظةَ خمسًا وعشرينَ ليلةً، فسألوا: الصلحَ كما صالحَ إخوانَهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشّام، فأبى وقالَ لهم: تنزلون على حكمي، فأَبَوا، فقال: على حكمِ سعدِ بنِ معاذٍ، فرضُوا به، وقالوا: أرسلْ إلينا أبا لبابةَ، وكان مناصِحًا لهم؛ لأنّ عيالَه ومالَه كانت عندَهم، فبعثَه إليهم، فقالوا: ما تَرَى هل ننزلُ على حكمِ محمدٍ؟ فأشارَ أبو لبابةَ إلى حلقِه أنّه الذبحُ، قالَ أبو لبابة: فما زالتْ قدمايَ حتّى علمتُ أني خُنتُ اللهَ ورسولَه، فنزلَتْ، فَشدَّ نفسَهُ على ساريةٍ في المسجد، وقال: واللهِ لا أذوقُ طعامًا ولا شرابًا حتّى أموتَ، أو يتوبَ الله عليَّ، فمكثَ سبعةَ أيّام حتّى خَرَّ مغشِيًّا عليه، ثمّ تابَ الله عليه، فقيلَ له: قد تيبَ عليك، فَحُلَّ نفسَكَ، فقال: واللهِ لا أحُلُّها حتّى يكونَ

[28]

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هو الّذي يحلُّني، فجاءه فحلَّه بيده، فقال: إنَّ من تمامِ توبتي أن أهجرَ دارَ قومي الّتي أصبتُ فيها الذنبَ، وأن أنخلعَ من مالي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يُجْزِئُكَ الثُّلُثُ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهِ"، وسيأتي ذكرُ القصةِ في سورةِ الأحزابِ إن شاء الله تعالى، وأصلُ الخون: النقصُ، كما أن أصلَ الوفاء: التمامُ، واستعمالُه في ضدِّ الأمانة؛ لتضمُّنِه إياه. {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} أي: ولا تخونوا أماناتِكم فيما بينكم. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قبحَ الخيانة. * * * {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}. [28] {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأنهم سببُ الوقوع في الإثم والعقابِ، قيل: هذا في أبي لبابة أيضًا؛ لأنّ أموالَه وأولاده كانوا في بني قريظة، فقالَ ما قالَ خوفًا عليهم. {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثر رضا الله عليهم. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}. [29] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} بطاعتِه. {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} فتحًا ونصرًا وتفرقًا بين الحقِّ والباطلِ. {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يمحو ما سلَفَ من ذنوبِكم.

[30]

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ} بالتجاوز والعفوِ عنكم. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تنبيهٌ على أن ما وعده لهم على التقوى تفضلٌ منه وإحسانٌ، وأنّه ليس ممّا يوجبُ تَقَوِّيَهُمْ عليه؛ كالسيدِ إذا وعدَ عبدَه إنعامًا على عمل. * * * {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}. [30] {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} تذكارٌ لما مكرَ قريشٌ به حين كان بمكةَ؛ ليشكرَ نعمةَ الله في خلاصِه من مكرِهم، واستيلائِه عليهم، والمعنى: واذكرْ إذ يمكرون بكَ، وكان ذلك المكرُ أن أكابرَ قريش اجتمعوا في دارِ الندوة بمكةَ مشاورين في الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامِ الأنصار، فاعترضهم إبليسُ في صورة شيخٍ، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخٌ من نَجْدٍ، سمعتُ باجتماعِكم، فأردت أن أحضرَ معكم، ولن تعدموا مني رأيًا ونصحًا، فقالوا: ادخلْ، فدخلَ، فقال أبو البختريِّ: أرى أن تُوثقوه وتحبسوه في بيتٍ وتسدُّوا عليه غيرَ كَوَّةٍ تكونُ منها طعامه وشرابه حتّى يهلكَ، فقال عدوُّ اللهِ إبليسُ: بئسَ الرأيُ ذلكم، يأتيكم من يخليه من أيديكم، وقال هشامُ بنُ عمرٍو من بني عامرِ بنِ لؤيٍّ: أرى أن تُخرجوه من بين أظهُرِكم، فقال عدوُّ الله إبليسُ: بئسَ الرأيُ ذلكم، يذهبُ إلى قوم فيستميلُ قلوبهم، ويسير بهم إليكم، ويخرجُكم من بلادكم، وقال أبو جهلٍ: أرى أن تأخذوا من كلِّ بطنٍ من قريش شابًّا، فَيُعْطى سيفًا صارمًا، فيضربوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ حتّى يُقتل، فإذا تفرَّقَ دمُه في القبائل،

لم يقوَ بنو هاشم على حربهم، فيرضون بالعقلِ، فقال عدوُّ اللهِ إبليسُ: صدقَ هذا الفتى، وهو أجودُكم رأيًا، القولُ ما قال، لا أرى غيرَه، فتفرقوا على رأي أبي جهل، وأنّهم يأتونه ليلًا، فأتى جبريلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك، وأمره ألَّا يبيتَ في مضجعِه، فأمر - صلى الله عليه وسلم - عليًّا أن يبيتَ مكانه، وقال له: "تَسَبَّح بِبُرْدِي؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ"، وباتوا مترصِّدين في خروجِه، ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - فأخذ قبضةً من ترابٍ، فأخذَ اللهُ أبصارَهم عنه، وجعلَ ينثرُ الترابَ على رؤوسِهم وهو يقرأُ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أغلالًا} إلى قولِه {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 8 - 9] ومضى إلى الغارِ من ثورٍ، وهو جبلٌ بمكة هو وأبو بكر، وخلفَ عليًّا بمكة حتّى يؤدِّيَ عنه الودائعَ الّتي قبلَها، وكانت توضَعُ عنده لصدقِه وأمانتِه، فلما أصبح المشركون لم يروه، ورأوا عليًّا في مكانِه، فقالوا: أينَ صاحبُكَ؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره، فلما بلغوا الغارَ، رأوا على بابه نسجَ العنكبوتِ، فقالوا: لو دخلَه لم يكن نسجُ العنكبوتِ على بابه، فمكث فيه ثلاثًا، ثمّ قدمَ المدينةَ، فذلك قولُه تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1). {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك في بيت {أَوْ يَقْتُلُوكَ} بسيوفِهم {أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكةَ {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} يجازيهم جزاءَ مكرِهم. {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} لأنّ مكرَهُ حَقٌّ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السيرة النبوية" لابن إسحاق (1/ 380)، و"تفسير البغوي" (2/ 215)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 25)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 51).

[31]

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}. [31] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا} يعني: النضرُ بنُ الحارثِ. {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا} لأنّه كان يختلفُ تاجرًا إلى الحيرةِ وفارس والروم، ويسمعُ أخبار رستم وإسفنديار، وأحاديثَ العجم، ويتحدث بها، ويمرُّ باليهود والنصارى، فيراهم يقرؤون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكةَ فوجد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي ويقرأ القرآن، ويذكر في قراءته أخبارَ القرون الماضيةِ، فقال النضرُ: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا} (¬1) {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أخبارُ الأممِ الماضية وما سَطَروا في كتبِهم، والأساطيرُ جمعُ أسطورة، وهي المكتوبةُ. * * * {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)}. [32] {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا} أي: ما جاء به محمدٌ. {هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} نزلت في النَّضْرِ حينَ قال: لو شئتُ، لقلتُ مثلَ هذا، إنَّ هذا إِلَّا ما سطرَ الأولون في كتبِهم، فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم-: "وَيْلَكَ! إِنَّهُ كَلَامُ اللهِ"، فقال استهزاء: اللهمَّ إنَّ كان هذا هو الحقَّ من عندِك. {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} عقوبةً على إنكاره، يقال في ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (5/ 1689)، و"تفسير البغوي" (2/ 217)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 54).

[33]

العذاب: أَمْطَرَتْ، وللرحمة: مَطَرَتْ. {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سِواهُ، فقُتل يومَ بدرٍ صبرًا. واختلافُ القراء في الهمزتين من قوله: (مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا) كاختلافِهم فيها (مِنْ خِطْبَةِ النساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ) في سورة البقرة. * * * {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}. [33] {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} أي: المشركينَ عذابَ استئصالٍ، جوابُ سؤالِهم نزولَ الحجارةِ أو العذابِ الأليم. {وَأَنْتَ فِيهِمْ} لأنَّ العذابَ إذا نزلَ، عَمَّ، ولهذا كان العذابُ إذا نزلَ بقومٍ يؤمرُ نبيُّهم بالخروجِ بالمؤمنين منهم من بينِهم، واللامُ في (لِيُعَذِّبَهُمْ) لتأكيدِ النَّفْي؛ أي: لولا وجودُك بين ظَهْرانَيْهم، لَعُذِّبوا. {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: وفيهم من سبقَ له من اللهِ أنّه يصيرُ من أتباعِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ أبي سفيانَ، وصفوانَ بنِ أميةَ وعكرمةَ بنِ أبي جهلٍ، وغيرِهم، وقيلَ غيرُ ذلكَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لأُمَّتِي: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَإِذَا مَضَيْتُ، تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) رواه التّرمذيّ (3082)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأنفال، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. وقال حديث غريب، وإسماعيل بن مهاجر يضعف في الحديث.

[34]

{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}. [34] ثمّ تَوَعَّدهم بعذابِ الدنيا فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ} أي: وكيف لا يُعَذَّبون. {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: عن الطّواف؛ لأنّهم كانوا يقولون: نحنُ أولياءُ البيتِ، فنصدُّ من نشاءُ، ونترك من نشاءُ، فنزل: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} أي: أولياءَ البيت {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} أي: ليس أولياءَ البيتِ. {إِلَّا الْمُتَّقُونَ} الذين يتقونَ الشركَ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون} أنْ لا ولايةَ لهم عليه. * * * {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}. [35] {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} أي: دعاؤهم، أو ما يسمونه صلاة. {إِلَّا مُكَاءً} إِلَّا صفيرًا بالأفواه، وهو أن يشبكَ الأصابعَ وينفخَ فيها. {وَتَصْدِيَةً} تصفيقًا بإحدى اليدين على الأخرى، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى، صَفَّروا وصفَّقوا عن يمينه وشماله؛ ليخلِطوا عليه قراءتَه، ويرون أنّهم يصلُّون أيضًا. {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} يعني: القتلَ والأسرَ يومَ بدرٍ. {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} اعتقادًا وعملًا.

[36]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}. [36] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. أي: ليصرفوا عن دين الله، نزلَتْ في المطعِمين يومَ بدرٍ، وكانوا اثني عشرَ رجلًا من قريش، وهم أبو جهلِ بنُ هشام، وعتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ بنِ عبدِ شمس، ونبيهٌ ومنبهٌ ابنا الحجاج، وأبو البختريِّ بنُ هشام، والنضرُ بنُ الحارثِ، وحكيمُ بنُ حزام، وأُبيُّ بنُ خلف، وزمعةُ بنُ الأسود، والحارثُ بنُ عامرِ بنِ نوفلٍ، والعباسُ بنُ عبدِ المطلب، وكان يطعم كلُّ واحد منهم كلّ يومٍ عشر جُزُر (¬1). {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ} عاقبةُ النفقةِ على حربِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ببدرٍ يومَ القيامةِ. {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي: يتحَسَّرون على ذلك. {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} ولا يظفرون. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} منهم. {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} لأنّ منهم من أسلمَ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 132)، و"تفسير البغوي" (2/ 220).

[37]

{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}. [37] {لِيَمِيزَ} ليبينَ {اللَّهُ الْخَبِيثَ} الكافرَ {مِنَ الطَّيِّبِ} المؤمن، قرأ يعقوبُ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (لِيُمَيِّزَ) بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثّانية، والباقون: بفتح الأولى وكسر الميم وإسكان الثّانية (¬1). {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} أى: فوقَ بعضٍ. {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} فيجمَعَه متراكبًا، ومنه السحاب المركومُ، وهو المجتمعُ الكثيفُ. {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} كلَّه. {أُولَئِكَ} الذين أنفقوا أموالهم. {هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأنّهم خسروا أنفسَهم وأموالَهم. * * * {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)}. [38] {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} عن الكفر. {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} من ذنوبهم قبلَ الإسلام. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 306)، و "التيسير" للداني (ص: 92، 116)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 448).

[39]

{وَإِنْ يَعُودُوا} إليه {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} بأن يَهْلِكوا إذا لم يُؤْمنوا، و (سُنَّتُ) رُسمت بالتاء في خمسةِ مواضعَ، وقفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ (¬1). * * * {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)}. [39] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} شِرْكٌ {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} أي: جميعُ الأديان {لِلَّهِ} خالصًا لا شريكَ له. {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن الكفرِ. {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازي كلًّا بعمله. قرأ رُويسٌ عن يعقوبَ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬2). * * * {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}. [40] {وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الإيمانِ، وعادوا إلى قتالِ أهلِه. {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ} حافظُكم وناصرُكم عليهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 233)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 449). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 221)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 276)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 237)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (2/ 449).

[41]

{نِعْمَ الْمَوْلَى} لا يضيعُ من تولاه. {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ولا يُغْلَب من ينصرُه. * * * {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}. [41] {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} أخذْتُم من مالِ حربي قهرًا بقتال. {مِنْ شَيْءٍ} ممَّا يقعُ عليه اسمُ الشيء، حتّى الخيط. {فَأَنَّ} فتحًا خبرُ مبتدأ؛ أي: فالحكم أن {لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} وأُضيفَ المالُ إلى اسمِ اللهِ تشريفًا، ليسَ المرادُ منه أن سهمًا من الغنيمة لله مفردًا، فإن الدنيا والآخرة كلَّها لله -عَزَّ وَجَلَّ-. {وَلِذِي الْقُرْبَى} قسمٌ، والمراد: أقاربه - صلى الله عليه وسلم - بنو هاشم، وبنو المطلب، دون بني عبد شمس وبني نوفل، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَشَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، مَا فَارَقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ" (¬1). {وَالْيَتَامَى} جمعُ يتيمٍ، وهو صغيرٌ فقيرٌ مسلمٌ لا أبَ له. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2980)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، والنسائي (4137)، كتاب: قسم الفيء، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه-. ورواه البخاريّ (3311)، كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- مختصرًا.

{وَالْمَسَاكِينِ} وهم أهلُ الفاقةِ من المسلمينَ. {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو المسافرُ البعيدُ عن مالِه، فكأنّه قال: فإن للهِ خمسَهُ يُصرفُ إلى هؤلاء الأَخَصِّينَ به. {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} متعلّقٌ بمحذوفٍ دلَّ عليه (واعلموا)؛ أي: إنَّ كنتم آمنتم بالله، فاعلموا أنّه جُعل الخمسُ لهؤلاء، فسلموه إليهم، واقنعوا بالأخماسِ الأربعةِ الباقية، فإن العلّمَ العمليَّ إذا أُمر به، فالمراد به العملُ، وليس المراد منه العلمَ المجردَ. {وَمَا أَنْزَلْنَا} أي: وبما أنزلنا {عَلَى عَبْدِنَا} محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من الآياتِ والملائكةِ والنصرِ. {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يومَ بدرٍ، فإنّه فرقَ فيه بين الحقِّ والباطل. {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} المسلمون والكفارُ. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من نصرِ القليل على الكثيرِ. واتفق الأئمةُ على أن الغنيمةَ تقسَمُ خمسةَ أخماس، أربعةُ أخماسٍ منها لمن قاتلَ عليها على ما يأتي بيانُه، واختلفوا في الخمس الباقي فيمن يقسم؟ فقال أبو حنيفة: يقسمُ على ثلاثةِ أسهمٍ: سهمٌ لليتامى، وسهمٌ للمساكين، وسهمٌ لأبناء السبيل، يدخلُ فقراءُ ذوي القربى فيهم دونَ أغنيائهم، فأمّا سهمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهو خمسُ اللهِ ورسوله، وقد سقطَ بموتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كما سقط الصَّفِيُّ المختَصُّ به، وهو ما كانَ يختارُ قبلَ القسمةِ؛ كجاريةٍ وعبدٍ وثوبٍ وسيفٍ ونحوِه، وسهمُ ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمنِه عليه السّلام بالنصرة، وبعدَه فلا سهمَ لهم، وإنّما يستحقونه بالفقر خاصةً، ويستوي فيه ذكرُهم وأنثاهم، وقال مالك: هذا الخمسُ لا يستحَقُّ بالتعيينِ

بشخصٍ دونَ شخصٍ، ولكنِ النظرُ فيه للإمام يصرفُه فيما (¬1) يرى، وعلى من يرَى من المسلمين، ويعطي القرابةَ من الخمسِ ومن الفيءِ والخراجِ والجزيةِ بالاجتهاد، وقال الشّافعيّ وأحمدُ: يُقسمُ الخمسُ على خمسةِ أسهمٍ: سهمٌ كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحكمُه باقٍ، فيصرَفُ بعده لمصالح المسلمين؛ كالثغورِ وأرزاقِ القضاةِ والعلماء، يقدَّمُ الأهمُّ فالأهمُّ. والثاني لبني هاشمٍ والمطلبِ، يشتركُ فيه الغنيُّ والفقيرُ، ويفضَّلُ الذكرُ على الأنثى كالإرث، والثالثُ لليتامى، والرّابعُ للمساكين، والخامسُ لأبناء السبيل، ويقسم أربعةُ أخماس الغنيمةِ بينَ الغانمين الذين شهدوا الوقعةَ بنيةِ القتال. واختلفوا في قسمه، فقال أبو حنيفةَ، للفارسِ سهمان، وللراجل سهمٌ، وقال الثلاثةُ وأبو يوسفَ ومحمدٌ: للفارسِ ثلاثةُ أسهمٍ، وللراجلِ سهمٌ، وقال أبو حنيفة ومالكٌ والشّافعيُّ: لا يُسهَمُ لأكثر من فرسٍ واحدٍ، وقال أحمدُ وأبو يوسفَ: يُسْهَمُ لفرسينِ، ولا يُسهم لغيرِ الخيل بالاتفاق، واختار الخرقيُّ من أصحابِ أحمدَ: أنَّ من غزا علي بعير لا يقدرُ غيره، قُسمَ له ولبعيرِه سهمان. واختلفوا في السَّلَبِ، فقال أبو حنيفة: هو غنيمةٌ للكلِّ إِلَّا أن يجعلَه الإمامُ للقاتل، فينقطع حقُّ الباقين عنه بالتنفيل، وقال مالك: إذا نفله ذلك الإمام بضرب من الاجتهاد، فيكونُ له من الخمسِ دونَ جملةِ الغنيمة، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: السَّلَبُ حقُّ القاتلِ يستحقُّه من رأسِ الغنيمةِ، سواءٌ قاله الإمامٌ أو لم يقلْه، فتخرجُ الأسلابُ من الغنيمةِ، ومنها الدابةُ وآلتها (¬2)، ¬

_ (¬1) في "ن": "كيفما". (¬2) في "ن": "وآلاتها".

وقال الشّافعيّ: والنفقةُ، خلافًا لأحمدَ، ويُعطَى السلبُ للقاتل إذا قتلَه حالةَ الحربِ منهمكًا عليه، ثمّ يُخَمَّسُ بعدَ ذلك. واختلفوا في النَّفَلِ، وهو الزيادةُ على السهمِ للمصلحةِ، من أين يعطى؟ فقالَ أبو حنيفةَ ومالكٌ: النفلُ مواهبُ الإمامِ من الخمسِ على ما يرى من الاجتهاد، وليس في الأربعة أخماسٍ نفلٌ، وقال الشّافعيُّ: النفلُ من خمسِ الخمسِ المرصَدِ للمصالح، وقال أحمدُ: يخرج الخمس، ثمّ ينفلُ الإمامُ من الأربعةِ أخماسٍ، ثمّ يقسمُ الباقيَ بينَ النَّاس. واختلفوا في حكم الأرضين المغنومةِ، فقال أبو حنيفةَ: الإمامُ بالخيارِ، إن شاءَ قسمها بينَ الغانمين، وإن شاء أَقرَّ أهلَها عليها، ووضعَ عليهم وعلى أراضيهم الخراجَ، وإن شاءَ صرفَ أهلَها عنها، وأقرَّ غيرَهم فيها، وضربَ عليه الخراجَ، وقال مالك: حكمُها كالفيء تصيرُ وقفًا لمصالحِ المسلمينِ بنفسِ الظهور عليها، وقال الشافعي: حكمُها حكمُ المنقول على ما تقدَّمَ من التخميسِ والقسمةِ بينَ الغانمين، وقال أحمدُ: يُخير الإمامُ بين قسمِها كالمنقول، وبينَ وقفِها للمسلمين، ويضربُ عليها خراجًا يؤخَذُ ممّن هي في يدِه من مسلمٍ وذميٍّ، ويلزُمه فعلُ الأصلحِ. واختلفوا في مصرِفِ الفيءِ، وهو ما أُخذ من مالِ كافرٍ بحقٍّ بلا قتالٍ، كالجزيةِ والخراجِ، وما تركوه فزعًا، ومالُ من ماتَ منهم ولا وارثَ له، ولو مرتدًا، فقال الشّافعيُّ: يخمَّسُ كالغنيمةِ، والأربعةُ أخماسٍ للمقاتلةِ الذين أُثبتت أسماؤهم في ديوانِ الجهاد، ويصرَفُ بعضه في إصلاح الثغورِ والسلاحِ، وقال الثلاثةُ: لا يخمَّسُ، وجميعُه لمصالح المسلمين.

[42]

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}. [42] {إِذْ أَنْتُمْ} (يوم الفرقان)، أي: إذ أنتم نُزولٌ يا معشرَ المسلمين. {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي: بشاطئ الوادي الأدنى؛ أي: الأقربِ إلى جهةِ المدينةِ، و (الدنيا) تأنيثُ الأدنى. {وَهُمْ} يعني: المشركينَ. {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} البُعْدَى عن المدينة ممّا يلي مكةَ، تأنيثُ الأقصى. قراْ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: بالمدِّ في الحرفينِ بكسرِ العين، والباقون: بضمِّها، وهما لغتانِ كالكُسوةِ والكِسوةِ (¬1). {وَالرَّكْبُ} هم الذين كانوا مع العير: أبو سفيانَ وأصحابُه. {أَسْفَلَ مِنْكُمْ} بالساحلِ على ثلاثة أميالٍ من بدرٍ. {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ} أنتم وأهلُ مكةَ على موعدٍ تلتقونَ فيه للقتال. {لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} لأنّهم خرجوا في طلبِ العير، فصادفوا النَّفْيرَ من غيرِ ميعادٍ؛ لأنّ الكفارَ خرجوا ليذُبُّوا عنها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 306)، و"التيسير" للداني (ص: 116)، و"تفسير البغوي" (2/ 227)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 451).

[43]

{وَلَكِنْ} جَمَعَكُمْ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} من نصرِ أوليائِه، وقهرِ أعدائِه. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} أي: ليموتَ مَنْ ماتَ. {عَنْ بَيِّنَةٍ} عن حُجَّةٍ قامتْ عليه. {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ} ويعيشَ من عاشَ. {عَنْ بَيِّنَةٍ} عن حجَّةٍ واضحةٍ شاهدَها؛ فكان وقعةَ بدرٍ من الآياتِ الواضحة، وقيل: المرادُ بالهلاكِ والحياةِ: الكفرُ والإيمانُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ، وخلفٌ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (مَنْ حَيِيَ) بياءين الأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، واختلِف عن قنبل راوى ابن كثيرٍ، والباقون: بواحدة مفتوحة مشددة (¬1). {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} لدعائِكم {عَلِيمٌ} بنياتِكم. * * * {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)}. [43] {إِذْ} أي: واذكر إذ {يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ} في نومِك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رآهم في نومه {قَلِيلًا} ليقدموا عليهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 307)، و"التيسير" للداني (ص: 116)، و"تفسير البغوي" (2/ 227)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 452).

[44]

{وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا} قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (أَرَاكَهُمْ) بالإمالة، واختلِفَ عن ورشٍ (¬1). {لَفَشِلْتُمْ} جَبُنْتُم {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي: اختلفتم في أمرِ حربِهم. {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} من الفشلِ والتنازعِ. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يعلمُ ما سيكون فيها، وما تغيرَ من أحوالها. * * * {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}. [44] {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} أي: يبصِّرُكُم إياهم. {إِذِ الْتَقَيْتُمْ} أي: وقتَ اللقاءِ. {فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} حال؛ لتقدموا عليهم. {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} ليقدموا عليكم. {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} كائنًا من إعزازِ الإسلامِ وأهلِه (¬2)، وإذلالِ الشركِ وحزبِه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 234)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 453). (¬2) في "ش": "وأهل مكّة".

[45]

ويعقوبُ: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1). * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}. [45] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} جماعةً محاربين. قرأ أبو جعفر: (فِيَةً) بفتح الياء من غير همزٍ (¬2) {فَاثْبُتُوا} لقتالِهم. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} وادعوه بالنصرِ. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي تظفروا بمرادِكم. * * * {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}. [46] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا} باختلافِ الآراء. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلَا تنازَعُوا) بالمدِّ وتشديدِ التاء (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 234)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 276)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 132، 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 453). (¬2) في "ت": "همزة". وانظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 453). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 83)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[47]

{فَتَفْشَلُوا} تَجْبُنوا وَتَضْعُفوا. {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} دولتُكم، والريحُ هنا كنايةٌ عن نفاذِ الأمرِ، تقول العربُ: هَبَّتْ ريحُ فلانٍ: إذا أقبلَ أمرُه على ما يريد. {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ" (¬1). * * * {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}. [47] {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} هم النفيرُ، خرجوا لنصرِ العيرِ، وكانت قد نجتْ مع أبي سفيانَ عن طريقِ الساحلِ، فلم يرجِعوا. {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} لِيُثْنوا عليهم بالشجاعةِ والسماحةِ؛ لأنّهم قالوا: لا نرجع حتّى نشربَ الخمورَ، وننحرَ الجزورَ، وتعزفَ علينا القَيْناتُ، وتسمعَ بنا العربُ، فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فوافَوا بدرًا، فَسُقُوا كؤوسَ المنايا مكانَ الخمْرِ، وناحت عليهم النوائحُ مكانَ القَيْنَاتِ، فنهى الله سبحانَه عن التشبُّهِ بهم في الخيلاءِ، وأمرَ بإخلاصِ النيةِ. ¬

_ = (2/ 276)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 453). (¬1) رواه البخاريّ (2861)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا تمنوا لقاء العدو، ومسلم (1742)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللِّقاء، عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-.

[48]

قرأ أبو جعفرٍ: (وَرَيَاءِ النَّاسِ) بفتحِ الياءِ بغيرِ همزٍ (¬1). {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وعيدٌ وتهديدٌ لمن بقيَ من الكفارِ، ونفوذ القدرِ فيمن مضى بالقتل. * * * {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}. [48] {وَإِذْ} أي: واذكر إذ {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} بأن شَجَّعهم على لقاءِ المسلمين، لأنّ إبليسَ جاءهم في صورة سُراقةَ بنِ مالكٍ الكِنانيِّ، وهو سيدٌ من ساداتهم. قرأ أبو عمرٍو، وهشامٌ، والكسائيُّ، وخلادٌ: (وَإِذ زيَّنَ) وشبهَه بإدغامِ الذالِ في الزاي، والباقون: بالإفراد (¬2). {وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} أي: مُجيرٌ. {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} التقى الجمعان، ورأى الملائكةَ. {نَكَصَ} رجعَ القَهْقَرى. {عَلَى عَقِبَيْهِ} على قَفاه هاربًا، فلزمَهُ الحارثُ بنُ هشام وقالَ: أتخذلُنا؟ فضربَ صدرَه وانهزمَ. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 454). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 234)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 454).

[49]

{وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} أي: من جوارِكم. {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} رأى الملائكةَ وجبريلَ يقودُ فرسَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - به. {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} أن يُهلكني {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} قيل: انقطعَ الكلامُ عند قوله: {أَخَافُ اللَّهَ}، ثمّ يقول الله (¬1): {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. قرأ الكوفيونَ، وابن عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي أَرَى) (إِنِّي أَخَافُ) بإسكان: الياء فيهما، والباقون: بفتحها (¬2). * * * {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}. [49] {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} في المدينةِ {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم المشركون: {غَرَّ هَؤُلَاءِ} يعنون (¬3): المؤمنينَ. {دِينُهُمْ} أي: توهَّموا أن يُنْصروا بسببِ ديِنهم، فخرجوا وهم ثلاثُ مئةٍ وبضعةَ عشرَ إلى زهاءِ ألفٍ. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} جوابٌ لهم {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالبٌ لا يذلُّ من استجاره {حَكِيمٌ} يفعلُ بحكمتِه ما يستبعدُه العقلُ. ¬

_ (¬1) "الله" لفظ الجلالة لم يرد في "ش". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 310)، و"التيسير" للداني (ص: 117)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 277)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (2/ 454 - 455). (¬3) في "ت": "يعني".

[50]

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)}. [50] {وَلَوْ تَرَى} يا محمدُ {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} ببدرٍ. قرأ ابنُ عامرٍ: (تَتَوَفَّى) بالتاء على التأنيث، والباقون: بالياء على التذكير (¬1). {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ظهورَهم بالسِّياطِ عندَ الموت. {وَذُوقُوا} أي: وتقول لهم الملائكة: ذوقوا {عَذَابَ الْحَرِيقِ}، وهذا مقدمةٌ لعذابِ النارِ؛ أي: لو رأيتَ ذلكَ، لرأيتَ أمرًا عظيمًا. * * * {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}. [51] {ذَلِكَ} الضربُ والعذابُ. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي بسببِ ما كَسَبتم من الكفر. {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ظَلَّامٌ للتكثيرِ لأجلِ العبيدِ. * * * {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)}. [52] {كَدَأْبِ} أي: دأبُ هؤلاء {آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} تفسيرًا لدأبِهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 307)، و"التيسير" للداني (ص: 116)، و"تفسير البغوي" (2/ 181)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 455).

[53]

{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} كما أخذَ هؤلاء {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لا يغلبُه في دفعِه شيءٌ. * * * {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)}. [53] {ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما حلَّ بهم {بِأَنَّ اللَّهَ} أي: بسببِ أن الله. {لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} مُبدلًا إياها بالنقمةِ. {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} يبدلوا ما بهم من الحالِ إلى حالٍ أسوأَ؛ كالتلبُّسِ بالمعاصي أو الكفرِ الّذي يوجبُ عقابَهم، فإذا فعلوا ذلك، غَيَّرَ اللهُ نعمتَه عليهم بنقمتِهِ منهم، كما أنعمَ على قريشٍ بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فكفروا، فغير الله تلكَ النعمةَ بأن نقلَها إلى غيرهم من الأنصارِ، وأحلَّ بهم عقوبتَه. {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما يقولون {عَلِيمٌ} بما يفعلون. * * * {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)}. [54] {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي: كصُنْعِهم. {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كفارِ الأممِ. {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أهلكنا بعضَهم بالرجفة، وبعضَهم بالخسف، وبعضَهم بالمسخ، وبعضَهم بالريح، وبعضَهم بالغرق، فكذلك أهلَكْنا كفارَ بدرٍ بالسيفِ لما كذَّبوا بآياتِ ربهم.

[55]

{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} يعنى: الأولينَ والآخِرينَ. * * * {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)}. [55] {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أصرُّوا على الكفر. {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} فلا يُتَوَقَّعُ منهم إيمان. * * * {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)}. [56] {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} بدلٌ من الذين كفروا، وهم بنو قريظةَ: كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابُه؛ أي: أخذتَ منهم العهدَ. {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} عاهدوا فيها؛ لأنّهم عاهدوه - صلى الله عليه وسلم - ألَّا يُعينوا عليه، فأعانوا المشركينَ بالسلاح على قتالِه، وقالوا: نَسينا وأخطأنا، ثمّ عاهدوا ثانيةً، فأعانوا الكفارَ يومَ الخندق، وسارَ ابن الأشرفِ إلى مكةَ، فعاهدَ الكفارَ. {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} اللهَ. * * * {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}. [57] {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} تظفرن بهم. {فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} المعنى: افعلْ بهم فِعْلًا من القتل

[58]

ونحوِه يفرِّق به مَنْ وراءهم من أعدائِك؛ لأنك أذا نكلتَ بهؤلاء، تفرَّق الأعداءُ، ولم يقدموا عليك. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يَتَّعظون فلا يحاربونكَ. * * * {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)}. [58] {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} بنقضِ عهدٍ. {فَانْبِذْ}: اطرحْ عهدهم. {إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي: بحيث تستوون أنت وهم في العلم بنقضِه، لئلا تُتَّهَم بخيانة. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ بَينَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَشُدَّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُها، أَوْ يُنْبَذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ" (¬1). * * * {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)}. [59] {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} أي: فاتوا، الخطابُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الذين انهزموا من المشركين ببدر. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يَحْسَبَنَّ) بالغيبِ وفتحِ السين؛ أي لا يحسبنَّ الذين ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2759)، كتاب: الجهاد، باب: في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه، والترمذي (1580)، كتاب: السير، باب: ما جاء في الغدر، وقال: حسن صحيح، عن سليم بن عامر -رضي الله عنه-.

[60]

كفروا أنفسَهم سابقينَ فائتينَ من عذابنا، وقرأ الباقون: بالخطابِ (¬1) على المعنى الأوّل. {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} لا يجدون طالبَهم عاجزًا عن إدراكِهم. قرأ ابنُ عامرٍ: (أَنَّهُمْ) بفتح الألف؛ بمعنى: لأنّهم، أي: لا يحسبن عليهم النجاة؛ لأنّهم لا ينجون، والباقون: بكسر الألفِ على الابتداء (¬2). * * * {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)}. [60] {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} أي: اتخذوا أيها المؤمنون لنِاقِضي العهد. {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} كل ما يُتَقَوَّى به من آلةِ الحربِ. {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} أي: اقتناؤها وربطُها في الثغورِ للغزوِ (¬3). {تُرْهِبُونَ} تُخيفونَ {بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} كفارَ مكةَ. قرأ رُويسٌ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 317)، و"التيسير" للداني (ص: 117)، و"تفسير البغوي" (2/ 233 - 234)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 277)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 457). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 308)، و"تفسير البغوي" (2/ 234)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 277)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 238)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 458). (¬3) "للغزو" ساقطة من "ت".

[61]

عن يعقوبَ: (تُرَهِّبُونَ) بفتح الراء وتشديد الهاء، من رَهَّبَ، والباقون: بإسكان الراء وتخفيف الهاء، من أَرْهَبَ (¬1). {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} من غيرهم من الكفرةِ، قيل: هم المنافقون، وقيل: هم اليهودُ، وقيل: الفرسُ {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} لا تعرفون أعيانَهم و {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أجرُه. {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} بنقصِ أُجورِكم. * * * {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}. [61] {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} مالُوا للصلح. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: بكسر (السِّلْم)، والباقون: بالفتح، وهما لغتاِن بمعنًى واحد (¬2). {فَاجْنَحْ لَهَا} أي: إن صالحوا، فصالحهم، وتأنيثُ الضمير، لأنَّ السلمَ بمعنى المسالمةِ {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ثِقْ به. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالِك {الْعَلِيمُ} بأحوالك. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 277)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 238)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 459). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 308)، و"التيسير" للداني (ص: 117)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 156، 238)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 460 - 461).

[62]

{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)}. [62] {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} يكيدوك بالمصالحةِ. {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} كافيكَ من خدعهم. {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ} قَوَاكَ. {بِنَصْرِهِ} إياكَ بالملائكةِ. {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} الأنصارِ. * * * {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}. [63] {وَأَلَّفَ} جمعَ {بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: بينَ الأوسِ والخزرجِ، معَ ما كان بين الفريقين من العداوةِ، فألَّفَ الله تعالى قلوبَهم على الإسلام، ورَدَّهم متحابين في الله، وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بقدرتِه البالغةِ {إِنَّهُ عَزِيزٌ} تامُّ القدرةِ {حَكِيمٌ} فَعَّالٌ لما يريدُ. * * * {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}. [64] {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} كافيكَ. {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} أي: وحسبُ منِ اتَّبَعَكَ. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} نزلتْ في البيداءِ في غزوةِ بدرٍ.

[65]

{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)}. [65] {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: حُثَّهم. {عَلَى الْقِتَالِ} أبلغَ حَثٍّ. {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} رجلًا {صَابِرُونَ} محتسبون. {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} من عدوِّهم ويَقْهَروهم. {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} صابرة محتسبة. قرأ الكوفيون، والبصريان: (يَكُنْ) بالياءِ على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (¬1). {يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} دينَ الله، ولا ثبَاتَكُمْ، لفظُهُ شرطٌ، ومعناهُ أمرٌ؛ أي: ليقاتلِ العشرونَ منكم مئتين، والمئةُ ألفًا. * * * {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}. [66] وكان هذا يومَ بدرٍ، فرضَ اللهُ على الرجلِ الواحدِ من المؤمنين قتال عشرةٍ: عن الكافرين، فثقلَتْ على المؤمنين، فخفَّفَ الله عنهم، فنزل: ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة.

[67]

{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًاَ} ضعفَ البدن. قرأ أبو جعفرٍ: (ضُعَفَاءَ) بفتح العين والمدِّ وبالهمزةِ مفتوحة نصبًا، وعاصمٌ، وحمزةُ، وخلفٌ: (ضَعْفًا) بفتح الضاد وإسكان العين، والباقون: بضمِّ الضاد وإسكان العين، وكلُّهم بالتنوينِ من غيرِ مدٍّ ولا همزٍ سوى أبي جعفرٍ (¬1). {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} من الكفار. وقرأ الكوفيون: (يَكُنْ) بالياء، والباقون: بالتاء على التأنيث (¬2). {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين} بالنصرِ والمعونةِ فردَّ من العشرةِ إلى الاثنين، فلا يجوزُ للواحدِ الفرارُ من اثنين إِلَّا متحرِّفًا لقتال، أو متحَيِّزًا إلى فئةٍ، كما تقدَّم ذكرُ الحكمِ فيه عقبَ تفسيرِ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]. * * * {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)}. [67] {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} قرأ أبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (تَكُونَ) بالتاء مؤنثًا؛ لتأنيثِ الجماعة، وأبو جعفرٍ وحدَه قرأ: (أُسَارَى) بضم الهمزة وبألف بعد السين، والباقون: بالياء مذكرًا لتذكير ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 308)، و"التيسير" للداني (ص: 117)، و"تفسير البغوي" (2/ 238)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 238 - 239)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 461 - 462). (¬2) المصادر السابقة.

الجمع، و (أَسْرَى) كأبي عمرٍو، ويعقوبَ: بفتح الهمزة وإسكان السين من غير ألف بعدَها (¬1)، وأمالَ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (أَسْرَى)، واختلِفَ عن ورشٍ (¬2). {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} يبالغَ في قتلِ المشركينَ وأسرِهم حتّى يُذلَّ الكفرُ ويُعَزَّ الإسلامُ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} حُطامَها بأخذِكم الفداءَ. {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} يريدُ لكم ثوابَها. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} يُغْلِبُ أولياءه على أعدائِه. {حَكِيمٌ} يعلمُ ما يليقُ بكلِّ حالٍ ويخصُّه بها، كما أمر بالإثخانِ، ومنعَ عن الفداء حين كانت الشوكةُ للمشركين، وخَيَّرَ بينه وبين المنِّ لما تحولتِ الحالُ، وصارت الغلبةُ للمؤمنين. روي أنّه عليه الصّلاة والسلام أتي يومَ بدرٍ بسبعين أسيرًا، فيهم العباسُ، وعقيلُ بنُ أبي طالب، فاستشارهم فيهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: "قومُكَ وأهلكَ، استَبْقِهم لعلَّ اللهَ يتوبُ عليهم، وخذْ منهم فديةً تقَوِّي بها أصحابَكَ"، فقال عمرَ رضي الله عنه: "اضربْ أعناقَهم؛ فإنهم أئمةُ الكفر، وإن الله أغناكَ عن الفداء، فمكنِّي من فلان، نسيبٍ له، ومكِّنْ عليًّا وحمزةَ من أَخَويهما فلنضربْ أعناقَهم"، فلم يهوَ ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 309)، و"التيسير" للداني (ص: 117)، و"تفسير البغوي" (2/ 238)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 277)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 239)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 462 - 463). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 235)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 239)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 463).

[68]

"إِنَّ اللهَ لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإنَّ اللهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إِبراهِيمَ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ قَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، فَخَيَّرَ أَصْحَابَه، فأخذوا الفداءَ، وكانَ الفداءُ لكلِّ أسيرٍ أربعينَ أوقيةً، والأوقيةُ أربعونَ درهمًا، ولم يكنْ من المؤمنين أحدٌ ممّن حضرَ إِلَّا أحبَّ الغنائمَ إِلَّا عمرَ بنَ الخطابِ، فإنّه أشارَ بقتلِ الأسرى، وسعدُ بنُ معاذٍ قال: "يا نَبِيَّ اللهِ كانَ الإثخانُ في القتلِ أَحَبَّ إليَّ من استبقاءِ الرجالِ"، فنزلتِ الآية (¬1). * * * {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)}. [68] فدخلَ عمرُ رضي الله عنه على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو وأبو بكرٍ رضي الله عنه يبكيان، فقال: يا رسولَ الله! أخبرني، فإنْ أجد بكاءً بكيتُ، وإلَّا تباكَيْتُ، فقال: أَبْكِي عَلَى أَصْحَابِكَ فِي أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ شَجَرَةٍ قَريبَةٍ منهُ (¬2). {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي: حكمٌ سبقَ في اللوحِ المحفوظِ أنه لا يؤاخذُ على خطأٍ. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 383)، وابن أبي شيبة في "المصنِّف" (36690)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 321)، وغيرهم عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. (¬2) رواه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، عن عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-.

[69]

{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ}. * * * {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)}. [69] رُوي أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، مَا نَجَا مِنهُ غَيرُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ" (¬1) فلما نزلت هذه الآية، أمسكوا عما أخذوه من الفدية، فنزل: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} من الفدية؛ فإنها من جملة الغنائم. {حَلَالًا} أي: أكلًا حلالًا، وفائدتُه إزاحةُ ما وقعَ في نفوسهم منه بسببِ تلكَ المعاتبةِ، ولذلك وصفَه بقولِه: {طَيِّبًا} قال - صلى الله عليه وسلم -: "أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأحَدٍ قَبْلِي" (¬2). {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مِخالفتِه. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما صدرَ منكم {رَحِيمٌ} بتوبتِه عليكم. * * * {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)}. [70] {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ؛ (الأُسَارَى) بضمِّ الهمزةِ وفتح السين وبعدَها ألفٌ على وزنِ فُعالى، وقرأ الباقون: (الأَسْرَى) بفتحِ الهمزة وإسكانِ السين من غيرِ ألفٍ بعدَها على وزن فَعْلَى (¬3)، وهم على أصولِهم في الإمالة كما تقدَّمَ ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطّبريّ في "تفسيره" (10/ 48). (¬2) تقدّم تخريجه. (¬3) وقد تقدّم هذا عنهم قريبًا.

[71]

قريبًا (¬1) أي: قلْ للأسارى الذين ملكتَهم وأخذْتَ منهم الفداء: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} خلوصَ إيمان. {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} من الفداءِ بأن يُضَعِّفَه لكم في الدنيا، ويثيبَكم عليه في الأخرى. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} رُوي أنّها نزلَتْ في العباس رضي الله عنه، كلَّفَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفديَ نفسَه وابني أَخَويه عقيلَ بنَ أبي طالب ونوفلَ بنَ الحارث، فقال: يا محمدُ! تركتَني أَتَكَفَّفُ قريشًا ما بقيتُ، فقال: فَأَيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي دَفَعْتَهُ إِلَى أُمِّ الْفَضْلِ وَقْتَ خُرُوجِكَ، وَقُلْتَ لَهَا: إِنِّي لَا أَدْرِي مَا يُصِيبُنِي فِي وَجْهِي هَذَا، فَإِنْ حَدَثَ لِي حَدَثٌ، فَهُوَ لَكِ وَلِعَبْدِ اللهِ وَعُبَيْدِ اللهِ وَالْفَضلِ وَقُثَمَ" فقال: وما يدريكَ؟ فقال: "أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي تَعَالَى"، فقال: فأشهدُ أنَّك صادقٌ، وأَنْ لا إلهَ إِلَّا الله، وأنكَ رسولُه، واللهِ! لم يطلعْ عليه أحدٌ إِلا اللهُ، ولقد دفعتُه إليها في سوادِ اللّيلِ، قال العباسُ: فأبدلني الله منها عشرينَ عبدًا كلُّهم تاجرٌ يضربُ بمالٍ كثير، وأدناهُم يضربُ بعشرينَ ألفَ درهمٍ مكانَ العشرينَ أوقيةً، وأعطاني زمزمَ، وما أحبُّ أن لي بها جميعَ أموال أهلِ مكةَ، وأنا أنتظرُ المغفرة من ربي (¬2). * * * {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}. [71] {وَإِنْ يُرِيدُوا} أي: الأسرى {خِيَانَتَكَ} نقضَ ما عاهدوكَ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 241). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 135)، و"تفسير البغوي" (2/ 241).

[72]

{فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلِك بكفرِهم. {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ببدرٍ قتلًا وأسرًا. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: فإنْ عادوا، فسيمكِنُكَ منهم. * * * {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)}. [72] ونزلَ في المهاجرين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} أي: هَجَروا قومَهم وديارَهم {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ونزلَ في الأنصار: {وَالَّذِينَ آوَوْا} رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين معه؛ أي: أسكنوهم منازلَهم. {وَنَصَرُوا} أي: ونصروهم على أعدائِهم. {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} دونَ قراباتهم من الكفارِ في الدينِ والحلفِ والنُّصرةِ والميراثِ، وكان المهاجرون والأنصارُ يتوارثونَ بالهجرة حتّى كان فتحُ مكةَ، وانقطعتِ الهجرةُ، نُسِخَ بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} أي: لا توارثَ بينَهم حتّى يُهاجروا إليكم. قرأ حمزةٌ: {وِلَايَتِهِمْ} بكسر

[73]

الواو، والباقون: بالفتح (¬1)، ومعناهما واحد؛ كالدَّلالة والدِّلالة، وقيل: بالفتح معناهُ: النصرُ، وبالكسر: الإمارة. {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي: المؤمنون الذين لم يُهاجروا. {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي: فواجبٌ عليكم أن تنصروهم على المشركين. {إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: عهدٌ، فلا تنصروهم عليهم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. * * * {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}. [73] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الموارثةِ والنُّصرةِ، فلا توالوهم أنتم. {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} أي: إن لم تفعلوا ما أُمرتم به من النصرة على الكفار والتواصلِ. {تَكُنْ} تحصُلْ {فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} بقوةِ الكفرِ. {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بضعفِ الإسلام. * * * {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 309)، و"التيسير" للداني (ص: 117)، و"تفسير البغوي" (2/ 242)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 465).

[74]

[74] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الكاملون في الإيمان حَقَّقوا إيمانَهم بتعجيلِ مقتضاهُ؛ من الهجرةِ والجهادِ وبذلِ المالِ ونصرةِ الحقِّ. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم} لا تبعةَ ولا مِنَّةَ فيه، وهو طعامُ الجنة، وكُرِّرَتْ هذه الآيةُ؛ لأنّ بعضَهم هاجرَ قبلَ الحُدَيبية، وبعضهم بعدَها، وبعضهم ذو هجرتين: هجرةٍ إلى الحبشة، وهجرةٍ إلى المدينة، فالآية الأولى لأصحابِ الهجرة الأولى، والثّانية للثانية. * * * {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}. [75] {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ} أي: بعد السابقينَ إلى الهجرةِ الأولى. {وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} أي: من جملتكم، لطفَ تعالى باللاحقين، فجعلَهم من السابقين. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} اللوحِ المحفوظِ، فنسخَ التوارثَ بالهجرة، وردَّ الميراثَ إلى أولي الأرحامِ. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} صفة مناسبة لنفوذِ هذه الأحكام. واختلف الأئمةُ في توريثِ ذوي الأرحام ممّن لا سهمَ له في القرآن، وهم كلُّ ذي قرابة ليسَ بذي فرضٍ ولا عَصَبَةٍ، وهم أحدَ عشر صنفًا: أولادُ البناتِ الذكورُ منهم والإناث، وولدُ الأخواتِ، وبناتُ الإخوة، وبناتُ الأعمام، وبنو الإخوة من الأم، والعماتُ، والأخوالُ، والخالاتُ، والجدُّ

أبو الأم، والجدةُ أمُّ أبي الأمِّ، ومن أدلى بهم، فذهب مالك والشّافعيُّ أنّهم لا يُوَرَّثون، وبيتُ المال أولى منهم. وذهب أبو حنيفةَ وأحمدُ: إلى أنّهم يورَّثون، استدلالًا بالآية الشريفة، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ" (¬1)، ويقدَّمُ الردُّ عليهم، فإن كان للميتِ (¬2) ذو فرضٍ لم يستغرقِ المالَ، وفضلَتْ منه فضلةٌ، ولم يكنْ عصبةٌ، فالفاضلُ مردودٌ عليهم على قدرِ سِهامهم؛ للآية الشريفة، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَارِثِ" (¬3)، ولا يُرَدُّ على الزوجِ والزوجةِ؛ لأنّهما ليسا من أولي الأرحام، وإذا لم يكنْ للميتِ عصبةٌ، ولا ذو فرضٍ من أهلِ الردِّ، فالميراثُ لذوي الأرحامِ ممّن ذُكر من الأصناف. واختلفَ مورِّثاهم في كيفيةِ توريثهم، فقال أبو حنيفةَ: يورَّثون على ترتيب العصباتِ، الأقربُ فالأقرب؛ كمن له بنتُ بنتِ بنتٍ (¬4) وأَبُ أمٍّ، فهو أولى؛ لأنّه أقربُ، وإن كانَ أبَ أبِ أُمٍّ، وعمةٌ؛ أو خالةٌ، فهي أولى؛ لأنّها أقربُ، ونحو ذلك، فإن استووا في القربِ والإدلاءِ، فإن اتفقتِ الآباءُ والأمهاتُ، فالمال بينَهما على السواء إنَّ كانوا ذكورًا أو إناثًا، وإن كانوا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2899)، كتاب: الفرائض، باب: في ميراث ذوي الأرحام، وابن ماجه (2634)، كتاب: الديات، باب: الدية على العاقلة، فكان لم يكن عاقلة، ففي بيت المال، عن المقدام -رضي الله عنه-. وفي الباب: عن عائشة وأبي أمامة -رضي الله عنهما-. (¬2) في "ت": "الميِّت". (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 464)، والطيالسي في "مسنده" (2338)، وابن حبّان في "صحيحه" (3063)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) في "ت": "بنت بنت" بدل "بنت بنت بنت".

مختلطين، فللذكر مثلُ حظِّ الأنثيين، مثالُه: بنتُ بنتِ ابنٍ، وبنتُ بنتِ ابنٍ، المالُ بينَهما على السواء، وكذلك ابنُ بنتِ بنتٍ، وابنُ بنتِ بنتٍ، وإن كانَ بنتَ بنتِ بنتٍ وابنَ بنتِ بنتٍ، المالُ بينهما أثلاثًا، وإن اختلفَ الأمهاتُ والآباءُ، فعندَ أبي يوسف، وهو روايةٌ عن أبي حنيفةَ رحمهما الله: العبرةُ لأبدانِهم لا لأصولهم؛ لأنّ ذوي الأرحام إنّما يورَّثون بالقرابة كالعصبات، وكلُّ واحدٍ مستبدٌّ بنفسِه في أصلِ الاستحقاقِ، فتعتبر الأبدانُ كالعصبات، وعندَ محمدٍ، وهو أشهرُ روايتين عن أبي حنيفة: العبرةُ لأصولهم، فيقسَمُ المالُ على أصولهم، ويعتبرُ الأصلُ الواحدُ متعددًا بتعدُّدِ أولاده، ثمّ يُعْطَى لكلِّ فرعٍ ميراثُ أصلِه، ويَجعلُ كلَّ أنثى تُدْلي إلى الميِّت بذكرٍ ذكرًا، وكلَّ ذكرٍ يدلي إلى الميِّتِ بأنثى أنثى، سواء كانَ إدلاؤهما بأبٍ واحدٍ أو بأكثر، أو بأمٍّ واحدةٍ أو بأكثرَ، ثمّ يقسمُ سهامَ كلِّ فريقٍ بينَهم بالسويةِ إِن اتفقتْ صفاتُهم، وإذا اختلفَتْ، فللذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين؛ لأنّ الفروعَ إنّما تستحقُّ الميراثَ بواسطةِ الأصولِ، فيجب أن تكونَ العبرةُ للأصولِ. وقال أحمد: يُوَرَّثون بالتنزيل، وهو أن يُجعل كُلُّ شخصٍ بمنزلةِ مَنْ أدلى به، فتجعلُ ولدَ البناتِ والأخواتِ كأمهاتهم، وبناتِ الإخوةِ والأعمامِ وأولادَ الإخوة من الأمِّ كآبائِهم، والأخوالَ والخالاتِ وآباءَ الأمِّ كالأمِّ، والعماتِ والعمَّ من الأمِّ كالأب، ثمّ تجعلُ نصيبَ كلِّ وارثٍ لمن أدلى به، فإن أدلى جماعةٌ بواحدٍ، واستوتْ منازلُهم منه، فإن كانَ أبوهم واحدًا، وأُمُّهم واحدةً، فنصيبُه بينَهم بالسويَّة، ذكرُهم وأنثاهم سواء، لأنّهم يورَّثون بالرَّحِمِ المجرَّدِ، فاستوى ذكورُهم وإناثهم؛ كولدِ الأمِّ، وإذا كانَ ابنٌ وبنتُ أختٍ وبنتُ أختٍ أُخرى، فلبنتِ الأختِ وحدَها النصفُ، وللأخرى وأخيها النصفُ بينَهما، وإن اختلفتْ منازلُهم من المدلي بهِ، جعلته كالميِّتِ،

وقسمتَ نصيبَه بينَهم على ذلكَ، ويسقطُ البعيدُ بالقريب إن كانا من جهة واحدة؛ كخالةٍ وأمِّ أبي أمٍّ، أو ابنِ خالٍ، فالميراثُ للخالِة؛ لأنّها تلقى الأمَّ بأولِ درجةٍ، وإن كانا من جهتين، نزلتَ البعيدَ حتّى يلحقَ بوارثه، سواءٌ سقط به القريبُ، أو لم يسقطْ؛ كبنتِ بنتِ بنتٍ، وبنتِ أخٍ لأخٍ، المالُ لبنتِ بنتِ البنتِ بالفرضِ والردِّ. واتفقَ الأربعةُ على أنَّ من ماتَ ولا وارثَ له من ذوي فرضٍ ولا تعصيبٍ ولا رحمٍ، فإن مالَه لبيتِ مالِ المسلمين. ثمّ اختلفوا في صرفِ التركةِ إلى بيتِ المال، فقالَ الشافعيُّ ومالكٌ: تصرَفُ إِرثًا، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: ليسَ بيتُ المالِ وارثًا، وإنما يحفظُ المالَ الضائعَ وغيرَهُ، فهو جهةٌ ومصلحةٌ، واللهُ أعلمُ. * * *

سورة التوبة

سُوْرَةُ التَّوْبَة مدنية وآيها مئة وتسع وعشرون آية، وحروفُها عشرة آلافٍ وثمانُ مئةٍ وسبعة وثمانون حرفًا، وكلمُها ألفان وأربع مئة وسبع وتسعون كلمة. قال سعيدُ بنُ جبير: قلت لابنِ عباسٍ رضي الله عنها: "سورةُ التوبةِ؟ فقالَ: تلكَ الفاضِحَةُ، ما زالتْ تنزلُ: ومنهم، ومنهم، حتّى خَشينا ألَّا تدعَ أحدًا" (¬1). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "إنكم تُسمون هذهِ السورةَ سورةَ التوبَةِ، وإِنَّها سورةُ العذابِ، واللهِ ما تركَتْ أحدًا إِلَّا نالَت منه" (¬2). أهلُ المدينةِ يسمونها: التوبةَ، وأهلُ مكةَ يسمونها: الفاضحةَ، وسميت التوبةَ؛ لأنّ فيها التوبةَ على المؤمنين، والفاضحةَ؛ لأنها تفضحُ المنافقين، ومن أسمائها: المخزيةُ؛ لأنّها تخزيهم، والمقشقشةُ؛ لأنّها تقشقش من النفاق؛ أي: تبرئ منه، والمبعثرةُ، لأنّها تبعثرُ أسرارَ المنافقين، ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (4600)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الحشر، ومسلم (3031)، كتاب: التفسير، باب: في سورة براءة والأنفال والحشر. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنِّف" (30269)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1330)، والحاكم في "المستدرك" (3274).

والمشرِّدَةُ، لأنّها تشرِّدُ بهم، والمثيرةُ؛ لأنّها تبحثُ عن حالِ المنافقينَ وتُثيرها، والحافرةُ؛ لأنّها حفرتْ على قلوبهم، والمنكِّلَةُ؛ لأنّها تنكِّلُ بهم (¬1)، والمُدَمْدِمَةُ؛ لأنّها تدمدمُ عليهم، وسورةُ العذابِ؛ لتضمُّنها معناه. واختلِفَ في سقوطِ البسملةِ من أولها، فقيل: كان من شأن العربِ في زمنِ الجاهلية إذا كانَ بينَهم وبينَ قومٍ عهدٌ، فإذا أرادوا نقضَه، كتبوا إليهم كتابًا لم يكتبوا فيه البسملةَ، فلما نزلَتْ براءةُ بنقضِ العهدِ الّذي كانَ بينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والمشركين، بعثَ بها النبيُّ علَيَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه، فقرأها عليهم في الموسم، ولم يتسهَّلْ في ذلكَ على ما جرتْ عادتُهم في نقضِ العهدِ من تركِ البسملة. وقال ابنُ عباسٍ لعثمان رضي الله عنه: ما حملَكُم على أَنْ عمدتُم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين، فقرنتم بينَهما، ولم تكتبوا بينَهما سطرَ: بسم الله الرّحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال: عثمان رضي الله عنه: إِن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزلَ عليه الشيءُ، يدعو بعضَ من يكتبُ عندَه، فيقول: "ضَعُوا هَذِهِ الآيةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فيها كَذَا وَكَذَا"، وكانت الأنفال ممّا نزلَ بالمدينة، وبراءةُ من آخرِ ما نزلَ، وكانت قصَّتُها شبيهةً بقصتها، وقُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنّها منها، فظننتُ أنّها منها، فمن ثَمَّ قرنتُ بينَهما، ولم أكتبْ بينهما سطر: بسم الله الرّحمن الرحيم (¬2). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ "تنكلهم"، والصواب ما أثبت. (¬2) رواه أبو داود (786)، كتاب: الصّلاة، باب: من جهر بها، والنسائي في "السنن الكبرى" (8007)، والترمذي (3086)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة =

وكانتا تدعيان: القَرينين، قال ابنُ العربيِّ: هذا دليلٌ على أن القياسَ أصل في الدِّين، ألَّا ترى إلى عثمانَ وأعيانِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم كيفَ نَحَوْا إلى قياسِ الشبهِ عندَ عدمِ النصِّ ورأوا أن قصةَ براءةَ شبيهةٌ بقصةِ الأنفالِ، فألحقوها بها؟ فإذا كانَ الله قد بَيَّنَ القياسَ في تأليفِ القرآن، فما ظَنُّكَ بسائرِ الأحكام (¬1)؟ وقيل: سورةُ الأنفالِ وبراءةَ سورةٌ واحدةٌ، كلتاهما نزلتْ في القتال، تعدان السابعةَ من الطوال، وهي سبعٌ، وما بعدَها المئون؛ لأنّهما معًا مئتان وأربعُ آيات، فهما بمنزلة إحدى الطِّوال. وقد اختلفَ أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لما كتبوا المصحفَ في خلافةِ عثمانَ، فقالَ بعضهُم: الأنفالُ وبراءةُ سورةٌ واحدةٌ، وقالَ بعضهم: هما سورتان، فتركَتْ بينهما فُرْجَةٌ لقولِ من قالَ: هما سورتان، وتركت بسم الله لقولِ مَنْ قالَ هما سورةٌ واحدةٌ، فرضيَ الفريقانِ معًا. وسُئل عليٌّ رضي الله عنه عن تركِه البسملةَ في براءةَ، فقالَ: "بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيمِ أمانٌ، وبراءةُ نزلَتْ بالسيفِ ليسَ فيها أمانٌ" (¬2). قال القرطبيّ: والصحيحُ أن التسميةَ لم تكتبْ لأنَّ جبريلَ -عليه السّلام- ما نزلَ بها في هذهِ السورةِ (¬3). وتقدَّمَ ذكرُ اختلافِ العلماءِ والقراءِ مستوفًى ¬

_ = التوبة، وقال: حسن صحيح. (¬1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 446). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (3273). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 122). (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" (8/ 63).

[1]

في حكم البسملةِ بينَ كلِّ سورتينِ سوى براءةَ عندَ الكلامِ في البسملة أولَ التفسير، ومُلَخَّصُه: أنَّ مذهبَ الشّافعيِّ رضي الله عنه أن البسملةَ آيةٌ من الفاتحةِ ومن كلِّ سورةٍ سوى براءةَ، ومذهبُ أحمدَ وأبي حنيفةَ أنّها آيةٌ مستقلةٌ بينَ كلِّ سورتينِ سوى براءةَ، فيكره ابتداؤها بها، ومذهبُ مالكٍ أنّها ليستْ بآيةٍ من الفاتحة، ولا من غيرِها، وإنّما كُتبت للتيمُّن والتبرُّك بها معَ إجماعهم على أنّها بعضُ آيةٍ من سورةِ النمل، وأنَّ بعضَها آيةٌ من الفاتحة. وأمّا مذاهبُ (¬1) القراء فيها، فقد أجمعوا على حذفِها بينَ الأنفالِ وبراءةَ، وكذلكَ في الابتداءِ ببراءةَ، وأمّا الابتداءُ بالآي وسطَ براءة، ففيه خلافٌ، ويجوزُ بينَ الأنفالِ وبراءةَ كلّ من الوصلِ والسكتِ والوقفِ لجميعِ القراء إذا لم يقطعْ على آخرِ الأنفالِ، فالقطعُ: هو قطع القراءةِ رأسًا، فهو كالانتهاء، والوقفُ: هو قطعُ الصوتِ على الكلمةِ زمنًا يتنفَّس فيه عادةً بنيةِ استئنافِ القراءة، والسكتُ: هو قطعُ الصوتِ زمنًا دونَ زمنِ الوقفِ عادةً من غيرِ تنفُّسٍ، والله أعلمُ. * * * {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}. [1] قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ} خروجٌ من الشيءِ، ومفارقةٌ له بشدَّةٍ، والتقديرُ: هذِه براءةٌ {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} مبتدأٌ، خبرُه {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} أيُّها المؤمنون. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والمعنى: أن الله ورسوله قد برءا من العهد الّذي عاهدتم به المشركين، رُوي أنّه لما خرجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوكَ، كان المنافقون يُرْجِفون الأراجيفَ، وجعلَ المشركونَ ينقُضون عهودًا كانت ¬

_ (¬1) في "ت": "مذهب".

[2]

بينَهم وبينَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأمرَ اللهُ بنقضِ عهودِهم، وكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هو الّذي عاهدَهم عامًا على ألَّا يُصَدَّ أحدٌ عن البيت الحرام، ونحو هذا من الموادَعات، وأصحابُه كلُّهم راضونَ بذلكَ، فكأنّهم عاهدوا، فَنُسِبَ العهدُ إليهم، وكذلك ما عقدَهُ أئمةُ الكفرِ على قومِهم منسوبٌ إِليهم يُؤاخذونَ به؛ إذ لا يمكنُ غيرُ ذلك؛ لأن تحصيلَ الرضا من الجميعِ متعذرٌ، فإذا عقدَ الإمامُ لما يرى من المصلحةِ أمرًا، لزمَ جميعَ الرعايا. * * * {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)}. [2] {فَسِيحُوا} رجع من الخبر إلى الخطاب؛ أي: قل لهم: سِيحُوا {فِي الْأَرْضِ} أى: سيروا فيها آمنينَ. {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} تأجيلٌ من اللهِ للمشركين، فمن كانتْ مدةُ عهدِهِ أقلَّ من أربعةِ أشهرٍ، رُفِعَ إليها، ومن كانت مدَّتُه أكثرَ منها، حُطَّ إليها، ومن كانت مدةُ عهدِه بغيرِ أجلٍ محدودٍ، حَدَّهُ بأربعةِ أشهرٍ، ثمّ هو حربٌ بعدَ ذلكَ للهِ ورسوله يُقتل حيث أُدْرِكَ، ويؤسرُ، إِلَّا أن يتوب، وابتداءُ هذا الأجل يومَ الحجِّ الأكبرِ، وانقضاؤه إلى عشرٍ من ربيعٍ الآخرِ، فأمّا من لم يكنْ له عهدٌ، فإنما أجلُه انسلاخُ المحرَّمِ، وذلك خمسون يومًا، وقيل: الأشهرُ الأربعةُ: شوالٌ وذو القعدةِ، وذو الحجَّةِ، والمحرَّمُ، والأول أصوبُ، وعليه الأكثرُ. {وَاعْلَمُوا} أيّها الناكثون {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي} أي: فائتي {اللَّهَ} بعدَ الأربعةِ أشهرٍ.

[3]

{وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي} مُذِلُّ {الْكَافِرِينَ} بالقتلِ في الدنيا، والعذابِ في الآخرةِ. * * * {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)}. [3] ونزلت براءةُ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، وفيها فُتحت مكةُ، فلما كان سنةُ تسعٍ تجهَّزَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له: إنَّ المشركينَ يطوفون بالبيتِ عُراةً فقالَ: "لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَى ذَلِكَ"، فبعثَ أبا بكرٍ أميرًا على الموسمِ ليقيمَ للناسِ الحجَّ، وبعثَ معه بأربعينَ آيةً من صدرِ براءةَ ليقرأها على أهل الموسم، ثمّ بعثَ بعده عليًّا على ناقتِهِ العضْباءِ ليقرأ على النَّاس صدر براءة، وأمره أن يؤذن بمكةَ ومِنًى وعرفةَ: أن قد بَرِئَتْ ذمةُ اللهِ وذمةُ رسوله من كلِّ مشركٍ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريان، فرجعَ أبو بكر وقال: يا رسولَ الله! أنزلَ في شأني شيءٌ؛ قالَ: "لَا، وَلَكِنْ لا يَنْبَغِي أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي، أَمَا تَرْضَى أَنَّكَ كُنْتَ مَعِي فِي الْغَارِ، وأَنَّكَ صاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ؟ "، قال: بلى. فسار أبو بكرٍ أميرًا على الحاجِّ، وعليٌّ ليؤذِّنَ ببراءةَ، وكانَ من عادةِ العربِ في عقدِ العُهودِ ونقضِها ألَّا يتولَّى ذلكَ إِلَّا سيدُهم، أو رجلٌ من قومِه، أقربُهم إليه نَسَبًا، فلما كانَ قبلَ الترويةِ بيوم، خطبَ أبو بكرٍ الناسَ، وحدثهم عن مناسِكِهم، وأقام للناسِ الحجَّ، والعربُ في تلكَ السنةِ على منازِلهم الّتي كانوا عليها في الجاهليةِ من الحجِّ، حتّى إذا كانَ يومُ النَّحر، قام عليٌّ عندَ جمرةِ العقبةِ، وأَذَّنَ في النَّاس بما أُمر به من الآيات، وألَّا

يطوفَ بالبيت عُريان، وأن يتمَّ إلى كلِّ عهدٍ عهدَه، وإن لم يكنْ عهدٌ، فعهدُه أربعةُ أشهرٍ، ولا يدخلُ الجنةَ إِلَّا نفسٌ مؤمنةٌ، وألَّا يجتمعَ المسلمون والمشركون بعدَ عامِهم هذا، فقال المشركون الناكثون: أخبرِ ابنَ عَمِّكَ أنا قد نَبَذْنا العهدَ وراءَ ظُهورِنا، وأنْ ليسَ بينَنا وبينَه إِلَّا طعنٌ بالرمحِ وضربٌ بالسيفِ. {وَأَذَانٌ} عطفٌ على قوله: {براءةٌ} أي: وإعلامٌ. {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} مبتدأٌ، خبرُهُ {إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} هو يومُ عرفةَ، والحجُّ الأصغرُ العمرةُ؛ لنقصِ عملِها. {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: من عهودِهم. {وَرَسُولُهُ} قراءةُ العامةِ برفعِ (رَسُولُهُ) مبتدأُ خَبَرٍ؛ أي: ورسولُه بريءٌ أيضًا من المشركين. وقرأ يعقوبُ: (وَرَسُولَهُ) بنصبِ اللام عطفًا على اسمِ (أَنَّ) (¬1)، ولا يجوزُ عطفهُ على (المشركين)؛ لأنّه كفرٌ، وتقدَّم في أول التفسير عندَ شكلِ القرآنِ ونقطِه أنَّ سببَ وضعِ الإعرابِ في المصاحفِ أن أبا الأسودِ الدؤليَّ التابعيَّ البصريَّ حكي أنّه سمعَ قارئًا يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بكسرِ اللام، فأعظمَه ذلكَ، وقالَ: "عَزَّ وَجْهُ اللهِ أن يبرأَ من رسولِه"، ثمّ جعلَ الإعرابِ في المصاحف (¬2)، تلخيصُهُ: براءةٌ وإعلامٌ من اللهِ ورسولهِ بأنْ لا عهدَ لناكثٍ. ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (5/ 6)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 240)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 8). (¬2) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (25/ 192).

[4]

{فَإِنْ تُبْتُمْ} من الكفرِ ونقضِ العهدِ. {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أعرَضتُم عن الإيمان. {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} لا تعجزونه، ولا تفوتونه في الدنيا. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الآخِرةِ. * * * {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}. [4] {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} استثناءٌ من المشركين، وهم بنو ضَمْرَةَ: حَيٌّ منْ كنانةَ، أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بإتمامِ عهدِهم إلى مُدَّتهم، وكان قد بقيَ منها تسعةُ أشهر، والسببُ فيه أنّهم لم ينقُضوا العهدَ، وثبتوا عليه، وهذا معنى قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} من عهدِكم. {وَلَمْ يُظَاهِرُوا} يعينوا {عَلَيْكُمْ أَحَدًا} من أعدائِكم. {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أدُّوه إليهم {إِلَى مُدَّتِهِمْ} كملًا، ولا تُجروهم مُجرى الناكثين. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تنبيهٌ على أن تمامَ عهدِهم من بابِ التقوى. * * * {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}. [5] {فَإِذَا انْسَلَخَ} انقضى {الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} الّتي أُبيح للناكثين أن يَسيحوا

[6]

فيها، وقيل لها: حُرُمٌ؛ لأنّ اللهَ تعالى حَرَّمَ فيها على المؤمنينَ دماءَ المشركين والتعرُّضَ لهم، المعنى: إذا مضتِ المدةُ المضروبةُ الّتي يكونُ معها انسلاخُ الأشهرِ الحرمِ، وأصلُ الانسلاخ، خروجُ الشيءِ ممّا لابَسَه؛ من سَلْخِ الشاة. {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الناكثينَ {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} من حِلٍّ وحرمٍ. {وَخُذُوهُمْ} وأْسِرُوهم، والأَخيذُ: الأسيرُ {وَاحْصُرُوهُمْ} احْبِسوهم. {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} على كلِّ طريقٍ، والمرصدُ، كلُّ مكانٍ يُرْصَدُ منه العدوُّ؛ أي: يرقَبُ فيه؛ لتأخذوهم من أيِّ وجهةٍ توجَّهوا. {فَإِنْ تَابُوا} من الشركِ. {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} تصديقًا لتوبتِهم وإيمانِهم. {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} اتركوهم يدخلون مكةَ، ويتصرَّفون في البلاد، وفيه دليلٌ على أن تاركَ الصّلاةِ ومانعَ الزكاةِ لا يخلَّى سبيلُه، فالكفَّارُ مخاطَبون بالإيمان بالاتفاق، وبالفروعِ عندَ الشّافعيِّ وأحمدَ، وقالَ أكثرُ الحنفيةِ: ليسوا مخاطَبين بالفروعِ، وهو قولُ مالكٍ، ويأتي ذكرُ حكمِ تاركِ الصّلاةِ ومانعِ الزكاةِ في سورةِ الماعونِ. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن تابَ {رَحِيمٌ} به. * * * {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}. [6] {وَإِنْ أَحَدٌ} أي: وإن جاءكَ أحدٌ.

[7]

{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} المأمورِ بقتلِهم {اسْتَجَارَكَ} استأمَنَكَ بعدَ انسلاخِ الأشهُرِ الحرُمِ. {فَأَجِرْهُ} فَأَمِّنْهُ {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} أي: قراءتَكَ كلامَ الله؛ ليعلم شرائعَ الإسلامِ. {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} الموضعَ الّذي يأمَنُ فيه، وهو دارُ قومه إنْ لم يُسْلِمْ، فإنْ قاتلكَ بعدُ، فاقتلْه. {ذَلِكَ} المأمورُ به من الإجارة {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ} جَهَلَةٌ. {لَا يَعْلَمُونَ} دينَ الله، فهم محتاجون إلى سماعِ كلامِه. ولا خلافَ بينَ الأئمةِ في جواز أمانِ السلطان؛ لأنّه مقدَّمٌ للنظرِ والمصلحةِ، وكذا أمانُ الحرِّ جائزٌ بالاتفاقِ، وأمّا العبدُ المسلمُ إذا أَمَّنَ شخصًا أو مدينةً، فقال الثلاثة: يَمْضي أمانُه مطلَقًا، وقال أبو حنيفةَ: لا يَمْضي إِلَّا أن يكونَ سيدُه أذنَ له في القتال. * * * {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}. [7] {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} استفهامٌ بمعنى الإنكارِ والاستبعادِ، المعنى: ممتنعٌ ثبوتُ عهدٍ للمشركين. {عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} وهم يغدرونَ وينقضونَ العهدَ، ثمّ استثنى فقال:

[8]

{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وهم قبائلُ بني بكرٍ، وبنو خُزيمةَ، وبنو مدلجٍ، وبنو ضَمْرَةَ، وبنو الدَّيلِ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهدِ قريشٍ يومَ الحديبيةِ، ولم يكن نقضَ إِلَّا قريشٌ وبنو الديل من بني بكر، فأمرَ بإتمامِ العهدِ لمن لم ينقضْ، وهم بنو ضمرةَ. {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ} أي: فما قاموا على الوفاء بعهدكم. {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي: فأقيموا لهم على مثلِ ذلك. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تقدَّمَ تفسيرُه. * * * {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}. [8] {كَيْفَ} أعادَ الإنكارَ والاستبعاد؛ أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ. {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يظفروا بكم. {لَا يَرْقُبُوا} يحفضوا {فِيكُمْ إِلًّا} قرابةً {وَلَا ذِمَّةً} عهدًا، والذمَّةُ في اللُّغة: عبارةٌ عن العهدِ، وفي الشرعِ: عبارةٌ عن وصفٍ يصيرُ فيه أهلًا للإيجاب والاستحباب. {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} يُظْهِرون الجميلَ، ويُضْمرون القبيحَ، {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} الإيمانَ {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} ناقضو العهد؛ لأنَّ منهم من وفى. * * *

[9]

{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)}. [9] {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ} استبدلوا بالقرآنِ {ثَمَنًا قَلِيلًا} من حُطامِ الدنيا ونيلِ الشهوات، وذلك أنّهم نقضوا العهدَ بأكلةٍ أطعمهم أبو سفيان. {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي: فمنعوا الناسَ من الدخولِ إلى ديِنه. {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عملُهم هذا. * * * {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}. [10] {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} لا تُبْقوا عليهم أيها المؤمنون؛ فإنهم لا يُبْقون عليكم إنْ ظَفِروا بكم. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} بنقضِ العهد. * * * {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}. [11] {فَإِنْ تَابُوا} من الشركِ {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ} أي: فهم إخوانُكم {فِي الدِّينِ} لهم ما لَكُم، وعليهم ما عليكم. {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ} نُبَيَّنُها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال ابنُ عباسٍ: "حُرِّمَتْ بهذهِ الآيةِ دماءُ أهلِ القبلةِ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو الشّيخ في "تفسيره"، عن الحسن البصري، كما ذكر السيوطيّ في "الدر =

[12]

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}. [12] {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} نقضوا عهودَهم {مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} يعني: مشركي قريش، {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} عابوا الإسلامَ. {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} رؤوسَ المشركين وقادتهم، نزلتْ في أبي سفيانَ وأصحابِه رؤساءِ قريشٍ الذين نقضوا العهد. قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وروحٌ عن يعقوبَ: (أَئِمَّةَ) بهمزتين محققتين على الأصل، والباقون: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثّانية بينَ بينَ، وروي عنهم وجهٌ أنّها تُجعل ياءً خالصةً مكسورة تخفيفًا؛ لاستثقالهم تحقيقَ همزتينِ في كلمةٍ واحدة، وأبو جعفرٍ يدخِلُ بينهما ألفًا مع تسهيل الثّانية، وهشامٌ راوي ابنِ عامرٍ رُوي عنه المدُّ مع تحقيقِ الهمزة الثّانية (¬1). {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} حقيقةً؛ لنقضهم العهدَ قراءة العامة: (أَيْمَانَ) بفتح الهمزة، جمعُ يمين، وقرأ ابنُ عامرٍ: بكسر الهمزة بمعنى ¬

_ = المنثور" (4/ 132). وعزاه البغوي في "تفسيره" (2/ 253) إلى ابن عبّاس -رضي الله عنه-. (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 312)، و"التيسير" للداني (ص: 117)، و"تفسير البغوي" (2/ 254)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (378 - 379)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 240)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 9).

التصديق (¬1)؛ أي: إنَّ لم يفِ لكم المشركون، وعابوا دينَكم، فقاتلوهم. {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} عمَّا هم عليه. واختلفوا في يمينِ الكافرِ هل تنعقدُ؟ فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا تنعقدُ، وسواءٌ حَنِثَ حالَ كفرِه أو بعدَ إسلامه، ولا يصحُّ منه كفارةٌ؛ استشهادًا بظاهرِ {لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}. وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: تنعقدُ يمينُه؛ بدليلِ وصفِها بالنكثِ، وتلزمه الكفارةُ بالحنث فيها في الموضعين، ويكفِّرُ بغيرِ الصومِ. وأمّا الذميُّ إذا طعنَ في الدينِ، بأنْ ذكرَ اللهَ سبحانَه بما لا يليقُ بجلاله، أو ذكرَ كتابَه المجيدَ، أو رسولَه الكريمَ ودينَه القويمَ بما لا ينبغي، فإنّه ينتقضُ عهدُه عندَ مالكٍ وأحمدَ، سواءٌ شُرِطَ تركُ ذلكَ عليهم، أو لم يُشْتَرَطْ، وقال الشافعيُّ: إنَّ شُرِطَ انتقاضُ العهد بها، انتقضَ، وإلا فلا، فإذا انتقضَ عهدُه، فقال مالكٌ: يُقتل، وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: يخيرُ الإمامُ فيه قتلًا وَرِقًا ومَنًّا وفِداءً، ولا يردُّ إلى مأمنِه، وقال أبو حنيفةَ: لا ينتقضُ عهدُه إِلَّا باللحاقِ بدارِ الحرب، أو أن يغلبوا على موضعٍ فيحاربوا، فيصير أحكامُهم كالمرتدين، إِلَّا أنّه إذا ظفرنا بهم، نسترقُّهم، ولا نجبرُهم على الإسلامِ، ولا على قبولِ الذِّمَّة، فإن أسلمَ، لم يقتلْ بالاتفاق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 312)، و"التيسير" للداني (ص: 117)، و"تفسير البغوي" (2/ 254)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 10).

[13]

{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}. [13] ثمّ حَرَّضَ المسلمين على قتالهم، فقال تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} نقضوا عهودَهم، وهم الذين نقضوا عهدَ الصلحِ بالحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعةَ. {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} من مكةَ حينَ اجتمعوا في دارِ الندوة. {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ} بالقتالِ {أَوَّلَ مَرَّةٍ} يومَ بدرِ، ذلك أنّهم قالوا حين سلم العيرُ: لا ننصرفُ حتّى نستأصلَ محمدًا وأصحابَه، ثمّ وَبَّخهم على خوفِهم منهم فقال: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} فتتركون قتالَهم {فَاللَّهُ أَحَقُّ} من غيرِه. {أَنْ تَخْشَوْهُ} فقاتِلوا أعداءه {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. * * * {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)}. [14] ثمّ شَجَّعهم عليهم فقال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} يقتلْهم اللهُ. {بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} يُذِلَّهم بالأسرِ والقتل. قرأ رُويسٌ عن يعقوبَ: (وَيُخْزِهُمْ) بضم الهاء، والباقون: بالكسر (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 240)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 10).

[15]

{وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ} ويُبْرِئ داءَ قلوبِ. {قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} بما كانوا ينالونَهُ من الأذى منهم. * * * {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}. [15] {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} كَرْبَها ووجْدَها. {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فيهديه للإسلام؛ كأبي سفيانَ، وعكرمةَ بنِ أبي جهل، وسُهيلِ بنِ عمرٍو. وقراءةُ العامَّةِ: (وَيَتُوبُ) برفع الباء استئنافًا إخبارًا عن توبتِه على من أسلم، وقرأ رويسٌ عن يعقوبَ بخلافِ عنه: بنصبِ الباء على تقديرِ وأن (يَتُوبَ) أو حَتَّى (¬1). {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما كانَ وسيكونُ {حَكِيمٌ} لا يفعلُ شيئًا عَبثًا. * * * {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}. [16] {أَمْ حَسِبْتُمْ} أظننتم، خطابٌ للمؤمنين حينَ كرهَ بعضُهم القتالَ {أَنْ تُتْرَكُوا} فلا تؤمَروا بالجهادِ ولا تُمتحنوا ليظهرَ الصادقُ من الكاذبِ. {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي: ولما يَرَى الله. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 278)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 284 - 285)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 10).

[17]

{الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} وليًّا خاصًّا من المشركين، وخاصَّةُ الرجلِ وَلِيَجُتُه؛ أي: لا تتركون حتّى يتبينَ المخلصون والمجاهدون منكم. قرأ الكسائيُّ: (وَلِيَجةً) بإمالةِ الجيمِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيث (¬1). {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يعلمُ غرضَكم منه. * * * {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}. [17] ولما أُسر العباسُ يومَ بدرٍ، وَعَيَّرَه المسلمون بالكفرِ وقطيعةِ الرّحمِ، وأغلظَ عليٌّ له القولَ، قال العباسُ: وما لكم تذكرونَ مساوِئَنا، ولا تذكرونَ محاسِنَنا، فقال له عليٌّ: ألكمْ محاسِنُ؟ فقال: نعم، إنا نَعْمُرَ المسجدَ الحرامَ، ونحجُبُ الكعبةَ، ونسقي الحاجَّ، فنزلَ ردًّا عليه: {مَا كَانَ} (¬2) ما جازَ ولا ينبغي. {لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} قرأ أبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ: (مَسْجِدَ اللهِ) على التّوحيد، والمرادُ: الكعبةُ، والباقون: (مَسَاجِدَ) على الجمع (¬3)، والمرادُ: جنسُ المساجدِ، والكعبةُ داخلة فيه، المعنى: ليس ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 237)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 10). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 136). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 313)، و"التيسير" للداني (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 256)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 11).

[18]

لهم الجمعُ بين أمرينِ متنافيين: عمارةِ متعبداتِ الله مع الكفرِ. {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} بإظهارِ الشركِ، وتكذيبِ الرسولِ، وعبادةِ الأصنام، وقولِ النصراني: أنا نصرانيٌّ، وقولِ اليهوديِّ: أنا يهوديٌّ، ونصبُ (شاهدين) على الحالِ. {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} لأنّها لغيرِ الله. {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} لكفرِهم. * * * {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}. [18] ثمّ قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} اتفقَ جميعُ القراء على الجمعِ في هذا الحرف؛ لأنّ المرادَ به: جميعُ المساجد. {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} لم يتركْ أمرَ اللهِ خشيةً من غيره، وعمارةُ المسجد: بناؤه، ورمُّ متشعثه، وكنسُه، والصلاةُ والذكرُ ودرسُ العلمِ الشرعيِّ فيه، وصيانتُه ممّا لم يُبْنَ له؛ كحديثِ الدنيا ونحوِه (¬1)، وفي الحديثِ: "يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ فَيَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا، ذِكْرُهُمُ الدُّنْيَا وَحُبُّ الدُّنْيَا، فَلَا تُجَالِسُوهُمْ، فَلَيْسَ للهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ" (¬2)، ويحرمُ البصاقُ في ¬

_ (¬1) في "ت": "وغيره". (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10452)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 109)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 98)، =

المسجدِ بالاتفاق؛ لأنّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سماها خطيئةً وسيئةً، وكفارتُه أن تواريَهُ، ومن يبصقْ في المسجدِ استهزاءً به، كفرَ بغيرِ خلافٍ، وكذا لو بصقَ على القرآنِ بقصدِ الاستهزاءِ، وأمّا حكمُ القاضي في المسجدِ، فسيأتي ذكرُ الحكم فيه في سورةِ الجنِّ إن شاء الله تعالى عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} و (عسى) من اللهِ واجبٌ؛ أي: أولئكَ هم المهتدون. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيَمانِ" (¬1). ورُويَ أن عثمانَ بنَ عفانَ رضي الله عنه أرادَ بناءَ المسجدِ، فكرهَ النّاسُ ذلكَ وأَحَبُّوا أن يدعَه، قالَ عثمان رضي الله عنه: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا، بَنَى اللهُ لهُ كَهَيْئَتِهِ فِي الْجَنَّةِ" (¬2). * * * {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}. ¬

_ = عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 24): فيه بزيغ أبو الخليل، ونسب إلى الوضع. (¬1) رواه الترمذي (3093)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (802)، كتاب: الصّلاة، باب: لزوم المساجد وانتظار الصّلاة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاريّ (439)، كتاب: المساجد، باب: من بنى مسجدًا، ومسلم (532)، كتاب: المساجد ومواضع الصّلاة، باب: فضل بناء المساجد والحث عليها.

[19]

[19] رُويَ عن النعمانِ بنِ بشيرٍ قال: "كنتُ عندَ منبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ رجلٌ: ما أُبالي أن لا أعملَ عملًا بعدَ أن أسقيَ الحاجَّ، وقال آخرُ: ما أُبالي أن لا أعملَ عملًا بعدَ أن أعمرَ المسجدَ الحرامَ، فقال آخرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضلُ ممّا قلتم، فزجَرَهم عمرُ وقالَ: لا ترفعوا أصواتَكم عندَ منبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يومُ الجمعةِ، ولكنْ إذا صَلَّيْتُ فاستفتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما اختلفتم فيه، ففعلَ، فأنزلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1) والسقايةُ والعمارةُ: مَصْدَرا سَقَى وعَمَرَ. ورُوي عن أبي جعفرٍ أنّه قرأ: (سُقَاةَ) بضم السين وحذف الياء بعدَ الألف (وَعَمَرَة) بفتح العين وحذف الألف على جمع ساقي والعامر (¬2)، تقديره: أجعلتم أصحابَ سقايةِ الحاجِّ، وأصحابَ عِمارةِ المسجدِ. {كَمَنْ آمَنَ} كإيمان مَنْ آمنَ {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} المعنى: إنكارٌ أن يشبه المشركين وأعمالُهم المحبَطَةُ بالمؤمنينَ وأعمالِهم المثبتَةِ، ثمّ قَرَّرَ ذلكَ بقولِه: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تنبيهٌ على أن التسويةَ بينَهم ظلمٌ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1879)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الشّهادة في سبيل الله تعالى. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 259)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 278)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 11 - 12)، وقد ذكرها البغوي من قراءة ابن الزبير وأبيّ.

[20]

{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}. [20] {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً} أعلى رتبةً. {عِنْدَ اللَّهِ} ممّن افتخروا بعِمارةِ المسجدِ الحرامِ وسقايةِ الحاجِّ. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الظافرونَ (¬1) بأمنياتهم. * * * {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)}. [21] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} دائمٌ. قرأ حمزةٌ: (يَبْشُرُهُمْ) بفتح الياء وتخفيف الشين وضمِّها من البشر، وهو البشرى والبشارة، وقرأ الباقون: بضم الياء وتشديد الشين مكسورةً، من بَشَّرَ المضعَّفِ على التكثير، والبشرُ والتبشيرُ والإبشارُ لغاتٌ فصيحاتٌ (¬2)، وقرأ عاصمٌ بروايةِ أبي بكبر: (وَرُضوَانٍ) بضم الراء، والباقون: بكسرها (¬3). * * * ¬

_ (¬1) "الظافرون" ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 87)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 12). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 237)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 241)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 12).

[22]

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}. [22] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أكد الخلودَ بالتأبيدِ؛ لأنّه قد يستعمل للمكثِ الطويل {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}. [23] عن ابن عبّاس رضي الله عنه: "لما أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بالهجرةِ إلى المدينة، فمنهم من تعلَّقَ به أهلُه وولدُه يقولون: ننشدُكَ بالله ألَّا تُضَيِّعَنا، فيرقُّ، فيقيمُ عليهم، ويدعُ الهجرةَ، فأنزل اللهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} (¬1) أصفياءَ وبطانةً يمنعونكم عن الإيمان، ويصدُّونكم عن الطاعةِ. {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} واختلافُ القراء في الهمزتين من (أَوْلِياءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا) كاختلافِهم فيهما من (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ) في سورة البقرة. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} يؤثر المقامَ على الهجرةِ والجهادِ. {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} بوضعِهم الموالاةَ في غيرِ موضعِها، وكان في ذلك الوقتِ لا يُقَبل الإيمانُ إِلَّا من مهاجرٍ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 137)، و"تفسير البغوي" (2/ 260).

[24]

{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}. [24] نزلت الآية الأولى، قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إنَّ نحنْ هاجرْنا، ضاعتْ أموالُنا، وذهبتْ تجارتنُا، وخربَتْ دورُنا، وقطعْنا أرحامَنا {قُلْ} يا محمدُ للمتخلِّفينَ عن الهجرةِ: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَعَشِيَراتُكُمْ) بالألف على الجمع، والباقون: بغير ألف (¬1)؛ أي: قومُكم بمكة. {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} عدمَ نَفاقِها {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} تستطيبونَها. {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} الحبّ الاختياري دونَ الطبيعيِّ؛ فإنّه لا يدخلُ تحتَ التكليفِ التحفظ عنه. {فَتَرَبَّصُوا} أي: انتظروا {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بقضائِه، وهو تهديدٌ لمن يؤثرُ لذاتِ الدنيا على الآخرة. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لا يرشدُهم، والفسقُ: الخروجُ عن الطّاعة. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 313)، و"التيسير" للداني (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 261)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 13).

[25]

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)}. [25] {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ} مشاهدَ. {كَثِيرَةٍ} كبدرٍ، وفتحِ مكةَ، وقريظةَ، والنضيرِ. {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} اسمُ وادٍ بينَ مكَّةَ والطائفِ، بينهما ثلاثةُ أميال. وملخَّصُ القصةِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتحَ مكةَ في شهرِ رمضانَ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، تجمعَتْ هوازنُ بحريمِهم وأموالِهم لحربِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومقدَّمُهم مالكُ بنُ عوفٍ النَّصْريُّ، وانضمَّتْ إليه ثقيفُ، وهم أهلُ الطائف، وبنو سعدٍ، وهم الذين كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مرتَضَعًا عندَهم، فلما سمعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - باجتماعِهم، وكانوا أربعةَ آلافٍ، خرجَ من مكةَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ من شوالٍ، وخرجَ معه اثنا عشرَ ألفًا، منها عشرة آلاف كانتْ معه، وألفانِ من أهلِ مكةَ، وحضر جماعةٌ كثيرةٌ من المشركين، وهم مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وانتهى إلى حُنَيْنٍ، وركبَ بغلتَهَ الدُّلدُل، وقال رجلٌ من الأنصار يقالُ له سلمةُ بنُ سلامةَ لما رأى كثرةَ مَنْ معَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: لنْ يغلب هؤلاءِ من قلة، فساءَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كلامُه، فلما التقى الجمعان، انكشفَ المسلمونَ، لا يَلْوي أحدٌ على أحدٍ، وانحازَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ من المهاجرينَ والأنصارِ وأهلِ بيتِه، واستمرَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثابتًا، وتراجعَ المسلمون، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وأخذ - صلى الله عليه وسلم - حَصياتٍ فرمى بها في وَجْهِ المشركينَ، فكانتِ الهزيمةُ، ونصرَ الله المسلمين، واتَّبَع المسلمون المشركين يقتلونهم ويأسرونهم.

ولما فرغَ - صلى الله عليه وسلم - من حُنين، بعثَ أبا عامرٍ على جيشٍ لغزوةِ أوطاس، فاستُشهد رضي الله عنه، وانهزمت ثقيفُ إلى الطائف، فأغلقوا بابَ مدينتِهم، فسار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وحاصرهم نيفًا وعشرين يومًا، وقاتلَهم بالمنجنيقِ، وأمر بقطعِ أعنابِهم، ثمّ رحلَ عنهم، ونزلَ بالجعرانةِ، وأتى إليه بعضُ هوازن مسلمين، وسألوه أن يردَّ إليهم أموالَهم وسَبْيَهم، فخيرَّهم بينَ المالِ والسبي، فاختاروا السبيَ، فرد النّاسُ أبناءهم ونساءهم، ثمّ لحقَ مالكُ بن عوفٍ مقدَّم هوازنَ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلمَ وحسنَ إسلامُه، واستعملَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قومِه وعلى من أسلمَ من تلكَ القبائل، وكانَ عدةُ السبي الّذي أطلقَه ستةَ آلافٍ، ثمّ قسمَ الأموالَ، وكانت عدةُ الإبلِ أربعةً وعشرينَ ألفَ بعيرٍ، والغنمِ أكثرَ من أربعين ألفَ شاة، ومن الفضةِ أربعه آلافِ أوقيةٍ، وأعطى المؤلَفة قلوبُهم مثلَ أبي سفيان، وابنيه يزيدَ ومعاويةَ، وسهلِ بنِ عمرو، وعكرمةَ بنِ أبي جهلٍ، والحارثِ بنِ هشامٍ أخي أبي جهل، وصفوانَ بنِ أميةَ، وهؤلاء من قريش، وأعطى الأقرعَ بنَ حابسٍ التميميَّ، وعُيَيْنَةَ بنَ حصنٍ، ومالكَ بنَ عوفٍ مقدَّمَ هوازنَ وأمثالَهم، فأعطى لكلِّ واحدٍ من الأشراف مئةً من الإبل، وأعطى الآخرين لكلِّ واحدٍ أربعينَ، وأعطَى العباسَ بنَ مِرْداسَ السلميَّ أباعر لم يرضَها، فقالَ في ذلكَ من أبياتٍ: فَأَصْبحَ نهبي وَنْهب الْعُبَيْـ ... ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَة وَالأَقْرَعِ وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ أمْرِئٍ مِنهُما ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَمْ يُرْفَعِ

فرُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ"، فَأُعطيَ حتّى رضي (¬1). وفرقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائمَ، ولم يعطِ الأنصارَ شيئًا، فوَجَدُوا في أنفسِهم، فدعاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلى بُيُوتكُمْ؟ "، قالوا: بلى، قال: "لَوْ سَلَكَتِ النَّاسِ وَادِيًا وَسَلَكتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِي الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ" (¬2). وقد اتفق الأئمةُ على جوازِ اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في أمرِ الدنيا ووقعَ إجماعًا، واختلفوا في المجتهدينَ بعدَه، فقال أبو حنيفةَ: كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ، والحقُّ واحدٌ عندَ الله، وقال الثلاثةُ: المسألةُ الظنيةُ: الحقُّ فيها واحدٌ عندَ الله، وعليه دليلٌ، وعلى المجتهدِ طلبُه، فمن أصابَ فمصيبٌ، وإلا، فَمُخْطيءٌ مثابٌ، والجزئيَّةُ الّتي فيها نصٌّ قاطعٌ: المصيبُ فيها واحدٌ وفاقًا، ولا يأثمُ مجتهدٌ في حكمٍ شرعيٍّ اجتهاديٍّ، ويُثابُ بالاتفاق. ثمّ بعدَ الفراغ من أمرِ هوازن، اعتمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعادَ إلى المدينة، واستخلفَ على مكةَ عتَّابَ بنَ أسيدِ، وهو شابٌّ لم يبلغْ عشرينَ سنةً، وتركَ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1060)، كتاب: الزَّكاة، باب: إعطاء المؤلِّفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه، عن رافع بن خديج -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاريّ (3567)، كتاب: فضائل الصّحابة، باب: مناقب الأنصار، ومسلم (1059)، كتاب: الزَّكاة، باب: إعطاء المؤلِّفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[26]

معه مُعاذَ بنَ جبلٍ يُفَقِّهُ الناسَ، وحجَّ بالناسِ في هذهِ السُّنَّةِ عتابٌ على ما كانتِ العربُ تحجُّ، وأنزلَ اللهُ في قصةِ حنينٍ: و {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} أي: واذكرْ يومَ حنينٍ. {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} حتّى قلتم: لن نُغلبَ اليومَ من قلةٍ. {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ} كثرتُكم {شَيْئًا} من الإغناءِ. {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الباء بمعنى مع؛ أي: مع رحبها؛ أي: مع سَعَتِها {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} منهزمين. * * * {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}. [26] {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ} بعدَ الهزيمة {سَكِينَتَهُ} طُمَأْنينَتَهُ {عَلَى رَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم - {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي: أنزل عليهم من يُسَكِّنُهم ويُذهِبُ خَوْفهم. {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الملائكةَ لتحييزِ الكفارِ وتشجيعِ المسلمين، وقد تقدَّم في سورةِ الأنفالِ أن الملائكةَ لم يقاتلوا إِلَّا في يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددًا ومَدَدًا. {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالقتلِ والأسرِ والسبيِ. {وَذَلِكَ} الّذي فُعِلَ بهم {جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} في الدنيا، وفي الآخرة النارُ. * * *

[27]

{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}. [27] {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعدِ القتلِ والهزيمةِ. {عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فيهديه للإسلامِ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} عليهم. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}. [28] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} قَذَرٌ، والمرادُ: نجاسةُ الحكم، لا نجاسةُ العين، سموا نجسًا على الذمِّ؛ لتركهم غسلَ الجنابةِ والوضوءَ. {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} والمرادُ: جميعُ الحرمِ؛ لأنّهم إذا دخلوا الحرم، فقد قربوا من المسجدِ الحرام، فيُمنع كلُّ مَنْ كان على غير الإسلام من دخولِ حرمِ مكةَ شرفها الله تعالى، وهو ما أطاف بمكةَ وأحاطَ بها من جوانبها، جعلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- له حكمَها في الحرمة؛ تشريفًا لها. وَحَدُّ الحرمِ من طريقِ المدينةِ دونَ التنعيمِ ثلاثةُ أميالٍ عندَ بيوتِ السُّقيا، ومن اليمنِ سبعةٌ عند أضاةِ لين، ومن العراقِ كذلكَ على ثنية زُحَل جبل بالمنقطع، ومن الطائفِ وعرفاتٍ وبطنِ نمرة كذلك عند طرفِ عرفةَ، ومن الجعرانَةِ تسعةٌ في شعبِ عبدِ اللهِ بنِ خالد، ومِنْ جُدَّةَ عشرةٌ عندَ منقطعِ الأعشاش، ومن بطن عُرَنَة أحدَ عشرَ.

وأولُ من نصبَ حدودَ الحرمِ إبراهيمُ -عليه السّلام-، ثمّ جدَّدها قصيٌّ، ثمّ جَدَّدَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتحِ، ثمّ جَدَّدَها عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه، ثمّ جَدَّدَها معاويةُ رضي الله عنه. وتقدم ذكرُ حدودِ الأرضِ المقدسةِ في سورةِ المائدة، ويأتي ذكرُ حدودِ حرمِ المدينةِ في سورةِ الأحزابِ إن شاء الله تعالى. فإن قدمَ رسولٌ من الكفارِ إلى الحرم، لا بدَّ له من لقاءِ الإمامِ، خرجَ إليه إلى الحلِّ، ولم يأذنْ له، فإنْ دخلَ عالمًا بالمنع، عُزِّر، فإن مرضَ بالحرم، أو ماتَ، أُخرجَ، وإن دُفِنَ نُبِشَ وأُخرجَ، فليس لهم الاستيطانُ ولا الاجتيازُ به، وبهذا قالَ مالكٌ والشّافعيُّ وأحمدُ، وقال أبو حنيفة: لهم دخولُ الحرمِ كالحجازِ كُلِّه، ولا يستوطنونه، والمنعُ من الاستيطانِ لا يمنعُ الدخولَ والتصرُّف كالحجازِ. واتفقوا على أن الكفارَ يُمنعون من استيطانِ الحجازِ كلِّهِ كالمدينةِ ومكةَ واليمامةَ وخَيبر والينبع وقُراها، قالَ مالكٌ والشّافعيُّ وأحمدُ: فإن دخلوا للتجارة، لم يقيموا في موضعٍ أكثرَ من ثلاثةِ أيّام، وعند الشّافعيّ وأحمدَ: لا يدخلون إِلَّا بإذنِ الإمامِ، وسُمِّى الحجازُ حجازًا؛ لأنّه حجز بينَ تهامَة ونجدٍ، وتقدَّم اختلافُهم في دخولِ أهلِ الذمَّة إلى المسجدِ الحرامِ وغيره من مساجدِ الحِلِّ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]. {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} هو عامُ تسعةٍ من الهجرة الّذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالناس، وفيه أَذَّنَ عليٌّ ببراءةَ. ولما مُنِعَ المشركون من دخولِ الحرم، خاف المسلمون الفقراءُ لانقطاعِ

[29]

الميرةِ عنهم، فنزل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} (¬1) فقرأ {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} كرمِه وعطائِه {إِنْ شَاءَ} إذْ لا مُكْرِهَ له على فعلِه، فجاءهم المطرُ، وأخصبَتْ بلادهم. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بأحوالِكم {حَكِيمٌ} فيما يُعطي ويمنعُ. وتقدَّم التنبيهُ على اختلاف القراء في قوله: (أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا)، وكذلك اختلافُهم في (إِنْ شَاءَ إِنَّ الله). {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}. [29] {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ} لا يعتقدونَ {دِينَ الْحَقِّ} الإسلامَ. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اليهودِ والنصارى. {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} هي: الخراجُ المضروبُ على رقابهم على وجهِ الصَّغارِ بدلًا عن قتلِهم وإقامتِهم بدارنا، مشتقةٌ من الجزاء، إمّا جزاءً على كفرِهم؛ لأخذها منهم صغارًا، أو جزاءً على أماننا لهم؛ لأخذِها منهم رفقًا. {عَنْ يَدٍ} قهرٍ وذلٍّ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاءُ مقهورونَ، فيعطونَها من قيام والآخذُ جالسٌ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 268).

واتفق الأئمةُ على أن الجزيةَ تُضْرَبُ على أهلِ الكتابِ، وهم اليهودُ والنصارى ومَنْ يوافقهم في التديُّنِ بالتوراةِ والإنجيل؛ كالسامرةِ، والفرنج، ومن له شُبْهَةُ كتابٍ، وهم المجوسُ. واختلفوا في عبدةِ الأوثانِ، فقال أبو حنيفة: تُؤْخذُ من أهل العجم منهم دونَ العربِ، وقال مالك: تؤخذُ من عبدة الأوثانِ ونصارى العرب وكلِّ كافرٍ يصحُّ سباهُ سوى قريشٍ، وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: لا تؤخذ من عبدةِ الأوثانِ مطلقًا. واتفقوا على عدمِ قبولها من المرتدِّ، وأنّه لا يُقَرُّ على الردة. واتفقوا على عدمِ وجوبِها على النساءِ والصبيانِ والعبيدِ. واختلفوا في الراهبِ والشيخِ والهرمِ والزَّمِنِ والأعمى والفقير الغير معتملٍ، فقال الشّافعيُّ: تجبُ عليهم، وتستقرُّ في ذمةِ الفقيرِ حتّى يوسرَ، وقال الثلاثةُ: لا تجبُ عليهم. واختلفوا في قدرِها، فقال أبو حنيفةَ: هي ضربان: أحدُهما: ما يوضَعُ بالتراضي، فلا يتعدَّى عنها، والثّاني: يضعُها الإمام إذا غلبَ على الكفارِ، وأقرَّهم على ملكِهم، فيضعُ على الغنيِّ في كلّ سنةٍ ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى المتوسطِ نصفها، وعلى الفقير المعتمل ربعها، وتجبُ في أول الحول، وتؤخذ في كلِّ شهرٍ بقسطِه، وافقه أحمدُ في تقديرها بذلكَ، وقال: تؤخذ في آخر كلِّ حول، وقالَ مالكٌ: قدرُها أربعون درهمًا على أهلِ الوَرَقِ، وأربعةُ دنانيرَ على أهلِ الذَّهبِ في آخرِ الحول، وقال الشّافعيُّ: أقلُّها دينارٌ، ويستحب للإِمام مماكَسَتُه حتّى يأخذَ من المتوسِّط دينارين، ومن الغنيِّ أربعةً في آخر الحول.

[30]

واختلفوا في نصارى بني تغلبَ، وهم قوم ذوو شوكةٍ من العرب، انتقلوا في الجاهليةِ إلى النصرانية، فطلب عمرُ رضي الله عنه منهم الجزية، فأبوا، وطلبوا أن يؤخذ منهم كالزكاةِ من المسلمين، فأبى عمرُ، ثمّ خاف أن يلحقوا بالرومِ، فصالحهم على أن يضاعفَ عليهم مثلَ زكاةِ المسلمين بمحضرٍ من الصَّحابةِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ؛ يؤخذ منهم مثلَ ما يؤخَذُ من زكاةِ المسلمين، والمأخوذُ منهم واجبٌ بشرط الزكاةِ وأسبابِها، فلا تؤخذُ من فقير، ولا ممَّنْ مالُه غيرُ زكويٍّ، ومصرفُه مصرفُ الجزيةِ، فأبو حنيفةَ خصَّ الأخذَ بالرجالِ منهم والنساءِ دونَ الصبيانِ، وأحمدُ قال: يؤخذ من نسائِهم ومن صبيانِهم أيضًا، ومجانيِنهم، وكذا الحكمُ عنده في نصارى العرب ويهودِهم ومجوسِهم، وقال مالكٌ والشّافعيُّ: لا يؤخذ من نسائِهم وصبيانِهم، وحكمُهم كغيرِهم في ذلك. واختلفوا في سقوطِ الجزيةِ بالإسلام والموتِ بعدَ وجوبها، فقال أبو حنيفةَ: تسقطُ بهما، وقال مالكٌ وأحمدُ: تسقطُ بالإسلامِ دونَ الموتِ، وقال الشّافعيّ: لا تسقطُ بهما. * * * {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}. [30] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} قرأ عاصم، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (عُزَيْرٌ) بالتنوين، وكسرِهِ حالةَ الوصل، ولا يجوز ضمُّه في مذهبِ الكسائيِّ، لأنّ الضمةَ في (ابن) ضمةُ إعرابٍ، فهيَ غيرُ لازمةٍ

لانتقالها، وقرأ الباقون: بغير تنوين (¬1)؛ لأنّه اسمٌ أعجميٌّ، ويشبه اسمًا مصغَّرًا، ومَنْ نوَّنَ قالَ: لأنّه اسمٌ خفيفٌ فوجهُه أن ينصرفَ وإنْ كانَ أعجميًّا مثل (نوحٍ وهودٍ وصالحٍ)، واسمُ عزيرٍ بالعبرانيةِ عَزْرا، وهو من ذريةِ هارونَ بنِ عمرانَ، وهو من أنبياءِ بني إسرائيلَ، فلما ظهر بُخْتَ نَصَّر على بني إسرائيل، وقتلَ من قتلَ، وأسرَ من أسرَ، وكان العزيرُ من جملةِ الأسرى وهو صغير، فلما رجعَ بنو إسرائيل من العراقِ إلى القدسِ، رجع العزيرُ من جملتِهم، وقدمَ معه من بني إسرائيل ما يزيدُ على الألفين من العلماءِ وغيرِهم، وتربى مع العزير في القدس مئةٌ وعشرون شيخًا من علماءِ بني إسرائيلَ، وكانت التوراةُ قد عدمت منهم، فمثَّلَها اللهُ تعالى في صدرِ العزيرِ، ووضعَها لبني إسرائيلَ يعرفونها بحلالها وحرامِها، فأحبوه حُبًّا شديدًا، وقالوا: إنَّ اللهَ لم يقذفِ التوراةَ في قلبِ رجلٍ إِلَّا أنّه ابنُه، فعندَ ذلكَ قالتِ اليهود: عُزيرٌ ابنُ الله، والذي قالَ هذه المقالةَ رجلٌ من اليهودِ اسمُه فنخاصُ بنُ عازورا الّذي قال: إنَّ اللهَ فقيرٌ ونحنُ أغنياءُ، ورُوي أنّه لم يبقَ يهوديٌّ يقولها، بل انقرضوا، قالَ ابنُ عطيةَ: فإذا قالها واحدٌ، فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجلِ نباهةِ القائل فيهم، وأقوالُ النبهاءِ أبدًا مشهودة في النَّاس يُحتجُّ بها (¬2)، وأقامَ العزيرُ في بيتِ المقدس يدبِّرُ أمرَ بني إسرائيل حتّى تُوفي بعدَ مضيِّ أربعينَ سنة لعمارةِ بيتِ المقدسِ، فتكونُ وفاتُه سنةَ ثلاثين ومئةٍ لابتداءِ ولايةِ بُخْتَ نَصَّرَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 313)، و"التيسير" للداني (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 271)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 14 - 15). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 23).

[31]

{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} قالوا: لأنه لا أبَ له، ولم يكن لهذا القول برهانٌ، ولا معنى له ولا تأثير في القلب. {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} يقولونه بألسنتِهم من غيرِ علمٍ. {يُضَاهِئُونَ} قرأ عاصمٌ: (يُضَاهئُونَ) بهمزة مضمومةٍ بينَ الهاءِ والواو مع كسرِ الهاء، والباقون: بضم الهاء غير مهموز، وهما لغتان معناهما واحدٌ (¬1)؛ أي: يشابهون. {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي: يشابه قولُ اليهودِ والنصارى الذين في زمانِكَ في الشركِ قول المشركين قبلَه. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أهلَكَهم {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: من أين يُصْرَفون عن الحقِّ بعدَ قيامِ البرهان؟! * * * {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}. [31] {اتَّخَذُوا} أي: أهلُ الكتابين {أَحْبَارَهُمْ} علماءَ اليهودِ {وَرُهْبَانَهُمْ} أصحابَ الصوامعِ من النصارى. {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: هم عندَهُم كالأربابِ؛ لطاعتِهم إياهم في معصيةِ اللهِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 314)، و"التيسير" للداني (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 15).

[32]

{وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أي: اتخذوه ربًّا {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} وهو اللهُ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} صفةٌ ثابتةُ. {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيهٌ له عن أن يكونَ له شريكٌ. * * * {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}. [32] {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} أي: يُعْدِموا القرآنَ؛ أي: وما فيه من الأحكامِ أو نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. قرأ أبو جعفرٍ: (يُطْفُوا) بضمِّ الواوِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بكسر الفاء والهمز (¬1) {بِأَفْوَاهِهِمْ} بباطلِهم وتكذيبِهم. {وَيَأْبَى} ولم يُردِ {اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} يُعْلي دينَه، ويتمَّ الحقَّ الذي بعث به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ذلكَ. * * * {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}. [33] {هُوَ الَّذِي} يعني: الذي يأبى إلا إتمامَ دينه. {أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {بِالْهُدَى} بالقرآنِ وما فيه من التوحيدِ وغيرِه {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلامِ. {لِيُظْهِرَهُ} أي: ليعليَهُ {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على جميعِ الأديانِ فينسخَها. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 497)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 16).

[34]

{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وخَصَّ المشركين هنا بالذكرِ لما كانت الكراهيةُ مختصةً بظهورِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر المعظمَ الأولَ ممن كرهَ ذلكَ وصدَّ فيه، وذكرَ الكافرين في الآية قبلُ؛ لأنها كراهيةُ إتمامِ نورِ اللهِ في قديمِ الدهرِ وفي باقيه، فعمَّ الكفرةَ من لَدُنْ خَلْقِ الدنيا إلى انقراضِها، وقد وقعتِ الكراهيةُ والإتمامُ مرارًا. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. [34] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ} هم علماءُ اليهودِ. {وَالرُّهْبَانِ} مجتهدو النصارى في العبادةِ بالباطلِ. {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} أي: يأخذونها بالرُّشا في الحكم. {وَيَصُدُّونَ} يصرفون الناس {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} دينه. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} يجمعونَ {الذَّهَبَ} سُمِّي ذهبًا؛ لأنه يذهبُ ولا يبقى {وَالْفِضَّةَ} لأنها تنفضُّ؛ أي: تتفرَّقُ {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} أي: الكنوزَ. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} عن ابن عباسٍ وابنِ عمرَ: "كُلُّ

[35]

مَالٍ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ مُدَّخَرًا، وَكُلُّ مَالٍ لاَ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، فَهُوَ كَنْزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا" (¬1). * * * {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}. [35] {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أي: واذكرْ يومَ تُحمى النارُ على الأموالِ، فيوقدُ عليها؛ يعني: الكنوزَ. {فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى} فَتُحْرَقُ {بِهَا جِبَاهُهُمْ} يعني: كانِزِيها. {وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} ويقالُ لهم: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: تمنعونَ من حقوقِ الله تعالى. سُئل أبو بكرٍ الوَرَّاقُ: لِمَ خَصَّ الجباهَ والجنوبَ والظهورَ بالكيِّ؟ قال: "لأنَّ الغنيَّ صاحبَ الكنزِ إذا رأى الفقيرَ، قبضَ جبهتَه، وزوى بها بينَ عينيه، وولَّاهُ ظهره، وأعرضَ عنه بكشحِه" (¬2). * * * {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 87)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. ورواه ابن المنذر في "تفسيره" عن ابن عباس -رضي الله عنه-، كما عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 177). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 278).

[36]

فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}. [36] {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُو} عددَ الشهور، جمعُ شهرٍ. {عِنْدَ اللَّهِ} في حكمِ اللهِ من غير زيادةٍ ولا نُقْصانٍ. {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} قرأ أبو جعفرٍ: بمدِّ ألفِ (اثنا)، وإسكانِ العين، ورُويَ عنه أيضًا: بحذفِ الألف، والباقون: بفتح العين بغير مدٍّ (¬1)، وهي أشهرُ العربِ المعروفةُ، أولُها المحرَّمُ، وآخرُها ذو الحجة، وخُصَّت باثني عشرَة لأنهم كانوا ربما جعلوها ثلاثةَ عشرَ وأربعةَ عشرَ؛ ليتسعَ لهم الوقت. {فِي كِتَابِ اللَّهِ} في اللوح المحفوظِ {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: هذا أمر ثابتٌ مذ خلقَ اللهُ الأجرامَ والأزمنةَ، والمرادُ: الشهورُ الهلاليةُ، وهي التي يعتدُّ بها المسلمون في أمورِهم، وبالشهورِ الشمسيةِ تكونُ السنةُ ثلاثَ مئةٍ وخمسةً وستينَ يوما وربعَ يومٍ، والهلاليةُ تنقصُ عن ثلاثِ مئةٍ وستينَ بنقصانِ الأهلَّةِ، والغالبُ أنها تكونُ ثلاثَ مئةٍ وأربعةً وخمسينَ يومًا. {مِنْهَا} أي: من الشهورِ. {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وهي: رجبٌ، وذو القعدةِ، وذو الحجةِ، والمحرَّمُ، واحدٌ فردٌ، وثلاثة سردٌ، سُميتْ بذلك؛ لتحريمِ القتالِ فيها؛ المعنى: إن الشهورَ قد رجعتْ إلى وضعِها، وبطل النَّسيءُ، وعاد الحجُّ إلى ذي ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 278)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 17).

[37]

الحجة، قالَ - صلى الله عليه وسلم - في حجةِ الوداعِ: "أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ: السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَة حُرُمٌ" (¬1). {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: الحسابُ المستقيمُ {فَلَا تَظلِمُواْ فِيهِنَّ} في الأشهرِ الحرمِ {أَنْفُسَكُمْ} فلا تجعلوا حرامَها حلالًا، والجمهورُ على أنَّ حرمةَ المقاتلةِ فيها منسوخةٌ بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} مصدرُ كفَّ عن الشيء في موضعِ الحالِ؛ أي: مجتمعينَ في جميع الشهور. {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} جميعًا. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بشارة لهم بالنصرِ بسببِ تَقْواهم. * * * {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}. [37] {إِنَّمَا النَّسِيءُ} هو تأخيرُ تحريمِ المحرَّمِ إلى صَفَرَ؛ لحاجتِهم إلى القتالِ فيه، ومنه النسيئةُ في البيع، يقال: أَنْسَأَ اللهُ أجلَه؛ أي: أَخَّر. قرأ ورشٌ عن نافعٍ، وأبو جعفرٍ: بتشديدِ الياءِ بغير همزٍ، فعيلٌ من أنسأْتُه أَخَّرْتُه، قُلبت الهمزةُ ياءً، وأُدغمتْ فيها الياء، وقرأ الباقون: بالهمزِ والمدِّ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3025)، كتاب: بدء الخلق، باب: بها جاء في سبع أرضين، ومسلم (1679)، كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، عن أبي بكرة -رضي الله عنه-.

وإذا وقفَ حمزةُ وهشامٌ، وافقا وَرْشًا وأبا جعفرٍ (¬1)، وأولُ من نَسَّى النَّسِيَّ بنو كنانةَ. {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأن الكافرَ كلما عملَ معصيةً، ازدادَ كفرًا. {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ، عن عاصمٍ: (يُضَلُّ) بضم الياء وفتح الضاد مجهولًا، وقرأ يعقوبُ: بضمِّ الياءِ وكسرِ الضادِ؛ أي: (يُضِلُّ) الكافرونَ أتباعَهم، والباقونَ: بفتح الياءِ وكسرِ الضاد (¬2)؛ لأنهم هم الضالون؛ لقوله: {يُحِلُّونَهُ} أي: النسيءَ من الأشهرِ الحرمِ {عَامًا} ويحرِّمون مكانَه شهرًا آخرَ {وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} فيتركونه على (¬3) حُرمتِهِ. {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ} أي: ليوافقوا عددَ (¬4) {مَا حَرَّمَ اللَّهُ} من الأشهرِ الحرمِ؛ أي: لم يُحِلّوا شهرًا إلا حَرَّموا مكانَه من الحلال، والمواطأةُ: الموافقة. قرأ أبو جعفرٍ: (لِيُواطُوا) بضمِّ الطاءِ بغير همزٍ، والباقون: بكسرِ الطاء والهمز (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 314)، و"التيسير" للداني (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (1/ 279)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 405)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 18). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 314)، و"التيسير" للداني (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 281)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 242)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 19). (¬3) في "ت": "في". (¬4) "أي: ليوافقوا عدد" سقط من "ت". (¬5) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 397)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 20).

[38]

{فَيُحِلُّوا} بتحليلهم القتالَ في الأشهرِ الحرم {مَا حَرَّمَ اللَّهُ} فيها. {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} قالَ ابنُ عباسٍ: يُريد: زَيَّنَ لهم الشيطانُ (¬1). واختلافُ القراء في الهمزتين من (سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) كاختلافِهم فيهما من (السُّفَهَاءُ أَلاَ) في سورة البقرة. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} لا يرشدُهم. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}. [38] ولما رجعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من الطائفِ، أمرَ بالجهادِ لغزوِ الرومِ، وهي غزوةُ تبوكَ، وذلك في زمنِ عُسْرَةٍ من الناسِ، والشدَّةِ، من الحرّ حينَ طابتِ الثمارُ والظلالُ، ولم يكنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يريدُ غزوةً إلا وَرَّى بغيرِها حتى كانت تلكَ الغزوةُ، غزاها في حَرٍّ شديدٍ، واستقبلَ سفرًا بعيدًا، جَلَّى للمسلمين أمرَهم ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غزوِهم، فشقَّ عليهم الخروجُ، وتثاقلوا، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ} (¬2) أي: قالَ لكم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {انْفِرُوا} اخرُجوا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} تباطَأْتُم ومِلْتُم عن الجهادِ {إِلَى الْأَرْضِ} أي: لزمْتُمْ مساكِنَكم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (6/ 1796)، و"تفسير البغوي" (2/ 281). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (2788)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 138).

[39]

{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ولذاتِها بدلًا {مِنَ الْآخِرَةِ} ونعيمِها. {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: فما التمتُّعُ بها {فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}. * * * {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}. [39] ثم أوعدَهم على تركِ الجهادِ فقال: {إِلَّا} أي: إن لم {تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} في الآخرةِ {عَذَابًا أَلِيمًا} وقيلَ: هو احتباسُ المطرِ عنهم في الدنيا. {وَيَسْتَبْدِلْ} بكم {قَوْمًا غَيْرَكُمْ} خيرًا منكم وأطوعَ؛ كأهلِ اليمنِ وأبناءِ فارس. {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أي: لا يقدحْ تثاقُلُكم في نصرِ دينه؛ فإنه الغنيُّ عن كلِّ شيءٍ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدرُ على النصرةِ بلا مَدَدٍ. * * * {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}. [40] {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} بالنفيرِ معه.

{فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} هذا إعلامٌ من اللهِ أنه المتكفِّلُ بنصرِه كما نصرَه. {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من مكةَ حينَ مكروا به، وهَمُّوا بقتلِه. {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أحدَ اثنينِ، والمرادُ: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكرٍ رضي الله عنه. {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} نقبٍ في جبلِ ثورٍ بمكةَ، مكثا فيه ثلاثًا. قرأ أبو عمرو، وورشٌ عن نافعٍ: (الغَارِ) بالإمالة، بخلافٍ عن الدوريِّ وابنِ ذكوان، ورُوي عن قالونَ: الإمالةُ بينَ بينَ (¬1)، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ في الأنفالِ. عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ: "أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ" (¬2). قال الحسينُ بنُ الفضلِ: مَنْ قالَ إن أبا بكرٍ لم يكنْ صاحبَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فهو كافرٌ؛ لإنكارِه نصَّ القرآنِ، وفي سائرِ الصحابةِ إذا أنكرَ يكونُ مبتدِعًا، ولا يكونُ كافرًا (¬3). {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} هو أبو بكرٍ. {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي: بالرعايةِ والحفظِ، رُوي أن المشركين طلعوا فوقَ الغارِ، فأشفقَ أبو بكرٍ رضي الله عنه على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 54 - 57)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 242)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 21). (¬2) رواه الترمذي (3670)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، عن ابن عمر، وقال: حسن صحيح غريب. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 283).

إنْ أُقتلْ فأنا (¬1) رجلٌ واحدٌ، وإنْ قُتلت، هَلَكَتِ الأمةُ، فقال: "مَا ظَنُّكَ بِاثنيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟! " (¬2)، وأرسلَ اللهُ زوجًا من حمامٍ حتى باضا في أسفل النَّقْبِ، والعنكبوتَ حتى نسجَتْ بيتًا. {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} طُمأنينَتَهُ {عَلَيْهِ} على أبي بكرٍ. {وَأَيَّدَهُ} أي: قَوَّى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. {بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} همُ الملائكةُ صرفوا الكفارَ عن رؤيتِهما في الغارِ، وألقوا الرعبَ في قلوبِ الكفارِ يومَ بدرٍ والأحزابِ وحنينٍ. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هي دعوتُهم إلى الكفرِ. {السُّفْلَى} المنخفضةَ المغلوبةَ. {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} دعوتُه إلى الإيمانِ. قراءة العامة: (وَكَلِمَةُ اللهِ) بالرفعِ مبتدأٌ، خبرُه {هِيَ الْعُلْيَا} العالية. وقرأ يعقوبُ: (وَكَلِمَةَ اللهِ) بالنصبِ عطفًا على (كَلِمَةَ) (¬3). {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في أمرِه وتدبيره. * * * {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}. ¬

_ (¬1) في "ت": "فلأنا". (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 286)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 21).

[41]

[41] {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} أي: خَفَّ عليكم ذلك أو ثَقُلَ؛ أي: لا تنأَوْا عن الغزوِ. {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وصفٌ لأكملِ بها يكون من الجهادِ وأنفعِه عند الله، فحضَّ على كمالِ الأوصافِ، وقُدِّمتِ الأموالُ في الذكرِ؛ إذ هي أولُ مصرَّفٍ (¬1) وقتَ التجهيزِ، فَرُتِّبَ الأمرُ كما هو في نفسِه. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} للفوزِ برضوانِ الله، وغلبةِ العدوِّ، ووراثةِ الأرضِ. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تنبيهٌ وهزٌّ للنفوس، قال السديُّ: هذه الآية منسوخةٌ بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الآية [التوبة: 91] (¬2)، وقال القرطبيُّ: الصحيحُ أنها ليستْ بمنسوخةٍ (¬3). واتفق الأئمةُ على أن الجهادَ فرضٌ على الكفايةِ، إذا قامَ به قومٌ من المسلمين، سقطَ عن الباقين، فإذا هجمَ العدوُّ، صارَ فرضَ عينٍ بغير خلافٍ. * * * {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}. ¬

_ (¬1) "مصرف" ساقطة من "ت". (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 1803). (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" (8/ 151).

[42]

[42] ونزل في المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تبوكَ: {لَوْ كَانَ} ما تدعوهم إليه يا محمدُ. {عَرَضًا قَرِيبًا} نفعًا دنيويًّا سَهلَ المأخذِ. {وَسَفَرًا قَاصِدًا} سهلًا غيرَ شاقٍّ. {لَاتَّبَعُوكَ} فخرجوا معك {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} المسافةُ. {وَسَيَحْلِفُونَ} أي: المخلَّفون. {بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا} لو كانَ لنا استطاعةُ العدَّةِ والبدَنِ. {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} باليمينِ الكاذبة. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} لأنهم كانوا مستطيعين. * * * {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}. [43] فأذنَ - صلى الله عليه وسلم - لجماعةٍ من المنافقينَ بالتخلُّفِ، فقالَ تعالى مقدِّمًا العفوَ على العَتْبِ تأنيًا وتطيبًا لقلبه - صلى الله عليه وسلم -: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} أي: دامَ لكَ العفوُ، وهو افتتاحُ كلامٍ بمنزلةِ: أصلحَكَ اللهُ وأعزَّكَ الله، أخبرَه بالعفوِ قبلَ أن يخبرَهُ بالذنبِ، ولو بدأه - صلى الله عليه وسلم - بقوله {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} لخيفَ عليه أن ينشقَّ قلبُه من هَيبةِ هذا الكلام، لكنَّ الله تعالى برحمته أخبرَه بالعفوِ حتى سكنَ قلبُه، ثم قالَ له: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} بالتخلُّف؟ وهَلَّا أخرتهم {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في اعتذارِهم {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} أي: تعلمَ مَنْ لا عذرَ له، قال ابنُ

[44]

عباسٍ: لم يكنْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يعرفُ المنافقين يومئذٍ (¬1). * * * {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}. [44] {لَا يَسْتَأْذِنُكَ} في التخلُّفِ. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي: لا يُوقِفونه على الإذنِ، فَضْلًا أن يستأذنوك في التخلُّفِ كراهةَ أن يجاهدوا. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} عِدَةٌ لهم بثوابِه. * * * {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}. [45] [إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ] شَكَّتْ. {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ} في شَكِّهِم ونفاقِهِم {يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون. * * * {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}. [46] {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} في الغزوِ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 289).

[47]

{لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} أهبةً {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} انطلاقَهم بسرعة. {فَثَبَّطَهُمْ} خَذَلهم، وقيل: أي: قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي: مع أُولي الضررِ من النساءِ والصبيانِ والمرضى. * * * {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}. [47] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ} شيئًا. {إِلَّا خَبَالًا} فسادًا؛ بإيقاعِهم الفشلَ بينَ المؤمنين بتهويلِ الأمرِ. {وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} لأسرَعوا بينَكم بالنمائمِ؛ ليوقعوا الشرَّ بينكم، وكُتِبَ (وَلاَ أَوْضَعُوا) في المصحفِ بزيادةِ ألفٍ (¬1)، قالوا: وكانتِ الفتحةُ تكتبُ قبلَ الخطِّ العربيِّ ألفًا، والخطُّ العربيُّ اخْتُرِعَ قريبًا من نزولِ القرآنِ، وقد بقيَ من ذلكَ الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا الهمزةَ ألفًا، وفتحتَها ألفًا أخرى؛ نحو: (لاَ أَذْبَحَنَّهُ). {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: يطلبون لكم بها تُفْتَنون به (¬2). {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: مطيعون، أو متجَسِّسون. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فيعلمُ ضمائرَهم. وفي معنى قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} من الأمثالِ الدائرةِ على ألسُنِ الناسِ: للحيطانِ آذانٌ. ¬

_ (¬1) انظر: "كتاب المصاحف" لابن أبي داود (1/ 434). (¬2) "به" ساقطة من "ش".

[48]

{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}. [48] {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلِ غزوةِ تبوكَ وهيَ: تفريقُ شملِكَ بتخذيلِ الناسِ، ورَدِّهِم إلى الكفرِ. {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} أي: دَبَّرُوا لكَ الحيلَ. {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} النصرُ. {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} دينُه {وَهُمْ كَارِهُونَ} أي: على رغمٍ منهم. * * * {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}. [49] ونزل في الجَدِّ بنِ قيسٍ المنافقِ حينَ قالَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ لَكَ فِي جِلاَدِ بَنِي الأَصْفَرِ؟ "، فقالَ: إني مُغْرَمٌ بالنساءِ، وأخشى أني إِن رأيتُ بناتِ الأصفرِ ألَّا أصبرَ عنهن، فَأْذَنْ لي بالقعودِ، وأُعينكُ بمالي، ولم تكنْ له علةٌ إلا النفاق، فأعرضَ عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "قَدْ أَذِنْتُ لَكَ" فأنزلَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} (¬1) في التخلُّفِ عن الجهادِ. {وَلَا تَفْتِنِّي} تُوقِعْني في الإثمِ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (6/ 1809)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 139)، و "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 213).

[50]

{أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: في الإثم وقعوا بنفاقِهم وخلافِهم أمرَ اللهِ ورسوله. {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} جامعةٌ لهم فيها. * * * {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)}. [50] {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} نصرٌ وغنيمةٌ في بعضِ الغزوات {تَسُؤْهُمْ} تُحْزِنْهم. {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} شدةٌ وهزيمةٌ في بعضِها. {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} بالحزمِ والاحتياطِ {مِنْ قَبْلُ} أي: قبلَ هذهِ المصيبة. {وَيَتَوَلَّوْا} يُدْبِروا {وَهُمْ فَرِحُونَ} مسرورونَ بمُصابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأُحُدٍ. * * * {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}. [51] {قُلْ} لهم يا محمدُ: {لَنْ يُصِيبَنَا} لن يصلَ إلينا. {إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} إلا بها اختَّصنا اللهُ به مما كُتِبَ علينا في اللوحِ المحفوظِ. {هُوَ مَوْلَانَا} متولِّي أمرِنا.

[52]

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} لأن حقَّهم ألَّا يتوكلوا على غيره. * * * {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}. [52] {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ} تنتظرونَ {بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} تثنيةُ الحسنى، إما النصرُ، أو الشهادةُ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ عن ابنِ عامرٍ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (هَل تَّرَبَّصُونَ) بإدغام اللام في التاء، والباقون: بالإظهار (¬1). {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوءتين، إما {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} هو الصواعقُ والموتُ {أَوْ بِأَيْدِينَا} كقتلِنا إياكم إنْ أظهرتُمْ ما في قلوبِكم. {فَتَرَبَّصُوا} بمواعيدِ الشيطانِ. {إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} بمواعيدِ الرحمنِ بالنصرِ عليكم. * * * {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)}. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 403)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 238)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:242)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 24).

[53]

[53] ونزل في الجدِّ بنِ قيسٍ حينَ استأذنَ في القعودِ وقالَ: أُعينُكم بمالي: {قُلْ أَنْفِقُوا} في طاعةِ اللهِ تعالى. {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أمرٌ بمعنَى الخبر؛ أي: إن أنفقتُم طوعًا أو كرهًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (كُرْهًا) بضمِّ الكاف، والباقون: بالفتح (¬1). {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ} أي: لأنكم. {كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليلٌ به على سبيلِ الاستئنافِ، وما بعدَه بيانٌ وتقريرٌ له. * * * {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}. [54] {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يُقْبَلَ) بالتذكير، لتقديم الفعل، والباقون: بالتأنيث (¬2) {نَفَقَاتُهُمْ} صدقاتُهم، المعنى: وما منعَ قبولَ صدقاتِهم. {إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ} إذا اضطُرُّوا إلى إتيانِها. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 95)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 25). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 315)، و"التيسير" للداني (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 291)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 25).

[55]

{إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} متثاقلون؛ لأنهم لا يرجونَ بها ثوابًا، ولا يخافون على تركِها عقابًا. {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} لأنهم يعدُّونها مغرمًا، ومنعَها مغنمًا. * * * {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}. [55] {فَلَا تُعْجِبْكَ} أصلُ الإعجابِ: السرورُ بالشيءِ سرورَ متعجِّبٍ من حسنِه، راضٍ به؛ أي: لا تَمِلْ إليهم، ولا تَحْسُنْ في عينيكَ. {أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} فإن ذلكَ استدراجٌ ووبالٌ لهم؛ كما قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بسببِ ما يكابِدون لجمعِها وحفظِها من المتاعبِ، وما يجدون فيها من الشدائدِ والمصائبِ. {وَتَزْهَقَ} تخرجَ {أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي: يموتون على الكفر. * * * {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}. [56] {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} على دينِكم. {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} لكفرِ قلوبِهم. {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يفزعون أن تفعلوا بهم بها تفعلونَ بالمشركين. ***

[57]

{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}. [57] {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} مكانًا يتحَصَّنونَ فيه. {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي الغارُ يَغورون فيه. {أَوْ مُدَّخَلًا} سَرَبًا تحتَ الأرضِ يدخلون فيه. قرأ يعقوبُ: (مَدْخَلًا) بفتح الميم وإسكان الدال المخففة، والباقون: بضمِّ الميم وفتحِ الدال مشدَّدَةً (¬1). {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} إليه هَرَبًا منكم. {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يُسرعون في إباءٍ، ومنهُ الفرسُ الجموحُ. * * * {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)}. [58] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} يَعيبُك في قِسمَتِها. قرأ يعقوبُ: (يَلْمُزُكَ) بضم الميم، والباقون: بكسرها، وروي عن ابنِ كثيرٍ: (يلامِزُكَ) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 292)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 26). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 315)، و"تفسير البغوي" (2/ 293)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 27).

[59]

{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} نزلتْ في ذي الخُوَيْصِرَةِ التميميِّ، واسمُه حرقوصُ بنُ زهير أصلُ الخوارج، كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقسمُ غنائمَ حُنين، فاستعطفَ قلوبَ أهلِ مكَّةَ بتوفيرِ الغنائمِ عليهم، فقال: اعدلْ يا رسولَ الله، فقال: "وَيْلَكَ! إِنْ لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ؟! " (¬1) و (¬2) قيل: نزلتْ في أبي الجواظِ المنافقِ، قال: ألا ترونَ إلى صاحبِكم، إنما لقيتُم صدقاتِكم في رُعاةِ الغنمِ، ويزعمُ أنه يعدلُ (¬3)، (وإذا) للمفاجأةِ جُعِلَتْ جوابًا للشرط، وهي هنا ظرفُ مكانٍ، التقديرُ: إِن لم يُعْطَوا، فاجؤوا السَّخط. * * * {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}. [59] {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ما أعطاهم الرسولُ من الغنيمةِ والصدقةِ، وذكرُ اللهِ للتعظيم. {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} كفانا فضلُه. {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} صدقةً أو غنيمةً أخرى. {وَرَسُولُهُ} فيؤتينا أكثرَ مما آتانا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3414)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (1064)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬2) في "ن": "أو". (¬3) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 78 - 79): غريب.

[60]

{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} في أن يوسِّعَ علينا من فضلِه، وجوابُ (لو) محذوفٌ، تقديره: لكانَ خيرًا لهم. * * * {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}. [60] ثم بَيَّنَ اللهُ مصارِفَ الصدقات، رُويَ عن زيادِ بنِ الحارثِ الصُّدائيُّ قال: أتيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فبايعتُه، فأتاه رجل فقال: أَعْطِني من الصدقةِ، فقالَ له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله (¬1) لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ، وَلاَ غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا، فَجَرأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ، أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ" (¬2). قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} أي: الزكوات، و (إنما) للحصرِ تُثْبِتُ المذكورَ، وتنفي بها عداه. {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} مذهبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ: الفقيرُ: مَنْ له بعضُ ما يكفيهِ، والمسكينُ: مَنْ لا شيءَ لهُ، فالفقيرُ عندَهما أحسنُ حالًا من المسكينِ، ومذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ بعكسِه، وأبو حنيفةَ يمنعُ من الصدقةِ مَنْ يملكُ نِصابًا، فإذا لمن يملكْه، جازَ أن يُعطى نصابًا وأكثرَ، ومالكٌ ¬

_ (¬1) "إن الله" ليست في "ن". (¬2) رواه أبو داود (1630)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغني.

يُجَوِّزُ دفعَها لمن له نصابٌ لا كفايةَ له فيه، فَيُعطى نِصابًا وما فوقَه، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ: مَنْ ملكَ بها لا يقومُ بكفايتِهِ مُطْلقًا، فليس بغنيٍّ، فيعطى الفقيرُ والمسكينُ عندَ الشافعيِّ كفايةَ العمرِ الغالبِ، فيشتري بهِ عقارًا يستغلُّه، وعندَ أحمدَ: يُعطى لهما ولعائلتِهما تمامُ كفايتِهم سنةً. {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} هم الجباةُ لها ومُفَرِّقوها، يعطَون على قدرِ عَمالتِهم معَ غِناهم بالاتفاقِ. {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهمْ من يُتَأَلَّفُ قلبُه ليخلصَ إيمانه، أو يُرجى بعطيتهِ إسلامُ نظيرِه، أو جبايةُ الزكاةِ ممن لا يُعطيها، أو الدفعُ عن المسلمين، أو من يُتَّقى شرُّه من الكفار، أو يُرْجى إسلامُه. قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ عن نافعٍ: (وَالْمُؤَلَّفَةِ) بفتح الواو بغير همزٍ، والباقون: بالهمز، وحكمُهم غيرُ منسوخ، وسهمُهم ثابتٌ عندَ أحمدَ، وعندَ الشافعيِّ أَن حكمَ المؤلفةِ من المسلمينَ باقٍ، وأَن الكافرَ لا يُعطى تألفًا بحالٍ، وعندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ حكمُهم منسوخٌ، وسهمُهم ساقطٌ، إلا أن مالكًا قال: إنِ احتيجَ إليهم، جازَ الدفعُ لهم. {وَفِي الرِّقَابِ} هم المكاتبُون، يُعْطَون منها عندَ أبي حنيفة ما يُعانونَ به في فَكِّ رقبتِهم، وعندَ الشافعي قدرَ دَيْنهم، وقالَ مالكٌ: لا يُعطى المكاتبَون، وإنما يشتري الإمامُ رقابًا ويعتقُهم، والولاءُ للمسلمين بشرطِ الإسلامِ على المشهور، وقال أحمد بجوازِ الأمرين، ووافق الشافعيَّ في إعطائِهم قدرَ دَيْنهم، وقال أيضا: يجوزُ أن يَفْديَ بها أسيرًا مسلمًا، ورُوي مثله عن مالكٍ، والمشهورُ عنه خلافُه. {وَالْغَارِمِينَ} هُم الذين عَلَتْهم الديونُ لغيرِ معصيةٍ، فمن غرمَ لإصلاحِ

نفسِه في مُباحٍ، أُعطي إِذا لم يكنْ له من المالِ بها يفي بدينِه بالاتفاق، وإن غرمَ لإصلاحِ ذاتِ البَيْنِ، أُعطي مع غِناهُ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، خلافًا لأبي حنيفةَ ومالكٍ فإنهما يشترطانِ أن يكونَ فقيرًا. {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} همُ الغزاةُ الذين لا ديوانَ لهم، فَيُعْطَون مع غناهم عندَ الثلاثة، وقال أبو حنيفةَ: هو مخصوصٌ بالفقير منهم، وقال أحمدُ: الحجُّ من سبيلِ اللهِ، فيُعطى الفقيرُ ما يحجُّ به الفرضَ، أو يستعينُ به فيه، وافقه محمدُ بنُ الحسنِ، وخالفَ أبو يوسف. {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو المسافرُ المنقطعُ دونَ بلدِه، فَيُعطى بها يقطعُ به سفرَهُ عندَ الثلاثة، وعندَ الشافعي لا فرقَ بينَ مُنْشِئ السفرِ والمجتازِ إذا لم يكنْ معه ما يحتاجُ إليه في سفره، ويُشترط في السفر أن يكونَ مباحًا عندَ الثلاثة؛ خلافًا لأبي حنيفة. {فَرِيضَةً} أي: واجبةً. {مِنَ اللَّهِ} مصدرٌ مؤكِّدٌ؛ أي: فرضَ الصدقاتِ فريضةً. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يضعُ الأشياءَ في مواضِعها. واختلفَ الأئمةُ في جوازِ صرفِها إلى بعضِ الأصنافِ الثمانيةِ، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يجوزُ صرفُها إلى صنفٍ واحدٍ، وقال الشافعيُّ: لا يجوزُ صرفُها إلى بعضِهم معَ وجودِ سائرِهم، وقال مالكٌ: يُتَحَرَّى في موضعِ الحاجةِ منهم، ويُقَدَّمُ الأَوْلى فالأولى من أهل الخُلَّةِ والحاجةِ، ومعنى الخلةِ: الفقيرُ. واتفقَ الأئمةُ رضي الله عنهم على وجوبِ الزكاةِ في أربعةِ أصنافٍ من المالِ: السائمةُ من بهيمةِ الأنعام، وهي التي تَرْعى في أكثرِ الحولِ،

والخارجُ من الأرض، والنقدُ، وعروضُ التجارة. ولا تجبُ إلا بشروطٍ خمسة: الإسلام، والحرية، وملك النصاب، وتمام الملك، فلا تجبُ على مكاتَبٍ، ومضيُّ الحولِ إلا في الخارجِ من الأرضِ، وتقدَّمَ الكلامُ عليه في سورةِ الأنعام عندَ تفسيرِ قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الآية: 141] وهل يُشترَطُ البلوغُ والعقلُ؟ قال الثلاثةُ: لا يُشترط، بل تجبُ في مالِ الصبيِّ والمجنونِ، وقال أبو حنيفة: يُشترط، فلا تجبُ عليهما. والزكاةُ في اللغة: الزيادةُ، يقال: زكا المالُ: إذا نما وزادَ، وفي الشرعِ: حَقٌّ واجبٌ في مالٍ خاصٍّ لطائفةٍ مخصوصةٍ في وقتٍ مخصوصٍ. ولا يجوزُ أداؤُها إلا بالنية بالاتفاق. ويجوز تعجيلُها عندَ أبي حنيفةَ لسنةٍ أو أكثرَ، وعندَ الشافعيِّ لحولٍ واحدٍ، وعندَ أحمدَ لحولينِ، وقال مالكٌ: لا يجوزُ إخراجُ الزكاةِ قبلَ وجوبها. واتفقوا على أن نصابَ الإبلِ خمسٌ، ففي كُلِّ خمسٍ شاةٌ إلى أربعٍ وعشرينَ، وفي خمسٍ وعشرينَ بنتُ مخاضٍ لها سنةٌ، ثم في سِتٍّ وثلاثينَ بنتُ لَبونٍ لها سنتان، ثم في سِتٍّ وأربعينَ حُقَّةٌ لها ثلاثُ سنينَ، ثم في إحدى وستينَ جَذَعَةٌ لها أربعُ سنين، ثم في سِتٍّ وسبعينَ بِنْتا لَبون، ثم في إحدى وتسعين حُقَّتانِ إلى مئةٍ وعشرين، فإن زادتْ واحدةً، فقال أبو حنيفة: يستأنفُ الفريضةَ، ففي كلِّ خمسٍ شاةٌ كالأول إلى مئةٍ وخمسٍ وأربعين، ففيها حُقَّتان وبنتُ مخاضٍ إلى مئةٍ وخمسين، ففيها ثلاثُ حقاقٍ، ثم في الخمسِ شاةٌ كالأولى إلى مئةٍ وخمسٍ وسبعين، ففيها ثلاثُ حقاقٍ،

وبنتُ مخاضٍ، وفي مئةٍ وسِتٍّ وثمانين ثلاثُ حقاقٍ وبنتُ لبون، في كلِّ أربعينَ بنتُ لَبون، وفي كلِّ خمسين حقةٌ، وعن مالكٍ إذا زادت واحدةً، روايتان: أشهرُهما أن الساعيَ بالخِيار بينَ حُقَّتين أو ثلاثِ بناتِ لبون. وفي مئةٍ وستِّ وتسعينَ أربعُ حقاقٍ إلى مئتين، ثم تستأنف أبدًا كما استأنفتَ بعدَ المئةِ وخمسين، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: إن الزيادةَ الواحدةَ تغير الفرضَ، فيكونُ في مئةٍ وإحدى وعشرين ثلاثُ بناتِ لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وعن مالك إذا زادت واحدة روايتان؛ أشهرهما أن الساعي بالخيار بين حقتين أو ثلاث بنات لبون. والروايةُ الأخرى: ليس فيها إلا حُقَّتانِ حتى تبلغَ ثلاثينَ ومئةً، فإذا صارتْ كذلك، أُخِذَ من كلِّ خمسينَ حقةٌ، ومن كل ثمانين بنتا لبون. واتفقوا على أن نصابَ البقرِ ثلاثون، ففيها تبَيعٌ أو تبَيعةٌ، وهي التي لها سنةٌ عندَ الثلاثةِ، وعندَ مالكٍ التي لها سنتانِ، وفي الأربعينَ مُسِنَّةٌ، وهي التي لها سنتانِ عندَ الثلاثةِ، وعندَ مالكٍ التي لها أربعُ سنينَ إلى تسعٍ وخمسينَ، فإذا بلغتْ ستين، ففيها تَبيعان إلى تسعٍ وستين، فإذا بلغتْ سبعين، ففيها تبيعٌ ومسنةٌ، فإذا بلغت ثمانين، ففيها مُسِنَّتانِ، وفي تسعينَ ثلاثةُ أتبعةٍ، وفي مئةٍ تبيعانِ ومسنةٌ، وعلى هذا أبدًا يعتبر الفرضُ، ففي كلِّ ثلاثين تبيعٌ، وفي كل أربعين مسنَّةٌ. والجواميسُ نوعٌ منه بالاتفاق. واتفقوا على أن نصابَ الغنمِ أربعونَ، وفيها شاةٌ إلى مئةٍ وعشرين، فإذا زادت واحدةً، ففيها شاتان، ثم في مئتين وواحدةٍ ثلاثُ شياه إلى أربعِ مئةٍ ففيها أربعُ شياهٍ، ثم في كل مئةٍ شاةٌ. والمعزُ والضأنُ سواءُ بالاتفاق. واختلفوا فيما يؤخذ من الزكاة، فقال أبو حنيفةَ: أدنى ما تتعلَّقُ به الزكاةُ

ويؤخَذُ في الصدقة الثَّنيُّ، وهو ما تَمَّتْ له السنةُ، ولا يجزئُ الجَذَعُ، وهو عندَه الذي أتى عليه أكثرُ السنةِ، وقالَ الثلاثةُ: يؤخذُ الجذعُ من الضأنِ، وهو ما لَهُ سنةٌ عندَ مالكٍ والشافعيِّ، وستةُ أشهرٍ عندَ أحمدَ، والثنيُّ من المعزِ، وهو ما له ثلاثُ سنينَ عندَ مالكٍ، وسنتانِ عندَ الشافعيِّ، وسنة عندَ أحمدَ. واختلِفَوا في الخيلِ إذا لم تكنْ معدَّةً للتجارةِ، فقالَ الثلاثة: لا زكاةَ فيها، وقال أبو حنيفةَ: فيها الزكاةُ إن كانتْ سائمةً ذكورًا وإناثًا، أو إناثًا، فإن شاءَ أعطى عن كل فرسٍ دينارًا، وإن شاءَ قَوَّمها وأعطى عن كلِّ مئتي درهمٍ خمسةَ دراهمَ، وخالفه صاحباه، فوافقا الجماعةَ. واختلفوا فيما إذا كانتِ الغنمُ ذُكورًا، أو إناثًا، أو من الصنفينِ، فقال أبو حنيفةَ: يجزئ أخذُ الذكرِ من كلٍّ، وقالَ الثلاثةُ: إن كانتْ كلُّها ذكورًا، أجزأَ الذكرُ، وإن كانتْ إناثًا، أو من الصنفين، فلا يجزئ فيها إلا الأنثى. واتفقوا على أن نصابَ الفضةِ مئتا درهمٍ، وأما نصابُ الذهب، فقال مالكٌ: هو عشرون دينارًا، وقال الثلاثةُ: هو عشرون مثقالًا، فإذا حالَ الحولُ، ففي كل منهما ربعُ العشرِ بالاتفاق. واختلفوا (¬1) في الحليِّ المباحِ مما يُلْبَسُ ويُعار، فقال أبو حنيفة: فيه الزكاةُ، وقال الثلاثة: لا زكاةَ فيه، وأما المحرَّمُ والمعدّ للتجارةِ، ففيهما الزكاةُ بغير خلافٍ. واختلفوا في زكاةِ المعدنِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: تجبُ في كلِّ ما يُستخرَجُ من الأرض من ذهبٍ وفضةٍ وحديدٍ ونحوِها، واختلفا، فقال أبو حنيفةَ: لا يُعتبر فيه النصابُ، بل يجبُ في قليلِه وكثيرِه الخمسُ، وهو فيء، والباقي لمستخرجِه، وقال أحمدُ: يعتبر النصابُ، وفيه ربعُ العشر ¬

_ (¬1) في "ش": "اتفقوا"، وهو خطأ.

زكاةً في الحال، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يتعلَّق بشيء (¬1) إلا بالذهبِ والفضةِ، ووافقا أحمدَ في اعتبارِ النصابِ ووجوبِ ربعِ العشرِ زكاةً في الحال. ولا زكاةَ فيما يخرجُ من البحرِ من اللؤلؤ والمرجانِ بالاتفاق. واختلفوا في الرِّكازِ، وهو دفنُ الجاهليةِ، فقال الثلاثةُ: فيه الخمسُ في الحال، قلَّ أو كثرَ من أيِّ نوعِ كان، والواجدُ كالغانمِ له أربعةُ أخماسٍ، ومصرفُه مصرفُ الفيء، وقال الشافعيُّ: شرطُه النصابُ والنقدُ، لا الحولُ، وفيه الخمسُ يصرَفُ مصرفَ الزكاةِ. واتفقوا على وجوبِ الزكاة في عُروضِ التجارة إذا بلغَتْ قيمتُها نصابًا من الذهبِ أو (¬2) الوَرِقِ ففيها ربعُ العشر. ثم اختلفوا في استقرارِ وجوبِها بالحولِ، فقال الثلاثةُ: إذا حالَ عليها الحولُ، قَوَّمَها، فإذا بلغتْ نِصابًا، زَكَاها، وقال مالكٌ: لا تجبُ الزكاةُ حتى يبيعَ، فإنْ أقامَ أحوالًا، فلا شيءَ عليه ما دامَ عرضًا، ولا تُقَوَّمُ في كلِّ سنة، فإذا باعَ، زكَّى لسنةٍ واحدةٍ. واتفقوا على وجوبِ زكاةِ الفطرِ على الأحرارِ المسلمينَ، وتلزمُ عندَ الثلاثة مَنْ ملكَ فاضلًا عن قوتِه وقوتِ عياله يومَ العيدِ وليلَتَه ما يُخرجُه فيها، وقال أبو حنيفة: لا تجبُ إلا على من ملكَ نصابًا، ووقتُ وجوبِها عندَ أبي حنيفةَ طلوعُ الفجرِ يومَ الفطرِ، وعندَ الثلاثةِ غروبُ الشمسِ ليلةَ الفطرِ، ويجوزُ تعجيلُها عند أبي حنيفةَ قبلَ رمضانَ، وعنه خلاف، وعندَ ¬

_ (¬1) "بشيء" زيادة من "ش". (¬2) في "ش": "و".

مالكٍ وأحمدَ يجوزُ تعجيلُها قبلَ العيدِ بيومٍ ويومينِ، وعندَ الشافعيِّ من أولِ الشهرِ، ويُستحبُّ إخراجُها يومَ الفطرِ قبلَ الخروجِ إلى المصلَّى بالاتفاق. واتفقوا على جوازِ إخراجِها من خمسةِ أصنافٍ: البُرِّ، والشعيرِ، والتمرِ، والزبيبِ، والأَقِطِ، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يجزئُ الدقيقُ والسَّويقُ أيضًا، وقال مالكٌ: يجوزُ إخراجُها من الحَبِّ من سائرِ الأقواتِ؛ كالأرزِّ، والذرةِ، والدخنِ. واتفقوا على أن الواجبَ صاعٌ من كلِّ جنسٍ، سوى أبي حنيفةَ؛ فإنَّه قالَ: يجزئ من البُرِّ خاصَّةً نصفُ صاعٍ. واختلفوا في قدرِ الصاعِ، فقال أبو حنيفة: ثمانيةُ أرطالٍ بالعراقيِّ، وقال الثلاثةُ وأبو يوسفَ: خمسةُ أرطالٍ وثلثٌ بالعراقيِّ، وهو أربعةُ أرطالٍ وخمسةُ أسباعِ رطلٍ وثلثُ سُبع رطلٍ مصريٍّ، ورطلٌ وسبعُ رطلٍ دمشقيٍّ، وإحدى عشرةَ أوقيةً وثلاثةُ أسباعِ أوقيةٍ حلبيةٍ، وعشرُ أواقٍ وسُبْعا أوقيةٍ قدسيةٍ، وستُّ مئةٍ وخمسةٌ وثمانونَ درهمًا، وخمسةُ أسباعِ درهمٍ، وأربعُ مئةٍ وثمانون مثقالًا. وتقدَّمَ ذكرُ المدِّ مستوفًى في سورةِ المائدةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [الآية: 89]. واختلفوا في جوازِ إخراج القيمة، فقالَ أبو حنيفةَ: يجوزُ، وخالفَهُ الثلاثةُ. واختلفوا في الأفضلِ، فقال مالكٌ وأحمدُ: التمرُ أفضلُ، ثم الزبيبُ، وقال الشافعيُّ: البُرُّ أفضلُ، وقالَ أبو حنيفةَ: أفضلُ ذلك أكثرُه نماءً، والله أعلم. * * *

[61]

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}. [61] ونزل فيمن كان يؤذي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين، ويقولُ: نأتيه ونُنْكِر ما قلنا، ونحلفُ فيصدِّقُنا؛ فإنَّهُ أُذُن. {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} (¬1) أي: يسمعُ كلَّ ما قيلَ له ويقبلُه. {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي: إذا كان كما تقولون، فهو خيرٌ لكم. قرأ نافعٌ: (أُذْنٌ) بإسكان الذال فيهما، والباقون: بالرفع (¬2). {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: يصدِّقهم، إلا المنافقين. {وَرَحْمَةٌ} قرأ حمزةٌ: (وَرَحْمَةٍ) بالخفض على معنى (أُذُنِ) خيرٍ و (رحمةٍ)، والباقون: بالرفع؛ أي: هو أذنُ خيرٍ، وهو رحمةٌ (¬3). {لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} لأنه كان هو سببَ إيمانهم {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 140). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 315)، و"التيسير" للداني (ص: 99)، و"تفسير البغوي" (2/ 299)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 28). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 315)، و"التيسير" للداني (ص: 118)، و"تفسير البغوي" (2/ 299)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 29).

[62]

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)}. [62] ونزلَ فيمن تخلَّف عن غزوةِ تبوكَ واعتذرَ {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ولما كان رضا الله تعالى رضا نبيه، وبالعكسِ، وَحَّدَ الضمير في (أَنْ يُرْضُوهُ). {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} صدقًا. * * * {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}. [63] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يُعاديهما. {فَأَنَّ لَهُ} فتحًا خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فجزاؤه أنَّ له. {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أي: الفضيحةُ العظيمةُ. * * * {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}. [64] ثم خَبَّرَ بحالِ المنافقين فقالَ: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} أي: يخشون. {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي: على المؤمنينَ {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ} أي: تنبئُ المؤمنينَ. {بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ}؛ أي: قلوبِ المنافقين، المعنى: المنافقونَ يحذَرون

[65]

من نزولِ سورةٍ على المؤمنين تخبرُ بما يُضمرونَ من النفاق، فَيُفْتَضحون، وهم مع ذلكَ يستهزئون. {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} من إنزالِ السورةِ فيكم. قرأ أبو جعفرٍ: (اسْتَهْزُوا) بضم الزاي بغيرِ همزٍ، وكذلك في (يَسْتَهْزُؤنَ) في الحرف الآتي، والباقون: بالهمزِ فيهما (¬1). * * * {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}. [65] وكان جماعةٌ يستهزئون برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لما كانَ في غزوةِ تبوكَ، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريدُ أن يفتحَ قصورَ الشامِ وحصونَه، هيهاتَ هيهاتَ! فأخبرَ اللهُ نبيَّهُ، فدعاهم فقال: "قُلْتُمْ كَذَا؟ "، فأنكروا واعتذروا، وقالوا: إنما كنا نخوضُ ونلعبُ، فنزلَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} (¬2) في الكلام. {وَنَلْعَبُ} كما يفعلُ الركبُ نقطعُ الطريقَ بالحديثِ واللعِب. {قُلْ} يا محمد: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ} كتابِه. {وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} توبيخًا على استهزانِهم بمن لا يصحُّ الاستهزاءُ به. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 243)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 30). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 141)، و"تفسير البغوي" (2/ 301).

[66]

{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}. [66] {لَا تَعْتَذِرُوا} لا تُظهروا عُذْرَكُم {قَدْ كَفَرْتُمْ} باستهزائِكم. {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} بعدَ إظهارِكم الإيمانَ. {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي: إن نرحم طائفةً منكُم بتوبتِهم وإخلاصِهم. {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} مصرين على النفاق. قرأ عاصمٌ: (نَعْفُ) بالنونِ وفتحِها، وضمِّ الفاء (نُعَذِّبْ) بالنون وكسر الذال (طَائِفَةً) نصبٌ، وقرأ الباقون: (يُعْفَ) بالياءِ وضمِّها وفتح الفاء (تُعَذَّبْ) بالتاءِ وفتح الذال (طائفةٌ) رفعٌ على غيرِ تسميةِ الفاعل (¬1). * * * {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)}. [67] {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} في النفاقِ والدِّين. {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} بالكفرِ والمعصيةِ. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} الإيمانِ والطاعةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 316)، و"التيسير" للداني (ص: (118 - 119) و"تفسير البغوي" (2/ 301)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 30 - 31).

[68]

{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} يُمْسِكون عن الصدقاتِ. {نَسُوا اللَّهَ} تركوا أمرَهُ {فَنَسِيَهُمْ} فتركَهم من رحمتِهِ. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الكاملون في التمرد والفسوق. * * * {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}. [68] {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} كافِيَتُهم جزاءً على كفِرهم. {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} أبعدَهُم من رحمتِهِ. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} دائمٌ لا ينقطعُ. * * * {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)}. [69] {كَالَّذِينَ} خبرُ مبتدأ، أي: أنتمْ مثلُ الذين. {مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} أي: انتفعوا بنصِيبهم من الدنيا باتّبَاع الشهواتِ. {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} أيُّها المنافقونَ.

[70]

{بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} وسلكتم مسلكهم. {وَخُضْتُمْ} في الباطل {كَالَّذِي خَاضُوا} أي كما خاضوا. {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} لم يستحقُّوا عليها ثوابًا. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا الدارَيْنِ. * * * {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}. [70] {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} يعني: المنافقين {نَبَأُ} خبرُ. {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} حينَ عَصَوا رُسُلَنا، وخالفوا أَمْرَنا كيفَ عَذَّبناهم وأَهْلَكْناهم، ثم ذكرَهم فقالَ: {قَوْمِ نُوحٍ} أُهلكوا بالطوفانِ {وَعَادٍ} أُهلكوا بالريحِ {وَثَمُودَ} بالرجفةِ {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} بسلبِ النعمةِ وهلاكِ نمرودَ. {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قومِ شعيبٍ أُهلكوا بالنارِ يومَ الظُّلَّةِ. {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} مدائنِ قوِم لوطٍ ائتفكت؛ أي: انقلبتْ بهم فصارت عاليَها سافلَها. قرأ قالونُ عن نافعٍ بخلافٍ عنه: (وَالمْوُتَفِكَاتِ) بإسكانِ الواوِ بغيرِ همزٍ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 390 - 394)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 243)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 32).

[71]

{أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فكذَّبوهم وعَصَوْهُم كما فعلْتُم. {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي: ليهلِكَهم حتى يبعثَ إليهم الأنبياءَ. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيثُ عَرَّضوها للعقابِ بالكفر. * * * {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}. [71] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في الدِّينِ واتفاقِ الكلمةِ. {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالإيمانِ والطاعةِ. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الشركِ والمعصيةِ، والمعروفُ: هو ما عرفَهُ العقلُ والشرعُ بالحُسْنِ، والمنكَرُ: ما أنكَرُه أحدُهما لقبحه، فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر فرضُ كفايةٍ باتفاقِ الأئمةِ وإجماعِ الأمة، وهو من أعظمِ قواعدِ الإسلامِ، والنهيُ: هو استدعاءُ تركِ الفعل، وهو أمرٌ بضدِّه، وحقيقتهُ للتحريمِ، وحقيقَة الأمرِ للإيجابِ والقبولِ. {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} المفروضةَ {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في سائرِ الأمورِ. {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} لا محالةَ؛ فإن السينَ مؤكِّدةٌ للوقوع {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لا يمتنعُ عليهِ ما يريدُه {حَكِيمٌ} يضعُ الأشياءَ في محلِّها. * * *

[72]

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}. [72] {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} تستطيبُها النفسُ {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} بساتينِ خلدٍ. {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} أي: شيءٌ من رضا الله {أَكْبَرُ} من ذلكَ كله. {ذَلِكَ} أي: الرضوانُ. {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وحدَهُ دونَ ما يعدُّهُ الناسُ فوزًا. عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَقُولُ اللهُ عز وجل لِأهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا! وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَفَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولوُنَ: رَبَّنَا فَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ عَلَيكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (¬1). * * * {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73}. [73] {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيفِ {وَالْمُنَافِقِينَ} بالحجَّةِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6183)، كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، ومسلم (2829)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة، فلا يسخط عليهم أبدًا.

[74]

{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} في الجهادَين. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} في الآخرة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} مصيرُهم، قال عطاءُ: نسخَتْ هذه الآيةُ كلَّ شيءٍ من العفوِ والصَّفْحِ (¬1). * * * {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}. [74] {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} رُوي أنه عليه السلام أقامَ في غزوةِ تبوكَ شهرين ينزلُ القرآنُ، ويعيبُ المنافقين (¬2) المتخلِّفين، فقالَ الجَلَّاسُ بن سُوَيْدٍ: لئنْ كانَ محمدٌ صادِقًا، لنحنُ شَرٌّ من الحميرِ، فبلغَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستحضَرَهُ، فحلفَ بالله ما قالَه، فنزلت، فتابَ الجلاسُ وحَسُنَتْ توبتُه (¬3). {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} سَبُّهم رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} أظهروا الكفَر بعدَ إظهارِهم الإيمانَ. {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} وهو الفتكُ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ وقفوا له بالعقبةِ عندَ عودِهِ من تبوكَ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 305). (¬2) "المنافقين" زيادة من "ش". (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18303)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 1826).

[75]

{وَمَا نَقَمُوا} أنكروا وعابوا على المؤمنينَ. {إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وذلكَ أنَّ أهلَ المدينةِ كانوا قبلَ قدومِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ضَنْكٍ من العيش، فلما قدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - استغْنَوا بالغنائمِ، وقيلَ للحسينِ بنِ الفضلِ: هل تجدُ في القرآنِ قولَ الناسِ احذَرْ شَرَّ مَنْ أحسنتَ إليه؟ فقال: نعم، قولهُ تعالى في قصةِ المنافقينَ في التوبة: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬1). {فَإِنْ يَتُوبُوا} من كفرِهم {يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} من نفاقِهم وهو الذي حمل الجلاسَ على التوبةِ، فقُتِلَ مولى له، فأمرَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بديتِهِ اثني عشرَ ألفَ درهمٍ، فاستغنى. {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} يُعْرِضوا عن الإيمان. {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} بالخزيِ {وَالْآخِرَةِ} بالنارِ. {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} فينجيهم من العذابِ. * * * {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}. [75] {وَمِنْهُمْ} يعني: المنافقين. {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} ولنؤدَينَّ حقَّ اللهِ منه. {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} نعملُ بعملِ أهلِ الصلاحِ فيه، نزلَتْ في ثعلبةَ بنِ حاطبٍ الأنصاريِّ، أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقالَ: ادعُ اللهَ أن يَرْزقني مالًا، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (8/ 208).

[76]

فقال عليه السلام: "قِليلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثيرٍ لاَ تُطِيقُهُ"، فراجعَهُ وقال: والذي بعثَكَ بالحق! لئنْ رزَقني مالًا؛ لأعطينَّ كل ذي حَقٍّ حقَّهُ، فدعا لهُ فاتخذَ غنمًا، فنمَتْ كما ينمى الدودُ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ، فنزلَ واديًا، وانقطعَ عن الجمعةِ والجماعةِ، فسألَ عنه - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: كثرَ مالهُ حتى لا يسعُه وادٍ، فقال: "يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ! "، فبعث مُصَدِّقَينِ لأخذِ الصدقاتِ، فاستقبلَهما الناسُ بصدقاتِهم، ومرَّا بثعلبةَ فسألاهُ الصدقةَ، وأقرآه الكتابَ الذي فيه الفرائضُ، فقال: ما هذهِ إلا جزيةِ، ما هذهِ إلا أختُ الجزيةِ، فارجِعا حتى أَرى رأيي، فنزلتْ، فجاءَ ثعلبةُ بالصدقةِ فقالَ: "إنَّ اللهَ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ"، فجعلَ يحثو على رأسه الترابَ، فقالَ: "هَذَا عَمَلُكَ؛ فَقَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي"، فَقُبِضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءَ بها إلى أبي بكرٍ في خلافتهِ، فلم يقبلْها، ثم جاءَ بها إلى عمرَ في خلافتِه، فلم يقبلْها، ثم جاء بها إلى عثمانَ فلم يقبلْها، وهلك في خلافتِه (¬1). * * * {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)}. [76] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} منعوا حق الله منه {وَتَوَلَّوْا} عن طاعة الله {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وهم قومٌ عادتُهم الإعراضُ عنها. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 250)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7873)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص: 143)، والبغوي في "تفسيره" (2/ 307)، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-.

[77]

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)}. [77] {فَأَعْقَبَهُمْ} أي: جعلَ اللهُ عاقبةَ ذلكَ {نِفَاقًا} ثابتًا. {فِي قُلُوبِهِمْ} فلا يؤمنون {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} هو يومُ القيامةِ. {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} من التصدُّقِ والصلاحِ. {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} في يمينِهم. قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "آَيةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ" (¬1). * * * {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)}. [78] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} ما أَسروه في أنفسهم من النفاق. {وَنَجْوَاهُمْ} حديثَهم فيما كان بينَهم. {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} فلا يخفى عليه ذلك. قرأ حمزةُ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (الْغِيُوبِ) بكسر الغين، والباقون: بالضم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (33)، كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق، ومسلم (59)، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 238)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 243)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 33).

[79]

{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)}. [79] {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} قرأ يعقوبُ: (يَلْمُزُونَ) بضمِّ الميم، والباقون: بالكسر (¬1)؛ أي: يَعيبون {الْمُطَّوِّعِينَ} المتبرِّعيَن. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} والمرادُ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ، تصدَّقَ بأربعةِ آلافِ درهمٍ، وكانَ مالهُ ثمانيةَ آلافٍ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ"، فباركَ اللهُ له، حتى أنه خلفَ امرأتينِ يومَ ماتَ، فبلغ ثُمْنُ مالِه لهما مئةً وستينَ ألفًا، وتصدَّقَ عاصمُ بنُ عديٍّ بمئةِ وسقِ تمرٍ، وجاء أبو عقيلٍ الأنصاريُّ بصاعِ تمرٍ، فقالَ: يا رسولَ الله! بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجريدِ الماءَ حتى نلتُ صاعَيْنِ، فتركْتُ صاعًا لعيالي، وجئتُ بصاعٍ، فأمرَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينثُرَهُ على الصدقاتِ، فلمزَهم المنافقونَ وقالوا: ما أَعْطَى عبدُ الرحمنِ وعاصمٌ إلا رياء، وإن اللهَ ورسولَه لَغَنِيَّانِ عن صاعِ أبي عقيلٍ، ولكنه أحبَّ أن يذكِّرَ بنفسه ليُعطى من الصدقاتِ، فنزلَتْ: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (¬2) بضمِّ الجيم: طاقَتَهم، وبالفتح: ¬

_ (¬1) انظر: القراءة عند تفسير الآية (58) من هذه السورة. (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (2/ 309)، و "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 89)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 249).

[80]

المشقةَ، والتلاوةُ بالأول، والمرادُ بالمطَّوعين: عبدُ الرحمنِ وعاصمٌ، والذين لا يجدون إلا جهدَهم: أبو عقيلٍ. {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} يستهزئون بهم. {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} جازاهُم على سُخريتِهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على كفرهم. * * * {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)}. [80] {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لفظهُ أمرٌ، ومعناهُ خبرٌ، تقديُره: استغفرْتَ لهم أم لم تستغفْر لهم لنْ يغفرَ اللهُ لهم. {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وذكرَ عدَد السبعين قَطْعًا لأطماعِهم عن المغفرةِ على عادةِ العربِ، لأنها عندَهم مَثَلٌ لغايةِ الاستقصاء في العدد، فلما نزلَتْ، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ قد رَخَّصَ لِي، فَلأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِيَن لَعَلَّ اللهَ أنْ يَغْفِرَ لَهُمْ"، فأنزل الله على رسوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4393)، كتاب: التفسير، باب: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، ومسلم (2400)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر -رضي الله عنه-، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

[81]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} المتمرِّدينَ في كفرهم. * * * {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)}. [81] {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} المتروكون عن غزوةِ تبوكَ. {بِمَقْعَدِهِمْ} بقعودهم {خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} أي: من بعدِه. {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وكراهتُهم لما ذكر هي شحٌّ؛ إذ لا يؤمنونَ بالثوابِ في سبيلِ الله. {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي: الجهاد؛ لأن غزوةَ تبوكَ كانت في أشدِّ الحرِّ. {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} من غزوة تبوكَ {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي: يعلمون، وكذلك هو في مصحفِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ. * * * {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}. [82] ثم قالَ تهديدًا بصيغةِ الأمر: {فَلْيَضْحَكُوا} في الدنيا {قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا} في الآخرة. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} نصٌّ في أنَّ التكسُّبَ هو الذي يتعلَّقُ به الثوابُ والعقاب.

[83]

{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}. [83] {فَإِنْ رَجَعَكَ} رَدَّكَ يا محمدُ من غزوتك هذهِ. {إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} يعني: من المخلَّفين، وإنما قال: طائفةٍ منهم؛ لأنه ليس كلُّ من تخلَّف عن غزوةِ تبوكَ كانَ منافقًا. {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} معكَ إلى غزوةٍ أخرى. {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} في سَفْرَةٍ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مَعِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1). {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} قراءةُ العامةِ: (معي) بإسكانِ الياءِ في هذا الحرف، وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ: بفتح الياء (¬2). {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} في غزوةِ تبوكَ {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} أي: المتخلفين من النساءِ والصبيانِ وأهلِ الأعذار. * * * {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 320)، و"التيسير" للداني (ص: 120)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 281)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 43). (¬2) المصادر السابقة.

[84]

[84] ولما حضرَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيّ ابنَ سلولَ المنافقَ الموتُ، بعثَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فدخلَ عليه، فقال: "أَهْلَكَكَ حُبُّ اليهود"، فقالَ: لم أبعثْ إليكَ لتؤنِّبني، بلْ لتستغفرَ لي، وطلبَ منه أن يُكَفِّنَهُ بثوبهِ الذي يلي جسدَه، فكَفَّنه - صلى الله عليه وسلم - دفعًا لِمِنَّتِهِ؛ لأنه كانَ قد كسا العباسَ لما أُسِرَ يومَ بدرٍ قَميصًا؛ لأنه لم يكنْ بقدرِه قميصٌ سِوى ثوبِ ابنِ أُبَيٍّ، وصلَّى عليه، فَكُلِّمَ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقالَ: "وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي وَصَلاَتي مِنَ الله؟ واللهِ إِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفُ رَجُلٍ لِمَا يَرَوْنَ مِن تَبَرُّكِهِ"، فَرُوي أنه أسلمَ ألفٌ من قومِه لما رأوه يتبرَّكُ بقميصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فنزلَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (¬1) لا تقفْ عليهِ للدفن، و (مَاتَ) ماضيًا معناه الاستقبالُ؛ لأنه كائنٌ لا محالةَ. {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} فما صلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَها على منافقٍ، ولا قامَ على قبرهِ حتى قُبِضَ. * * * {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)}. [85] {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} الخطابُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ: أُمَّتُهُ، إذ هو بإجماعٍ مِمَّنْ لا تفتنهُ زخارفُ الدنيا، ووجهُ تكريِرها تأكيدُ هذا المعنى، وأيضًا لأنَّ الناسَ كانوا يُفتنون بصلاحِ حالِ المنافقين في دنياهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 312 - 313)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 93)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 259).

[86]

{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)}. [86] {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} ذو الغِنى والسَّعَة {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} الزَّمْنى وأهلِ العذرِ. * * * {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)}. [87] {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} النساءِ، جمعُ خالفَةٍ. {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} ما في الجهادِ وموافقةِ الرسولِ من السعادة، وما في التخلُّف عنه من الشقاوة. * * * {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88}. [88] {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي: إن تخلَّفَ هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهدَ مَنْ هو خيرٌ منهم. {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} منافعُ الدارينِ: الغنيمةُ (¬1) في الدنيا، والجنةُ في الآخرةِ. ¬

_ (¬1) في "ت": "القيمة".

[89]

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزونَ بالمطالبِ. * * * {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}. [89] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} بيان لما لهم من الخيراتِ الأُخرويَّةِ. * * * {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}. [90] {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} قراءة العامة: بفتح العين وتشديدِ الذال؛ أي: الآتونَ بصورةِ العذرِ ولا عذرَ لهم، وقرأ يعقوبُ: بإسكان العين وتخفيف الذال؛ يعني: الذين أتوا بالعذر، وبالغوا فيه (¬1)، وهم قوم {مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} استأذنوا في التخلُّفِ متعذرين بالجهدِ وكثرةِ العيال، قال ابنُ عباسٍ وقومٌ معه منهم مجاهدٌ: كانوا مؤمنين، وكانت أعذارهم صادقةً، وقالَ قَتادةُ وفرقةٌ معه: بل هم قومٌ كفرةٌ، وقولهُم وعذرُهم كذبٌ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 314)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 280)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 335). (¬2) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (6/ 1860)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 260).

[91]

{وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه} يعني: المنافقين، كذبوا اللهَ ورسولَه في ادِّعاءِ الإيمان، ولم يجيئوا، ولم يعتذروا. {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} من الأعرابِ. {عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بالقتلِ، وفي الآخرةِ بالنارِ. * * * {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)}. [91] ثم عذرَ الله تعالى ذوي الأعذارِ فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الهَرْمَى والزَّمْنَى. {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} لفقرِهم. {حَرَجٌ} إثمٌ {إِذَا نَصَحُوا} أخلصوا {لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} بالإيمانِ والطاعةِ. {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} في إيمانِهم {مِنْ سَبِيلٍ} طريقِ عتابٍ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لهم. * * * {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)}. [92] {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} معكَ إلى الغزوِ.

[93]

{قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} المعنى: لا سبيلَ على الأَوَّلِين، ولا على هؤلاءِ، وهم الذين أتوكَ، وهم سبعةُ نفرٍ سُمُّوا البَكَّائِينَ: مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ، وصخرُ بنُ خنساء، وعبدُ اللهِ بن كعبٍ الأنصاريُّ، وعليَّةُ بنُ زيدٍ الأنصاريُّ، وسالمُ بنُ عُمَيْرٍ، وثعلبةُ بنُ غنمةَ، وعبدُ اللهِ بنُ مُغَفَّلٍ المزنيُّ، أتوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسولَ اللهِ! إنَّ اللهَ قد ندبَنا للخروجِ، فاحملْنا على الخفافِ المرقوعةِ والنعالِ المخصوفة نغزو معكَ، فقالَ: "لاَ أَجِدُ"، فتولَّوا وهم يَبْكون، فذلك قولُه: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} (¬1) تسيلُ. {مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} في الجهادِ، تلخيصه: ليسَ إلى عقوبةِ هؤلاءِ سبيلٌ. * * * {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}. [93] {إِنَّمَا السَّبِيلُ} بالمعاتبةِ. {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} واجِدُونَ الأُهْبَةَ. {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} النساءِ والصبيانِ. {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} تقدمَ تفسيرُ نظيرِ هذهِ الآية قريبًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (2/ 315).

[94]

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)}. [94] {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} في التخلُّفِ. {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} من هذهِ السَّفْرَةِ. {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا} بالمعاذيرِ الكاذبةِ؛ لأنه (¬1): {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} لن نصدِّقكم؛ لأنَّه {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} وهو ما في ضميرِكم بالوحيِ إلى نبيِّهِ. {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أَتُنيبونَ أم تّثْبتونَ على كفرِكُم. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} المطَّلِعِ عليكم. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالتوبيخِ والعقابِ عليه. * * * {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)}. [95] {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إذا انصرَفْتُم من غزوِكم. ¬

_ (¬1) "لأنه" ساقطة من "ت".

[96]

{لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} لتصفَحوا، فلا تعاتبوهم. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} ولا تُوَبِّخوهم. {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} نجسٌ لا ينفعُ فيهم التأنيبُ. {وَمَأْوَاهُمْ} في الآخرةِ {جَهَنَّمُ} فَتكفيهم عِتابًا {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. * * * {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}. [96] حلفَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ أَلَّا يتخلَّفَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلك، وطلبَ أن يرضى عنه، فنزلَ: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} (¬1) بحلفِهم. {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي: فإنَّ رضاكم لا يستلزمُ رضا اللهِ، ورضاكم وحدَكُم لا ينفعُهم إِذا كانوا في سخطِ الله وبصدَدِ عقابِه. * * * {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)}. [97] {الْأَعْرَابُ} أهلُ البدو {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضر؛ لتوحُّشِهم، وعدمِ مخالطتِهم لأهلِ العلمِ، وبعدِهم عن سماعِ القرآنِ ومعرفةِ السُّنَن. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 316 - 317).

[98]

{وَأَجْدَرُ} أحقُّ {أَلَّا} أي: بأن لا {يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} من الشرائعِ. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما في قلوبِ خلقِه {حَكِيمٌ} بما يصيبُ به مسيئَهم ومحسنَهم عقابًا وثوابًا. وأما إمامةُ الأعرابيِّ للحضريِّين، فهي جائزةٌ بالاتفاقِ إذا أقامَ حدودَ الصلاة، إلا أن أبا حنيفةَ يكرهُ تقديمَهُ على غيره، ومالكٌ يكرَهُ إمامَتَهُ، وإن كانَ أقرأَهم. واختلفوا في شهادةِ البدويِّ على القَرَويِّ، فقال مالكٌ: لا تُقبل في الحضرِ؛ لما في ذلك من تحقُّقِ التهمةِ، وأجازهَا في السفرِ في المالِ وغيرِه؛ لعدم الرِّيبةِ، وقالَ الثلاثةُ: تقبل مطلقًا إذا كانَ عدلًا مَرْضِيًّا. * * * {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}. [98] {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} غرامةً، فلا يرجو على إعطائِه ثوابًا، إنما يعطي خوفًا ورياءً. {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} دولَ الزمانِ وما يدورُ من آفاتِه لينقلبَ الأمرُ عليكم، ويظهرَ المشركونَ. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} عليهم يدورُ البلاءُ والحزنُ، ولا يرونَ في محمدٍ ودينه إلا ما يسوؤهم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (السُّوءِ) بضمِّ السين؛

[99]

يعني: الضررَ والبلاءَ، وقرأ الباقون: بالفتح؛ يعني: الفسادَ (¬1). {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما يقولون {عَلِيمٌ} بما يُضْمِرون، نزلَتْ في أعرابِ أسدٍ وغَطَفانَ وتميمٍ. * * * {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}. [99] ثم استثنى فقال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هم بنو مُقَرِّنٍ من مُزينةَ، وغفارٍ وجُهينةَ. {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ} جمعُ قُرْبَةٍ {عِنْدَ اللَّهِ} أي: يطلبُ القربةَ إلى اللهِ. {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أدعيتَه؛ أي: يرغبونَ في دعاءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {ألَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} شهادةٌ من اللهِ لصحَّةِ مُعْتَقَدِهم، وتصديقٌ لرجائِهم. قرأ ورشٌ عن نافعٍ: (قُرُبَةٌ) بضمِّ الراء، والباقون بسكونها (¬2)، والقربةُ: ما يتقرَّبُ بهِ العبدُ إلى الله تعالى من صومٍ أو صدقةٍ أو غيرِهما؛ كبناءِ المساجدِ ونحوِها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 316)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"تفسير البغوي" (2/ 317)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 36 - 37). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 317)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"تفسير البغوي" (2/ 318)، و "معجم القراءات القرآنية" (2/ 37 - 38).

[100]

{سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} وعدٌ لهم بإحاطةِ الرحمةِ عليهم، والسينُ لتحقيقِه، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لتقديرِهِ. * * * {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}. [100] {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} الذين صَلَّوا إلى القبلتينِ، وهم الذين هَجَروا قومَهم، وفارقوا أوطانَهم. {وَالْأَنْصَارِ} أهلِ بيعةِ العقبةِ الأولى وكانوا سبعةً، وأهلِ بيعةِ العقبةِ الثانيةِ وكانوا سبعين، والذين آمنوا حينَ قدمَ عليهم أَبو زُرارةَ مصعبُ بنُ عُميرٍ يعلِّمُهم القرآنَ، فأسلمَ معه خلقٌ كثيرٌ وجماعةٌ من النساءِ والصِّبيانِ. قرأ يعقوبُ: (وَالأَنْصَارُ) برفع (¬1) الراءِ عطفًا على قولِهِ: (وَالسَّابِقُونَ) (¬2)، والأنصارُ: همُ الذين نَصَروا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على أعدائِه، وآوَوْا أصحابَهُ. {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} هم بقيةُ المهاجرينَ والأنصارِ، أو مَن استنَّ بهم إلى يومِ القيامة. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} لطاعتِهم {وَرَضُوا عَنْهُ} لإفاضَتِهِ عليهِمُ الخيرَ. {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} قرأ ابنُ كثير: (مِنْ تَحْتَهَا) ¬

_ (¬1) في "ش": "بضم". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 318)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 280)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 38).

بزيادةِ كلمة (مِنْ)، وخفضِ: (تَحْتِهَا)، وكذلكَ هي في المصاحفِ المكية، وقرأ الباقونَ بحذفِ لفظةِ (من)، وكذلك هي في مصاحِفهم، واتفقوا على إثبات (من) قبلَ (تَحْتَهَا) في سائرِ القرآنِ (¬1)، قال ابنُ الجزريِّ في "النَّشْرِ": ويحتملُ أنه إنما لم يكتبْ (من) في هذا الموضع؛ لأن المعنى: ينبعُ الماءُ من تحتِ أشجارِها، لا أَنه يأتي من موضِعٍ ويجري تحتِ هذهِ الأشجارِ، فلاختلافِ المعنى خُولف في الخطِّ، وتكون هذه الجناتُ معدَّةً لمن ذُكر تعظيمًا لأمرِهم، وتنويهًا بفضلِهم، وإظهارًا لمنزلتهم لمبادرتهم لتصديقِ هذا النبيِّ الكريمِ عليهِ من اللهِ تعالى أفضلُ الصَّلاةِ وأكملُ التسليمِ، ولمن تبعَهم بالإحسانِ والتكريمِ، والله أعلمُ، انتهى. {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ومعنى هذهِ الآيةِ الحكمُ بالرضا عنهم بإدخالِهم الجنةَ، وغفرِ ذنوبهِم، والحكمُ برضاهم عنهُ في شكرِهم وحمدِهم على نعمِه، جعلَنا اللهُ منهم برحمتِه. واختلِفَ في أولِ مَنْ آمنَ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ امرأتِه خديجةَ رضي الله عنها، مع اتفاقِهم على أنها أولُ من آمنَ به، فقيل: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وهو ابنُ عشرِ سنينَ، وقيلَ: أبو بكرٍ، وقيل: زيدُ بنُ حارثةَ، وكان إِسحقُ بنُ إبراهيمَ الحنظليُّ يجمعُ بينَ هذهِ الأخبارِ فيقولُ: أولُ مَنْ أسلمَ من الرجالِ أبو بكرٍ الصديقُ، ومن النساءِ خديجةُ، ومن الصبيانِ عليٌّ، ومن العبيدِ زيدُ بنُ حارثةَ رضي الله عنهم أجمعين. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 317)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"تفسير البغوي" (2/ 320)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 280)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 38 - 39).

[101]

وأكبرُ التابِعينَ: الفقهاءُ السبعةُ من أهلِ المدينة، وهم: عُبيدُ اللهِ بن عتبةَ بنِ مسعودٍ، وهو ابنُ أخي عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ الصحابيِّ، وعروةُ بنُ الزبيرِ بنِ العوامِ أخو عبدِ الله بنِ الزبيرِ الذي تولَّى الخلافةَ، وقاسمُ بنُ محمدِ بنِ أبي بكرٍ الصديقِ، وكانَ من أفضلِ أهلِ زمانه، وسعيدُ بنُ المسيِّبِ القرشيُّ، قالَ عنهُ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه: إنه أفضلُ التابعينَ، وسليمانُ بنُ سلمةَ، وأبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ الحارثِ المخزوميُّ القرشيُّ، وخارجةُ بنُ زيدِ بنِ ثابتٍ الأنصاريُّ، وأبوه زيدُ بنُ ثابتٍ من أكابرِ الصحابةِ، وهؤلاءِ السبعةُ هم الذين انتشرَ عنهمُ الفقهُ والفُتْيا، وقد نظمَ بعضُ الفضلاءِ أسماءهم في بيتٍ واحدٍ فقال: أَلاَ كُلُّ مَنْ لاَ يَقْتَدِي بِأَئِمَّةٍ ... فَقِسْمَتُهُ ضِيزَى عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ ... سَعِيدٌ سُلَيْمَان أَبُو بَكْرٍ خَارِجَهْ * * * {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)}. [101] قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} أي: حولَ بلدِكم، وهي المدينةُ {مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} وهم مُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ، وأَشْجَعُ وأَسْلَمُ، وَغِفارٌ كانوا نازلينَ حولَ المدينة. {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} قومٌ منافقون {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} مَرَنوا وتَمَهَّروا فيه، وهم من الأوسِ والخزرجِ {لَا تَعْلَمُهُمْ} أنتَ يا محمدُ.

[102]

{نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} الأُولى: فضْيحَتُهم في الدنيا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قامَ يومَ جمعةٍ خطيبًا فقال: "اخْرُجْ يَا فُلاَنُ وَيَا فُلاَنُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ"، فأخرجَ جماعةً من المسجد (¬1)، الثانية: عذابُهم في الآخرةِ، وقيل: هما القتلُ وعذابُ القبرِ. {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيِمِ} بأن يخلَّدوا في جهنمَ. * * * {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}. [102] {وَآخَرُونَ} مبتدأٌ {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} صفتُه، وخبرُه: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} وهو إقرارُهم وتوبتُهم. {وَآخَرَ سَيِّئًا} هو تخلُّفُهم، وضعَ الواوَ موضعَ الباءِ كما يقالُ: خلطتُ الماءَ واللبنَ؛ أي: باللبنِ. {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} يقبلَ توبتهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يتجاوزُ عن التائب. * * * {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}. [103] فجاؤوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: خذْ أموالَنا التي تخلَّفْنا عنكَ بسببِها، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (792)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 96 - 97).

[104]

فتصدَّقْ ما، واستغفرْ لنا فقال: "لَمْ أُؤْمَرْ بِذَلِكَ" فأنزلَ اللهُ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} (¬1) من ذنوبهِم. {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي: تنمِّي حسناتِهم، وترفَعُهم من منازلِ المنافقينَ إلى منازلِ المخلِصين. {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادعُ لهم واستغفرْ. {إِنَّ صَلَاتَكَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (إِنَّ صَلاَتَكَ) على التوحيد، وفتحِ التاءِ، والباقون: بالجمعِ وكسرِ التاء (¬2) {سَكَنٌ لَهُمْ} طُمَأْنينةٌ {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لاعترافِهم {عَلِيمٌ} بندامَتِهم. * * * {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}. [104] فلما نزلتْ توبةُ هؤلاءِ، قال الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمسِ لا يُكَلَّمون ولا يُجالَسون، فما لهم؟! فقال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} إذا صحَّتْ. {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} أي: يقبلُها {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وأنَّ من شأنِه قبولَ توبةِ التائبينَ، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! مَا مِنْ عَبْدٍ يَتَصَدَّقُ ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (2/ 321)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 97). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 317)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"تفسير البغوي" (2/ 322)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 281)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 39 - 40).

بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا طَيِّبًا، وَلاَ يَصْعَدُ إِلىَ السَّمَاءِ إِلَّا طَيِّبٌ، إِلَّا كَأَنَّمَا يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ، فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامةِ وَإِنَّهَا مِثْلُ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ" (¬1) قال البغويُّ رحمه الله في "شرح السنة": كلُّ ما جاء به الكتابُ والسنَّةُ من هذا القَبيلِ من صفاتِ الباري تعالى؛ كالنَفْسِ والوجهِ واليدِ والرِّجْلِ، والإتيانِ والمجيءِ والنزولِ إِلى السَّماءِ الدنيا، والاستواءِ على العرشِ، والضحكِ والفرحِ، فهذه ونظائرُها صفاتُ الله تعالى وردَ. ما (¬2) الشرعُ يجبُ الإيمانُ ما وإمرارُها على ظاهرِها مُعْرِضًا فيها عن التأويلِ، مُجْتَنبًا عن التشبيهٍ، مُعْتَقِدًا أن الباريَ لا يشبهُ شيءٌ من صفاتِه صفاتِ الخَلْقِ، كما لا تُشبهُ ذاتُه ذاتَ الخلقِ، قالَ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وعلى هذا مضى سلفُ الأمةِ وعلماءُ السنَّة، تَلَقَّوها جميعَها بالإيمانِ والقبولِ، وتجنَّبوا فيها من التمثيلِ والتأويلِ، ووَكَلُوا العلمَ فيها إلى اللهِ تعالى كما أخبرَ عن الراسخينَ في العلمِ فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] انتهى (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1344)، كتاب: الزكاة، باب: لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا يقبل إلا من كسب طيب، ومسلم (1014)، كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) في "ت": "به". (¬3) انظر: "شرح السنة" للبغوي (1/ 168).

[105]

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}. [105] {وَقُلِ اعْمَلُوا} ما شئتُمْ {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} فإنَّه لا يخفى على اللهِ، خيرًا كانَ أو شرًّا. {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمجازاةِ عليه. * * * {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}. [106] {وَآخَرُونَ} من المتخلِّفينَ التائبينَ {مُرْجَوْنَ} مُؤَخَّرون. {لِأَمْرِ اللَّهِ} فيهم بما يشاءُ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مُرْجَؤُونَ) بالهمز، والباقون: بالواو بغير همز (¬1)، والمرجَؤُون هم الثلاثةُ الذين تأتي قصَّتُهم، وهم كعبُ بنُ مالكٍ، وهلالُ بنُ أميةَ، ومرارةُ بنُ الربيع، لم يبالِغوا في التوبةِ والاعتذار كما فعلَ أبو لُبابةَ، فتوقَّفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في توبَتِهم. {إِمَّا يُعَذِّبُهُم} إنْ لم يتوبوا {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إنْ تابوا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 318)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"تفسير البغوي" (2/ 324)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 281)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 41).

[107]

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيما يفعلُ بهم، فنزلتْ توبتُهم بعدَ خمسينَ ليلةً. * * * {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}. [107] {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرو: (الَّذيِنَ) بغيرِ واوٍ قبلَ الذين، وكذلكَ هو في مصاحِفهم، والباقون: بالواو. {مَسْجِدًا ضِرَارًا} أي: مضارَّةً، نزلتْ في جماعةٍ من المنافقين بَنَوا مسجِدًا يضارُّونَ به مسجدَ قُباء، وكانوا اثني عشرَ رجلًا، فعلوا ذلكَ مضارَّة للمؤمنين. {كُفْرًا} باللهِ ورسولهِ. {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} الذين كانوا يجتمعونَ للصلاةِ في مسجدِ قُباء، فلما فرغوا، أتوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وهو يتجهَّزُ إلى تبوكَ، وقالوا: يا رسولَ الله! إنا قد بنينا مسجِدًا لذي العِلَّةِ والحاجَةِ والليلةِ المَطِيَرةِ، وإنَّا نحبُّ أن تأتيَنا وتصلِّي لنا فيه، وتدعوَ بالبركة، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وإِنْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللهُ صَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ"، وكان أبو عامرٍ الراهبُ رَجُلًا منهم قد تنَصَّرَ في الجاهليةِ، وتَرَهَّبَ، ولم يزلْ يقاتلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حتى هُزِمَ يومَ حُنين، وسماهُ: أبا عامرٍ الفاسقَ، كان قال لهم:

[108]

ابنوا مسجدًا، فإني ذاهبٌ إلى قيصرَ، فآتي بجنودٍ فأُخرجُ محمدًا وأصحابَه من المدينة، فهذا معنى قوله تعالى: {وَإِرْصَادًا} (¬1) أي: إعدادًا. {لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: لأجلِ هذا المنافقِ الذي حاربَ. {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلِ بناءِ مسجدِ الضِّرارِ إلى جنبِ مسجدِ قُباء، ولما خرجَ إلى الشامِ ليأتيَ من قَيْصَرٍ بجنودٍ يحاربُ بهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، هَلَكَ بِقِنَّسْرينَ طَريدًا وحيدًا. {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} أي: ما أردْنا {إِلَّا} الفعلَةَ {الْحُسْنَى} ببناءِ هذا المسجد، وهي الرفقُ بالمسكينِ والضعيفِ في الليلةِ الشاتيةِ وشدَّةِ الحرِّ، والسَّعَة على المسلمينَ. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في حلفِهم. * * * {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}. [108] فلما خرجَ - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوكَ، سألوهُ إتيانَ مسجدِهم ليصلِّي فيهِ، فنزلَ: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} لا تصلِّ في مسجدِ الضِّرارِ، وأُخبر بحالِهم فأرسل وَحْشِيًّا بجماعةٍ، فحرقوهُ وهدموهُ، وتفرَّقَ أهلُه فجُعل مكانَه كُناسةٌ تُلْقى فيها (¬2) الجِيَفُ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن كثير" (2/ 389)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 100)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 286). (¬2) في "ظ": "فيه".

[109]

{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ} أي: بني أصلُه {عَلَى التَّقْوَى} واللامُ للابتداء. {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وُضِع أساسُه. {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} مصلِّيًّا، خبرُ الابتداء، والمسجدُ المؤَسَّسُ على التقوى هو مسجدُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وردَ بهِ الحديثُ عنه عليه السلام، وقيل: مسجدُ قُباء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أَسَّسَه وصلَّى فيهِ أيامَ مُقامِه بقُباء من الاثنينِ إلى الجمعةِ. {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} بالتوبةِ من المعاصي، وقيلَ: بالماءِ من الأحداث. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} يَرْضَى عنهم. * * * {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}. [109] {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ: (أُسِّسَ) بضم الهمزة وكسر السين (بُنْيَانُهُ) رفعٌ فيه جميعًا على غير تسميةِ الفاعلِ، والباقون بفتح الهمزةِ والسينِ والنونِ على تسميةِ الفاعلِ (¬1)، والمرادُ: قواعدُ البنيانِ. {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} أي: على طلب التقوى، ورضا الله. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 318)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"تفسير البغوي" (2/ 328)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 42).

{خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ} طرفِ وادٍ مُنْحفِرٍ أصلهُ بالماء. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (جُرْفٍ) ساكنة الراء، والباقون: بضم الراء، وهما لغتان (¬1). {هَارٍ} أي: أشرفَ على السقوط. قرأ أبو عمرو، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (هَارِ) بالإمالة، واختلِفَ عن قالونَ وابنِ ذكوانَ، ورُوي عن يعقوبَ، وقنبلٍ الوقفُ بالياءِ على (هَارِي) (¬2). {فَانْهَارَ بِهِ} أي: سقطَ بالباني. {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} يريدُ: بناءُ هَذا المسجدِ الضِّرارِ كالبناءِ على شفيرِ جهنَّمَ يتهوَّرُ بأهلِها فيها. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى ما فيه نجاتُهم، المعنى: أفمنْ أَسَّسَ دينَه على أثبتِ القواعدِ، وهو الإيمانُ خيرٌ، أم مَنْ أَسَّسه على أضعفِ القواعدِ، وهو الكفرُ، فيسقطُ صاحبُه في النار؟ ورُوي أنه حُفِرَتْ بقعةٌ في مسجدِ الضرار، فرئي الدخانُ يخرجُ منها (¬3). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 318)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"تفسير البغوي" (2/ 328)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 43). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 319)، و"التيسير" للداني (ص: 120)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 55 - 56)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 43 - 44). (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" (11/ 32)، عن قتادة.

[110]

{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}. [110] {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ} يعني: المنافقينَ البانينَ للمسجدِ، ومَنْ شركَهم في غرضِهم، وقوله: {الَّذِي بَنَوْا} تأكيدٌ وتصريحٌ بأمرِ المسجدِ ورفع الإشكالِ. {رِيبَةً} شَكًّا ونفاقًا {فِي قُلُوبِهِمْ} يحسبون أنهم كانوا في بنائِه مُحسنينَ، ولما هدمَهُ - صلى الله عليه وسلم -، ازدادوا تصميمًا على النفاقِ. {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: لا تفارقُهم الريبةُ حتى تُقَطَّعَ قلوبُهم بحيثُ لا يبقى لها قابليةُ الإدراكِ والإضمار. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلفٌ: (إلا) بتشديدِ اللامِ على أنه حرفُ استثناء (تُقَطَّعَ) بضم التاءِ وبناءِ الفعل للمفعول، وقرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وعاصمٌ بروايةِ حفصٍ، وأبو جعفرٍ: (إلا) بالتشديد كما تقدَّم (تَقَطَّعَ) بفتحِ التاء؛ أي: تتقطع، وقرأ يعقوبُ: (إِلىَ) بتخفيفِ اللام، فجعلَه حرفَ جر (تَقَطَّعَ) بفتح التاء كابنِ عامرٍ ومَنْ وافقَهُ، ورُوي عنه أيضًا: بضمِّ التاءِ خفيف من القطع (¬1). {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بنيَّاتِهم {حَكِيمٌ} فيما أَمَرَ بهدمِ بنائهم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 319)، و"التيسير" للداني (ص: 120)، و"تفسير البغوي" (2/ 329)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 281)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 44 - 45).

[111]

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}. [111] ولما بايعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصارَ ليلةَ العقبةِ أن يعبدوا اللهَ، ولا يُشركوا به شيئًا، وأن يمنعوه ما يمنعونَ منه أنفسَهم وأموالَهم، ولهم إن وفَوا بذلك الجنةُ، فقبلوا وقالوا: لا نقيلُ ولا نستقيلُ، نزل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (¬1) قرأ حمزة، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَيُقْتَلُونَ) بتقديِم المفعولِ على الفاعلِ على معنى قُتِلَ بعضُهم، وقاتلَ الباقون منهم، وقرأ الآخرونَ بتقديمِ الفاعل (¬2). {وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدرٌ مؤكِّدٌ {حَقًّا} صفتُه، المعنى ما وُعِدوا به حقٌّ ثابت {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} فيه دليلٌ على أن الجهادَ كان في شريعةِ مَنْ تقدَّمنا. {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} استفهامٌ على جهةِ التقرير؛ أي: لا أحدَ أوفى بعهدِهِ من الله. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (11/ 35)، و "تفسير ابن أبي حاتم" (6/ 1886)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 148). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 319)، و"التيسير" للداني (ص: 92)، و"تفسير البغوي" (2/ 329)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 46 - 47).

[112]

{فَاسْتَبْشِرُوا} فافْرَحوا {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} فإنه أوجبَ لكم عظائمَ المطالب {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: إنه الحصولُ على الحظِّ الأغبط. * * * {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}. [112] {التَّائِبُونَ} رفعٌ على المدحِ؛ أي: هم التائبون، والمرادُ بهم: المؤمنونَ المذكورون الذين تابوا من الشرك. {الْعَابِدُونَ} المخلِصونَ العبادةَ للهِ تعالى. {الْحَامِدُونَ} في السَّراءِ والضَّراءَ. {السَّائِحُونَ} الصائِمونَ؛ سُمُّوا بذلك لتركِهم اللذاتِ؛ المطعمَ والمشربَ والمنكحَ، في الحديثِ: "سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ" (¬1). {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} في الصلاةِ. {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} الإيمانِ. {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الشركِ، وتقدَّمَ تفسيرُ المعروفِ والمنكرِ في السورةِ. {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} القائمونَ بأوامره. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: هؤلاء الموصوفينَ بتلكَ الفضائل. ¬

_ (¬1) قال المناوي في "الفتح السماوي" (2/ 705): لم أقف عليه.

[113]

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}. [113] رُوي أن أبا طالبٍ لما حضرَتْهُ الوفاةُ، جاءَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدَ عندَه أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أميةَ بنِ المغيرةِ، فقال: "أَيْ عَمِّ قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ"، فقالَ أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أميةَ: أَتَرْغَبُ عن ملَّةِ عبدِ المطَّلب؟! فلم يزلْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يعرضُها عليه، ويعيدانِه بتلكَ المقالةِ حتى قالَ أبو طالبٍ آخرَ ما كلَّمَهُمْ: هو على ملَّةِ عبدِ المطلبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَاللهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ"، فأنزلَ الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} معه (¬1). {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬2) بأنْ ماتوا كفار. * * * {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}. [114] ثم بينَ عذرَ إبراهيمَ في الاستغفارِ لأبيهِ فقال: {وَمَا كَانَ ¬

_ (¬1) "معه" زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري (1294)، كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، ومسلم (24)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه.

[115]

اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ: (أَبْرَاهَامَ) بالألفِ (¬1). {لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} بقوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] لأطلبنَّ مغفرتَكَ بالتوفيقِ للإيمانِ. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ} أي: ظهرَ لإبراهيمَ بطريقِ الوحيِ أن آزرَ. {عَدُوٌّ لِلَّهِ} لموتِه على الكفرِ {تَبَرَّأَ مِنْهُ} أضربَ عن الاستغفارِ لأبيه في الدنيا. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} مُتَأَوِّهٌ تضرُّعًا {حَلِيمٌ} صفوحٌ عَمَّنْ نالَه بسوءٍ. * * * {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)}. [115] {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} أي: ليسمِّيَهم ضُلَّالًا، ويؤاخذَهم مؤاخذَتَهم {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} للإسلامِ. {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} خطرَ ما يجبُ اتقاؤه، المعنى: ما كانَ ليحكمَ بضلالِ من استغفرَ للمشركينَ قبلَ النهيِ حتى يتبيَّنَ لهم ما يأتون، فإذا بَيَّنَ، ولم يأخذوا به بعدَ ذلكَ يستحقُّون الضلال. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيعلمُ أمرَهم في الحالين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 239)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 245)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 48).

[116]

{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير (116)}. [116] {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يحكمُ ما يشاء {يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير} تقدَّمَ تفسيُره في السورةِ. * * * {لَّقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)}. [117] {لَّقَدْ تَابَ اللَّهُ} أي: تجاوزَ وصفحَ. {عَلَى النَّبِيِّ} مِنْ إذنهِ للمنافقينَ في التخلُّف. {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فيما ندموا على الخروج؛ لما قاسَوا. قرأ أبو جعفر: (العُسُرَةِ) بضمِّ السينِ، والباقون: بالإسكان (¬1)، والمرادُ: وقتَ العسرة، وليس المراد ساعةً بعينها، والمرادُ: الذين اتبعوه في غزوةِ تبوكَ، ويسمَّى جيشَ العسرةِ؛ لقلة الظَّهْر، كان العشرةُ يَعْتَقِبون على البعير الواحد، والزاد والماء وشدة الحر، حتى كادتْ أعناقُهم تنقطع عطشًا، ومنهم من نحرَ بعيرَه واعتصرَ ماءَ فرثِه، وجعلَ فرثَهُ: على صدرِه. {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ} همَّ {يَزِيغُ} تميلُ. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 245)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 49).

[118]

{قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} عن الثباتِ على الإيمانِ، أو اتباع الرسول. قرأ حمزةُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يَزِيغُ) بالياء على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (¬1). {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تكرير لتأكيدِ التوبة {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (رَؤُوفٌ) بالإشباعِ حيثُ وقعَ على وزن فَعُول، والباقونَ: بالاختلاسِ على وزن فَعُل (¬2)، والرأفةُ: أشدُّ الرحمةِ. * * * {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}. [118] {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} عن غزوةِ تبوكَ هم: كعبُ بنُ مالكٍ الشاعرُ، ومُرارَةُ بنُ الرَّبيعِ، وهلالُ بنُ أميةَ، وملخَّصُ القِصَّةِ: أنَّ غزوةَ تبوكَ تسمَّى: غزوةَ العُسْرَةِ؛ لوقوعِها في زمنِ الحرِّ، والبلادُ مجدبةٌ، والناس في عسرةٍ، وكانت في السنةِ التاسعةِ من الهجرةِ، فأنفقَ أبو بكرٍ جميعَ مالِه، وأنفقَ عثمانُ نفقةً عظيمةً، وسارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوكَ، واستخلَفَ عليًّا رضي الله عنه، فقال عليٌّ: أتخلفني في الصبيانِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 319)، و"التيسير" للداني (ص: 120)، و"تفسير البغوي" (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 49). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 239)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 245)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 50).

والنساءِ؟! قالَ: "أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟! إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي" (¬1)، وتخلَّفَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ المنافقُ، ومن تبعَه منْ أهلِ النفاقِ، وتخلَّفَ ثلاثةٌ من الصحابة (¬2)، وهم: كعبٌ ومرارةُ وهلالٌ، ولم يكن لهم عذرٌ، ثم رجعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعدَ أن قامَ بتبوكَ بضعَ عشرةَ ليلةً لم يجاوزْها، وكانَ إذا قدمَ من سفرٍ، بدأَ بالمسجدِ، فركعَ فيه ركعتينِ، ثم جلس للناسِ، فلما فعلَ ذلكَ، جاءه المخلَّفون، فطفِقوا يعتذرون إليه، ويحلفون، وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فقبلَ منهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتَهم، وبايعَهم واستغفرَ لهم، ووَكَل سرائرَهم إلى الله، ثم جاءه كعبٌ، وكانَ تقدَّمَهُ مرارةُ وهلالٌ، فسألَهم عن سببِ تخلُّفِهم، فاعترفوا أن لا عذرَ لهم، فأمرَهُم بالمضيِّ حتى يقضيَ الله فيهم، ونهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسلمينَ عن كلامِهم من بينِ مَنْ تخلَّف عنهُ، فاجتنبَهم الناسُ، فلبثوا على ذلك خمسينَ ليلةً، قال كعبٌ: فبينا أنا أسير في سوقِ المدينة، إذا نبطيٌّ من أنباطِ الشامِ ممَّنْ قدمَ بالطعامِ يبيعُه بالمدينةِ يقولُ: مَنْ يدلُّ على كعبِ بنِ مالكٍ؟ فطفقَ الناسُ يُشيرونَ له إليَّ، حتى إذا جاءني، دفعَ إليَّ كتابًا من ملكِ غَسَّانَ، فإذا فيه: أَمَّا بعدُ: فإنه قد بلغَني أن صاحبكَ قد جفاكَ وأقصاكَ، ولستَ بدارِ هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحقْ بنا نُواسِكَ، فقلتُ: هذا أيضًا من البلاءِ والشرِّ، فسجرتُ التنورَ وأحرقْتُه، ولما مضت أربعونَ من الخمسين، أمرَهم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4154)، كتاب: المغازي، باب: غزوة تبوك، ومسلم (2404)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-. (¬2) في "ش": "الأصحاب".

النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باعتزالِ نسائِهم، وجاءت امرأةُ هلالٍ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تستأذنُه في خدمتِه، فأذنَ لها من غيرِ أن يَقْرَبَها، فلما كملَتْ لهم خمسونَ ليلةً من حين نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامِهم، آذَنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بتوبةِ اللهِ عليهم، وذهبَ الناسُ يبشرونهم، وجاء كعبٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّمَ عليه، فقال لهُ وهو يبرُق وجهُه من السرورِ: "أَبْشِرْ بِخَيْرٍ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"، قالَ: أمنْ عندِكَ يا رسولَ الله، أمْ من عندِ الله؟ قالَ: "لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ"، وأنزل الله على رسوله عليه السلام: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} (¬1) أي: برَحْبِها وسَعَتِها. {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: قلوبُهم من فرطِ الوحشةِ والغمِّ. قرأ حمزة: (ضَاقَتْ) بالإمالة (¬2). {وَظَنُّوا} أيقنوا. {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} من سَخَطِهِ {إِلَّا إِلَيْهِ} إلا إلى الاستغفارِه. {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ليدوموا على التوبةِ. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} لمن تاب {الرَّحِيمُ} متفضلٌ عليهم بالنعم. * * * ¬

_ (¬1) روى قصة كعب بن مالك وصاحبيه: البخاري (4156)، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، ومسلم (2769)، كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 59)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 51).

[119]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}. [119] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} فيما لا يرضاهُ {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} الذين صَدَقوا في إيمانهم، وصدقوا اللهَ نيةً وقولًا وعملًا، قال كعبٌ: "فو اللهِ! ما أنعمَ اللهُ عليَّ نعمةً قَطُّ بعدَ إذ هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ألَّا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ فإنَّ اللهَ قالَ للذين كذَبوا حينَ أنزلَ الوحيَ شَرَّ ما قالَ لأحدٍ، فقال تبارك وتعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}. * * * {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}. [120] {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} نهيٌ عُبِّرَ عنه بصيغةِ النفيِ للتأكيدِ. {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} - صلى الله عليه وسلم - إذا غَزا {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} أي: لا يصونوا أنفسَهم عَمَّا يصيبُ نفسَه.

[121]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ} في سفرِهِم {ظَمَأٌ} عطشٌ. {وَلَا نَصَبٌ} تعبٌ {وَلَا مَخْمَصَةٌ} مجاعةٌ. {فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا} يدوسونَ موضِعًا. {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} يُغْضِبُهم. قرأ أبو جعفرٍ: (يَطُونَ) بإسكان الواو (مَوْطِيًا) بنصب الياء بغير همز فيهما وشبهِه حيثُ وقع (¬1). {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} أَسْرًا وقتلًا وهزيمةً. {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} إلا استوجبوا به الثوابَ. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} على إحسانِهم. * * * {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}. [121] {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً} تمرة ونحوها {وَلَا كَبِيرَةً} كنفقةِ عثمانَ في جيشِ العسرةِ. {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} في مسيرِهم في الغزوِ في الذهابِ والمجيءِ. {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} بذلكَ. {أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لام قسم تأكيد، تقديُره: واللهِ لَيَجْزِيَنَّهُمُ اللهُ، ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 296 - 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 52).

[122]

فحذفتِ النونُ استخفافًا، وكسرت اللامُ وكانت مفتوحة، فأشبهت في اللفظ لامَ (كي) فنصبوا ما (¬1) كلامِ (كي). * * * {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}. [122] ولما أنزل الله عز وجل عيوبَ المنافقين في غزوةِ تبوكَ، كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبعثُ السرايا، فكان المسلمون ينفرون إلى الغزِو ويتركون النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدَه، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (¬2) نفيٌ بمعنى النهيِ. {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} أي: فحينَ لم يكنْ نفيرٌ للكافةِ، فهلَّا نفرَ من كلِّ فرقةٍ بعضُها، ويبقى مع النبيِّ جماعة. {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} أي: الباقونَ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} النافرينَ ويعلِّموهم القرآنَ. {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} وفيه دليلٌ على أن التفقُّهَ والتذكيرَ من فروضِ الكفايةِ. {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ولا يعملون بخلافِه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (¬3). ¬

_ (¬1) في "ت": "به". (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (150). (¬3) رواه البخاري (71)، كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، =

[123]

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فَضلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ" (¬1) وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ" (¬2). * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}. [123] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} وهو عامٌّ في قتالِ الأقربِ فالأقربِ. {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} شِدَّةً عليهم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بالنصرِ. * * * {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)}. [124] {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ} أي: المنافقينَ {مَنْ يَقُولُ} بعضُهم لبعضٍ {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} يقينًا وتصديقًا. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} بزيادةِ العلمِ الحاصلِ. ¬

_ = ومسلم (1037)، كتاب: الزكاة، باب: النهي عن المسألة، عن معاوية -رضي الله عنه-. (¬1) رواه الترمذي (2685)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، وقال: غريب. (¬2) رواه الترمذي (2685)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال: غريب، وابن ماجه (222) في المقدمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

[125]

{وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون؛ لأنه سببٌ لزيادةِ كمالِهم. * * * {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)}. [125] {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شكٌّ ونفاقٌ. {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} كُفْرًا إلى كفرِهم، فعندَ نزوِل كلِّ سورةٍ ينكرونها، فيزدادُ كفرُهم. {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} واستحكمَ ذلكَ فيهم حتى ماتوا عليه. * * * {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)}. [126] {أَوَلَا يَرَوْنَ} قرأ حمزةُ، ويعقوبُ: (تَرَوْنَ) بالتاء والخطاب للمؤمنين، والباقون: بالغيب على خبر المنافقين (¬1). {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} يُبْتَلَون {فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} بالمرضِ وغيرِه. {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} من نفاقِهم {وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} يَتَّعِظون. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 320)، و"التيسير" للداني (ص: 120)، و"تفسير البغوي" (2/ 346)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 281)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 53).

[127]

{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)}. [127] {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} فيها عيبُ المنافقين {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} عندَ تعريضِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنفاقهم يريدونَ الهربَ يقولونَ: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ} من المؤمنين إنْ قمتُم من المسجد. {ثُمَّ انْصَرَفُوا} عن مكانِهم خارجين {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} عن الهدى، وهو يحتملُ الإخبارَ والدعاءَ، ذلك: {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنهم {قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} لسوءِ فهمِهم، والفقهُ لغةً: الفهمُ، وهو إدراكُ معنى الكلامِ، وشرعًا: معرفةُ الأحكامِ الشرعيةِ المتعلقةِ بأفعالِ العبادِ. قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "لا تقولوا إذا صليتُم: انصرفْنا من الصلاةِ، فإنَّ قومًا انصرفوا، فصرفَ اللهُ قلوبهم، ولكنْ قولوا: قد قَضَينا الصلاةَ" (¬1). * * * {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}. [128] عن أُبيٍّ -رضي الله عنه- أن آخرَ ما نزل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من جنسِكم عربيٌّ مثلُكم نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس في آبائِه من لَدُنْ آدمَ سِفاحٌ، كلُّهم نكاحٌ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والطبري في "تفسيره" (11/ 75).

[129]

والكسائيُّ، وخلفٌ وهشام: (لَقَد جاءَكُمْ) بإدغامِ الدالِ في الجيم، والباقونَ: بالإظهار (¬1)، وتقدَّم في سورة البقرة. {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ} شديدٌ عليه عَنَتكم؛ أي: مَشَقَّتكُم. {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} حتى لا يخرجَ أحدٌ منكم عن اتباعِه. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ومعنى رؤوف: مبالغٌ في الشفقةِ (¬2)، وتقدم اختلافُ القراءِ في رؤوف عندَ قوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. * * * {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}. [129] {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرَضوا عن الإيمانِ. {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} كافيَّ وناصرِي. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} واعتمدْتُ، فلا أرجو غَيرَه. {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وخُصَّ العرشُ بالذكرِ إذْ هو أعظمُ المخلوقاتِ، فيدخلُ فيه ما دونَهُ إذا ذكره، وهاتان الآيتان لم توجدا حينَ جمعِ المصاحفِ إلا في حفظِ خزيمةَ بن ثابتٍ، فلمَّا جاءَ بهما، تَذَكَّرَهما كثيرٌ من الصحابةِ، وقد كانَ زيدٌ يعرفُهما، ولذلكَ قالَ: "فقدتُ آيتينِ من ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 238)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 26)، وتقدم في البقرة الآية (92). (¬2) عند تفسير الآية (117) من هذه السورة.

آخرِ سورة التوبةِ" (¬1)، ولو لم يعرفْهما، لم يدرِ هل فقدَ شيئًا أم لا، فإنما أُثبتتِ الآيتانِ بالإجماعِ لا بخزيمةَ وحدَه. ورويَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عاشَ بعدَ نزولها خمسةً وثلاثين يومًا، والله أعلمُ. * * * ¬

_ (¬1) انظر القصة في: "صحيح البخاري" (4402)، كتاب: التفسير، باب قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...}.

سورة يونس

سُوْرَةُ يُونسَ مكيةٌ إلا ثلاثَ آياتٍ من قولهِ {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ}، وآيُها مئةٌ وتسعُ آياتٍ، وحروفُها سبعةُ آلافٍ وخمسُ مئةٍ وسبعة وستونَ حرفًا، وكلمُها ألفٌ وثمانُ مئةٍ واثنتانِ وثلاثونَ كلمةً. بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}. [1] {الر} قالَ ابنُ عباسٍ والضحَّاكُ: معناهُ: أنا اللهُ أَرى (¬1)، وتقدَّم الكلامُ في حروفِ الهجاءِ أولَ سورةِ البقرةِ. قرأ أبو جعفرٍ بتقطيعِ الحروفِ على أصلِه، وأمالَ الراءَ هنا وفي سورةِ هودٍ ويوسفَ والرعدِ وإبراهيمَ والحِجْرِ، أبو عمرٍو، وابن عامر، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، ورواها الأزرقُ عن ورشٍ بينَ اللفظينِ، والباقون: بالفتح (¬2). {تِلْكَ} إشارة إلى الكتبِ المتقدمة؛ أي إنها في القرآنِ معنى {آيَاتُ ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (11/ 79). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 322)، و "التيسير" للداني (ص: 120)، و"تفسير البغوي" (2/ 349)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 241 - 242، 2/ 67)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 57).

[2]

الْكِتَابِ} القرآنِ {الْحَكِيمِ} المحكمِ بالحلالِ والحرامِ والحدودِ والأحكامِ. * * * {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)}. [2] لما بعثَ الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، أنكر المشركون نبوتَهُ، وتعجَّبوا من ذلك، وقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكونَ رسولهُ بشرًا، فنزل: {أَكَانَ} (¬1) استفهامٌ إنكاريٌّ {لِلنَّاسِ عَجَبًا} العَجَبُ: حالةٌ تعتري الإنسانَ من رؤيةِ شيء على خلافِ العادة، و (عجبًا) خبرُ كانَ، واسمها: {أَنْ أَوْحَيْنَا} المعنى: أَعَجِبَ أهلُ مكةَ من إيحائِنا؟ {إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} أَعْلِمْهم مع التخويفِ. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} عملٌ صالحٌ قدَّموه. {عِنْدَ رَبِّهِمْ} وأُضيفَ القدمُ إلى كذا في الأصل، والصواب: عملًا صالحًا الصدقِ وهو نعتُه؛ كقولهم: مسجدُ الجامعِ، و (حب الَحصِيدِ)، قالَ أبو عبيدةَ: كل سابقٍ من خيرٍ أو شَرٍّ فهو عندَ العربِ (قَدَمٌ) يقال: لفلانٍ قدمٌ في الإسلامِ (¬2). {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 150). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 350).

[3]

والكسائيُّ، وخلفٌ: (لَسَاحِرٌ) بألفٍ بعد السين، وكسرِ الحاء، والمراد: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الباقون: بكسر السين وإسكانِ الحاء من غيرِ ألف، والمراد: القرآن (¬1). * * * {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)}. [3] {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} التي هي أصولُ الممكنات. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بلا كيفٍ، تقدَّمَ الكلامُ فيه في سورةِ الأعرافِ. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يقضي أمرَ الخلائق برزقِهم في الدنيا، وحسابِهم في الأخرى. {مَا مِنْ شَفِيعٍ} يشفعُ لأحدٍ. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} ردَّ على من زعمَ أن الآلهةَ تشفعُ لهم عندَ اللهِ، وإثباتُ الشفاعةِ لمن أذنَ له. {ذَلِكُمُ اللَّهُ} الموصوفُ بتلك الصفاتِ {رَبُّكُمْ} لا شريكَ له. {فَاعْبُدُوهُ} وَحِّدُوه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 322)، و"التيسير" للداني (ص: 120)، و"تفسير البغوي" (2/ 350)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 58).

[4]

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} تتَّعِظون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَذَكَّرُونَ) بتخفيف الذال حيثُ وقعَ، والباقون بالتشديدِ (¬1). * * * {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}. [4] {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} لا إلى غيره {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} صدقًا، لا خلفَ فيه، نُصِبَ على المصدر؛ أي: وَعْدًا حقًّا. {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} أي: يخلقُه ابتداءً. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} مَيْتًا ثم حَيًّا للجزاء. قرأ أبو جعفرٍ: (أَنَّه) بالفتح على معنى لأنه، والباقون: بكسر الألفِ على الاستئناف (¬2). {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} بالعدلِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} ماءٍ حارٍّ قد بلغَ نهايةَ الحرِّ. {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} بسببِ كفرِهم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 240)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 246)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 58). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 351)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282).

[5]

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)}. [5] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} بالنهارِ، وقرأ قنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ (ضِيئَاءً) بهمزتين بينَهما ألفٌ، والباقون بياء مفتوحة بعدَ الضاد (¬1). {وَالْقَمَرَ نُورًا} بالليل؛ أي: خلق الشمسَ ذاتَ ضياءٍ، والقمرَ ذا نورٍ، والضياءُ أقوى من النورِ. {وَقَدَّرَهُ} أي: القمرَ، قدَّرَ سيرَه. {مَنَازِلَ} لأن بالقمرِ يُعرف انقضاءُ الشهورِ والسنين، لا بالشمس، ومنازلُ القمرِ ثمانيةٌ وعشرونَ منزلًا، وأسماؤها: الشُّرُطَيْن، والبُطَين، والثُّرَيَّا، والدَّبَران، والهَقْعَة، والهَنْعَة، والذِّراع، والنَّثْرَة، والطَّرْف، والجَبْهَة، والزَّبْرَة، والصَّرْفة، والعَوَّاء، والسَّماك، والغَفْر، والزَّبانى، والإكليل، والقلب، والشَّولة، والنَّعائم، والبَلْدَة، وسعدُ الذّابح، وسعدُ بَلَع، وسعدُ السعود، وسعدُ الأخبية، وفرعُ الدلو المقدَّم، وفرع الدلو المؤخَّر، وبطنُ الحوتِ ويسمَّى الرشاء، وهذه المنازلُ مقسومةٌ على البروجِ، وهي اثنا عشرَ برجًا: الحملُ، والثورُ، والجوزاءُ، والسرطانُ، والأسدُ، والسنبلةُ، والميزانُ، والعقربُ، والقوسُ، والجديُ، والدلوُ، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 323)، و"التيسير" للداني (ص: 120)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 59).

[6]

ويسمى: الدالي، والحوتُ فكلُّ برجٍ منزلانِ وثلثٌ، ينزلُ القمرُ كلَّ ليلةٍ منزِلًا منها، ويستترُ ليلتين إنْ كانَ الشهرُ ثلاثين، وإن كان تسعًا وعشرين، فليلةً واحدةً، فيكونُ انقضاءُ السنةِ مع انقضائِها. {لِتَعْلَمُوا} بذلك {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} حسابَ الأشهرِ والأيامِ. {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ} المذكورَ. {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: بالحكمةِ البالغةِ، ولم يخلقْه عبثًا. {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ (يُفَصِّلُ) بالياء؛ لقولهِ (ما خَلَقَ الله)، وقرأ الباقون: بالنون على التعظيم (¬1). * * * {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}. [6] {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من أنواع الكائنات {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} لأن المتقيَن هم المنتفعونَ بالتفكُّر في خلقِ الله تعالى. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 323)، و"التيسير" للداني (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (2/ 357)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 60).

[7]

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)}. [7] {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يتوقعونه لإنكارهم البعثَ. {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فاختاروها. {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} سكنوا إليها سكونَ مَنْ لا يُزعَجُ. {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا} أدِلَّتِنا {غَافِلُونَ} لا يتفكرون فيها. * * * {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)}. [8] {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الكفرِ والتكذيبِ. * * * {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)}. [9] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي: يسدِّدُهم بسبب إيمانِهم إلى سلوكِ سبيلٍ يؤدِّي إلى الجنة. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} أي: بينَ أيديهم {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. * * * {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}. [10] {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أي: دعاؤهم؛ لأن (اللَّهُمَّ) دعاءٌ. {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} عمَّا لا يليق بعظمتِك وجلالِك.

[11]

{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} أي: يُحَيِّي بعضهم بعضًا بالسلام. {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} بعدَ التسبيحِ. {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يريدُ: يفتحون كلامهم بالتسبيح، ويختمونه بالتحميد. * * * {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)}. [11] ولما استعجلَ المشركون العذابَ، نزل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ} أي: تعجيلًا مثلَ استعجالِهم. {بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} قرأ ابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (لَقَضَى) بفتح القاف والضاد وقلب الياء ألفًا (أَجَلَهُمْ) نصب، المعنى: لأماتهم الله، وقرأ الباقون: بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء (أَجَلُهُمْ) بالرفع مجهولًا (¬1)؛ أي: وعجَّلنا لهم ما دَعَوا به من الشر كما نعجِّلُ لهم ما طلبوا من الخير، لهلكوا، تلخيصُه: لا يفعلُ إلا ما يريد. {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يخافون البعث. {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} إمهالًا لهم واستِدْراجًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 323 - 324)، و"التيسير" للداني (ص: 121)، و "تفسير البغوي" (2/ 353)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 61).

[12]

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)}. [12] {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ} الشدَّةُ {دَعَانَا لِجَنْبِهِ} أي: على جنبِه. {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} المعنى: دعانا في جميعِ حالاتِه، لأن الإنسانَ لا بدَّ لهُ من اضطجاعٍ أو قيامٍ أو قعودٍ. {فَلَمَّا كَشَفْنَا} دفعْنا {عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} مَضَى ونسيَ ما كانَ فيه من البلاءِ. {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} واستمرَّ على طريقتِه الأولى قبلَ أن يمسَّه الضرُّ. {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الدعاءِ عندَ البلاء، وتركِ الشكرِ عندَ الرخاء. * * * {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)}. [13] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يا أهلَ مكةَ. {لَمَّا ظَلَمُوا} بالتكذيبِ. {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالشواهدِ الدالَّةِ على صدقِهم. قرأ أبو عمرٍو: (رُسْلُهُمْ) بإسكان السين، وكذلك (رُسْلُنا) حيثُ وقعَ، والباقون: بضم السين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 240)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

[14]

{وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} عطفٌ على (ظَلَمُوا) {كَذَلِكَ} أي: كما أهلكناهم بكفرهم {نَجْزِي} نُهْلِكُ {الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} الكافرينَ بتكذيبِهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. * * * {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}. [14] {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ} أي: خلفًا {فِي الْأَرْضِ} خطابٌ للذين بُعث إليهم - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعدِ المهلَكينَ. {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فنعامِلَكم على مقتضى أعمالِكم. * * * {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}. [15] ولما كانَ القرآنُ ينزلُ بذمِّ الأصنامِ وعابديها، قالوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتَ تريدُ أن نؤمنَ بكَ، فأتِ بقرآنٍ غير هذا لا تُذَمُّ فيه آلهتُنا، فنزل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} (¬1) يعني: المشركين. ¬

_ = (ص: 247)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 62). (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 150)، و"تفسير البغوي" (2/ 354 - 355).

[16]

{ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} بكتابٍ آخرَ ليسَ فيه ما نكرهُ من معايبِ آلهتنا. قرأ ابن كثيرٍ (بِقُرَانٍ) و (القُرَان) كيفَ أَتى بالنَّقل (¬1). {أَوْ بَدِّلْهُ} غَيِّرْهُ فاجعلَ مكانَ آيةِ رحمةٍ آيةَ عذابٍ، وبالعكس. {قُلْ} لهم يا محمدُ: {مَا يَكُونُ لِي} ما ينبغي لي ولا يجوزُ. {أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} أي: من عندِها. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} فيما آمُركم به، وأَنهاكُم عنه. {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} بالتبديلِ {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يومُ القيامة. قرأ الكوفيونَ، وابنُ عامر، ويعقوبُ: (لي أَن) (نَفْسِي إِنْ) (إِنيِّ أَخَافُ) بإسكانِ الياءِ في الثلاثةِ، ووافقَهم ابنُ كثيرٍ في (نَفْسِي)، والباقونَ، وهم نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمروٍ: بالفتح، وافقَهم ابنُ كثيرٍ في (لِيَ) و (إِنيِّ) (¬2). * * * {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}. [16] {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} يعني: لو شاءَ، ما أنزلَ القرآنَ عليَّ. ¬

_ (¬1) تقدمت هذه القراءة عند تفسير الآية (185) من سورة البقرة. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 330)، و "التيسير" للداني (ص: 123 - 124)، و"الكشف" لمكي (1/ 523)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 62).

{وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} قرأ ابنُ كثيرٍ بروايةِ قنبلٍ: (ولأَدْرَاكُمْ) بالقصرِ على الإيجاب؛ أي: ولأَعْلَمَكم به على لسان غيري، ولكنَّه مَنَّ عليَّ بالرسالة، وقرأ الباقون: بإثباتِ الألفِ على أنها (لا) النافية (¬1)؛ أي: ولا أعلمَكم به على لساني، ولترَكَكم على كفْركم، المعنى: إن الأمرَ بمشيئةِ اللهِ لا بمشيئتي حتى أجعله على نحوِ ما تشتهونه، وقرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وورشٌ عن نافعٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (أَدْرَاكُمْ) (أَدْرَاكَ) بالإمالة حيثُ وقعَ، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ راوي ابنِ عامرٍ. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا} ظرفٌ، أي: مقدارَ عمر، وهو أربعونَ سنةً. {مِنْ قَبْلِهِ} من قبلِ نزولِ القرآن، لا أتلوه، ولا أعلمُه. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أنه ليسَ من قِبَلي. ولبثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيهم قبلَ الوحي أربعين سنةً، ثم أُوحِيَ إليه، فأقام بعدَ الوحيِ ثلاثَ عشرةَ سنةً، ثم هاجرَ فأقامَ بالمدينة عشرَ سنينَ، وتُوفِّيَ وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنةً، وكانتْ وفاتُه يومَ الاثنينِ، وفُرِغَ من جهازِه يومَ الثلاثاء، ودُفن في ليلةِ الأربعاءِ في شهرِ ربيعٍ الأولِ سنةَ إحدى عشرةَ من الهجرةِ الشريفةِ، وكان مرضُه ثلاثَ عشرةَ ليلةً - صلى الله عليه وسلم -. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (2/ 355)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 64). والذي عند البغوي: "ولأدراكم" برواية البزي عن ابن كثير.

[17]

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}. [17] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعمَ أنَّ له شريكًا أَو ولدًا. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} بنبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} لا يَنْجو المشركون. * * * {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}. [18] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ} إنْ عَصَوه. {وَلَا يَنْفَعُهُمْ} إن عَبَدوه؛ يعني: الأصنامَ؛ فإنها جمادٌ لا تقدرُ على نفعٍ ولا ضرٍّ. {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ} الأوثانُ {شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} تشفعُ لنا فيما يهمُّنا من أمورِ الدنيا والآخرةِ إن يكنْ بعثٌ. {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ} أتخبرونه {بِمَا لَا يَعْلَمُ} أي: أتخبرونَ الله أنَّ له شريكًا أو عندَهُ شفيعًا بغيرِ إذنِه، وفيه تقريعٌ وتَهَكُّم بهم، واللهُ لا يعلمُ لنفسِه شريكًا {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} ثم نَزَّهَ نفسَه وقَدَّسَها عن الشركِ فقال:

[19]

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تُشْرِكُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬1). * * * {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}. [19] {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} على دينِ الإسلامِ. {فَاخْتَلَفُوا} تفرَّقوا أديانًا مختلفةً. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أنه لا يقضي بينَهم دونَ القيامةِ. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} عاجِلًا {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بإهلاكِ المبطِلِ وإبقاء المحِقِّ. * * * {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}. [20] {وَيَقُولُونَ} يعني: أهلَ مكةَ {لَوْلَا} هلَّا. {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} من الآيات التي نقترحُها. {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} هو المحيطُ بعلمِه. {فَانْتَظِرُوا} نزولهَا {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لِما يفعلُ اللهُ بِكُمْ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 324)، و"التيسير" للداني (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (2/ 325)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 65).

[21]

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)}. [21] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ} كفارَ مكةَ {رَحْمَةً} راحةً. {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ} شدَّةٍ. {مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} بالطعنِ عليها، والاحتيالِ في دفعها. قرأ أبو عمرٍو: (مِنْ بَعْد ضَّرَّاءَ) بإدغام الدالِ في الضادِ (¬1). {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} أي: مجازاةً {إِنَّ رُسُلَنَا} الحفظةَ. {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} قرأ روحٌ عن يعقوبَ: (يَمْكُرُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬2). * * * {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)}. [22] {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} يحمِلُكم {فِي الْبَرِّ} على الظهورِ {وَالْبَحْرِ} على السفنِ. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (يَنْشُرُكُمْ) بفتح الياء ونون ساكنة ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 240)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 66). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 357)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 66).

[23]

بعدَها وشين معجمة مضمومة، من النَّشْرِ، وكذلك هي في مصاحفِ أهلِ الشامِ وغيرِها، وقرأ الباقون: بضمِّ الياء وسين مهملة مفتوحة بعدها ياءٌ مكسورة مشدَّدة من التسيير، وكذلك هي في مصاحفهم (¬1). {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} السفنِ، الواحدُ والجمعُ سواءٌ {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} أي: السفنُ بالناس {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} لينةِ الهبوبِ {وَفَرِحُوا بِهَا} بتلكَ الريحِ. {جَاءَتْهَا} أي: السفنَ {رِيحٌ عَاصِفٌ} شديدةُ الهبوبِ. {وَجَاءَهُمُ} يعني: ركبانَ السفينةِ {الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} وهو حركةُ الماءِ واختلاطُه. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أُهْلِكوا، جعلَ إحاطةَ العدوِّ بالحيِّ مثلًا في الهلاكِ. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} دونَ أوثانهم يقولون: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} الشدَّةِ {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لكَ بالإيمان. * * * {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}. [23] {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ} إجابةً لدعائِهم {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ} يُفْسِدون. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 325)، و"التيسير" للداني (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (2/ 357)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 16 - 67).

[24]

{فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} مبطِلين فيه. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: وَبالُه راجعٌ عليكم، ثم ابتدأ فقال: {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قراءة العامة: (مَتَاعُ) بالرفع خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: هذا متاعٌ، المعنى: إنما بغيُكم على أمثالِكم، منفعةُ الحياةِ الدنيا لا بقاءَ لها، وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ (مَتَاعَ) بالنصب (¬1)؛ أي: تتمتعون متاعَ الحياةِ الدنيا في فنائِها وزوالِها. {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالجزاءِ عليه. * * * {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}. [24] {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في زوالِها. {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أي: التفَّ واشتبكَ بسببه حتَّى خالطَ بعضُه بعضًا؛ أي: نبتَ بالماءِ من كلِّ لون. {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من الحبوبِ والثمارِ {وَالْأَنْعَامُ} من الحشيشِ. {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} زِينَتَها بالنباتِ {وَازَّيَّنَتْ} بالزهرِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 325)، و"التيسير" للداني (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (2/ 358)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 67).

[25]

{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} متمكِّنونَ من منفعتِها {أَتَاهَا أَمْرُنَا} قضاؤنا {لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} شَبيهًا بما يُحْصَدُ من الزرعِ. {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} أي: كأنْ لم تعمرْ بالزمانِ الماضي، والمغاني: المنازلُ. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإنهم هم المنتفعون بها. * * * {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}. [25] {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} الجنةِ لسلامتِهم فيها. {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو الإسلامُ، وتقدَّم اختلافُ القراء في حكم الهمزتين من كلمتين في قوله: (يَشَاءُ إِلىَ صراطٍ مستقيمٍ) في سورة البقرة [الآية: 115]. * * * {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)}. [26] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} العملَ في الدنيا {الْحُسْنَى} الجنةُ. {وَزِيَادَةٌ} النظرُ إلى وجهِ الله الكريمِ. {وَلَا يَرْهَقُ} يغشى {وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} غبارٌ، جمعُ قَتَرَةٍ {وَلَا ذِلَّةٌ} هوانٌ. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمونَ. * * *

[27]

{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)} [يونس: 27]. [27] {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} مبتدأ، خبرُه: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي: لهم مثلُها. {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} مانع. {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} أُلْبِسَتْ. {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} حالٌ، العاملُ فيها (أُغشيت). قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (قِطْعًا) بإسكان الطاء؛ أي: جزءًا واحدًا، والباقون: بالفتح، جمع قِطْعة (¬1) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)}. [28] {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} يعني: الفريقين {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} أي: اثبتوا مكانَكم {أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} أي: آلهَتكم، لا تبرحوا حتى نرى ما يُفعل بكم. {فَزَيَّلْنَا} فَرَّقنا {بَيْنَهُمْ} بعدَ اجتماعِهم في الموقفِ، وقطعنا ما كانَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 325)، و"التيسير" للداني (ص: 121)، و"تفسير البغوي" (2/ 360)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 70 - 71).

[29]

بينهم من التواصُلِ في الدنيا، وذلك حينَ تبرَّأَ كلُّ معبودٍ من دون الله ممن عبدَه. {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} يعني: الأصنامَ. {مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} بطِلبتنا، فيقولون: بلى، كنا نعبدُكم، فتقولُ الأصنامُ: ... {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)}. [29] {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ} إيانا. {لَغَافِلِينَ} ما كنا نسمعُ ولا نبصرُ ولا نعقلُ. ... {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}. [30] قال الله تعالى: {هُنَالِكَ} في ذلكَ اليومِ {تَبْلُو} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (تَتْلُو) بتاءين، من التلاوة؛ أي: تقرأُ كلُّ نفسٍ صَحيفتَها، وقرأ الباقون: بالتاء والباء (¬1)، من البلوى؛ أي: تختبرُ، ومعناه: ظهورُ أثرِ العملِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 325)، و"تفسير البغوي" (2/ 361)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 283)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 72).

[31]

{كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} قَدَّمَتْ من العمل. {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ} إلى حكمِه، فينفرد فيهم بالحكم. {مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} ربِّهم حقيقةً، والمتولِّي جزاءَهم. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ضاعَ عنهم ما كانوا يدَّعون أنهم شركاءُ لله. ... {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)}. [31] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} بالمطرِ {وَالْأَرْضِ} بالنباتِ. {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} من يستطيعُ خَلْقَها. {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الإنسانَ من النطفةِ، والمؤمنَ من الكافرِ. {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} عكسُه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (الْمَيِّتَ) بتشديد الياء، والباقون: بالتخفيف (¬1). {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يقدِّرُه ويقضيه. {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} هو الذي يفعلُ هذهِ الأشياءَ إذ لا يقدرون على العنادِ في ذلك. {فَقُلْ} لهم يا محمد: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} عقابَه فتسلمونَ. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 240)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 73).

[32]

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)}. [32] {فَذَلِكُمُ} أي: الفعَّالُ لهذهِ الأشياءِ. {اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} الذي لا ريبَ في صحَّته. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} لا واسطةَ بينَهما. {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} عن الحقِّ إلى الباطلِ. ... {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}. [33] {كَذَلِكَ} أي: مثلَ ذلك الحقِّ حَقَّتْ. {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي: ثَبَتَتْ {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} تمرَّدوا في كفرِهم. {أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: حقَّ عليهم انتفاءُ الإيمان. قرأ نافع، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (كَلِمَاتُ) بالألف على الجمع، والباقون: بغير ألفٍ على التوحيد (¬1). ... {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)}. [34] {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} أي: معبودِيكم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 326)، و"التيسير" للداني (ص: 122)، و"تفسير البغوي" (2/ 262)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 283)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 73 - 75).

[35]

{مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} يُنْشِئُهُ {ثُمَّ يُعِيدُهُ} من بعدِ الموتِ، فإن أجابوك، وإلا {قُلْ} أنت: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} تُصْرَفون عن الهدى. ... {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}. [35] {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي} يرشدُ {إِلَى الْحَقِّ}، فماذا قالوا: لا، ولا بدَّ لهم من ذلك. {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} يقالُ: هديتُه للحقِّ وإلى الحقِّ، واستُعمل هنا اللغتان. {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} أي: يهتدي. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وورشٌ عن نافعٍ: بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، وأبو جعفرٍ كذلك، إلا أنه بإسكانِ الهاء، من اهتدى يهتدي، أدغموا التاء في الدال بعدَ نقلِ حركتِها مفتوحة إلى الهاء. وقرأ أبو عمرٍو، وقالونُ عن نافعٍ: باختلاسِ فتحة الهاء تخفيفًا، والتعليلُ فيه كالذي قبله، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال، من هدى يهدي غيرَه، وقرأ يعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، مبالغة؛ لأنه أدغم التاء في الدال، ولم يُلْقِ حركتَها على الهاء، فاجتمع ساكنان، فكسرت الهاء لالتقاء الساكنين، وروى أبو بكرٍ عن عاصمٍ: بكسر الياء إتباعًا للهاء مع التشديد، والتعليلُ فيه كالذي قبله، ومعنى القراءات كلِّها واحدٌ.

[36]

{إِلَّا أَنْ يُهْدَى} المعنى: اللهُ الذي يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بالاتباع، أم الصنم الذي لا يهتدي بنفسِه إلى مكانٍ ينتقل إليه (إِلَّا أَنْ يُهْدَى)؛ أي: يُنقل؟! {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بما يقتضي صريحُ العقلِ بطلانَه. ... {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}. [36] {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} فيما يعتقدون {إِلَّا ظَنًّا} أي: تقليدَ آبائهم، والمرادُ بالأكثر: جميعُ من يقولُ ذلك. {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} أي: لا يعملُ عملَه، المعنى: لا يقوم الظنُّ مقامَ التحقيق {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وعيدٌ على اتّبَاعِهم للظنِّ. ... {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)}. [37] {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: وما كانَ هذا القرآنُ افتراءً من الخلق. {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: قبلَه من الكتبِ المتقدمةِ. {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أي: تبيينَ أحكامِهِ. {لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا شكَّ في نزولِه من قِبَلِ اللهِ تعالى. ***

[38]

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)}. [38] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي: بل أيقولونَ اختلقَ محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ، ومعنى الهمزةِ فيه الإنكارُ. {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} شبهِ القرآنِ في الفصاحةِ والإعجازِ على وجه الافتراء؛ لأنكم عربٌ مثلي {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} من (¬1) تعبدون. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ليعينوكم على ذلكَ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنَّ محمدًا اختلقَهُ. ... {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)}. [39] ثم بَيَّنَ عجزَهم بقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي: سارعوا إلى تكذيبِ القرآنِ قبلَ أن يتدبَّروه {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي: ولم يأتهم حقيقةُ عاقبةِ التكذيبِ من نزولِ العذابِ بهم. {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كفارِ الأممِ الخاليةِ. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي: آخرُ أمرِهم بالهلاكُ. وفي معنى قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} من الأمثالِ الدائرةِ على ألسنِ الناس: مَنْ جَهِلَ شيئًا عاداهُ. ¬

_ (¬1) في "ت": "ممن".

[40]

{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}. [40] {وَمِنْهُمْ} أي: المكذِّبين {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} سيؤمنُ بالقرآن. {وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} أبدًا. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أي: من يصرُّ على الكفرِ، وهو تهديدٌ له. ... {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)}. [41] {وَإِنْ كَذَّبُوكَ} يا محمدُ {فَقُلْ} تحذيرًا: {لِي عَمَلِي} أي: ثوابُ عملي في التبليغِ والإنذارِ والطاعةِ لله تعالى. {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي: جزاؤه من الشِّرْكِ. {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي: لا يؤاخَذُ أحدٌ بذنب أحد، فمن حملَها على ظاهرِها، نسخَها بآيةِ السيفِ، ومن تأوَّلها بالجزاء، فثابتة؛ لأن الجزاءَ ثَمَّ يكونُ. ... {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)}. [42] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بظواهرِهم، وقلوبُهم لا تعي شيئًا مما تقولُه وتتلُوهُ من القرآن، ولهذا قالَ: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} يريدُ: سمعَ القلبِ. {وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} ظاهُره الاستفهامُ، ومعناه النفيُ.

[43]

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)}. [43] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} تعجُّبًا منكَ بأبصارِهم دونَ بصائرِهم، قيل: نزلت في المستهزئين. {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي: عَمَى القلب {وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} قرنَ عدمَ العقلِ بعدمِ السمعِ، وبعدمِ البصرِ عدمَ الإدراكِ تفضيلًا لحكمِ الباطنِ على الظاهرِ. ... {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}. [44] {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} لأنه في جميعِ أفعاله متفضلٌ وعادلٌ. {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بمخالفةِ أمرِ خالقِهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَكِنِ) مخفَّفًا (الناسُ) رفعًا، والباقون: بالتشديدِ والنصبِ (¬1). ... {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)}. [45] {وَيَوْمَ} أي: واذكرْ يومَ {نَحْشُرُهُمْ} وعيدٌ بالحشرِ وخزيِهم. قرأ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 122)، و"النشر في القراءات العشر"لابن الجزري (2/ 219)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 76 - 77).

[46]

حفصٌ عن عاصمٍ: (يَحْشُرُهُمْ) بالياء، والباقون: بالنون (¬1). {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} يستقصرونَ مدةَ لبثِهم في قبورِهم. {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي: يعرفُ بعضهُم بعضًا عندَ خروجِهم من القبورِ. {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أي: بالعرضِ على اللهِ. {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} في علمِ اللهِ. ... {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)}. [46] {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} يا محمدُ {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذابِ. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبلَ تعذيبِهم {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} في الآخرةِ. {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} فيجزيهم به، و (ثم) بمعنى الواو، والمعنى: إن لم ترَ في أعدائك ما يسرُّكَ هنا، فستراه ثَمَّ. ... {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)}. [47] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} منَ الأممِ الماضيةِ {رَّسُولٌ} يُبعثُ إليهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 327)، و"التيسير" للداني (ص: 107)، و"تفسير البغوي" (2/ 364)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 77).

[48]

{فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} فكذَّبوه {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالعدلِ. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لا يُعذبون بغيرِ حُجَّةٍ تلزمُهم. ... {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)}. [48] {وَيَقُولُونَ} يعني: المشركينَ استهزاءً: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بقيامِ الساعةِ. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} خطابٌ منهم للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنينَ. ... {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)}. [49] {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} لا أقدرُ لها على شيءٍ. {ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} أي: دفعَ ضرٍّ، ولا جلبَ نفعٍ {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أنْ أملكَهُ. {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} مدةٌ معلومةٌ {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} وقتُ فناءِ أعمارِهم. {فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فلا تستعجلوا، فَسَيحينُ وقتكم، واختلافُ القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَجَلُهُمْ) كاختلافِهم فيهما من {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} في سورة [النساء: 5]. ***

[50]

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}. [50] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا} ليلًا {أَوْ نَهَارًا} حينَ اشتغالِكم بطلبِ معاشِكم. {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} استفهامٌ معناهُ التهويلُ (¬1)؛ أي: ما أعظمَ ما تستعجلونَ بهِ! وستندمون على الاستعجالِ وتعرفونَ خطأَهُ. ... {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)}. [51] {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} يعني: إن أتاكُم عذابُه {آمَنْتُمْ بِهِ} أي: باللهِ حينَ لا ينفعُكم الإيمانُ {آلْآنَ} تؤمنون؟ استفهامُ توبيخٍ. {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} استهزاءً. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (آلاَنَ) بفتحِ اللامِ من غيرِ همزٍ، والباقونَ: بإسكانِ اللامِ وهمزةٍ بعدَها، وأجمعوا على مدِّ (آلان) لأنها همزةُ استفهامٍ دخلت على همزةِ الوصلِ لتفرِّقَ بينَ الاستفهامِ والخبرِ، وأجمعوا على عدمِ تحقيقِها لكونها همزةَ وصلٍ، وهمزةُ الوصلِ لا تثبتُ إلا ابتداءً، وأجمعوا على تليينها، واختلفوا في كيفيته، فقال كثيرٌ منهم: تبُدل ألفًا خالصةً، وقال آخرون: تسُهَّلَ بينَ بينَ، وكذا الحكمُ في (آلاَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) وفي: (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) (¬2). ¬

_ (¬1) "التهويل" ساقطة من "ن". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 327)، و"التيسير" للداني (ص: 122)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 357)، و"إتحاف فضلاء البشر" =

[52]

{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)}. [52] {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} بالشركِ توبيخًا لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} المؤلمَ على الدَّوام {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا. ... {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)}. [53] {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} يَستخبرونَكَ. {أَحَقٌّ هُوَ} العذابُ أو البعثُ، استفهام استهزاءٍ. {قُلْ إِي} أي: نعم {وَرَبِّي} توكيدٌ للقسم. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (وَرَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {إِنَّهُ لَحَقٌّ} لا شكَّ فيه {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتينَ من العذابِ. ... {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)}. [54] {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أشركَتْ. ¬

_ = للدمياطي (ص: 250)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 78). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 330)، و"التيسير" للداني (ص: 124)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 252)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 80).

[55]

{مَا فِي الْأَرْضِ} جميعًا. {لَافْتَدَتْ بِهِ} بَذَلَتْهُ في مقابلةِ نَجاتها. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} أَخْفَوها عن أتباعِهم خوفًا من ملامَتِهم، وقيل: معناه: أظهروها؛ لأنه ليسَ بيومِ تصبُّرٍ. {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} وهذا: قبلَ الإحراقِ بالنار، فإذا وقعوا فيها، ألهتهم عن التَّصَنُعِ. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الرؤساءِ والسِّفْلَةِ {بِالْقِسْطِ} بالعدلِ. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ليسَ تكريرًا؛ لأن الأولَ قضاء بينَ الأنبياءِ ومكذِّبيهم، والثاني مجازاةُ المشركينَ على الشركِ. ... {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)}. [55] {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} فلا مانعَ يمنعُه من إنفاذِ ما وعدَهُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ذلكَ. ... {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}. [56] {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)} قرأ يعقوبُ: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون؛ بضمِّ التاءِ وفتحِ الجيم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:252)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 80).

[57]

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)}. [57] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} كتابٌ فيهِ بيانُ ما يجبُ لكم وعليكم. {وَشِفَاءٌ} دواءٌ {لِمَا فِي الصُّدُورِ} من العقائدِ الفاسدةِ {وَهُدًى} من الضلالةِ {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} خَصَّهم؛ لأنهم المنتفعونَ بالإيمان. ... {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}. [58] {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} القرآنِ {وَبِرَحْمَتِهِ} الإسلامِ {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}. قرأ رويسٌ عن يعقوبَ: (فَلْتَفْرَحُوا) بالخطابِ للمؤمنين، والباقون: بالغيب؛ أي: ليفرحِ المؤمنون (¬1). {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من حُطامِ الدنيا. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامر، ورويسٌ عن يعقوبَ: (تَجْمَعُونَ) بالخطاب على معنى: فلتفرحوا أيها المؤمنون، فهو خيرٌ مما تجمعون أيها المخاطَبون، وقرأ الباقون: بالغيب (¬2)؛ أي: خير مما يجمعُه الكفار، وقيل: الخطابُ في (تجمعونَ) للكافرين. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 81). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 327)، و"التيسير" للداني (ص: 122)، و"تفسير البغوي" (2/ 367)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 285)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 81 - 82).

[59]

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}. [59] {قُلْ} يا محمدُ لكفارِ مكَّةَ: {أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} أي: خلقَ من زروعٍ وضروعٍ. {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} هو ما حَرَّموا من الأنعامِ؛ كالبَحيرَةِ، والسائبةِ، والوصيلةِ، والحامِ. {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} في هذا التحريمِ والتحليلِ؟ وتقدَّمَ قريبًا الكلامُ في همزةِ الاستفهامِ في قوله تعالى: (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ). {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} تتكذبون بنسبةِ ذلكَ إليه. ... {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)}. [60] {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: وأيُّ شيءٍ ظَنُّهم يُصْنَعُ بهم يومَ القيامةِ؟ أيحسبون أَلَّا يجاوَزوا عليهِ؟ {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} بإمهالِهم وقبولِ توبتِهم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} أَنْعُمَهُ عليهم. ... {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}.

[61]

[61] {وَمَا تَكُونُ} يا محمدُ {فِي شَأْنٍ} أمرٍ، وأصلُه الهمزُ بمعنى القَصْدِ، شَأَنْتُ شَأْنَهُ: قَصَدْتُهُ. {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ} من اللهِ {مِنْ قُرْآنٍ} نزلَ، ثم خاطبَه وأُمَّتَهُ فقال: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} وأُضمِرَ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ الذكر تفضيلًا له، ثم جُمع معَ أمته تفضيلًا لهم. {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} مُطَّلعينَ. {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تخوضون في العملِ. {وَمَا يَعْزُبُ} قرأ الكسائيُّ: بكسر الزايِ، والباقون: بالضمِّ (¬1)، ومعناهما: يغيب {عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ} أي: وزنِ ثقلِ {ذَرَّةٍ} وهي النملةُ الحميراءُ الصغيرةُ. {فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} أي: في الوجودِ، وتقديمُ الأرضِ؛ لأنَّ الكلامَ في حالِ أهلِها. {وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي: من الذرَّةِ {وَلَا أَكْبَرَ} قرأ يعقوبُ، وحمزةُ، وخلفٌ: (وَلاَ أَصْغَرُ) (وَلاَ أَكْبَرُ) برفعِ الراءِ فيهما عطفًا على موضعِ (مِنْ) ومعمولها؛ لأنَّ موضعَه رفعٌ بـ (يعزبُ)، وقرأ الباقون: بالنصبِ عطفًا على الذَّرةِ في الكسرِ، وجعلِ الفتحِ بدلَ الكسرِ لامتناعِ الصرفِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 328)، و"التيسير" للداني (ص: 122 - 123)، و"تفسير البغوي" (2/ 368)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 82 - 83). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 328)، و"التيسير" للداني (ص: 123)، و"تفسير البغوي" (2/ 386)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[62]

{إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} هو اللوحُ المحفوظ. ... {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}. [62] {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} هم الذين والَوْهُ بالطاعةِ والعبادةِ، وتَوَلَّاهم بالكرامةِ. {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرةِ، وإلَّا فهم أشدُّ خوفًا وحزنًا في الدنيا من غيرِهم. ورُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئِلَ: مَنْ أولياءُ الله؟ فقال: "الَّذِينَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ ذَكَرْتَ اللهَ" (¬1). قالَ ابنُ عطيةَ رحمه الله: وهذا وصفٌ لازمٌ للمتقين؛ لأنهم يَخْشَعونَ وَيَتَخَشَّعونَ (¬2). ... {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)}. [63] {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} هذهِ صفةُ أولياءِ الله تعالى. ... ¬

_ = (2/ 285)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 83). (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (11235)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (10/ 108)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 128).

[64]

{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}. [64] {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هي الرؤيا الصالحةُ يراها الإنسانُ، أو تُرى له {وَفِي الْآخِرَةِ} الجنةِ والرضوانِ. {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لا خُلْفَ لمواعدِهِ، والتبديلُ: تغييرُ الشيءِ عن حالِهِ {ذَلِكَ} التبشير {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. ... {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}. [65] ثم خاطبَ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: {وَلَا يَحْزُنْكَ} يا محمدُ. {قَولُهُمْ} تكذيبُهم؛ يعني: المشركين، تم الكلامُ هاهنا، ثم ابتدأ فقال: {إِنَّ الْعِزَّةَ} القدرةَ {لِلَّهِ جَمِيعًا} يُعِزُّ مَنْ يشاء، فهو يقهرُهم وينصرُكَ عليهم. {هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالِهم {الْعَلِيمُ} بأعمالِهم. ... {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)}. [66] {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} من الملائكة

[67]

والثَّقَلَين، يحكمُ بما (¬1) يريدُ، ويفعلُ ما يشاءُ سبحانَه. {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} أي: ما يتبعون شركاءَ على الحقيقةِ، فإنَّ شركةَ اللهِ في الربوبيةِ مُحالٌ. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أي: ظنَّهم أنَّ آلهتَهم تُقَرِّبُهم إلى الله تعالى. واختلافُ القراء في الهمزتينِ من (شُرَكَاءَ إِنْ) كاختلافِهم فيهما من (شُهَدَاءَ إِذْ) في سورةِ البقرةِ [الآية: 133]. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يكذِبون. ... {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)}. [67] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي: مع أزواجِكم وأولادِكم لزوالِ التعبِ، والسكونُ: الهُدوُّ عن اضطرابٍ. {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي: يُبْصَرُ فيه مطالبُ الأرزاقِ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماعَ تدبُّر واعتبارٍ. ... {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)}. [68] {قَالُوا} يعني: المشركينَ {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} هو قولُهم: الملائكةُ بناتُ الله. ¬

_ (¬1) في "ت" و"ن": "ما".

[69]

{سُبْحَانَهُ} تنزيهٌ عن الولدِ {هُوَ الْغَنِيُّ} عن خَلْقِه. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} عَبيدًا ومُلْكًا {إِنْ} أي: ما {عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} حجةٍ {بِهَذَا} القولِ، ثم نفى عنهم الحجةَ بقوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} توبيخٌ على اختلاقِهم، وفيه دليلٌ على أنَّ كلَّ قولٍ لا برهانَ عليه فهو جهالةٌ. ... {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)}. [69] {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} باتخاذِ الولدِ وإضافةِ الشريكِ إليه. {لَا يُفْلِحُونَ} لا يفوزونَ، وتمَّ الكلامُ. ... {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}. [70] {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ أي: افتراؤهم متاعٌ في الدنيا؛ أي: بُلْغَة يسيرةٌ بنيلِ رئاستِهم ولذتِهم، ثم تزولُ. {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بالموتِ. {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} بسببِ كفرهم. ***

[71]

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)}. [71] {وَاتْلُ} أي: اقرأ يا محمدُ {عَلَيْهِمْ} على أهلِ مكةَ {نَبَأَ} خبرَ {نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} وهم ولدُ قابيلَ بنِ آدمَ. {يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ} عَظُمَ وشَقَّ {عَلَيْكُمْ مَقَامِي} طولُ مَكْثي بينَكم. {وَتَذْكِيرِي} تحذيري {بِآيَاتِ اللَّهِ} بأدلَّتِهِ، فعزمُتم على قتلي وطَرْدي. {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} وَثِقْتُ به {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} قراءة العامةِ: {فَأَجْمِعُوا} بالقطعِ وكسرِ الميم؛ أي: أَحكِموه. {وَشُرَكَاءَكُمْ} أي: آلهتكَمُ، ونُصِبَ (شُرَكاءَكُمْ) بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وادعوا شركاءكم فاستعينوا، بها وقرأ رويسٌ عن يعقوبَ بخلافٍ عنه: (فَاجْمَعُوا) بوصلِ الهمزةِ وفتحِ الميمِ، من الجمعِ، ووردَتْ عن نافعٍ (¬1)، وقرأ يعقوبُ: (وَشُرَكَاؤُكُمْ) بالرفع (¬2)؛ أي: فَأَجمِعوا أمرَكم أنتم وشركاؤُكم. {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ} في قصدي بالهلاكِ {عَلَيْكُمْ غُمَّةً} خَفِيًّا، بل جاهِروني به {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} أَمْضُوا ما في أنفسكم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 328)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 314)، و"تفسير البغوي" (2/ 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 84 - 85). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 371)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 286)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 85).

[72]

{وَلَا تُنْظِرُونِ} لا تُؤَخِّرونِ. أثبتَ يعقوبُ الياءَ في (تُنْظِروُني). تلخيصُه: اقصدوا هَلاكي بكلِّ طريقٍ سريعًا، فلا خوفَ عندي؛ لوثوقي باللهِ. ... {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}. [72] {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتُم عن تذكيري {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} على ذلكَ. {مِنْ أَجْرٍ} جُعْلٍ فتنفروا عَنِّي. {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} لا تعلُّقَ له بكُم. قرأ نافعٌ، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ (أَجْرِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين لا يأخذونَ الأجرَ على التعليم. ... {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}. [73] {فَكَذَّبُوهُ} استَمُّروا على تكذيبه {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} وكانوا ثمانين {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} سُكَّانَ الأرض خَلَفًا عن الهالكينَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 330)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 247)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 86).

[74]

{وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} بالطُّوفان {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} آخرَ أمرِ الذين أنذرَهم الرسلُ فلم يؤمنوا. ... {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}. [74] {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعدِ نوحٍ. {رُسُلًا} كإبراهيمَ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، وغيِرهم. {إِلَى قَوْمِهِمْ} كلُّ رسولٍ إلى قومِه. {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالدَّلالاتِ الواضحاتِ. {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} فما كانَ إيمانُهم إلا ممتنعًا؛ لشدَّةِ شكيمتِهم في الكفر، وتصميمِهم عليه. {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} يريدُ: أنهم كانوا قبل بعثةِ الرسلِ أهلَ جاهليةٍ مكذِّبينَ بالحقِّ، فما وقعَ فصلٌ بين حالتَيْهم بعدَ بعثةِ الرسلِ وقبلَها، كأنْ لم يُبْعَثْ إليهم أحدٌ. {كَذَلِكَ} مثلَ ذلكَ الطَّبْعِ المحكَمِ {نَطْبَعُ} نختِمُ {عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} بخذلانهم، وفي ذلكَ دليلٌ على أن الأفعالَ واقعةٌ بقدرةِ اللهِ تعالى. ... {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)}. [75] {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: بعدَ الرُّسُلِ {مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ

[76]

وَمَلَئِهِ} يعني: أشرافَ قومِه {بِآيَاتِنَا} التسعِ. {فَاسْتَكْبَرُوا} عن اتِّبَاعِها {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أي: مشركين. ... {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)}. [76] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ} يعني: فرعونَ وقومَه {الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} وعرفوه؛ لتظاهرِ المعجزات {قَالُوا} من فرطِ تمرِّدِهم {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ظاهر. ... {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)}. [77] {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ} تقديرُ الكلام: أتقولونَ للحقِّ لما جاءكم: إنه سحرٌ؟ ثم قال منكرًا عليهم: {أَسِحْرٌ هَذَا}؟ فحذفَ السحرَ الأولَ اكتفاءً بدلالةِ الكلامِ عليه {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} المعنى: أيكونُ سِحْرًا وقد أفلحَ مَنْ جاءَ به؟! ... {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)}. [78] {قَالُوا} فرعونُ وقومُه لموسى عليه السلام: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} تَصْرِفَنا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من عبادةِ الأصنامِ. {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} الملكُ في أرضِ مصرَ. قرأ أبو بكرٍ عن

[79]

عاصمٍ: (وَيَكُونَ) بالياء على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (¬1). {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} مصدِّقين. قرأ أبو عمرٍو: (وَنَحْن لكُمَا) بإدغام النون في اللام (¬2). ... {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)}. [79] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} حاذقٍ فيه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (سَحَّارِ) على وزن فَعَّالٍ بتشديدِ الحاءِ وألفٍ بعدَها، وأمالَ فتحةَ الحاءِ الدوريُّ عن الكسائيِّ، وقرأ الباقون: (سَاحِرٍ) على وزن فاعِلٍ والألفِ قبلَ الحاء (¬3). ... {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)}. [80] {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي: اطْرَحوا على الأرضِ ما معَكُم من حبالِكم وعِصِيِّكم، وتقلَّمَ ذكرُ القصةِ في الأعراف. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 373)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 286)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 86). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 247)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 86). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 289)، و"التيسير" للداني (ص: 112)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 247)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 87).

[81]

{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)}. [81] {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ} أي: الذي جئتم {بِهِ السِّحْرُ} قرأ أبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو (آلسِّحْرُ) بالمدِّ على الاستفهام، تقديرُه: أيُّ شيءٍ جئتُم به، أَهُوَ السِّحْرُ؟ ويجوز لكل منهما تسهيلُ الهمزةِ الثانيةِ بينَ بينَ وإبدالُها ألفًا خالصةً كما تقدَّم في قوله: (آلاَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)، ولا يجوزُ الفصلُ فيه بالألفِ، كما لا يجوز في (آلاَنَ)، وقرأ الباقون: (بِهِ السِّحْرُ) بهمزةِ وصلٍ على الخبر، فتسقطُ وصلًا، وتُحذف بالصلةِ في الهاءِ قبلَها؛ لالتقاءِ الساكِنينِ (¬1). {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} سيمْحَقُهُ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} لا يُقَوِّيهِ. ... {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}. [82] {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} يُثَبِّتُهُ {بِكَلِمَاتِهِ} بأوامِره {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ذلكَ. ... {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}. [83] {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى} لم يصدِّقْهُ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 328)، و"التيسير" للداني (ص: 123)، و"تفسير البغوي" (2/ 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 87).

[84]

{إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} أي: أولادٌ من أولادِ قومِه بني إسرائيلَ. {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} أي: ملأ الذريَّةِ؛ فإن ملأَ الذرية كانوا من قومِ فرعونَ، وقيلَ: الضميرُ لفرعونَ، وجمعَهُ لأنه كانَ عظيمًا في نفسه، فخوطِبَ بالجمعِ. {أَنْ يَفْتِنَهُمْ} يُعَذِّبَهم، ولم يقل: يَفْتِنوهُم؛ لأنه أخبرَ عن فرعونَ، وكانَ قومُه على مثلِ ما كانَ عليهِ {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ} غالبٌ قاهرٌ. {فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} في الكبرِ حتى ادَّعى الربوبيةَ. رُويَ عن يعقوبَ الوقفُ بالياءِ على (لَعَالِي). ... {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)}. [84] {وَقَالَ مُوسَى} لمؤمني قومِه. {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} ثِقُوا به. {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} مخلِصينَ له. ... {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)}. [85] {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} لأنهم كانوا مؤمنينَ مخلصينَ. {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} موضعَ فتنةٍ؛ أي: عذابٍ بعدَ توبَتِنا.

[86]

{لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: لا تُظْهِرْهُم علينا، فيظُنُّوا أنا لم نكنْ على الحقِّ، فيزدادوا طُغيانًا. ... {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}. [86] {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} من كَيْدِهِم. ... {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}. [87] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ} اتَّخِذا. {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} تسكنونَ فيها. {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} مساجدَ متوجِّهَةً نحوَ الكعبة، وكان موسى يصلِّي إليها؛ لأنَّ فرعون كانَ قد أمرَ بني إسرائيلَ بتخريبِ بِيَعِهِم، وألَّا يظاهروا بعبادتِهم، فأُمروا باتخاذِ مساجدَ في بيوتهم يصلُّون فيها سِرًّا. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أَتِمُّوها {وَبَشِّرِ} يا موسى {الْمُؤْمِنِينَ} بخيرَيِ الدنيا والآخرةِ. ... {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)}. [88] {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} كلَّ ما يتزيَّنُ به من متاعِ الدنيا.

[89]

{وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وأنواعًا من المالِ. {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} قرأ عاصمٌ، وحمزة، والكسائيُّ، وخلفٌ، (لِيُضلُّوا) بضمِّ الياء، أي: لِيُضلُّوا غيَرهم، والباقون: بفتحها (¬1)، أي: ليضِلُّوا في أنفسهم، واللامُ في (لِيُضلُّوا) لامُ العاقبة، يعني: فَيُضِلُّوا، ويكون عاقبةُ أمرهم الضَّلال، كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، وقيلَ: هي لامُ (كي)؛ أي: آتيتَهم كي تَفتِنهم فَيَضِلُّوا ويُضلُّوا، كقوله: {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن: 16، 17]، قال القرطبيُّ: وأصحُّ ما قيلَ فيها، وهو قولُ الخليلِ وسيبويهِ: أنها لامُ العاقبةِ والصَّيرورةِ (¬2). {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أذهِبْ آثارها بالهلاك {وَاشْدُدْ} واختِمْ. {عَلَى قُلُوبِهِمْ} لِئَلَّا يدخُلَها الإيمانُ، وأصلُ الشدِّ: الاستيثاقُ، وإنما دعا عليهم بعدَ الإنذارِ؛ لعلمِهِ أن لا سبيلَ إلى إيمانِهم. {فَلَا يُؤْمِنُوا} معناهُ: اللهمَّ فلا يؤمنوا. {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وهو الغرقُ. ... {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}. [89] {قَالَ} الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام: ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 106)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 262)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 89). (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (8/ 374).

[90]

{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} إِنَّما نُسبَتْ إليهما، والدعاءُ كانَ منْ موسى؛ لأنه رُوِيَ أنَّ موسى كانَ يدعو، وهارونُ يؤمِّنُ، والتأمينُ دعاءٌ وفي بعضِ القصصِ: كانَ بينَ دعاءِ موسى وإجابتهِ أربعونَ سنةً. {فَاسْتَقِيمَا} على الرسالةِ، وامضيا لأمري. {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أَمْرَ الله تعالى. قرأ العامةُ: (تَتَّبِعانِّ) بتشديدِ التاءِ الثانيةِ وفتحِها وكسرِ الباءِ وتشديدِ النونِ في موضعِ جزمٍ على النهيِ، والنونُ للتوكيد، وحركت لالتقاءِ الساكنينِ، واختيرَ لها الكسرُ؛ لأنها أشبهتْ نونَ الرجلانِ، ويقال في الواحدِ: لا تتَّبِعَنَّ بفتحِ النون، وقرأ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ بتشديدِ التاءِ مع تخفيفِ النونِ، فتكون (لا) نافيةً، فيصيرُ اللفظُ لفظَ الخبر، ومعناهُ النهيُ؛ كقوله: (لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ) على قراءةِ مَنْ رفعَ، ورُوي عن ابنِ ذكوانَ أيضًا وجهٌ آخرُ بتخفيفِ التاءِ الثانية ساكنةً، وفتحِ الباءِ مع تشديدِ النونِ من تَبِعَ (¬1)، المعنى: لا تسلكْ طريقَ مَنْ لا يعلمُ حقيقةَ وعدي ووعيدي. ... {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)}. [90] {وَجَاوَزْنَا} عَبَرْنا {بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} حتى الشطِّ حافِظينَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 329)، و"التيسير" للداني (ص: 123)، و"تفسير البغوي" (2/ 376)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 287)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 90).

[91]

لهم {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} ظُلْمًا واعتداءً، وكانَ البحرُ قدِ انفلقَ لموسى وقومِه، فلما وصلَ فرعونُ بجنودِه إلى البحر، هابوا دخولَه، فتقدَّمَهم جبريلُ في صورةِ هامانَ على فرسٍ وَدِيقٍ؛ أَيْ: شَهِيٍّ، وهي التي في فَرْجِها بَلَلٌ وخاضَ البحرَ، فاقتحمتِ الخيولُ، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ مستوفىً في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50]، فلما دخلَ آخرُهم، وهمَّ أَوَّلُهم أَنْ يخرجَ، انطبقَ عليهِم الماءُ. {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي: قارَبَه، وكانَ هذا في يومِ عاشوراءَ {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (إِنَّهُ) بكسرِ الألفِ على الاستئنافِ بدلًا من (آمَنْتُ)، والباقون: بالفتحِ على حذفِ الباء التي هي صلةُ الإيمان (¬1)؟ أي: بأنه. {لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وكرر معنى الإيمان ثلاثَ مراتٍ حرصًا على القَبول، فلم يُقْبَلْ؛ لأنه فَرَّطَ، ولم يكنْ وقتَ قَبولٍ. ... {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)}. [91] فعندَ ذلكَ دَسَّ جِبْريلُ عليه السلام في فيهِ مِنْ حَمَإِ البحرِ، وقال: {آلْآنَ} تؤمنُ {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الضالِّينَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 330)، و"التيسير" للداني (ص: 123)، و"تفسير البغوي" (2/ 376)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 287)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 91).

[92]

المضلِّينَ؟! وتقدَّمَ الكلامُ في (آلآن)، ومذاهبُ القراءِ فيهِ عندَ قوله: {آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)} [يونس: 51]. ... {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}. [92] فلما أخبرَ موسى قومَه بهلاكِ فرعونَ وقومِه، قالتْ بنو إسرائيلَ: ما ماتَ فرعونُ، فأمرَ اللهُ البحرَ، فألقى فرعونَ على الساحل أحمرَ قصيرًا كأنه ثورٌ، فتيقَّنَ بنو إسرائيلَ موتَهُ، فمن ذلكَ الوقتِ لا يقبلُ الماءُ مَيْتًا أبدًا، فذلكَ قولُه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} نلقيكَ على نَجْوَةٍ من الأرضِ؛ أي: مرتفعٍ منها. قرأ يعقوبُ: (نُنْجِيكَ) مخفَّفًا، والباقون: مشدَّدًا (¬1). {بِبَدَنِكَ} وحدَكَ. {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ} بعدَكَ {آيَةً} علامةً تظهرُ لهم بها عبوديتُكَ من ربوبيتِكَ، لأنكَ لو كنتَ رَبًّا، لما غرقْتَ. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} لا يتفكَّرون فيها. ... {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}. [93] {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا} أنزلْنا {بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} منزلَ كرامةٍ، وهي ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 377)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 91).

[94]

الأرضُ المقدسةُ التي كتبَ اللهُ ميراثَها لإبراهيمَ وذريتِهِ. {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الحلالاتِ {فَمَا اخْتَلَفُوا} يعني: اليهودَ الذين كانوا في عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - {حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} يعني: القرآنَ، فبعضٌ قال: هو هو، وبعض: ليسَ هو، وغيَّروا صفته معَ معرفتِهم صدقَهُ وصفتَهُ. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} في الدنيا، فيثيبُ التائبَ، ويعاقبُ العاصِيَ. ... {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)}. [94] ثم قال خِطابًا للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ غيرُه: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يعني: القرآنَ {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فيخبرونك أنك مكتوبٌ عندَهم في التوراة، وقيلَ غيرُ ذلكَ، والشكُّ في اللغةِ: أصلُه الضيقُ، فقال - صلى الله عليه وسلم - في الجوابِ: "لاَ أَشُكُّ وَلاَ أَسْأَلُ أَحَداَّ، أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ" (¬1). قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَسَلِ) بنقل حركةِ الهمزة إلى الساكن قبلَها، وهو السين، والباقون: بغير نقل (¬2)، ثم استأنفَ الكلامَ فقال: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ} الذي لا شَكَّ فيه، وهو القرآنُ. {مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكِّين. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10211)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (15/ 202). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 247)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 414)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 92).

[95]

{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)}. [95] {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} والخطابُ في هذه الآية كالتي قبلَها للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ غيرُه. ... {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)}. [96] {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ} وَجَبَتْ. {عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أنهم يموتون كُفَّارًا، وهي: هؤلاءِ للنارِ ولا أُبالي. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (كَلِمَاتُ) بالألف على الجمعِ، والباقون: بغير ألفٍ على التوحيد (¬1) {لَا يُؤْمِنُونَ}. ... {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}. [97] {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} سألوها، وأُنِّثَ فعلُ (كُلُّ) لإضافتِه إلى مؤنثٍ. {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} فحينئذٍ يؤمنون ولا ينفعُهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 326)، و"التيسير" للداني (ص: 122)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 262)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 92).

[98]

{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)}. [98] {فَلَوْلَا} أي: فهلَّا {كَانَتْ} المعنى: فلم تكنْ {قَرْيَةٌ} من القرى الهالكةِ {آمَنَتْ} عندَ معاينةِ العذابِ. {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} بأنْ تقبَّلَ اللهُ منها. {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} فإنّه نفعَهم إيمانُهم في ذلكَ الوقتِ، و (قومَ) نصبٌ على الاستثناءِ المنقطعِ، تقديرُه: ولكنَّ قومَ يونسَ. {لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} الذلِّ والهوانِ. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} إلى وقتِ انقضاءِ آجالِهم، وملخَّصُ القصةِ: أنَّ قومَ يونسَ كانوا بِنينَوى من أرضِ الموصِلِ، وكانوا يعبدون الأصنامَ، فأرسلَ الله إليهم يونسَ عليه السلام، فكذَّبوه، فقيل له: أخبرْهم أنَّ العذابَ مُصَبِّحُهم بعدَ ثلاثٍ، فأخبرَهم، فقالوا: هو رجلٌ لا يكذبُ، فارقُبوه، فإن أقامَ معكم، فلا عليكم، وإن ارتحلَ عنكم، فهو نزولُ العذابِ لا شكَّ، فلما جاءهم الميعادُ، تغشَّاهم العذابُ، فكانَ مرتفعًا على رؤوسهم قدرَ ميلٍ، رُوِيَ أنه غيمٌ أسودُ يدخنُ دخانًا شديدًا، وكان يونسُ قد خرجَ من بينِ أَظْهُرِهِمْ في جوفِ تلكَ الليلةِ، فلما رأوا ذلكَ، ولم يجدوا يونسَ، أيقنوا بالهلاكِ، فَلبِسوا المُسُوحَ، وبرزوا إلى الصعيدِ بأنفسِهم ونسائِهم وصبيانِهم ودوابِّهم، وفَرَّقوا بينَ كلِّ والدة وولدِها، فحنَّ بعضُهم إلى بعض، وعَجُّوا وتَضَرَّعوا، وتَرادُّوا المظالمَ، وأخلصوا التوبةَ والإيمانَ، فرحِمَهم اللهُ، وكشفَ عنهمُ العذابَ، وكانَ يومَ عاشوراءَ يومَ

[99]

الجمعةِ، وسيأتي ذكرُ قصةِ يونسَ بأبسطَ من هذا في سورةِ الأنبياءِ إن شاء الله تعالى. ... {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)}. [99] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} وهو دليل على القدريَّةِ في أنَّ الله تعالى لم يشأْ إيمانَهم، وأن من شاءَ إيمانَه يؤمنُ لا محالةَ. {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} قالَ ابنُ عباس: "كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على إيمانِ جميعِ الناسِ، فأخبرَه تعالى أَنْ لا يؤمنُ إلَّا من سبقَتْ له السعادةُ في الذكرِ الأولِ، ولا يضلُّ إلا من سبقَتْ له الشقاوةُ (¬1) في الذكرِ الأولِ" (¬2). ... {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)}. [100] {وَمَا كَانَ} أي: وما ينبغي. {لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} بعلمِه وتوفيقِه. {وَيَجْعَلُ} اللهُ {الرِّجْسَ} العذابَ. قراءة العامةِ: (وَيَجْعَلُ) بالياء، ¬

_ (¬1) في "ظ": "الشقوة". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 381).

[101]

وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَنَجْعَلُ) بالنونِ على التعظيم (¬1) {عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أَمْرَ اللهِ ونهيَهُ. ... {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)}. [101] {قُلِ} للمشركينَ الذين يسألونَكَ عن الآياتِ: {انْظُرُوا} أي: بالتفكر. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (قُلِ انْظُرُوا) بكسرِ اللام في الوصل، والباقون: بضمِّها (¬2) {مَاذَا} مبتدأٌ، خبرُه {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من الدلالاتِ الدالَّةِ على الوحدانيةِ، و (ما) استفهامية. {وَمَا} للنفي؛ أي: ولنْ {تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ} الرسلُ. {عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} السابق علمُه تعالى بموتهم كافرين. ... {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)}. [102] {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} يعني: مشركي مكةَ {إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} من مكذبي الأمم؛ أي: مثلَ وقائِعهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 330)، و"التيسير" للداني (ص: 123)، و"تفسير البغوي" (2/ 381)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 93 - 94). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 247)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 94).

[103]

{قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لذلكَ. ... {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}. [103] {ثُمَّ نُنَجِّي} قرأ يعقوبُ (نُنجِي) بإسكانِ النون الثانية والتخفيف، والباقون: بفتح النون والتشديد (¬1) {رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} معهم عندَ نزولِ العذابِ. {كَذَلِكَ} كما أَنْجيناهم {حَقًّا} واجِبًا {عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} قرأ الكسائيُّ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (نُنْجِ المُؤْمِنِينَ) بالتخفيف، والباقونَ: بالتشديد، ووقفَ يعقوبُ (نُنْجِي) بإثباتِ الياء (¬2)، ونجَّى وأَنْجى بمعنى واحدٍ. ... {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)}. [104] {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ} يعني: أهلَ مكةَ. {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} وصِحَّتِه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 382)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 287)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 94). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 3330)، و"تفسير البغوي" (2/ 382)، و"التيسير" للداني (ص: 123)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 287)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 94).

[105]

{فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهي الأصنامُ. {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} يُميتكم، وخُصَّ التوفّي بالذكرِ للتهديدِ. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بآياتِ الله. ... {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)}. [105] {وَأَنْ أَقِمْ} عطفٌ على (أن أكون) {وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي: استقمْ إليهِ {حَنِيفًا} قَيِّمًا بهِ مائلًا عن كلِّ دينٍ. {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: قيلَ لي: لا تشركْ. ... {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)}. [106] {وَلَا تَدْعُ} لا تعبدْ {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ} إنْ أطعته. {وَلَا يَضُرُّكَ} إنْ عصيتَهُ. {فَإِنْ فَعَلْتَ} فعبدْتَ غيرَ اللهِ {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} الضارِّينَ بأنفسِهم. ... {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}. [107] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} يُصِبْكَ بهِ {فَلَا كَاشِفَ لَهُ} يَرفعُهُ {إِلَّا هُوَ} سبحانَه. {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ} فلا مانعَ {لِفَضْلِهِ} الذي أرادَكَ بهِ.

[108]

{يُصِيبُ بِهِ} بالخيرِ والضرِّ. {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ} لذنوبِ عبادهِ {الرَّحِيمُ} بأوليائِه. ... {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)}. [108] {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} رسولُه والقرآنُ, فلم يبقَ لكم حجة {فَمَنِ اهْتَدَى} اختارَ الهدى. {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي: لخلاصِ نفسِه؛ لأن نفعَه لها. {وَمَنْ ضَلَّ} بالكفِر {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: وبالُ ذلكَ على نفسِه. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: حفيظٌ أحفظُ أعمالَكُم، إنْ عليَّ إلَّا البلاغُ. ... {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}. [109] قالَ ابنُ عباسٍ: "نسخَتْها آيةُ القتالِ والتي بعدَها" (¬1)، وهي: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} يا محمدُ {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} بالنصرةِ أو بالأمرِ بالقتلِ. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} لأنه عز وجل لا يحكمُ إلا بالحقِّ، والله أعلمُ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 383)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 290 - 291).

سورة هود عليه السلام

سورة هود عليه السلام مَكِّيَّةٌ إلا قولَه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية، آيها مئةٌ وثلاثٌ وعشرونَ، وحروفُها سبعةُ آلافٍ وخمسُ مئةٍ وسبعةٌ وستونَ كسورةِ يونسَ، وكَلِمُها ألفٌ وتسعُ مئةٍ وخمسَ عشرةَ كلمةً. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}. [1] {الر} تقدَّمَ الكلامُ عليهِ، ومذاهبُ القراءِ فيه في أولِ سورةِ يونس (¬1). {كِتَابٌ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هذا كتابٌ، وهو القرآنُ. {أُحْكِمَتْ} نُظِمَتْ {آيَاتُهُ} نَظْمًا مُحْكَمًا لا يلحقُها تناقضٌ ولا خللٌ، وقال ابنُ عباسٍ: أَيْ: لم يُنْسَخْ بكتابٍ كما نُسِخَتِ الكتبُ والشرائعُ بهِ (¬2). {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بُيِّنَتْ بالأحكامِ {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أي: من عندِه. ¬

_ (¬1) عند تفسير الآية (1) منها. (¬2) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (6/ 1995)، و"تفسير البغوي" (2/ 385).

[2]

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)}. [2] {أَلَّا تَعْبُدُوا} أي: بألَّا لا تعبدوا {إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ} أي: من الله {نَذِيرٌ} بالعذابِ {وَبَشِيرٌ} بالثوابِ. ... {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}. [3] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} وَحِّدُوهُ، عطفٌ على الأولِ. {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من الكفر، أي: انسلِخوا منهُ، واندَموا على سالفِهِ. {يُمَتِّعْكُمْ} يُعَيِّشْكُم في الدنيا {مَتَاعًا حَسَنًا} عَيْشًا طيبًا. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى المماتِ. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} أي: في العملِ؛ أي: زيادةٍ في {فَضْلَهُ} أي: جزاءَ فضلِه. {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: تتولَّوا، فحُذفَتْ إحدى التاءين. وقرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ (وَإن تَّوَلَّوا) بتشديدِ التاء (¬1). {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} قرأ نافع، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمروٍ: (فَإِنِّيَ أَخَافُ) (إِنِّيَ أَخَافُ) حيثُ وقعَ بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (¬2) {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هو يومُ القيامة. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 232)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 100). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 100).

[4]

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}. [4] {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} في ذلك اليومِ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من ثوابٍ وعقابٍ، ولا ينفعُ من قضائِه واقيةٌ. ... {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)}. [5] {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يخفونَ ما فيها من العداوةِ، نزلتْ في الأخنسِ بنِ شريقٍ، وكانَ رجلًا حلوَ الكلامِ والمنظرِ، يلقى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما يحبُّ، وينطوي بقلبِه على ما يكرهُ (¬1). {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أي: من الله، قال ابنُ عطية: هذا هو الأفصحُ الأجزلُ في المعنى، وقيل: يمكنُ أن يعودَ الضميرُ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يَتَغَطَّونَ بها، و (حين) توقيتٌ للتغطَي لا للعلمِ {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} في قلوبهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} أفواههم. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وذواتُ الصدورِ: ما فيها. ... {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)}. [6] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} أي: ليسَ دابةٌ، و (من) صِلَةٌ، والدابّةُ: ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 151). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 151).

[7]

كلُّ حيوانٍ يَدِبُّ على وجهِ الأرضِ {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} أي: هو المتكفِّلُ به فَضْلًا لا وجوبًا. {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} مكانها. {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيثُ كانتْ من قبلُ من صلبٍ أو رَحِم. {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: مثبتٍ في اللوحِ المحفوظَ قبلَ خَلْقِها. ... {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}. [7] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} والأرجحُ أنها من أيامِ الدنيا، وأجزأَ ذكرهُ السمواتِ والأرضَ عن ذكرِ ما فيها؛ إِذ كلُّ ذلكَ خُلِقَ في تلكَ الستةِ أيامٍ، وتقَّدمَ الكلامُ في ذلك في سورة الأعراف. {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} قبلَ خلق السمواتِ والأرضِ، وكانَ ذلكَ الماءُ على مَتْنِ الريح، ثم بَيَّنَ علَّةَ الخلقِ فقالَ: {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختَبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أيُّها المؤمنون وأزهدُ في الدنيا وأتمُّ عقلًا. {وَلَئِنْ قُلْتَ} يا محمدُ {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يعنون: القرآن. قرأ حمزةُ، والكسائُّي، وخلفٌ: (سَاحِرٌ) بفتح السين وألفٍ بعدَها وكسرِ الحاءِ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 101)، و"تفسير البغوي" (2/ 389)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 256)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 103).=

[8]

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}. [8] {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} أي: أجلٍ محدودٍ، وأصلُ الأمةِ: الجماعةُ، فكأنه قال: إلى انقراضِ أمةٍ ومجيِء أخرى. {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} المعنى: أيُّ شيٍء يمنعُ العذابَ من النزولِ؟ يقولونه استهزاءً. {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} كيومِ بدرٍ {لَيْسَ} العذابُ {مَصْرُوفًا} مدفوعًا {عَنْهُمْ وَحَاقَ} وأحاطَ {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: نزل بهم جزاءَ استهزائهم. ... {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)}. [9] {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ} المرادُ: الجنسُ {مِنَّا رَحْمَةً} نعمةً. {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أَزَلْناها عنه {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} شديدُ اليأس أنها لا تعودُ إليه {كَفُورٌ} أَنْعُمَ اللهِ عليه. ... {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)}. [10] {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ} صحةً وسَعَةً {بَعْدَ ضَرَّاءَ} شدةٍ. {مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ} الإنسانُ {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ} المصائبُ {عَنِّي} ويتجَبَّرُ. {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} بطر.

[11]

{فَخُورٌ} والفرحُ: لذةٌ في القلبِ بنيلِ المشتهى، والفخرُ: هو التطاوُلُ على الناس بتعديدِ المناقبِ، وذلك منهيٌّ عنه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمروٍ (عَنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}. [11] {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} استثناءٌ متصلٌ على ما تقدَّمَ من أن (الإنسانَ) عامٌّ، ويرادُ به الجنسُ. {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} هو الجنةُ. ... {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)}. [12] {فَلَعَلَّكَ} يا محمدُ {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أي: تاركٌ تبليغَ ما يسوؤهم رجاءَ توبتِهم، وذلكَ أن كفارَ مكةَ لما قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] ليس فيه سبُّ آلهتنا، هَمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدعَ سبَّ آلهتهم ظاهرًا، فأنزل اللهُ الآية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 539)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 103). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 390).

[13]

{وَضَائِقٌ بِهِ} أي: بما كُلِّفْتَ {صَدْرُكَ} بأن تتلوَهُ عليهم مخافةَ {أَنْ يَقُولُوا} مكذِّبينَ {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} ينفقُهُ {أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدِّقُهُ. {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} فأدّ النِّذارَةَ. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي: حافظٌ وشهيدٌ. ... {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)}. [13] {أَمْ} بَلْ {يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي: اختلقَ محمدٌ الموحَى إليه، وهو القرآنُ. {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} مختلَقاتٍ من عندِ أنفسِكم، قال هنا: عشر، وفي يونسَ: (بسورة)؛ لأن هذه نزلتْ قبلَ تلكَ، لأنهم تُحُدُّوا أولًا بالإتيان بعشر، فلما عَجَزوا، تُحُدُّوا بسورةٍ واحدةٍ، المعنى: إن كان ما جئتُ به مفترًى كما تزعمونَ، فعارضوا بعضَه. {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} للمعارضةِ {مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الكهنةِ والأعوانِ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم. ... {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}. [14] {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا} في المعارضة، ولم تتهيأ لهم، خوطب جَمعًا؛ تعظيمًا لقدره، أو الخطابُ له ولأصحابهِ.

[15]

{فَاعْلَمُوا} خطابٌ للمؤمنين، أو للمشركين {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} أي: وهو عالم بإنزالِه وبجميعِ ما فيه {وَأَنْ لَا} أي: واعلموا أن لا {إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} استفهامٌ بمعنى الأمرِ؛ أي: أسلِموا. ... {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)}. [15] ونزل في كلِّ مَنْ عملَ عملًا لغيرِ اللهِ تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} بإحسانهِ وبرِّهِ. {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي: أُجورَ أعمالِهم في الدنيا؛ بسعةِ الرزقِ، وطيبِ العيش {وَهُم فِيهَا} أي: في الدنيا {لَا يبُخسُونَ} لا يُنْقَصون من حظِّهم. ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}. [16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} لأنهم استوفَوا ما تَقتضيه صورُ أعمالِهم الحسنةِ، وبقيت لهم أوزارُ العزائمِ السيئةِ. {وَحَبِطَ} بَطَلَ في الآخرةِ {مَا صَنَعُوا فيهَا} أي: في الدنيا. {وَبَاطِلٌ} في نفسِه {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لأنه عمل لغيرِ الله تعالى، واختلِف في المعني بهذه الآية، فقيل: هم أهلُ الرياءِ من المؤمنين، وقيل: هم الكفارُ، قال ابنُ عطيةَ: وهو عندي أرجحُ التأويلاتِ بحسبِ ذكرِ الكفارِ

[17]

والمنافقين في القرآنِ، فإنما قصدَ بهذه الآية أولئك (¬1). ... {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)}. [17] {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} ابتداءٌ، والخبرُ محذوفٌ؛ أي: أفمَنْ كان على بينةٍ كمَنْ كفرَ باللهِ وكذَّبَ أنبياءه؟ والمرادُ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على بينةٍ؛ أي: برهانٍ وبيانٍ من اللهِ أن دينَ الإسلامِ حَقٌّ. {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} أي: يتبع البرهانَ شاهدٌ يشهدُ بصحته، وهو القرآن. {مِنْهُ} أي: من الله تعالى. {وَمِنْ قَبْلِهِ} أي: قبلَ القرآنِ {كِتَابُ مُوسَى} هو التوراةُ. {إِمَامًا} مُؤْتمًا به {وَرَحْمَةً} لمن تبعَه. {أُولَئِكَ} أي: المؤمنون. {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} وهم الفِرَقُ من أهلِ مكةَ ومن ضامَّهم من الكفار المتحزِّبين على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} مصيرهُ. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 156).

[18]

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شَكٍّ {مِنْهُ} من الموعدِ {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} من قلَّةِ نظرِهم، واختلالِ فكرهم. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)}. [18] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعمَ أن له ولدًا وشريكًا؟ أي: لا أحدَ أظلمُ منه. {أُولَئِكَ} يعني: الكاذبينَ {يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} في الموقفِ، فيسألُهم عن أعمالهم. {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ} جمع شاهدٍ، وهم الملائكةُ والنبيونَ {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ} بُعْدُهُ وسَخَطُهُ {عَلَى الظَّالِمِينَ} الذين وَضعوا العبادةَ في غيرِ موضِعها. {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)}. [19] {الَّذِينَ يَصُدُّونَ} يمنعونَ {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن دينهِ. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: يعدِلون بالناسِ عنها إلى المعاصي والشركِ. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أعادَ لفظَ (هم) تأكيدًا لكفرِهم. ***

[20]

{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)}. [20] ثم قال الأشهادُ: {أُولَئِكَ} أي: الكاذبون. {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} فائتينَ اللهَ إذا أرادَ عذابَهم. {فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} ناصرينَ يمنعونهم من عذابِه، ولكن أَخَّرَهم إلى يومِ القيامةِ. {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} يشدَّدُ حتى يكونَ ضِعْفَي ما كان. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وجعفرٌ، ويعقوبُ: (يُضَعَّفُ) بتشديدِ العينِ مع حذفِ الألف، والباقون: بإثباتِ الألف والتخفيفِ (¬1). {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} أي: استماعَ الحقِّ. {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} محمدًا؛ بُغْضًا له، فـ (ما) نافية. ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)}. [21] {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا} غَبَنوا. {أَنْفُسَهُمْ} باشتراءِ عبادةِ الأوثانِ بعبادةِ اللهِ. {وَضَلَّ} ضاع. {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من زَعْمِهم أن الآلهةَ تشفعُ لهم. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 228)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 255 - 256)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 105).

[22]

{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}. [22] {لَا جَرَمَ} أي: حقًّا. {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أي: متحقِّقٌ خسرانُهم. ... {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)}. [23] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} صدَّقوا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا} خَشَعوا {إِلَى رَبِّهِمْ} وأصلُ الإخباتِ: الخضوعُ، من الخَبْتِ، وهي الأرضُ المطمئنَّةُ. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذه الآيةُ في الصحابةِ المؤمنين، والتي قبلَها في المشركين. ... {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}. [24] ثم ضربَ للكافرينَ والمؤمنينَ مثلًا فقال: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} مبتدأ، خبُره {كَالْأَعْمَى} أي: كمثلِ الأعمى. {وَالْأَصَمِّ} هذا للكافرينَ {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} للمؤمنين، شَبَّهَ الكافرَ بالأعمى وبالأصمِّ، وشبه المؤمنَ بالبصيرِ والسميعِ، فهو على تمثيل مثالين، وقال بعضُ المتأولين: التقديرُ: كالأعمى الأصمِّ، والبصيرِ السميعِ، فدخلت واوُ العطف كما تقولُ جاءني: زيدٌ العاقلُ والكريمُ،

[25]

وأنت تريدُه بعينه، فهو (¬1) على هذا تمثيلٌ بمثالٍ واحد. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} أي: الفريقانِ {مَثَلًا} تمييز. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} تَتَّعظون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَذْكُرونَ) بالتخفيف، والباقون: بالتشديدِ (¬2). ... {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)}. [25] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ: (إنِّي) بكسرِ الهمزة؛ أي: فقال: إني؛ لأن في الإرسالِ معنى القولِ، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة؛ أي: بـ (أني) (¬3)، والنذرُ والمنذِرُ هو المحذِّرُ. ... {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)}. [26] {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يومُ القيامةِ، وُصِفَ بذلك؛ لأن العذابَ يكونُ فيه، وتقدمَ ذكرُ الاختلافِ في عمرِه حينَ بعثَهُ اللهُ إلى قومِه في سورة الأعرافِ عندَ تفسيرِ قولهِ تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: 59]، ولبثَ يدعو قومَه تسعَ مئةٍ وخمسينَ ¬

_ (¬1) في "ت": "فهي". (¬2) المصادر السابقة. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 332)، و"التيسير" للداني (ص: 124)، و"تفسير البغوي" (2/ 395)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 105 - 106).

[27]

سنةً، وعاشَ بعدَ الطوفانِ مئتي سنةٍ وخمسينَ سنةً، وماتَ وله ألفٌ وأربعُ مئةٍ وخمسون سنةً. ... {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}. [27] {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} والملأُ: هم الأشرافُ والرؤساءُ {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا} آدمِيًّا {مِثْلَنَا} لا مَزِيَّةَ لكَ علينا. {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} الناقصونَ الأقدارِ فينا. {بَادِيَ الرَّأْيِ} قرأ أبو عمروٍ: (بَادِئ) بالهمزة؛ أي: أولَ الرأي، يريدون: أنهم اتبعوكَ في أولِ الرأيِ من غيرِ رؤيةٍ وتفكُّرٍ، ولو تفكَّروا ما اتّبَعوكَ، وقرأ الباقونَ: بياءٍ مفتوحةٍ بغيرِ همزٍ (¬1)؛ أي: ظاهرَ الرأي، معناه: اتبعوك ظاهرًا من غيرِ أن يتدَبَّروا ويتفكروا باطِنًا، ونصبُه على القراءتين ظرفٌ. {وَمَا نَرَى لَكُمْ} لكَ ولمتبعيكَ {عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي: زيادةِ شرفٍ علينا نؤهِّلُكم بها للنبوةِ {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} الخطابُ لنوحٍ ولمن آمَن به. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 332)، و"التيسير" للداني (ص: 124)، و"تفسير البغوي" (2/ 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 106).

[28]

{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}. [28] {قَالَ} نوحٌ {يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} أَخْبِروني. {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} حُجَّةٍ {مِنْ رَبِّي} شاهدةٍ بصحةِ دَعْواي. {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أي: النبوةَ {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ (فَعُمِّيَتْ) بضمِّ العينِ وتشديدِ الميم؛ أي: شُبِّهَتْ ولُبِّسَتْ، وقرأ الباقون: بفتح العينِ وتخفيفِ الميم؛ أي: خَفِيَتْ (¬1). {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أنُلْزِمُكُمُ الهدايةَ {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} لا تريدونها؟ استفهامٌ بمعنى الإنكارِ. ... {وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)}. [29] {وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على التبليغِ وإيمانِكم {مَالًا} أَجْرًا. {إِنْ أَجْرِيَ} ما ثوابي {إِلَّا عَلَى اللَّهِ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 332)، و"التيسير" للداني (ص: 124)، و"تفسير البغوي" (2/ 396)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 288)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 107).

[30]

والكسائيُّ، وخلفٌ عن عاصمٍ: (أَجْرِي) بإسكان الياءِ حيثُ وقع: والباقون بفتحِها (¬1). {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} وذلكَ أنهم قالوا له: اطردْ عنكَ المؤمنينَ؛ حَسَدًا لهم {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} أي: صائرونَ إليه، فيجزي من طَرَدَهم. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أمرَ اللهِ ولقاءَه. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وقنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلكنِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). ... {وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)}. [30] {وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} من يمنعُني من عذابِه. {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} لأجلِ إيمانهم {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} تتَّعظون. قرأ أبو عمروٍ: (وَيَا قَوْم منْ) بإدغامِ الميم في الميم (¬3). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 108). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 108). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 256)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 109).

[31]

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}. [31] {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} فآتي منها ما تطلبونَ. {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبرُكم بما تريدونَ. {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي} تحتقرُ {أَعْيُنُكُمْ} من المؤمنين {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} أي: إيمانًا وتوفيقًا؛ لجهلي بحالهم، وذلك أنهم قالوا: هم أراذلُنا، ولن يؤتيَهم اللهُ خيرًا. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فيجازيهم عليه {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إنْ آذيتُهم. قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)}. [32] {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} خاصَمْتَنا {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} فَأطْنَبْته. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذابِ. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في الدَّعْوى. ... ¬

_ (¬1) المصادر السابقة.

[33]

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)}. [33] {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} عاجِلًا أوآجِلًا. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائِتينَ. ... {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}. [34] {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} نَصيحتي. {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} أي: نصحَكم. {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} يُضِلَّكم، تقديرُ الكلام: إنْ كانَ اللهُ يريدُ أن يغويَكم، فإن أردتُ أن أنصحَ لكم، لا ينفعكُم نصحي. قرأ نافعٌ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفر: (نُصْحِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {هُوَ رَبُّكُمْ} فإليه الإغواء والهدايةُ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إخبارٌ في ضمنِه تهديدٌ ووعيدٌ. قرأ يعقوبُ: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء، والباقون: بضمها (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 256)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 109). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:256)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 110).

[35]

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}. [35] {أَمْ يَقُولُونَ} هؤلاء الكفرةُ {افْتَرَاهُ} افترى نوحٌ هذا التوعُّدَ بالعذاب، وأراد الإرهابَ علينا بذلك، وقيل: إن هذه الآيةَ اعترضَتْ في قصةِ نوحِ، وهي في شأنِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مع كفارِ قريشٍ، وذلك أنهم قالوا: افترى القرآنَ، وافترى هذهِ القصةَ عن نوحٍ، فنزلتِ الآيةُ في ذلك، والأولُ هو قولُ ابنِ عباسٍ (¬1)، قال القرطبيُّ: وهو أظهرُ؛ لأنه ليسَ قبلَه ولا بعده إلا ذكرُ نوحٍ وقومِه، فالخطاب منهم ولهم (¬2). {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} المعنى: إن صحَّ أني افتريتُه، فعلي جزاءُ افترائي. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} من الكفرِ والتكذيبِ. قرأ أبو جعفرٍ بخلاف عنه: (بَرِيٌّ) و (بَرِيُّونَ) حيثُ وقعَ بتشديدِ الياءِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمزِ والمدِّ. ... {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}. [36] {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} معنى الكلام: الإياسُ من إيمانهم، واستدامةُ كفرِهم تحقيقًا لنزولِ الوعيدِ بهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (12/ 32 - 33)، و"تفسير البغوي" (2/ 398). (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (9/ 29).

[37]

{فَلَا تَبْتَئِسْ} فلا تحزنْ {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فإني مُهْلِكُهم، فحينئذٍ دعا عليهم فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)} [نوح: 26]، ورُوي أنهم كانوا يبطِشونَ بنوحٍ فيخنقونه حتى يُغشى عليه، فإذا أفاقَ، قال: رَبِّ اغفرْ لقومي فإنهم لا يعلمونَ. ... {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}. [37] {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} بمنظرٍ مِنَّا؛ أي: اصنعْها محفوظًا أن تنُالَ بسوءٍ، وأن يُحال بينَكَ وبينَ عملِها، وأن تُخطئ في عملِها، لأنه لما أُمِرَ بعملِ السفينةِ، لم يدرِ كيفَ يصنعُها، فأوحيَ إليه أن اصنعْها كجؤجُؤِ الطائرِ، فإنَّكَ بعيني، فأخذ القَدُّومَ، وجعل يضربُ ولا يخطئ، ورُوي أن السفينةَ كان طولُها ثلاثَ مئةِ ذراعٍ، وعرضُها خمسينَ ذراعًا، وطولُها في السماء ثلاثين ذراعًا، وقيلَ غيرُ ذلك، وكانتْ من خشبِ الساجِ، وجعلَ لها ثلاثةَ بُطونٍ، فحملَ في البطنِ الأسفلِ الوحوشَ والسباعَ والهوامَّ، وفي البطنِ الوسطِ الدوابَّ والأنعام، وركبَ هو ومَنْ معه البطنَ الأعلى معَ ما يحتاجُ إليه من الزاد. {وَوَحْيِنَا} وتعليمِنا لكَ صورةَ العملِ بالوحيِ. {وَلَا تُخَاطِبْنِي} تراجِعْني. {فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} في إهلاكِ الكفارِ وابنِك كنعانَ وامرأتِكَ واعلةَ. {إِنَّهُم مُّغرَقُونَ} محكومٌ بغرقِهم. ***

[38]

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)}. [38] {وَيَصْنَعُ} أي: وطَفِقَ يصنعُ {الْفُلْكَ} رُوي أن نوحًا عليه السلام لبثَ يغرسُ الشجرَ مئةَ عام، ثم جعلَ يقطعُ الخشبَ ويضربُ الحديدَ ويهيئ عدةَ الفلكِ من القارِ وغيره. {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ} جماعةٌ {مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} فكانوا يتضاحَكون ويقولون: يا نوحُ! صرت نجارًا بعد ما كنت نبيًّا! {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} في المستقبلِ عند رؤيةِ الهلاكِ. {كَمَا تَسْخَرُونَ} منا الآنَ. ... {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}. [39] {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يُذِلُه، وهو الغرقُ. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} وهو عذابُ الآخرةِ، فصنعَ نوحٌ السفينةَ في سنتين، وقيلَ غيرُ ذلك. ... {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}. [40] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي: وقتُ الوعدِ بإهلاكهم. واختلافُ القراء في حكم الهمزتين من قوله (جَاءَ أَمْرُنَا) في هذا الحرف وجميعِ ما في

السورة كاختلافِهم فيها من قوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] في سورةِ النساءِ. {وَفَارَ التَّنُّورُ} أَي: جاشَ بالماء، وهو تنورُ الخبزِ في قولِ الأكثرِ، وكان هو الآيةَ بينَ نوحٍ وبينَ ربِّهِ، واختلِفَ في موضعِ التنور، فقيلَ: بالكوفة، وقيل: بالشام بموضعٍ يُقال له عَيْنٌ وردة، وقيلَ غيرُ ذلك. {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} أي: في السفينة. {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} صِنْفَين من الحيوان. {اثْنَيْنِ} ذكرًا وأنثى، وقيل لهما: زوجان؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما يُقال له: زوجٌ؛ لأنه لابدَّ لأحدِهما من الآخر. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (مِنْ كُلِّ) بالتنوين؛ أي: من كلِّ صنفٍ زوجينِ، اثنينِ ذكرَه تأكيدًا، والباقون: بغيرِ تنوينٍ على الإضافةِ على معنى: احمل اثنينِ من كلِّ زوجينِ، والقراءتانِ ترجعان إلى معنىً واحدٍ (¬1). وعندَ فورانِ التنورِ حُشِرَ الحيوانُ لنوحٍ عليه السلام، فجعل يضربُ بيديه فيقعُ الذكرُ في اليمنى، والأنثى في اليسرى، فيلقيهما في السفينة، ورُوي أن أول ما أَدخلَ السفينةَ الدُّرَّةُ، وآخرَ ما أدخلَ الحمارُ، فتمسَّكَ الشيطانُ بذنبِهِ، فزجرَهُ نوحٌ فلم ينزجرْ، فقالَ له: ادخلْ ولو كانَ معكَ الشيطانُ، قال ابنُ عباسٍ: "زَلَّتْ هذهِ الكلمةُ على لسانِه، فدخلَ الشيطانُ حينئذٍ"، وكان عندَ مؤخرِ السفينة، فلما كثرتْ أرواثُ الدوابِّ، تأذَّى نوحٌ من رائحتها، فأوحي إليه أنِ امسحْ على ذَنَبِ الفيلِ، ففعلَ، فخرجَ منه ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 333)، و"التيسير" للداني (ص: 124)، و"تفسير البغوي" (2/ 104)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 110 - 111).

[41]

خنزيرٌ وخنزيرةٌ، فَكَفيا نوحًا وأهلَه ذلكَ الأذى، فلما وقعَ الفأرُ يخربُ السفينةَ ويقرِضُ حبالَها، أوحي إليه أنِ اضربْ بينَ عيني الأسدِ، ففعلَ، فعطسَ، فخرجَ منه هِرٌّ وهرةٌ، فَكَفياهم الفأرَ، ورويَ أن الحيةَ والعقربَ أتيا نوحًا، فقالتا: احملْنا، فقالَ: إنكما سببُ الضررِ والبلاءِ فلا أحملُكُما، قالتا: احملْنا ونحن نضمنُ لك أَلَّا نضرَّ أحدًا ذكرك (¬1)، فمن قرأَ حينَ خاف مضرتهما: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات: 79] ما ضَرَّتَاهُ. {وَأَهْلَكَ} أي: واحملْ أهلَكَ من النسبِ {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} بالهلاكِ، وهو كنعانُ، وامرأتُك واعلةُ مستثنىً من الأهلِ. {وَمَنْ آمَنَ} أي: واحملْ مَنْ آمنَ بكَ، قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} وهم بنوه الثلاثةُ سامٌ وحامٌ ويافثُ، وثلاثُ نسوةٍ لهم، وامرأةُ نوحٍ غيرُ الهالكةِ، وتقدَّم في سورةِ الأعراف أنَّ من آمن به كانوا أربعين رجلًا، وأربعين امرأة، وهم الذين نجوا معه في السفينة، وفي ذلك خلاف، والله أعلم. ... {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}. [41] فلما دهمَهم الماءُ، ندبَهم إلى الركوبِ {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} فركبوا في السفينة يومَ الجمعةِ لعشرٍ مضينَ من رجبٍ من عينِ وردةَ، فأتتِ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (6/ 1970)، و"تفسير البغوي" (2/ 402)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 428).

[42]

البيتَ فطافَتْ به أسبوعًا، وقد رفعَهُ اللهُ من الغرقِ وبقيَ موضعه. {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أي: اركبوا مُسَمِّينَ أو قائلين: باسم الله عندَ مجراها ومرساها، فكانَ إذا أرادَ أن تجريَ قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسوَ قال: بسم الله، فرست. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عاصمٍ: (مَجْرَاهَا) بفتح الميم؛ أي: جَرْيَها، والباقون: بضمِّها؛ أي: إجرائِها، وأمالَ الراءَ أبو عمرٍو والأربعةُ المذكورون، ولم يُمِلْ حفصٌ غيرَ هذا الحرفِ، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ، فرويَ عنه الإمالةُ والفتحُ، قال ابنُ الجزري: وقد غلطَ مَنْ حكى فتحَ الميمِ عن ابنِ ذكوانَ من المؤلفين، وشُبْهَتُهم في ذلك والله أعلم: أنهم رأوا فيها عنه الفتحَ والإمالةَ، فظنوا فتحَ الميم، وليسَ كذلك، إنما أريد فتحُ الراء وإمالتُها، انتهى. ورُوي عن ورشٍ الفتحُ والإمالةُ بينَ بينَ (¬1). {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} تنبيهٌ لهم على نعمةِ الله عليهم ورحمتِه لهم. ... {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)}. [42] {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ} في اضطرابِ الماءِ وارتفاعِه. {كاَلْجِبَالِ} عِظَمًا وارتفاعًا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 333)، و"التيسير" للداني (ص: 124)، و"تفسير البغوي" (2/ 403)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 256)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 109 - 111).

[43]

{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} كنعانَ، وكان كافرًا {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} معتَزلٍ عن أبيه. {يَابُنَيَّ} قرأ عاصمٌ: (يَا بُنَيَّ) بفتح الياء، والباقون: بالكسرِ مشدَّدًا (¬1)، وقوله: (بُنَيَّ) مصغرًا ليكونَ أعطفَ له {ارْكَبْ مَعَنَا}. قرأ أبو عمرٍو والكسائيُّ، ويعقوبُ: (ارْكَب معَنَا) بإدغامِ الباءِ في الميمِ؛ لقربِ المخرَجِ، واختلِفَ عن ابنِ كثيرٍ وعاصمٍ وقالونَ وخَلَّادٍ، وقرأ الباقون، وهم: ابنُ عامر، وأبو جعفرٍ، وخلفٌ لنفسِه (¬2)، وعن حمزةَ، وورشٌ عن نافعٍ: بإظهارِ الباءِ على الأصل (¬3)، تلخيصُه: اركبْ معنا تنجُ. {وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} فتهلك. ... {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}. [43] {قَالَ} له ابنُه {سَآوِي} سألتجِئُ. {إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} يمنعُني من الغرقِ. {قَالَ} له نوحٌ {لَا عَاصِمَ} لا مانعَ {الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} من عذابِ الله. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 334)، و"التيسير" للداني (ص: 124)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 113). (¬2) في "ن": "بنفسه". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 141)، و"التيسير" للداني (ص: 72)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 114).

[44]

{إِلَّا مَنْ رَحِمَ} استثناءٌ متصلٌ. {وَحَالَ بَيْنَهُمَا} أي: بينَ نوحٍ وابنهِ {الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} بالماءِ، رُوي أن الماءَ علا على رؤوسِ الجبال أربعينَ ذراعًا، وعقمتِ النساءُ أربعينَ سنةً، وأدركَ الصغارُ على دينِ آبائِهم، وماتتِ البهائمُ بآجالِها. ... {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}. [44] {وَقِيلَ} بعدَ ما تناهَى أمرُ الطوفان: {يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الذي خرجَ منكِ؛ أي: اشربيهِ. {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} أَمْسِكي عن إنزالِ القَطْر؛ لأن الأرض كانتْ تنبعُ الماءَ، والسماءَ تمطرُ بأجمعِها. {وَغِيضَ الْمَاءُ} نقصَ. قرأ الكسائيُّ، وهشامٌ عن ابنِ عامر، ورويسٌ عن يعقوبَ: (وَقِيلَ) (وَغِيضَ) بإشمامِ الضمِّ للقافِ والغينِ، واختلافُ القراءِ في الهمزتين من قوله: (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) كاختلافِهم فيهما من قوله: (السّفَهَاءُ أَلاَ) في سورةِ البقرةِ [الآية: 13]. {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} فُرِغَ من إهلاكِ قومِ نوحٍ. {وَاسْتَوَتْ} يعني: استقرَّتِ السفينةُ {عَلَى الْجُودِيِّ} اسمُ جبلٍ بالجزيرةِ بقربِ المَوْصِلِ {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هلاكًا لهم.

[45]

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)}. [45] {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} وقد وَعَدْتنَي بنجاةِ أهلي {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} الذي لا خُلْفَ فيه {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أعدَلُهم. ... {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)}. [46] {قَالَ} اللهُ {يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي: أهلِ ولايتِك ولا دينك، وهو ولدُه من صُلْبِه في قولِ الأكثرِ {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} قرأ الكسائيُّ، ويعقوبُ: (عَمِلَ) بكسرِ الميمِ وفتحِ اللام (غَيْرَ) بنصبِ الراء؛ أي: عَمِلَ شركًا، وقرأ الباقون: بفتح الميمِ ورفعِ اللام منوَّن ورفعِ الراءِ تعليلٌ لانتفاءِ الأهليةِ (¬1)، وجُعلت ذاتُه عملًا غيرَ صالح مبالغةً في ذمِّه. {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ما لا تعلمْ أصوابٌ هو أم ليسَ صوابًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (تَسْأَلَنِّ) بفتح اللام وكسر النون وتشديدِها، وابنُ كثيرٍ كذلكَ، إلا أنه يفتحُ النونَ، والباقون: بإسكانِ اللامِ وكسرِ النونِ وتخفيفِها، وأثبتَ الياءَ بعدَ النونِ وصلًا أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وورشٌ، وأثبتَها في الحالين يعقوبُ (¬2) {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 334)، و"التيسير" للداني (ص: 125)، و"تفسير البغوي" (2/ 405)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 114 - 115). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 335)، و"التيسير" للداني (ص: 125)، =

[47]

الْجَاهِلِينَ} يعني: أن تدعوَ بهلاكِ الكفارِ، ثم تسألَ نجاةَ كافرٍ. ... {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}. [47] وحُكِيَ أن نوحًا كانَ لا يعلمُ بكفرِ ابنِهِ {قَالَ} نوحٌ {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ} في المستقبلِ {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} ما لا علمَ لي بصحَّتِهِ {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أعمالًا، وكان - صلى الله عليه وسلم - على قدمِ الاستغفارِ إلى أن تُوُفِّيَ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ: (إِنِّيَ أَعِظُكَ) (إِنِّيَ أَعُوذُ) بفتحِ الياءِ فيهما، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)}. [48] {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ} انزلْ من السفينةِ {بِسَلَامٍ مِنَّا} أي: سلامةٍ {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} والبركةُ: الخيرُ التامُّ {وَعَلَى أُمَمٍ} أي: ذريةِ أممٍ {ممَّن} كانَ {مَعَكَ} في السفينةِ، يعني: على قرونٍ تجيءُ بعدكَ من ذريةِ مَنْ معكَ من ولدِك، وهم المؤمنون {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا. {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الأخرى، وهم الكافرونَ أهلُ الشقاوة، ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 405)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 115 - 116). (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 116).

[49]

وتقدَّمَ أن نوحًا ركبَ السفينةَ بعشرٍ مضَتْ من رجبٍ، وجرتْ بهم ستةَ أشهرٍ، وخرجوا منها يومَ عاشوراءَ، فصامَ نوحٌ ومَنْ معه شكرًا لله عز وجل، وكان الطوفانُ بعدَ هبوطِ آدمَ بألفينِ ومئتينِ واثنتينِ وأربعينَ سنةً، وبينَ الطوفانِ والهجرةِ الشريفةِ النبويةِ على صاحبِها أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ثلاثةُ آلافٍ وتسعُ مئةٍ وأربعٌ وسبعونَ سنةً. ... {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}. [49] {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا} أي: آياتِ القرآن {إِلَيْكَ} بأخبارِ الأمم الماضية. {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أي: من قبلِ نزولِ القرآن. {فَاصْبِرْ} على أذى قومِكَ؛ كنوح. {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} آخرَ الأمرِ {لِلْمُتَّقِينَ} بالسعادةِ والنصرِ. ... {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)}. [50] {وَإِلَى} أي: وأرسلْنا إلى {عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} في النسبِ، لا في الدين، وتقدَّمَ ذكرُه في سورةِ الأعرافِ. {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وَحِّدُوه {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قرأ أبو جعفرٍ، والكسائيُّ: (غَيْرِهِ) بخفضِ الراءِ حيثُ وقعَ إذا كانتْ قبلَ (إِلَهٍ) (مِنْ) التي

[51]

تخفضُ، والباقون: بالرفع (¬1). {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} باتخاذِ الأوثانِ شركاءَ. ... {يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)}. [51] {يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على تبليغ الرسالةِ {أَجْرًا} جُعْلًا. {إِنْ أَجْرِيَ} ثوابي {إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} خَلقَني. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (فَطَرَنيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). ... {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}. [52] ولما حُبِسَ القَطْرُ عن قومِ هودٍ ثلاثَ سنينَ، وعقمتْ أرحامُ نسائِهم، فلم يلدْنَ، قال لهم هود: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} من الذنوبِ السالفةِ، وآمِنوا {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من عبادةِ العِجْلِ وغيرِه. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} مُتتابعًا {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً} في العددِ والمالِ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 110)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 257)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 117). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126 - 127)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 117 - 118).

[53]

والبدنِ {إِلَى قُوَّتِكُمْ} الموجودة {وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} لا تُدْبِروا مشركينَ. ... {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)}. [53] {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} دليل على قولكَ {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أي: بقولكَ {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدِّقينَ. ... {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)}. [54] {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} يعني: لستَ تتعاطى ما تتعاطى من مخالفتنا وسبِّ آلهتِنا إلَّا لأنَّ بعضَ آلهتِنا اعْتَراكَ، أي: أصابَكَ بسوء؛ أي: بِخَبَلٍ وجُنُونٍ لسبِّكَ إياها، فَثَمَّ اسْتِخفافًا بهم وبآلهتِهم. {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} على نفسي. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (إنِّيَ) بفتحِ الياءِ، والباقون: بإسكانها (¬1). {وَاشْهَدُوا} أنتم أيضًا على {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. ... {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)}. [55] {مِنْ دُونِهِ} يعني: الآلهةَ {فَكِيدُونِي} احتالوا في أمري أنتم وهم ¬

_ (¬1) المصادر السابقة.

[56]

{جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} لا تُمْهِلونِ. قرأ يعقوبُ: (تنظِروُني) بإثباتِ الياء بعدَ النون، والباقون: بحذفها (¬1). ... {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}. [56] {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} اعتمدْتُ عليه {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي: مالكُها وقادرٌ عليها، والناصيةُ: شَعْرُ مُقَدَّمِ الرأسِ، وخُصَّتْ بالذكر؛ لأنَّ العربَ كانتْ تجرُّ بناصيةِ الأسيرِ الممنون عليه؛ لتكونَ تلكَ علامةً أنه قُدِرَ عليه، وقُبِضَ على ناصيتِهِ، والدَّابةُ: جميعُ الحيوانِ، وخُصَّ بالذكرِ إذ هو صنفُ المخاطبينَ والمتكلمُ. {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: إن أفعالَ اللهِ عز وجل هي في غايةِ الإحكامِ، وقولُه الصدقُ، ووعدُه الحقُّ، فجاءتِ الاستقامةُ في كلِّ ما ينضافُ إليهِ سبحانَهُ. ... {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}. [57] {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: تتولوا؛ يعني: تُعْرِضوا عما دعوتُكُم إليه. قرأ البزيُّ عنِ ابنِ كثيرٍ: (فَإِن تَّوَلَّوا) بتشديدِ التاء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 811). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 249)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

[58]

{فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} المعنى: ما عَلَيَّ كبيرُ هَمٍّ منكُمْ إنْ تولَّيْتُم، فقد بَرِئَتْ ساحتي بالتبليغ، وأنتم أصحابُ الذنب في الإعراضِ عنِ الإيمانِ. {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أطوعَ منكم يُوَحدونه. {وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} بإشراكِكم {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (على) بمعنى اللام؛ أي: لكلِّ شيءٍ حفيظٌ، فهو يحفظُني ويجازيكم. ... {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)}. [58] {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} عذابُنا، وهو السَّمُومُ، كانتْ تدخلُ أنوفَ الكفارِ وتخرجُ من أدبارِهم، فتقطعُ أعضاءهم. {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} من العذابِ، وكانوا أربعة آلافٍ {بِرَحْمَةٍ} بنعمةٍ {مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ} في الآخرةِ {مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} شديدٍ، المعنى: نجوا من عذابَي الدنيا والآخرةِ بسببِ إيمانهم. ... {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)}. [59] {وَتِلْكَ عَادٌ} إشارةٌ إلى قبورِهم وآثارِهم {جَحَدُوا بِآيَاتِ ¬

_ = (ص:257)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 118).

[60]

رَبِّهِمْ} كفروا بها {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} يعني: هودًا، ذُكر بلفظِ الجمع، لأن من كَذَّبَ رسولًا واحدًا، كانَ كمَنْ كَذَّبَ جميعَ الرُّسُلِ. {وَاتَّبَعُوا} يعني: السفْلَةَ {أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} معاندٍ، أي: معارضٍ بالخلافِ، وهم رؤساؤهم ومقدَّموهم. ... {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}. [60] {وَأُتْبِعُوا} أُرْدِفُوا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} تلحقُهم، واللعنةُ: الإبعادُ والطردُ عن الرحمةِ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أيضًا. {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} جَحَدُوا نعمتَه {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ} من رحمةِ اللهِ تعالى {قَوْمِ هُودٍ} عطفُ بيانٍ لِعادٍ؛ ليتمَيَّزوا عن عادٍ الثانيةِ، وهي عادُ إِرَم. ... {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)}. [61] {وَإِلَى ثَمُودَ} أي: وأرسلنا إلى ثمودَ، وتقدَّمَ تفسيرُه في سورةِ الأعرافِ {أَخَاهُمْ} في النسبِ {صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ} ابتدأَ خَلْقَكم من آدمَ، وآدمُ {مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي: خلقَكُم لِعِمارتها، وقيل: أطالَ أعمارَكم، قيل: كانتْ أعمارُهُم من ألفِ سنةٍ إلى ثلاثِ مئةِ سنةٍ.

[62]

{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ} من المؤمنينَ {مُجِيبٌ} لدعائِهم. ... {قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)}. [62] {قَالُوا} يعني: ثمودَ {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا} للسيادةِ في ديننا {قَبْلَ هَذَا} القولِ. {أَتَنْهَانَا} استفهامٌ معناهُ الإنكارُ {أَن} أي: عن أن {نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الآلهةِ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} من التوحيدِ. {مُرِيبٍ} مُوقِعٍ في الريبةِ، وهي قلقُ النفسِ وانتفاءُ الطمأنينةِ. ... {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)}. [63] {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} بيانٍ وبصيرةٍ. {مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} نبوةً. {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} أي: يمنعُني من عذابه {إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي} بقولكم هذا {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي: غيرَ بَصَارةٍ في خسارتكم. ... {وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)}. [64] {وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} نصبٌ على الحالِ

[65]

والقطع، وذلكَ أنَّ قومَهُ طلبوا منه أن يُخْرِجَ ناقةً عُشَراءَ من هذهِ الصخرةِ، وأشاروا إلى صخرةٍ، فدعا صالحٌ، فخرجت منها ناقةٌ، وولدَتْ في الحالِ ولدًا مثلَها، فهذه معنى قوله {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}. {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} من العشبِ، فليس عليكم مُؤْنتها. {وَلَا تَمَسُّوهَا} جزم بالنهي {بِسُوءٍ} بعقرٍ {فَيَأْخُذَكُمْ} جوابُ النهي {عَذَابٌ قَرِيبٌ} مِنْ عقرِها، وهو ثلاثة أيام. ... {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}. [65] {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ} لهم صالحٌ: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ} عِيشوا في ديارِكم {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} ثم تهلكونَ {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فيه، تقدَّمَ ذكرُ القصةِ في الأعراف. ... {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)}. [66] {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ} نعمة {مِنَّا وَمِنْ} عطفٌ على (نَجَّيْنا)؛ أي: ونجيناهم من {خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي: عذابهم في الدنيا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ (يَوْمَئِذٍ) بفتح الميم، والباقون: بكسرها على إضافة (يَوْمِ) إلى (إِذْ)، وأبو عمرٍو يدغمُ الياءَ في الياءِ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 336)، و"التيسير" للداني (ص: 125)، =

[67]

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} القادرُ على كلِّ شيءٍ. ... {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. [67] {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} كفروا {الصَّيْحَةُ} في اليومِ الرابعِ، وذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام صاحَ صيحةً واحدةً، فهلكوا. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} تقدَّمَ تفسيرُه في سورةِ الأعراف [الآية:5]. ... {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}. [68] {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} يقيموا في ديارهم. {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} قرأ حمزةُ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (ثَمُودَ) غيرَ منوَّنٍ، والباقونَ: بالتنوين (¬1). {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} قرأ الكسائيُّ: (لِثَمُودٍ) بالخفضِ والتنوينِ، والباقون: بنصبِ الدال، فمن أجازَ الصرفَ لأنه اسمٌ مذكرٌ، ومن لم يُجِزْهُ جعلَهُ اسمًا للقبيلةِ (¬2). ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 411)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 252)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 120). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 337)، و"التيسير" للداني (ص: 125)، و"تفسير البغوي" (2/ 412)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289 - 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 121). (¬2) المصادر السابقة.

[69]

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)}. [69] {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا} هم جبريلُ ومَنْ معه من الملائكةِ. {إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} بالبشارةِ بإسحقَ ويعقوبَ، وبإهلاكِ قومِ لوطٍ. {قَالُوا سَلَامًا} نصبٌ على المصدرِ، والعاملُ فيه مضمَرٌ من لفظِه؛ كأنه قال: أسْلمْ سلامًا. {قَالَ} إبراهيمُ {سَلَامٌ} مبتدأٌ وخبر، أي: سلامٌ عليكم. وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (سِلْمٌ) بكسرِ السينِ بلا ألفٍ وسكونِ اللام، بمعنى: السلام، كما يقال: حِلٌّ وحَلالٌ (¬1). {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ} أي: فما أبطأ بمجيئِه {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} مَشْوِيٍّ بالحجارةِ المحمَّاةِ في حُفَيرة، وكانَ سَمينًا يسيلُ دَسَمًا. ... {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)}. [70] {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ} إلى العجلِ. قرأ أبو عمرٍو: (رَأَى) بإمالةِ الهمزةِ فقط، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: بإمالةِ الراءِ تبًعًا للهمزة، واختلِفَ عن هشامٍ وأبي بكرٍ (¬2). ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر"لابن الجزري (2/ 44 - 45)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 251)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 122).

[71]

{نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ} أضمرَ {مِنْهُمْ خِيفَةً} خوفًا ظهرَ أثرهُ عليه، وذلك أنهم كانوا إذا نزلَ بهم ضيفٌ فلم يأكلْ من طعامِهم، ظنوا أنه لم يأتِ بخير، وإنما جاءَ لشرٍّ. {قَالُوا لَا تَخَفْ} يا إبراهيمُ. {إِنَّا} ملائكةُ الله {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}. ... {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)}. [71] {وَامْرَأَتُهُ} سارَةُ بنتُ هارانَ بنِ ناحور، وهي ابنةُ عمِّ إبراهيمَ {قَائِمَةٌ} خلفَ الستر تسمعُ كلامَهم. {فَضَحِكَتْ} أي: تبسَّمَتْ سرورًا بزوالِ الخيفةِ، وهو قولُ الجمهورِ، قيل: ضَحِكَتْ؛ أي: حاضَتْ، قال ابنُ عطيةَ: وهو ضعيفٌ قليلُ التمكُّنِ (¬1). {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ} أي: بعد {إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فَبُشِّرَتْ أنها تعيشُ حتى ترى ولدَ ولدِها. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يَعْقُوبَ) بنصبِ الباءِ عطفًا على (إِسْحَاقَ)، والباقون: بالرفعِ على أنه مبتدأٌ خبرُه الظرفُ (¬2)؛ أي: ويعقوبُ مولودٌ من بعدِه، واختلافُ القراءِ في الهمزتينِ من قوله: (وَرَاءِ إِسْحَاقَ) كاختلافِهم فيهما من قوله: (هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ) في سورةِ البقرةِ [الآية: 5]. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 189). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 338)، و"التيسير" للداني (ص: 125)، و"تفسير البغوي" (2/ 413)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 124).

[72]

{قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)}. [72] {قَالَتْ يَاوَيْلَتَى} أي: يا عجبًا، وتقالُ هذهِ اللفظةُ عندَ ورودِ أمرٍ عظيمٍ. {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا} وكانت ابنةَ تسعينَ سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك. واختلافُ القراءِ في قوله: (أَأَلِدُ) كاختلافهم في قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) في سورةِ البقرةِ [الآية: 6]. {بَعْلِي} بعلُ المرأةِ: زوجُها {شَيْخًا} نصبٌ حالٌ، وكانَ سِنُّ إبراهيمَ مئةً وعشرينَ سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك، فأنكرت ذلك عادةً، وقالت: {إِنَّ هَذَا} أي: وجودَ الولدِ من كبيرين {لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} وهو استعجابٌ من حيثُ العادة دونَ القدرةِ، وكانَ بينَ البشارةِ والولادةِ سنةٌ. ... {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}. [73] {قَالُوا} أي: الملائكةُ منكِرينَ: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بإيجادِ الولدِ من كبيرين؟ {رَحْمَتُ اللَّهِ} نبوَّتُه، و (رَحْمَتُ) رُسمت بالتاء في سبعةِ مواضعَ، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الآية (218) من سورة البقرة.

[74]

{وَبَرَكَاتُهُ} الأسباطُ من بني إسرائيلَ؛ لأنَّ أكثرَ الأنبياءِ منهم، وكلُّ الأسباطِ من ولدِ إبراهيمَ، وقيل: المعنى: حقيقةُ الرحمةِ والبركةِ حالَّتانِ. {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} نصبٌ نداءٌ؛ أي: بيتَ إبراهيمَ، وفيه دليلٌ أن زوجةَ الرجلِ من أهلِ بيته؛ لأنها خوطبَتْ به، فيقوى القولُ في زوجاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأنهن من أهلِ بيتِه الذينَ أذهبَ اللهُ عنهم الرَجْسَ، بخلافِ ما تذهبُ إليهِ الشيعةُ من قولهم: أَهْلُ بيتِه الذين حُرِموا الصدقَةَ، فيدفعونَ الزوجاتِ؛ بغضًا في عائشةَ رضي الله عنها. {إِنَّهُ حَمِيدٌ} محمودٌ في أفعالِه. {مَّجيدٌ} كثيرُ الرفعةِ والشرفِ. ... {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)}. [74] {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الخوفُ. {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} بإسحاقَ ويعقوبَ. {يُجَادِلُنَا} فيه إضمارٌ؛ أي: أخذَ يجادِلُنا، ومعناهُ: يجادلُ رُسُلَنا. {فِي قَوْمِ لُوطٍ} في إهلاكِهم، ومجادلتُه إياهم أَنْ قالَ لهم: أَتُهْلِكونَ قومًا فيهم خمسونَ مؤمنًا؟ قالوا: لا، قال: أربعونَ؟ قالوا: لا، فما زالَ ينقصُ حتى قالَ: واحد؟ قالوا: لا {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [العنكبوت: 32]. ***

[75]

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)}. [75] {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} غيرُ عَجولٍ. {أَوَّاهٌ} كثيرُ التأَوُّهِ من الذُّنوبِ {مُنِيبٌ} تائبٌ. ... {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}. [76] وكان في قرى لوطٍ أربعُ مئةِ ألفٍ، فقالتِ الرسلُ عندَ ذلك: {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الجدالِ. {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} بإهلاكِهم. {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ} نازلٌ بهم {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} عنهم. ... {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}. [77] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا} يعني: هؤلاءِ الملائكةَ. {لُوطًا} على صورةِ غِلْمانٍ مُرْدٍ حِسانِ الوجوهِ. {سِيءَ بِهِمْ} أي: حزنَ لوطٌ بمجيئهم. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (سِيءَ) و (سِيئَتْ) بإشمامِ السينِ الضَّمَّ حيث وقعَ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 125)، و"النشر في القراءات العشر" لاين الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 125).

[78]

{وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} وضيقُ الذَّرع: عبارة عن ضيقِ الوُسْعِ، وهو كنايةٌ عن شِدَّةِ الانقباض، المعنى: اغتمَّ غَمًّا شديدًا خشيةً من قومِهِ أن يقصِدُوهُم بالفاحشةِ لَمَّا رأى جَمالَهم، فيحتاجُ إلى المدافعةِ عنهم. {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديدٌ. ... {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)}. [78] رُوي أنهم جاؤوا منزلَ لوطٍ سرًّا، ولم يعلمْ بهم إلا أهلُ بيتِ لوط، فخرجتِ امرأتُه فأخبرَتْ قومَها، وقالت: إنَّ في بيتِ لوطٍ رجالًا ما رأيتُ مثلَ وُجوهِهِمْ قَطُّ. {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} يُسرِعون، وقيلَ: يُسْتَحَثُّونَ. {وَمِنْ قَبْلُ} أي: ومن قبلِ ذلكَ الوقتِ. {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} إتيانَ الذكورِ في أدبارِهم. {قَالَ} لهم لوطٌ حينَ قصدوا أضيافَهُ: {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي: بالنكاحِ أحلُّ، وَقَى أضيافَهُ ببناتِهِ، وكان في ذلكَ الوقتِ تزويجُ المسلمةِ من الكافرِ جَائزًا كما زَوَّجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنتيه من أبي العاصِ بنِ وائلٍ، وعُتْبَةَ بنِ أبي لهبٍ قبلَ الوحيِ وهما كافرانِ. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} بتركِ الفواحشِ {وَلَا تُخْزُونِ} تَفْضحونِ.

[79]

{فِي ضَيْفِي} بفعلِكم الخبيثِ؛ لأنَّ العارَ يلزمُني بذلك. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (تُخْزُوني) بإثباتِ الياءِ حالةَ الوصلِ، ويعقوبُ بإثباتِها وَصْلًا ووقفًا (¬1)، وقرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (ضَيْفِي) بإسكان الياءِ، والباقون: بفتحها (¬2). {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} صالحٌ يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ؟ ... {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)}. [79] {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي: حاجةٍ، فلا ننكحُهُنَّ. {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} من إتيانِ الذكورِ. ... {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}. [80] {قَالَ} لهم لوطٌ عندَ ذلكَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أنصارًا وأعوانًا {أَوْ آوِي} أَنْضَمُ. {إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} عشيرةٍ منيعةٍ، وجوابُ (لو) محذوفٌ؛ أي: لَقاتَلْتُكم وحُلْتُ بَينكم وبينَهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126 - 127)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 126 - 127). (¬2) المصادر السابقة.

[81]

{قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)}. [81] وكان لوط قد أغلقَ عليه وعلى أضيافِه بابَه، وهو يناشِدُهم من وراءِ البابِ، وهم يعالجونَ في تسَوُّرِ الجدارِ، فلما رأتِ الملائكةُ ما يلقى لوطٌ منهم. {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} بسوءٍ، وإنَّ ركنَكَ لشديدٌ، فخلِّ بينَنا وبينَهم، ففتحَ البابَ، فصفقَ جبريلُ وجوهَهم بجناحه، فأعمى أبصارَهُم، فذهبوا يتهدَّدونَ لوطًا يقولونَ: مكانَكَ حَتَى نصبحَ. {فَأَسْرِ} يا لوطُ {بِأَهْلِكَ} بابنتكَ وامرأتك. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (فَاسْرِ) بوصلِ الألفِ من سَرَى، والباقون: بقطعِها من أَسْرَى، ومعناهُما واحدٌ، وهو سيرُ الليلِ (¬1). {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} بطائفةٍ منهُ، قيلَ: إنه السَّحَرُ الأولُ. {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو (امْرَأَتُكَ) برفع التاء على الاستئنافِ، من الالتفاتِ؛ أي: لا يلتفتْ منكم أحدٌ إلا امرأتُك، فإنها تلتفتُ فتهلكُ، وكان لوطٌ قد أخرجَها معه، ونهى من تبعَه ممن أَسْرى بهم أَنْ يلتفتَ سوى زوجتِه، فإنها لما سمعتْ هَدَّةَ العذابِ، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 338)، و"التيسير" للداني (ص: 125)، و"تفسير البغوي" (2/ 417 - 418)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 127 - 128).

[82]

التفتَتْ، وقالت: واقوماه! فأدرَكها حجرٌ فقتلَها. وقرأ الباقون: بنصب التاءِ على الاستثناءِ من الإسراء (¬1)؛ أي: فأسرِ بأهلكَ إلَّا امرأتَكَ فلا تَسْر بها، وخَلِّفْها معَ قومها، فإنَّ هَواها إليهم، قال القرطبيُّ: وهي القراءةُ البينةُ الواضحةُ المعنى (¬2). {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} من العذابِ، فقال لهم لوطٌ: متى موعدُ هلاكِهم؟ فقالتِ الملائكةُ: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} قال لوطٌ: أريدُ أسرعَ من ذلك، فقالوا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}؟ ... {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)}. [82] فخرج لوطٌ وطوى اللهُ له الأرضَ في وقْتِه حتى نَجا، ووصلَ إلى إبراهيمَ عليهما السلام {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} عذابُنا. {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وذلكَ أن جبريلَ عليه السلام حملَ مَدائِنَهم، الخمسَ، وهي سدومُ، وهي القريةُ العظمى، وعَمُورا، وأَدْم، وأصبؤين، ولُوشَع بمنْ فيها على جناحه، وكانوا أربعَ مئةِ ألفٍ، ورفعَها حتى سمعتِ الملائكةُ نباحَ الكلابِ وصياحَ الدِّيكةِ، لم يُكْفَأْ لهم إناءٌ، ولم ينتبهْ نائمٌ، ثم قلبَها فجعلَ عاليَها سافلَها. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} أي: على شذَّاذِ القُرى، وهم مَنْ لم يكنْ فيها. ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (9/ 80).

[83]

{حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} سجِّيل وسِجِّينٌ: الصلب من الحجارةِ والطين. {مَنْضُودٍ} متتابع يتبعُ بعضُها بعضًا. ... {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}. [83] {مُسَوَّمَةً} نعتُ الحجارةِ؛ أي: مُعَلَّمَة، عليها أمثالُ الجبالِ لا تشبهُ حجارةَ الدنيا {عِندَ رَبِّكَ} في خزائِنِه. {وَمَا هِيَ} يعني: تلكَ الحجارةَ {مِنَ الظَّالِمِينَ} أي: مشركي مكة. {بِبَعِيدٍ} أي: بمكانٍ بعيدٍ. ... {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)}. [84] {وَإِلَى مَدْيَنَ} أي: وأرسلْنا إلى مَدْيَنَ {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وكان قومُ شُعيبٍ يُطَفِّفُونَ معَ شِرْكِهم، فقال: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أي: لا تَبْخَسوا. {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} سَعَةٍ وخِصْبٍ، فلا حاجةَ لكم إلى التَّطْفيفِ {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} يحيطُ بكم فيهلِكُكُم، والمرادُ: يومُ القيامةِ. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنّي أَرَاكُمْ) (إِنّي أَخَافُ) بإسكانِ الياء، وافَقَهم الكسائيُّ في (إِنّي أَرَاكُمْ) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزريّ =

[85]

{وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)}. [85] {وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا} أَتِمُّوا {الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدلِ. {وَلَا تَبْخَسُوا} لا تنقِصُوا {النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي: لا تَسْعَوْا في فسادٍ. ... {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}. [86] {بَقِيَّتُ اللَّهِ} أي: ما أبقاه اللهُ لكمْ من الحلال. وقفَ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ على (بَقِيَّة) بالهاءِ (¬1)، {خَيْرٌ لَكُمْ} من التطفيفِ. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لأنه لا ينتفعُ بالثوابِ إلا مؤمنٌ. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظُكم من القبائح، إِنْ عَلَيَّ إلا البلاغُ. ... {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}. [87] وكانَ شعيبٌ - صلى الله عليه وسلم - كثيرَ الصلاةِ {قَالُوا} لهُ سُخريةً واستهزاءً: ¬

_ = (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 811). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 252)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 129).

[88]

{يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الأوثانِ. {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من البَخْسِ والتَّطفيفِ. {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قالوهُ استهزاءً به، وأرادوا: الضَّالَّ السَّفيهَ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (أَصَلاَتُكَ) بحذفِ الواوِ على التوحيدِ، والباقونَ بإثباتها على الجمعِ (¬1)، واختلافُهم في الهمزتينِ مِنْ (نَشَاءُ إِنَّكَ) كاختلافِهم فيهما من (يَشَاءُ إِلَى) في سورةِ البقرة [الآية: 142]. ... {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}. [88] {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} بصيرةٍ. {من ربِّي} وهو ما آتاهُ الله من العلمِ والنبوةِ. {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} مالًا حلالًا، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه: فهلْ يسعُ لي مع هذا الإنعام أن أشوبَ الحلالَ بالحرامِ. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} المعنى: ما أريدُ أن أنفردَ بشهواتِكُم اللاتي نهيتُكم عنها لأَستبدَّ بها دونَكُم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 317)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 129).

[89]

{إِنْ أُرِيدُ} فيما آمرُكُم به وأنهاكُمْ عنه. {إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} مُدَّةَ استطاعتي. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} أي: لا أقدرُ على توفيقِ نفسي، فكيفَ توفيق غيري؟ والتوفيق: تسهيلُ سُبُلِ الخيرِ. قرأ الكوفيون، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ (توفيقي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (¬1) {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدْتُ. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجعُ في جميعِ أموري. ... {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)}. [89] {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} خِلافي. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (شِقَاقِي) بإسكانِ الياءِ، والباقون: بفتحِها (¬2). {أَنْ يُصِيبَكُمْ} أي: على فعلٍ يصيُبكم. {مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرقِ. {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريحِ {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} من الصَّيْحَةِ. {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} لأنهم قريبو المنازلِ والهلاكِ منكم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 127)، و"الكشف"لمكي (1/ 539)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 131). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، والمصادر السابقة.

[90]

{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}. [90] {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} عَمَّا أنتم عليه. {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} عظيمُ الرحمةِ للتائبين {وَدُودٌ} مُحِبٌّ أَولياءَهُ. ... {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)}. [91] وجاءَ في الخبر: "أَنَّ شُعَيبًا كانَ خطيبَ الأنبياءِ" (¬1) {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} لا نفهمُ {كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} احتقارًا بكَ. {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} عاجِزًا عن التصرُّفِ، وذلك أنه كانَ ضريرَ البصر. {وَلَوْلَا رَهْطُكَ} عشيرتُك {لَرَجَمْنَاكَ} لقتلْناكَ بالحجارةِ، والرجمُ: أقبحُ القتلِ، وقالوا ذلكَ تألُّفًا لقومِه؛ لأنهم كانوا على دينهم لا خوفًا منهم؛ لأنَّ الرهطَ ما دونَ العشرةِ. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} تمنعُنا عِزَّتُكَ عن الرجمِ، بل قومُكَ الأعزةُ. ... {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)}. [92] {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي} أترون رهطي. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (4071)، عن محمد بن إسحاق. وانظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (10/ 60)، و"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 504).

[93]

{أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: أَهْيَبُ عندَكم من الله. قرأ الكوفيون، ويعقوبُ، وهشامٌ عنِ ابنِ عامرٍ: (أَرَهْطِي) بإسكانِ الياءِ، والباقون: بفتحِها (¬1). {وَاتَّخَذْتُمُوهُ} أي: اللهَ {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي: كالمنبوذِ وراءَ ظهورِكم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) بإظهارِ الذالِ عندَ التاء، والباقونَ: بالإدغام (¬2). {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} خبرٌ في ضمنِه توعُّدٌ، ولفظُ الرجالِ والرهطِ لا يعمُّ النساءَ، ويعمُّ الناسَ ونحوَه الكلُّ بالاتفاقِ، والقومُ للرجالِ، ولهنَّ تبعًا. ... {وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)}. [93] {وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} قُوَّتِكم طالبينَ هلاكي. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مَكَانَاتِكُمْ) بالألف على الجمع، والباقون: بغيرِ ألفٍ على التوحيدِ. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 107)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 132). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 253)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 132).

[94]

{إِنِّي عَامِلٌ} بقوةِ اللهِ {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أَيُّنا الجاني على نفسِه، والمخطئُ في فعلِه، فذلكَ قولُه: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يُذِلُّهُ. {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} فسيعلمُ كذبَهُ ويذوقُ وبالَ أمرِه. {وَارْتَقِبُوا} انتظروا العذابَ. {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أرقُبُ نزولَ عذابِكم. ... {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)}. [94] {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} قيل: صاحَ بهم جبريلُ صيحةً، فخرجَتْ أرواحُهم من أجسادِهِم، أُنِّثَ الفعلُ على لفظِ الصيحةِ، وقالَ في قصةِ صالحٍ: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} فَذُكِّر على معنى الصياحِ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: "ما أهلكَ اللهُ أُمَّتينِ بعذابٍ واحدٍ إلا قومَ صالحٍ وقومَ شُعيبٍ أهلكَهم اللهُ بالصيحةِ، غيرَ أَنَّ قومَ صالحٍ أخذَتْهم الصيحةُ من تحتِهم، وقومَ شعيبٍ من فوقِهم" (¬1). {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ميتين. ... {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}. [95] {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا} لم يُقيموا {فِيهَاَ} في الأرص {أَلَا بُعْدًا} هلاكًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (9/ 92).

[96]

{لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ} هَلَكَتْ {ثَمُودُ} شَبَّهَهم بهم؛ لأن عذابَهم كانَ شبيهًا بعذابِهم. ... {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)}. [96] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} بالتوراةِ. {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} حُجَّةٍ بينةٍ. ... {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)}. [97] {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} والملأُ: الجمعُ من الرجالِ. {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} بالكفرِ بموسى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: ليسَ بمصيبٍ في مذهبهِ، ولا مفارقٍ للسفاهةِ. ... {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)}. [98] {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} المغرَقين مَعه؛ أي: يتقدَّمُهم. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ} أدخلَهم. {النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} أي: المدخلُ المدخولُ فيه، وأوقعَ الفعلَ الماضي في (أَوْرَدَهُمْ) موقعَ المستقبلِ؛ للإيذانِ أن ذلكَ واقعٌ لا محالةَ؛ لأنَّ الماضيَ متيقَّنُ الوجودِ.

[99]

{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}. [99] {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} يُلْعَنون أيضًا بدخولهم في جهنمَ. {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} أي: بئسَ العونُ المعانُ، وقيل: بئسَ العطاءُ المعطَى لهم، والرفدُ في كلامِ العربِ: العَطِيَّةُ. ... {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}. [100] {ذَلِكَ} مبتدأٌ، خبرُه {مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا} من القرى {قَائِمٌ} ما بقي حيطانُه وسقطَتْ سُقوفُهُ {وَحَصِيدٌ} انمحَقَ أَثَرُه. قرأ أبو عمرٍو: (المَرْفُود ذلِكَ) بإدغام الدالِ في الذالِ (¬1). ... {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)}. [101] {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} لم نُهْلِكْهم ظلمًا {وَلَكِنْ} كانوا أنفسَهم يظلمونَ {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالشِّركِ. {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: نزلَ عذابُه {وَمَا زَادُوهُمْ} أي: الأصنامُ بعبادتِهم. {غَيْرَ تَتْبِيبٍ} تَخْسيرٍ. ¬

_ (¬1) ذكرها الصفاقسي في "الغيث" (ص: 253)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 133)، عن حمزة والكسائي وورش.

[102]

{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}. [102] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ} أي: مثلُ ذلكَ الأخذِ أخذُ رَبِّكَ. {الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: وأهلُها ظالمونَ، فحذفَ المضافَ؛ مثلَ: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}. {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وَجيعٌ، وهو مبالغةٌ في التهديدِ، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية" (¬1). ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)}. [103] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} لعبرةً. {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} يعتبرُه عظةً. {ذَلِكَ} يومُ القيامةِ {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} المعنى: يُجْمَعُ الأولونَ والآخِرون جميعًا ثَمَّ {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} فيه على جميع الخلق ولهم. ... ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4409)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ ...}، ومسلم (2583)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.

[104]

{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)}. [104] {وَمَا نُؤَخِّرُهُ} أي: ذلكَ اليومَ. قرأ يعقوبُ: (يُؤَخّرُهُ) بالياء، والباقون: بالنون، وأبو جعفرٍ، وورشٌ: بفتح الواوِ بغيرِ همزٍ (¬1). {إِلَّا لِأَجَلٍ معدُودٍ} معلومٍ عندَ اللهِ. ... {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)}. [105] {يَوْمَ يَأْتِ} الضميرُ عائدٌ إلى (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ). قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ: (يَأْتِي) بإثباتِ الياءِ وصلًا، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ: بإثباتِها في الحالَينِ، والباقون: بحذفها في الحالَينِ، فالقراءةُ بالإثباتِ على الوصلِ، وبالحذفِ اكتفاءً بالكسرةِ (¬2). {لَا تَكَلَّمُ} لا تتَكلَّمُ {نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} في الشفاعةِ، وكُلُّ الخلائقِ سُكوتٌ إِلَّا مَنْ أذنَ له في الكلامِ. قرأ البزيُّ عنِ ابنِ كثيرٍ: (لا تكَلَّمُ) بالمدِّ وتشديدِ التاءِ. {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ} بالعذابِ {وَسَعِيدٌ} بالنعيمِ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 338)، و"التيسير" للداني (ص: 127)، و"تفسير البغوي" (2/ 324)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 134 أ 135). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 253)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 260)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 135).

[106]

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)}. [106] {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} باستحقاقِهم النارَ بالكفرِ والمعصيةِ {فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} هو تردُّدُ النفسِ من شِدَّهِّ الحزنِ {وَشَهِيقٌ} صوتٌ مُمْتَدٌّ. ... {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)}. [107] {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أي: سمواتُ الآخرةِ وأرضُها؛ فإنَّ لهما سماءً وأرضًا، بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، وتلكَ دائمة أبدًا وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74]، ولأنه لا بدَّ لأهلِ الآخرهِّ مما يُقِلُّهم ويُظِلُّهم إما سماءٌ يخلقُها الله، أو يظلُّهم العرشُ، وكلُّ ما أظلَّكَ، فهو سماءٌ. {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} استثناءٌ من الخلودِ في النارِ؛ لأنَّ بعضَهم، وهم فُسَّاقُ الموحِّدين، يخرجونَ منها {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} من غيرِ اعتراضٍ. ... {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}. [108] {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} باستحقاقِهم الجنةَ بالإيمانِ والطاعةِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ , وحفصٌ عن عاصمٍ: (سُعِدُوا) بضمِّ السين، من سُعِدَ بمعنى أُسْعِدَ، والباقونَ: بفتحِها من سَعِدَ، وهما لغتان (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 339)، و"التيسير" للداني (ص: 126)، =

[109]

{فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} إلَّا من دخلَ النارَ من عُصاةِ المؤمنين، فإنَّهم مفارقونَ الجنةَ أيامَ عذابِهم، وهمُ المرادُ بالاستثناءِ الأولِ، تلخيصُه: عذابُ الفريقينِ ونعيمُهم دائمًا أبدًا إلا قدرَ مشيئةِ اللهِ تعالى فيهم بما يشاءُ {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} مقطوعٍ. ... {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}. [109] ثم قال تعالى مُخاطبًا نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ غيرُه: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} وشَكٍّ. {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} إنَّهم ضُلَّالٌ. {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا} كان. {يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} تقليدًا لآبائِهم من غيرِ دليلٍ. {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} حَظَّهم من العذابِ {غَيْرَ مَنقُوصٍ} أي: وافيًا. ... {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}. [110] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراةَ. {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فمِنْ مصدِّقٍ به ومكذِّبٍ كما فعلَ قومُكَ بالقرآن. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 426)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 135).

[111]

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} بتأخيرِ العذابِ عنهم. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بإهلاكِ الكفارِ، وإنجاءِ الأبرارِ. {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} من القرآنِ. {مُرِيبٍ} موقعِ الريبةِ، وهي قلقُ النفسِ. {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}. [111] {وَإِنَّ كُلًّا} أي: وإنَّ كلًّا من الأممِ التي عَدَدْناهم المختلفينَ، المؤمنينَ منهم والكافرين. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَإِنْ) بإسكانِ النونِ على إعمالِ المُخَفَّفَةِ عملَ الثقيلةِ اعتبارًا لأصلِها الذي هو التثقيلُ، وقرأ الباقون: بتشديدها (¬1). {لمَّا} قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامر، وعاصمٌ، وحمزةُ: بتشديد الميمِ، والباقونَ: بالتخفيف (¬2)، ووجهُ تخفيفِ (لما) أن اللامَ هي الداخلةُ في خبرِ (أَنَّ) المخفَّفةِ والمشدَّدةِ، و (ما) زائدةٌ، واللامُ في {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القسمُ في موضع خبرِ (إِن)، و (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) جوابُ ذلكَ القسمِ المحذوفِ، والتقديرُ: وإنَّ كلًّا لأُقْسِمُ لَيُوفينهم، ووجهُ تشديدِ (لَمَّا) الجازمةِ حذفُ الفعلِ المجزومِ؛ لدلالةِ المعنى عليه، والتقدير: وإنَّ كلًّا لما ينقص من جزاءِ عملِه، ويدلُّ عليه قولُه: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 339)، و"التيسير" للداني (ص: 126)، و"تفسير البغوي" (2/ 427)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 136). (¬2) المصادر السابقة.

[112]

{لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} لما أخبرَ [بعدمِ] (¬1) انتقاصِ جزاءِ أعمالِهم، أَكَّدَهُ بالقسمِ، قالتِ العربُ: قاربتُ المدينةَ ولما؛ أي: ولما أدخلْها، فحذفَ أدخُلْها؛ لدلالةِ المعنى عليه، والله أعلمُ، تلخيصُه: وإنَّ جميعَهم واللهِ ليوفينَّهم ربُّكَ أعمالَهم من حسنٍ وقبيحٍ، وإيمانٍ وجحودٍ. {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تهديدٌ ووعيدٌ. ... {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}. [112] قال - صلى الله عليه وسلم -: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها"، قيلَ: أَشَيَّبَكَ منها قصصُ الأنبياءِ وهلاكُ الأممِ الماضية؟ قالَ: "لا، ولكنْ قولُه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} " (¬2) أي: افتقرْ إلى اللهِ تعالى بصحَّةِ العزمِ، والاستقامةُ: التبرُّؤُ من الحولِ والقوةِ، وقيل: هي الميلُ إلى العدلِ. {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} أي: وليستقمِ المؤمنُ معك. {وَلَا تَطْغَوْا} لا تَخْرجوا عن حدودِ الله. {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يَخْفى عليه من أعمالِكم شيءٌ. ... ¬

_ (¬1) (بعدم) لم ترد في جميع النسخ، والسياق يقتضيها. (¬2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2439)، عن أبي علي السّري: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رؤيا فقال: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: شيبتني ... ، فذكره.

[113]

{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}. [113] {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} تَطْمَئِنُّوا وتسكُنوا إلى قولهم، والركونُ: هو المحبةُ والميلُ بالقلبِ {فَتَمَسَّكُمُ} فَتُصيبَكم. {النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي: أعوانٍ يحفظونَكم من العذابِ {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}. عن بعضِهم: أنه سمعَ هذهِ الآيةَ، فغشيَ عليه، فلما أفاقَ، قيلَ له في ذلكَ، فقال: هذا لمن رَكَنَ , فكيفَ بمن ظَلَمَ. ... {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)}. [114] {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} أولَه وآخرَه، يعني: صلاةَ الصبحِ والمغربِ، قاله ابنُ عباسٍ، والحسنُ، ورجَّحه الطبريُّ , وقيلَ غيرُ ذلك (¬1). قرأ أبو عمرو: (الصَّلاة طَّرَفَي) بإدغام التاء في الطاء (¬2). {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} ساعاتِه، واحدتُها زُلفَةٌ. قرأ أبو جعفرٍ: (وَزُلُفًا) بضّمِّ اللام, والباقون: بالفتح (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (12/ 127). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 225)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 138). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 429)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[115]

{إِنَّ الْحَسَنَاتِ} الصلواتِ الخمسَ. {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الخطيئاتِ، نزلَتْ فيمَنْ ألمَّ بما لم يَحِلَّ. عن ابنِ مسعودٍ أن رجلًا أصابَ من امرأةٍ قبلةً حرامًا، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فسألَهُ عن ذلكَ وكفارتها، فنزلتِ الآيةُ، فقالَ الرجلُ: ألي هذهِ يا رسولَ الله؟ فقال: "لكَ ولمن عملَ بها من أمتي" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبائِرُ" (¬2). {ذَلِكَ} أي: المذكورُ من الوصيةِ بالاستقامةِ وتركِ الطغيانِ والميلِ إلى الظالمين {ذِكْرَى} موعظةٌ {لِلذَّاكِرِينَ} أي: لمن ذكرَهُ، وخَصَّهم بالذكرِ؛ لأنهم المنتفعونَ بهِ. ... {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}. [115] {وَاصْبِرْ} يا محمدُ على ما تلقى من أَذَى قومِكَ. {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} في أعمالِهم. ... ¬

_ = (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 138). (¬1) رواه البخاري (503)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة، ومسلم (2763)، كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. (¬2) رواه مسلم (233)، كتاب: الطهارة، باب: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة .... ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[116]

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)}. [116] {فَلَوْلَا} أي: فهلَّا {كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} التي أهلَكْناهم. {مِنْ قَبْلِكُمْ} والآيةُ للتوبيخِ. {أُولُو بَقِيَّةٍ} أي: ذوو جودٍ وخيرٍ، وسُمِّيَ الفضلُ والجودةُ بقيةً؛ لأنَّ الرجلَ يستبقي أفضلَ ما يخرجُه، يقالُ: هو من بقيةِ الناسِ؛ أي: خيارِهم. قوأ ابنُ جمازٍ عن أبي جعفرِ (بِقْيَةٍ) بكسرِ الباءِ وسكونِ القافِ وفتحِ الياءِ مخففةً، والباقون: بفتح الباء وكسر القاف وتشديد الياء (¬1)، معناه: فهلَّا كانَ من القرونَ من قبلِكم أولو بقيةٍ من خيرٍ. {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} أي: يقومون بالنهي عن الفسادِ، ومعناه جَحْدٌ، أي: لم يكنْ فيهم أولو بقيةٍ {إِلَّا قَلِيلًا} استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنَّ قليلًا. {مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} نَهَوا عن الفسادِ، وهم أتباعُ الأنبياءِ، و (مِنْ) في (مِمَّنْ) للبيانِ لا للتبعيضِ، تقديرُه: لكنَّ قليلًا منهم أنجيناهُم؛ لأنهم كانوا كذلكَ. {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا} نُعِّموا {فِيهِ} من الشهواتِ. {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} كافرينَ. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 261)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 138).

[117]

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}. [117] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} منهُ لهم، تعالى عن ذلك. {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} لأعمالِهم مؤمنونَ. ... {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)}. [118] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} مسلمينَ كلَّهم. {وَلَا يَزَالُونَ} أي: أهلُ الباطلِ {مُخْتَلِفِينَ} على أديانٍ شتى؛ من بين يهوديٍّ، ونصرانيٍّ، ومجوسيٍّ، ومشركٍ. واختلفَ الأئمةُ في حكمِ المللِ، فقال أبو حنيفةَ: الكفرُ ملَّةٌ واحدةٌ؛ لأنه ضلالٌ، وهو ضدُّ الإسلام، ويتوارثون، وإذا تنصَّرَ يهوديٌّ، أو عكسُه، تُرِكَ على حالِهِ، ولا يُجبَرُ على الإسلام. وقال مالكٌ: الكفرُ مللٌ شَتَّى، فلا تَوارُثَ بينَ اليهوديِّ والنصرانيِّ، وأما إذا انتقلَ الكافرُ من ملَّة إلى أخرى، أُقِرَّ على كفرهِ، وأُخِذَتْ منه الجزيةُ، كقول لأبي حنيفةَ. وقال الشافعيُّ: الكفرُ ملَّةٌ واحدةٌ، ويتوارثون؛ كقولِ أبي حنيفة، لكن لا توارثَ بينَ ذميٍّ وحربيٍّ، وأما إذا تنصر يهودي، أو عكسه، أو تهوَّدَ وثنيٌّ، أو تنصَّرَ، فلا يُقبل منهُ بعدَ انتقالِه إلا الإسلامُ، أو القتلُ. وقالَ أحمدُ: الكفرُ مللٌ شتَّى مختلفةٌ، فلا يتوارثونَ مع اختلافِ مِلَلِهم؛ كقولِ مالكٍ، وأما إذا تهوَّدَ نصرانيٌّ، أو عكسُه، لم يُقبلْ منه إلا الإسلامُ، أو

[119]

الدينُ الذي كانَ عليه، وإن انتقلَ كتابيٌّ أو مجوسيٌّ إلى غيرِ دينِ أهلِ الكتابِ، لم يُقَرَّ، ويؤمرُ أن يسلمَ، فإن أبي، قُتِلَ وإن انتقلَ غيرُ الكتابيِّ إلى دينِ أهلِ الكتابِ، أُقِرَّ وكذا الوثنيُّ إذا تمجَّسَ، والله أعلم. ... {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}. [119] {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أي: لكنْ من رحمَ ربُّكَ، فهداهُ إلى الحقِّ فهم لا يختلفون {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي: للرحمةِ، يعني: الذين رحمَهم، وقيلَ: معناه: للاختلافِ خلقَهم. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} وجبَ حكمُه، وهو. {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} أي: من عُصاتِهما. {أَجْمَعِينَ} واللام في (لأملأنَّ) لامُ القسم، إذِ الكلمةُ تتضمَّنُ القسمَ، والجنُّ جميعٌ لا واحدَ له من لفظِه، والجِنَّةُ للمبالغةِ، وإن كانَ الجنُّ يقعُ على الواحدِ، فالجِنَّةُ جمعُهُ. ... {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}. [120] {وَكُلًّا} أي: كلَّ نبأٍ {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} أخبارِهم. {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: لنثبتَ، أي: نسكِّنَ بهِ فؤادكَ؛ لتزدادَ يقينًا،

[121]

ويقوى قلبُك. قرأ ورشٌ عن نافعٍ (فُوَادَكَ) بفتحِ الواو وبغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمز (¬1). {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ} أي: السورةِ {الْحَقُّ} صدقُ الأنبياءِ. {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فيتَّعظون بما جرى للأممِ. ... {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)}. [121] ثم تهدَّدَهم بقوله {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالِكم {إِنَّا عَامِلُونَ} على حالِنا. قرأ أبو بكرٍ عن عاصم: (مَكَانَاتِكُمْ) على الجمعِ، والباقونَ على الإفرادِ. ... {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)}. [122] {وَانْتَظِرُوا} بنا الدوائرَ {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} حلولَ النقمِ بكم. ... {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}. [123] {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: علمُ ما غابَ عن العبادِ فيهما. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 253)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 261)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 140).

{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} في المعادِ. قرأ نافعٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يُرْجَعُ) بضم الياء وفتح الجيم؛ أي: يُرَدُّ، والباقون: بنصب الياءِ وكسرِ الجيم؛ أي: يعودُ حتى لا يكونَ للخلقِ أمرٌ (¬1). {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ثِقْ به؛ فإنه كافيكَ. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬2). وتقدَّمَ في أولِ سورةِ الأنعامِ ما رُوي عن كعبٍ أنه قال: "فاتحةُ التوراةِ فاتحةُ الأنعامِ {اَلحمْدُ لِلَّهِ} إِلَى {يَعْدِلُونَ} وخاتمةُ التوراةِ خاتمةُ هودٍ {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} " (¬3). عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال: يا رَسُولَ اللهِ! شِبْتَ، قالَ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلاَتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" (¬4)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 340)، و"التيسير" للداني (ص: 126)، و"تفسير البغوي" (2/ 432)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 140 - 141). (¬2) المصادر السابقة. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه الترمذي (3297)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الواقعة، وقال: حسن غريب، وأبو يعلى في "مسنده" (107)، والحاكم في "المستدرك" (3314)، وغيرهم.

سورة يوسف عليه السلام

سورة يوسف عليه السلام مكيةٌ، آيُها مِئَةٌ وإحدى عشرةَ آيةً، وحروفُها سبعةُ آلافٍ وثلاثةٌ وأربعونَ حرفًا، وكَلِمُها ألفٌ وستٌّ وسبعونَ كلمةً. عن ابنِ عطاءٍ: لا يسمعُ سورةَ يوسفَ محزونٌ إلا استروَحَ (¬1). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رُوِيَ أنَّ اليهودَ سألوا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن قصةِ يوسفَ عليه السلام، فنزلتِ السورةُ، ولم يتكررْ من معناها في القرآن شيءٌ كما تكررتْ قصصُ الأنبياءِ عليهم السلام (¬2). {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)} [يوسف: 1]. [1] قوله عز وجل: {الر} تقدَّمَ الكلامُ عليه، ومذاهبُ القراء فيه في أولِ سورةِ يونسَ. {تِلْكَ} أي: هذهِ السورةُ {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي: البيِّن حلالُه ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 434). (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (9/ 118).

[2]

وحرامُه وحدودُه وأحكامُه؛ من أبانَ بمعنى: أظهرَ. ... {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 2]. [2] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} أي: الكتابَ المتضمِّنَ قصةَ يوسفَ وغيرَها. {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بِلُغَتِكم. قرأ ابنُ كثير (قُرَانًا) بالنقل (¬1)، و (قرآنًا) حالٌ و (عربيًّا) صفةٌ له. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تعلموا معانيَهُ، وتفهموا ما فيه، والعقلُ: إدراكُ معنى الكلام. ... {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف: 3]. [3] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} نبين لك خبرَ مَنْ تقدَّمك أحسنَ بيانٍ. {بِمَا أَوْحَيْنَا} بإيحائنا {إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} أي: هذه السورةَ. {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ} أي: وقد كنتَ قبلَ القرآنِ. {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} أي: الساهِين عن قصةِ يوسفَ لا تعلَمُها. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 254)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 262)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 145).

[4]

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)} [يوسف: 4]. [4] {إِذْ قَالَ يُوسُفُ} أي: واذكرْ إذ قالَ يوسفُ. {لِأَبِيهِ} ويوسفُ اسمٌ عبرانيٌّ لا يجري فيه الإعرابُ. {يَاأَبَتِ} قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (يَا أَبَتَ) بفتحِ التاءِ حيثُ وقعَ على تقديرِ: يا أبتاهُ، ووقفًا (يَا أَبَهْ) بالهاءِ الساكنة، ووافقهما على الوقف ابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ، وقرأ الباقون، ومنهم ابن كثيرٍ، ويعقوبُ: بكسر التاءِ؛ لأن أصلَه (يا أَبَهْ)، والجزمُ يحرَّكُ إلى الكسرِ (¬1). {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ} قرأ أبو جعفرٍ: (أَحَدَ عْشَرَ) بإسكانِ العين، والباقون: بفتحها (¬2). {كَوْكَبًا} أي: نجمًا من نجومِ السماءِ. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ولم يقل: رأيتها لي ساجدةً، جمعَهم جمعَ العقلاء؛ لوصفِهم بالسجودِ. وكان يوسفُ قد رأى في نومِه وهو ابنُ اثنتي عشرةَ سنةً ليلةَ القدرِ، ورأى أن أحدَ عشرَ كوكبًا والشمسَ والقمرَ قد نزلوا فسجدوا له. روي عن جابرٍ: أن يهوديًّا جاءَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمدُ! ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 344)، و"التيسير" للداني (ص: 127)، و"تفسير البغوي" (2/ 343)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 131، 293)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 146). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 147).

[5]

أخبرْني عن النجومِ التي رآهنَّ يوسفُ، فسكتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلَ جبريلُ فأخبرَه بذلك، فقال عليه السلام لليهوديِّ: "إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِذَلِكَ هَلْ تُسْلِمُ؟ "، قال: نعم، قال: "جَرْبَانُ؛ وَالطَّارِقُ، والذَّيالُ، وقَابِسٌ، وَعَمُودَان، وَالْفُلَيْقُ، وَالْمُصَبِّحُ، وَالصَّروخُ، وَالْفَرْغُ، وَوَثَّابٌ، وَذُو الْكَتِفَيْنِ رَآهَا يُوسُفُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ نَزَلْنَ مِنَ السَّمَاءِ، وَسَجَدْنَ لَهُ"، فقالَ اليهوديُّ: إي واللهِ إنها لأسماؤها (¬1). وكان النجومُ في التأويلِ إخوتَه، وكانوا أحدَ عشرَ؛ لأنه يُستضاء بالإخوةِ كما يُستضاءُ بالكواكبِ، وَالشَّمسُ أُمُّه، والقمرُ أبوه. ... {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} [يوسف: 5]. [5] فلما ذكر ذلك لأبيه {قَالَ يَبُنَيَّ} قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (يَا بُنَيَّ) بفتحِ الياءِ، والباقونَ: بكسرِها، وتصغيرُ (بني) للشفقةِ (¬2). {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} فهمَ يعقوبُ عليه السلام من رؤياه أنَّ اللهَ يصطفيهِ لرسالتِه، ويفوقُ على إخوته، فخافَ عليه حسدَهم، فأمره ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ 2101)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 259)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 250)، والحاكم في "المستدرك" (8196). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 127)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 147).

[6]

بالكتمان. قرأ الكسائيُّ بخلافٍ عنه: (رُؤْيَاكَ) بالإمالةِ (¬1). {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} فيحتالون في هلاكِك؛ لأنهم يعلمونَ تأويلَها. {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يحملُهم على الحسدِ والكيدِ. {مُبِينٌ} ظاهرُ العداوةِ بَيِّنُها. قال - صلى الله عليه وسلم -: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ، فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وإذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ، وَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ شَرِّ مَا رَأَى؛ فَإنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ" (¬2). ... {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} [يوسف: 6]. [6] {وَكَذَلِكَ} يقولُه يعقوبُ عليه السلام ليوسفَ، أي: كما رفعَ منزلتَكَ بهذهِ الرؤيا، فكذلك {يَجْتَبِيكَ} يصطفيكَ {رَبُّكَ} بما هو أعظمُ منها. {وَيُعَلِّمُكَ} أي: وهو يعلِّمُكَ {مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} تعبيرِ الرؤيا، وما يَؤولُ أمرُها إليه، وكانَ يوسفُ أعبرَ الناسِ للرؤيا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 344)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 38)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 147). (¬2) رواه البخاري (6637)، كتاب: التعبير، باب: إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها، ومسلم (2261)، كتاب: الرؤيا، عن أبي سلمة -رضي الله عنه-.

[7]

{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بالنبوةِ وباحتياجِ إخوتِك إليكَ {وَعَلَى آلِ} أي: أولادِ {يَعْقُوبَ} بالنبوةِ أيضًا؛ لأنهم كانوا أنبياءَ. {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي: أبيكَ وجَدِّك؛ فإنَّ الجدَ أبٌ في الأصالةِ، يقالُ: فلانُ بنُ فلانٍ، وبينَهما عدةُ آباءٍ {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} بجعلِهما نَبِيَّيْنِ. {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بمَنْ يستحقُّ الاجتباءَ {حَكِيمٌ} في صنعِه، وكان بينَ رؤيا يوسفَ وتحقيقِها بمصيرِ أبيه وإخوته إليه أربعونَ سنةً في قولِ الأكثرِ. ... {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} [يوسف: 7]. [7] {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي: في خبرِه وخبرِ إخوته، وهم روبيلُ، وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوى، ويهودا، وزلون، ويساخر وأمُّهم لَيَّا بنتُ ليَّانَ، وهي ابنةُ خالِ يعقوبَ، وولد له من سُرِّيتينِ اسمُ إحداهما زُلْفَى، والأخرى بُلْهة أربعة، وهم: دان، ونَفْتالي، وكاد، وأشر، ثم تُوفيت ليا، فتزوج يعقوبُ أختَها راحيل، فولدت له يوسفَ وبنيامين، فكان بنو يعقوبَ اثني عشرَ رجلًا. {آيَاتٌ} عِظاتٌ {لِلسَّائِلِينَ} عنها، وغيرِ السائلين، وذلك أن اليهود لما سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصةِ يوسفَ، فذكر لهم القصةَ، فوجدوها موافقةً لما في التوراةِ، فعجبوا منه، فهذا معنى قوله تعالى: (لآياتٌ)؛ أي: دلالة على نبوةِ محمدٍ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قرأ ابنُ كثيرٍ: (آيَةٌ)

[8]

على التوحيد، والباقون: (آيَاتٌ) على الجمعِ (¬1). ... {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)} [يوسف: 8]. [8] {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ} اللامُ فيه جوابُ القسم، تقديرُه: واللهِ ليوسفُ {وَأَخُوُه} بنيامينُ. {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} وكان يعقوبُ شديدَ الحبِّ ليوسفَ، فكان يرى منه الميلُ إليه ما لا يرى لإخوته. {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} جماعةٌ عشرةٌ تُعْصَبُ بنا الأمورُ، وفينا كفايةٌ، ويفضِّلُهما علينا، ولا كفايةَ فيهما؛ لصغرهما، وأصلُ العصبةِ والعصابةِ التَّعَصُّبُ والشَّدُّ، وتطلق على الثلاثةِ أو العشرةِ إلى الأربعين. {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: خطأ من رأيهِ ظاهرٌ؛ لاختيارِهما علينا، وليسَ المرادُ الضلالَ عن الدين. قرأ أبو عمرٍو، وعاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (مُبينِ اقْتُلُوا) بكسرِ التنوينِ في الوصلِ لالتقاءِ ساكن التنوين والقافِ، وقرأَ الباقونَ: بكسر النونِ وضمِّ التنوين إتباعًا لضمةِ التاءِ ومراعاةً لها، واختلِف عن ابنِ ذكوانَ في الكسرِ والضمِّ، والوجهانِ صحيحان عنه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 344)، و"التيسير" للداني (ص: 127)، و"تفسير البغوي" (2/ 438)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 149). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 345)، و"التيسير" للداني (ص: 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 150).

[9]

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)} [يوسف: 9]. [9] {اقْتُلُوا يُوسُفَ} كانت هذهِ مقالَة شمعون، أو دان. {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي: أَبْعِدوه إلى أرضٍ بعيد من أبيه. {يَخْلُ} أي: يخلُصْ {لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} فيُقبِلُ بكلِّيتهِ عليكم. {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} بعدَ يوسفَ والفراغ من أمرِه. {قَوْمًا صَالِحِينَ} يصلُحُ حالُكم عندَ أبيكم، وقيل: معنى (صالحين)؛ أي: تائبين، تُحْدِثوا بعد ذلك توبة، فيقبلُها الله منكم. ... {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)} [يوسف: 10]. [10] {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} هو يهودا على الأصحِّ. {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} نَهاهم عن قتلِه، وقال: القتلُ كبيرةٌ عظيمةٌ. {وَأَلْقُوهُ} اطرحوه {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} قَعْرِهِ، والغَيابةُ: ما غابَ عن العينِ، والجبُّ: البئرُ التي لم تُطْوَ؛ لأنها جُبِّبَتْ من الأرض؛ أي: قُطعتْ، والبئرُ بينَ مصرَ ومدينَ على ثلاثةِ أميالٍ من منزلِ يعقوبَ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (غَيَابَاتِ) على الجمع (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 345)، و"التيسير" للداني (ص: 127)، و"تفسير البغوي" (2/ 440)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 150).

في الموضعينِ، والباقون: (غَيَابَةِ) على الواحدِ فيهما. {يَلْتَقِطْهُ} يأخذْه من غيرِ طلبٍ ولا قصدٍ {بَعْضُ السَّيَّارَةِ} المسافرينَ. {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ما عَزَمْتُم عليه من القتلِ؛ فإنَّ القتلَ عظيمٌ، وهم كانوا يومئذٍ بالِغينَ، ولم يكونوا أنبياءَ بعدُ. وأما حكمُ اللقيطِ، وهو الطفلُ المنبوذُ، فالتقاطُه مندوبٌ عندَ أبي حنيفة، وعندَ الثلاثة فرضُ كفايةٍ، وهو حرٌّ مسلمٌ إن وُجِدَ في بلدٍ فيه مسلمٌ يولَدُ لمثلِه عندَ الثلاثةِ، وقال أبو حنيفةَ: إن التقطَ من بِيعَةٍ أو كنيسةٍ أو قريةٍ من قُراهم، فيكونُ ذِمِّيًّا، وأما حضانتهُ، فلواجِدِه إن كانَ عدلًا بالاتفاق، وما وُجِدَ معه فنفقتُه منه، وإلَّا من بيتِ المالِ بالاتفاق، ومن ادَّعاهُ لحقَ به نَسَبًا لا دينًا عندَ الثلاثةِ، وعن مالكٍ في استِلْحاقِ الملتقَطِ المسلمِ بغيرِ بينةٍ قولان، وفي مسلمٍ غير الملتقط أقوالٌ، ثالثُها: إن أتى بوجه، لحق؛ كمن زعمَ أنه طرحَه؛ لأنه لا يعيشُ له ولدٌ، وسمعَ أنه إذا طرحَهُ عاشَ، وأما الذميُّ، فإنه لا يلحقُه إلا ببينةٍ، وميراثُه وديتُه لبيتِ المالِ بالاتفاق. وأما اللُّقَطَةُ، وهي المالُ الضائعُ من رَبِّه، فقالَ أبو حنيفةَ: أخذُها أفضلُ، وقال مالكٌ: يُستحبُّ أخذُها بنيةِ حفظِها إنْ كانتْ مما لهُ خَطَرٌ، وقال الشافعيُّ: يُستحبُّ لواثقٍ بأمانةِ نفسِه، وقالَ أحمدُ: تركُها أفضلُ، ويجوزُ أخذُها لمن أمنَ نفسَه. فمن وجدَ ما تقلُّ قيمتُه، ولا تتبعُه الهِمَّةُ، ملكَه بغيرِ تعريفٍ بالاتفاق، وأما الحيوانُ الممتنِعُ بنفسِه؛ كبعيرٍ وفرسٍ ونحوِهما، فيجوزُ التقاطُه عندَ

أبي حنيفةَ، وعندَ الشافعيِّ إن وُجِدَ بمفازةٍ، جازَ التقاطُه للحفظِ، ويحرمُ للتملُّكِ، وإن وُجِدَ بقريةٍ، جازَ التقاطُه للتملُّكِ، وقالَ مالكٍ: لا يلتقِطُ الإبلَ في الصحراءِ، وعنهُ في غيرِ الإبلِ خلافٌ، وقال أحمدُ: لا يجوزُ التقاطُها، ولا يبرأُ مَنْ أخذَها إلا بدفعِها إلى الإمام، وما عدا ذلكَ من سائرِ الأموالِ، فقال أبو حنيفةَ: يُعَرِّفُها مدةً يغلبُ على ظَنِّه أن صاحبَها لا يطلُبُها بعدَ ذلكَ الزمانِ الذي عَرَّفَ فيه، قال: وتعريفُ ما دونَ عشرةِ دراهمٍ أيامًا بلا تقدير، وما فوقَها حولًا، ثم يتصدَّقُ بها إن شاءَ، فإن جاءَ صاحبُها، فأمضى الصدقةَ، وإلا ضمنَها الملتقِطُ أو المسكينُ إن شاءَ، وإن كانتْ قائمةً، أخذَها منه، ولا تُدفعُ إليه إلا ببينةٍ، ويحلُّ للملتقِط دفعُها بذكرِ علامةٍ، ولا يُجبر على ذلك، وقال مالكٍ: يُعَرِّفها سنةً، فإذا جاءَ طالبُها، فعرَفَها بعلامتها، دفعَها إليه بلا بَيِّنةٍ، وإن لم يأتِ لها طالبٌ، فإن شاءَ تركَها في يده أمانةً، وإن شاءَ تصدَّقَ بها بشرطِ الضمانِ، وإن شاءَ تملَّكها على كراهةٍ، وقال الشافعيُّ: يعرِّفها سنةً، والحقير زمنًا يظنُّ أن فاقدَه يُعرِضُ عنه غالبًا، وإذا عَرَّفَ سنةً، لم يملكها حتى يختارَهُ بلفظ؛ كتملكتُ، فإذا ظهرَ المالكُ، أخذَها، وإن تلفتْ، غرمَ مثلَها أو قيمتَها يومَ التملُّكِ، وإن وصفَها، وظنَّ صدقَه، جازَ الدفعُ، ولا يجب، وقالَ أحمدُ: يعرِّفُها سنةً، ثم تدخلُ في ملكِه بعدَ الحولِ حكمًا كالميراث، فمتى جاءَ طالبُها، فوصفَها، لزَم دفعُها إليه أو مثلُها إن هلكتْ بِلا بينةٍ. ولا فرقَ بينَ لُقَطَةِ الحرمِ وغيرِه عندَ الثلاثِة، وعند الشافعيِّ لا تحلُّ لقطةُ الحرمِ للتملُّكِ، ويجبُ تعريفُها قطعًا، والله أعلم. ***

[11]

{قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)} [يوسف: 11]. [11] فلما أجمعَ إخوةُ يوسفَ على التفريقِ بينَه وبينَ والدِه بضربٍ من الحِيَلِ. {قَالُوا} ليعقوبَ: {يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} لِمَ تخافنُا عليه؟ بدؤوا بالإنكارِ عليه في تركِ إرسالِه معهم. وأجمعَ القراءُ على قراءةِ (مالَكَ لاَ تأمَنَّا) بإدغامِ النونِ الأولى في الثانية، واختلفوا في اللفظِ به، فقرأ أبو جعفرٍ بإدغامِه محضًا من غيرِ إشارةٍ، بل يلفظُ بنونٍ مفتوحةٍ مشدَّدةٍ، وهو على أصلِه في إبدالِ الهمزِ حرفَ مَدٍّ، وقرأ الباقونَ بالإشارة، واختلفوا فيها، فبعضُهم جعلَها رَوْمًا، فيكونُ حينئذٍ إخفاءً، ولا يتمُّ معها الإدغامُ الصحيحُ، وبعضُهم جعلها إِشْمامًا، فيشيرُ إلى ضمِّ النونِ بعدَ الإدغامِ، فيصحُّ معه حينئذٍ الإدغامُ، قالَ ابنُ الجزريَّ: وبالقولِ الثاني قطعَ سائرُ أئمةِ أهلِ الأداءِ من مُؤَلِّفي الكتبِ، وحكاه أيضًا الشاطبيُّ، قال: وهو اختياري، لأني لم أجدْ نصًّا يقتضي خلافَه، ولأنه الأقربُ إلى حقيقةِ الإدغامِ، وأصرحُ في اتباعِ الرسمِ، انتهى (¬1). {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} قائمونَ بمصلحتِه وحِياطتِه حتى نردَّه إليكَ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 345)، و"تفسير البغوي" (2/ 441)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 151 - 152)، وذكر البغوي أن قراءة أبي جعفر هي رواية عن نافع أيضًا.

[12]

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)} [يوسف: 12]. [12] {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} إلى الصحراءِ. {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} نُنَعَّمْ ونَلْهو. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ: بالنونِ فيهما، وابنُ كثيرٍ: بكسرِ العين من (نَرْتعَ)، وروايةُ قنبل يثبتُ الياءَ بعدَ العينِ وصلًا ووقفًا، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: بالياء فيهما معَ كسرِ العين من (يَرْتعَ)، وقرأ الباقون، وهم: الكوفيون، ويعقوبُ: بالياءِ فيهما معَ إسكانِ العين من (يَرْتع)؛ كأبي عمرٍو وابنِ عامرٍ، فالقراءةُ بالنون فيهما أُسندَ الفعلُ إلى جميعِهم، ولم يكونوا أنبياءَ يومئذٍ، وبالياء فيهما أُسنِدَ الفعلُ إلى يوسفَ، وبكسر العين من (نَرْتعَ) من الرعي، فلامُه ياء حُذِفَتْ للجزم، وبقيت الكسرةُ تدلُ عليها، وبإسكانِ العين جزمًا جوابًا (لأرسلْه) (¬1). {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أن ينالَه مكروهٌ. ... {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)} [يوسف: 13]. [13] {قَالَ} لهم يعقوبُ: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي} قرأ نافعٌ (لَيُحْزِنُنِي) بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي، والباقون: بفتحِ الياءِ وضمِّ الزاي، وفتحَ أبو جعفرٍ، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 346)، و "التيسير" للداني (ص: 128)، و"تفسير البغوي" (2/ 441)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 293)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 152 - 154).

[14]

ونافعٌ، وابن كثيرٍ ياءَ الإضافِة، وأَسكنها الباقون (¬1). {أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أي: ذهابُكم به، والحزنُ هاهنا ألمُ القلبِ بفراقِ المحبوبِ. {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ}، وكان يعقوبُ قد رأى في منامِه أن الذئبَ قد شَدَّ على يوسفَ، فكانَ يخافُ من ذلك {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} مشغولون بعملِكم. قرأ أبو جعفرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وورشٌ عن نافعٍ: (الذِّيبُ) بإسكان الياء بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمز (¬2). ... {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)} [يوسف: 14]. [14] {قَالُوا لَئِنْ} التقديرُ: واللهِ لَئِنْ {أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} عَشَرَةٌ، وجوابُ القسم {إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} ضعفاءُ مغبونونَ. ... {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)} [يوسف: 15]. [15] ثم قالوا ليوسف: أما تحبُّ الخروجَ معنا؟ قال: بلى، قالوا: ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 196، 244)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 154 - 155). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 346)، و"التيسير" للداني (ص: 128)، "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 391 - 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 155).

فسل أباكَ، قال: يا أَبي! إني أَرى من إخوتي اللطفَ فأُحِبُّ أن ترسلَني معهم إلى الصحراءِ، فأرسلَهُ. {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} جَعَلوا يحملونَه على عواتِقِهم إكرامًا لهُ، وسرورًا به، فلما أَبعدوا به عن العيون، أَلْقَوه، وجعلوا يضربونَهُ، وكلما لجأَ إلى واحدٍ منهم، ضربَهُ، ولا يزدادُ عليهِ إلا غلظةً وحنقًا، وجعلَ يبكي بكاءً شديدًا، وينادي: يا أبتاه! يا يعقوبُ! ما أسرعَ ما نَسُوا عهدَكَ، وضَيَّعوا وَصيَّتَكَ، لو تعلمُ ما يَصنعُ بابنِك أولادُ الإماءِ! قالو!: فأخذَه روبيلُ فجلدَ بهِ الأرضَ، وثبتَ على صدره، وأرادَ قتلَه، فقال: مهلًا يا أخي، لا تقتلْني، فقال له: قُلْ لرؤياكَ تُخَلِّصُك من أيدينا، ولوى عنقَه ليكسرَها، فنادى: يا يهودا! وكان أرفَقَهم به اتَّقِ اللهَ وحُلْ بيني وبينَ من يريدُ قتلي، فأخذَتْه رقةٌ ورحمةٌ، فقال يهودا: ألستُمْ قد أعطيتموني موثقًا ألا تقتلوه؟ قالوا: بلى، قال: فأنا أدلُّكم على ما هو خيرٌ لكم من القتل، ألقوه في الجبِّ، قالوا: نفعلُ. {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ} عزموا على إلقائهِ. {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} تقدَّم تفسيرُه، واختلافُ القراءِ فيهِ، ومحلُّ الجبِّ عندَ تفسيرِ الحرفِ المتقدِّمِ، وجعلَ يوسفُ يتعلَّق بثيابِهم، فنزعوها من يديه، فتعلق بشفيرِ البئر، فربطوا يديه، ونزعوا قميصَه لما عزموا عليه من الكذبِ، فقال: يا إخوتي! ردوا عليَّ ثوبي أسترُ به عورتي في حياتي، ويكونُ كفنًا لي بعدَ مماتي، فلم يفعلوا، وألقوه، وكان يعقوبُ قد جعلَ قميصَ إبراهيمَ الذي كُسِيه لما ألُقي في النار في قصبةٍ، وشدَّ رأسَها، وعلَّقها في عنقِ يوسفَ، لما كانَ يخافُ عليه من العينِ، وكان لا يفارقُه، فأخرجَهُ جبريلُ وألبسَه إياه، وقامَ على صخرةٍ بجانبِ البئرِ، فأرادوا رضخَهُ بحجرٍ، فمنعَهم

[16]

يهودا، وجاءه جبريلُ ليؤنسَه، وقال له: إذا هِبْتَ شيئًا، فقلْ: يا صريخَ المستصرخين، ويا غياثَ المستغيثين، ويا مفرجَ كربِ المكروبين، قد ترى مكاني، وتعلمُ حالي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، فلما قالَها، حَفَّتْه الملائكةُ، فأنسَ بهم. {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} وكانَ ابنَ ثماني عشرة سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك. {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} فيما يُستقبل {بِأَمْرِهِمْ هَذَا} الذي فعلوا بك. {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أنَّكَ يوسفُ؛ لعلوِّ قدرِك، وبعد عهدِهم عنك. ... {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)} [يوسف: 16]. [16] ثم نحروا سَخْلَةً، ولطَّخوا قميصه بدمِها، ولم يشقُّوه {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} أي: مُتباكينَ وقتَ المساء، ليكونوا أَجْرَأَ على الاعتذارِ بالكذب. **** {قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} [يوسف: 17]. [17] فرُوي أن يعقوبَ سمعَ صياحَهم وعويلَهم، فخرجَ فقال: ما لكم يا بني؟ أصابَكم في غنمِكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما أصابكم؟ وأين يوسفُ؟ {قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} من السِّباقِ في الرَّمْيِ بالسهامِ. {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} ثيابِنا.

[18]

{فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ} بمصدِّقٍ. {لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} لسوءِ ظَنِّكَ بنا، وفرطِ محبتِكَ ليوسفَ. ... {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف: 18]. [18] {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي: مكذوبٍ فيه؛ لأنه لم يكنْ دمَ يوسفَ، فقالَ يعقوبُ: كيفَ أكلَه الذئبُ، ولم يشقَّ قميصَه؟ فاتَّهمهم، و {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ} أيَ: زَيَّنَتْ {لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ (بَل سوَّلَتْ) بإدغامِ اللام في السين، والباقون: بالإظهار (¬1). {فَصَبْرٌ} أي: فأمري صبرٌ. {جَمِيلٌ} والصبرُ الجميلُ: ما لا شكوى فيهِ إلى مخلوقٍ. {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} أي: أطلبُ منه العونَ. {عَلَى مَا تَصِفُونَ} من شأنِ يوسفَ. ... {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)} [يوسف: 19]. [19] ولبثَ في البئرِ ثلاثةَ أيامٍ {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} جماعةٌ يسيرون من مَدْيَنَ إلى مصرَ، أخطأوا الطريقَ، فنزلوا قريبًا من الجبِّ، وكان في قَفْرٍ بعيدٍ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 258)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 263)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 156).

من العمران، وكان ماؤه مِلْحًا، فعذُبَ حينَ أُلقي يوسفُ فيه. {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} الذي يردُ الماء ليستقيَ لهم منه، وهو مالكُ بنُ ذعْرٍ الخزاعيُّ. {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} ليملأَها، فتعلَّق يوسفُ بالحبلِ، فلما خرجَ، إذا هو بغلامٍ أحسنَ ما يكونُ من الغلمانِ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "قَدْ أُعْطِيَ يُوسُفُ شَطْرَ الْحُسْنِ، وَالنِّصْفُ الآخَرُ لِسَائِرِ النَّاسِ" (¬1)، فلما رآه مالكُ بنُ ذعرٍ. {قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (يَا بُشْرَايَ) بياءٍ مفتوحة بعدَ الألف؛ أي: بَشَّرَ المستقي نفسَهُ وأصحابَهُ، يقولُ: أبشروا بغلامٍ، وقرأ الباقونَ، وهم الكوفيون: (يَا بُشْرَى) بغيرِ ياءٍ إضافةٍ على وزن فُعْلَى (¬2)، يريدُ: نادى المستقي رَجُلًا من أصحابِه اسمهُ بُشْرى، وأمالَ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ فتحةَ الراء، وقرأ ورشٌ الراءَ بينَ اللفظين، والباقون: بإخلاصِ فتحِها، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (162)، كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات وفرض الصلوات، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- في حديث الإسراء الطويل، وفيه: " ... ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف، إذا هو قد أعطي شطر الحسن". وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ 2136) عن ربيعة الجرشي قال: قسم الحسن نصفين، فجعل ليوسف وسارة النصف، والنصف الآخر لسائر الناس. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 347)، و"التيسير" للداني (ص: 128)، و"تفسير البغوي" (2/ 445)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 293)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 157).

[20]

واختلِفَ عن أبي عمرٍو، وابن ذكوانَ (¬1). {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} الضميرُ للواردِ وأصحابه؛ أي: أخفَوا أمرَ يوسفَ، وقالوا: دفعَه لنا أهلُ الماءِ لنبيعَه لهم بمصرَة لئلا يطالبَهم رُفْقَتُهم بالشركة فيه، ورُوي أنَّ إِخوةِ يوسفَ أخفَوا شأنَه؛ لأنه لما أخذَهُ المدلي، علم به يهودا؛ لأنه كان يأتيه بطعامه، فذهبَ وإخوتَه إلى السيارة، فقالوا: هذا عبدٌ لنا أَبَقَ، فاشتروهُ منا، ويوسفُ ساكتٌ لا يتكلَّمُ مخافةَ القتلِ. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} لم تخفَ عليه أسرارُهم. ... {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)} [يوسف: 20]. [20] {وَشَرَوْهُ} السيارةُ من إخوته. قرأ ابنُ كثيرٍ: (وَشَرَوْهُو) بواو يصلُها بهاء الكناية في الوصلِ، وتقدَّمَ التنبيهُ عليه أولَ سورةِ البقرة (¬2) {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} ناقصٍ عنِ القيمةِ. {دَرَاهِمَ} لا دنانيرَ {مَعْدُودَةٍ} قليلةٍ؛ لأنهم كأنوا لا يَزِنُون إلا ما بلغَ أوقيةً، وهو أربعونَ درهمًا، ويَعُدُّون ما دونَها، وكانت الدراهمُ عشرينَ درهمًا، فاقتسَمَها إخوةُ يوسفَ درهمينِ درهميِن. {وَكَانُوا} إخوةُ يوسفَ {فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} ليبعدَ عنهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 35 - 36)، وباقي المصادر في التعليق السابق. (¬2) عند تفسير الآية: (2).

[21]

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} [يوسف: 21]. [21] فلما قدمتِ السيارةُ بيوسفَ مصرَ، دخلوا به السوقَ يعرضونه للبيع، وكانتْ قوافلُ الشامِ تنزلُ بالناحيةِ المعروفةِ اليومَ بالموقفِ، وهي ظاهرَ مصرَ خارجَ كومِ الجارحِ بالقربِ من الجامعِ الطولونيِّ، فوقفَ الغلامُ، ونوديَ عليه، فاشتراهُ قِطْفيرُ صاحبُ أمرِ الملك، وكان على خزائنِ مصرَ يُسَمَّى العزيزَ، واشتراهُ بعشرينَ دينارًا وزوجِ نعلٍ، وثوبينِ أبيضين، وقيلَ غيرُ ذلك. {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} هو قِطفيرُ المذكورُ {لِامْرَأَتِهِ} واسُما زَليخَا، وقيل: رَاعِيل {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} منزلَهُ؛ أي: أَحْسِني تعهُّدَه. {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فيما نحتاجُ إليه، وكانَ العزيزُ لا يولَدُ له فقال: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} نتبنَّاهُ؛ لما رأى فيه من مخايلِ الفلاحِ. {وَكَذَلِكَ} أي: وكإنجائِنا يوسفَ من الشدائدِ وعطفِ قلبِ العزيزِ عليه. {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أرضِ مصرَ؛ بأن جعلناهُ حاكمًا عليها. {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} هي تعبيرُ الرؤيا. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} الهاءُ في (أمره) لله تعالى؛ أي: لا مانعَ

[22]

لقضائِه، وقيل: ليوسفَ؛ أي: إنه يدبره، ولا يَكِلُه إلى سِواه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} مرادَ الله تعالى. ... {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}. [22] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه} منتهى شبابِه وقُوَّته، جمعُ شدٍّ، وهو ثلاثٌ وثلاثونَ سنةً في أظهرِ الأقوالِ. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} نبوةً {وَعِلْمًا} فِقْهًا. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} المطيعينَ. ... {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}. [23] {وَرَاوَدَتهُ} أي: طالبته مرةً بعدَ مرةٍ برفقٍ وسهولةٍ. {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} وهي زليخا احتالَتْ عليه، وأرادتْ خدعَهُ {عَنْ نَفْسِهِ} لتنالَ غرضَها منه، وكانت تكتمُ حُبَّهُ، فخَلَتْ به، وتزيَّنَتْ له، وعَرَّفَتْه أنها تحبُّه، وأنه إِن واتاها على ما تريدُه منه، حَبَتْهُ بمالٍ عظيمٍ، فامتنعَ من ذلك، ورامَتْ أن تغلبَهُ. {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} عليها وعليه، وكانت سبعةً. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (هَيْتَ) بفتح الهاءِ والتاءِ من غيرِ همزٍ؛ أي: هَلُمَّ وأَقْبِلْ إلى ما أدعوكَ إليه، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ

(هِيتَ) بكسرِ الهاءِ وفتحِ التاءِ من غيرٍ همزٍ، واختلِفَ عن هشامٍ راوي ابنِ عامرٍ، فرويَ عنه وجهِان: بكسر الهاءِ وضمِّ التاءِ وفتحِها مهموزًا في الوجهين، وقرأ ابنُ كثير: بفتح الهاءِ وضمِّ التاءِ من غيرِ همزٍ، ومعناه تَهَيَّأتُ لكَ (¬1). {قَالَ} يوسفُ لها عندَ ذلك: {مَعَاذَ اَللَّهِ} أستجيرُ بالله مما دَعَوْتيني إليه. {إِنَّهُ رَبِّىَ} المعنى: زوجُكِ قِطفيرُ سيدي. {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} حينَ أوصاكِ بإكرامي، فما جزاؤه أن أخونَهُ، وقيل: المرادُ (بربي): اللهُ سبحانه، أحسنَ إليَّ بما أعطاني. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ: (رَبِّيَ) بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (¬2)، وقرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ (مَثْوَايَ) بالإمالة (¬3). {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} لا يسعد الزُّناةُ؛ فإنَّ الزنى ظلمٌ على الزاني والمزنيِّ بأهلِه. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 347)، و"التيسير" للداني (ص: 128)، و"تفسير البغوي" (2/ 448)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 293 - 294)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 158 - 160). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 161). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 258)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 161).

[24]

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24]. [24] {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أي: بمخالطتِه، والهمُّ: هو المقاربةُ من الفعلِ من غيرِ دخولٍ فيه. {وَهَمَّ بِهَا} بخطراتِ القلبِ الذي لا يقدرُ البشر على التحفُّظِ منه، ورجعَ عندَ ذلكَ ولم يتجاوزْه. {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} رُوي أنّه رأَى صورةَ يعقوبَ عاضًّا على أصبغِه، وبه كانَ يُخَوَّفُ صغيرًا، وقيلَ غيرُ ذلكَ، وجوابُ لولا محذوفٌ، تقديرُه؛ لولا أنْ رأى برهانَ رَبِّهِ، لواقعَ المعصيةَ، وقيل: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ؛ أي: ولقد همتْ به، ولولا أن رأى برهانَ رَبِّه، لهمَّ بها. {كَذَلِكَ} فعلْنا مثل ذلك {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} الزنى. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} قرأ الكوفيون، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ (الْمُخْلَصِينَ) بفتحِ اللامِ حيثُ وقَع؛ أي: المختارين، وقرأ الباقون: بكسرها (¬1)؛ أي: المخلِصين لله الطاعةَ، واختلافُهم في الهمزتين من (الْفَحْشَاءَ إِنَّهُ) كاختلافِهم فيهما مهن (شُهَداءَ إِذْ) في سورة البقرة. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 3448)، و"التيسير" للداني (ص: 128)، و"تفسير البغوي" (2/ 454)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 162).

[25]

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} [يوسف: 25]. [25] ورُوي أنها سترَتْ صنمًا كانَ عندَها، فقال: لِمَ سترتِهِ؟ قالت: أَسْتَحيي أن يراني على معصية، فقال: أتستحيينَ ممن لا يسمعُ ولا يبصرُ، وأنا أحقُّ أن أستحييَ من ربي؟ وهرب (¬1). {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} وَحَّدَ البابَ، وأرادَ: الجنس؛ أي: تسابقا إليه، وذلك أن يوسفَ فرَّ منها ليخرجَ، وأسرعتْ وراءه لتمنعَه الخروجَ، فأدركَته، فلزمَتْه. {وَقَدَّتْ} شَقَّتْ {قَمِيصَهُ} نِصفين {مِنْ دُبُرٍ} من خَلْفِه. {وَأَلْفَيَا} وَجَدا {سَيِّدَهَا} زوجَها قِطفيرَ، وكان عِنِّينًا لا يأتي النساءَ {لَدَى الْبَابِ} عندَ البابِ جالسًا، فلما رأتْهُ. {قَالَتْ} سابقةً بالقولِ لزوجِها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} أي: زنًا، ثم خافَتْ عليه أن يُقتلَ فقالتْ: {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ} أي: يُحْبَسَ {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يضربُ بالسياطِ. ¬

_ (¬1) قال ابن جرير الطبري في "تفسيره" (12/ 191): وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جلَّ ثناؤه أخبر عن همِّ يوسف وامرأة العزيز كل واحد منهما بصاحبه لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من آيات الله زجرته عن ركوب ما هم به يوسف من الفاحشة. وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأي ذلك من أي. والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وترك ما عدا ذلك إلى عالمه.

[26]

{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)} [يوسف: 26]. [26] فلما عَرَّضَتْهُ للهلاكِ {قَالَ} يوسفُ دفعًا عن نفسِه، وتنزيهًا لعرضه: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} يعني: طلبَتْ مني الفاحشةَ، فأبيتُ وفررتُ. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} كانَ طفلًا في المهد، وهو ابنُ خالها، أنطقَه اللهُ، وقد وردَ عن ابنِ عباسٍ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى اَبْنُ مَرْيَمَ" (¬1)، وقيلَ: كان رجلًا حكيمًا ذا رأيٍ، وهو ابنُ عمِّها. قرأ أبو عمرٍو (وَشَهِد شاهِدٌ) بإدغامِ الدالِ في الشين (¬2). {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} لأنه إذا طلبَها، دفعتْهُ عن نفسِها، فشقَّتْ قميصَه مِنْ قُدَّام، أو يسرع ليدركَها فيعثرَ في ثوبِهِ فينشَقَّ. ... {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف: 27]. [27] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} لأنها إذا تبعَتْه هي، تعلَّقَتْ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 309)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12279)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1636)، وغيرهم. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 163).

[28]

بقميصِه لتلحقَهُ فتشقَّهُ {وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قولِه، وإنما ألقى اللهُ الشهادةَ على لسانِ أهلِها؛ لتكونَ ألزمَ عليها، وسُمِّيَ قولُ الشاهدِ شهادةً؛ لأنه قائمٌ مقامَ الشهادةِ في ثبوتِ صدقِ يوسفَ وكذبِها. ... {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} [يوسف: 28]. [28] {فَلَمَّا رَأَى} زوجُها {قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} عرفَ براءةَ يوسفَ. {قَالَ} لها: {إِنَّهُ} أي: قولُكِ: ما جزاءُ مَنْ أرادَ بأهلِكَ سوءًا {مِنْ كَيْدِكُنَّ} حِيَلِكُنَّ. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ} معاشرَ النسوةِ {عَظِيمٌ} وسُمِّيَ كيدُ الشيطانِ ضعيفًا؛ لأنه وسوسةٌ، وكيدُ النساءِ عظيمًا؛ لأنه مواجهةٌ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ ذكوانَ: (رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (رَأَى قَمِيصَهُ) بإمالةِ الراءِ تبعًا للهمزة، واختلِفَ عن هشامٍ وأبي بكرٍ، وأمال أبو عمرٍو الهمزة فقط (¬1). ... {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: 29]. [29] ثم أقبلَ مخاطبًا ليوسفَ حاذفًا حرفَ النداءِ فقالَ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 258)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 264)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 161).

[30]

عَنْ هَذَا} الأمرِ، لا تذكرْهُ لأحدٍ، ثم قالَ لها: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} توبي من صنيعِك. {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} المتعمِّدينَ للذنبِ، وقيل: هذا من قولِ الشاهدِ لهما، وقوله: (من الخاطئين)، ولم يقل: منَ الخاطئاتِ؛ لأنه لم يقصدِ الخبرَ عن النساءِ , وإنما قصدَ القومَ الخاطئين، وكان العزيزُ حليمًا قليلَ الغيرةِ. ... {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)} [يوسف: 30]. [30] واتصل خبرُ زليخا ويوسف بنساءِ الخاصَّة، فَعَيَّرْنَها بذلكَ، فذلكَ قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} هي مدينةُ مصرَ. {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} ورُسمت (امْرَأَتُ) بالتاءِ في سبعةِ مواضعَ، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ (¬1). {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} غلامَها {عَنْ نَفْسِهِ} لتنالَ شهوتَها منه. {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أصابَ حُبُّهَ شَغافَ قلبِها. قرأ أبو عمرٍو , وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ: (قَد شغَفَهَا) بإدغامِ الدالِ في الشين , والباقون: بالإظهار (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر: الآية (35) من سورة آل عمران. (¬2) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (5/ 301)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 258)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 264)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 164).

[31]

{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} خطأ بَيِّنٍ من حبِّ عبدِها. ... {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)} [يوسف: 31]. [31] {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} بِغِيبَتِهِنَّ لها {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} دَعَتْهُنَّ إليها. قرأ يعقوبُ: (إِلَيْهُنَّ) بضمِّ الهاءِ حيثُ وقَع (¬1). {وَأَعْتَدَتْ} أعدَّت؛ أي: هَيَّأَتْ. {لَهُنَّ مُتَّكَأً} ما يُتَّكَأُ عليه، وقُرِئَ في الشواذِّ (مُتْكًا) بضمِّ الميمِ وإسكانِ التاء (¬2)، وهو الأَتْرُجُّ، وصنعَتْ لهنَّ طعامًا وشرابًا، وعملَتْ مجلسينِ مُذْهَبينِ، وفرشَتْهما بديباجٍ أصفرَ مُذْهَبٍ، وأَرْخَتْ عليهما ستورَ الديباجِ، وأمرتِ المواشطَ بتزيينِ يوسفَ وإخراجِه من المجلس الذي يُحاذي المجلسَ الذي كانتْ معَ النسوةِ فيه، وكانَ المجلسُ محاذيًا للشمسِ، فأخذنَهُ المواشطُ، ونَظَمْنَ شعرَهُ بأصنافِ الجواهرِ، وألبسنَهُ ثوبَ ديباجٍ أصفرَ قد نُسِجَ بداراتٍ حمرٍ مُذْهَبَةٍ فيها أطيارٌ صغارٌ خضرٌ مبطَّن ببطانةٍ خضراءَ، ومن تحتِه غلالةٌ حمراءُ، وعلى رأسِهِ تاجٌ قد نُظِمَ بالدرِّ والجوهرِ، وأخرجْنَ من تحتِ التاجِ أطرارَ شعرِه على جبهتِه، وردَدْنَ ذوائبَهُ على صدرِهِ، وجعلْنَ جُمَّتَهُ مكشوفةً، والتاجُ يحيطُ بها، وفي أذنيه قرطَي جوهرٍ، ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 264)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 166). (¬2) انظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 339)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 166).

ومن خلفِ طوقِ القباءِ شعرٌ مسبلٌ بينَ كتفيهِ منظومٌ مشبكٌ بالذهبِ والجوهرِ، وفي عنقه طوقٌ منظومٌ بذهبٍ مشذرٍ بجوهرٍ أحمرَ ودُرٍّ فاخرٍ، وفي وسطِه منطقةُ ذَهَبٍ، فيها كواكبُ جوهرٍ ملوَّنٍ، ولها معاليقُ منظومة، وألبسنَهُ خُفَّيْنِ أبيضينِ منقوشيِن بأخضرَ على نقوشِ ذهبٍ، وجعلْنَ للقباءِ الذي عليه وشاحينِ على كتفيهِ وكُمَّيْهِ من جوهرٍ أخضرَ، وعَقْرَبْنَ صُدْغَيه على خَدَّيهِ، وكحلْنَ عينيه، ودفعْنَ إليه مِذَبّةً مذهبةً شعرُها أخضرُ، وكانَ يوسفُ إذا سارَ في الأزقَّة رُئي تلألؤُ وجهه على الجُدرِ، وحُكِيَ أنه ما زالَ النساءُ يملْنَ إلى يوسفَ ميلَ شهوةٍ حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبةَ النبوة، فشغلَتْ هيبتُه كلَّ من رآهُ عن حسنهِ. {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ} بعدَ الجلوسِ على المتكأ. {سِكِّينًا} نِصابُها من جوهرٍ، وكُنَّ يأكُلْن اللحمَ حَزًّا بالسكين، وقيلَ: ليقطعنَ بها الفاكهةَ، فيقال: إنهن أخذْنَ أترجًّا، وهنَّ يقطعنَهُ، فلما فرغَ النساءُ من طعامهنَّ، وشربْنَ أقداحًا، قالت لهنَّ: قد بلغني حديثُكن في أمري مع عبدي، فقلْنَ لها: الأمرُ كما بلغَكِ لأنك أعلى قدرًا من هذا، ومثلُكِ يرتفعُ عن أولادِ الملوكِ بحسنِك وشرفِكِ، فكيفَ رضيت (¬1) بغلامِكِ؟! قالت: لم يبلُغْكُنَّ الصدقُ، ولا هو عندي بهذا. {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} وأومأتْ إلى المواشطِ أن يُخْرِجْنَ يوسفَ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَقَالَتُ اخْرُجْ) بضمِّ التاءِ في الوصلِ (¬2)، وقرأ يعقوبُ: (عَلَيْهُنَّ) بضمِّ الهاء حيثُ ¬

_ (¬1) في "ظ" و"ت": "رضيتين"، والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 348)، و"التيسير" للداني (ص: 78)، =

وقعَ مثل (إِلَيْهُنَّ) (¬1)، فرفعْنَ المواشطُ الستورَ عن المجلس الذي فيه يوسفُ، وبرزَ منه محاذِيًا بوجهِه الشمسَ، فأشرقَ المجلسُ وما فيهِ من وجهِ يوسفَ، وأقبلَ بالمذبّةِ وهُنَّ يَرْمُقْنَهُ، فوقفَ على رأسِ زَليخا يَذُبُّ عنها. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظَمْنَهُ، وهالَهُنَّ حسنُهُ، فاشتغلْنَ برؤيتِه. {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} موضعَ الفاكهةِ التي كانت معهنَّ؛ أي: جَرَحْنَها لَمَّا رأينه دهشًا، وبقينَ لا يعينَ الكلامَ ذهولًا منهنَّ بما بهرَهُنَّ من حسنِ يوسفَ. {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} كلمةٌ تفيدُ معنى التنزيهِ. قرأ أبو عمرٍو، (حَاشَا للهِ) بإثباتِ الألفِ بعدَ الشينِ حالةَ الوصلِ في الموضعين، وحذفَها الباقون وصلًا ووقفًا (¬2). {مَا هَذَا بَشَرًا} نصبٌ خبرُ (ما)، وذلك أن زليخا قالتْ لهنَّ: ما لكُنَّ قد اشتغلْتُنَّ عن خطابي بالنظرِ إلى عبدي؟! فقلنَ: معاذ اللهِ! ما هذا عبدكِ. {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} مع علمِهِنَّ أنه بشرٌ؛ لأنه ثبتَ في النفوس أن لا أكملَ ولا أحسنَ خَلْقًا من الملَكِ، ولم يبقَ منهنَّ امرأةٌ إلا حاضَتْ وأنزلَتْ شهوةً من محبتِهِ. ... ¬

_ = "الغيث" للصفاقسي (ص: 257)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 166). (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 262)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 166). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 348)، و"التيسير" للداني (ص: 128)، و"تفسير البغوي" (2/ 459)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 166).

[32]

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} [يوسف: 32]. [32] {قَالَتْ} زليخا عندَ ذلك {فَذَلِكُنَّ} (كُنَّ) للنسوةِ، و (ذا) ليوسفَ. {الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فقلْنَ: ما ينبغي لأحدٍ أن يلومَكِ في هذا، ومن لامَكِ فقدْ ظلمَكِ، فدونكه، ولم تقل: هذا مع حضورِه، رفعًا لمحلِّه، فلما بانَ عذرُها لهنَّ، اعترفَتْ ببراءته فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} امتنعَ، فخاطِبْنَهُ لي، فكانت كلُّ واحدةٍ منهن تخاطبهُ وتدعوه سرًّا إلى نفسِها، وتتبذَّلُ له، وهو يمتنعُ عليها فإذا يئستْ منهُ أن يجيبَها لنفسِها، خاطبتْهُ من جهةِ زَليخا، وقالتْ: مولاتُك تحبُّكَ وأنتَ تكرَهُها، ما ينبغي أن تخالِفَها، فيقولُ: ما لي بذلكَ حاجةٌ، فلما رأيْنَ ذلك، أجمعْنَ على أَخذه غَصْبًا، فقالَتْ زليخا: لا يجوزُ هذا. {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} به من قضاءِ شهوتي {لَيُسْجَنَنَّ} بالسجنِ {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} الذليلينَ، ولأمنعنَّا اللذاب، وأنتزعُ جميعَ ما أعطيتُه، ونونُ التأكيدِ تُثَقَّلُ وتُخفف، فالوقفُ على قوله: (لَيُسْجَنَنْ) بالنونِ؛ لأنها مشددة، وعلى قوله: (وَلَيَكُونًا) بالألفِ؛ لأنها مخففةٌ، وهي شبيهةٌ بنونِ الإعراب في الأسماءِ؛ كقولك: رجلًا، ومثله (لَنَسْفَعًا). ... {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} [يوسف: 33]. [33] فاختارَ يوسفُ السجنَ على المعصيةِ، وأقسمَتْ زَليخا بإِلَهِها،

[34]

-وكانَ صنمًا من زَبَرْجدٍ أخضرَ باسمِ عُطارد- إنْ لم يفعلْ لتعجلنَّ له ذلكَ، ثم أمرتْ بنزعِ ثيابهِ، وألبسَتْه الصوفَ. {قَالَ رَبِّ} أي: يا ربِّ {السِّجْنُ} أي: المحبسُ. قراءة العامةِ بكسرِ السين، وقرأ يعقوبُ: بالفتح على المصدر (¬1). {أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أحبَّ سُكنى السجنِ على قضاءِ حاجتهنَّ، وقيل: لو لم يقلْ: السجنُ أحبُّ إليَّ، لم يُبْتَلَ بالسجن، والأَوْلى بالمرءِ أن يسألَ الله العافيةَ. {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} أي: وإن لم تُنَجِّني أنت، ومعناه: الاستسلامُ لله تعالى والتوكُّلُ عليه {أَصْبُ} أَمِلْ {إِلَيْهِنَّ} مأخوذٌ من الصَّبوةِ، وهي أفعالُ الصِّبا. {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الذين لا يُراعونَ أوامرَ اللهِ ونواهيَهُ، وهو قولٌ يتضمَّنُ التشكيَ إلى اللهِ من حالِه معهنَّ، والدعاءَ إليهِ في كشفِ بلواه. ... {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} [يوسف: 34]. [34] فلذلك قالَ بعدَ مقالةِ يوسفَ: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} أي: أجابَه إلى إرادتِه {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} بأنْ حالَ بينَهُ وبينَ المعصيةِ. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} صِفتان لائقتانِ بقوله: (استجابَ). ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 459)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 168).

[35]

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)} [يوسف: 35]. [35] {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} أي: للعزيزِ وأصحابِه في الرأيِ رأيٌ بخلافِ الأول، وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من يوسف على الأمرِ بالإعراضِ، ثم بدا لهم. {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ} الدالَّةِ على براءتِه من شَقِّ القميصِ وكلامِ الشاهدِ وقطعِ الأيدي. {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} إلى مدةٍ ينقطعُ كلامُ الناسِ في ذلك، رُويَ أن المرأةَ قالَتْ لزوجِها: إن هذا العبدَ العبرانيَّ قد فضحَني في الناسِ يخبرُهم أني راودتُه عن نفسِه، فإما أن تأذنَ لي فأعتذرَ للناسِ، وإما أن تحبسَه، وكان العزيزُ مِطْواعًا (¬1) لها، وجُمَيلًا ذلولًا حتى أنساهُ ذلكَ ما رأى من الآياتِ، فأمرَ به فحُبس (¬2). ... {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)} [يوسف: 36]. [36] {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} عبدانِ للملكِ، كان أحدُهما ساقيَهُ، واسمُه مرطس، والآخَرُ صاحب طعامِه، واسمُه راسان، وكان المصريون قد بذلوا لهما رشوةً ليسمَّا الملكَ، فردَّها الساقي، وقبلَها الخبازُ، وسمَّ ¬

_ (¬1) في "ظ" و "ت": "مطواعة" والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (12/ 213).

طعامَه، فعرَّفَ الساقي الملكَ بذلك، فقال لصاحبِ الطعامِ كلُ طعامَكَ، فأبى فأكلتْ منه بهيمةٌ فهلكتْ، فحبَسهما الملكُ، وكان يوسفُ عندَ دخوله السجنَ قال: أنا أعبرُ الأحلامَ. {قَالَ أَحَدُهُمَا} وهو الساقي {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أستخرجُها من العنبِ، لأنه رأى في نومه أنه قد دخلَ بستانًا، فإذا بكرمةٍ عليها ثلاثةُ عناقيدَ، فعصرَ العناقيدَ في زجاجةٍ، فأتى به الملكَ فشربَه. {وَقَالَ الْآخَرُ} وهو الخباز {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} لأنه رأى أنه خرج من مطبخِ الملكِ وعلى رأسهِ ثلاثُ سِلالٍ فيها الخبزُ وأنواعُ الأطعمة. {تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} من ذلك الطعامِ، وكانا صادِقَينِ في قولهما. {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أخبرْنا ما قصصْنا عليك، وما يَؤولُ أمرُه إليه. {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} العالِمينَ بتأويلِ الرؤيا. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ) (إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ) بإسكانِ الياءِ فيها، وافقَهم ابنُ كثيرٍ في (إِنَّي) في الحرفينِ (¬1)، وكان يوسفُ عليه السلام إذا مرضَ إنسانٌ في السجنِ عادَه، وقامَ عليه، وإذا ضاقَ، وسَّعَ له، وإذا احتاجَ، جمعَ له شيئًا، وكانَ مع هذا يجتهدُ في العبادةِ، ويقومُ الليلَ كلَّه للصلاة، وقال لقومٍ في السجنِ انقطعَ رجاؤهم وحَزِنوا: أبشِروا واصبِروا تُؤْجَروا؛ فإن لهذا آخِرًا، فقالوا له: باركَ اللهُ فيكَ ما أحسنَ خَلْقَكَ وخُلُقَكَ، لقد أحسنتَ إلينا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130 - 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296 - 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 169).

[37]

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)} [يوسف: 37]. [37] ثم {قَالَ} للساقي والخبازِ. {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} تأكلانِه في اليقظةِ. قرأ قالونُ عن نافعٍ، وعيسى عن أبي جعفرٍ: (تُرْزَقَانِهِ) باختلاس كسرةِ الهاءِ بخلافٍ عنهما (¬1) {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا} أخبرتُكما {بِتَأْوِيلِهِ} بكيفيتهِ وكميتهِ. {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} وإن رأيتُما ذلكَ في النوم، أخبرتُكما بما يؤولُ إليه، فقالا له: من أينَ لكَ ذلك؟ فقال: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} بأنْ أوحاه إليَّ، ولم أقلْه تكهُّنًا ولا تنجُّمًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو (رَبِّيَ) بفتحِ الياء، والباقونَ: بإسكانها (¬2). {إِنِّي تَرَكْتُ} رفضتُ. {مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وتكرارُ (هم) على التأكيد. ... ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 170). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130 - 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 170).

[38]

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)} [يوسف: 38]. [38] {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أظهرَ أنهُ من ولدِ الأنبياء. قرأ الكوفيون، ويعقوبُ: (آبَاِئي) بإسكانِ الياء، والباقونَ: بفتحِها. {مَا كاَنَ} ينبغي {لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} لأنا معاشرَ الأنبياء معصومون من الشركِ. {ذَلِكَ} التوحيدُ والعلمُ {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} بذلكَ. {وَعَلَى النَّاسِ} بإرسالِنا إليهم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} المرسَلِ إليهم. {لَا يَشْكُرُونَ} فضلَ اللهِ عليهم، بل يكفرون. ... {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} [يوسف: 39]. [39] ثم دعاهم إلى الإسلام فقال: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ} أي: يا صاحِبَيَّ فيه {ءأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} أي: آلهة شتَّى عاجزةٌ لا تضرُّ ولا تنفعُ. {أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ} المنفردُ بالألوهية {القَهَّارُ} الغالبُ على كلِّ شيءٍ.

[40]

واختلاف القراء في الهمزتين من قوله تعالى: (أَأَرْبَابٌ) كاختلافِهم فيهما من (أَأَنْذَرْتَهُمْ) في سورةِ البقرةِ [الآية: 6]. ... {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40]. [40] ثم قالَ لهما ولِمَنْ على دينهما {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: اللهِ (¬1) {إِلَّا أَسْمَاءً} أي: مسمَّياتٍ؛ لأنَّ الاسمَ لا يُعبَدُ {سَمَّيْتُمُوهَا} آلهةً {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} تخرُّصًا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} حجةٍ وبرهانٍ. {إِنِ الْحُكْمُ} في جميعِ الأشياءِ {إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ} أي: التوحيدُ {الدِّينُ الْقَيِّمُ} الثابتُ المستقيمُ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} فيخبِطون في جهالاتِهم. ... {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)} [يوسف: 41]. [41] ثم شرعَ في تفسيرِ رؤياهُما وقالَ: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو الساقي {فَيَسْقِي رَبَّهُ} يعني: الملكَ. ¬

_ (¬1) "أي: الله" ليست في "ت" و"ظ".

[42]

{خَمْرًا} والعناقيدُ الثلاثةُ، فلبثُكَ في السجنِ ثلاثةَ أيام ثُمَّ خروجُك منهُ وعودُكَ إلى ما كنتَ عليهِ عندَ الملك. {وَأَمَّا الْآخَرُ} وهو الخبازُ، فخروجُه من المطبخِ خروجُه من عملِه، والسلالُ الثلاثُ، فلبثُه في السجنِ ثلاثةَ أيامٍ، ثم يُخرجه الملكُ. {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} فلما سمعا قولَ يوسفَ، قالا: إنما كنا نلعبُ، وما رأينا شيئًا، فقال: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ} أي: في معناه {تَسْتَفْتِيَانِ} تسألان؛ أي: ما قلتُ واقعٌ حتمًا، صدقتُما أو كذبتُما. ... {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)} [يوسف: 42]. [42] {وَقَالَ} يوسف {لِلَّذِى ظَنَّ} أي: علمَ. {أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} وهو الساقي. رُوِيَ عن قنبلٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياء على (نَاجِي). {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي: سيدِكَ الملكِ، فقل له: في السجنِ غلامٌ محبوسٌ ظلمًا طالَ حبسُه. {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي: فأَنسى الساقيَ ذكرَ يوسفَ لسيدِه، فلم يذكرْه له، وقيل: أنسى الشيطانُ يوسفَ ذكرَ الله حتى استغاثَ بغيرِه، وتلكَ غفلةٌ عرضتْ ليوسفَ.

[43]

{فَلَبِثَ} مكث {فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وهي سبعُ سنينَ في قولِ الأكثرِ، وكانَ قد لبثَ قبلَه خمسَ سنينَ، فجملَتُه اثنتا عشرةَ سنة. روُي أن جبريلَ عليه السلام قال له: من الذي حَبَّبَكَ إلى أبيكَ دونَ إخوتِكَ، وحفِظَكَ في الشدائدِ؟ فقال: الله، فقال: إنه يقولُ: أحسبْتَ أني أنساكَ في السجنِ حتى استغثْتَ بغيرِي وأنا أقربُ إليكَ وأقدرُ على خلاصِك؟ لتلبثَنَّ فيه بضعَ سنين، قال: وربِّي عنِّي راضٍ؟ قال: نعم، قالَ: فلا أبالي إذن (¬1). ورُوي أن يوسفَ لما قالَ ذلكَ، قيل له: أَتَّخَذْتَ من دوني وكيلًا؟ لأطيلنَّ حبسَكَ، فقالَ: يا ربَّ! أنسى قلبي كثرةُ البلوى، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلاَ كَلِمَةُ يُوسُفَ، مَا لَبثَ في السِّجْنِ مَا لَبِثَ" (¬2). ... {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)} [يوسف: 43]. [43] {وَقَالَ الْمَلِكُ} يعني: ملكَ مصرَ الأكبرَ، وهو الريان بنُ الوليدِ، من العمالِقَةِ، وهو فرعونُ يوسفَ، والقبطُ تسمِّيه نَهْراوُش، وكان عظيمَ الخلقِ، جميلَ الوجهِ، عاقِلًا متمكِّنًا، وهو جدُّ فرعونِ موسى، وكان أقوى ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 465). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (6206)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ 2148)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وفي الباب: عن ابن عباس، والحسن البصري، وغيرهما.

أهلِ الأرضِ في زمانِه، وكان محلُّ ملكِه مدينةَ مَنْف من أرضِ مصرَ، وكانتْ في غربيِّ النيلِ على مسافةِ اثني عشرَ ميلًا من مدينةِ فُسطاطِ مصرَ المعروفةِ يومئذٍ بمصرَ القديمةِ، ومَنْفُ أولُ مدينةٍ عمرَتْ بأرضِ مصرَ بعدَ الطوفانِ، وكانت دارَ الملكِ بمصرَ في قديمِ الزمانِ، ولما دنا فَرَجُ يوسفَ، رأى الملكُ رؤيا عجيبةً هالَتْه، فجمعَ السحرةَ والكهنةَ والمعبِّرينَ، وقَصَّها عليهم فقال: {إِنِّي أَرَى} قرأ أبو عمرٍو، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ: (إِنِّيَ) بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} خَرَجْنَ من البحرِ. {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} أي: وخرجَ عقبَهُنَّ سبعُ بقراتٍ عجافٍ، وهي التي بلغَتْ من الهزالِ النهايةَ، فابتلعتِ العجافَ السمانَ، فدخلَتْ في بطونهن، ولم يتبيَّنْ على العجافِ منها شيءٌ. {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ} قد انعقدَ حَبَّها {وَأُخَرَ} أي: وسبعًا أُخَرَ {يَابِسَاتٍ} قد أدركَتْ فالْتَوَتِ اليابساتُ على الخضرِ حتى غلبْنَ عليها، ولم يبقَ من خضرتِها شيء، فقال لعرَّافيه ومنجِّميه: {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} عَبِّروها. {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُ} تفسِّرونَ. قرأ الكسائيُّ، وخلفٌ: (لِلرُّؤْيَا) بالإمالةِ (¬2)، واختلافُ القراءِ في الهمزتينِ من (الْمَلأُ أَفْتُوني) ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 171). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 344)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =

[44]

كاختلافِهم فيهما من (السُّفَهُاءُ أَلاَ) في سورةِ البقرة [الآية: 13]. ... {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)} [يوسف: 44]. [44] {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} أي: أخلاطُ رؤيا كاذبة، والأضغاثُ جمعُ ضِغْثٍ: وهو الحزمةُ من النباتِ، والأحلامُ جمعُ حلمٍ، وهو ما يُرى في النومِ. {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ} الباطلةِ كهذه الرؤيا {بِعَالِمِينَ} لاختلاطِها. ... {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)} [يوسف: 45]. [45] {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} من القتلِ، وهو الساقي. {وَادَّكَرَ} بدالٍ مهملةٍ، أي: تذكَّرَ أمرَ يوسفَ. {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: حينٍ، وهو مدُة لبثِ يوسفَ في السجنِ، وبالهاءِ والتخفيف (أَمَهٍ): بعدَ نسيانٍ، والتلاوةُ بالأولِ. {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَنَا أُنَبِّيكُم) بالمدِّ (¬1)، وذلك أن الغلام جثا بينَ يديِ الملكِ وقالَ: إنَّ في السجنِ رجلًا يعبرُ الرؤيا. ¬

_ = (ص: 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 172). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 258)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 173).

[46]

{فَأَرْسِلُونِ} أي: فأرسلني أيها الملكُ إليه. قرأ يعقوبُ: (فَأَرْسِلُوني) بإثباتِ الياءِ بعدَ النون، والباقون: بحذفها (¬1). ... {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)} [يوسف: 46]. [46] فأرسلوه، فأتى السجنَ، ولم يكنِ السجنُ في المدينة، وإنما هو ببوصيرَ من عمل الجيزَةِ، وكان الوحيُ ينزلُ عليه فيه، وسطحُ السجنِ موضعٌ معروفٌ بإجابةِ الدعاءِ، فقال: {يوُسُفُ} يعني: يا يوسفُ. {أَيُّهَا الصِّدِّيق} فيما عبرتَ لنا من الرؤيا، والصدِّيقُ: الكثيرُ الصدقِ، ولذلك سُمِّي أبو بكرٍ صِدِّيقًا، وهو فِعِّيلٌ للمبالغةِ والكثرةِ. {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فإن الملكَ رأى هذهِ الرؤيا. {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} أي: الملكِ وأصحابِه؛ لاحتمالِ أنه يُخترَمُ في الطريق؛ لأنه لم يكنْ جازمًا بالرجوع. قرأ الكوفيون، وابن عامرٍ، ويعقوبُ: (لَعَلِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 173). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 353)، و"التيسير" للداني (ص: 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 174).

[47]

{لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} منزلتَكَ وتأويلَ الرؤيا فيخرجوكَ من السجنِ. {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)}. [47] فـ {قَالَ} يوسفُ معبرًا: أما البقراتُ السمانُ، والسنبلاتُ الخضرُ، فسبعُ سنينَ مخصباتٌ، والبقراتُ العجافُ، والسنبلاتُ اليابساتُ، فسبعُ سنينَ مجدباتٌ، ثم قالَ مرشدًا لهم: {تَزْرَعُونَ} أي: ازرعوا، فهو خبرٌ بمعنى الأمر {سَبْعَ سِنِينَ} على عادتِكم {دَأَبًا} قراءة العامةِ: (دَأْبًا) بإسكانِ الهمز؛ أي: تلازمونَ ذلكَ. وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ: بفتح الهمزِ (¬1)؛ أي: بجدٍّ وتعبٍ. {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} أي: اتركوه في أصلِه لئلا يفسدَ. {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} أي: تدرسون قليلًا للأكلِ بقدرِ الحاجةِ. {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ}. [48] {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: بعدَ السنينَ الخصبةِ. {سَبْعٌ شِدَادٌ} صعابٌ. {يَأْكُلْنَ} أي: السنونَ يُفنينَ ويُهلكنَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 349)، و"التيسير" للداني (ص: 129)، و"تفسير البغوي" (2/ 467)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 174).

[49]

{مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي: يؤكلُ فيهن ما أعددتم لهنَّ من الطعامِ، أضافَ الأكلَ إلى السنينَ على طريقِ التوسُّع. {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} تُحْرِزونَ وتَدِّخرونَ. ... {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}. [49] {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: بعدَ السنينَ المجدبةِ. {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} يُمْطَرون، من الغيثِ. {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} العنبَ والزيتَ، والمرادُ: كثرةُ النعيمِ والخير. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تَعْصِرُونَ) بالخطاب؛ لأن الكلامَ كلَّه بالخطاب، وقرأ الباقون: بالغيبِ ردًّا إلى (الناس) (¬1). ... {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}. [50] {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} وذلكَ أن الساقيَ لما رجعَ إلى الملكِ، وأخبرَه بما أفتاه يوسفُ من تأويلِ رؤياه، عرفَ الملكُ أنَّ الذي قالَه كائنٌ، فقال: عَلَيَّ بهِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 349)، و"التيسير" للداني (ص: 129)، و"تفسير البغوي" (2/ 467)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 175).

{فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} فقال: أَجِبِ الملكَ، فأبى أن يخرجَ حتى تظهرَ براءتُه، ثم {قَالَ} للساقي {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني: سيدَكَ الملكَ. {فَاسْأَلْهُ} قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَسَلْهُ) بالنقلِ (¬1). {مَا بَالُ} ما حالُ {النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ولم يذكر امرأةَ العزيزِ تأدبًا ومراعاةً لحقِّها. {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} حينَ قلنَ لي: أطعْ مولاتَك، وأراد بذلك إظهارَ براءته بعدَ طولِ المدةِ حتى لا ينظرَ الملكُ إليهِ بعينِ التهمةِ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ" (¬2)، وروي أنه قال: "رَحِمَ اللهُ أَخِي يُوسُفَ إِنْ كانَ إِلَّا ذَا أَنَاةٍ، لَوْ كُنْتَ أَنَا، لأَسْرَعْتُ الإِجَابَةَ" (¬3)، يقولُ ذلكَ هضمًا للنفس، في هذا دليلٌ على وجوبِ الاجتهادِ في نفي التُّهَمِ، ونفيِ الوقوفِ في مواقفِها، في الحديث: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يَقِفْ مَوَاقِفَ التُّهَمِ" (¬4). ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 258)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 176). (¬2) رواه البخاري (3192)، كتاب: التفسير، باب: قوله عز وجل: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}، ومسلم (151)، كتاب: الإيمان، باب: زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، عن أبي هريرة -رضى الله عنه-. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 346)، والحاكم في "المستدرك" (2948)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (3/ 136): غريب.

[51]

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)}. [51] فجمعَهنَّ الملكُ، وامرأةُ العزيزِ معهنَّ، ثم {قَالَ} مخاطبًا للنسوةِ، والمرادُ: امرأةُ العزيزِ: {مَا خَطْبُكُنَّ} أَمْرُكُنَّ {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} هلْ وجدتُنَّ منه ميلًا إليكنَّ. {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} تنزيهٌ له وتعجُّبٌ من عِفَّتِهِ {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} رِيبَةٍ، فَثَمَّ {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} معترفةً مخافةَ أن يشهدْنَ عليها {الْآنَ حَصْحَصَ} وضحَ {الْحَقُّ} وتبيَّنَ {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله، وتقدَّمَ التنبيهُ على (امْرَأَت)، و (حَاشَ للهِ)، واختلاف القراء فيهما. ... {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)}. [52] فلما علمَ ذلكَ يوسفُ في السجنِ قالَ {ذَلِكَ} التثبتُ. {لِيَعْلَمَ} العزيز {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} في زوجتِهِ {بِالْغَيْبِ} في حالِ غيبتِهِ. {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} أي: وليعلمَ أن اللهَ لا يهدي. {كَيْدَ الْخَائِنِينَ} العاصِينِ. ... {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}.

[53]

[53] رُويَ أن يوسفَ لما قالَ هذهِ المقالَة قالَ له جبريلُ عليهما السلام: ولا حينَ هَمَمْتَ؟ فقالَ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} (¬1) من الخطأ. {إِنَّ النَّفْسَ} أي: جميعَ النفوسِ {لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} بنيلِ شهوتها الرديَّةِ. {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} أي: إلا البعضَ الذي رحمَهُ ربي بالعصمةِ. {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (نَفْسِيَ) (رَبِّيَ) بفتحِ الياءِ فيهما، والباقون: بإسكانها (¬2)، واختلافُهم في الهمزتينِ من قوله (بِالسُّوءِ إِلَّا) كاختلافِهم فيهما من {هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في سورةِ البقرةِ [الآية: 31]. ... {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}. [54] فلما ظهرتْ براءتُه للملكِ، عرفَ علمَه {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ} أجعَلْه خالِصًا. {لِنَفْسِي} دونَ غيرِهِ، ووجَّهَ إليه، فأُخرج، وغُسِّلَ من دَرَنِ السجنِ، وألُبسَ ما يليقُ بالدخولِ على الملوكِ، ودعا لأهلِ السجنِ فقالَ: اللهمَّ أعطفْ عليهم قلوبَ الأخيار، ولا تُعَمِّ عليهم الأخبار؛ فهم أعلمُ الناسِ بالأخبارِ، وكتبَ على بابِ السجنِ: هذا قبورُ الأحياء، وبيتُ الأحزان، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ 2158)، والحارث بن أبي أسامة في "مسند" (716)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (2/ 160). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130 - 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 176 - 177).

[55]

وتجربةُ الأصدقاء، وشماتةُ الأعداء، وجاءَ الملكَ، فلما دخلَ عليه قال: اللهمَّ إني أسألُك من خيرهِ، وأعوذُ بعزتِك وقدريك من شرِّه، ثم سلَّم عليه، ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسانُ؟ قالَ: لسان آبائي، وكانَ الملكُ يعرفُ سبعين لسانًا، فكلمه بها، فأجابه بجميعِها، فتعجَّبَ منه، وامتلأ قلبُه من حبِّه. {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} شِفاهًا، فقالَ: أحبُّ أن أسمعَ رؤيايَ منكَ، فحكاها، ونعتَ له البقراتِ والسنابلَ وأماكنَها على ما رآها. {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ} مُمَكَّنٌ. {أَمِينٌ} مؤتمَنٌ على خزائني وأمري، فما تَرَى؟ قال: تزرعُ زرعًا كثيرًا، وتأخذُ من الناس خُمْسَ زُروعِهم في السنينَ المخصبةِ، وتَدَّخِرُ الجميعَ في سُنبلِهِ ليكونَ قصبهُ وسنبلُه عَلَفًا للدوابِّ، ويكفيكَ ولأهلِ مصرَ السنينَ المجدبةَ، ويأتيكَ الخلقُ من النواحي، فتمتارُ منكَ في حكمِك، ويُجمَعُ عندك من الكنوز ما لم يُجْمَعْ لأحدٍ قبلَكَ، فقالَ الملك: ومن لي بذلك؟ ... {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. [55] {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} أي: أرضِ مملكتِكَ. {إِنِّي حَفِيظٌ} حافظٌ عليها {عَلِيمٌ} عالمٌ بوجوهِ التدبيرِ والتصرُّفِ، وإنما طلبَ ذلكَ شفقةً على المسلمينَ، لا منفعةً لنفسِه، فخَلَعَ عليه خِلَعَ الملوكِ، وألبسَه تاجًا، وأمرَ أن يُطافَ به، وركب الجيشُ معهُ، وعزلَ قِطفيرًا وجعلَه مكانَه مستخْلَفًا على الملكِ، وتردَّدَ إلى قصرِ الملكِ، وجلسَ

[56]

على سريرِ العزيزِ، وماتَ قِطفيرٌ، فزوَّجَه امرأتَه زليخا، فوجدها عذراءَ، فقال لها يوسفُ: هذا خيرٌ مما أردتِ، فقالت: اعذرْني؛ إنَّ زوجي كانَ عِنِّينًا، ولم تَرَكَ امرأةٌ إلا صَبا قلبُها إليكَ من حسنِك. ... {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)}. [56] ولم يزلْ يتلطَّفُ بالملِكِ حتى آمنَ، واتبعَ يوسفَ على دينِه، وكثيرٌ من الناسِ، ويوسفُ عليه السلام هو الذي بنى مدينةَ الفَيُّومِ من أعمالِ مصرَ، واستوثقَ له ملكُ مصرَ، فأقام فيهم العدلَ، وأحبَّه الرجالُ والنساءُ، فذلك قولُه تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} يعني: أرضَ مصرَ {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا} أي: ينزل {حَيْثُ يَشَاءُ} قرأ ابنُ كثيرٍ: (نَشَاءُ) بالنون، ردًّا على قوله: (مَكَّنَّا)، وقرأ الباقونَ: بالياءِ ردًّا على قوله (يَتبَوَّأ) (¬1). {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} أي: بنعمتِنا {مَنْ نَشَاءُ} في الدنيا والآخرة. {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الصابرين. ... {وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}. [57] {وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الشركَ، ثم جاءَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 349)، و"التيسير" للداني (ص: 129)، و"تفسير البغوي" (2/ 472)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 177).

[58]

القحطُ، وكانَ يوسفُ لا يشبعُ مدةَ القحطِ مخافةَ نِسيانِ الجياعِ، فباعَ الطعامَ من أهلِ مصرَ في السنةِ الأولى بالدنانيرِ والدراهمِ، والثانيةِ بالحليِّ والجواهرِ، وفي الثالثةِ بالدوابِّ والمواشي، وفي الرابعةِ بالعبيدِ والإماءِ، وفي الخامسةِ بالضِّياعِ والعقارِ، وفي السادسةِ بأولادِهم، وفي السابعةِ برقابِهم، فقال يوسفُ للملكِ: كيف رأيتَ صنيعَ ربِّي فيما خَوَّلَني، فما ترى؟ قال: الرأيُ رأيُكَ، ونحن لكَ تَبَعٌ، قال: إني أُشهِدُ اللهَ وأُشهدِكَ أَنِّي قد أعتقتُ أهلَ مصرَ عن آخرِهم، وردَدْتُ عليهم أملاكَهم. ... {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}. [58] وكان يوسفُ لا يبيعُ أحدًا من المجتازين إلا حِمْلَ بعيرٍ تقسيطًا بينَ الناسِ، وتزاحمَ الناسُ عليه، وأصابَ أرضَ كنعانَ وبلادَ الشام ما أصابَ أرضَ مصرَ من القحطِ، ونزلَ بيعقوبَ ما نزلَ بالناسِ، وكان منزلُه بأرضِ فلسطينَ بغورِ الشام، فأرسلَ بنيهِ العشرةَ إلى مصرَ للميرةِ، وأمسكَ بنيامينَ شقيقَ يوسفَ، فذلك قولُه تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} تقدَّمَ اختلافُ القراء في الهمزتين من قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ} في سورة البقرة [الآية: 133] وكذلك اختلافُهم في (وَجَاءَ إِخْوَةُ). {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} أنهم إخوتُه. {وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} لبعدِ عهدِهم، وقلةِ تأملِهم في حلاهُ من التَّهَيُّبِ والاستعظامِ. ***

[59]

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)}. [59] وكانَ بين أن قذفوه في البئرِ وبينَ أن دخلوا عليه أربعين سنة، فلما نظر إليهم يوسفُ وكلَّموهُ بالعبرانيةِ، قالَ: "أخبروني من أنتم؟ قالوا: قومٌ من أرض الشام، قال: بل أنتم جواسيسُ جئتُم تَطَّلِعون على عورة بلادي، قالوا: لا والله! لسنا بجواسيس، وإنما جئنا نمتارُ، ونحن إخوةُ بنو أبٍ واحدٍ، وهو شيخٌ صديقٌ نبيٌّ من أنبياءِ الله، وكان قد قال لنا: إن بمصرَ مَلِكًا صالحًا، فانطلقوا إليه، وأقرؤوه مِنِّي السلامَ، وهو يقْرِئُكَ السلامَ، فبكى يوسفُ وعصرَ عينيه، وكنا اثني عشرَ، هلكَ منا واحدٌ وبقي منا واحدٌ عندَه يتسلَّى به عن أخيه الهالك، قال: فاتركوا بعضكم رهينةً عندي، وأتوني بأخيكم من أبيكم، ويراسلني أبوكم على لسانِه، ويخبرني أبوكم مِمَّ حزنُه حَتَّى أصدقَكم، فتركوا عندَه شمعونَ، وكان يوسفُ يحسِنُ إليه. {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أعطَى لكلٍّ منْهم حِمْلَ بعيرَ، والجهازُ: ما يُهَيّأُ لمن يُشَبَّعُ. {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} يعني: بنيامينَ. {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} أُتِمُّهُ، فأزيدكم حملَ بعيرٍ لأجلِ أخيكم. {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} المضيفينَ، وكان قد أحسنَ ضِيافَتَهم. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ بخلافٍ عن الثاني: (أَنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 353)، و"التيسير" للداني (ص:131) , و"النشر في القراءات العشر" لابن الجوزي (2/ 296) , و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 178).

[60]

{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)}. [60] ثم قال تهديدًا: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} أي: ليس لكم عندي طعامٌ أَكيلُه لكم. {وَلَا تَقْرَبُونِ} في داري وبلادي، و (تَقْرَبُونِ) جزم نهي. قرأ يعقوبُ: (تَقْرَبُوني) بالياء بعدَ النونِ، والباقون: بحذفها (¬1). ... {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)}. [61] {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} سنطلُبه منه باجتهادٍ ورفقٍ. {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ما أمرتنَا به. ... {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}. [62] {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} قرأ حمزةُ، والكسائيٌ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (لِفِتْيَانِهِ) بألفٍ بعدَ الياءِ ونونٍ مكسورةٍ، جمعُ فَتىً جمعَ كَثْرَة، وقرأ الباقون: (لِفِتْيَتِهِ) بتاءٍ مكسورةٍ بعدَ الياء من غيرِ ألفٍ، جمعُ فَتىً أيضًا جَمْعَ قِلَّةٍ (¬2)، معناه: قال لغلمانه: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 349)، و"التيسير" للداني (ص: 129)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 178). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 475)، والمصادر السابقة.

[63]

{اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} أي: أثمانَ ما أخذوه {فِي رِحَالِهِمْ} أَوْعِيَتِهم. {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} أي: كرامتَهم علينا. {إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إذا رأوا إحسانَه إليهم، وليعلموا أنه لم يطلبْ عودَهم لأجلِ الثمنِ، وأنهم إذا رأوا الثمنَ عادوا؛ لأنهم لا يستحلُّون أكلَه. ... {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)}. [63] {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} قرأ يعقوبُ: (أَبِيهُمُ) بضمِّ الهاء، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وقالونُ بخلافٍ عن الثالثِ، (أَبِيهِمُو) بضمِّ الميم ووصْلِها بواوٍ في اللفظِ حالةَ الوصل. {قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ} أي: يُمْنَعُ {مِنَّا الْكَيْلُ} إنْ لم نحملْ أخانا إليه، وذكروا إحسانَهُ، وأنه قد ارتهنَ شمعونَ، وأخبروه بالقصةِ، والمرادُ بالكيل: الطعامُ؛ لأنه يُكالُ. {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} بنيامينَ {نَكْتَلْ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَكْتَلْ) بالياء؛ أي: يكتلْ لنفِسه كما نكتالُ نحن، وقرأ الباقون: بالنون، بمعنى نكتلْ نحن وهوَ الطعامَ (¬1) {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ضامنونَ بردِّه إليك. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 350)، و"التيسير" للداني (ص: 129)، و"تفسير البغوي" (2/ 476)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295 - 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 179).

[64]

{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}. [64] {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} يوسفَ. {مِنْ قَبْلُ} أي: كيفَ آمنُكم عليه وقد فعلتُم بيوسفَ ما فعلْتُم؟ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (حَافِظًا) بألفٍ بعدَ الحاءِ وكسرِ الفاءِ على التفسير؛ كما يقال: هو خيرٌ رَجُلًا، وقرأ الباقون: بكسرِ الحاءِ وإسكانِ الفاءِ من غيرِ ألفٍ على المصدرِ، يعني: خيرَكم حِفْظًا (¬1)، ونصبُه تمييز في الوجهين، المعنى: ولكنَّ حفظَ اللهِ خيرٌ من حفظِكم إياه، وحفظي، رُوي أنه لما قالَ ذلكَ، قال تعالى: وعِزَّتي لأردَّنَّ عليكَ كليهما. {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فأرجو أن يرحَمَني بحفظِه. ... {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)}. [65] {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} الذي حملوه من مصر {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ} ثمنَ الطعامِ {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} فعندَ عودِ بضاعتهم إليهم. {قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي} من البغي؛ أي: ما نكذِبُ على هذا الملكِ، ولا في وصفِ إجمالِه وإكرامِه. ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة.

[66]

{هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} فهذا هو العيانُ من الإحسانِ، أوفى لنا الكيلَ، وردَّ علينا الثمنَ، أرادوا تطييبَ نفسِ أبيهم. {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} نجلبُ لهم الطعامَ {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بنيامينَ في الذهابِ والمجيء. {وَنَزْدَادُ كَيْلَ} أي: وِقْرَ {بَعِيرٍ} نَصيبَ أخينا. {ذَلِكَ} أي: حملُ البعيرِ {كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي: ذلكَ مكيلٌ قليلٌ لا يكفينا، يعنون: ما يُكالُ لهم، وأرادوا أن يزدادوا إليه ما يُكالُ لأخيهم. ... {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}. [66] {قَالَ} لهم يعقوبُ: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ} أثبتَ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ الياءَ بعدَ النونِ في (تُؤْتُوني) وصلًا، وأثبتَها ابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ في الحالين (¬1). {مَوْثِقًا} عَهْدًا {مِنَ اللَّهِ} مؤكَّدًا. {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} أي: تردُّونَه إليَّ {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي: إلا أن تهكِوا جميعًا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 354)، و"التيسير" للداني (ص: 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 180 - 181).

[67]

{فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أعطَوْه عهدَهم {قَالَ} يعقوبُ: {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} شهدٌ. ... {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}. [67] {وَقَالَ} لهم يعقوبُ لما أرادوا الخروجَ من عندِه: {يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} خافَ عليهِمُ العينَ؛ لجمالِهم، والمدينةُ التي أمرَهم أن يدخلوها من أبوابٍ متفرقةٍ هي الفَرْما، وهي أولُ مدنِ مصرَ من جهةِ الشَّمال بالقربِ من قَطْيا، وهي قريةُ أمِّ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ عليهما السلام، وكان لها أربعةُ أبواب، فدخلوا منها. {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} لا أقولُ ذلك دَفْعًا لما قضي، سواءٌ دخلتُم متفرقين أو مجتمعين. {إِنِ الْحُكْمُ} أي: ما الحكمُ {إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدْتُ. {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وإلى اللهِ فليفوِّضْ أمورَهم المفوِّضونَ. ... {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)}. [68] {وَلَمَّا دَخَلُوا} متفرقينَ {مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} من الأبوابِ المتفرقةِ.

[69]

{مَا كَانَ يُغْنِي} رأيُ يعقوبَ {عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ} من قضائِه {مِنْ شَيْءٍ} لأنهم سُرِّقوا وافْتُضِحوا، وأُخِذَ أخوهم منهم , وازدادَ حزنُ أبيهم {إِلَّا} لكنْ {حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} هي الشفقةُ عليهم. {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} أي: هو عالمٌ عاملٌ بتعليمِنا إياه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ما علمَ يعقوبُ. ... {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. [69] {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنَا أن نأتيكَ به، قد جِئْنا به، فقال: أحسنتُم وأصبتُم، وستجدون ذلكَ عندي، ثم أنزلَهم وأكرمَهم وأجلسَ كلَّ اثنينِ منهم على مائدةٍ، فبقيَ بنيامينُ وحدَه، فبكى وقال: لو كانَ أخي يوسفُ حيًّا لأجلسَني معه، فأجلسَه يوسفُ معه، وجعلَ يؤاكِلهُ، وأنزلَ كلَّ اثنينِ في مكانٍ، فلم يبقَ لبنيامينَ ثانٍ، فقالَ: هذا لا ثانيَ له، فيكون معي، فباتَ عندَ يوسفَ فذلك قولُه عز وجل: {آوَى} أي: ضمَّ {إِلَيْهِ أَخَاهُ} فلما خلا به، قال له: ما اسمُك؟ قال: بنيامينُ، قال: أتحبُّ أن أكونَ أخاكَ بدلَ أخيكَ الهالكِ؟ فقال: ومَنْ يجدُ مثلَكَ؟ ولكنْ لم يلدْك يعقوبُ، ولا راحيلُ، فبكى يوسفُ وقامَ إليه وعانقَهُ، و {قَالَ} له: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} يوسفُ. قرأ أبو عمرٍو، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1)، وقرأ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130 - 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن =

[70]

نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَنَا أَخُوكَ) بالمدِّ (¬1). {فَلَا تَبْتَئِسْ} أي: لا يلحقك بؤسٌ، وهو الشدةُ. {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بِنا فيما مضى؛ فقد أحسنَ اللهُ إلينا، وجمعَنا، فلا تُعْلِمْهم بأمرِنا، فقال: لا أفارقكَ، فقال: قد علمتَ اغتمامَ والدي بي، وإذا احتبستُكَ، ازدادَ غَمُّهُ، ولا يمكِنُني أخذُك إلا بعدَ أن أرميَكَ بالسرقةِ، فقالَ: افعلْ ما شئتَ. ... {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)}. [70] فوفى يوسفُ الكيلَ لكلِّ واحدٍ من إخوته حِمْلَ بعير، وحَمَّلَ لبنيامينَ بعيرًا باسمِه كما حَمَّلَ لهم {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي: هَيَّأَ لهم أسباب الميرةِ، {جَعَلَ السِّقَايَةَ} وهيَ مكيالٌ يُكالُ به، ويشربُ فيه الملكُ. {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} بنيامينَ، فلما انفصلوا عن مصرَ نحوَ الشام، أرسلَ يوسفُ من استوقَفهم فوقفوا. {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى منادٍ. قرأ أبو جعفر، وورشٌ عن نافع: (مُوَذِّنٌ) فتح الواوِ بغيرِ همزٍ (¬2). ¬

_ = الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 181). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 259)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 266)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 181). (¬2) المصادر السابقة.

[71]

{أَيَّتُهَا الْعِيرُ} أي: القافلةُ، والمرادُ: أهلُها، والأصلُ في العيرِ أن تكونَ حميرًا، ثم كثرَ ذلكَ حتى قيل لكلِّ قافلةٍ: عيرٌ {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} وصفَهم بالسرقةِ من حيثُ سرقَ في الظاهرِ أحدُهم، وهذا كما تقولُ: بنو فلانٍ قتلوا فلانًا، وإنما قتلَه أحدُهم. ... {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)}. [71] {قَالُوا} إخوةُ يوسفَ {وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} عطفوا على المؤذِّنِ وأصحابه: {مَاذَا} أي: ما الذي {تَفْقِدُونَ}؟ والفَقْدُ: غيبةُ الشيءِ عن الحسِّ بحيثُ لا يُعرفُ مكانُه. ... {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}. [72] {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} هو جامٌ كهيئةِ المكوكِ من فِضَّة. قرأ أبو عمرٍو: {نَفْقِدُ صُوَاعَ} بإدغام الدال في الصاد (¬1). {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ} بالصُّواع {حِمْلُ بَعِيرٍ} من طعامٍ. {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} ضمينٌ لمن ردَّه، يقولُه المؤذِّنُ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 182).

[73]

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)}. [73] {قَالُوا} يعني: إخوةَ يوسفَ {تَاللَّهِ} أي: واللهِ! وخُصَّتْ هذهِ الكلمةُ بأنْ أُبدِلَتِ الواوُ فيها بالتاءِ في اليمينِ دونَ سائرِ أسماءِ اللهِ تعالى. {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} استَشْهَدوا بعلمِهم لما ظهرَ من دينهم وأمانتِهم {مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} أرض مصرَ {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} ما سَرَقْنا قط. ... {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)}. [74] {قَالُوا} يعني: المناديَ وأصحابه {فَمَا جَزَاؤُهُ} أي: السارقُ، أو الصواعِ، أي: جزاءُ سرقتِهِ {إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} في قولكم؟ ... {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)}. [75] {قَالُوا جَزَاؤُهُ} مبتدأٌ، خبرُهُ {مَنْ وُجِدَ} السَّرَقُ {فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي: جزاءُ السارقِ أن يسلَّم إلى المسروقِ منه، فيسترقَّهُ سنةً، وهذا حكمُ السارقِ في شرعِ يعقوبَ {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} بالسرقةِ. ... {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}.

[76]

[76] {فَبَدَأَ} المفتشُ، وقيل: يوسفُ؛ لأنهم رُدُّوا إلى مصر {بِأَوْعِيَتِهِمْ} لإزالةِ التهمَةِ {قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} بنيامينَ، فلم يجدْ شيئًا. {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا} أي: السرقةَ {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} واختلافُ القراء في حكمِ الهمزتينِ من قوله: (وَعَاءِ أَخِيهِ) كاختلافِهم فيهما من (خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ) في سورة البقرة [الآية: 235]. {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي: علَّمناهُ، وأوحينا إليه. {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} أي: لم يكنْ له أخذُ أخيه {فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي: حكمِ ملكِ مصرَ، وهو أن يغرمَ السارقُ مثلَيْ ما أَخَذَ، ويُضربَ، لا أن يُستعبَدَ، فأجرى اللهُ على ألسنةِ إخوتِه حكمَ دينهم؛ ليصحَّ أخذُه منهم. {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الاستثناءُ في هذه الآية حكايةُ حالٍ التقديرُ: إلا أن يشاءَ اللهُ ما وقعَ من هذهِ الحيلةِ. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بالعلمِ والعملِ؛ كيوسف. قراءة العامةِ: (نَرْفَعُ) و (نَشَاءُ) بالنون فيهما، وأهلُ الكوفةِ ينونون (دَرَجَاتٍ)، وقرأ يعقوبُ: (يَرْفَعُ) و (يَشَاءُ) بالياء فيِهما (¬1). {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ} من الخلقِ. {عَلِيمٌ} واللهُ فوقَ كلِّ عالم، ولا يناسُبه أحدٌ في علمِه. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 482)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 260)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 184 - 185).

[77]

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)}. [77] {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ} بنيامينُ {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} أرادوا يوسُفَ، وكانَ دخلَ كنيسةً فأخذَ صنمًا صغيرًا من ذَهَبٍ فدفَنَهُ، وقيلَ غيرُ ذلك. {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} أي: أضمرَ مقالَتَهم كأنْ لم يسمَعها. {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} أي: مكانةً في السرقةِ حيث سرقتُم أخاكم. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} تقولون، والمشهورُ أنه ذكرَها في نفسِه، ولم يصرِّحْ بها لإخوتِه. ... {قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)}. [78] وفي القصةِ أنهم غضبوا غضبًا شديدًا، وكان بنو يعقوبَ إذا غَضِبوا لا يُطاقون، وكانَ منهم مَنْ إذا صاحَ غَضَبًا ألقتِ الحواملُ أَجِنَّتَها خوفًا، وهو روبيلُ وكانَ إذا مسَّهُ أحدٌ من ولدِ أبيهِ، سكنَ غضبهُ، فقالَ لإخوتهِ اكفوني الملكَ، وأكفيكُم الأسواقَ، أو اكفوني الأسواقَ وأكفيكُم الملكَ، فدخلوا على يوسفَ، فقالَ روبيلُ: لتردَّنَّ علينا أخانا، أو لأصيحَنَّ صيحةً لا يبقى بمصرَ حامِلٌ إلا ألقَتْ ولدَها، وقامت كلُّ شعرةٍ في جسدِهِ

[79]

فخرجَتْ من ثيابه، فقالَ يوسفُ لابنٍ له صغيرٍ اسمُهُ أفرايينُ: قمْ إلى روبيلَ فمسَّهُ، ففعلَ، فسكنَ غضبهُ، فقالَ: إنَّ هنا بذرًا من بذرِ يعقوبَ، قال يوسفُ: ومَنْ يعقوبُ؟ قالَ: أيُّها الملكُ! لا تذكرُ يعقوبَ؟ إنَّه إسرائيلُ اللهِ ابنُ ذبيحِ اللهِ ابنِ خليلِ اللهِ، ورُوي أنه غضبَ ثانيةً، فركضَه يوسفُ برجله فوقعَ على الأرضِ، فقالَ: أنتم معشرَ العبرانيين تظنون أَنْ لا أحدَ أشدُّ منكم، فَثَمَّ خضعوا. و {قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} يحبُّه كثيرًا يشقُّ عليه فِراقُه {فَخُذْ أَحَدَنَا} عبدًا ورهينةً {مَكَانَهُ} بدلًا منهُ. {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إلينا في الكيل والضيافةِ، فتمِّمْ إحسانَكَ. ... {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}. [79] {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} مصدرٌ؛ أي: نعوذُ باللهِ معاذًا من {أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} ولم يقلْ: مَنْ سرقَ؛ تحرُّزًا من الكذبِ. {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} إنْ أخذْنا بريئًا بمجرمٍ. ... {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)}. [80] {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} يَئِسُوا من أخيهم. قرأ أبو جعفرٍ، والبزيُّ

عن ابنِ كثيرٍ بخلافٍ عنهما (اسْتَايَسُوا) و (لا تَايَسُوا) (لا يَايَسُ) (اسْتَايَسَ) بالألفِ وفتحِ الياءِ من غيرِ همزٍ، والباقون: بالهمزِ، وإسكانِ الياءِ من غيرِ ألفٍ في اللفظِ، وإذا وقفَ حمزةُ، ألقى حركةَ الهمزةِ على الياءِ على أصلِه (¬1). {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي: تخلَّصوا من الناسِ يتناجَوْنَ في تدبيرِ أمورِهم سِرًّا؛ لأن النجيَّ مَنْ تسُارُّهُ، وهو مصدرٌ يعمُّ الواحدَ والجمعَ، والذكرَ والأنثى. {قَالَ كَبِيرُهُمْ} في السنِّ، وهو روبيلُ الذي نهى عن قتلِ يوسفَ {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا} عهدًا {مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ} هذا {مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} قَصَّرْتُم في شأنِه، و (ما) مزيدةٌ. {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} لن أفارقَ أرضَ مصرَ. {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الانصرافِ إليه. {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بردِّ أخي، أو بوحيٍ يُبَرِّئُني عندَ أبي. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أعدلُ مَنْ فصلَ بينَ الناسِ. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ: (لِي أَبي) بإسكانِ الياء، وافقَهم ابنُ كثيرٍ في (لِي)، والباقون: بفتحِها (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 352)، و"التيسير" للداني (ص: 129)، و"تفسير البغوي" (2/ 467)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 405 - 406)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 186). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130 - 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 186).

[81]

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)}. [81] {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} هذا من قولِ كبيرِهم، وقيل: من قولِ يوسفَ عليه السلام، والأولُ أظهرُ {فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ} بنيامينَ. (سَرَقَ) وأخذَ ما لم يؤتَمَنْ عليه في خُفْيَةٍ. {وَمَا شَهِدْنَا} بأنَّ السارقَ يسترَقُّ {إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} من سُنَّتِكَ. {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: لم نعلمْ أنه يسرقُ، وقيل: معناه: وما شهدْنا عليه إلا بما علمْ؛ نا أي: لا نقطعُ عليه بالسرقةِ، لكنَّا رأينا الصواعَ قد أُخرج من رحلِه، وما كُنا لِما غابَ من أمورِه في نهارِه وليلِه حافظينَ. ... {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)}. [82] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} أي: أهلَ القرية، وهي مصرُ. قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَسَلْ) بالنقلِ، والباقون: بالهمز (¬1). {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: الإبلَ التي عليها الأحمالُ، والمرادُ: أصحابُها؛ لأنهم كانوا قد صحبهم قافلةٌ من كنعانَ من جيرانِ يعقوبَ، المعنى: أرسلْ إلى أهلِ مصرَ وأصحابِ العيرِ فاسأَلْهم عن ذلكَ. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في قولنا. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 259)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 267)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 186 - 187).

[83]

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}. [83] فرجعوا إلى أبيهم، وذكروا له ما قالَهُ كبيرُهم {قَالَ} يعقوبُ: {بَلْ سَوَّلَتْ} زَيَّنَتْ {لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} أردتُموه، وإلا فما أَدرى الملكَ بِسُنَّتي لولا فتواكُم، والسُّولُ: ما يتمنَّاه الإنسانُ ويحرِصُ عليه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ: (بَل سوَّلَتْ) بإدغامِ اللام في السين، والباقون: بالإظهارِ (¬1). {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ليسَ فيه شكوى ولا ضجرٌ بقضاءِ الله، ثم تَرَجَّى من اللهِ فقالَ: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يوسفَ وبنيامينَ وكبيرِهم المقيمِ بمصرَ {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بحالي {الْحَكِيمُ} بتدبيرِ خَلْقِهِ. ... {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}. [84] {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي: أعرضَ؛ كراهةً لما صادفَ منهم. {وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} والأسفُ: شدةُ الحزنِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَا أَسَفي) بالإمالة، ورُوي عن أبي عمرٍو: الفتحُ والإمالةُ بينَ بينَ، ووقفَ رويسٌ راوي يعقوبَ بخلافٍ عنه: (يَا أَسَفَاهُ) بزيادةِ هاءٍ بعدَ الألف (¬2). ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 49 - 50)، و"إتحاف فضلاء =

[85]

{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} عَمِيَ بصرُه من ملازمةِ البكاء، فلم يُبْصرْ بهما سِتّ سنينَ. {فَهُوَ كَظِيمٌ} حابسٌ حزنَه لا يظهِرُه. ... {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)}. [85] {قَالُوا} أولادُ يعقوبَ: {تَاللَّهِ} بمعنى: واللهِ! {تَفْتَأُ} أي: لا تزال، وحُذِفَتْ (لا) في هذا الموضعِ منَ القسمِ لدلالةِ الكلامِ عليها؛ تقديرُه: تالله لا تفتأ. {تَذْكُرُ يُوسُفَ} لا تفتُرُ من حُبِّهِ. {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} باليًا من المرضِ. {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} الميتينَ. ... {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)}. [86] {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي} هو أشدُّ الحزنِ الذي لا يصبرُ عليه صاحبُه حتى يَبُثَّهُ أو يَشْكُوَهُ. {وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} والحزنُ: هو أشدُّ الهَمِّ. قرأ الكوفيون، وابنُ كثيرٍ، ¬

_ = البشر" للدمياطي (ص: 267)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 187).

ويعقوبُ: (حُزْنِي) بإسكانِ الياءِ، والباقون: بفتحها (¬1). {وَأَعْلَمُ} يا بنِيَّ {مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وهو أن رؤيا يوسفَ صادقة وأنه حيٌّ، وأني وأنتم سنسجدُ له. روُي أنه قيلَ له: يا يعقوبُ! ما الذي أذهبَ بصرَكَ، وقَوَّسَ ظَهْرَكَ؟ قالَ: أذهبَ بصري بُكائي على يوسفَ، وقوَّسَ ظهري حُزْني على أخيه، فأوحى الله إليه: أَتشكوني؟! وَعِزَّتي لا أَكْشِفُ ما بِكَ حَتَّى تدعوَني، فقال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى} فأوحى الله إليه: وعِزَّتي لو كانا ميتينِ لأَخْرَجْتُهما لك، وإنما وَجَدْتُ عليكم أنكم ذبحتم شاةً، فقامَ ببابِكم مسكينٌ فلم تُطعموه منها شيئًا، وإنَّ أحبَّ خلقي إليَّ الأنبياءُ، ثم المساكينُ، فاصنعْ طعامًا، فادعُوا عليه المساكينَ، فصنعَ طعامًا، ثم قالَ: من كانَ صائمًا، فليفطرِ الليلةَ عندَ آلِ يعقوبَ. وقد حُكي أن ابتلاءَ يعقوبَ بيوسفَ كان سببهُ التفاتَه في صلاتِه إليه ويوسفُ نائمٌ؛ محبةً له. فإن قيل: كيف استجازَ يوسفُ أن يعملَ مثلَ هذا بأبيه، ولم يخبرْه بمكانِه، وحبسَ أخاهُ معَ علمِه بشدةِ وَجْدِ أبيه؛ ففيه معنى العُقوقِ، وقطيعةُ الرحمِ، وقلةُ الشفقةِ؟ فالجوابُ: أنه عملَ ذلكَ بأمرِ الله تعالى، أمرَهُ به ليزيدَ في بلاءِ يعقوبَ، فيضاعِفَ له الأجرَ، ويلحقَه في الدرجةِ بآبائِه الماضين، واللهُ أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 352)، و"التيسير" للداني (ص: 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 188).

[87]

{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}. [87] {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي: تَطَلَّبوا خبرَهما، والتحسُّسُ بالحاء: طلبُ الشيءِ بالحاسَّةِ في الخير، وبالجيم: في الشر، والتلاوة بالأولِ. {وَلَا تَيْأَسُوا} تَقْنَطوا مِن {مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} أي: رحمتِه التي يحيي بها العبادَ {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} باللهِ. ... {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)}. [88] فخرجوا راجعينَ إلى مصرَ حتى وصلوا إليها، فدخلوا على يوسف. {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ} بلغةِ مصرَ: الملكُ. {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} الجوعُ والشدةُ {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} رَديئة أو قليلةٍ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (مُزْجَاةٍ) بالإمالة، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 260)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 267)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 189).

[89]

{فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} الذي نستحقُّه {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} أي: تفضَّلْ بالمسامحةِ والإغضاء عن رداءةِ البضاعةِ، وكانت دراهمَ زيُوفًا لا تؤخَذُ إلا بنقصانٍ، واستدلَّ مالكٌ وغيرهُ من العلماءِ بقوله: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} على أن أجرةَ الكَيَّالِ على البائعِ، وكذلكَ الوزَّان، لأنَّ الرجلَ إذا باعَ عِدَّةً معلومةً من طعامٍ، أَوجَبَ العَقْدُ عليه أن يُفْردَها بعيِنها، ويحوزَها المشتري، والحكمُ كذلكَ بالاتفاقِ حيثُ كانَ المبيعُ مَكيلًا أو مَوْزونًا، أما إذا كانَ الثمنُ كذلكَ، فالأجرةُ على المشتري عندَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ، وفي مذهبِ مالكٍ خلافٌ. {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} والتصدُّقُ: التفضُّل. وسمعَ الحسنُ إنسانًا يقولُ: اللهمَّ تصدَّقْ عليَّ، فقالَ: إن الله لا يتصدَّقُ، وإنما يتصدَّقُ مَنْ يبتغي الثوابَ، ولكنْ قل: اللهمَّ أَعْطِني، أو تفضَّلْ عليَّ، أو ارحَمْني، ونحوَهُ. ... {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)}. [89] فلما كلموه بهذا الكلام، أدركَتْهُ الرِّقَّةُ، فارفضَّ دمعُه، وباحَ بالذي يكتُمُ. {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} إِذْ فَرَّقْتُم بينَهما، وصنعتُم ما صنعتُم. {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} لا تعلمونَ قبحَه، فلذلكَ أقدمْتُم عليه؟ ***

[90]

{قَالُوا أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)}. [90] ثم تعرَّفَ لهم فعرفوهُ، و {قَالُوا أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (إِنَّكَ) بهمزةٍ واحدةٍ على الخبرِ، والباقونَ: بهمزتينِ، على الاستفهام، وهم على أُصولهم، فالكوفيونَ، وابنُ عامرٍ، وروحٌ عن يعقوبَ: بتحقيقِ الهمزتينِ، وورشٌ ورويسٌ: يحققان الأولى، ويسهِّلانِ الثانيةَ، وأبو عمرٍو، وقالونُ عن نافعٍ: يسهِّلانِ الثانيةَ، ويُدْخلان بينهما ألفًا (¬1). {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} من أبي وأمي. {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بأنْ جمعَ بينَنا. {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ} اللهَ {وَيَصْبِرْ} على امتثالِ الأمرِ واجتنابِ النهي. قراءة العامة: (يَتَّقِ) بحذفِ الياءِ في الحالين، جزمٌ (بمَنْ)؛ لأنها شرطٌ، وقرأ قنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ: (يَتَّقِي) بإثباتِ الياءِ في الحالينِ لغةً للعربِ يُثبتون الياءَ في الجزمِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 351)، و"التيسير" للداني (ص: 130)، و"الكشف" لمكي (2/ 14)، و "تفسير البغوي" (2/ 493)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 190). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 351)، و"التيسير" للداني (ص: 131)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 267)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 191).

[91]

{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} المتَّصفين بهذهِ الصفاتِ. ... {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)}. [91] {قَالُوا} معتذرينَ: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ} أي: فَضَّلَكَ {عَلَيْنَا} بالصبرِ والحلمِ والعقلِ. {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أي: وما كُنَّا في صنيعِنا بكَ إلا مخطئينَ مُذْنبين، يقالُ: خَطَأَ: إذا تعمَّدَ، وأخطأَ: إذا كانَ غيرَ متعمدٍ. ... {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}. [92] فلما اعترفوا بذنوبهم {قَالَ لَا تَثْرِيبَ} لا تقريعَ ولا توبيخَ. {عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} ولا أذكرُ لكم ذنبَكُم بعدَ اليومِ، ثم دعا لهم؛ تطييبًا لقلوبِهم. {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} ما صدرَ منكم في حَقِّي {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ولما عرفوه، قالوا له: نستحيي من الحضور لديكَ؛ لإساءتِنا إليك، فقال: لقدْ شُرِّفْتُ بكم؛ لأنَّ المصريينَ وإنْ ملكتُهم ما ينظرونَ إليَّ إلا بالعينِ الأولى؛ لأني كنتُ عبدًا فيهم. ***

[93]

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)}. [93] ثم سألَهم عن أبيه فقالوا: عَمِي، فقال: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} هو قميصُ إبراهيمَ الذي ألبسَهُ إياه جبريلُ حين ألُقي في النار، وكان معلَّقًا في عنق يوسفَ حينَ ألُقي في الجبِّ كما تقدّمَ في أول القصةِ، ففي هذا الوقتِ جاء جبريلُ عليه السلام، وقال: أرسلْ ذلكَ القميصَ؛ فإن فيه ريحَ الجنةِ، لا يقعُ على مبتلًى ولا سقيمٍ إلا عُوفيَ. {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ} يعود {بَصِيرًا} حالٌ؛ أي: مُبْصِرًا. {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ} بأبيكم وأهلِه {أَجْمَعِينَ}. ... {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)}. [94] فقال يهوذا: أنا أَحْزَنْتُه بالقميصِ الملطَّخِ بالدَّمِ، فسأُفرِحُهُ بهذا القميصِ، فحملَه من مصرَ إلى كنعانَ، وبينهما ثمانونَ فرسخًا. {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أي: انفصلَتْ، وخرجَتْ من عمرانِ مصرَ. {قَالَ أَبُوهُمْ} يعقوبُ لحاضريهِ من حَفَدَتِهِ: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} لأن الصَّبا حملتْ ريحَ يوسفَ من ثمانينَ فرسخًا، فأوجدَهُ اللهُ ريحَ القميصِ من مسيرةِ ثمانِ ليالٍ. {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} تُجَهِّلُونِ، والفَنَدُ: الخَرَفُ، يُقال: شَيْخ مُفَنَّدٌ، ولا يُقال: عجوز مُفَنَّدَةٌ؛ لأنه لم يكن لها رأيٌ في شبيبِتها فتفندَ في كبرِها.

[95]

قرأ يعقوبُ: (تُفَنِّدُونِي) بإثباتِ الياءِ، والباقون: بحذفها (¬1). ... {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)}. [95] وكانوا يعتقدونَ موتَ يوسفَ، فلذلك {قَالُوا} يعني: أولادَ أولادِه. {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} أي: في خَطَئِكَ في حُبِّ يوسفَ قديمًا، وتعتقدُ أنك تلقاهُ حديثًا، والضلالُ: هو الذهابُ عن طريقِ الصوابِ. ... {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)}. [96] {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} أي: المبشِّرُ عن يوسفَ، وهو يَهوذا {أَلْقَاهُ} أي: القميصَ {عَلَى وَجْهِهِ} وجهِ يعقوبَ. {فَارْتَدَّ} فرجعَ {بَصِيرًا} فَثَمَّ {قَالَ} لأولادِ أولادِه: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من حياةِ يوسفَ. ورُويَ أنَّ يعقوبَ سألَ البشيرَ عن يوسفَ، قال. ملكَ مصرَ، قال: وما أصنعُ بالملكِ، على أيِّ دينٍ هو؟ فالَ: على الإسلامِ، قالَ: الآنَ تَمَّتِ ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 192).

[97]

النعمةُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ: (إِنِّيَ أَعْلَمُ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)}. [97] {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} مذنبين. قرأ أبو جعفرٍ: (خَاطِينَ) بإسكانِ الياءِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمز (¬2). ... {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}. [98] {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أَخَّرَهُم لوقتِ السَّحَر؛ لأنه أَرْجى للإجابةِ، وهو الوقتُ الذي يقولُ الله: "هَلْ مِن دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ " (¬3). قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬4)، ورُوي أن يعقوبَ استقبل القبلةَ قائِمًا يدعو، وقامَ يوسفُ خلفَهُ يُؤَمِّنُ، وقاموا خلفَهُ أَذِلَّةً خاشعينَ حتى نزلَ جبريلُ وقال: ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130 - 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 192). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 397) و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 192). (¬3) رواه البخاري (1094)، كتاب: أبواب التهجد، باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل، ومسلم (758)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130 - 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 192).

[99]

إِنَّ اللهَ قَدْ أجابَ دعوتَكَ في ولدِكَ، وعقدَ مواثيقَهم بعدَكَ على النبوَّةِ. ... {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)}. [99] وكان يوسفُ قد أرسلَ بمئتي راحلةٍ إلى أهلِه وجهازٍ ليرتحلوا إليهِ، وكانوا اثنين وسبعينَ إنسانًا لما دخلوا مصرَ ما بينَ ذكرٍ وأنثى، وكانوا لما خرجوا منها هاربينَ من فرعونَ ستَّ مئةِ ألفٍ وخمسَ مئةٍ وبضعةً وسبعين رجلًا سوى الذريَّةِ والهَرْمَى، وكانت الذريةُ والهرمَى ألفَ ألفٍ ومئتي ألفٍ، ولما دنا يعقوبُ وأهلُه من مصرَ، خرجَ يوسفُ والملكُ الأكبرُ في أربعةِ آلافٍ من الجندِ وعظماءِ المصريينَ يتلَقَّونهم، وكان يعقوبُ يمشي وهو يتوكأُ على يهوذا، فلما رأى الخيلَ، قالَ ليهوذا: هذا فرعونُ مصرَ؟ قال: هذا ابنُك، فلما دنا كلُّ واحدٍ منهُما من صاحبِه، فذهبَ يوسفُ يبدؤُهُ بالسلام، فقال جبريلُ: لا حتى يبدأَ يعقوبُ بالسلامِ، فقال يعقوبُ: السلامُ عليكَ يا مُذْهِبَ الأحزانِ، وتعانَقا، وبَكَيا، فقال يوسفُ: يا أبتِ! بكيتَ حتى ذهبَ بصرُكَ، ألم تعلمْ أنَّ القيامةَ تجمعُنا؟ قالَ: بلى يا بنيَّ، ولكن خشيتُ أن تسلَبَ دينَكَ فَيُحالَ بيني وبينَك. {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى} أي: ضمَّ {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أباه وخالتَه لَيَّا، وكانتْ أُمُّه راحيلُ قد ماتت، والعربُ تسمِّي العمَّ أبًا، والخالةَ أمًّا. {وَقَالَ} لهم لما قاربَ البلدَ {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} استثناءٌ متعلِّقٌ بالدخول الموصوفِ بالأمنِ؛ كأنه قال: اِسْلَموا وَأْمَنوا في دخولكم إنْ شاءَ الله.

[100]

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}. [100] فلما عاد إلى مصر، جلسَ على سريره، وجمع الناسَ، وإخوتُه حولَه {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} معه {عَلَى الْعَرْشِ} وهو سريرُ الملك. قرأ ابنُ كثيرٍ: (أَبَوَيْهِي) وشبهَهُ بياءٍ يصلُها بهاءِ الكنايةِ في الوصلِ حيثُ وقعَ. {وَخَرُّوا لَهُ} إخوتُه وأبواه {سُجَّدًا} كذلكَ كانت تحيتُهم، فنُهينا عنه في شريعةِ الإسلام. {وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وكانَ بينهما نحوُ خمسينَ سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك. قرأ الكسائيُّ: (رُؤْيَايَ) بالإمالةِ (¬1) {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} صِدْقًا. {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} أنعمَ عليَّ {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ولم يقلْ: من الجبِّ؛ تكرمًا لئلَّا يستحييَ إخوتهُ، ومن تمامِ الصفحِ ألَّا يذكرَ ما تقدَّمَ من الذنب. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو (بِيَ إِذْ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 267)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 193). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 193).

{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} الباديةِ؛ لأنهم كانوا أصحابَ ماشيةٍ وعَمَدٍ، وهي الخيامُ، ينتقلون في الماءِ والمرعى. {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ} أفسدَ {الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} بوسوستِهِ، وأصلُ النزغِ: نَخْسُ الرائِضِ الدابةَ لتتحرَّكَ. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} أي: لطيفُ التدبير له، واللطيفُ: الذي يوصلُ الإحسانَ إلى غيرهِ بالرفقِ {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بوجوهِ المصالحِ {الْحَكِيمُ} فيما يفعل. قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ عن نافعٍ: (إخْوَتِيَ) بفتح الياء، والباقونَ: بإسكانها (¬1)، واختلافُهم في الهمزتينِ من (يَشَاءُ إِنَّهُ) كاختلافِهم فيهما من (يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ) في سورةِ البقرةِ. وأقامَ يعقوبُ بمصرَ عندَ يوسفَ أربعًا وعشرينَ سنةً، ثم ماتَ، فلما حضرَتْهُ الوفاةُ أَوْصى بحملِه ودفنِه عندَ أبيهِ إسحاقَ بمغارةِ حَبْرونَ عندَ قبرِ إبراهيمَ عليه السلام، وتقدم ذكرُ ذلكَ في سورةِ البقرةِ. قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: لما ماتَ يعقوبُ، نقلَه يوسفُ في تابوتٍ من ساج إلى بيت المقدسِ، فوافقَ يومَ موتِ أخيه عيصٍ، فدُفِنا في قبرٍ واحدٍ، وكانا وُلدا في بطنٍ واحدٍ، وكان عمرُهما مئةً وسبعةً وأربعينَ سنة (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 353)، و"التيسير" للداني (ص: 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 194). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 500)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 589).

[101]

{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}. [101] فلما جمعَ اللهُ تعالى ليوسفَ شملَه، علمَ أن نعيمَ الدُّنيا لا يدومُ، فسألَ اللهَ حُسْنَ العاقبةِ فقالَ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} يعني: ملكَ مصرَ، والملكُ اتِّساعُ المقدورِ لمن له السياسةُ والتدبيرُ. {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} تعبيرِ الرؤيا، و (مِنْ) للتبعيضِ؛ لأنه لم يؤتَ كُلَّ الملكِ ولا كُلَّ التأويلِ. {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مبدِعَهما، وانتصابُ (فَاطِرَ السَّمَوَاتِ) على النداءِ. {أَنْتَ وَلِيِّي} أي: متولِّي أمري {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي} اقْبِضْني إليك {مُسْلِمًا} مخِلصًا {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} من آبائي النبيينَ. واختلفوا في مدةِ غَيبةِ يوسفَ عن أبيهِ، فقيل: اثنتانِ وعشرونَ سنةً، وقيل: أربعونَ، وقيل: ثمانون، ولما ماتَ الملكُ الأكبرُ، وهو الريانُ بنُ الوليدِ المتقدِّمُ ذكرهُ، خلفَه ابنهُ دريموش، ويسميهِ أهلُ الأثر: دارمَ بنَ الريان، وهو الفرعونُ الرابعُ عندَهم، فخالفَ سنةَ أبيه، وكانَ يوسفُ خليفته، فيقبلُ منه بعضًا، ويخالفُ في البعضِ، فماتَ يوسفُ في أيامِه وله مئةٌ وعشرونَ سنةً، فَكُفِّنَ وحُمل في تابوب من رخام، ودُفِنَ في الجانبِ الغربيِّ من بحرِ النيلِ، فأخصبَ ونقص الشرقيُّ، فَحُوِّلَ إليه، فأخصبَ ونقصَ الغربيُّ، فاتفقوا على أن يجعلوهُ في الشرقيِّ عامًا، وفي الغربيِّ

عامًا، ثم حدثَ لهم من الرأيِ أن يجعلوا لهُ حِلَقًا وثاقًا، وشدُّوا التابوتَ في وسطِ النيلِ فأخصبَ الجانبانِ كلاهُما، ولم يزلْ ثَمَّ حتى كانَ زمنُ موسى عليه السلام وفرعون، فلما سارَ موسى ببني إسرائيل من مصرَ أخرجَهُ وهو في التابوت، وحمله على عجلٍ من حديدٍ، ودفنَه بحبرونَ في البقيعِ خلفَ الحيزِ السليمانيِّ حذاءَ قبرِ أبيه يعقوبَ، وجوارَ جَدَّيه إبراهيمَ وإسحاقَ عليهم السلام، وتقدم ذكرُ ذلك ملخَّصًا في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولهِ تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [الآية: 50]، ونزلَ عليه جبريلُ أربعَ مراتٍ، وبينهَ وبينَ موسى أربعُ مئةِ سنةٍ، وقيلَ غيرُ ذلكَ. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ جَاءَنِي الدَّاعِي، لأَجَبْتُ" (¬1). وسُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قالَ: أَتْقَاهُمْ لله، قَالُوا: ليسَ عن هذا نسألُكَ، قالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ بْنِ نَبِيِّ اللهِ بْنِ نَبِيِّ اللهِ بْنِ خَلِيلِ اللهِ" (¬2). فهؤلاءِ الأنبياءُ الأربعةُ وهم: إبراهيمُ الخليلُ، وولدهُ إسحاقُ، وولدهُ يعقوبُ، وولدهُ يوسفُ، قبورُهم في محلٍّ واحدٍ، وعليهِم من الوقارِ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3116)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة يوسف، وقال: حسن، والنسائي في "السنن الكبرى" (11254)، والحاكم في "المستدرك" (3325)، وغيرهم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (3175)، كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، ومسلم (2378)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل يوسف عليه السلام، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[102]

والجلالةِ ما لا يَكادُ يُوصَفُ، صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِم أجمعينَ. ووُلدَ ليوسفَ من امرأةِ العزيزِ ولدانِ: أفراييمُ والدُ رحمةَ زوجةِ أيوبَ، وميشا. ... {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}. [102] {ذَلِكَ} المذكورُ من نبأ يوسفَ {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} لأنك لم تحضرْهُ، ولا قرأتَهُ في كتابٍ، وقد أُخْبِرْتَ بهِ، كما جرى. {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا} أَحْكَموا {أَمْرَهُمْ} على كيدِ يوسفَ. {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} بهِ. والإجماعُ لغةً: العزمُ والاتفاقُ، واصطلاحًا: اتفاقُ مجتهدِي الأُمَّةِ في عصرٍ على أمرٍ ولو فِعْلًا بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو حُجَّةٌ قاطعةٌ بالاتفاقِ، ولا يختصُّ الإجماعُ بالصحابةِ بالاتفاقِ. ... {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}. [103] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} يا محمدُ {وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانِهم {بِمُؤْمِنِينَ} إنما يؤمن مَنْ شاءَ الله. ... {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)}. [104] {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} على إرشادِكَ إياهم {مِنْ أَجْرٍ} جُعْلٍ. {إِنْ هُوَ} يعني: القرآنَ {إِلَّا ذِكْرٌ} موعظة {لِلْعَالَمِينَ} عامَّةً. ***

[105]

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)}. [105] {وَكَأَيِّنْ} تقدَّمَ اختلافُ القراء في (وَكَأَيِّنْ) في سورةِ آلِ عمران عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [الآية: 146]؛ أي: وكَمْ {مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من الآياتِ الدالةِ على الوحدانيةِ. {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} يُشاهدونَها {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} لا يَتَّعِظونَ بها. ... {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)}. [106] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} بعبادتِهم الوثنَ. عن ابنِ عباسٍ أَنَّه قال: "نزلَتْ في تلبيةِ المشركينَ من العربِ، كانوا يقولونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هَوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ" (¬1). ... {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}. [107] {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ} نِقْمَة تتغَشَّاهُمْ. {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} يعني: الصواعقَ. ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح مسلم" (2/ 843)، و"تفسير البغوي" (2/ 503) ,و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 593).

[108]

{أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فجأةً {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بمجيءِ القيامةِ. ... {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}. [108] {قُلْ} يا محمدُ {هَذِهِ سَبِيلِي} طريقي؛ يعني: الدعوةَ إلى التوحيدِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (سَبِيِليَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} يقينٍ {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أي: ومَنْ آمنَ بي أيضًا يدعو إلى اللهِ. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تنزيهًا له {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ورُويَ أن هذهِ الآية {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} إلى آخرِها كانَتْ مرقومةً على رايةِ يوسفَ عليه السلام. ... {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)}. [109] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمدُ {إِلَّا رِجَالًا} وليسوا بملائكةٍ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 353)، و"التيسير" للداني (ص: 131)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 196).

[110]

{نُوحِي إِلَيْهِمْ} قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (نُوحِي) بالنون، وكسرِ الحاءِ، والباقون: بالياء وفتحِ الحاءِ (¬1). {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الأمصارِ، قالَ الحسنُ: لَمْ يبعثِ اللهُ نبيًّا من البدوِ، ولا منَ الجنِّ، ولا من النساءِ؛ لجفائِهِم وقسوتِهم وجهلِهم (¬2). {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يعني: هؤلاءِ المشركينَ {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} آخِرُ أمرِ {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأممِ المكذِّبَةِ فيعتبروا. {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} حَضٌّ على الآخرةِ والاستعدادِ لها، والاتقاءِ للموبقاتِ فيها، ثُمَّ وَبَّخهم بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فيؤمنون. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (تَعْقِلُونَ) بالخطابِ، والباقونَ: بالغيب. ... {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}. [110] {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} (حَتَّى) مُتعَلِّقَةٌ بمحذوفٍ دلَّ عليهِ الكلامُ؛ كأنه قيل: وما أرسلْنا من قبلِكَ إلا رجالًا، فتراخَى نصرُهم، حتى إذا استيأسوا عن النَّصْرِ. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قرأ نافع، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 3551)، و"التيسير" للداني (ص: 130)، و"تفسير البغوي" (2/ 504)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 197). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 504 - 505).

[111]

وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (كُذِّبُوا) بالتشديدِ، يعني: الرسلَ ظَنُّوا أنَّ الأممَ قد كَذَّبوهم تكذيبًا لا يُرْجى بعدَهُ إيمانهم، وظَنُّوا بمعنى: أيقنوا، وقرأ الباقون: (كُذِبُوا) بالتخفيف (¬1)، معناه: ظنَّ الأممُ أن الرسلَ كَذبوا في وعيدِ العذابِ. {جَاءَهُمْ} يعني: الرسلَ {نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصِمٌ، ويعقوبُ: (فَنُجِّيَ) بنونٍ واحدةٍ وتشديدِ الجيم وفتحِ الياء على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، وقد أجمعتِ المصاحفُ على كتابتِه بنونٍ واحدة، وقرأ الباقون: بنونينِ، الثانيةُ ساكنةٌ مخفاةٌ عندَ الجيمِ، وتخفيفِ الجيمِ وإسكانِ الياءِ (¬2)؛ أي: نحنُ نُنْجِي مَنْ نشاءُ عندَ نزولِ العذابِ، وهم المؤمنون. {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابُنا {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي: المشركينَ. ... {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}. [111] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي: في خبرِ يوسفَ وإخوتِه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 351)، و"التيسير" للداني (ص: 130)، و"تفسير البغوي" (2/ 505)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 197)، وأنكرت عائشة رضي عنها قراءة التخفيف كما ذكر البغوي ذلك عنها. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 352)، و"التيسير" للداني (ص: 130)، و"تفسير البغوي" (2/ 506)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 198).

{عِبْرَةٌ} أي: اعتبارٌ {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} لذوي العقولِ. {مَا كَانَ} أي: القرآنُ {حَدِيثًا يُفْتَرَى} يُخْتَلَقُ. {وَلَكِنْ} كانَ {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتبِ المنزلةِ {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} يَحتاجُ إليه العبدُ {وَهُدًى} من الضلالِ {وَرَحْمَةً} نعمةً. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يُصَدّقونَ به، والله أعلم.

سورة الرعد

سورة الرعد مكية إلا قوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} االآية، وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} الآية، وقيل: مدنية إلا قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآيتين نزلتا بمكة، وآيها ثلاث وأربعون آية، وحروفها ثلاثة آلاف وخمس مئة وستة أحرف، وكلمها ثمان مئة وخمس وخمسون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)}. [1] {المر} قال ابنُ عباسٍ: "معناهُ: أنا اللهُ أَعلمُ وأَرى" (¬1) وتقدَّمَ ذكرُ السَّكْتِ والإمالةِ في أولِ سورةِ يونسَ (¬2). {تِلْكَ} أي: أخبارُ الأممِ المتقدمةِ {آيَاتُ الْكِتَابِ} أي: الكتبِ المنزلةِ على الأنبياءِ قبلَكَ {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} يعني: القرآنَ، مبتدأٌ، خبرُه {الْحَقُّ} فاعتصِمْ به. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في الآية (1) منها.

[2]

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يعني: مشركي مكةَ. {لَا يُؤْمِنُونَ} لعدمِ تأمُّلِهم فيه. ... {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}. [2] {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} جمعُ أَعْمِدَةٍ، وهي جمعُ عمودِ البيتِ، يعني: السَّواري {تَرَوْنَهَا} استشهادٌ برؤيتِهم لَها كذلكَ، والمرادُ: نفيُ العَمَدِ أصلًا، وهو الأصحُّ، فهي واقفةٌ كالقبَّةِ، والقدرةُ أعظمُ من ذلكَ. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بلا كيفٍ، وتقدَّمَ الكلامُ عليه في سورةِ الأعرافِ. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ذَلَّلَهما لمنافعِ خَلْقِه على ما يريدُه تعالى. {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} لوقتٍ معلومٍ، وهو انقضاءُ الدنيا. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في خَلْقِه من غيرِ شريكٍ له فيه. {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} يُبين البراهينَ. {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لكي تُصَدِّقوا وعدَه. ... {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}. [3] {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} بَسَطَها {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالًا ثوابِتَ، قالَ

[4]

ابنُ عباس: "كانَ أبو قُبيسٍ أولَ جبلٍ وُضِعَ على الأرضِ" (¬1) {وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا} أي: خلقَ في الأرضِ حينَ بسطَها من كلِّ نوعٍ من الثمراتِ {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: نوعين: حلوٌ، وحامضٌ، ونحوُهما. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يُلْبِسُهُ مكانَه، فيصيرُ الجوُّ مظلمًا بعدَ ما كان مضيئًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصم: {نُغْشِي} بالنون (¬2)، والباقون: بالياء {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكورِ. {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيها، والتفكُّرُ: تصرُّفُ القلبِ في معاني الأشياءِ. ... {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}. [4] {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} متلاصقاتٌ مختلفاتٌ مع تلاصُقِها طيبةٌ إلى سبخةٍ، وكثيرةُ الريعِ إلى قليلهِ، ونحوُ ذلك. {وَجَنَّاتٌ} بساتينُ {مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} هي النخلاتُ يجمعُهُنَّ أصلٌ واحدٌ، ومنهُ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في العباسِ: "عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (3889). (¬2) "بالنون" ساقطة من "ت". (¬3) رواه مسلم (983)، كتاب: الزكاة، باب: في تقديم الزكاة ومنعها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

{وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} النخلةُ المنفردةُ بأصلِها. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ) بالرفعِ في الأربعةِ عطفًا على (جَنَّاتٌ) , وقرأها الباقونَ: بالخفضِ عطفًا على (أَعْنَابٍ) (¬1). {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} وهي متغايرةٌ في الألوانِ والطُعومِ. قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (يُسْقَى) بالياءِ على التذكيرِ؛ أي: يُسْقَى المذكورُ، وقرأ الباقونَ: بالتاءِ على التأنيث؛ أي: تُسْقَى الجنةُ بما فيها، وأمالَ حمزةُ، والكسائيُّ القافَ (¬2). {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} في الثمرِ والطَّعْم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَيُفَضِّلُ) بالياء؛ لقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ}، وقرأ الباقون: بالنون على معنى: ونحن نفضِّلُ بعضَها على بعضٍ في الأُكُل (¬3)، وقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ: (الأُكْلِ) بإسكانِ الكافِ، والباقون: بضمِّها (¬4)، والأُكْلَةُ بضمِّ الهمزةِ: اللقمةُ، وبكسرِها: الحالةُ يؤكَلُ عليها، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 356)، و"التيسير" للداني (ص: 131)، و"تفسير البغوي" (2/ 509 - 510)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 204 - 206). (¬2) المصادر السابقة. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 356)، و"التيسير" للداني (ص: 131)، و"تفسير البغوي" (2/ 510)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 206 - 207). (¬4) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 269)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 207).

[5]

وبفتحها: المرةُ الواحدةُ، كذلك بنو آدمَ من أبٍ واحدٍ، واختلفَتْ خَلْقُهُم وأخلاقُهم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكورِ {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعمِلون عقولَهم بالتفكُّرِ. ... {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)}. [5] {وَإِنْ تَعْجَبْ} يا محمدُ من إنكارِهم النشأةَ الآخرةَ، مع إقرارِهم بابتداءِ الخلقِ من اللهِ عز وجل، وقد تقرر في القلوب أنَّ الإعادةَ أهونُ من الابتداء. {فَعَجَبٌ} تصويبٌ لعَجَبِهِ - صلى الله عليه وسلم -، والعجبُ: تغيرُ النفسِ برؤيةِ المستبعَدِ في العادة. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلادٌ عن حمزةَ: {تَعْجَبْ فَعَجَبٌ} بإدغامِ الباءِ في الفاء، والباقون: بالإظهار (¬1). {قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا} بعدَ الموتِ. {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: أَنُبْعَثُ خَلْقًا جديدًا بعدَ الموتِ؟ واختلافُ القراءِ في (أَئِذَا) (أَئِنَّا) في الإخبارِ بالأولِ منهما، والاستفهامِ بالثاني، ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 8 - 9)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 207)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 207).

وعكسِه، والاستفهامِ فيهما، فقرأ ابنُ عامرٍ، وأبو جعفر: (إذَا) بالإخبارِ (أَئِنَّا) بالاستفهامِ، فابنُ عامرٍ يحقِّقُ الهمزتينِ، وأبو جعَّفَرٍ يسهِّلُ الثانيةَ، ويفصلُ بينَهما بألفٍ، واختلِفَ عن هشامٍ راوي ابنِ عامرٍ في الفصلِ مع تحقيقِ الهمزتين، وقرأ نافعٌ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (أَئِذَا) بالاستفهامِ، (إِنَّا) بالإخبار، فنافعٌ يسهِّلُ الهمزةَ الثانيةَ، وراويه قالونُ يفصلُ بينَهما بألفٍ، وافقه رويسٌ عن يعقوبَ في التسهيلِ، والكسائيُّ يحقِّقُ الهمزتينِ، وافقه روحٌ عن يعقوبَ، وقرأ الباقون: (أَئِذَا) (أَئِنَّا) بالاستفهام فيهما، فابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو يسهِّلانِ الهمزةَ الثانيةَ منهما، وأبو عمرٍو يفصلُ بينَهما بألفٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، وخلفٌ يحققون الهمزتين (¬1)، فمن قرأ بالاستفهامينِ، فذلكَ للتأكيدِ، ومن استفهمَ في الأولِ فقط، فإنما القصدُ بالاستفهامِ الموضعُ الثاني، تقديرُه: أَنُبْعَثُ ونُحْشَرُ إذًا، ومن استفهمَ في الثاني فقط، فمعناه: إِذا كُنَّا تُرابًا أَنُبْعَثُ؟ {أُولَئِكَ} أي: منكرو البعثِ {الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} أي: أعمالُهم الخبيثةُ. {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يُنْقَلون عنها. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 357)، و"التيسير" للداني (ص: 132 - 133)، و"تفسير البغوي" (2/ 511)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 362 - 364، 372 - 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 207 - 209).

[6]

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)}. [6] ونزلَ فيمن طلبَ العذابَ قبلَ حينهِ استهزاءً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي: بالنِّقمةِ قبلَ العافيةِ، والاستعجالُ: طلبُ تعجيلِ الأمرِ قبلَ مجيءِ وقتِهِ. {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} جَمْعُ مَثُلَة؛ أي: عقوباتُ أمثالِهم من المكذِّبينَ، المعنى: قد عرفوا ما نزلَ بالأممِ قبلَهم من الهلاكِ، فكيفَ يستعجلونه؟ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي: يغفرُ ذنوبَهم مع ظلمِهم أنفسَهم بالمعاصي والشركِ إنْ تابوا {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} للكفارِ. {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}. [7] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} عِنادًا: {لَوْلَا} أي: هلَّا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ} أي: على محمد - صلى الله عليه وسلم -. {آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي: حجَّةٌ على صدقِ نبوَّتهِ؛ كإحياءِ عيسى الموتى، وقلبِ عَصا موسى حيةً، قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} ما عليكَ إلا البلاغُ. {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} نبيٌّ يرشدُهم. وقفَ ابنُ كثيرٍ (هادي) بإثباتِ الياءِ بعدَ

[8]

الدال، ورُوي ذلكَ عن يعقوبَ وقنبلٍ؛ لأنها الأصلُ، ولأن الذي حُذفتِ الياءُ لأجلهِ، وهو التنوينُ، قد زالَ، وقرأ الباقونَ: بحذفها وقفًا؛ لأن الأصلَ هو الوصلُ، 4 وهي في الإمامِ بغيرِ ياءٍ، والحذفُ والإثباتُ جائزان (¬1)، وكذلكَ حكمُ اختلافِهم في (وَالٍ) و (وَاقٍ) و (بَاقٍ). ... {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)}. [8] {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} من ذكرٍ وأنثى، وتامٍّ وناقصٍ، وأَبيضَ وأسودَ، وواحدٍ واثنينِ وأكثرَ. {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} أي: تنقصُ {وَمَا تَزْدَادُ} أي: تأخذُهُ زائدًا، فنقصانُ الأرحامِ: وضعُها لأقلَّ من تسعةِ أشهرٍ، وزيادتُها: وضعُها لأكثرَ من تسعةِ أشهرٍ، وقيلَ غيرُ ذلك، وأقلُّ مدةِ الحملِ ستةُ أشهرٍ بالاتفاق، وغالبُها تسعةُ أشهرٍ، واختلفوا في أكثرِها، فقال أبو حنيفةَ: سنتانِ، وقال مالكٌ: خمسٌ، وهو المشهورُ عنه، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: أربعٌ. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ} في علمه {بِمِقْدَارٍ} بتقديرٍ معلومٍ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 360)، و"التيسير" للداني (ص: 133)، و"الكشف" لمكي (2/ 21)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 201 - 219)، قال مكي: والحذف والإثبات لغتان للعرب والحذف أكثر.

[9]

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}. [9] {عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غابَ عن خلقِه {وَالشَّهَادَةِ} ما شاهدوه. {الْكَبِيرُ} الذي كُلُّ شيءٍ دونَهُ. {الْمُتَعَالِ} عن صفاتِ المخلوقين، وقولِ المشركين. قرأ ابنُ كثيرٍ ويعقوبُ: (الْمُتَعَالِي) بإثباتِ الياءِ، وحذفَها الباقون (¬1). ... {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}. [10] {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أي: استوى في علمِ اللهِ خافي القولِ وظاهرهُ، ومُخفيهِ ومُظهِرهُ {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} مستترٌ يطلبُ الخفاءَ. {بِاللَّيْلِ} بظلامِه: رُوِيَ عن يعقوبَ وقنبلٍ: الوقفُ بالياءِ على (مُسْتَخْفِي). {وَسَارِبٌ} سالكٌ في سَرْبِهِ؛ أي: طريقِه {بِالنَّهَارِ} والسَّرْبُ بفتحِ السينِ وسكونِ الراء: الطريقُ، قال ابنُ عباسٍ: "هُوَ صاحبُ رِيبةٍ مستخفٍ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 360)، و"التيسير" للداني (ص: 134)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 298)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 211).

[11]

بالليلِ، وإذا خرجَ بالنهارِ، أرى الناسَ أنه بريءٌ من الإثمِ" (¬1). ... {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}. [11] {لَهُ} أي: الإنسانِ المؤمنِ. {مُعَقِّبَاتٌ} أي: الملائكةُ تتعاقبُ في حفظِه. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: من قُدَّامِهِ ومن ورائِه، والتعقيبُ: العودُ بعدَ البَدْءِ، وإنما ذُكر بلفظِ التأنيثِ؛ لأن المرادَ: الجماعاتُ التي يعقبُ بعضُها بعضًا. {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: بأمرِ الله، فإذا جاءَ القدرُ، خَلَّوْا عنه. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمةِ. {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} هو بكثرةِ المعاصي. {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} عذابًا {فَلَا مَرَدَّ لَهُ} لا يَرُدُّه شيءٌ {وَمَا لَهُمْ} أي: المرادُ هَلاكُهم {مِنْ دُونِهِ} من دونِ الله {مِنْ وَالٍ} وَليٍّ. وتقدَّمَ اختلافُ القراءِ في (وَالٍ) عندَ (هَادٍ) (¬2)، وفيه دليلٌ على أنَّ خلافَ مرادِ اللهِ مُحالٌ. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (13/ 113)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ 2229). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 360)، و"التيسير" للداني (ص: 134)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 298)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 270)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 211).

[12]

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)}. [12] {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} من الصاعقةِ {وَطَمَعًا} في الغيثِ {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ} الغيمَ المنسحبَ بالماء. {الثِّقَالَ} بالمطرِ، قال عليٌّ: "السَّحابُ غِرْبالُ الماءِ" (¬1). ... {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)}. [13] {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} والرعدُ اسمُ مَلَكٍ يسوقُ السحابَ، والصوتُ المسموعُ تسبيحُه، فإذا سَبَّحَ، لم يبقَ مَلَكٌ إلا رفعَ صوتَه بالتسبيحِ، فينزلُ القطرُ، وعن عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ أنه كانَ إذا سمعَ صوتَ الرعدِ، تركَ الحديثَ، وقالَ: "سُبْحانَ من يُسَبِّحُ الرعدُ بحمدِه، والملائكةُ من خيفتَهِ، ويقولُ: إنَّ هذا الوعيدَ لأهلِ الأرضِ لشديدٌ" (¬2). {وَالْمَلَائِكَةُ} أيضًا تسُبِّحُ {مِنْ خِيفَتِهِ} أي: خيفةِ الله تعالى. {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} جمعُ صاعقةٍ، وهي العذابُ المهلِكُ ينزلُ من البرقِ. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2617)، عن كعب. وانظر: "تفسير البغوي" (2/ 518). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 992)، والبخاري في "الأدب المفرد" (723)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (29214)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 362)، عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-.

[14]

{فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} فيهلِكُه. {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} بتكذيبِهم عظمتَهُ وتوحيدَهُ. {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} العقوبةِ، يقال: محلَ الرجلُ بالرجلِ: إذا مكرَ بهِ وأخذَه بسعايةٍ شديدةٍ. ... {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)}. [14] رُوي أن عامرَ بنَ الطُّفَيل، وأَرْبَدَ بنَ ربيعةَ أخا لَبيدٍ وَفَدا على رسولِ الله قاصِدَيْنِ قتلَه، فأخذَهُ عامرٌ بالمجادلةَ، ودارَ أربدُ من خلفِه ليضربَهُ بالسيفِ، فتنبَّهَ له رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "اللَّهُمَّ اكْفِنِيِهِما بِمَا شِئْتَ"، فأرسلَ اللهُ على أربدَ صاعقةً فأحرقَتْهُ، وولَّى عامِرٌ هاربًا، فنزلَ ببيتِ امرأةٍ سلوليةٍ، فرميَ بغُدَّةٍ عظيمهٍ، فماتَ، وكانَ يقولُ: غُدَّة كغدَّةِ البعيرِ، ومَوْتٌ في بيتِ سَلوليَّةٍ؟! فنزلت الآيةُ: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} (¬1) أي: هو المستحقُّ لها، وهي لا إلهَ إلا اللهُ. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: الآلهةُ الذين يدعونَهم الكفار. {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} يريدونه. {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} أي: لا ينتفعُ عبدةُ الأصنامِ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (13/ 120)، و "أسباب النزول" للواحدي (ص: 154)، و"تفسير القرطبي" (9/ 296 - 297)، و"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 616 - 617).

[15]

بدعائِهم إلا كانتفاعِ عطشانَ يمدُّ يدَه إلى ماءٍ في حفيرة لا يصلُ إليه. {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ} الأصنامَ {إِلَّا فِي ضَلَالٍ} لا يفيدُ شيئًا، ولا يُغْنيهم. ... {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)}. [15] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: ينقادون. {طَوْعًا} هم المؤمنون. {وَكَرْهًا} هم المنافقونَ والكافرونَ الذين أُكْرِهوا على السُّجودِ بالسيفِ. {وَظِلَالُهُمْ} جاءَ في التفسيرِ أن الكافرَ يسجدُ لغيرِ اللهِ، وظِلُّه يسجُد لله {بِالْغُدُوِّ} البُكَرِ {وَالْآصَالِ} العَشايا، جمعُ أُصلٍ، والأُصلُ جمعُ أَصيلٍ، وهو ما بينَ العصرِ وغروبِ الشمسِ، وهذا محلُّ سجودٍ بالاتفاق، وتقدَّمَ اختلافُ الأئمةِ في سجودِ التلاوة، وحكمُه، وسجودُ الشكرِ آخِرَ سورةِ الأعرافِ مستوفًى. ... {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)}. [16] {قُلْ} للمشركينَ استفهام إنكارٍ {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خالقُها

وَمُدَبِّرُهَا، فإن لم يعترفوا، فأنت {قُلِ اللَّهُ} رَبُّ، هما وإن اعترفوا. {قُلْ} أنتَ إلزامًا لهم: {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أي: دونِ اللهِ. {أَوْلِيَاءَ} أصنامًا. {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} ومَنْ لا يملكُ لنفسِه شيئًا، فلا يملكُ لغيرِه، ومن هو كذلكَ، فكيف يُعْبَدُ ويُتَّخَذُ وَلِيًّا. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (أَفَتَّخَذْتُمْ) بإظهارِ الذالِ عندَ التاء، والباقون: بالإدغام (¬1)، ثم ضربَ لهم مثلًا فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} يعني: الكافرُ والمؤمنُ {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} يعني: الكفرُ والإيمانُ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (أَمْ هَلْ يَسْتَوِي) بالياءِ على التذكير؛ لأنه تأنيثٌ غيرُ حقيقيٍّ، والفعلُ مقدَّمٌ، وقرأ الياقون: بالتاء على التأنيث (¬2)؛ لأنه مؤنَّثٌ لم يفصلْ بينَه وبينَ فاعلِه شيءٌ، ثم استفهمَ مُنْكِرًا مُعَجِّبًا منهم فقالَ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} المعنى: لم يَتَّخِذوا آلهةً يخلقونَ شيئًا فيشتبهُ خلقُهم بخلقِ اللهِ تعالى. {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} بلا شريكٍ، فيعبَدُ بلا شركةٍ. {وَهُوَ الْوَاحِدُ} المتوحِّدُ بالألوهيةِ {الْقَهَّارُ} الغالبُ على كلِّ شيءٍ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 264)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 213). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 358)، و"التيسير" للداني (ص: 133)، و"تفسير البغوي" (2/ 522)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 214).

[17]

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)}. [17] ثم ضربَ مثلَين للحقِّ والباطلِ، فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني: المطرَ. {فَسَالَتْ} من ذلكَ الماءِ {أَوْدِيَةٌ} جمع وادٍ {بِقَدَرِهَا} صغيرًا وكبيرًا. {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا} هو ما علا وجهَ الماءِ من رغوةِ الماءِ وغيرِها. {رَابِيًا} عاليًا على الماءِ، فالماءُ الصافي هو الحقُّ، والذاهبُ الزائلُ الذي يتعلَّقُ بالأشجارِ وجوانبِ الأودية هو الباطلُ، فهذا أحدُ المثلين، والمثلُ الآخرُ قولُه تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يُوقِدُونَ) بالغيب؛ لقوله تعالى: (مَا يَنْفَعُ النَّاسَ)، ولا مخاطبةَ هاهنا، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬1)؛ أي: ومن الذي توقدون. {عَلَيْهِ فِي النَّارِ} كالذهبِ والفضةِ {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} طلبَ زينةٍ يُتَزَيَّنُ بها. {أَوْ مَتَاعٍ} وهو ما يُنْتفعُ بهِ؛ كالنحاسِ والرصاصِ يُذابُ فَيُتَّخَذُ منه الأواني، والإيقادُ: جعلُ النارِ تحتَ الشيءِ ليذوبَ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 358)، و"التيسير" للداني (ص: 133)، و "تفسير البغوي" (2/ 522)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297 - 298)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 214).

[18]

{زَبَدٌ مِثْلُهُ} أي: إذا سُبِكَ بالنارِ، كانَ له زبدٌ، وهو خَبَثُهُ، فالصافي يُنتفعُ به كالماءِ مَثَلُ الحقِّ، وزبدُه يبطلُ كزبدِ الماءِ مَثَلُ الباطلِ. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ} أي: يُمَثِّلُ {اللَّهُ الْحَقَّ} الذي يتقرَّرُ في القلوب. {وَالْبَاطِلَ} الذي يعتريها أيضًا. {فَأَمَّا الزَّبَدُ} الذي علا السيلَ والفلزَّ، وهو ما يَنْفيه الكيرُ مما يُذاب من جواهرِ الأرض. {فَيَذْهَبُ جُفَاءً} باطِلًا، والجفاءُ: هو ما يرمي به سيلُ الوادي إلى جنباته من الغُثاءِ، وجَفَأَتِ القِدْرُ: إذا غَلَتْ وألقتْ زَبَدَها. {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} من الماءِ وخلاصةِ الفلزِّ من الذهبِ والفضةِ والنحاسِ. {فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} لمنافعهم. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} فيظهرُ الحقُّ منَ الباطلِ. ... {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}. [18] {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا} أجابوا {لِرَبِّهِمُ} وأطاعوه. {الْحُسْنَى} الجنةُ، وكلُّ ما يختَصُّ به المؤمنُ من نعمِ اللهِ سبحانه، و (السُّوءَى) النارُ. {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} هم الكافرون {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا

[19]

وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} لبذلوه افتداءً لأنفسِهم من النارِ، فلا يُقْبَلُ منهم. {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} هو المناقشةُ فيه، فلا يُغْفَرُ لهم شيءٌ من ذنوبهم. {وَمَأْوَاهُمْ} في الآخرةِ {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} المستقرُّ. ... {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}. [19] ثم أدخلَ همزةَ الإنكارِ على الفاءِ مبينًا أَنْ لا مساواةَ بينَ حالِ المستجيبِ وضدّهِ فقالَ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} ويؤمنُ به، وهو حمزةُ رضيَ اللهُ عنهُ {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} عن الحقِّ لا يبصرُه، وهو أبو جهلٍ وغيرُه ممن كانَ كذلك. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} يَتَّعِظُ {أُولُو الْأَلْبَابِ} ذَوو العقولِ فيستجيبونَ. ... {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)}. [20] {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} إذا عاهدوا. {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} العهدَ الموثَّقَ. ... {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)}. [21] {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} والمرادُ: صلَةُ الرَّحِمِ

[22]

عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ثَلاَثةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ يومَ الْقِيَامَةِ: الْقُرْآنُ يُحَاجُّ الْعِبادَ لَهُ ظَهْر وَبَطْن، وَالأَمَانَةُ، وَالرَّحِمُ تنادِي: أَلاَ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ" (¬1). {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} سِرًّا وعلانيةً. {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} وهو عدمُ المسامحةِ فيه. ... {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)}. [22] {وَالَّذِينَ صَبَرُوا} على المكارِهِ {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} لا غيرُ {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} المفروضةَ {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} في مواساةِ المحتاجِ. {سِرًّا} هو ما يُنْفَق تَطَوُّعًا {وَعَلَانِيَةً} هي الزكاةُ المفروضةُ. {وَيَدْرَءُونَ} يدفعون {بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} فيجازونَ الإساءةَ بالإحسانِ، وهذا بخلافِ خُلُقِ الجاهليَّةِ، رُويَ أنها نزلَتْ في الأنصارِ، ثم هي عامَّةٌ بعدَ ذلكَ في كلِّ مَنِ اتصفَ بهذهِ الصفة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} عاقبةُ الدنيا، وهي الجنةُ. ... {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)}. ¬

_ (¬1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (2/ 187)، عن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-.

[23]

[23] ثم بَيَّنَهُ بقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بساتينُ إقامةٍ. {يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ} أي: من عملَ صالحًا. {مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} المعنى: يدخلون الجنةَ بجميعِ أهلهم؛ تكميلًا لفرحِهم. {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} من أبوابِ الجنةِ. ... {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}. [24] {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} أي: هذا الثوابُ لكم بسببِ صبرِكم على مشاقِّ الدينِ، تلخيصُه: تعبتُمْ ثَمَّ، فاسترحْتُم هنا {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. ... {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}. [25] ونزل في الكفارِ صفةٌ حالة مضادَّة للمتقدمَةِ {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} المأخوذَ عليهم بالطاعةِ. {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فيؤمنون ببعض الأنبياءِ، ويكفرون ببعضٍ {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي والظلمِ. {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} الإبعادُ من رحمةِ اللهِ {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} ضدُّ {عُقْبَى الدَّارِ}، والأظهرُ في الدارِ هنا أنها دارُ الآخرةِ. ***

[26]

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}. [26] {اللَّهُ يَبْسُطُ} يُوَسِّعُ. {الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} يَهَبُ للكافرِ المالَ ليهلِكَهُ به. {وَيَقْدِرُ} يُضَيِّقُ على المؤمنِ لِيَعْظُمَ بذلكَ أَجْرُهُ، فالكلُّ بمشيئةِ الله تعالى، ثم استجهلَهم في قوله: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فرحَ بَطَرٍ لا فرحَ شكرٍ للنعمةِ. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} كائنةً {فِي} جنبِ {الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} ذاهب يُستمتعُ به قليلًا، ثم يفنى. ... {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}. [27] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهلِ مكةَ: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} تكونُ دليلًا على صدقِهِ. {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} إضلالَهُ. {وَيَهْدِي إِلَيْهِ} يرشِدُ إلى دينه {مَنْ أَنَابَ} رجعَ عن مُنْكَرٍ. ... {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}. [28] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ} تسكنُ {قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} إذا ذَكروه , أو ذُكِر لهم.

[29]

{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فيستقرُّ فيها اليقينُ. ... {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}. [29] {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مبتدأٌ، خبرُه {طُوبَى لَهُمْ} أي: طيبُ العيشِ {وَحُسْنُ مَآبٍ} مرجعٌ إلى الجنةِ. قرأ يعقوبُ: (مَآبِي) بإثباتِ الياءِ في الحالين حيثُ وقعَ إذا لم ينون، والباقون: بحذفها (¬1)، وقرأ أبو عمرٍو: (الصَّالِحَات طُوبَى) بإدغامِ التاءِ في الطاءِ (¬2). ... {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)}. [30] {كَذَلِكَ} أي: مثلَ إرسالِنا الرسلَ قبلَكَ يا محمدُ {أَرْسَلْنَاكَ} ثُمَّ بينَ المرسَلَ إليهم فقال: {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} عَلَّلَ ذلكَ فقال: {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من القرآنِ وشرائعِ الإسلامِ. {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} الواسعِ الرحمةِ. {قُلْ} يا محمدُ: {هُوَ} أي: الرحمنُ الذي كفرتُم به. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 298)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 217). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 216).

[31]

{رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدْتُ {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي: توبتي. قرأ يعقوبُ: (مَتَابِي) بإثباتِ الياء، والباقون: بحذفها (¬1). ... {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}. [31] ولما اقترحَ مشركو مكةَ منهم أبو جهلِ بنُ هشامٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي أميةَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إزالةَ جبالِ مكةَ لتتفسَّحَ، وجَرْيَ مياهٍ بأرضِهم ليغرسوا الأشجارَ ويزرعوا، وإحياءَ موتاهم، وأنه إنْ فعلَ ذلكَ، آمنوا به، نزل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ} (¬2) نُقِلَتْ {بِهِ الْجِبَالُ} عن أماكِنها. {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} أي: شُقَّتْ فجُعِلَتْ أنهارًا وعيونًا. {أَوْ كُلِّمَ} أي: أُحْييِ. {بِهِ الْمَوْتَى} وجوابُ (لو) محذوفٌ، وتقديرُه: لكانَ هذا القرآنَ؛ ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 217). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 155 - 156)، و"تفسير البغوي" (2/ 532).

[32]

لكونه غايةً في التذكيرِ، ونهايةً في الإنذارِ {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} في إيمانِ مَنْ آمَنَ (¬1)، وكفرِ مَنْ كفرَ. {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} أي: يعلم، {الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ} فآمنوا {جَمِيعًا} وتقدم اختلاف القراء في {ييأس} في سورة يوسف عند قوله تعالى {فلما استيأسوا منه}. {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا} من الكفر. {قَارِعَةٌ} واهية تقرعهم بأنواع البلايا من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغزواته. {أَوْ تَحُلُّ} أي: تنزل أنت يا محمد بنفسك. {قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} وهو فتح مكة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}. ... {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)}. [32] وكانَ الكفارُ يسألونَ عن هذهِ الأشياءِ على سبيلِ الاستهزاءِ، فأنزلَ اللهُ تسليةً لنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} كاستهزائِهم بكَ. قرأ أبو جعفرٍ: (اسْتُهْزِيَ) بفتحِ الياءِ بغيرِ همزٍ. ¬

_ (¬1) من قوله: "والباقون (غيابة) ... " من سورة يوسف (الآية: 10) (ص: 396) إلى قوله: "إيمان من آمن" من سورة الرعد (الآية: 31) سقط من "ش"، بمقدار عشر لوحات من باقي النسخ الخطية.

[33]

{فَأَمْلَيْتُ} أَمْهَلْتُ {لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} في الدنيا بالقتلِ، وفي الآخرةِ بالنارِ. {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} تعجيبٌ من شِدَّةِ أخذِهِ لهم. قرأ يعقوبُ: (عِقَابِي) بإثباتِ الياءِ (¬1). ... {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}. [33] ثم احتجَّ عليهم موبِّخًا فقال: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي: أَفَاللهُ الذي هو رقيبٌ على كلِّ نفسٍ، يعلَمُ خيرَها وشرَّها، وجوابُه محذوفٌ تقديرُه: كَمَنْ ليسَ كذلك، وهم أصنامُكم؟ {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} المعنى: أَفمَنْ له القدرةُ والوحدانيَّةُ، ويُجْعَلُ له شريكٌ، أَهْلٌ أَنْ ينتقمَ ويعاقِبَ أم لا؟ والأنفسُ من مخلوقاتِه، وهو قائمٌ على الكُلِّ. {قُلْ سَمُّوهُمْ} بَيِّنوا شركاءَكم بأسمائِهم وصفاتِهم حتى نعرفَ هل يجوزُ أن يُعْبَدوا. {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} أي: تخبرون اللهَ {بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} فإنه لا يعلمُ لنفسِهِ شريكًا. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 298)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 218).

[34]

{أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي: تسُمُّونهم شركاءَ من غيرِ أن يكونَ لذلكَ حقيقةٌ. {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} كيدُهم بِشِرْكِهم. قرأ الكسائيُّ، وهشامٌ: (بَل زُيِّنَ) بإدغامِ اللامِ في الزاي، والباقون: بالإظهار (¬1). {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} قرأ الكوفيونَ، ويعقوبُ: (وَصُدُّوا) بضمِّ الصادِ على تعدِّي الفعل، وقرأ الباقون: بالفتح (¬2)، أي: وصَدُّوا الناسَ: صَرَفوهم عن الدينِ. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} بخذلانِه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يوفِّقُه. ... {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)}. [34] {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالقتلِ والأَسْرِ. {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} أشدُّ شَقًّا للقلبِ. {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} مانعٍ يمنعُهم من العذابِ: تقدم التنبيهُ على مذاهبِ القراء في (هَادِي)، ومثلُه (وَاقِي) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 265)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 218). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 359)، و"التيسير" للداني (ص: 133)، و"تفسير البغوي" (2/ 535)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 298)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 219). (¬3) عند تفسير الآية (7) من هذه السورة.

[35]

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}. [35] {مَثَلُ} أي: صفةُ {الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} كقولهِ تعالى {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60]؛ أي: الصفةُ العليا. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ} ثمرُها دائمٌ لا ينقطعُ. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (أُكْلُهَا) بإسكانِ الكافِ، والباقون: بضمِّها (¬1). {وَظِلُّهَا} ظليلٌ لا يزولُ، وهو رَدٌ على الجهميّةِ حيثُ قالوا: إن نعيمَ الجنةِ يَفْنى. {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي: مصيرُهم. {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} لا غيرُ. ... {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)}. [36] {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} القرآنَ، وهم الصحابةُ رضي الله عنهم. {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من القرآنِ. {وَمِنَ الْأَحْزَابِ} يعني: الكفارَ الذين تَحَزَّبوا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 83)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 220).

[37]

اليهودِ والنصارى {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} أي: بعضَ القرآنِ، وهو ما يخالفُ شرائِعَهم، أو يوافقُ ما حَرَّفوه منها، قالَ ابنُ عباسٍ: "آمَنَ اليهودُ بسورةِ يوسُفَ، وكفرَ المشركونَ بجميعِهِ" (¬1). {قُلْ} يا محمدُ: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ} نصبًا عطفًا على (أَنْ أَعْبُدَ)؛ أي: أُمرت فيما أُوحيَ عليَّ بأَنْ أعبدَ اللهَ، وبأَنْ لا أُشركَ به. {إِلَيْهِ أَدْعُو} لا إلى غيرِه {وَإِلَيْهِ مَآبِ} مَرْجِعي. ... {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}. [37] {وَكَذَلِكَ} أي: ومثلَ هذا الإنزالِ المشتملِ على أصولِ الدياناتِ المجمَعِ عليها {أَنْزَلْنَاهُ} أي: القرآنَ {حُكْمًا عَرَبِيًّا} أي: حكمةً مترجمةً بلسانِ العربِ ليسهُلَ لهم فهمُه. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} باستقبالِ قبلتِهم بعدَما حُوِّلْتَ عنها. {بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأنهم كفار. {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} ناصرٍ {وَلَا وَاقٍ} حاجزٍ، وهذا خطابٌ له - صلى الله عليه وسلم -، وتحريضٌ للسامعينَ على التمسُّكِ بالدين. وتقدَّمَ التنبيهُ على مذاهِب القراءِ في (مَآبِي) و (وَاقِي) (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 495). (¬2) عند تفسير الآية (7) من هذه السورة.

[38]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)}. [38] ولما عيَّره اليهودُ، وقيل: المشركون بكثرةِ الزوجاتِ، واقترحوا عليه الآياتِ، نزلَ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (¬1) ولم نجعلْهم ملائكةً. {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} ولم يكنْ في وُسْعِهِ. {أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فإنه القادرُ على ذلك. {لِكُلِّ أَجَلٍ} أمرٍ قضاهُ اللهُ {كِتَابٌ} وقت معلومٌ يقعُ فيه. ... {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}. [39] {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من الشرائعِ بنسخِها {وَيُثْبِتُ} ما يَشاءُ فيتركُهُ غيرَ منسوخ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وعاصم، ويعقوبُ: (وَيُثْبِتُ) بالتخفيف، والباقون: بالتشديد {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أصلُه؛ يعني: اللوحَ المحفوظَ، فلا يُبَدَّلُ فيه ولا يُغَيَّرُ. ... {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)}. [40] {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ} في حياتِكَ يا محمدُ. {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من إنزالِ العذابِ بهم. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 156).

[41]

{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبلَ ذلكَ، فلا تحزنْ. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} تبليغُ الرسالةِ لا غيرُ {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} والجزاءُ يومَ القيامةَ، قال ابنُ عباسٍ: "نُسِخَتْ بآيةِ السيفِ وفرضِ الجهاد" (¬1). ... {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)}. [41] {أَوَلَمْ يَرَوْا} أهلُ مكةَ {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بفتحِ ديارِ الشركِ، فما زادَ في بلادِ الإسلام، نقصَ من بلادِ الشركِ، أفلا يعتبرون؟ {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ} لا ناقض (¬2) {لِحُكْمِهِ} والمعنى: إنه حكمَ للإسلامِ بالإقبالِ، وعلى الكفرِ بالإدبارِ {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فيحاسبُهم عمَّا قليلٍ في الآخرة بعدَما عَذَّبَهم بالقتلِ والإجلاءِ في الدنيا. ... {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)}. [42] {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: كادوا أنبياءَهم، والمكرُ: إيصالُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. وانظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 359)، و"التيسير" للداني (ص: 134)، و"تفسير البغوي" (2/ 537)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 220). (¬2) "لا ناقض" سقط من "ش".

[43]

المكروهِ إِلى الإنسانِ من حيثُ لا يشعرُ {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} أي: عندَ اللهِ جزاءُ مكرِهم، لا يغلبه أحدٌ على مرادِه. {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} تنبيهٌ وتحذيرٌ في طَيِّ إخبارٍ، ثم توعَّدَهم بقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ}: قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (الْكَافِرُ) على التوحيدِ؛ إرادةً للجنسِ، وقرأ الباقون: (الْكُفَّارُ) على الجمعِ (¬1) {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} الآخرة، فيدخلُ المؤمنون الجنةَ، والكافرون النار. ... {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}. [43] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} هم أهلُ الكتابِ: {لَسْتَ مُرْسَلًا} من اللهِ، وإنما أنت مُدَّعٍ. {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لما أظهرُ من الأدلةِ على رسالتي. {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يعني: مؤمني أهلِ الكتابِ يشهدون بنعتي في كتبِهم، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 359)، و"التيسير" للداني (ص: 124)، و"تفسير البغوي" (1/ 541)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 221).

سورة إبراهيم عليه السلام

سُورَةُ إبراهيم عليه السلام مَكِّيَّةٌ، إلا من قوِله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا} إلى قوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}، وآيُها: ثلاث وخمسونَ، وحروفُها ثلاثةُ آلافٍ وأربعُ مئةٍ وأربعة وثلاثون حرفًا، وكَلِمُها: ثمانُ مئةٍ وثلاثون كلمةً. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}. [1] {الر} تقدَّمَ الكلامُ عليه، ومذاهبُ القراءِ فيه في أولِ سورة يونَس (¬1) {كِتَابٌ} رفعٌ على خبرِ ابتداءِ مضمرٍ تقديرُه: هذا كتابٌ. {أَنْزَلْنَاهُ} صفةٌ لكتاب {إِلَيْكَ} يا محمُد، وهو القرآنُ. {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} بالدعاءِ والإنذارِ، وعَمَّ الناسَ؛ إذ هو مبعوثٌ إلى جميعِ الخلقِ. {مِنَ الظُّلُمَاتِ} الكفرِ {إِلَى النُّورِ} الإيمانِ {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: بتسهيلِه وتمكينِه لهم. ¬

_ (¬1) الآية (1) منها.

[2]

{إِلَى صِرَاطِ} إلى دينِ {الْعَزِيزِ} الغالبِ. {الْحَمِيدِ} المستحقِّ للحمدِ. ... {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)}. [2] {اللَّهِ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (الله) بالرفع على القطعِ على الابتداءِ، وخبرُه (الذي)، ويصحُّ رفعُه على تقديرِ: هو الله الذي، وافقَهم رويسٌ راوي يعقوبَ في الابتداءِ خاصة، وإذا وصلَ خَفَضَ، وقرأ الباقون: بالخفضِ في الحالين نعتًا للعزيزِ الحميدِ، وقال أبو عمروٍ: والخفض على التقديمِ والتأخيرِ، مجازُه: إلى صراطِ اللهِ العزيزِ الحميدِ (¬1). {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ} أي: شِدَّةٌ وبلاءٌ {لِلْكَافِرِينَ} يلقونَهُ. {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} وعيدٌ لمن كفرَ ولم يخرجْ من الظلماتِ إلى النور. ... {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)}. [3] {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ} يؤثرون. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 362)، و"التيسير" للداني (ص: 134)، و"تفسير البغوي" (2/ 544)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 271)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 227 - 228).

[4]

{الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} يأخذونَ ما تعجَّل منها تهاونًا بأمرِ الآخرةِ. {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعونَ الناسَ عن الإيمان {وَيَبْغُونَهَا} يطلبونَها؛ أي: سبيلَ اللهِ {عِوَجًا} زَيْغًا ومَيْلًا عن الحقِّ. {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} ووصفُ الضلالِ بالبعدِ عبارةٌ عن تعمُّقِهم فيه، وصعوبةِ خروجهم. ... {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}. [4] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} بلغتِهم؛ ليفهموا عنه، وقد بُعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من العربِ بلسانِهم، والناسُ تبعٌ لهم، وبَعَثَ رسلَه منهم إلى الأطرافِ يترجمون لكلِّ قومٍ بلغتِهم. {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ما أُمروا به، فتلزمُهم الحجةُ {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} بالخذلانِ {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} بالتوفيقِ. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يُغْلَبُ على مشيئتهِ. {الْحَكِيمُ} الذي لا يُضِلُّ ولا يَهْدي إلا بحكمةٍ. ... {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. [5] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} وهي العصا، واليدُ، وسائرُ التسعِ.

[6]

{أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} بالدعوةِ. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} تقدَّمَ تفسيرُهما قريبًا. {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي: وقائعِه في الأممِ الماضيةِ من الكفارِ، وأَنْعُمِهِ عليهم وعلى غيِرهم من أهلِ طاعتِه، وعَبَّرَ عن النعمِ والنقمِ بأيامِ؛ إذْ هي في أيام. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} على البلاءِ. {شَكُورٍ} للنعماءِ، وفيه تنبيهٌ على أَن الصبرَ والشكرَ عنوانُ المؤمنِ. ... {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)}. [6] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ} يُذيقونَكُم {سُوءَ الْعَذَابِ} أشدَّهُ وأسوأَهُ. {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} وقال هنا (يَذُبِّحُونَ)، وفي البقرةِ بغيرِ واو؛ فحيثُ طرحَ الواوَ، فَسَّرَ العذابَ بالتذبيحِ، وحيثُ أثبَتها، جعلَ التذبيحَ جنسًا مستقلًا بنفسِه، فعطفه على العذابِ يوضِّحُه. {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} يتركوهن أحياءً. {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} البلاءُ في هذهِ الآيةِ يحتملُ أن يريدَ به المحنةَ، ويحتملُ أن يريدَ به الاختبارَ، والمعنى متقاربٌ.

[7]

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)}. [7] {وَإِذْ تَأَذَّنَ} أي: أعلمَ {رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ} يا بني إسرائيل نِعَمي، ووَحَّدْتُموني {لأَزِيدَنَّكُمْ} هو من فَضْلي وثَوابي. {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} إحساني إليكم {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} فَلَعَلِّي أُعَذِّبُكم على الكفرِ عذابًا شديدًا، ومن عادةِ أكرمِ الأكرمينَ أن يصرِّحَ بالوعدِ، ويُعرِّضَ بالوعيدِ. ... {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}. [8] {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} من الثقلينِ. {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ} عن خلقِه {حَمِيدٌ} يستوجبُ المحامدَ كلَّها، دائمٌ في ذلكَ في ذاتِه وهذا القولُ يتضمَّنُ عظمتَه تعالى، وتحقيرَهم وتوبيخَهم. ... {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}. [9] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} من كلامِ

[10]

موسى عليه السلام {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} مبتدأ، خبُره {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} المعنى: لكثرتهم لا يُحصى: عددهم إلا اللهُ. لَمَّا قرأ ابنُ مسعود هذهِ الآيةَ، قالَ: "كذبَ النَّسَّابونَ من بعدُ" (¬1)؛ يعني: أن النسابين يدعون علمَ الأنسابِ، وقد نفى تعالى علمَها إلا عنهُ، وقالَ ابن عباس: "بين إبراهيم وبينَ عدنانَ ثلاثونَ قرنًا، لا يعلمُهم إلا الله" (¬2). {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالاتِ الواضحات. قرأ أبو عمروٍ: (رُسْلُهُمْ) (لِرُسْلِهِمْ) وشبهَه بإسكانِ السين، والباقون: بضمها (¬3). {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} عَضُّوا أناملَهم غيظًا على الرسلِ. {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} على زعْمِكم. {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} من الإيمان {مُرِيبٍ} موجبٍ الريبةَ. ... {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)}. [10] {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} هذا استفهامٌ بمعنى نفيِ ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (13/ 187). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 9). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 547). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 85)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 230 - 231).

[11]

ما اعتقدوه، والشكُّ: ما استوى طَرَفاهُ وهو الوقوفُ بينَ الشيئين لا يميلُ القلبُ إلى أحدِهما. {فَاطِرِ} أي: خالقِ {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ} إلى الإيمانِ والتوبةِ {لِيَغْفِرَ لَكُمْ} شيئًا {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وهو ما بينَكُم وبينَه تعالى؛ فإنَّ الإسلامَ يَجبُّهُ دونَ المظالمِ. {وَيُؤَخِّرَكُمْ} قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ عن نافعٍ: (ويُوَخِّرَكُمْ) وشبهَه بفتحِ الواوِ بغير همزٍ، والباقونَ: بالهمز (¬1). {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو الموتُ، فلا يعاجلُكم بالعذابِ والهلاكِ {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} لا فضلَ لكم علينا، وإنما. {تُرِيدُونَ} بقولكم {أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ} برهانٍ {مُبِينٍ} ظاهرٍ على صدقِكم. ... {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}. [11] فَثَمَّ {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} معترفةً بالبشريةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 364)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 301)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 231).

[12]

{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالنبوةِ والتوحيدِ. {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: ليسَ في استطاعتِنا أن نأتيَ بما اقْتَرحْتُموه، وإنما هو أمرٌ متعلِّقٌ بمشيئةِ الله تعالى، فيخُصُّ كلَّ نبىِّ بنوعٍ من الآياتِ. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} واللامُ في قوله (فَلْيَتَوكَّلِ) لاُم الأمرِ، وسُكِّنَتْ طلبا للتخفيف، ولِكثرةِ استعمالِها، وللفرقِ بينها وبين لامِ (كَيْ) التي أُلزمَتِ الحركةَ إجماعًا. ... {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}. [12] {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ} المعنى: وأيُّ عذرٍ لنا في تركِ التوكل. {عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} بَيَّنَ لنا طرقَ النجاة. قرأ أبو عمرٍو: (سُبْلَنَا) بإسكانِ الباءِ، والباقون: بضمها (¬1). ثم أقسموا أن يقعَ منهم الصبرُ على الأذيَّةِ في ذاتِ الله فقالوا: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} في أبدانِنا وأعراضِنا. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} لِيَثبُتَ الثابتونَ. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 266)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 59 - 60)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 231 - 232).

[13]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)}. [13] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ} لَتَصِيرُنَّ. {فِي مِلَّتِنَا} حَلَفوا على أن يكونَ أحدُ الأمرين، وليسَ المرادُ الرجوعَ، لأنهم لم يكونوا في مِلَّتهم قَطُّ، وإنما هو بمعنى الصيرورة. {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أي: إلى رسلهِم: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}. ... {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}. [14] {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ} أي: أرضَهم. {مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعدِ هلاكِهم {ذَلِكَ} أي: الإسكانُ. {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي: موقفَ الحسابِ. {وَخَافَ وَعِيدِ} بالعذابِ. قرأ ورشٌ عن نافعٍ (وَعِيديِ) بإثباتِ الياءِ وصلًا، ويعقوبُ: بإثباتها في الحالين، وحذفَها الباقونَ فيهما (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 178)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 232).

[15]

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)}. [15] {وَاسْتَفْتَحُوا} أي: سأل الأنبياءُ النصرَ {وَخَابَ} خسرَ. {كُلُّ جَبَّارٍ} الذي يجبرُ الخلق على مرادِه {عَنِيدٍ} معاندٍ للحق. قرأ حمزةُ: (خَافَ) و (خَابَ) بالإمالةِ (¬1). ... {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)}. [16] {مِنْ وَرَائِهِ} أي: أمامِه {جَهَنَّمُ} يُلْقى فيها. {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} هو ما يسيلُ من جلودِ أهلِ النارِ من القيحِ والدَّمِ. ... {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}. [17] {يَتَجَرَّعُهُ} يَتكَلَّفُ جَرْعَهُ. {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي: يُجَوِّزُه حَلْقَهُ. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي: كأن أسبابَ الموتِ أحاطَتْ به من جميعِ جهاتِه. {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} فيستريح. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 362)، و"التيسير" للداني (ص: 134)، و"تفسير البغوي" (2/ 552)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 233).

[18]

{وَمِنْ وَرَائِهِ} أي: بين يديهِ في كُلِّ وقتٍ يستقبلُه. {عَذَابٌ غَلِيظٌ} وهو الخلودُ في النار. ... {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}. [18] {مَثَلُ} أي: صفةُ. {الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} التقديرُ: مثلُ أعمالِ الذين كفروا. {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} أي: قَوِيَتْ عليه ففرَّقَتْهُ. {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} ريحُهُ، فحُذِفَتِ الريحُ، ووُصِفَ اليومُ بالعصوفِ مجازًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (الرِّيَاحُ) على الجمع، والباقون: بالإفراد (¬1). وهذا مثلٌ ضربَهُ اللهُ لأعمالِ الكفارِ، يريدُ أنهم لا ينتفعون بأعمالِهم التي عملوها في الدنيا؛ من الصدقةِ، وصلةِ الرحمِ، وإغاثةِ الملهوفِ، لأنهم أشركوا فيها غيرَ الله، فهي كالرمادِ الذي ذرتْهُ الريحُ، لا ينتفعُ به، فذلك قوله: {لَا يَقْدِرُونَ} في الآخرةِ {مِمَّا كَسَبُوا} في الدنيا {عَلَى شَيْءٍ} أي: لا ينتفعون ثَمَّ بما صنعوا هنا. {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} الذي لا تُدْركُ غايتُه فَيُرجَى الخلوصُ منه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 364)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 265)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 233)، وهي بخلاف عن عاصم.

[19]

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)}. [19] {أَلَمْ تَرَ} خطابٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ به أُمَّتُهُ. {أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (خَالِقُ) بألفٍ وكسرِ اللام ورفعِ القافِ على وزن فاعِل، وجَرِّ ما بعدَهُ إِضافةً، وقرأ الباقون: (خَلَقَ) بفتح اللام والقافِ بغيرِ ألفٍ على وزن فَعَلَ، ونصبِ ما بعدَه، إلا أن التاء من السمواتِ تكسر لأنها تاءُ جمع المؤنث (¬1). {بِالْحَقِّ} لم يخلْقهُنَّ عبثًا سبحانَهُ {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يُعْدِمْكُم. {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} يخلقُه مكانَكم أطوعَ له منكم. ... {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)}. [20] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} ممتنعٍ، بل هو سهلٌ يسيرٌ. ... {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 362)، و"التيسير" للداني (ص: 134)، و"تفسير البغوي" (2/ 554)، و"الكشاف" للزمخشري (2/ 374)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 298 - 299)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 234).

[21]

لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)}. [21] {وَبَرَزُوا} أي: ويبرزُ الكفارُ من قبورِهم. {لِلَّهِ جَمِيعًا} أي: لحسابِه. {فَقَالَ} أي: فيقولُ {الضُّعَفَاءُ} هم الأتباعُ {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} عن الإيمانِ، وهم المتبوعون: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} جمعُ تابعٍ، وهو المستَنُّ بآثارِ مَنْ يتبعُه. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} دافعونَ. {عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي: هل أنتم مُغْنونَ عنا بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذابِ اللهِ، فَثَمَّ. {قَالُوا} يعني: القادةَ المتبوعين. {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} إلى الإيمان {لَهَدَيْنَاكُمْ} إليه. {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} الألفُ للتسويةِ، وليستْ بألفِ استفهامٍ، بل هي كقولِه: (أَأَنْذَرْتُهُمْ أَمْ لَمْ تنذِرْهُمْ)، المعنى: مستوٍ علينا الجزعُ والصبرُ {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} مخلصٍ. ... {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)}.

[22]

[22] {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} فُرِغَ من الحسابِ، ودخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، قامَ خطيبًا في الأشقياء فقالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} الذي لا ريبَ فيه، وهو البعثُ والحسابُ، والجنةُ والنارُ، فوفى لكم به. {وَوَعَدْتُكُمْ} وعدَ الباطلِ، وهو أنْ لا بعثَ ولا حسابَ، ولا جنةَ ولا نارَ. {فَأَخْلَفْتُكُمْ} كَذَبْتكم. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} تسلُّطٍ أُلْجِئكُم به إلى الكفرِ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1) {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} إلَّا دعائي إياكُم، وهو استثناءٌ منقطعٌ، تقديره: لكنْ دعوتُكم. {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أسرعْتُم إجابتي. {فَلَا تَلُومُونِي} بوسوستي. {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} حيثُ أطعتموني، ولم تُطيعوا رَبَّكم. {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} بمغيثِكم. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} قراءة العامةِ: (بِمُصْرِخِيَّ) بفتحِ الياء، وقرأ حمزةُ: بكسرِها، قالَ ابنُ الجزريِّ: وهو لغةُ بني يربوعٍ، نصَّ على ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 364)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 234).

[23]

قُطْرُبٌ، وأجازَها هو والفَرَّاءُ، وإمامُ اللغةِ والنحوِ والقراءةِ أبو عمرِو بنُ العلاء، وقالَ القاسمُ بنُ مَعْنٍ النَّحْوِيُّ: هي صوابٌ، ولا عبرةَ بقولِ الزمخشريِّ وغيرِه مِمَّنْ ضَعَّفَها أَوْ لَحَّنَها؛ فإنها قراءةٌ صحيحة اجتمعتْ فيها الأركانُ الثلاثةُ، وقرأ بها أيضًا يحيى بنُ وَثَّابٍ، وسليمانُ بنُ مهرانَ الأعمشُ، وحمرانُ بنُ أعين، وجماعةٌ من التابعينَ، وقياسُها في النحوِ صحيحٌ، وذلكَ أن الياءَ الأولى، وهي ياءُ الجمع، جَرَتْ مَجرى الصحيحِ لأجلِ الإدغامِ، فدخلتْ ساكنةً عليها ياءُ الإضافةِ، وحُرِّكت بالكسرِ على الأصلِ في اجتماعِ الساكنين، وهذه اللغةُ شائعةٌ ذائعةٌ باقيةٌ في أفواهِ الناس إلى اليومِ، يقولون: ما فِيِّ أفعلُ كذا، ويطلقونها في كلِّ ياءاتِ الإضافةِ المدغمِ فيها، فيقولون: ما عَلَيِّ منكَ، ولا إِلَيِّ أمرُك، وبعضُهم يبالغُ في كسرَتِها حتى تصيرَ ياءً، انتهى (¬1). وقال الشيطانُ: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أي: بإشراكِكم إيايَ في الدنيا معَ اللهِ في الطاعة؛ أي: تبرأْتُ منهُ واستنكرتُه. قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ: (أَشْرَكْتُمُوني) بإثباتِ الياءِ وَصْلًا، ويعقوبُ: بإثباتِها في الحالينِ، وحَذَفَها الباقون فيهما. {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تتمةُ كلامِ الخبيثِ. ... {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)}. [23] {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 298 - 299).

[24]

من تحتِ ما علا منها؛ كالمباني والأشجارِ {الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} دائمينَ فيها. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} المعنى: أدخلَتْهم الملائكةُ الجنةَ بأمرِ الله تعالى. {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} أي: يسلِّمُ بعضُهم على بعض، ويسلِّمُ الملائكةُ عليهم. ... {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)}. [24] {أَلَمْ تَرَ} هو ألم تعلَمْ. {كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} هي كلمةُ التوحيدِ. {كَشَجَرَةٍ} أي: كثمرةِ شجرةٍ {طَيِّبَةٍ} هي النخلةُ. {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} متمكِّنٌ في الأرضِ {وَفَرْعُهَا} أغصانُها مرتفعةٌ. {فِي السَّمَاءِ} أي: نحوَ السماءِ، كذلك أصلُ هذهِ الكلمةِ راسخٌ في قلبِ المؤمنِ بالمعرفةِ والتصديقِ، فإذا تكلَّمَ بها، صَعِدَتْ نحوَ السماءِ كصعودِ هذهِ الشجرة. ... {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)}. [25] {تُؤْتِي أُكُلَهَا} تُعطي جَناها. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو:

[26]

(أُكْلَهَا) بإسكانِ الكافِ، والباقونَ: بضمها (¬1). {كُلَّ حِينٍ} أَقَّتَهُ اللهُ لإثمارِها، والحينُ في اللغةِ: الوقتُ، واختلفوا في معناهُ هنا، فقيل: هو سنةٌ؛ لأنَّ النخلةَ تحملُ كلَّ سنةٍ مرةً، وقيلَ: ستةُ أشهرٍ؛ لأن ذلكَ مدةُ إطلاعِها إلى وقتِ صِرامِها. {بِإِذْنِ رَبِّهَا} بإرادةِ خالقِها، كذلكَ عملُ المؤمنِ يصعدُ كلَّ وقتٍ، وشُبِّهَ الإيمانُ بالشجرةِ؛ لأنَّ الشجرةَ لا بدَّ لها من أصلٍ ثابتٍ، وفرعٍ قائمٍ، ورأسٍ عالٍ، كذلكَ الإيمانُ لا بدَّ له من تصديقٍ بالقلبِ، وقولٍ باللسانِ، وعملٍ بالأبدانِ. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} بضربِ الأمثالِ؛ لأن فيها زيادةَ إفهامٍ لذوي العقولِ والأفهامِ. ... {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)}. [26] {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} هي كلمةُ الشِّرْكِ. {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} هي الحَنْظَلُ. قرأ الكسائيُّ: (خَبِيثَةٍ) بإمالةِ التاءِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيثِ. {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} اسْتُؤْصِلَت قَلْعًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ ¬

_ (¬1) انظر: "المحتسب" لابن جني (1/ 362)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 235).

[27]

كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (خَبِيثَةٌ اجْتُثَّتْ) بضمِّ التنوينِ في الوصلِ، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ (¬1). {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} استقرارٍ. ... {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}. [27] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} هو قولُ: لا إلهَ إلا اللهُ {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قبلَ الموتِ {وَفِي الْآخِرَةِ} يعني: في القبرِ، وردَ في الحديثِ: "إِنَّ الرُّوحَ تَعُودُ إِلَى الْمَيِّتِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولاَنِ: مَا رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَدِينيَ الإِسْلاَمُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّد، فَيَنْتَهِرَانِهِ الثَّانِيَةَ وَيَقُولاَنِ: مَا رَبَّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ، فَيَقُولُ: اللهُ رَبِّي، وَمُحَمَّد نَبِيِّي، وَالإِسْلاَمُ دِيِني، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قَدْ صدَقَ عَبْدِي"، وذلكَ قولُه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية (¬2)، وكانَ - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغَ من دفنِ الميتِ، وقفَ عليهِ وقالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِأخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبيتَ؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 299)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 235). (¬2) رواه البخاري (1303)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عذاب القبر، ومسلم (2871)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- نحوه. (¬3) رواه أبو داود (3221)، كتاب: الجنائز، باب: الاستغفار عند القبر للميت في =

[28]

{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} المشركينَ، فلا يُثَبِّتُهُمْ. {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من توفيقٍ وخذلانٍ وغيرِهما، لا اعتراضَ عليه. ... {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)}. [28] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} أي: شكرَ نعمتِه عليهم في محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. {كُفْرًا} كفروا به. واختلافُ القراء في الهمزتينِ من (يَشَاءُ أَلَمْ) كاختلافِهم فيهما من (السُّفَهاءُ أَلاَ) في سورة البقرة [الآية: 13]، و (نِعْمَت) رُسِمَتْ بالتاءِ في أحدَ عشرَ موضعًا، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ (¬1). {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ} الذينَ شايعَوهم في الكفرِ. {دَارَ الْبَوَارِ} الهلاكِ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، وورشٌ عن نافعٍ، والدوريُّ عن الكسائيِّ، وابنُ ذكوانَ عنِ ابنِ عامرٍ: (البَوَارِ) بالإمالةِ، واختلِفَ فيه عن حمزةَ، وابنِ ذكوانَ، فرُوي عن الأولِ الإمالةُ بينَ بينَ، وعنِ الثاني الإمالةُ والفتحُ، وقرأ الباقون: بالفتح (¬2). ¬

_ = وقت الانصراف، والحاكم في "المستدرك" (1372)، وغيرهما عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. (¬1) انظر: الآية (232) من سورة البقرة. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 58)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 236).

[29]

{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)}. [29] ثمَّ بَيَّنَ دارَ البوارِ فقالَ: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها، فَيُقاسونَ حَرَّها. {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} المستقرُّ. ... {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}. [30] {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أمثالًا، وليسَ للهِ نِدٌّ. {لِيُضِلُّوا} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (لِيَضِلُّوا) بفتحِ الياءِ على اللزومِ , واختلِفَ عن رويسٍ راوي يعقوبَ، وليسَ الضلالُ ولا الإضلالُ غرضهم في اتخاذِ الأنداد، لكنْ لما كانَ نتيجتَه، كانَ كالغرضِ، وقرأ الباقونَ: بالضمِّ؛ أي: لِيُضلوا هم الناسَ (¬1). {عَنْ سَبِيلِهِ} الذي هو التوحيدُ. {قُلْ تَمَتَّعُوا} في الدنيا بشهواتِكم {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} وعيدٌ وتهديدٌ، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 134)، و"تفسير البغوي" (2/ 561)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 299)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 237).

[31]

{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}. [31] {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وروحٌ عن يعقوبَ: (لِعِبَادِي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (¬1). {يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: الصلواتِ الخمسَ. {وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا} صدقةَ التنفُّلِ. {وَعَلَانِيَةً} الزكاةَ المفروضةَ، ونصبُهما على المصدرِ؛ أي: إنفاقَ سرٍّ وعلانيةٍ، وقولُه: (يُقِيمُوا) قالتْ فرقةٌ من النحويينَ: جزمُه بإضمارِ لامِ الأمرِ، وقال فرقةٌ: وهو فعلٌ مضارعٌ يبنى لما كانَ في معنى فعلِ الأمرِ، لأنَّ المرادَ: أقيموا. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} مُخَالَّةٌ؛ أي: مصادَقَةٌ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (لاَ بَيع)، (وَلا خِلاَلَ) بالفتحِ وعدمِ التنوينِ، والباقون: بالرفعِ والتنوينِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 364)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 300)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 237). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 82)، و"تفسير البغوي" (2/ 562)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 211)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 237).

[32]

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)}. [32] {اللَّهُ} مبتدأ، خبرُه {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} تعيشون به، وهو يشملُ المطعومَ والملبوسَ. {وَسَخَّرَ} ذَلَّل {لَكُمُ الْفُلْكَ} السفنَ. {لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} حيثُ توجَّهْتم. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} لانتفاعِكم. ... {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)}. [33] {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أي: مُتَّصِلَي السيرِ {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يتعاقبان بالزيادةِ والنقصانِ، والإضاءةِ والإظلامِ، والحركةِ والسكون فيهما. ... {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}. [34] {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ} أي: بعضِ جميعِ {مَا سَأَلْتُمُوهُ} فإنَّ الموجودَ من كل صنفٍ بعضُ ما في قدرةِ الله.

[35]

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} أي: تستوفوا عَدَّها. وتقدمَ التنبيهُ على مذاهب القراء في (نِعْمَتَ) ورسمِها. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ} بالمعصيةِ {كَفَّارٌ} لِنِعَمِ ربِّهِ. ... {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)}. [35] {وَإِذْ قَالَ} أي: واذكرْ إذْ قالَ {إِبْرَاهِيمُ} قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرِ (إبْرَاهَامَ) بالألف (¬1)، ومعنى إبراهيم بالسريانية: الأبُ الرحيمُ. {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ} مكةَ {آمِنًا} يُؤْمَنُ فيه، والفرقُ بينَه وبينَ قوله: {اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] أن المسؤولَ في الأولِ إزالةُ الخوفِ عنه، وتصييرهُ آمِنًا، وفي الثانيةِ جعلُه من البلادِ الآمنة. {وَاجْنُبْنِي} بَعِّذني. {وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} جمعُ صَنَمٍ، وهو ما كانَ مُصَوَّرًا، والوثنُ ما كانَ غيرَ مصوَّرٍ. ... {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}. ¬

_ (¬1) كما تقدم عنه. وانظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 266)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 238).

[36]

[36] {رَبِّ إِنَّهُنَّ} أي: الأصنامَ {أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} أي: ضَلُّوا بسببهنَّ. {فَمَنْ تَبِعَنِي} على الإسلامِ {فَإِنَّهُ مِنِّي} من أهلِ ديني. {وَمَنْ عَصَانِي} ولم يؤمنْ بي {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بتوبتِكَ على الكفرةِ حتى يؤمنوا. قرأ الكسائيُّ (عَصانِي) بالإمالة (¬1). ... {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}. [37] {رَبَّنَا إِنِّي} قرأ نافعُ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، (إِنِّيَ) بفتحِ الياءِ، والباقون: بإسكانها (¬2). {أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: بعضَ ذريتي، وهم إسماعيلُ ومَنْ وُلِدَ منه، وذلك أن إبراهيمَ عليه السلام لما سارَ إلى مصرَ، ومعه زوجتُه سارةُ، وهبهَا فرعونُ مصرَ هاجرَ، فلما قدمَ إلى الشام، وأقامَ بينَ الرملةِ وإيليا، وكانت سارةُ لا تحمل، فوهبَتْ هاجرَ لإبراهيمَ عليه السلام، فوقعَ عليها، فولدَتْ ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 37)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 273)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 239). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 364)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 30)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 239).

له إسماعيلَ عليه السلام، ومعناهُ بالعبرانيِّ مُطيعُ اللهِ، وكانَتْ ولادتُه لمضيِّ ستٍّ، وثمانينَ سنةً من عُمْرِ إبراهيمَ، فحزنَتْ سارةُ لذلك، ووهبهَا اللهُ إسحَقَ، وولدَتْهُ ولها تسعونَ سنةً، ثم غارَتْ سارةُ من هاجرَ وابنِها، وطلبتْ من إبراهيمَ أن يُخْرِجَهما عنها، فسارَ بهما إِلى الحجاز، وتركَهما بمكةَ بإذنِ اللهِ تعالى، وليس بمكةَ يومئذٍ أحدٌ، ولا بها ماءٌ، ووضعَ عندَهما جرابًا فيه تمرٌ، وسقاءً فيه ماءٌ، ثم قَفّى إبراهيمُ منطلقًا، فتبعَتْه أمُّ إسماعيلَ فقالَتْ: يا إبراهيمُ! أينَ تذهبُ وتترُكُنا بِهذا الوادي الذي ليسَ فيه أنيسٌ ولا شيء؟ وقالتْ له ذلكَ مِرارًا، وهو لا يلتفِتُ إليها، فقالت له: آللهُ أَمَرَكَ بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذًا لا يُضَيِّعُنا الله، ثم رجعتْ، فانطلق إبراهيمَ عليه السلام، حتى إذا كانَ عندَ الثنيةِ حيثُ لا يرونَهُ، استقبلَ القبلةَ بِوَجْهِه، ثم دعا بهؤلاءِ الدَّعواتِ، ورفعَ يديهِ فقال: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} يعني: وادي مكةَ؛ لأنها حجريةٌ لا تنُبتُ {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} سماه محرَّمًا لأنه يحرم عندَهُ ما لا يحرُمُ عندَ غيرِه. {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} واللامُ لامُ (كي)، وهي متعلقة بـ (أسكنتُ). {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً} أي: قلوبًا {مِنَ النَّاسِ} قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ (أَفْئِيدَةً) بياءٍ بعدَ الهمزةِ (¬1)، و (مِنْ) للتبعيضِ؛ أي: أفئدةً من أفئدةِ الناسِ، قالَ مجاهدٌ: لوقالَ: (أَفْئِدَةَ النَّاسِ)، لزاحَمَتْهم فارسُ والرومُ والتركُ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 135)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 299 - 300)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 273)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 239).

والهندُ، وقال سعيدُ بنُ جبير: لحجَّ اليهودُ والنصارى والمجوسُ، ولكنَّه قالَ: (أفئدةً من الناسِ)، فهم المسلمون (¬1). {تَهْوِي} تميلُ {إِلَيْهِمْ} وتقصدُهم بسرعة. {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ما رزقْتَ سكانَ القرى ذواتِ الماءِ. {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} تلكَ النعمةَ، فأجابَ اللهُ دعوتَهُ، وجعله حَرَمًا آمنًا يُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيءٍ. ورُويَ أنَّ الطائفَ كانتْ من مدائنِ الشامِ بأُرْدُنّ، فلما دعا إبراهيمُ بهذا الدعاء، أمرَ اللهُ جبريلَ عليه السلام حتى قَلَعَها من أصلِها، فأدارَها حولَ البيتِ سَبْعًا، ووضعَها قريبَ مكةَ، وبهذهِ القصَّةِ سُمِّيَت الطائفَ، وهو موضعُ ثَقيف، ومنها أكثرُ ثمراتِ مكةَ. وجعلَتْ أمُّ إسماعيلَ تُرضعه وتشربُ من ذلكَ الماءِ حتَّى إذا نَفِدَ ما في السقاءِ، وعطشَتْ، وعطشَ ابنُها، وجعلَتْ تنظرُ إليه يتلوَّى، فانطلقتْ كراهةَ أن تنظرَ إليه، فوجدتِ الصفا أقربَ جبلٍ في الأرض يَليها، فقامَتْ عليه، ثم استقبلتِ الواديَ تنظُر إليهِ هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطَتْ من الصفا، حتى إذا بلغتِ الواديَ رفعتْ طرفَ درعِها، ثم سَعَتْ سعيَ الإنسانِ المجهودِ حتَّى جاوزتِ الواديَ، ثم أَتَتِ المروةَ، فقامتْ عليها ونظرتْ هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ففعلتْ ذلكَ سبعَ مراتٍ، قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنه: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا"، فلما أشرفتْ على المروةِ، سمعتْ صوتًا فقالت: مَهْ؛ تريدُ نفسَها، ثم تسمَّعَتْ، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 565)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 47).

فسمعتْ أيضًا، فقالتْ: قد أَسْمعْتَ إنْ كانَ عندَكَ غوثٌ، فإذا هي بالمَلَكِ عندَ موضعِ زمزم، فبحثَ بعقِبه، أو قالَ بجناحِه حتى ظهرَ الماءُ، فجعلَتْ تُحَوِّضُهُ وتقولُ بيدِها هكذا، وجعلت تغرفُ من الماءِ في سقائِها، وهي تقولُ بعدَما تغرفُ: زَمْ زَمْ، قالَ ابن عباس: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، أوقال: لَوْ لَمْ تغرِفْ مِنَ الْمَاءِ، لَكَانَ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا". قال: فشربتْ وأرضعتْ ولدَها، فقالَ لها الملَكُ: لا تخافي الضَّيْعَةَ؛ فإنَّ هاهنا بيتَ اللهِ عز وجل يَبْنيه هذا الغلامُ وأبوه، وإن اللهَ عز وجل لا يُضيِّعُ أهلَه، وكان البيتُ مرتفعًا من الأرضِ كالرابيةِ تأتيهِ السيولُ فتأخذُ عن يمينِه وشمالِه، فكانَ كذلكَ حتَّى مَرَّتْ بهم رُفْقَةٌ من جُرْهُم مُقبلينَ من طريقِ كُدَيٍّ، فنزلوا في أسفلِ مكةَ، فرأوا طائرًا عائِفًا، فقالوا: إن هذا الطائرَ لَيدورُ على ماءٍ، لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماءٌ، فأرسلوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأمُّ إسماعيلَ عندَ الماءِ، فقالوا: أتأذنينَ لنا أن ننزلَ عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء، قالوا: نعم، ورُوي أنهم قالوا: أَشْرِكينا في مائك نشرِككِ في ألبانِنا، ففعلتْ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كانَ بها أهلُ أبياتٍ منهم، وشبَّ إسماعيلُ عليه السلام وتعلَّمَ العربيةَ منهم، أعجَبَهم حينَ شَبَّ، فلما أدركَ زَوَّجوهُ امرأةً منهم، وماتتْ هاجرُ، وجاءَ إبراهيمُ عليه السلام مكةَ (¬1)، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِه مستوفىً، وبناءُ الكعبةِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3184)، كتاب: الأنبياء، باب: "يزفُّون"، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

[38]

الشريفةِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [الآية: 125]. ... {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)}. [38] {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي} من فراقِ إسماعيلَ وأُمِّهِ. {وَمَا نُعْلِنُ} نُظْهِرُ من التجلُّدِ لِسارةَ. {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} لأنه العالِمُ بعلمٍ ذاتِيٍّ تستوي نسبتُه إلى كلِّ معلومٍ، و (مِنْ) للاستغراق. ... {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)}. [39] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي} أَعْطاني. {عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وتقدَّمَ أن إسماعيلَ وُلِدَ لمضيِّ ستٍّ وثمانينَ سنةً من عمرِ أبيه، وأما إسحاقُ ولدَ لمضيِّ تسعينَ سنةً من عمرِ أبيه، وقيلَ غيرُ ذلك، وتقدَّم ذكرُ إسماعيلَ وإسحاقَ، ومقدارُ عمرِهما في سورةِ البقرة {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} لَمجيبُهُ. ... {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)}. [40] {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} مُتَمِّمَها. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وبعضِ؛ لأنه علمَ أنَّ من ذُرِّيته من لا يؤمنُ.

[41]

{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} أثبتَ أبو عمرٍو، أبو جعفرٍ، وورشٌ، حمزةُ الياءَ في (دُعَائِي) وصلًا، وفي الحالينِ يعقوبُ والبزيُّ، واختلِفَ عن قنبلٍ وصلًا ووقفًا، وحذفَها الباقونَ في الحالين (¬1). ... {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}. [41] {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} قيل: استغفرَ لهما وهما حَيَّانِ رجاءَ إسلامِهما، وقيلَ: إن أُمَّهُ أسلمَتْ، فأرادَ إسلامَ أبيه. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ} أي: يَثْبُتُ {الْحِسَابُ}. ... {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}. [42] ثم وعدَ المظلومَ وأوعدَ الظالم فقالَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الخطابُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ بالنهيِ غيرُه ممَّنْ يليقُ به أن يحسبَ مثلَ هذا، والغفلةُ معنىً تمنعُ الإنسانَ منَ الوقوفِ على حقيقةِ الأمورِ، واستدلَّ بعضُهم على قيامِ الساعةِ بموتِ المظلومِ مظلومًا، ورُوي أنه وُجِدَ على جدارِ صَخْرَةِ بيتِ المقدسِ: نَامَتْ عُيُونُكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ ... يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لِمْ تنَمِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 363)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 351)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 273)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 240).

[43]

{إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} بالياء. قراءة العامة: (يُؤَخِّرُهُمْ) بالياء؛ أي: اللهُ تعالى، وأبو جعفرٍ، وورشٌ ينصبان الواوَ بغيرِ همزٍ، وقرأ رويسٌ عن يعقوبَ: (نُؤَخِّرُهُمْ) بنونِ العظَمَةِ (¬1). {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ} أي: لا تغمضُ. {فِيهِ الْأَبْصَارُ} من هولِ ما تراهُ من ذلكَ اليوم. ... {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}. [43] {مُهْطِعِينَ} مسرعينَ في خوفٍ {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} أي: رافعِيها. {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: لا تغمضُ عينُهم فهي شاخصةٌ. {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي: صِفْرٌ من الخير، لا تعي شيئًا؛ لخوفِها، ويقالُ لكلِّ أجوفٍ خالٍ: هواءٌ، فكأنه سُمِّي بذلكَ لحلولِ الهواءِ فيه. ... {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)}. [44] {وَأَنْذِرِ النَّاسَ} يا محمدُ {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} وهو يومُ القيامةِ. {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 363)، و"التيسير" للداني (ص: 4/ 370)، و"إملاء ما منَّ به الرحمن" للعكبري (2/ 39)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 30، 400)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 242).

[45]

{رَبَّنَا أَخِّرْنَا} أَمْهِلْنا {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي: رُدَّنا إلى الدنيا. {نُجِبْ دَعْوَتَكَ} إلى التوحيدِ. {وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيما جاؤونا به، فيجابون توبيخًا على إنكارِهم البعثَ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ} حلفتُم {مِنْ قَبْلُ} في الدنيا. {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} عنها؟! ... {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}. [45] {وَسَكَنْتُمْ} قُرِّرْتُمْ {فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} كقومِ نوحٍ وعادٍ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} عَرَفْتُم عقوبتَنا إياهم {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} من أحوالِهم؛ أي: بَيَّنَّا لكم أنكم مثلُهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ. ... {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}. [46] {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} وهو تكذيبُ الرسل. {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} أي: محفوظٌ عندَهُ يجازيهم عليه. {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} أي: قريشٍ ومتقدمي الكفارِ. {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} قراءة العامة: (لِتَزُولَ) بكسرِ اللامِ الأولى وفتح

الثانية، معناه: لم يكنْ مكرُهم بمزيلٍ الجبالَ، وقرأ الكسائيُّ بفتحِ اللام الأولى وضمِّ الثانية (¬1)؛ أي: إنَّ مكرَهم وإنْ عَظُمَ حتى بلغَ بمحلٍّ يزيلُ الجبالَ لم يقدِروا على إزالةِ أمرِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وروي أن الآيةَ نزلَتْ في نمرود الجبارِ الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه، قال النمرودُ: إنْ كانَ ما يقولُ إبراهيمُ حقًّا، فلا أنتهي حتى أعلمَ ما في السمواتِ، فبنى صرحًا عظيمًا ببابلَ، ورامَ الصعودَ إلى السماءِ ينظرُ إلى إله إبراهيمَ، واختلِفَ في طولِ الصَّرحِ في السماء، فقيل: خمسةُ آلافِ ذراعٍ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ، ووَهْبٍ، وقيل: فرسخانِ، وهو قولُ كعبٍ، ومقاتلٍ، ثم عمدَ إلى أربعةِ أفراخٍ من النسورِ، وأطعمَها اللحمَ والخبزَ حتى كبَرتْ، ثم قعدَ في تابوتٍ ومعه غلامٌ له، وقد حملَ القوسَ والنشَّابَ، وجعلَ لذلكَ التابوتِ بابًا من أعلاه، وبابًا من أسفلِه، ثم ربطَ التابوتَ بأرجلِ النسورِ، وعلَّق اللحمَ على عصًا فوقَ التابوتِ، ثم خَلَّى عن النسورِ فَطِرْنَ طمَعًا في اللحمِ حتى أَبْعَدْنَ في الهواءِ، وحالتِ الريحُ بينَها وبينَ الطيرانِ، وقالَ لغلامه: افتحِ البابَ الأعلى فانظرْ ففتحَ، فإذا السماءُ كهيئتِها، وفتحَ البابَ الأسفلَ فإذا الأرضُ سوداءُ مظلمةٌ، ونودي: أيها الطاغي! أين تريد؟! فأمرَ عند ذلكَ غلامَه فرمى بسهمٍ، فعادَ إليه السهمُ متلطِّخًا بالدم، فقال: كُفِيتُ شُغْلَ إلهِ السماءِ، واختلِفَ في ذلكَ السهمِ بأيِّ شيءٍ تَلَطَّخَ؟ فقيل: من سمكةٍ في السماءِ، من بحرٍ معلَّقٍ في الهواء، وقيل: أصابَ طيرًا من الطيورِ فتلطخ بدمِه، ثم أمرَ نمرودُ غلامَه أن يضربَ العصا، وينكسَ اللحمَ، ففعل ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 363)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"تفسير البغوي" (2/ 569)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 243).

[47]

ذلك، فهبط النسورُ بالتابوتِ، فسمعت الجبالُ حفيفَ التابوتِ والنسورِ، ففزعَتْ، وظنتْ أن حدثَ في السماءِ أمرٌ، أو أنَّ الساعةَ قد قامت، فكادتْ تزولُ عن أماكِنها، فذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ثم أرسلَ اللهُ ريحًا على صرحِ نمرود، فألقتْ رأسَه في البحر، وانكفأتْ بيوتُهم، وأخذت النمرودَ الرجفةُ، وتبلبلَتْ ألسنةُ الناسِ حينَ سقطَ الصرحُ من الفزعِ، فتكنموا بثلاثةٍ وسعبينَ لسانًا، فلذلك سميت: بابِل؛ لتبلبلِ الألسنِ بها، وكانَ لسانُ الناسِ يومئذٍ بالسريانيةِ (¬1). ... {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}. [47] {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ تقديُره: فلا تحسبنَّ اللهَ مخلِفَ رسلِه وعدَهُ من النصرِ لأوليائِه، وهلاكِ أعدائِه، وهذا تثبيتٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولغيرِه من أُمَّتهِ، المعنى: لا تحسَبْ يا محمدُ أنتَ ومن اعتبرَ بالأمرِ من أمتكَ أنَّ اللهَ لا ينجِزُ ميعادَه في نصرةِ رسلهِ ومعاقبةِ مَنْ كفرَ بهم. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالبٌ لا يُدَافَعُ. {ذُو انْتِقَامٍ} من الكَفَرَةِ، لا سبيلَ إلى عفوِه عنهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (13/ 244)، و"تفسير البغوي" (2/ 569).

[48]

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}. [48] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} أي: تبدَّلُ أوصافُها بتغيرِ آكامِها وآجامِها وأشجارِها {وَالسَّمَاوَاتُ} أيضًا تبُدَّلُ بزوالِ شمسِها وقمرِها، وكونِها مرةً كالدِّهانِ، ومرةً كالمُهْلِ. {وَبَرَزُوا} خرجوا من قبورِهم {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي: لحسابه. قرأ أبو عمرٍو، وورشٌ عن نافعٍ، والدوريُّ عن الكسائي: (القَهَّارِ) بالإمالةِ حيثُ وقعَ، واختلِفَ عن حمزةَ وابنِ ذكوانَ (¬1). ... {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)}. [49] {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ} أي: مقرونينَ مع شياطينِهم. {فِي الْأَصْفَادِ} القيودِ، واحِدُه صَفَدٌ. ... {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)}. [50] {سَرَابِيلُهُمْ} قُمُصُهُمْ. {مِنْ قَطِرَانٍ} وهو عصارةُ شجرٍ تسمَّى الأَبْهُلَ يُستخرَجُ بالنارِ، وهو كريهُ اللونِ والطعمِ والرائحةِ، سريعُ الالتهابِ، تُطْلَى به الإبلُ الجَرْبى، فيحرقُ الجربَ والجلدَ، تُطلى به جلودُ الكفارِ فيصيرُ قُمُصًا لهم، فيضطرِمُ عليهم ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 266)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 273)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 244).

[51]

نارًا. قراءة العامة: بفتحِ القاف وكسر الطاءِ على كلمةٍ واحدةٍ، وقرأ يعقوبُ بروايةِ زيدٍ: (قِطْرٍ) بكسر القاف وسكون الطاء وتنوينِ الراء (آنٍ) بهمزةٍ مقطوعةٍ ممدودة على كلمتين؛ أي: من نحاسٍ مُذابٍ انتهى حَرُّهُ (¬1)، وأبو عمرو يُدغم الدالَ من (الأَصْفَادِ) في السينِ من (سَرَابِيلُهُمْ) (¬2). {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ} أي: تُغَطِّيها. {النَّارُ} لأنهم لم يتوجَّهوا بها إلى الحقِّ. ... {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}. [51] {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} من خيرٍ وشرٍّ، تلخيصُه: برزوا للجزاءِ. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي: فاصلُه بينَ خلقِه بالإحاطةِ التي له بدقيقِ أمورِهم وجليلِها. ... {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}. [52] {هَذَا} أي: القرآنُ {بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} كفايةٌ لهم {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 572)، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 70)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 244 - 245). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 266)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 244).

لِيُخَوَّفوا به {وَلِيَعْلَمُوا} بالحجَجِ التي أقامَها اللهُ تعالى. {أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا شريكَ له {وَلِيَذَّكَّرَ} ليتَّعِظَ {أُولُو الْأَلْبَابِ} ذَوو العقولِ. روي أن قولَه: {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} نزلت في أبي بكرٍ الصديقِ رضي الله عنه (¬1)، واللهُ أعلمُ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (9/ 386).

سورة الحجر

سُوْرَةُ الحِجر مكيةٌ، وآيُها تسعٌ وتسعونَ آيةً، وحروفُها ألفانِ وسبعُ مئةٍ وأحد وسبعونَ حرفًا، وكَلِمُها ستُّ مئةٍ وأربعٌ وخمسونَ كلمةً. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}. [1] {الر} تقدَّمَ الكلامُ عليه، ومذاهبُ القراء فيه أولَ سورةِ يونسَ (¬1) {تِلْكَ} أي: هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ} أي: وآيات قرآنٍ. {مُبِينٍ} يُبَيِّنُ الحقَّ من الباطلِ، والحلالَ من الحرامِ، عطفُ القرآنِ على الكتابِ، وإن كان هو هو؛ لاختلافِ لفظيهما، وتنكيُره للتفخيمِ؛ أي: آياتُ الجامعِ؛ لكونِهِ كتابًا كاملًا، وقرآنًا يبينُ الرشدَ من الغيِّ بيانًا عربيًّا. ... {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}. [2] {رُبَمَا} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ: بتخفيف الباءِ، والباقونَ: بتشديدها، وهما لغتان، و (رُبَّ) للتقليلِ، و (كَمْ) للتكثيرِ، ¬

_ (¬1) الآية (1) منها.

[3]

و (رُبَّ) تدخلُ على الاسمِ، و (رُبَّمَا) على الفعل، يقال: رُبَّ رجلٍ جاءني، ورُبَّما جاءني رجلٌ، وأدخل (ما) هاهنا؛ للفعلِ بعدَها (¬1). {يَوَدُّ} يتمنَّى {الَّذِينَ كَفَرُوا} يومَ القيامةِ عندَ دخولهم النارَ، ومعرفتِهم بدخولِ المسلمينَ الجنةَ. {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} في الدنيا، فينجون النَّجاءَ الذي مانِعُه أن لم يكونوا مسلمين، فإن قيلَ: (ربما) للتقليل، وهذا التمنِّي يكثرُ من الكفار، فالجواب: أنهم إِذا شاهدوا أهوالَ يومِ القيامةِ، تذهبُ عقولُهم، فإذا ثابَتْ إليهم عقولُهم، وذلك قليلٌ، سألوا الإسلامَ، ويجوزُ أنهم لما تَمَنَّوا الإسلامَ، فلم ينفعْهم تَمَنِّيهم شيئًا، كان قليلًا؛ لأنه لم تحصلْ به فائدةٌ. ... {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}. [3] ثم تَهَدَّدَهم بقوله: {ذَرْهُمْ} يا محمدُ. {يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} بنيلِ شهواتِ الدنيا. {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أي: يشغلْهم أملُهم لطولِ أعمارِهم عنِ النظر، والإيمانِ باللهِ ورسوله. قرأ رويسٌ عن يعقوبَ: (وَيُلْهِهُمُ) بضمِّ الهاءِ الثانيةِ والميمِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 366)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"تفسير البغوي" (2/ 573)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 301)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 249). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 274)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 250).

[4]

{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَبالَ صنيعِهم إذا عاينوا جزاءَهُ، والآيةُ منسوخةٌ بآيةِ القتال. ... {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)}. [4] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أي: وما أهلَكْنا أهلَ قريةٍ إلا لوقتِ أجلِها المحدودِ، والواوُ في (ولها) لتأكيدِ لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، فيقالُ: جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وجاءني زيدٌ وعليهِ ثوبٌ. ... {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}. [5] {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} المعلوم، (مِنْ) صلةٌ. {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عنه. ... {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}. [6] {وَقَالُوا} يعني: مشركي مكةَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} أي: القرآنُ. {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أي: إنكَ لتقولُ قولَ المجانين حين تَدَّعي أن اللهَ نَزَّلَ عليكَ الذِّكْرَ. ... {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)}. [7] {لَوْ مَا} هَلَّا {تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} يشهدون لكَ.

[8]

{إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواكَ. ... {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)}. [8] قال الله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: بالقرآن. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (نُنَزِّلُ) بنونين، الأولى مضمومةٌ، والثانيةُ مفتوحةٌ، وكسرِ الزاي (الْمَلاَئِكَةَ) بالنصبِ، وروى أبو بكرٍ عن عاصمٍ: بالتاءِ مضمومةً، وفتحِ النونِ والزاي (الْمَلاَئِكَةُ) بالرفع، وقرأ الباقونَ كذلكَ، غير أنهم يفتحون التاءَ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ يشدِّدُ التاءَ وصلًا (¬1). {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} و (إذًا) جوابٌ للمشركين، وجزاءُ الشرطِ مقدَّرٌ، تقديرُه: ولو نَزَّلْنا الملائكةَ، ما أَخَّرْنا عنهم العذابَ عندَ معاينةِ الملائكةِ. ... {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}. [9] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} رَدٌّ لإنكارِهم {وَإِنَّا لَهُ} للقرآنِ {لَحَافِظُونَ} من الزيادةِ والنقصانِ والتبديلِ، وقيل: الضميرُ في (له) راجعٌ إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: نحفظُه من الأَسْوأ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 366)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"تفسير البغوي" (2/ 575)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 350 - 351).

[10]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)}. [10] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} رُسُلًا {فِي شِيَعِ} أي: أُمَمِ. {الْأَوَّلِينَ} والشيعةُ: هم القومُ المجتمعةُ المتفقةُ كلمتُهم. ... {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)}. [11] {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} كما فعلوا بكَ، ذَكَرَهُ تسليةً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ... {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)}. [12] {كَذَلِكَ} أي: كما سَلَكْنا الكفرَ والاستهزاءَ بالرسلِ في قلوبِ شيعِ الأولينَ، كذلكَ {نَسْلُكُهُ} نُدْخِلُهُ. {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} من أهلِ مكة، والسَّلْكُ: إدخالُ الشيءِ في الشيءِ. ... {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)}. [13] {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: حتى لا يؤمنوا بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآنِ {وَقَدْ خَلَتْ} مضتْ. {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} أي: سنةُ اللهِ فيهم بإهلاك مَنْ لم يؤمنْ منهم، وهذا وعيدٌ لأهلِ مكةَ. ***

[14]

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)}. [14] {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} أي: على هؤلاءِ المقترِحين. {بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ} أي: الملائكةُ في البابِ. {يَعْرُجُونَ} يصعَدُون وهم يرونَهم عيانًا. ... {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}. [15] {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} قرأ ابنُ كثيرٍ: (سُكِرَتْ) بتخفيفِ الكاف؛ أي: حُبِسَتْ ومُنِعَتِ النظرَ، وقرأ الباقون: بتشديدها؛ أي: سُدَّتْ (¬1). {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} بَلْ سحرَنا محمدٌ بذلك. ... {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)}. [16] {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} أي: قصورًا، وهي منازلُ الشمسِ والقمرِ والكواكبِ السيارةِ، وهي اثنا عَشَرَ برجًا: الحملُ، والثورُ، والجوزاءُ والسَّرَطانُ، والأسدُ، والسنبلَةُ، والميزانُ، والعقربُ، والقَوْسُ، والجَدْيُ، والدَّلْوُ، والحوتُ. {وَزَيَّنَّاهَا} أي: السماءَ بالنجومِ. {لِلنَّاظِرِينَ} المستدِلِّين بها على قدرةِ خالقِها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 366)، و"التيسير" للداني (ص: 135)، و"تفسير البغوي" (2/ 577)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 252).

[17]

{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)}. [17] {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فلا يقدرُ أن يصعدَ إليها ويطِّلِعَ على أحوالها. ... {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}. [18] {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} استثناءٌ منقطعٌ؛ أي: ولكنْ منِ استرقَ السمعَ؛ أي: اختلَسَهُ سِرًّا. {فَأَتْبَعَهُ} لَحِقَهُ. {شِهَابٌ مُبِينٌ} كوكبٌ مضيءٌ، وذلك أنَّ الشياطينَ يركبُ بعضُهم بعضًا إلى السماءِ الدنيا، فَيَسْتَرِقونَ السمعَ منَ الملائكةِ، فَيُرْمَوْنَ بالكواكبِ، فلا يخطئ أبدًا، فمنهم من يقتلُه، ومنهم من يحرقُ وجههُ أو يدهُ أو حيثُ شاءَ الله، أو يُخَبِّلُهُ لئلَّا يعودَ إلى استراقِ السمع، فيصيرُ غولًا في الأرض يغتالُ الناسَ. عن ابنِ عباسٍ: أنهم كانوا لا يُحْجَبونَ عن السَّمواتِ إلى أن وُلِدَ عِيسى، فَمُنِعوا عن ثلاثِ سمواتٍ، فلما وُلدَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، مُنِعُوا عن السمواتِ كلِّها (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 577)، و"تفسير القرطبي" (10/ 10).

[19]

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)}. [19] {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} بَسَطْناها على وجهِ الماءِ، يقال: إنها مسيرةُ خمسِ مئةِ سنةٍ في مثِلها دُحِيَتْ من تحتِ الكعبةِ. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جِبالًا ثوابِتَ، وقد كانتِ الأرضُ تميدُ إلى أن أرساها بالجبالِ. {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أي: في الأرض. {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} مقدَّرٍ بما تقتضيه حكمتُه. ... {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)}. [20] {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} ما تعيشون به من المطاعِمِ والملابِسِ. {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أي: وجعَلْنا لكم مَنْ لستم له برازقينَ من العيالِ والخدمِ وسائرِ ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنًّا كاذبًا، المعنى: اللهُ الرزاقُ، فلا تعتقدوا أنكم تَرْزُقون أحدًا. ... {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}. [21] ثم أوضحَهُ بقوله: {وَإِنْ} أي: وما {مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} أي: و (¬1) إلا ونحن قادرونَ على إيجادِه. . ¬

_ (¬1) "و" زيادة من "ت".

[22]

{وَمَا نُنَزِّلُهُ} مع كثرته، وتَمَكُّنِنا منه. {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} بحدٍّ محسوبٍ على قدرِ المصلحةِ. ... {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)}. [22] {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ} قرأ حمزةُ، وخلفٌ: (الرِّيحَ) على الإفراد، وعلى تأويلِ الجنس، والباقون: بالجمع (¬1) {لَوَاقِحَ} حوامِلَ تحملُ الماءَ إلى السحابِ، فهي جمَعُ لاقحةٍ، يقال: ناقةٌ لاقحةٌ: إذا حملتِ الولدَ. {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} فجعلْناه لكم سَقْيًا. {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} أي: ليستْ خزائنهُ في أيديكم. ... {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)}. [23] {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} الباقونَ، والوارثُ من صفاتِ الله. ... {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)}. [24] {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} أي: مَنْ تقدَّمَ من الأممِ من لَدُنْ أُهْبِطَ آدمُ إلى الأرضِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 172)، و"التيسير" للداني (ص: 78)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 253).

[25]

{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} أي: بمن تأخَّرَ في الزمنِ إلى يوم القيامة، فنجازي كُلًّا بعملِه. ... {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}. [25] {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} جميعًا للجزاءِ. {إِنَّهُ حَكِيمٌ} متقِنٌ أفعالهَ. {عَلِيمٌ} بكلِّ شيءٍ. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)}. [26] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} المرادُ: آدم عليه السلام، سُمِّيَ إنسانًا، لأنه عُهِدَ إليهِ فنسيَ، ودخلَ مَنْ بعدَهُ في ذلكَ؛ إذ هو من نسلِهِ. {مِنْ صَلْصَالٍ} طينٍ يابسٍ غيرِ مطبوخٍ، فإذا طُبِخَ، فهو فَخَّارٌ. {مِنْ حَمَإٍ} جمع حَمْأَةٍ، وهو الطينُ الأسودُ المتَغيِّرُ {مَسْنُونٍ} مصوَّرٍ. {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)}. [27] {وَالْجَانَّ} هو أبو الجنِّ، كآدم أبو البشرِ، وقيلَ: هو إبليسُ {خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} أي: قبل آدَمَ {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} أي: نارِ الحرِّ الشديدِ بالنهار؛ لأنه ينفذُ في المسامِّ. ***

[28]

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)}. [28] {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} واذكرْ وقتَ قوله {لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ} أي: سأخلقُ. {بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} والبشرُ آدَمُ، وهو مأخوذٌ من البشرِة، وهو وجهُ الجلدِ في الأشْهَرِ منَ القولِ. ... {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)}. [29] {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} عَدَّلْتُ خَلْقَه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} فصارَ بشرًا حَيًّا، والروحُ: جسمٌ لطيفٌ يحيا به الإنسانُ، وأضافَه إلى نفسِه تشريفًا إضافةَ خَلْقٍ ومُلْكٍ؛ إلى خالقٍ ومالك؛ أي: من الروحِ الذي هو لي. {فَقَعُوا} فاسْقُطوا {لَهُ سَاجِدِينَ} سجودَ تحيةٍ لا سجودَ عبادةٍ. ... {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)}. [30] {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أُكِّدَ بتأكيدينِ؛ للمبالغِة في التعميمِ ومنعِ التخصيصِ. ... {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)}. [31] {إِلَّا إِبْلِيسَ} استثناءٌ من الملائكةِ؛ لأنه كانَ منهم، وهو الظاهرُ من هذهِ الآيةِ ومن كثيرٍ من الأحاديثِ، وذلك أن الله تعالى أمرَ الملائكة

[32]

بالسُّجودِ، ولو لم يكنْ إبليسُ منهم لم يذنبْ في تركِ السجودِ، وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ أنه من الملائكةِ على الأصحِّ. {أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} لآدم. ... {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)}. [32] {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} كانَ اسمُهُ: عزازيل، فحينئذٍ سماه: إبليسَ؛ من الإبلاسِ، وهو الإبعادُ؛ أي: يا مُبْعَدُ. ... {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)}. [33] {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أرادَ: أني أفضلُ منه؛ لأنه طينيٌّ، وأنا ناريٌّ، والنارُ تأكلُ الطينَ، وتقدمَ الكلامُ على ذلكَ في سورةِ الأعرافِ. ... {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)}. [34] {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي: من الجنةِ {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} طريدٌ. ... {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)}. [35] {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} فهو ملعونٌ في السماواتِ والأرضِ إلى يومِ الجزاءِ. ***

[36]

{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)} [36] {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من قبورِهم وقتَ النفخةِ الآخِرَة، أرادَ ألَّا يموتَ. {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)}. [37] {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}. {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}. [38] {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} عندَ الله، هو يومُ موتِ الخلائقِ، وهو وقتُ النفخةِ الأولى، ومدةُ موتِ الخبيثِ أربعونَ سنةً قدرَ ما بينَ النفختينِ. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)}. [39] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} أضلَلْتني، الباءُ للقسم؛ أي: أقسمُ بإغوائِكَ إيايَ {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} حُبَّ الدنيا ومعاصيَكَ. {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} أُضِلَّنَّهم {أَجْمَعِينَ}. {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}. [40] {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} واستثنى الخبيثُ المخلَصين؛ لعلمِه أنَّ كيده لا يضرُّهم. قرأ الكوفيون، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ: (الْمُخْلَصِينَ) بفتحِ اللامِ حيثُ وقَعَ؛ أي: من أخلَصْتَهُ بتوحيدِكَ، فهديتَهُ

[41]

واصطَفيَتُه، وقرأ الباقون: بكسرها؛ يعني: المؤمنينَ الذين أخلصوا لكَ الطاعةَ والتوحيدَ (¬1). ... {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)}. [41] {قَالَ} اللهُ تعالى: {هَذَا} أي: الإخلاصُ. {صِرَاطٌ عَلَيَّ} بمعنى إليَّ {مُسْتَقِيمٌ} والمعنى: هذا طريق عليَّ بأَنْ أُراعيَه وهو ألَّا يتبعَكَ المخلَصون. قرأ يعقوبُ: (عَلِيٌّ) بكسرِ اللامِ ورفعِ الياءِ وتنوييها، من العلوِّ أي: رفيع، وقرأ الباقون: بفتح اللامِ والياءِ من غيرِ تنوينٍ على المعنى الأولِ (¬2). ... {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)}. [42] {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ} أي: على قلوبهم. {سُلْطَانٌ} قدرة وتسلُّطٌ. {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ} أي: لكنْ من اتبعَكَ. {مِنَ الْغَاوِينَ} لكَ عليهم سلطانٌ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 128)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 254). (¬2) انظر: "المحتسب" لابن جني (2/ 3)، و "تفسير البغوي" (2/ 587)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 301)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 254).

[43]

{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)}. [43] {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ} لَمصيرُ الغاوينَ {أَجْمَعِينَ} تأكيدٌ للضمير. ... {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}. [44] {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} بعضُها فوقَ بعضٍ؛ لأنَّها سبعُ طباق، أعلاها جهنمُ، ثم لَظَى، ثم الحُطَمَةُ، ثم السَّعِيُر، ثمَّ سَقَرُ، ثمَّ الجحيمُ، وفيه أبو جهلٍ، ثم الهاويةُ، وأشهرُ منازلِها جهنمُ، وهو موضعُ العصاةِ من المؤمنينَ الذين لا يخلَّدونَ. {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ} من إبليسَ وأتباعِه {جُزْءٌ} نصيبٌ. {مَقْسُومٌ} للطبقةِ الأولى، وهي العليا، الموحِّدونَ من أهلِ الكبائرِ، وللثانيةِ النصارى، وللثالثةِ اليهودُ، وللرابعةِ الصابئونَ، وللخامسةِ المجوسُ، وللسادسةِ أهلُ الشركِ، وللسابعةِ المنافقون. قرأ أبو جعفرٍ: (جُزٌّ) بتشديدِ الزايِ بغيرِ همزٍ، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: بضمِّ الزايِ مع الهمزِ، والباقون: بإسكان الزاي والهمز (¬1). ... {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)}. [45] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} بساتينَ. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 82)، و"المحتسب" لابن جني (2/ 4)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 254 - 255).

[46]

{وَعُيُونٍ} أنهارٍ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ، وأبو بكر عن عاصمٍ: (وَعِيُونٍ) بكسرِ العين، والباقون: بضمِّها (¬1). ... {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)}. [46] يقال لهم: {ادْخُلُوهَا} أي: الجناتِ. قرأ رويسٌ عن يعقوبَ بخلافٍ عنه: (وَعُيُونٌ ادْخِلُوها) بضمِّ التنوينِ وكسرِ الخاء على ما لم يُسَمَّ فاعلهُ، فهي همزةُ قطعٍ نُقِلَتْ حركتُها إلى التنوينِ، وقرأ الباقون: بضمِّ الخاءِ على أنه فعلُ أمرٍ، والهمزةُ للوصلِ، وهم على أصولهم في التنوينِ، فأبو عمروٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ يقرؤونَ بكسرِ التنوينِ في الوصلِ، والباقونَ: بالضمِّ بخلافٍ عنِ ابنِ ذكوانَ (¬2). {بِسَلَامٍ} أي: سالمينَ من كلِّ آفة، وتسلِّمُ عليكمُ الملائكةُ. {آمِنِينَ} من كلِّ مخوفٍ. ... {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)}. [47] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} حِقْدٍ بسببِ عداوةٍ كانَتْ بينَهم في الدنيا. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 136)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 226)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 255). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 301)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 275)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 255).

[48]

{إِخْوَانًا} نصبٌ على الحالِ {عَلَى سُرُرٍ} جمعُ سَريرٍ. {مُتَقَابِلِينَ} في الوجوِه، إذ الأسرَّةُ متقابلةٌ، فهي أحسنُ في الرتبةِ. ... {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)}. [48] {لَا يَمَسُّهُمْ} لا يُصيبُهم {فِيهَا نَصَبٌ} وهو التعبُ. {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} فإنّ تمامَ النعمةِ الخلودُ. ... {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)}. [49] {نَبِّئْ} أَعْلِمْ يا محمدُ. {عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لمن تابَ. قرأ أبو جعفر: (نَبيِّ) بإسكانِ الياءِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمز (¬1)، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمروٍ، وابنُ كثيرٍ: (عِبَادِيَ) (أَنِّيَ) بفتحِ الياءِ فيهما، والباقون: بإسكانها (¬2). ... {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}. [50] {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} لمن لم يتب. عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنَّ اللهَ ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 275)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 256). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 368)، و"التيسير" للداني (ص: 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 256).

[51]

خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِئَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وتسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً واحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَيْأَسْ مَنِ الْجَنَّةِ، ولَوْ يَعْلَمْ الْمُؤمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مَنْ النَّارِ" (¬1). ... {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}. [51] ثم عطفَ على (نَبِّئ عِبَادِي) {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ} أي: عن خبرِ ضيفِ {إِبْرَاهِيمَ} والضيفُ اسمٌ يقعُ على الواحدِ والجمعِ، والمذكرِ والمؤنثِ، والمرادُ بالضيفِ: الملائكةُ. ... {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)}. [52] {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا} أي: نسلِّم سلامًا. {قَالَ} إبراهيمُ {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} خائِفون؛ لأنهم لم يأكلوا من طعامِهِ. ... {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)}. [53] {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ} قرأ حمزةُ (نَبْشُرُكَ) بفتحِ النونِ وإسكانِ الباءِ وتخفيفِ الشينِ وضَمِّها، من البِشْرِ، وهو البشرى والبِشارَةُ، وقرأ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6104)، كتاب: الرقاق، باب: الرجاء مع الخوف، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[54]

الباقون: بضمِّ النونِ وفتح الباءِ وتشديدِ الشينِ مكسورةً من بَشَّرَ المضعَّفِ على التكثيرِ (¬1). {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} في صغرِه، حكيمٍ في كبِره، وهو إسحاقُ عليه السلام. ... {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)}. [54] فتعجَّبَ إبراهيمُ من أن يُولَدَ لهُ مع كِبَرِه وكبر امرأتِهِ. {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي} بالولدِ {عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} أي: على حالَ الكِبَرِ. {فَبِمَ} فبأيِّ شيءٍ {تُبَشِّرُونَ} قرأ نافعٌ بكسرِ النونِ وتخفيفِها، وتقريرُ هذهِ القراءة أنه حُذِفَتِ النونُ التي للمتكلِّم، وكسرتِ النونُ التي هي علامةُ الرفعِ، ثم حذفتِ الياءُ لدلالةِ الكسرةِ عليها، قال ابنُ عطيةَ: وغلَّطَ أبو حاتم نافِعًا في هذهِ القراءةِ، وقال: إنَّ شاهدَ الشِّعْرِ في هذا اضطرارٌ، وهذا حمل منه (¬2)، وقالَ الكواشيُّ: ولا يُلْتَفَتُ إلى الطاعنِ في هذهِ القراءةِ؛ لصحَّة نقلِها، بل لتواتُرِها، فتكونُ أصلًا يُحْتَجُّ به، لا لَهُ، وقرأ ابنُ كثيرٍ: بكسرِ النونِ مشدَّدَةً أي: (تُبَشِّرونِني)، أدغمت نونُ الجمعِ في نونِ الإضافة، ثم حذفتِ الياءُ للتعليلِ المتقدِّمِ، وقرأ الباقونَ: بفتح النونِ مخففةً علامة الرفعِ (¬3). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78 - 88)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 229)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 257). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 365). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 367)، و"التيسير" للداني (ص: 136)، و"تفسير البغوي" (2/ 589)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 275)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 258).

[55]

{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)}. [55] {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} بالصدقِ الواجبِ وجودُهُ. {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} الآيِسِينَ. ... {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}. [56] {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ} قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (يَقْنِطُ) بكسر النون، والباقون: بفتحِها، وهما لغتان، أي:. يَيْأَسْ (¬1). {مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} المخطِئون، المعنى: لا أنكرُ وجودَ الولدِ مِنَّا قُنوطًا، بل استبعادًا، والقنوطُ من رحمةِ اللهِ كبيرةٌ؛ كالأَمنِ من مكرِهِ. ... {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)}. [57] {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي: فما شأنكُم الذي أُرسلتُم لأجلِه سوى البشارةِ. ... {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)}. [58] {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} وهم أهلُ مدينةِ سَدومَ الذين بُعِثَ فيهم لوطٌ عليه السلام، والمجرم: الذي يرتكبُ المحظوراتِ. ¬

_ (¬1) المصادر السابقة.

[59]

{إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)}. [59] {إِلَّا آلَ لُوطٍ} الآلُ: القومُ الذين يؤولُ أمرهم إلى المضافِ إليه، والاستثناءُ منقطِعٌ من قومٍ؛ لأنَّ القومَ موصوفون بالإجرام، وآلُ لوطٍ لم يجرموا. {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} مما يعذَّبُ به القومُ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (لَمْنُجُوهُمْ) بالتخفيف، والباقون: بالتشديد (¬1). ... {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)}. [60] {إِلَّا امْرَأَتَهُ} استثناءٌ من آلِ لوطٍ، فيكونُ استثناءً من استثناءٍ، تقديره: أهلكناهُم إلا آلَ لوطٍ إلا امرأتَهُ {قَدَّرْنَا} حَكَمْنا. {إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} الباقِين في الهلاكِ الذين لم يُسْتَثْنَوا منه. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (قَدَرْنَا) بتخفيفِ الدالِ، والباقونَ: بتشديدِها (¬2). ... {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)}. [61] {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} اختلافُ القراءِ في حكمِ الهمزتينِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 367)، و"التيسير" للداني (ص: 136)، و"تفسير البغوي" (2/ 590)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 260). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 136)، و"تفسير البغوي" (2/ 590)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 260).

[62]

من قولِه: {جَاءَ آلَ لُوطٍ} كاختلافِهم فيهما مِنْ {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} في سورةِ النساءِ. ... {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)}. [62] {قَالَ} لوطٌ لهم {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} لا أعرفكُمُ. ... {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)}. [63] {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي: يشكُّونَ أنه نازلٌ بهم، وهو العذابُ، وكان لوطٌ يعدُ قومَه نزولَ العذابِ فلا يُصَدِّقونه. ... {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)}. [64] فقالت الملائكةُ: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} باليقينِ من عَذابِهم. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في قولِنا. ... {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)}. [65] {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} فاذهبْ بهم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (فَاسْرِ) بوصلِ الألفِ من سَرَى، وقرأ الباقون: بقطعِها، من أَسْرَى، ومعناهما واحدٌ، وهو سيرُ الليلِ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 125)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[66]

{بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} بطائفةٍ منه، قيل: إنه السَّحَرُ الأولُ. {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} سِرْ خَلْفَهم. {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} لينظرَ ما وراءَه فيرَى من الهولِ ما لا يُطيقُه. {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} بالذهابِ إليه، وهو الشامُ. قرأ أبو عمرٍو: (حَيْث تؤْمَرُونَ) بإدغامِ الثاءِ في التاءِ (¬1). ... {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)}. [66] {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} أي: أعلمناهُ {أَنَّ دَابِرَ} أي: آخِرَ. {هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ} مهلَكٌ. {مُصْبِحِينَ} أي: أوحينا إليه أَنَّهم يهلكونَ جميعًا وقتَ الصُّبحِ. ... {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)}. [67] {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} أي: سدومَ إلى لوطٍ. واختلاف القراء في (جَاءَ أَهْلُ) كاختلافهم في (جَاءَ آلَ) [الحجر: 61]. {يَسْتَبْشِرُونَ} طَمَعًا في نيلِ شهوتِهم الخبيثةِ من الملائكةِ. ... ¬

_ = (2/ 290)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 260). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 269)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 261).

[68]

{قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)}. [68] {قَالَ} لوطٌ لقومِه: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ} بفضيحةِ ضَيْفي. ... {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)}. [69] {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} بفعلِ الخبيثِ فيهم؛ لأن مَنْ أُهِينَ ضيفُه فقد أُهِين. قرأ يعقوبُ (تَفْضَحُونِي) (تُخْزُونِي) بإثباتِ الياءِ فيها، والباقونَ: بحذفِها (¬1). ... {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)}. [70] {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي: عن ضيافةِ الناسِ؛ لأنهم كانوا يأخذون المارَّ بهم لِيَخْبُثُوا به، فيحولُ بينَهم وبينَه، ويُبَيِّتُهُ عندَه ضيفًا، فنَهوْهُ عن ذلكَ. ... {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)}. [71] {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} أُزَوِّجُهُنَّ إياكُم إن أسلَمْتُم، فَأْتوا الحلالَ، ودعوا الحرامَ. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 302)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 261).

[72]

{إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ما آمُرُكُمْ به، وقيل: أرادَ بالبناتِ: نساءَ قومِه؛ لأنَّ النبيَّ كالوالدِ لأُمَّتِهِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (بَنَاتِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}. [72] قالَ ابنُ عباسٍ: "ما خلقَ اللهُ تعالى خَلْقًا أكرمَ عليهِ من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وما أَقْسَمَ بحياةِ أحدٍ إلا بحياتِه، فقال: {لَعَمْرُكَ} " (¬2) أي: وحياتِكَ، فهو قسمٌ من اللهِ جل جلاله بمدةِ حياةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأصلُه ضَمُّ العينِ من العُمُرِ، ولكنَّها فُتِحَتْ لكثرةِ الاستعمالِ، أو معناه: وَبقَائِكَ يا مُحَمَّدُ، ولم يقسم اللهُ بحياةِ أحدٍ غيرِه؛ لأنه أكرمُ البريَّةِ عندَه. {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} ضلالَتِهم {يَعْمَهُونَ} يَتَحَيَّرونَ. ... {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)}. [73] {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} أي: صيحةُ جبريلَ بهم {مُشْرِقِينَ} مصادِفين شروقَ الشمسِ؛ لأنَّ ابتداءَ عذابِهم كانَ عندَ طلوعِ الصُّبْحِ، وآخرَه عندَ طلوعِ الشمسِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 368)، و"التيسير" للداني (ص: 276)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 262). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (14/ 44)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (934)، وغيرهما.

[74]

{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)}. [74] فإن جبريلَ قلعَ الأرضين بهم، ورفعَها إلى السماءِ، ثم أهوى بها نحوَ الأرضِ، ثم صاحَ بهم صيحةً عظيمةً {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} مُنْخَفِضَها. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} على شذاذِ القُرى، وهُمْ مَنْ لم يَكُنْ فيها. {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} سِجِّيلٌ وسِجِّينٌ: الصلبُ منَ الحجارةِ والطينِ. ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)}. [75] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي: المتفرِّسينَ. ... {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)}. [76] {وَإِنَّهَا} أي: قريةُ قومِ لوطٍ {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} بطريقٍ ثابتٍ يسلُكه الناسُ، لم يَنْدَرِسْ بعدُ، فاتَّعِظوا بآثارهم يا قريشُ إذا ذهبتُمْ إلى الشامِ؛ لأنها في طريقِكم. ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}. [77] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} باللهِ ورسولِه. ... {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)}. [78] {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} الغَيْضَةِ، وهو شجرٌ مجتمعٌ،

[79]

والأيكةُ أبعدُ الأرضِ منَ السماء، وهم قومُ شعيبٍ. {لَظَالِمِينَ} بعثَهُ اللهُ إليهم، فكذَّبوه، فَأُهْلِكوا بالظُّلَّةِ، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ في سورةِ الأعرافِ. ... {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)}. [79] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالإهلاكِ {وَإِنَّهُمَا} أي: قريةُ قومِ لوطٍ والأيكةُ. {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} بطريقٍ واضحٍ مستبينٍ. ... {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)}. [80] {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ} هم ثمودُ، والحِجْرُ: واديهم بينَ المدينةِ والشامِ. {الْمُرْسَلِينَ} أرادَ صالحًا، وقال: المرسَلين من حيثُ يجبُ بتكذيبِ رسولٍ واحدٍ تكذيبُ جميعِهم؛ إذ القولُ في المعتَقَداتِ واحدٌ للرسلِ أجمعَ، فهذهِ العبارةُ أشنعُ على المكذِّبين. ... {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)}. [81] {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} هي الناقةُ، وخروجُها من الصخرة، وكثرةُ شربها، وولادتَهُا مثلُها في العِظَم في الحالِ وغزارةِ لبنِها. {فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} يعني: الآياتِ. ***

[82]

{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)}. [82] {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} من خرابها، والنحتُ: النَّقْرُ بالمعاولِ ونحوِها في الحجارةِ. ... {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)}. [83] {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} صيحةُ العذابِ {مُصْبِحِينَ} وقتَ الصبحِ. ... {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)}. [84] {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من عَدَدِهم وعُدَدِهم وبناءِ حصونِهم. ... {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)}. [85] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: بين جنسَي السمواتِ والأرضِ. {إِلَّا بِالْحَقِّ} لم نوجدْ شيئًا عَبَثًا {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} فيجازَى المحسنُ بإحسانِه، والمسيءُ بإساءتِه. {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي: أعرضْ عن المشركينَ إعراضًا جميلًا، وأَكَّدَ الصفحَ بنعتِ الجمالِ؛ إذِ المرادُ منه أن يكونَ لا عَتْبَ فيه ولا حِقْدَ، ونُسِخَتْ بآيةِ القتالِ.

[86]

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)}. [86] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} بخلقِهِ. ... {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}. [87] {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} هي الفاتحةُ؛ لأنها سبعُ آياتٍ بإجماعٍ، ولأنها تُثَنَّى في الصلاةِ، وتقدَّمَ الكلام على ذلكَ في أولِ التفسيرِ. {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} عطفٌ على السبعِ؛ لأنَّ ما عدا الفاتحةَ قرآنٌ. ... {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}. [88] {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي: لا تنظَرنَّ يا محمدُ. {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أَصنافًا من الكفارِ، نهى اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - عن الرغبةِ في الدنيا، ومزاحمةِ أهلِها عليها. {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} إنْ لم يؤمنوا. {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} أي: تواضَعْ {لِلْمُؤْمِنِينَ} وارْفُقْ بهم. ... {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)}. [89] {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} بُرْهانُهُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأَبو عمرٍو: (إِنِّيَ) بفتحِ الياءِ، والباقون: بإسكانِها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 368)، و"التيسير" للداني (ص: 136)، =

[90]

{كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)}. [90] {كَمَا أَنْزَلْنَا} أي: وأنذرْ قريشًا إنذارًا مِثْلَ ما أَنْزَلْنا من العذابِ. {عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} المتحالِفين. ... {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)}. [91] {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ} المنزلَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {عِضِينَ} عَضَوْهُ؛ أي: فَرَّقُوه إلى سحرٍ وكهانةٍ وشعرٍ وغيرِ ذلك. ... {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)}. [92] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يومَ القيامةِ سؤالَ توبيخٍ. ... {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}. [93] {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا. ... {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}. [94] {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي: فَرِّقْ بينَ الحقِّ والباطلِ بتبليغِ الرسالةِ. ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 263).

[95]

قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ورويسٌ عن يعقوبَ بخلافٍ عنه: (فَاصْدَعْ) بإشمام الصادِ الزايَ (¬1). {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ولا تلتفِتْ إليهم، ونُسِخَتْ بآيةِ السيفِ. ... {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}. [95] {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} بكَ، وبالقرآنِ، وهم قومٌ من كفارِ مكةَ أهلَكَهم الله. ... {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)}. [96] {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} يعني: الأصنامَ. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبةَ أمرِهم. ... {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)}. [97] {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} من الشركِ والاستهزاءِ. ... {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)}. [98] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قُلْ: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 250 - 251)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 128)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 263).

[99]

{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} المصلِّين. رُوِيَ أنه - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أحزنه أَمْرٌ، فَزِعَ إِلى الصَّلاةِ (¬1). ... {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}. [99] {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الموتُ؛ لأنه مُتَيَقَّنٌ لا شَكَّ فيه، واللهُ أعلم. ... ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1319)، كتاب: الصلاة، باب: وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 388)، وغيرهما عن حذيفة -رضي الله عنه-.

فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيْرِ القُرآنِ تَأليف الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ المولود سنة (860 هـ) - والمتوفى سنة (927 هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى المُجَلَّد الرابع اعتَنَى بِهِ تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا نُوْرُ الدِّيْن طَالب إصدَارات وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ دولة قطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فَتْحُ الرَّحْمَنَ

حُقُوق الطَّبع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطَبعَة الأولى، 1430 هـ - 2009 م قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 518/ 14 هَاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

سورة النحل

سُوْرَةُ النَّحل وكانت تسمَّى: سورةَ النِّعَمِ؛ بسببِ ما عَدَّدَ اللهُ فيها من نِعَمِه على عبادِه، وهي مكيةٌ، إلَّا من قولِه تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إلى آخرها، نزلَ بالمدينةِ، وآيُها مئةٌ وثمانٍ وعشرونَ آيةً، وحروفُها سبعةُ آلافٍ وسبعُ مئةٍ وسبعةُ أحرفٍ، وكَلِمُها ألفٌ وثماني مئة وإحدى وأربعونَ كلمةً. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)}. [1] {أَتَى} قَرُبَ {أَمْرُ اللَّهِ} أي: عذابُه، وذلك أنَّ الكفارَ كانوا يستعجلونه استهزاءً، فنزل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}، فوثبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قائِمًا، وحَذَّرَ الناسَ مِنْ قيامِ الساعةِ، فنزل: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (¬1) لا تطلُبوا الأمرَ قبلَ حينهِ، فاطمأَنُّوا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (أَتىَ) بالإمالة، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ (¬2)، ولما نزلَتْ هذهِ الآيةُ، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 158)، و"تفسير البغوي" (2/ 603)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 108). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 35، 42)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 667).

[2]

كَهَاتينِ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ" (¬1)؛ أي: كادتْ لتسبقني. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى} تَبَرَّأَ وتعاظَمَ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بهِ من آلهتِهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تشرِكُونَ) بالخطاب، والباقونَ: بالغيب (¬2). ... {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}. [2] {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} قراءة العامةِ: بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي (الْمَلاَئِكَةَ) نصبٌ، وهم في تشديدِ الزايِ على أصولهم المتقدمةِ في البقرةِ، فيخَفِّفُها منهم ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ورُويسٌ عن يعقوبَ. وقرأ روحٌ عن يعقوبَ (تنَزَّلُ) بالتاءِ مفتوحةً، وفتح الزاي مشددةً، ورفعِ الملائكة (¬3)؛ كالمتفقِ عليهِ في سورةِ القدرِ. {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} أي: بما يحيي القلوبَ الميتةَ بالجهلِ من وحيهِ. {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} هم الأنبياءُ عليهم السلام، وتقدَّم في سورةِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6138)، كتاب: الرقاق، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، ومسلم (2950)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قرب الساعة، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 121)، و"الكشف" لمكي (1/ 515)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 282)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 667). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 370)، و"تفسير البغوي" (2/ 604)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 268).

[3]

البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [الآية: 98] عددُ نزولِ جبريلَ عليه السلام على جماعةٍ من الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام. {أَنْ أَنْذِرُوا} خَوِّفوا المشركينَ وعَرِّفُوهُمْ {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} خافونِ. قرأ يعقوبُ: (فَاتَّقُونِي) بإثباتِ الياءِ، والباقونَ: بحذفِها (¬1). ... {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)}. [3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} بالواجبِ اللائقِ. {تَعَالَى} ارتفعَ. {عَمَّا يُشْرِكُونَ} واختلافُ القراء في (يُشْرِكُونَ) كالحرفِ المتقدِّمِ. ... {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}. [4] ونزلَ في منكري البعثِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} أي: ماءِ الرجلِ. {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} مُجادِلٌ للخصومِ {مُبِينٌ} للحجَّةِ بعدَ ما كانَ ميِّتًا جَمادًا. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 306)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 277)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 269).

[5]

رُوي أن أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعَظْمٍ رَميمٍ وقال: يا محمدُ! أَتَرى اللهَ يُحيي هذا بعدَما قَدْ رَمَّ؟! فنزلَتْ (¬1). ... {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)}. [5] {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} يعني: الإبلَ والبقرَ والغنمَ {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} ما استُدْفِئ به من الثيابِ والأخبيةِ المستعملةِ من أوبارِها. {وَمَنَافِعُ} بالنسلِ والركوبِ والحملِ وغيرِها. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يعني: لُحومَها. ... {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)}. [6] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} زينةٌ {حِينَ تُرِيحُونَ} أي: الإبلَ، تردُّونها إلى المُراح، بضمِّ الميم، وهو المبيتُ والمأوى أيضًا. {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} تُرْسِلونها غُدْوَةٌ إلى المراعي، وقَدَّمَ الإراحةَ على التسريح؛ لأنها في المراح أحسنُ خُلُقًا منها في المسرحِ، وأكثرُ لبنًا، وأعجبُ إلى صاحبِها. ... ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 158).

[7]

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)}. [7] {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} أحمالَكم. {إِلَى بَلَدٍ} هي مكةُ، أو جميعُ البلادِ. {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ} واصلينَ إليه لو لم تُخْلَقِ الإبلُ فَرَضًا. {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} بجهدِها. قرأ أبو جعفرٍ: (بِشَقِّ) بفتح الشينِ، والباقون: بكسرِها، وهما لغتان، مثلُ: رِطْلٍ ورَطْلٍ (¬1). {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} بخلقِه. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (رَؤُوفٌ) بالإشباعِ على وزنِ فَعولٍ حيثُ وقعَ (¬2). {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)}. [8] {وَالْخَيْلَ} أي: وخلقَ الخيلَ، وهي اسمُ جنس لا واحدَ لهُ من لفظِه؛ كالإبلِ، والنساءِ {وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} أي: وجعلَها زينةً لكم معَ المنافع التي فيها. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 605)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 302)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 277)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 270). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 269)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 277 - 278)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 270).

[9]

واحتجَّ بهذهِ الآيةِ مَنْ حَرَّمَ لحومَ الخيلِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ؛ لأنَّه عَلَّلَ خلقَ هذهِ الأشياءِ بالركوبِ والزينةِ، ولم يذكرِ الأكلَ، وعن مالكٍ روايةٌ أخرى أَنَّها مكروهةٌ، وقالَ الشافعيُّ وأحمدُ وأبو يوسفَ ومحمدُ بنُ الحسنِ بإباحةِ لحومِ الخيلِ، وقالوا: ليسَ المرادُ من الآيةِ بيانَ التحليلِ والتحريمِ، بل المرادُ منهُ تعريفُ اللهِ عبادَه نعمَهُ وتنبيهَهُم على كمالِ قدرته وحكمتِه، وحُجَّتُهم ما رُوي عن جابرٍ رضي الله عنه قال: "نَهَى رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ خيبرَ عن لحومِ الحمرِ، ورَخَّصَ في لُحومِ الخيلِ" (¬1)، وأَمَّا لحومُ البغالِ والحُمُرِ الأهليَّةِ، فمحَرَّمَةٌ بالاتفاقِ (¬2)، ورُوي عن مالكٍ أنها مكروهةٌ كراهةً مغلَّظَةً. {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: إن مخلوقاتِ اللهِ من الحيوان وغيرِه لا يُحيط بعلمِها بَشَرٌ، بل ما يخفى عليه أكثرُ مما يعلمُه. ... {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}. [9] {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يعني: بيانُ الطريقِ الحقِّ لكم، والقَصْدُ: الطريقُ المستقيمُ. {وَمِنْهَا} أي: ومن السبيلِ؛ لأنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ {جَائِرٌ} أي: عادلٌ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5201)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الخيل، ومسلم (1941)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. (¬2) في "ت": "على الاتفاق".

[10]

عن الحقِّ، فقصدُ السبيلِ: دينُ الإسلامِ، والجائرُ: سائرُ مللِ الكفرِ. {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ} إلى صلاحِكم {أَجْمَعِينَ} ولم يَضِلَّ أحدٌ. ... {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}. [10] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} تشربونَهُ. {وَمِنْهُ} أي: ينبتُ بسببِهِ. {شَجَرٌ فِيهِ} في النباتِ. {تُسِيمُونَ} تَرْعَوْن دوابَّكم؛ من سامَتِ الماشيةُ: رَعَتْ. ... {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}. [11] {يُنْبِتُ} اللهُ {لَكُمْ بِهِ} يعني: الماء. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (نُنْبِتُ) بنونِ العَظَمة، والباقون: بالياء (¬1). {الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وبعضِ كلِّها إن لم ينبتْ في الأرضِ كلَّ ما يمكنُ من الثمار. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في الصنعةِ، فيستدلُّون بها على صانعِها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 370)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"تفسير البغوي" (2/ 607)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 271 - 272).

[12]

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)}. [12] {وَسَخَّرَ} ذلَّل. {لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} مُذَلَّلاتٌ. {بِأَمْرِهِ} بإذنِه. قرأ ابنُ عامرٍ: (وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، والنُّجُومُ، مُسَخَّرَاتٌ) برفعِ الأسماءِ الأربعة على الابتداءِ، فـ (الشمسُ) مبتدأ، (والقمرُ والنجومُ) عطفٌ عليه، والخبرُ (مسخراتٌ بأمرِه)، وافقه حفصٌ عن عاصمٍ في الحرفينِ الأخيرينِ، وهما (والنجومُ مسخراتٌ)، فرفعَهما على الابتداءِ والخبرِ، وقرأ الباقون: بنصبِ الأربعةِ وكسرِ تاءِ (مُسَخَّراتٍ) عطفًا على (النهارَ) (¬1). {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قالَ في الآيةِ قَبْلُ: (لآيَةً)؛ لأنَّ شيئًا واحدًا منها يعمُّ تلكَ الأربعةَ، وهو النباتُ، وقالَ في هذه الآيةِ: (لآيَاتٍ)، لأنَّ كلَّ واحدٍ مما ذُكر آيةٌ في نفسِه، لا يشركُ معَ الآخرِ؛ فالليلُ لانتفاعِ البشرِ بالسكون فيه، والنهارُ للسَّعْيِ في المعاشِ وغيرِه، والشمسُ والقمرُ منافعُهما أكثرُ من أن تُحْصى، والنجومُ هداياتٌ. ... {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}. [13] {وَمَا ذَرَأَ} خَلَقَ {لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} من الأشجارِ والدوابِّ ¬

_ (¬1) المصادر السابقة.

[14]

وغيرِها {مُخْتَلِفًا} نصبٌ على الحال {أَلْوَانُهُ} أصنافُه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} يعتبرونَ. ... {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)}. [14] {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} العذبَ والمِلْحَ. {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} يعني: السمكَ، وُصِفَ بالطَّراوةِ لتسارُعِ الفسادِ إليه، فَيُسارَعُ إلى أكلِه طريًّا. {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ} أي: من الملح، عطفٌ على (لِتَأْكُلُوا). {حِلْيَةً} زينةً {تَلْبَسُونَهَا} وهي اللؤلؤُ والمرجانُ، فدلَّ على أنهما من الحليِّ. {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} فواعلَ من مَخَرَتِ السفينةُ: إذا جَرَتْ فشقَّتِ الماءَ بصدرِها. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بركوبِها للتجارةِ. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اللهَ لتوالي نعمِه عليكم. ... {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)}. [15] {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} ثوابتَ؛ يعني: جبالًا.

[16]

{أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي: لئلَّا تميلَ وتضطربَ. {وَأَنْهَارًا} منصوبٌ بفعلٍ مضمَرٍ تقديرُه: وجعلَ فيها أنهارًا. {وَسُبُلًا} طُرُقًا {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} تعتبرونَ وتَرْشُدونَ. ... {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}. [16] {وَعَلَامَاتٍ} هي معالمُ الطرقِ، وكُلُّ ما يُستدَلُّ به. {وَبِالنَّجْمِ} عامٌّ في كلِّ نَجْم. {هُمْ} أي: قريشٌ {يَهْتَدُونَ} إلى القبلةِ، أو في السيرِ؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفارِ للتجارةِ، مشهورينَ بالاهتداءِ في مسايرِهم بالنجومِ. ... {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}. [17] {أَفَمَنْ يَخْلُقُ} أي: اللهُ {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} أي: الأصنامُ، تلخيصُه: اللهُ الخالقُ خيرٌ أم آلهتكم العَجَزَةُ؟ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فَتَتَّعِظونَ وتُؤْمنون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَذْكُرُونَ) بالتخفيف حيثُ وقعَ. ... {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)}. [18] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} لا تَضْبِطوا عَدَّها. {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ} لتقصيرِكم في أداءِ شكرِها {رَحِيمٌ} بكم حيثُ لم يقطَعْها لتفريطِكم بالتقصيرِ.

[19]

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)}. [19] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} من عقائدكم وأعمالكم. ... {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)}. [20] و {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنامَ التي تعبدونَها من دونه. قرأ عاصمٌ، ويعقوبُ: (يَدْعُونَ) بالغيبِ، والباقونَ: بالخطابِ (¬1). {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} لعجزِهم {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لأنهم يُتَّخَذون من الحجارةِ وغيرِها. ... {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)}. [21] {أَمْوَاتٌ} يعني: الأصنامَ {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أي: لا يعقبُ موتَها حياةٌ. {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: الأمواتُ {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} متى يُحشرونَ. ... {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)}. [22] ثم نفى ألوهيةَ الأصنامِ، وعَرَّفَهم الإلهَ حقيقةً فقالَ: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا يُشارَكُ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 371)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"تفسير البغوي" (2/ 609)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 274).

[23]

{فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} جاحِدَةٌ. {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} متعظِّمونَ عن الإيمانِ. ... {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}. [23] {لَا جَرَمَ} حَقًّا {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيجازِيهِم. قرأ حمزةُ: (لاَ جَرَمَ) بالمدِّ بحيثُ لا يبلغُ الإشباعَ. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} عامٌّ في الكافرينَ والمؤمنين، في الحديثِ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" (¬1)، وفيه: أَنَّهُ مَنْ سَجَدَ للهِ سَجْدَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ بَرِئ مِنَ الْكِبْرِ. ... {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)}. [24] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: لكفارِ مكةَ. {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا} استهزاءً. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أباطيلُهم. ... ¬

_ (¬1) رواه مسلم (91)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

[25]

{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)}. [25] {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} أي: قالوا ذلكَ ليحمِلوا ذنوبَهم. {كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وإنما ذَكَرَ الكمالَ؛ لأنَّ البلايا التي تلحَقُهم في الدنيا، وما يفعلونَ من الحسناتِ، لا تُكَفِّرُ عنهم شيئًا. {وَمِنْ أَوْزَارِ} أي: ذنوبِ {الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} بغيرِ حُجَّةٍ، فيصدُّونَهم عن الإيمانِ {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} بِئْسَ شيئًا تحمَّلُوا. ... {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)}. [26] {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وهم نمرودُ بنُ كنعانَ، بنى الصرحَ ببابلَ ليصعدَ إلى السماء، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ مستوفىً في آخرِ سورةِ إبراهيمَ، فهبتْ ريحٌ فألقتْ رأسَهُ في البحر، وخرَّ عليهم الباقي وهم تحتَهُ، فذلك قولُه تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} أي: قصدَ خرابَ بنائِهم. {مِنَ الْقَوَاعِدِ} من أساسِهِ {فَخَرَّ} سَقَطَ {عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} يعني: أَعْلَى البيوتِ من فوقِهم. {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} بمجيئهِ. ***

[27]

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)}. [27] {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} اللهُ {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} بزعمِكم. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (شُرَكَايَ) بياءٍ مفتوحةٍ بغيرِ همزٍ ولا مَدٍّ، قال الكواشيُّ: لأنَّ الأصلَ تركُ المدِّ؛ لأن المدَّ إنما يكونُ بزيادةِ حرفٍ ليسَ من أصلِ الكلمةِ، فرجعَ إلى الأصلِ معَ صحةِ القراءة وتواترِها، فلا تأثيرَ لطعنِ الطاعنِ فيها، والباقون: بفتحِ الياءِ والمدِّ بلا همزٍ؛ لأن الأشهرَ في (فَعيل) أن يُجمع على (فُعَلاء)؛ كشهيدٍ وشهداءَ (¬1). {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} تخاصِمُون في شأنِهم. قرأ نافعٌ: (تشُاقُّونِ) بكسر النونِ على الإضافةِ، أصلُه: تشُاقُّونَنِي، فحُذِفَ أحدُ النونينِ والياء، وتُركتِ الكسرةُ تدلُّ عليها. وقرأ الباقون: بفتح النونِ إخبارٌ عن غيرِ مضافٍ (¬2)، تلخيصُه: ليحضُرْ من تزعمونَ، وليدفَعْ عنكم العذابَ. {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: النبوةَ. {إِنَّ الْخِزْيَ} الهوانَ {الْيَوْمَ وَالسُّوءَ} العذابَ. {عَلَى الْكَافِرِينَ} وفائدةُ قولهم إظهارُ الشماتةِ وزيادةُ الإهانةِ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 371 - 372)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 275). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 371)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"تفسير البغوي" (2/ 611)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 276).

[28]

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}. [28] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يقبضُ أرواحَهم ملكُ الموتِ وأعوانُه. قرأ حمزةُ، وخلفٌ في هذا الحرفِ وفي الآتي: (يَتَوَفَّاهُمْ) بالياءِ على التذكيرِ، والباقونَ: بالتاء على التأنيث (¬1) {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بالكفرِ. قرأ أبو عمرٍو (الْمَلاَئِكَة ظَّالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بإدغامِ التاءِ في الظاء (¬2). {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} أي: استسلَموا وانقادوا حينَ عاينوا الموتَ، وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} شِرْكٍ، فتُجيبهم الملائكةُ: {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو يُجازيكم عليه، قالَ عكرمةُ: المعنيُّ بذلك مَنْ قُتِلَ من (¬3) الكفارِ ببدرٍ. ... {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}. [29] {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمانِ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 372)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"تفسير البغوي" (2/ 612)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 276). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 277). (¬3) "من" ساقطة من "ت".

[30]

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)}. [30] وكانَ أحياءُ العربِ يبعثونَ أيامَ الموسمِ مَنْ يأتيهِمْ بخبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جاءَ، سأل الذين قعدوا على الطريقِ عنه، فيقولون: ساحرٌ، وكاهنٌ، وشاعرٌ، وكذابٌ، ومجنونٌ، ويأمرونَه بالانصرافِ، ويقولون: لا تَلْقَهُ خيرٌ لكَ، فيدخلونَ مكةَ ويسألونَ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيخبرونَ بصدقِهِ، وأَنه نبيٌّ مبعوثٌ، فذلكَ قولُه تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} يعني: المؤمنين (¬1) {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا} أنزلَ {خَيْرًا} ثم ابتدأَ فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} وَحَّدُوا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} كرامةٌ من الله، وهي تضعيفُ الأجرِ إلى العشرِ {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} أي: ولَثوابُهم في الآخرةِ خيرٌ منها {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} الجنةُ. ... {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)}. [31] ثم فَسَّرَها {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} من أنواعِ المشتَهَياتِ {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}: ... {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 612).

[32]

[32] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} تقدَّمَ التنبيهُ على اختلاف القراء في (تَتَوَفَّاهُمْ) {طَيِّبِينَ} طاهرينَ من الكفرِ والمعاصي. {يَقُولُونَ} لهم عندَ الموتِ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} ويقولونَ لهم في الآخرةِ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: بما كانَ من أعمالِكم. ... {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)}. [33] {هَلْ يَنْظُرُونَ} ما ينتظرُ الكفارُ {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} لقبضِ أرواحِهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَأْتِيهِمُ) بالياءِ مُذَكَّرًا، والباقون: بالتاءِ مؤنثًا (¬1). {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} وعيدٌ يتضَمَّنُ قيامَ الساعةِ وعذابَ الدنيا. {كَذَلِكَ} أي: مثلَ ذلكَ الفعلِ من الشركِ والتكذيبِ. {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فَعُوقبوا. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بتدميرِهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: آذَوْا أنفسَهم، وظلموها بنفسِ فعلهم، وإن كانوا لم يقصِدوا ظُلْمَها. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 372)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 303)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 278).

[34]

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)}. [34] {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} جزاءُ سيئاتِ عملِهم الخبيثِ {وَحَاقَ} نزلَ. {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} والحَيْقُ لا يُستعملُ إلا بالشرِّ. ... {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)}. [35] {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} يعني البَحيرةَ والسائبةَ والوصيلَة والحاميَ، فلولا أنَّ اللهَ رَضِيَها لنا، لَغَيَّرَ ذلكَ، وهدانا إلى غيرِها، قالوا ذلكَ بغيًا واستهزاءً لَمَّا نزلَ قولُه تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]. {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فأشركوا وكَذَّبوا الرسُلَ. {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} الموضِّحُ للحقِّ، وليس إليهم الهدايةُ. ... {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)}.

[36]

[36] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} كما بَعَثْنا فيكم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (أَنُ اعْبُدُوا) بضمِّ النونِ وشبهَه حيثُ وقعَ (¬1). {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وهو كلُّ معبودٍ من (¬2) دونِ الله. {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} وَفَّقَهم للإيمانِ {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} ثَبَتَتْ بالسابقةِ حتى ماتَ على كفرِه. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يا معشرَ قريشٍ. {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي: عاقبةُ أمرِهم لعلَّكم تعتبرونَ. ... {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)}. [37] {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} يا محمدُ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} قرأ الكوفيون: بفتحِ الياءِ وكسرِ الدالِ؛ أي: لا يهدي اللهُ من أَضلَّهُ، وقرأ الباقون: بضمِّ الياءِ وفتحِ الدال، يعني: من أضلَّه اللهُ فلا هاديَ له (¬3). {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} بدفعِ العذابِ عنهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 270)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 278)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 278). (¬2) "من" ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 372)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"تفسير البغوي" (2/ 614)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 379).

[38]

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)}. [38] ونزل فيمَنْ حلفَ أن اللهَ لا يبعثُ الموتى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} (¬1) قال الله تعالى: {بَلَى} يبعثُه. {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} مَصْدَران. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وأكثرُ الناسِ في هذه الآية: الكفارُ المكذِّبونَ بالبعثِ من القبور. ... {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)}. [39] {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} المعنى: يبعثُ اللهُ جميعَ الخلائقِ يومَ القيامةِ ليبينَ لهم الحقَّ من الباطلِ المختلَف فيهما. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} في إنكارِ البعثِ. ... {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}. [40] {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} لا يتعاظَمُنا شيء. قرأ ابن عامرٍ، والكسائيُّ: (فَيَكُوَن) بنصبِ النونِ، والباقونَ: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (7/ 311 - 312)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 158 - 159).

[41]

بالرفع (¬1)، وتقدَّمَ توجيهُ قراءتهم في سورةِ البقرةِ عندَ تفسير قولِه تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [الآية: 117]. ... {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)}. [41] ونزل في شأنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابةِ حيثُ أُخرِجوا من مكةَ {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ} أي: في طلبِ رضاهُ {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} من أهلِ مكةَ. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} فأنزلَهم المدينةَ، وأطعَمَهُمُ الغنيمةَ، فهذا الثوابُ في الدنيا، وكان عُمَرُ إذا أعطى الرجلَ من المهاجرينَ عطاءً يقولُ: "خُذْ، هذا ما وعدَ اللهُ لكَ في الدنيا حسنة، وما ادخر لكَ في الآخرةِ أفضلُ، ثم تلا هذهِ الآيةَ" (¬2). قرأ أبو جعفرٍ: (لَنُبَوِّيَنَّهُمْ) بفتحِ الياءِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمزِ. {وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الضميرُ للكفارِ؛ أي: لو علموا أن المؤمنين مُكْرَمون عند اللهِ، لآمنوا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 373)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 280). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي" (ص: 159)، و"تفسير البغوي" (2/ 615)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 280).

[42]

{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}. [42] {الَّذِينَ صَبَرُوا} على الشدائدِ من أذى الكفارِ ومفارقةِ الوطنِ. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} مُفَوِّضينَ الأمرَ إليه. ... {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}. [43] ونزلَ لما قالَتْ قريشٌ: إنَّ اللهَ أعظمُ من أن يكونَ رسولُه بشرًا، فهلَّا بعثَ إلينا مَلَكًا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} (¬1) أي: أهلَ الكتبِ المتقدمةِ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (نُوحِي) بالنونِ وكسرِ الحاءِ على لفظِ الجمعِ، وقرأ الباقون: بالياءِ وفتح الحاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه (¬2)، وقرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَسَلُوا) بالنقلِ، والباقون: بالهمزِ (¬3). {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وفي الآية دليلٌ على أنه تعالى لم يرسلِ امرأةً ولاَ مَلَكًا للدعوةِ العَّامةِ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (ص: 159)، و"تفسير البغوي" (2/ 615). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 373)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 281). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 414)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 278)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 281).

[44]

{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}. [44] وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ} متعلقٌ بفعلٍ مضمَرٍ تقديرُه: أرسلناهم بالبيناتِ. {وَالزُّبُرِ} الكتبِ. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} القرآنَ. {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} من الشرائعِ والأحكامِ. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يتأمَّلونَ الحقائقَ. ... {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)}. [45] {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} أي: عملوا المُنْكَراتِ السيئاتِ، وهم كفارُ مكةَ {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} كما خسف بقارونَ. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} كما فعل بقومِ لوطٍ. ... {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)}. [46] {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي: متقلِّبينَ في متاجِرهم ومسائِرهم. {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائِتينَ. ***

[47]

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}. [47] {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} تنَقُّصٍ؛ أي: يأخذَهم بنقصِ أموالِهم وآجالِهم حتى يَهْلِكوا جميعًا {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} حيثُ أمهلَكُم. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في (لَرؤُوفٌ). ... {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)}. [48] {أَوَلَمْ يَرَوْا} استفهامُ إنكارٍ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تَرَوا) بالخطابِ، وقرأ الباقون: بالغيبِ خبرًا عن الذين يمكرونَ السيئات (¬1)، وهو اختيارُ الأئمةِ. {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} من جسمٍ قائمٍ له ظِلٌّ {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} ترجعُ من جانبٍ إلى جانبٍ. قرأ أبو عمروٍ، ويعقوبُ: (تتفَيَّؤُا): بالتاءِ على التأنيث، والباقون: بالياء على التذكير (¬2). {عَنِ الْيَمِينِ} بمعنى الأَيمان، يوضِّحُه أن قابلَه بجمعٍ فقالَ: {وَالشَّمَائِلِ} جمعُ شِمال، فهي في أولِ النهارِ على حالٍ، ثم تنقصُ ثم تعودَ في آخرِ النهارِ إلى حالٍ أخرى، فاليمينُ أولَ النهارِ، والشمائلُ آخرَهُ، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 137)، و"تفسير البغوي" (1/ 616)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 278)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 281). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 373)، و"التيسير" للداني (ص: 137)، و"تفسير البغوي" (2/ 616)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 282).

[49]

ويقال للظلِّ بالعشيِّ: فَيْءٌ؛ لأنه فاءَ؛ أي: رجعَ من المشرقِ إلى المغربِ، ولا يقالُ قبلَ الزوالِ إلَّا ظِلٌّ فقط. {سُجَّدًا لِلَّهِ} فميلانُها ودورانُها سجودُها لله تعالى. {وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون أذلاء. ... {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)}. [49] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يستسلِمُ، وأخبرَ بـ (ما)؛ لأنها أعمُّ من (مَنْ)، وقوله: {مِنْ دَابَّةٍ} بيانٌ لِما في السمواتِ والأرضِ، والمرادُ: كلُّ نفسٍ دَبَّتْ على وجهِ الأرض، عَقَلَتْ أو لم تعقِلْ. {وَالْمَلَائِكَةُ} خصَّهم بالذكرِ، وهم من جملةِ ما في السمواتِ؛ لرفعِ شأنِهم، أو لخروجِهم من جملةِ الموصوفينَ بِالدَّبيبِ؛ لأن لهم أجنحة كما قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1]، وكانَ الطيرانُ أغلبَ عليهم من الدَّبيبِ. {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} لا يَتَعَظَّمون. ... {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}. [50] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} أي: غالبًا قاهرًا لهم؛ كقوله {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فلا يعجِزُه شيءٌ، ولا يغلِبُه أحدٌ، أو يخافونَ أن يأتيَهُم العذابُ من فوقِهم إن عَصَوه.

[51]

{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} به، وهذا محلُّ سجودٍ بالاتِّفاقِ، وتقدَّمَ اختلافُ الأئمةِ في سجودِ التلاوةِ، وحكمِه، وسجودِ الشكرِ آخرَ سورةِ الأعرافِ مستوفًى. ... {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)}. [51] {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} ذُكَرَ العددُ معَ أنَّ المعدودَ يدلُّ عليهِ؛ دلالةً على أنَّ مساقَ النهي إيماءٌ بأن الاثنينيةَ تنُافي الأُلوهيةَ كما في ذكرِ الواحدِ في قولهِ: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} للدلالةِ على أن المقصودَ إثباتُ الوحدانيةِ دونَ الإلهيةِ، أو للتنبيهِ على أن الوحدةَ من لوازم الإلهيةِ. {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} نقلَ من الغيبةِ إلى التكلمِ مبالغةً في الترهيبِ، وتصريحًا بالمقصودِ، كأنه قالَ: فأنا ذلكَ الإلهُ الواحدُ، فإيايَ فارهبونِ لا غيرُ. قرأ يعقوب: (فَارْهَبُونِي) بإثباتِ الياءِ، والباقون: بحذفها (¬1). ... {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}. [52] {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خَلْقًا ومُلْكًا. {وَلَهُ الدِّينُ} الطاعةُ والإخلاصُ. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 306)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 278)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 283).

[53]

{وَاصِبًا} دائِمًا {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} تخافونَ؟ استفهامُ إنكارٍ. ... {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)}. [53] {وَمَا بِكُمْ} أي: وأيُّ شيءٍ اتصلَ بكم {مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} لا يأتي بها أحد سواه. {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} القحطُ والمرضُ {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} تَتَضَرَّعونَ. ... {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}. [54] {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ} وهمُ الكفارُ. {بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} بعبادةِ غيرِه. ... {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}. [55] {لِيَكْفُرُوا} وهذهِ اللامُ تُسَمَّى: لامَ العاقبةِ؛ أي: حاصلُ أمرِهم هو كفرُهم {بِمَا آتَيْنَاهُمْ} من نعمةِ الكشفِ. {فَتَمَتَّعُوا} عِيشوا في اللذَّةِ، وهو أمرُ تهديدٍ. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ أمرِكُم، أغلظُ الوعيدِ. ... {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}. [56] {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ} أي: الأصنامِ {نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من

[57]

الأموالِ، وهو ما جعلوهُ لأصنامِهم من حُروثِهم وأنعامِهم، فقالوا: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] , ثم رجعَ من الخبرِ إلى الخطابِ فقال: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ} يومَ القيامةِ {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا. ... {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}. [57] {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} وهم خزاعةُ وكِنانُة، قالوا (¬1): الملائكةُ بناتُ اللهِ {سُبْحَانَهُ} هو مُنَزَّهٌ عن الولدِ والوالدِ. {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي: ويجعلونَ لأنفسِهم ما يتمنَّوْنَ، وهم البنونَ. ... {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}. [58] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ} أي: صارَ. {وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أي: مُتَغَيِّرًا. {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوءٌ غيظًا، فهو يَكْظِمُهُ؛ أي: يُمْسِكُه ولا يُظْهِره. ... {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)}. [59] {يَتَوَارَى} يَسْتَخْفي {مِنَ الْقَوْمِ} حياءً. {مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} من البناتِ، ثم يتردَّدُ فيما يصنعُ بولدِه. ¬

_ (¬1) في "ت": "وقالوا".

[60]

{أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أي: هوانٍ وذلٍّ {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} يَدْفِنُه حَيًّا. {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} حيثُ وَأَدوا البناتِ خوفَ الفقرِ والعارِ، وحيثُ نسبوا إلى اللهِ تعالى ما هو مستقبَحٌ عندَهم. ... {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}. [60] {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} يعني: لهؤلاءِ الذين يصفونَ للهِ البناتِ {مَثَلُ} أي: صفةُ {السَّوْءِ} وهو كفرُهم، ووأدُ البناتِ مع احتياجِهم إليهنَّ طلبَ النكاحِ. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} الصفةُ العليا، وهي التوحيدُ والغنى عن جميعِ خلقه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} المنفرِدُ بكمالِ القدرةِ والحكمةِ. ... {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)}. [61] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} فيعاجِلُهم بالعقوبةِ على كفرِهم ومعَاصيهم. {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا} أي: الأرضِ {مِنْ دَابَّةٍ} مَنْ يَدِبُّ أصلًا بشؤمِ ظلمِهم، فهلاكُ الدوابِّ بآجالِها، وهلاكُ الناسِ عقوبةً. {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ} يُمْهِلُهم بحلمِه {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} سَمَّاهُ لأعمارِهم.

[62]

{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} مُذْ هَلَكوا أو عُذِّبوا حينئذٍ لا محالة. قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ عن نافع: (يُوَاخِذُ) (يُوَخِّرُ) بفتح الواوِ من غيرِ همزٍ، والباقون: بالهمزِ (¬1)، واختلافهم في الهمزتين من (جَاءَ أَجَلُهُمْ) كاختلافِهم فيهما في قوله: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم) في سورة النساء. ... {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}. [62] {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} من البناتِ، والمشاركةِ، والاستخفافِ بالرسلِ، وأراذِلِ الأموالِ. {وَتَصِفُ} أي: تقولُ {أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} يعني: الذكورَ من الأولاد، وهو قولُ مجاهدٍ وقَتادةَ، قالَ ابنُ عطية: وهو الأسبقُ من معنى الآية، وقالت فرقة: يريدُ: الجنةَ في المعاد إن كان محمدٌ صادقًا في البعثِ (¬2)، ويؤيدُ هذا قولُه: {لَا جَرَمَ} أي: حَقًّا {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} في الآخرةِ {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قرأ نافعٌ بكسرِ الراءِ وتخفيفِها؛ من الإفراطِ في المعاصي، وقرأ أبو جعفرٍ بكسرِ الراءِ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 271)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 284). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 403). وانظر: "تفسير الطبري" (14/ 127)، و"تفسير القرطبي" (10/ 120)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 575)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 141).

[63]

وتشديدِها معَ فتحِ الفاءِ؛ من التفريطِ في الطاعاتِ، وقرأ الباقون: بفتحِ الراءِ وتخفيفِها؛ أي: مُقَدَّمون إلى النارِ (¬1). ... {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}. [63] {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} كما أرسَلْناك إلى هذهِ الأمةِ. {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الخبيثةَ. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} ناصرُهم {الْيَوْمَ} أي: يومَ القيامةِ، والألفُ واللامُ فيه للعهدِ؛ أي: هو وليُّهم في اليومِ المشهودِ، وهو وقتُ الحاجة، وهو عاجزٌ عن نصرِ نفسهِ، فكيف ينصرُ غيره؟! وهذهِ حكايةُ حالٍ آتيةٍ؛ أي: في حالِ كونِهم مُعَذَّبين في النارِ. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قرأ أبو عمرٍو (فَهُو ولِيُّهُمْ) بإدغامِ الواوِ في الواو (¬2). ... {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 374)، و"التيسير" للداني (ص: 138)، و"تفسير البغوي" (2/ 621)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 286). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 271)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 286).

[64]

[64] {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} للناسِ. {الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} من الدينِ والأحكامِ. {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وعطف بالهدى والرحمة على موضع قولِه: (لِتُبيِّنَ)؛ لأن محلَّه النصبُ، ومجازُ الكلامِ: وما أنزلنا عليكَ الكتابَ إلا بيانًا للناس، وهدًى ورحمةً للمؤمنينَ. ... {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}. [65] {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني: المطرَ {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} بالنبات {بَعْدَ مَوْتِهَا} يُبْسِها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماعَ تَدَبُّرٍ وإنصافٍ. ... {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}. [66] {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} لعظةً {نُسْقِيكُمْ} قرأ أبو جعفرٍ: (تَسْقِيكُمْ) بالتاء مفتوحةً، والباقون: بالنونِ، وفتحَها نافعٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وأبو بكرٍ، وضمَّها الباقون (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 374)، و"التيسير" للداني (ص: 138)، و"تفسير البغوي" (2/ 622)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 287)، وقراءة أبي جعفر ضعيفة، =

{مِمَّا فِي بُطُونِهِ} أي: بطونِ الأنعامِ؛ لأنه يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ، فمن أَنَّثَ فلمعنى الجمعِ، ومن ذَكَّرَ فلحكمِ اللفظِ. {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} هو ما في الكرشِ من السّرجينِ. {وَدَمٍ} المعروفِ، وذلك أن الكرشَ إذا طحنَتِ العلفَ، صارَ أسفلُه فرثًا، وأوسطُه {لَبَنًا خَالِصًا} لا يشوبُه شيءٌ، وأعلاه دمًا، وبينها حاجزٌ من قدرةِ اللهِ تعالى، لا يختلطُ أحدُها بالآخرِ بلونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ، معَ شدةِ الاتصال، والكبدُ مسلَّطَةٌ عليها، تقسمِهُا بقدرةِ اللهِ تعالى، فَتُجري الدمَ في العروقِ، واللبنَ في الضَّرْع، ويبقى الفرثُ في الكرشِ، فسبحانَ القادرِ على ما يشاءُ. {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} سَهْلًا لا يغصُّ بهِ شاربُهُ. قرأ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (لِلشَّارِبِينَ) بالإمالة، بخلافٍ عنه (¬1)، فيه دليلٌ لمن يقولُ بطهارةِ مَنِيِّ الآدمِيِّ، وإن جرى مجرى البولِ؛ لأنه لا يمتنعُ خروجُه طاهرًا وإن جرى مجرى البول، كما لا يمتنعُ خروجُ اللبنِ من بينِ الفرثِ والدمِ طاهرًا، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ، وقالَ أبو حنيفةَ ومالكٌ: هو نجسٌ إلَّا أن أبا حنيفة عندَه إِنْ كانَ رَطْبًا غُسِلَ، وإن كان يابِسًا فُرِكَ، وعندَ مالكٍ يُغْسَلُ رَطَبًا ويابِسًا. ... ¬

_ = كذا في "تفسير القرطبي" (10/ 123). (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 65)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 288).

[67]

{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}. [67] {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ} فالكنايةُ في (مِنْهُ) عائدة إلى (ما) محذوفةٍ (¬1)؛ أي: ما تتَّخِذون منه {سَكَرًا} أي: خَمْرًا، ثم نُسِخَتْ بقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]؛ لأنَّ النحلَ مكيةٌ، والمائدةَ مدنيةٌ {وَرِزْقًا حَسَنًا} الرُّطَبَ والتمرَ والعنبَ والزبيبَ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بالتأمُّل في الآياتِ. ... {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)}. [68] {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أَلْهَمَها، وهو مُذَكَّر، وربما (¬2) أُنِّثَ حملًا على المعنى. {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} تأوينَ إليها. {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يَبْنُون لكِ من الأماكن. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يَعْرُشُونَ) بضمِّ الراء، والباقون: بكسرها (¬3). ... ¬

_ (¬1) في "ت": "إلى محذوفة". (¬2) في "ت": "مذكور بما". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 374)، و"التيسير" للداني (ص: 138)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 271)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 288)، والقراءة بخلاف عن عاصم.

[69]

{ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}. [69] {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} حُلْوِها وحامِضها ومُرِّها وغيرِ ذلكَ. {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} أي: الطرق التي يطلب فيها الرعي. قرأ أبو عمرِو: (سُبُل ربِّكِ) بإدغامِ اللامِ في الراء (¬1) {ذُلُلًا} منقادةً بالتسخيرِ. {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا} أفواهِها {شَرَابٌ} هو العسلُ ينزلُ من السماء، فينبتُ في أماكنَ، فيأتي النحلُ فيشربُه، ثم يأتي الخليةَ فيلقيه في الشمعِ المهيأ له، لا كما يتوهَّمُ بعضُ الناسِ أنه من فضلاتِ الغذاءِ، وأنه يستحيلُ في المعدةِ عسلًا. {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} من أبيضَ وأسودَ وأحمرَ، وغيرِ ذلكَ. {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي: في العسلِ، قاله الجمهورُ، وقيل: في القرآنِ، قال البغويُّ: والأولُ أولى (¬2)، ولا يقتضي العمومَ في كل علَّةٍ وفي كلِّ إنسانٍ، بل هو خبرٌ عن أنه يَشْفي كما يَشْفي غيرُه من الأدويةِ في بعضٍ، ورُويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ: العَسَلِ وَالْقُرْآنِ" (¬3). {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيعتبرونَ. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 288). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 623). (¬3) رواه ابن ماجه (3452)، كتاب: الطب، باب: العسل، والحاكم في "المستدرك" (7435)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 344)، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. قال البيهقي: رفعه غير صحيح، والصحيح موقوف؛ رواه وكيع عن سفيان موقوفًا.

[70]

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}. [70] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} صِبيانًا أو شُبَّانًا أو كُهولًا {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} الهَرَمِ {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ} عَلِمَهُ في حالِ شَبيبتِه. {شَيْئًا} أي: إذا علمَ شيئًا اعتراهُ النسيانُ، فيصيرُ بعدَ العلمِ ناسيًا. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} قرر تعالى علمَه وقدرتَه التي لا تتبدَّلُ ولا تدخلُها الحوادثُ، ولا تتغيرُ. ... {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)}. [71] {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} بسطَ على واحدٍ، وضَيَّقَ على آخرَ. {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} (¬1) المعنى: لا يعتقد الموالي أنهم يَرُدُّون شيئًا من الرزقِ على عبيدِهم، وإنما أنا الرادُّ عليهم فهم في الرزق سواء. {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بالإشراكِ به. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (تَجْحَدُونَ) بالخطابِ؛ لقوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ ¬

_ (¬1) من قوله: "على التأنيث والباقون ... " (ص 28) إلى هنا سقط من "ش"، بمقدار لوحتين تقريبًا من النسخ الخطية.

[72]

عَلَى بَعْضٍ} وقرأ الباقون: بالغيب؛ لقولهِ {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} (¬1). ... {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}. [72] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من جنسِكم، والمرادُ حواءُ؛ لأنها خُلقت من قصيراءِ آدمَ {أَزْوَاجًا} نساءً. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} أعوانًا وخَدمًا، جمعُ حافدٍ، وهو المعينُ المسرعُ في الطاعةِ، غريبًا كانَ أو قريبًا. قرأ أبو عمروٍ، ورويسٌ: (جَعَل لكُمْ) بإدغامِ اللامِ في اللامِ كُلَّ ما في هذهِ السورةِ (¬2). {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الحلالاتِ، ثم وَبَّخهم بقوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ} أي: الأصنامِ، وما يُفضي إلى الشرك {يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ} القرآنِ. {هُمْ يَكْفُرُونَ} (بِنِعْمَتِ) رُسِمَتْ بالتاءِ، وكذلك في الموضعين بعدَها، وهما: (نِعْمَتَ اللهِ) وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 374)، و"التيسير" للداني (ص: 138)، و"تفسير البغوي" (2/ 625)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 289). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 302)، (2/ 304)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 279)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 289).

[73]

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)}. [73] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ} يعني: المطرَ {وَالْأَرْضِ} يعني: النباتَ {شَيْئًا} بدلٌ من {رِزْقًا} أي: لا يملكونَ من الرزقِ شيئًا قليلًا ولا كثيرًا، {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} ذلكَ لعجزِهم. ... {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)}. [74] {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} لا تُسَوُّوه بخلقِه. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} أَنْ لا شبهَ. {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك. ... {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)}. [75] ثم ضربَ اللهُ مثلًا للمؤمنِ والكافرِ، فقالَ تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا} بدلٌ من (مَثَلًا) {مَمْلُوكًا} ليخرجَ منهُ الحر؛ لأن الخلقَ عبيدُ الله {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ليخرجَ عنهُ المكاتَبَ. {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ} أي: حُرًّا رزقناه {مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} يعني: جماعةَ الأحرارِ والعبيدِ، وهذا مثلٌ

[76]

ضربه الله تعالى للكافرِ، رزقه الله مالًا، فلم يقدِّم فيه خيرًا، والمؤمنِ يعملُ في مالِه بطاعة الله تعالى. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: الثناءُ له، لا يستحقُّه غيرهُ. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} يعني: الكفارَ {لَا يَعْلَمُونَ} فيضيفون نعمَه إلى غيرهِ. ... {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}. [76] ثم ضربَ مثلًا للأصنام فقالَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} أخرسُ. {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ} عِيالٌ وثِقْلٌ {عَلَى مَوْلَاهُ} مَنْ يلِي أمرَه. {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ} يُرْسِلْهُ {لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأنه لا يَفْهَمُ، ولا يُفْهَمُ عنه، هذا مثلُ الأصنامِ لا تسمعُ ولا تنطقُ، وهي كَلٌّ على عابدِها، تحتاج إلى حملِها ووضعِها وخدمتِها. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وهو اللهُ سبحانه قادرٌ متكلمٌ يأمرُ بالتوحيدِ. {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يعني: يدلُّكم على صراطٍ مستقيمٍ. ***

[77]

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)}. [77] ولما سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، نزل: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1) أي: ما غاب عن العباد. {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} أي: أمرُ مجيئِها. {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} وهو النظرُ بسرعةٍ. {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} لأنها كائنةٌ لا محالةَ، وكل ما هو آتٍ قريب {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ... {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}. [78] ثم دلَّ على قدرته فقالَ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} قرأ حمزةُ: (إِمِّهَاتِكُمْ) بكسرِ الهمزةِ والميمِ في الوصلِ، والكسائيُّ يكسرُ الهمزةَ في الوصلِ ويفتحُ الميمَ، والباقون: يضمُّونَ الهمزةَ ويفتحون الميمَ في الحالين، والابتداء للجميع بضمِّ الهمزةِ وفتح الميم. {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} جُهَّالًا {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} المعنى: أوجدَكم ضُلَّالًا ورزقَكم الفهمَ والعلمَ. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نِعَمَ اللهِ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 628).

[79]

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}. [79] {أَلَمْ يَرَوْا} قال ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (تَرَوا) بالخطابِ على أنه خطابُ العامةِ، والباقون: بالغيب؛ لقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1). {إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} مُذَلَّلاتٍ للطيرانِ. {فِي جَوِّ السَّمَاءِ} والجوُّ: مسافةُ ما بينَ السماءِ والأرضِ، وقيل: المتباعدُ من الأرضِ. {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الهواءِ. {إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنهم هم المنتفعونَ بها. ... {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)}. [80] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} هو ما يُسْكَنُ إليه، ويُنْقَطَعُ فيه. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} قِبابًا وأَخْبِيَةً مُتَّخَذَةً من أَدمَ. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في كسرِ الباء من (بِيُوتًا) في سورة البقرة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 228)، و"التيسير" للداني (ص: 94)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 290).

[81]

{تَسْتَخِفُّونَهَا} أي: يَخِفَّ عليكم حَمْلُها {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} رَحِيلكم. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ: بإسكانِ العينِ، والباقون: بفتحِها، وهو أجزلُ اللغتينِ (¬1). {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} في بلدِكم لا تثقلُ عليكم في الحالتين. {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} أي: الضأنِ {وَأَوْبَارِهَا} الإبلِ {وَأَشْعَارِهَا} المَعْزِ. قرأ أبو عمروٍ، والكسائيُّ من روايةِ الدوريِّ (وَأَوْبِارهَا وَأَشْعَارِهَا) بالإمالة، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ، ورُوي عن ورشٍ، وحمزةَ بالإمالةِ بينَ بينَ، وقرأهما الباقون: بالفتح (¬2) {أَثَاثًا}. متاعَ البيتِ {وَمَتَاعًا} أي: شيئًا يُنتفَعُ به {إِلَى حِينٍ} إلى الموتِ. ... {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}. [81] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} جمعُ ظُلَّةِ وهو ما يُستَظلُّ به. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} وهو ما يُسْتكنُّ به (¬3) من كهوفِ الجبالِ. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 138)، و"تفسير البغوي" (1/ 628)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 291). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 271)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 297 - 280)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 292). (¬3) "به" ساقطة من "ت".

[82]

{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} قُمُصًا من الكتانِ والقطنِ والصوفِ. {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ولم يذكرِ البردَ؛ لدلالتهِ عليه؛ لأنه نقيضُه. {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أي: الدروعَ والجواشنَ تدفعُ عنكم ألمَ الحرب والطعنِ والضربِ. {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} تُخْلِصون لله. ... {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)}. [82] {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا، فلا يلحقُكَ في ذلك عَتَبٌ. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وقد بَلَّغْتَ. ... {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}. [83] {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} التي عَدَّدَها عليهم. {ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} بعبادةِ غيرِ اللهِ، وقيل: يعرفون نعمةَ اللهِ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالنبوةِ، ثم يُنكرونها بتكذيبهِ. {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} أي: جميعُهم، والكفر: الجحود. ... {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)}. [84] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: نبيًّا شهد لهم وعليهم.

[85]

{ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: في الاعتذارِ. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يُطْلَبُ منهم العتبى. ... {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)}. [85] {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: كفروا {الْعَذَابَ} يعني: جهنمَ. {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} العذابُ {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} يُمْهَلون. ... {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)}. [86] {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا} يومَ القيامةِ {شُرَكَاءَهُمْ} أوثانَهم التي دَعَوْها شركاءَ. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في (رَأَى الذين) في سورةِ الأنعامِ. {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} أربابًا، ونعبدُهم، كأنُّهم أرادوا بذلك تذنيبَ المعبودينَ، وإدخالَهم في المعصيةِ. {فَأَلْقَوْا} يعني: الأوثانَ. {إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} أي: أجابوهم بقدرةِ اللهِ تعالى. {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} ما كُنَّا ندعوكم إلى عبادتِنا فكأنهم كذَّبوهم في التذنيبِ لهم. ***

[87]

{وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)}. [87] {وَأَلْقَوْا} يعني: المشركينَ. {إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} استسلموا، وانقادوا لحكمِه بعدَ استكبارِهِمْ في الدنيا. {وَضَلَّ عَنْهُمْ} ضاعَ وبَطَلَ. {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من أن الآلهةَ تشفعُ لهم. ... {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)}. [88] {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بمنعِ الناسِ عن الإسلام. {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} المُعَدِّ لهم منَ النارِ، رُويَ أن اللهَ يُسلِّطُ عليهم حياتٍ لها أنيابٌ كالنخلِ، وعقاربَ كالبِغالِ الدُّهْمِ، ونحوَ ذلك. {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} في الدنيا بالكفرِ. ... {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}. [89] {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ} يعني: نبيًّا {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فإنَّ كلَّ نبيٍّ بُعِثَ إلى الأُمَمِ منها. {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمدُ {شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} الذين بُعِثْتَ إليهم.

[90]

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أي: القرآنَ {تِبْيَانًا} تِفْعالًا من البيانِ. {لِكُلِّ شَيْءٍ} يُحتاجُ إليه، وما كانَ فيه مُجْمَلًا، فأنتَ تُفَصله لهم. {وَهُدًى} من الضلالةِ {وَرَحْمَةً} للجميعِ، وإنما حِرمانُ المحرومِ من تفريطِهِ. {وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} بالجنةِ. ... {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}. [90] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} بالتوحيدِ والإنصافِ {وَالْإِحْسَانِ} هو أداءُ الفرائضِ {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} صلةِ الرَّحِمِ. {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} الزنا والمعاصي {وَالْمُنْكَرِ} الشِّرْكِ، وما لا يُعرفُ في شريعةٍ ولا سُنَّةٍ {وَالْبَغْيِ} الظلمِ والتجبُّرِ على الناسِ. {يَعِظُكُمْ} بالأمرِ والنهيِ. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتَّعظونَ، رُويَ أن الوليدَ بنَ المغيرةِ لما سمعَ هذه الآيةَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: واللهِ إنَّ لهُ لحلاوةً، وإنَّ عليهِ لطلاوةً، وإنَّ أسفلَهُ لَمُغِدقٌ، وإن أعلاهُ لَمثْمِرٌ، وما يقولُ هذا بَشَرٌ (¬1). ... {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)}. ¬

_ (¬1) انظر: "شعب الإيمان" للبيهقي (134)، و"تفسير البغوي" (2/ 632).

[91]

[91] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} وعهدُ اللهِ: لفظٌ عامٌّ لجميعِ ما يُعْقَدُ باللسانِ، ويلتزمُه الإنسانُ من نفعٍ، أو صلةٍ، أو مواثقةٍ في أمرٍ موافقٍ للديانة. {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} توثيقِها بذكرِ اللهِ، فتحنثوا فيها. {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} أي: شاهدًا ورقيبًا. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من نقضِ العهدِ والوفاءِ. ... {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}. [92] ثم ضربَ لنقضِ العهدِ مثلًا؛ تبشيعًا له، وتحذيرًا منه، فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} التي غزلَتْهُ من صوفٍ وغيرِه. {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} إحكامٍ وبَرْمٍ، فجعلَتْه {أَنْكَاثًا} حالٌ، جمع نكثٍ، وهو ما يُنْكَثُ فتلُه؛ أي: يُنقَضُ، والمرادُ به: تشبيهُ الناقضِ بمن هذا شأنُه، ورُويَ أنَّ امرأةً من قريشٍ يقالُ لها: ريطَةُ بنتُ سعدِ بنِ تيم كانَتْ حمقاءَ، وكانَتْ هي وجواريها يَغْزِلْنَ من أولِ النهار إلى الظهرِ، ثم ينقضْنَ ما غزلْنَ (¬1). {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} أي: دَغَلًا وخِيانَةً بينكم بسببِ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 633)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 585)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 162).

[93]

{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ} جماعةٌ {هِيَ أَرْبَى} أي: أكثرَ عددًا. {مِنْ أُمَّةٍ} من الجماعة التي حالفتموها، وهذا نهيٌ لمن يحالفُ قومًا، فإنْ وجدَ أيسرَ منهم وأكثرَ ذهبَ إليهم، وتركَ مَنْ (¬1) حالفَ. {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} أي: يختبرُكم. {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا؛ من نقضِ العهودِ وغيرِها. ... {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}. [93] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على ملَّةِ الإسلامِ {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} بخذلانِهِ عَدْلًا {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} بتوفيقِهِ فَضْلًا. {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا سؤالُ توبيخٍ، ليس ثَمَّ سؤالُ تَفَهُّم. ... {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)}. [94] ثم كررَ النهيَ تأكيدًا وإنذارًا فقال: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} فتغرُّونَ بها الناسَ فيسكنونَ إلى إيمانِكم، ويأمنون، ثم تنقضونها {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} أي: قدمُكم. ¬

_ (¬1) في "ت": "ما".

[95]

{بَعْدَ ثُبُوتِهَا} استقامتِها على الإيمانِ، يقالُ لكل مُبْتَلًى بعدَ عافيةٍ: زَلَّتْ قدمُه. {وَتَذُوقُوا السُّوءَ} العقوبةَ في الدنيا {بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بصدودِكم عن الوفاءِ إذا نقضْتُم، استنَّ بكم غيرُكم. {وَلَكُمْ} في الآخرةِ {عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ... {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)}. [95] ونزلَ فيمَنْ نقضَ العهدَ لينالَ شيئًا من حُطامِ الدنيا: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا} عَرَضًا {قَلِيلًا} من الدنيا {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثوابِ. {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} من المال {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضلَ ما بينَ العِوَضَيْنِ. ... {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)}. [96] {مَا عِنْدَكُمْ} من حُطامِ الدنيا {يَنْفَدُ} يفنى (¬1). {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} دائمٌ. رويَ عن قنبلٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياءِ على (بَاقِي) و (مُفْتَرِي) (¬2). ¬

_ (¬1) "يفنى" ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 272)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 295).

[97]

{وَلَنَجْزِيَنَّ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ: (وَلَنَجْزِيَنَّ) بالنون، والباقون: بالياء، واختلِفَ عن ابن ذكوان (¬1). {الَّذِينَ صَبَرُوا} على الوفاءِ في السراءِ والضراءِ. {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الطاعاتِ دونَ سواها، ويغفرُ سيئاتِهم بفضلِه، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ، أَضرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ، أَضرَّ بِدُنْيَاهُ، فآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى ما يَفْنَى" (¬2). ... {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}. [97] {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ} في الدنيا {حَيَاةً طَيِّبَةً} هي الرزقُ الحلالُ. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا وعدٌ بنعيمِ الآخرةِ. واتفقَ القراءُ على النونِ في (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) لأجلِ (فَلَنُحْيِيَنَّهُ) قبلَه. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 375)، و"التيسير" للداني (ص: 138)، و"تفسير البغوي" (2/ 634)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 305)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 295). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 412)، وعبد بن حميد في "مسنده" (568)، وابن حبان في "صحيحه" (709)، والحاكم في "المستدرك" (7853)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (418)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6308)، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.

[98]

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)}. [98] {فَإِذَا قَرَأْتَ} أي: إذا أردتَ أن تقرأَ {الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} تقدَّمَ الكلامُ في أولِ التفسيرِ على الاستعاذةِ وتفسيرِها ومذاهبِ الأئمةِ والقراءِ فيها مستوفىً في فصلِ الاستعاذةِ. ... {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}. [99] {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تسلُّط. {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فإنَّهم لا يُطيعون أوامرَه، ولا يَقبلون وساوسَهُ إلا فيما يحتقرون على نُدورٍ وغَفْلَةٍ. ... {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}. [100] {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} يُطيعونه. {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ} أي: باللهِ {مُشْرِكُونَ} وقيل: الكنايةُ راجعةٌ على الشيطان؛ أي: والذينَ هم بسببهِ مشركونَ بالله. ... {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}. [101] {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أي: نَسَخْنا آيةً بآيةٍ مصلحةً للعبادِ.

[102]

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} مما هو أصلحُ لخلقِه فيما يُغَيِّرُ ويُبَدِّلُ من أحكامِه. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ: (يُنْزِلُ) بالتخفيف، والباقون: بفتحِ النونِ والتشديدِ (¬1). {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ} يا محمدُ {مُفْتَرٍ} مُخْتَلِقٌ ذلكَ من تلقاءِ نفسِك. وتقدَّم ما رُوي عن قنبلٍ ويعقوبَ في (مُفْتَرٍ) عندَ (بَاقٍ). {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} حكمةَ الأحكامِ وبيان الناسخِ من المنسوخ، وعَبَّرَ بالأكثرِ مراعاةً لما كانَ عند قليلٍ منهم من توقُّفٍ وقلةِ مبالغةٍ في التكذيبِ والظنِّ. ... {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}. [102] {قُلْ} رَدًّا عليهم: {نَزَّلَهُ} أي القرآنَ {رُوحُ الْقُدُسِ} هو جبريلُ عليه السلام. قرأ ابنُ كثير: (الْقُدْسِ) بإسكانِ الدالِ، والباقونَ: بضمِّها (¬2). {مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} بالصدقِ {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} بالناسخِ، ويعلمون صدقَ ذلكَ. {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادينَ لحكمِه. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 305)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 280)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 296). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 375)، و"التيسير" للداني (ص: 74)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 296).

[103]

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}. [103] قال ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمُ قَيْنًا بمكةَ اسمُه بلعامُ وكان نصرانيًّا أعجميَّ اللسانِ، فكانَ المشركون يرونَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يدخلُ عليه ويخرجُ، فقالوا: إنما يعلِّمُه بلعامُ، فنزل تكذيبًا لهم وتهديدًا: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (¬1) آدميٌّ، ثم أبطلَ قولَهم بقوله: {لِسَانُ} أي: لغةُ {الَّذِي يُلْحِدُونَ} يميلون ألسنتَهم {إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} هو الذي لا يُفْصِحُ، وإن كانَ عربيًّا، والأعجميُّ: المنسوبُ إلى العجمِ وإنْ كانَ فَصيحًا، والأعرابيُّ: البدويُّ، والعربيُّ: منسوبٌ إلى العربِ وإنْ لم يكنْ فصيحًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء من لَحَدَ، والباقون: بضمِّ الياءِ وكسرِ الحاءِ من أَلْحَدَ (¬2). {وَهَذَا} أي: القرآن هو {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فصيحٌ، المعنى: لسانُ الذي يُشيرونَ إليه أنه يعلِّمُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فيه عُجْمَةٌ، والقرآنُ ذو بيانٍ وفصاحةٍ، فكيفَ يصدرُ عن أعجميٍّ؟! ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (14/ 177)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 160)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 167). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 375)، و"التيسير" للداني (ص: 138)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 280)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 296).

[104]

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}. [104] ثم تهدَّدَهم بقولهِ: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} لا يصدِّقون أنها من عندِ الله. {لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} لا يرشدُهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرةِ. ... {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}. [105] ثم أخبرَ تعالى أنَّ الكفارَ هم المفترونَ فقالَ: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ} إشارةٌ إلى قريشٍ {هُمُ الْكَاذِبُونَ} على الحقيقةِ، لأن تكذيبَ الآياتِ والطعنَ فيها بهذهِ الخرافاتِ أعظمُ الكذبِ. ... {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)}. [106] رُوِيَ أنَّ عمارَ بنَ ياسرٍ سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ المشرِكينَ مُكْرَهًا، فقالَ المسلمونَ: قد كفرَ عمارٌ، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "كَلَّا، إِنَّ عَمَّارًا قَدْ مُلِئ إِيمانًا مِنْ قَرْنِهِ إِلىَ قَدَمِهِ، وَاخْتَلَطَ الإِيمَانُ بِلَحْمِهِ وَدَمِه"، فأتى عمارٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نلتُ منكَ يا رسولَ الله، قالَ: "كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ؟ " قال: مطمئنًا،

[107]

فجعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ عيني عمارٍ ويقول: "إِنْ عَادُوا فَعُدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ"، فنزلَ فيه وفيمن جرى مجراه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} (¬1) على كلمةِ الكفر استثناءٌ متصلٌ؛ لأنَّ الكفرَ يطلق على القولِ والاعتقادِ. {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} لم تتغيرْ عقيدتهُ، لا يدخلُ في هذا الحكمِ. {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي: طابَ بهِ نفسًا. {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إذ لا أعظمَ من جرمِهِ. واتفقَ الأئمةُ على أنَّ من أُكرِهَ على كلمةِ الكفر، يجوزُ له أن يقولَ بلسانه، وإذا قالَ غيرَ معتقدٍ بقلبِه، لا يكفرُ، وإن أَبى حتى يُقتل كانَ أفضلَ. واختلفوا في طلاقِ المُكْرَهِ، فأجازه أبو حنيفةَ، وأبطَلَهُ الثلاثةُ، وأما المكره بحقٍّ، فهو مكلَّفٌ بالاتفاق. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)}. [107] {ذَلِكَ} الوعيدُ {بِأَنَّهُمُ} الضميرُ لمن شرحَ بالكفرِ صدرًا. {اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} بسببِ أنهم آثَروها عليها. {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} لا يعصمُهم عن الزَّيْغِ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 160)، و"تفسير البغوي" (2/ 639)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 172).

[108]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)}. [108] {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فصرَفَهم عن طريقِ الهدى، وسَدَّ طرقَ هذهِ الحواسِّ حتى لا ينتفعَ بها في اعتبارٍ ولا تأملٍ. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} عما يراد بهم. ... {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)}. [109] {لَا جَرَمَ} تقدَّمَ تفسيرهُ ومذهبُ حمزةَ فيه. {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} المغبونون. ... {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}. [110] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} قرأ ابنُ عامرٍ: (فَتَنُوا) بفتحِ الفاءِ والتاءِ، يعني: مَنْ أسلمَ من المشركينَ الذين فَتَنوا المسلمينَ. وقرأ الباقون: بضمِّ الفاءِ وكسرِ التاء (¬1)، يعني: الذين فُتِنوا: عُذِّبوا ومُنِعوا من الإسلامِ، فَتَنَهم المشركون. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 376)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"تفسير البغوي" (2/ 640)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 297).

[111]

{ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} على الهجرةِ والجهادِ. {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} أي: الفتنةِ والغفلةِ. {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} قيل: نزلَتْ في عبدِ الله بنِ أبي سَرْحِ حينَ ارتدَّ، ثم أسلمَ وحَسُنَ إسلامُه. ... {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}. [111] {يَوْمَ تَأْتِي} المعنى: لغفورٌ رحيمٌ يوم تأتي {كُلُّ نَفْسٍ} أي: ذو نَفْسٍ {تُجَادِلُ} تُحاجُّ. {عَنْ نَفْسِهَا} فالنفسُ الأولى هي المعروفةُ، والثانيةُ بمعنى الذاتِ؛ كما تقولُ: نفسُ الشيءِ وعينُه؛ أي: ذاتُه، المعنى: يومَ يأتي كلُّ إنسانٍ يُجادِلُ عن ذاتِه، لا فكرهَ له بغيرِه. {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} جزاءَ. {مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لا ينقصون أجورَهم. ... {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}. [112] ثم ضربَ مثلًا بمن أنعمَ عليه فلم يَشْكُرْ، وأبطرَتْه النعمةُ فكفرَ، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً} هي مكةُ {كَانَتْ آمِنَةً} لا يُهاجُ أهلُها،

[113]

ولا يُغارُ عليها {مُطْمَئِنَّةً} لا ينتقلون منها إلى غيرِها؛ لحسنِها. {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} واسعًا {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} يُحْمَلُ إليها من البَرِّ والبحرِ. {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} جمعُ نعمةٍ، رُويَ أن أهلَها كانوا يستنجون بالخبزِ. {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} أي: أهلَها {لِبَاسَ الْجُوعِ} أي: ابتلاهم به حتى أكلوا الجِيَفَ والكلابَ الميتةَ، حتى كانَ أحدُهم ينظرُ إلى السماءِ فيرى شبهَ الدخانِ من الجوع. {وَالْخَوْفِ} بِشَنِّ الغاراتِ عليهم من بُعوثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسراياه التي كانت تُطيفُ بهم. {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ولما كانَ الخوفُ يَتَغَشَّاهم من كلِّ جانبٍ تغشِّيَ الثوبِ للَّابسِ، استعارَ اللباسَ له، فكأنَّ اللباسَ قد صارَ جوعًا وخوفًا؛ كأنه قال: فأذاقَهم الله (¬1) ما يتغشَّاهم من الجوعِ والخوفِ. ... {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)}. [113] {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ} يعني: أهلَ مكةَ. {رَسُولٌ مِنْهُمْ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} في حالِ ظلمِهم. ¬

_ (¬1) لفظ الجلالة "الله" زيادة من "ت".

[114]

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)}. [114] {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} أَمَرَهم بأكلِ ما أحلَّ اللهُ لهم، وشكرِ ما أنعمَ عليهم بعدَما زجرَهم على الكفرِ، وهَدَّدَهم عليه بما ذكرَ من التمثيلِ والعذابِ الذي حلَّ بهم؛ صَدًّا لهم عن صنيعِ الجاهليةِ. {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} تُطيعونَ. ... {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)}. [115] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تقدَّمَ تفسيرُ نظيرِها، ومذاهبُ القراءِ فيها، واختلافُ الأئمةِ في حكمِها في سورةِ البقرة. ... {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)}. [116] {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ} أي: تنعَتُ {أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} إشارة إلى ما تقدَّمَ من السائبةِ والوصيلةِ والحامِ، المعنى: لا تُحِلُّوا حرامًا، ولا تحرِّموا حلالًا؛ لتفتروا على اللهِ الكذبَ فتقولوا: إن الله أمرنا بها.

[117]

{إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} لا يبلغون الأملَ. ... {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}. [117] {مَتَاعٌ} أي: بقاؤهم فيها متاعٌ. {قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرةِ. ... {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)}. [118] {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} وهو ما ذُكر في سورةِ الأنعامِ، وهو كل ذي ظُفُرٍ {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالتحريمِ. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالمعاصي. ... {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}. [119] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أي: بسببِها. {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} والإصلاحُ: الاستقامةُ على التوبةِ. {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} أي: بعدَ التوبةِ. {لَغَفُورٌ} لذلك السوءِ {رَحِيمٌ} يُثيب على الإنابةِ. ***

[120]

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}. [120] {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ: (إبراهام) بالألفِ في هذا الحرف والآتي (¬1). {كَانَ} وَحْدَهُ {أُمَّةً} من الأممِ؛ لكمالِه في جميعِ صفاتِ الخير {قَانِتًا} مُطيعًا. {لِلَّهِ حَنِيفًا} مائِلًا عن الباطلِ. {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} كما زعموا؛ فإن قريشًا كانوا يزعمونَ أنهم (¬2) على مِلَّتِهِ. ... {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)} [121] {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} رُوي أنه كانَ لا يأكلُ إلَّا مع ضيفٍ، فجاءه فوجٌ من الملائكةِ في زِيِّ البشر، فقدَّم لهم الطعامَ، فخيلوا إليه أنَّ بهم جُذامًا، فقالَ: الآنَ وجبتْ مؤاكَلَتُكُمْ شكرًا لله على أنْ عافاني وابتلاكم. {اجْتَبَاهُ} اختارَهُ للنبوةِ {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} دينِ الإسلام. ... {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)}. [122] {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} هي التنويهُ بذكرِه حتى ليسَ من أهلِ ¬

_ (¬1) كما تقدم عنه. وانظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 272)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 221 - 222)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 299). (¬2) "أنهم" ساقطة من "ت".

[123]

دينٍ إلا وهم يتولَّوْنَهُ {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أهلِ الجنة. ... {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}. [123] {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمدُ. {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بلْ كان قدوةً للموحِّدين. ... {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}. [124] {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} تقدَّمَ تفسيرُه، وحكمُ طلبِ القاضي لليهوديِّ في يوم السبتِ في سورةِ البقرةِ، ونُبِّهَ عليه في الأعراف؛ أي: جُعِلَ تعظيمُه والتخلِّي فيه للعبادةِ. {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: على نبيِّهم، وهم اليهودُ، أمرهم موسى عليه السلام أن يتفرغوا للعبادةِ يومَ الجمعة، فأبوا وقالوا: نريدُ يومَ السبت؛ لأنه تعالى فرغَ فيه من خلقِ السمواتِ والأرضِ، فألزمَهم اللهُ السبتَ، وشَدَّدَ الأمرَ عليهم، وقيل: معناه: إنما جُعِلَ وبالُ السبتِ، وهو المسخُ، على المختلفين فيه بتحليلِ الصيدِ تارةً، وتحريمه أُخرى، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ في سورةِ البقرةِ. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بالمجازاةِ على الاختلاف بما يستحقُّه كلُّ فريقٍ.

[125]

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}. [125] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} أي: الإسلام. قرأ أبو عمرٍو: (سَبِيل ربِّكَ) بإدغام اللامِ في الراءِ (¬1). {بِالْحِكْمَةِ} بالمقالةِ المحكمةِ {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} التلطُّفِ من غيرِ تعنيفٍ، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولهِمْ" (¬2). {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالرفقِ واللينِ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وهو المجازي لهم، وهذا منسوخٌ بآيةِ السيف. ... {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}. [126] {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} لما مَثَّلَ المشركون بحمزةَ رضي الله عنه يومَ أُحُدٍ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَاللهِ لئن أَظْفَرَنِي اللهُ بِهِمْ لأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ"، فنزلت، وهو إشارةٌ إلى وجوب التقاصُصِ على السَّواءِ. {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} على تركِ القِصاصِ {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} معناهُ: ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 272)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 300). (¬2) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (1611)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وسنده ضعيف جدًّا، كما نقل العجلوني في "كشف الخفاء" (1/ 226) عن السخاوي والسيوطي وغيرهما.

[127]

العفوُ خيرٌ من الانتقام، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ أَصْبِرُ"، وَأَمسكَ عما أرادَ، وكَفَّرَ عن يمينه (¬1). ... {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)}. [127] ثم صَرَّحَ بالأمرِ بالصبرِ، فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} أي: بمعونتِهِ وتثبيتِهِ {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} إنْ لم يؤمنوا. {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} قرأ ابنُ كثيرٍ: (ضِيقٍ) بكسر الضادِ؛ أي: شِدَّة، وقرأ الباقون: بالفتحِ؛ أي: غَمٍّ (¬2). ... {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}. [128] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} المعاصيَ. {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} في العملِ، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 13)، و"شرح معاني الآثار" للطحاوي (3/ 183)، و"المعجم الكبير" للطبراني (2937)، و"المستدرك" للحاكم (4894)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 161) وما بعدها، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 250). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 376)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"تفسير البغوي" (2/ 647)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 300 - 301).

سورة الإسراء

سُوْرَةُ الإسْراءِ مكيةٌ إلا قولَه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى آخرِ ثماني آياتٍ، قدرُ آيها مئةٌ وإحدى عشرةَ آيةً، وحروفُها ستةُ آلافٍ وأربعُ مئةٍ وستونَ حرفًا، وكَلِمُها ألفٌ وخمسُ مئةٍ وثلاثٌ وثلاثونَ كلمةً. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}. [1] {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} (سُبْحَانَ) تنزيهُ اللهِ من كلِّ سوءٍ، ووصفُه بالبراءةِ من كلِّ نقصٍ، وتكونُ (سُبْحَانَ) بمعنى التعجُّبِ، (أَسْرَى)؛ أي: سَيَّرَهُ، و (العبدُ) هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، لم يختلفْ في ذلكَ أحدٌ من الأمة، و (ليلًا) نصبٌ على الظرف. {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} هو المسجدُ المحيطُ بالكعبةِ، وقيلَ: من بيتِ أُمِّ هانِئ من الحرم، قالَ ابنُ عباسٍ: "الحرمُ كلُّهُ مسجِدٌ" (¬1). {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} هو مسجدُ بيتِ المقدسِ، وبينَهما مسيرةُ شهرٍ، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (15/ 2)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 347).

وسُمِّيَ الأقصى، لبعدِ المسافةِ بينَهُ وبينَ المسجدِ الحرامِ، وقيل: كانَ هذا أبعدَ مسجدٍ عن أهلِ (¬1) مكةَ في الأرض يُعَظَّمُ بالزيارةِ، وقيل: لبعدِه عن الأقذارِ والخبائثِ، ورُوي أنه سُمِّيَ الأقصى؛ لأنه وسطُ الدنيا لا يزيدُ شيئًا ولا ينقُصُ. {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} والبركةُ حولَه من جهتين: إحداهُما: بالنبوةِ والشرائعِ والرسلِ الذين كانوا في ذلك القطرِ في نواحيهِ وبواديه، والأخرى: النِّعَمُ من الأشجارِ والمياهِ والأرضِ المفيدةِ التي خَصَّ اللهُ الشامَ بها، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إِنَّ اللهَ بَارَكَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الفُراتِ" (¬2)، وخصَّ فلسطينَ بالتقديسِ، ولو لم يكنْ له من الفضيلةِ غيرُ هذهِ الآيةِ، لكانَتْ كافيةً فيه؛ لأنه إذا بورِكَ حولَهُ، فالبركَةُ فيه مضاعَفَةٌ. {لِنُرِيَهُ} أي: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بعينِه {مِنْ آيَاتِنَا} في السمواتِ والملائكةِ والجنةِ والنارِ، ولقيا الأنبياءِ، وغيرِ ذلكَ مما رآه تلكَ الليلةَ من العجائبِ، وذهابِه ورجوعِه في جزءٍ من ليلةٍ. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لِما تقولون {الْبَصِيرُ} بأفعالِكم، وعيدٌ من اللهِ للكفارِ على تكذيبِهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في أمرِ الإسراءِ. وأما قصةُ الإسراءِ، فملَخَّصُها: أن الله سبحانه وتعالى بعثَ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزلَ عليهِ الوحيَ، وأمرهُ بإظهارِ دينهِ، وأَيَّدَهُ بالمعجزاتِ الظاهرةِ، والآياتِ الباهِرَةِ، أسرى به ليلًا من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى، وهو بيتُ المقدسِ من إيليا، وقد فشا الإسلامُ في قريشٍ وفي ¬

_ (¬1) في "ش": "لأهل". (¬2) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (1/ 141)، (1/ 149 - 150).

القبائلِ كلِّها، وكانَ الإسراءُ ليلةَ سبعَ عشرةَ من ربيعٍ الأولِ قبلَ الهجرةِ بسنةٍ. وقال ابن الجوزيِّ: وقد قيلَ: كانَ في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ من شهرِ رجبٍ. وقيل: في شهرِ رمضانَ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنُ إحدى وخمسينَ سنةً وتسعةِ أشهرٍ وثمانيةٍ وعشرين يومًا. واختلِفَ في الإسراءِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: إنما كانَ جميعُ ذلكَ في المنام، والحقُّ الذي عليه أكثرُ الناسِ ومعظمُ السَّلَفِ، وعامةُ المتأخرين من الفقهاءِ والمحدِّثينَ والمتكلِّمين أنه أُسري بجسدِهِ - صلى الله عليه وسلم - يقظةً؛ لأَن قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] تدلُّ على ذلك، ولو كانت رؤيا نومٍ، ما افتتنَ بها الناسُ حتى ارتدَّ كثيرٌ ممن كانَ أسلمَ، وقالَ الكفارُ: يزعمُ محمدٌ أنه أَتى بيتَ المقدسِ ورجعَ إلى مكةَ في ليلةٍ واحدةٍ، والعيرُ تطردُ إليه شهرًا مدبرةً، وشهرًا مقبلةً، ولو كانت رؤيا نوم، لم يُستبعَدْ ذلك منه. قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "هي رُؤْيا عينٍ رآها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا رُؤْيا مَنامٍ" (¬1)، قالَ الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] أضافَ الأمرَ للبصرِ، وقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]؛ أي: لم يُوهِمِ القلبُ العينَ غيرَ الحقيقة، بل صدق رُؤْيتَها. واختلفَ السلفُ والخلفُ هل رأى نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - ربَّهُ ليلةَ الإسراءِ؟ فأنكرته ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3675)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: المعراج.

عائشةُ رضي الله عنها، ورُوي عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: "رآهُ بعينِهِ" (¬1)، ومثلُه عن أبي ذَرٍّ، وكعبٍ، والحسنِ، وكان يحلفُ على ذلكَ، وحُكِيَ مثله عن ابنِ مسعودٍ، وأبي هريرةَ، والإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ رضي الله عنه، وحَكَى النقاشُ عن الإمامِ أحمدَ أنه قالَ: "أَنا أقولُ بحديثِ ابنِ عباسٍ: "بعينه رآه" رآه، حتى انقطعَ نَفَسُ الإمامِ أحمدَ" (¬2)، وعنِ ابنِ عباسٍ: أنه قال: "إِنَّ اللهَ اختصَّ موسى بالكلامِ، وإبراهيمَ بالخُلَّةِ، ومحمدًا بالرُّؤْية" (¬3)، وحجتُه قولُه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 11 - 13]. واختلفوا في أنَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - هل كَلَّمَ ربَّه عز وجل ليلةَ الإسراءِ؟ فذكِرَ عن جعفرٍ بنِ محمدٍ الصادقِ أنه قال: "أُوحِيَ إِلَيْه بِلا واسِطَةٍ"، وإلى هذا ذهبَ بعضُ المتكلِّمينَ أن محمدًا كلَّمَ ربَّهُ ليلةَ الإسراءِ، وحكوه عن ابنِ عباس، وابنِ مسعود. واختلِفَ في المكانِ الذي أُسري به منه، فروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قالَ: "بَيْنَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعٌ، ومنهم من قال: بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ" (¬4)، وفي رواية أنه قال: "بَيْنَا أَنا نَائِمٌ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ" والذي رجَّحه الطبريُّ أنه من المسجدِ المحيطِ بالكعبةِ، قالَ: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 370). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (15/ 144). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11914)، والحاكم في "المستدرك" (4098)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (61/ 104). (¬4) رواه البخاري (3674)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: المعراج، عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنه-.

وهذا الذي يُعرف إذا ذكرَ هذا الاسمُ (¬1)، وكانت ليلةَ الاثنين "إِذْ هَبَطَ عَلَيَّ الأَمِينُ جِبْرِيلُ عليه السلام" وَذَكَرَ القصةَ. وكان من حديثِ المعراجِ الشريفِ ما رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قال: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتيتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنِبْيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ"، وفي روايةٍ: "فَلَمَّا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، إِذَا أَنَا بِالأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَدْ حُشِرُوا إِلَيَّ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَمَثَلُوا لي (¬2)، وَقَدْ قَعَدُوا صُفُوفًا صُفُوفًا يَنْتَظِرُونِي، فَسَلَّمُوا عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: إِخْوَانُكَ الأَنْبيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، زَعَمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ للهِ شَرِيكًا، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّ للهِ وَلَدًا، اسْأَلْ هَؤُلاَءِ النَّبِيِّينَ هَلْ كَانَ للهِ عز وجل شَرِيكٌ؟ ثُمَّ قَرَأَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، فَلَمْ يشْكُكْ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ، وَكَانَ أَثْبَتَ يَقِينًا مِنْ ذَلِكَ". قالَ أبو القاسمِ الحسنُ بنُ محمدِ بنِ حبيبٍ المفسِّرُ في "كتاب التنزيل" له: أن هذهِ الآيةَ أُنزلت على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ببيتِ المقدسِ ليلةَ أُسريَ به، وقد عدَّها غيرُه من العلماء في الشاميِّ، والذي قالَه أبو القاسم أخصُّ مما ذكروه. وقال جماعةٌ من المفسِّرينَ: فلما أُنزلت، وسمعَها الأنبياءُ عليهم السلام، أقروا لله عز وجل. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (15/ 5). (¬2) في "ت": "إِليَّ".

قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثُمَّ جَمَعَهُمْ جِبْرِيلُ عليه السلام، وَقَدَّمَنِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، قال - صلى الله عليه وسلم -: ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا بِآدَمَ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسىَ ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا صَلَّى اللهُ عَلَيْهمَا، فَرَحَّبَا بِي، وَدَعَوا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فذكرَ مثلَ الأولِ فَفُتِحَ لَنَا، فَإذَا أَنَا بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَذَكَرَ مِثْلَهَا، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ عليه السلام، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فذكرَ مثلَه، فإِذَا أَنَا بِهَارُونَ عليه السلام، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فذكرَ مثلَه، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَذَكَرَ مثلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذُهِبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ، قالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ، تغيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فِي كُلِّ

يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: ما فَرَضَ رَبُّك عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْر، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلاَةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قال: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتَ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ (¬1) وفي رواية: يَا مُوسَى! قد وَاللهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللهِ (¬2)، قال - صلى الله عليه وسلم -: ثُمَّ حَمَلَنِي حَتَّى أَنْزَلَنِي عَلَى جَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا أَنَا بِالْبُرَاقِ وَاقِفٌ عَلَى حَالِهِ فِي مُوْضِعِهِ، فَسَمَّيْتُ اللهَ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ أَشْرَفْتُ عَلَى مَكَّةَ وَمَعِي جِبْرِيلُ، قال - صلى الله عليه وسلم -: لَمَّا كَانَتْ صَبِيحَةُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، أَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ مُتَحَيِّرًا فِي أَمْرِي، وَعَلِمْتُ أَنَّ النَّاسَ يُكَذِّبُوبي، فَعُدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ، فَمَرَّ بِي أَبُو جَهْلٍ عَدُوُّ اللهِ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (162)، كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات وفرض الصلوات، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (7079)، كتاب: التوحيد، باب: قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}.

إِلَيَّ، فَقَالَ لِي كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ، قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟! قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ! يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ! هَلُمُّوا، فَانْتَقَضَتِ الْمَجَالِسُ، وَجَاؤُوا حَتَى جَلَسُوا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: حَدِّثْ قَوْمَكَ يَا مُحَمَّدُ بِمَا حَدَّثْتَنِي، فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟! قَالَ: نَعَمْ، فَبَقِيَ مِنْهُمُ الْمُتَعَجِّبُ، وَمِنْهُمُ الْمُصَفِّقُ، وَمِنْهُمُ الْوَاضِعُ يَدَهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، ثمَّ قَالُوا: هَلْ تستَطِيعُ أَنْ تنعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ قُلْتُ: نعَمْ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْعَتُهُ حَتَّى الْتبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ؛ لِكَوْنِي دَخَلْتُهُ لَيْلًا، فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: وَآيَةُ ذَلِكَ أَنني مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلانٍ بِوَادي كَذَا وَكَذَا، فَأَنْفَرَهُمْ حِسُّ الدَّابّةِ، فَنَدَّ لَهُمْ بَعِيرٌ، فَدَلَلْتُهُمْ عَلَيْهِ وَأَنَا مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ الشَّامِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِضُجْنَانَ مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلانٍ، فَوَجَدْتُ الْقَوْمَ نِيَامًا، وَلَهُمْ إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطَّوْا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَكَشَفْتُ غِطَاءَهُ وَشَرِبْتَ مَا فِيهِ، ثُمَّ غَطَّيْتُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَإِنَّ عِيرَهُمُ الآنَ تُصَوِّبُ مِنَ الْبَيْضَاءِ ثنَيَّةِ التَّنْعِيمِ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ، إِحْدَاهُما سَوْدَاءُ، وَالأُخْرَى بَرْقَاءُ، فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ الثَّنِيَّةَ، فَلَمْ يَلْقَهُمْ أَوَّلًا إِلَّا الْجَمَلُ الَّذِي وَصَفَ لَهُمْ، وَسَأَلُوهُمْ عَنِ الإِنَاءِ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ وَضَعُوهُ مَمْلُوءًا مَاءً، ثُمَّ غَطَّوْهُ، وَأَنَّهُمُ افْتَقَدُوهُ مِنَ الَّليْلِ فَوَجَدُوهُ كَمَا غَطَّوْهُ وَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ مَاءً، وَسَأَلُوا الْقَوْمَ الَّذِينَ نَدَّ لَهُمُ الْبَعِيرُ، فَقَالُوا: صَدَقَ وَاللهِ، لَقَدْ نَدَّ لَنَا بَعِيرٌ بِالْوَادِي الَّذِي ذَكَرَهُ، فَسَمِعْنَا صَوْتَ رَجُلٍ يَدْعُونَا إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ لأَشْبَهُ الأَصْوَاتِ بِصَوتِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَجِئْنَا حَتَّى أَخَذْنَاهُ، وفي

رواية: ومَرَرْتُ بِعِيرِكُمْ بِالتَّنْعِيمَ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَخَرَجُوا إِلَى الثَّنِيَّةِ وَجَلَسُوا يَنْتَظِرُونَ طُلُوعَ الشَّمْسِ لِيُكَذِّبُوهُ إِذْ قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ، قالَ آخرُ: هذهِ العيرُ قدْ أقبلَتْ يقدُمُها بعيرٌ أورقُ كما قالَ، فقالوا: إنْ هَذَا إلَّا سحرٌ مبينٌ (¬1)، فحينئذٍ آمَنَ من آمنَ، وكفرَ مَنْ كفرَ، وذهبَ الناسُ إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه، فقالوا: هلَ لكَ يا أبا بكرٍ في صاحبِكِ أنَّه يزعُمُ أنه قد جاءَ الليلةَ بيتَ المقدسِ، وصلَّى فيهِ ورجعَ إلى مكةَ، فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: "واللهِ لئنْ كان قالَ، لقد صدقَ، فما يُعْجِبُكم من ذلك؟ فو اللهِ إِنَّه لَيُخْبِرُنا عنِ الوحيِ من اللهِ يأتيهِ من السَّماءِ إلى الأرضِ في ساعةٍ واحدةٍ من ليلٍ أو نهارٍ، فنصدِّقُه، فهذا أبعدُ مما تعجبونَ منهُ، ثم أقبلَ حتى انتهى إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: يا نبيَّ الله! أَحَدَّثْتَ هؤلاءِ أنكَ جئتَ بيتَ المقدسِ هذهِ الليلةَ؟ قالَ: نعم، قالَ: صَدَقْتَ، فصفْه لي يا نبيَّ اللهِ؛ فإني جئتُه، قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَرُفِعَ إِلَيَّ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ"، وجعلَ يصفُه لأبي بكرٍ وهو يقولُ: صدقْتَ، أشهدُ أنكَ رسولُ الله، حتى انتهى، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيق" فسمِّي من ذلكَ اليومِ صديقًا، قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، ثم أنزلَ اللهُ سورةَ النجمِ تصديقًا له - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ... ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 309)، والنسائي في "السنن الكبرى" (11285). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 255)، و"تفسير البغوي" (2/ 656 - 657). (¬2) قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 8): بعد أن ذكر السياق الذي نقله المصنف هنا: هذا سياق فيه غرائب عجيبة.

[2]

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)}. [2] {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراةَ {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا} أي: هديناهم لئلَّا {تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} أي: رَبًّا يَكِلونَ إليهِ الأمورَ. قرأ أبو عمرٍو: (يَتَّخِذُوا) بالغيب؛ لأنه خبرٌ عنهم، وقرأ الباقون: بالخطاب، يعني: قلْنا لهم: (لا تتَّخِذُوا) (¬1). ... {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}. [3] {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} منادًى؛ أي: يا ذريةَ قومِ نوحٍ! وهذا مِنَّةٌ على جميعِ الناسِ؛ لأنهم كلَّهم من ذريةِ مَنْ أُنْجِيَ في السفينةِ من الغرقِ، وهو إيماءٌ إلى توبيخِ مَنْ أشركَ بالله؛ لأنهم موجودون من ذريةِ مَنْ أُنجيَ في السفينةِ، المعنى: كانوا مؤمنينَ، فكونوا مثلَهم واسْتَنُّوا بسنَّتِهم، ثم زادَهم توبيخًا بقوله: {إِنَّهُ} أي: نوحًا {كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} كثيرَ الشكرِ، فكونوا مثلَه، وكانَ - صلى الله عليه وسلم - يستعظمُ القليلَ من فضلِ اللهِ عليه، ويستصغرُ كثيرَ خدمتِه له. ... {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 378)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"تفسير البغوي" (2/ 658)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 306).

[4]

[4] {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: أعلَمْناهم {فِي الْكِتَابِ} التوراةِ. {لَتُفْسِدُنَّ} لامُ القسم، مجازُهُ: واللهِ لَتُفْسِدُنَّ {فِي الْأَرْضِ} أي: أرضِ الشامِ وبيتِ المقدسِ {مَرَّتَيْنِ} بالمعاصي. {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} لَتَسْتكبِرُنَّ عن طاعةِ الله. ... {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}. [5] {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} أي: وعدُ عقابِ أولاهما، وهي مخالفةُ التوراةِ، وإحداثُهم المعاصي، وقتلُ أشعياءَ النبيِّ، الذي بَشَّرَ بعيسى ومحمدٍ عليهم الصلاة والسلام. {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} هو بُخْتَ نَصَّر وأصحابهُ على الأظهَرِ {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} ذوي قوة وبطش {فَجَاسُوا} طافوا {خِلَالَ الدِّيَارِ} وسطَ المنازلِ {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} أي: قضاءً كائناَ لا خُلْفَ فيه، وتقدَّمَ خبرُ قصةِ بخت نَصَّرَ وتخريبِه بيتَ المقدس في سورةِ البقرةِ عند تفسيرِ قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]. ... {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}. [6] وقد روي أن سيدنا سليمانَ بنَ داودَ عليهما السلام عمرَ بيتَ المقدسِ من ذهبٍ وفضةٍ وياقوتٍ وزبرجدٍ، وكان عمدُه ذهبًا، أعطاهُ اللهُ ذلكَ، وسخَّرَ له الجنَّ والشياطينَ يأتونَه بهذه الأشياءِ في طَرْفةِ عين، وعملَ

فيه عملًا لا يُوصَفُ، فلم يكنْ يومئذٍ في الأرضِ بيتٌ أبهى ولا أنورَ من ذلكَ المسجدِ، كان يضيءُ في الظلمةِ كالقمرِ ليلةَ البدرِ، وكانتْ صخرةُ بيتِ المقدسِ أيامَ سليمانَ ارتفاعُها اثنا عشرَ ذراعًا، وكان الذراعُ ذراعَ الأمان ذراعٌ وشبرٌ وقَبْضةٌ، وكانَ ارتفاعُ القبةِ التي عليها ثمانيةَ عشرَ ميلًا، وفوقَ القبةِ غزالٌ من ذهبٍ بينَ عينيهِ دُرَّةٌ أو ياقوتةٌ حمراءُ تغزلُ نساءُ أهلِ البلقاءِ على ضوئِها بالليل، وهي من فوقِ مرحلتينِ من القدسِ، وكانَ أهلُ عمواسَ يستظلُّونَ بظلِّ القبةِ إذا طلعتِ الشمسُ من المشرقِ، وعمواسُ بفتح الميم وسكونها، وهي التي سُمِّي بها الطاعونُ على الراجحِ؛ لأنه منها ابتدأ، وكان في سنةِ ثماني عشرةَ من الهجرةِ، وهي بالقربِ من رملةِ فلسطينَ، مسافتُها عن بيتِ المقدسِ نحوُ بريدٍ ونصفٍ، وإذا غربتِ الشمسُ استظلَّ بها أهلُ بيت الرامةِ من الغور، ومسافتُها عن بيتِ المقدسِ أبعدُ من عمواسَ، وبينَ عمارةِ سليمانَ عليه السلام للمسجدِ الأقصى وبينَ الهجرةِ النبويةِ الشريفةِ على صاحبِها الصلاةُ والسلام ألفٌ وثمانُ مئةٍ وقريبُ سنتين، وسيأتي ذكر بنائِه في تفسيرِ سورةِ سبأ عندَ قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ: 13]، واستمرَّ على العمارةِ السليمانيةِ أربعَ مئةٍ وثلاثًا وخمسينَ سنةً إلى أَنْ غزاهم بُخْتَ نَصَّرُ، وخَرَّبَ العمارةَ السليمانيةَ، وأحرقَ بيتَ المقدسِ وخرَّبَهُ، واحتمل منه ثمانين عجلةً ذهبًا وفضةً، وأبادَ بني إسرائيل قتلًا وتشريدًا، واستمرَ بيتُ المقدسِ خرابًا سبعينَ سنةً كما تقدَّمَ ذكرُه في سورة البقرة، ثم أهلكَ الله بُخْتَ نَصَّرَ ببعوضةٍ دخلتْ دماغَهُ، ونَجَّى اللهُ مَنْ بقيَ من بني إسرائيلَ، ولم يمتْ ببابلَ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 659)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 243).

[7]

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} الدولةَ العليَّهَ. {عَلَيْهِمْ} أي: على الذين قتلوكم حينَ تبتُمْ. {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} رُوي أنَّ الله تعالى أوحى إلى أرمياءَ النبيِّ عليه السلام أَنَّ كورشَ يعمرُ بيتَ المقدسِ، وهو ملكٌ من ملوكِ الفرسِ، وكان مؤمنًا، فسار كورشُ ببني إسرائيلَ، وحُلِّي بيتُ المقدسِ حتى ردَّه إليه، وعمر بيت المقدس، وعادَ البلدُ أحسنَ مما كانَ، وأصعدَ إليها من بني إسرائيل أربعينَ ألفًا، وقَرَّبوا القرابينَ على رسومِهم الأولى، ورجعت إليهم دولتُهم، وعظم محلُّهم عندَ الأممِ، واستمرَّ بيتُ المقدسِ عامرًا سبعَ مئةٍ وإحدى وعشرينَ سنةً. {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} عددًا، والنفيرُ: من يَنْفِرُ مع الرجلِ من قومِه. ... {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}. [7] {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} لأن ثوابه لها. {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} فإنَّ وبالَها عليها. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي: عقابُ المرةِ الآخرةِ من إفسادِكم، وذلكَ قصدُهم قتلَ عيسى عليه السلام حينَ رُفِعَ، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِهم مستوفىً في سورةِ آلِ عمرانَ، وقتلهم يحيى عليه السلام، وسببُه أنَّ عيسى عليه السلام كان قد حَرَّمَ نكاحَ بنتِ الأخِ، فكانَ لهرودوس، وهو الحاكمُ على بني

إسرائيلَ بنتُ أخٍ، وأرادَ أن يتزوَّجَها كما هو جائزٌ في ملةِ اليهودِ، فنهاه يحيى عن ذلكَ، فطلبتْ أمُّ البنتِ من هرودوسَ أن يقتلَ يحيى، فلم يُجِبْها إلى ذلك، فعاوَدَتْه، وسألته البنتُ أيضًا، وَأَلَحَّتْ عليه، فأجابهما إلى ذلك، وأمر بيحيى فَذُبح ووُضِع رأسُه بينَ يدي هرودوسَ، فكانَ الرأسُ يتكلَّمُ ويقولُ: لا تَحِلُّ لكَ، واستمرَّ غَلَيانُ دمِه، فأمر بترابٍ فألقي عليهِ حتى بلغَ سورَ المدينة، فما زادَ إلا انبعاثًا، فبعث اللهُ عليهم مَلِكًا من جهة المشرق من ملوكِ بابل يقال له: حُرْدوسُ، فقتلَ منهم على دمِ يحيى سبعينَ ألفًا إلى أن سكنَ دمُه، وزعم قومٌ أن بخت نصر هو الذي غزاهم وقتلَهم على دمِ يحيى، وليسَ بصحيح؛ لأن بُخْتَ نَصَّرَ خَرَّبَ بيتَ المقدسِ قبلَ ولادةِ يحيى بنحو خمسِ مئةِ سنةٍ، ثم غزاهم طيطوسُ الروميُّ، وكان محلُّ ملكِه مدينةَ روما من بلادِ الفرنجِ، فقصدَ بيتَ المقدسِ، وأَوقعَ باليهودِ وقتلَهم وأسرَهم على آخرِهم إلَّا من اختفى، ونهبَ القدسَ وَخَرَّبه، وخَرَّبَ البيتَ المقدَّسَ، وأحرقَ الهيكلَ، وخلا القدسُ من بني إسرائيلَ كأَنْ لم تَغْنَ بالأمسِ، وكانتْ أعظمَ الوقعتينِ، فلم يعدْ لهم بعدَ ذلك رئاسةٌ ولا حكمٌ، وكانَ ذلكَ بعدَ رفعِ المسيحِ بنحوِ أربعينَ سنةً، وبينَ هذا التخريبِ والهجرةِ الشريفةِ خمسُ مئةٍ وثمانٌ وخمسونَ سنةً بالتقريبِ، فذلكَ قولُه تعالى: {لِيَسُوءُوا} أي: بعثناهم ليسوؤوا {وُجُوهَكُمْ} يُخْزوها، ويُدْخِلوا عليها الغمَّ والحزنَ، والضميرُ لأولي البأسِ الشديدِ. قرأ الكسائيُّ: (لنَسُوءَ) بالنونِ ونصبِ الهمزةِ على التعظيم إخبارًا من الله عن نفسه، وقرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (لِيَسُوءَ) بالياءِ ونصبِ الهمزةِ؛

[8]

أي: ليسوءَ اللهُ وجوهكم، وقرأ الباقون: بالياءِ وضمِّ الهمزةِ وبعدَها واوُ الجمعِ على المعنى الأول (¬1). {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} أي: بيتَ المقدسِ. {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} من المرتينِ. {وَلِيُتَبِّرُوا} يُهْلِكوا {مَا عَلَوْا} غَلَبوا عليه {تَتْبِيرًا} مصدرٌ. ... {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}. [8] {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} بعدَ انتقامِه منكُم إن تبتُمْ، فيردَّ الدولةَ إليكم، فتابوا، فرحمهم {وَإِنْ عُدْتُمْ} إلى المعصيةِ {عُدْنَا} إلى العقوبةِ، فعادوا بتكذيبِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فعاد الله بتسليطِه عليهم، فقتلَ قريظةَ وأجلى بني النضيرِ، وضربَ الجزيةَ على الباقينَ، فهم يُعطونها عن يَدٍ وهم صاغِرونَ. {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} سِجْنًا؛ من الحَصْرِ، لا يقدرون على الخروج منها، واستمرَّ بيتُ المقدسِ ومسجدُه خرابًا إلى أنْ تراجعَ البلدُ إلى العمارةِ قليلًا قليلًا، وترمَّمَ شعثُه، وملكَهُ الرومُ واستوطنوه، واستمرَّ المسجدُ الأقصى خرابًا يُلْقى فيه القماماتُ، وبقيَ الحالُ على ذلك حتى جاءَ الإسلامُ، وقدمَ أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه، وفتحَ القدسَ، وعمرَ المسجدَ الأقصى زادَ اللهُ شرفهَ في سنةِ خمسَ عشرةَ من ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 378)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"تفسير البغوي" (2/ 671)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 206)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 308).

[9]

الهجرةِ الشريفةِ، وقيل: في سنةِ ستَّ عشرةَ في ربيعٍ الأولِ، وقيل: لخمسٍ خَلَوْنَ من ذي القعدة، والله أعلم. ... {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}. [9] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي} أي: للطريقة التي {هِيَ أَقْوَمُ} أَصْوَبُ، وهي الإيمانُ {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (وَيَبْشُرُ) بفتحِ الياءِ وتخفيفِ الشينِ وضمِّها، من البشرِ، وهو البُشرى والبشارةُ، وقرأ الباقون: بضم الياءِ وتشديد الشينِ مكسورةً من بَشَّرَ المضعَّفِ على التكثير (¬1). ... {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)}. [10] {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهو النارُ، عطفٌ على (وَيُبَشِّرُ)؛ أي: يبشرُ المؤمنين بِشارتين: بثوابِهم في الآخرةِ، وبعقابِ أعدِائهم. ... {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)}. [11] {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} عندَ غضبِهِ {بِالشَّرِّ} على نفسِه {دُعَاءَهُ} أي: ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 87)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 239)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 310).

[12]

كما يدعو اللهَ {بِالْخَيْرِ} ولو استجابَ اللهُ دعاءَهُ على نفسِه، لهلكَ، ولكنَّ اللهَ لا يستجيبُ له بفضلِه. {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} ضجرًا لا صبرَ له على السَّراءِ والضَّراءِ. وحُذفت الواوُ من (يَدْعُ) في اللفظِ والخطِّ، ولم تحذفْ في المعنى؛ لأنها في موضعِ رفعٍ، فكان حذفُها باستقبالِها اللامَ الساكنة؛ كقوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146]. ... {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)}. [12] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} علامتينِ يُستدَلُّ باختلافِهما على الوحدانيةِ والقدرةِ {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} طَمَسْنا ضوءَهُ. {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي: بَيِّنَةً يُبْصَرُ بها الأشياءُ. {لِتَبْتَغُوا} لِتَطْلُبوا {فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في النهارِ أسبابَ معاشِكم. {وَلِتَعْلَمُوا} بها {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي: لو تركَ اللهُ الشمسَ والقمرَ كما خَلَقَهما، لم يُعْرَفِ الليلُ من النهار، ولم يُعْلَمْ وقتُ فطرِ الصائمِ، ولا وقتُ الحجِّ ونحوِهما {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} بيناه بيانًا ظاهرًا. ***

[13]

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)}. [13] {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} عملَه {فِي عُنُقِهِ} لا يفارقُه، وخُصَّ العنقُ بالذكرِ؛ لأنَّ الإلزامَ فيها أشدُّ. {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} هي صحيفةُ عملِه {يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} مبينًا مشروحًا. قرأ أبو جعفرٍ: (وَيُخْرَجُ) بالياءِ وضمِّها وفتح الراء، مجهولٌ، وعنهُ وجهٌ بكسرِ الراء؛ أي: الفاعلُ اللهُ تعالى، وقرأ يعقوبُ: بالياءِ وفتحِها وضمِّ الراء؛ أي: ويخرجُ له الطائر يوم القيامة كتابًا، وقرأ الباقون: بالنونِ وضمِّها وكسرِ الراء (¬1)؛ أي: يقول الله: ونحنُ نخرجُ له يومَ القيامةِ كتابًا، واتفقوا على نصبِ (كتابًا)، ووجهُ نصبِه على قراعة أبي جعفرٍ أنْ يكونَ حالًا؛ أي: ويخرج الطائرُ كتابًا، وكذا وجهُ النصبِ على قراءة يعقوبَ أيضًا، فتتفقُ القراءتانِ في التوجيهِ على الصحيحِ الفصيحِ الذي لا يختلَفُ فيه، وقرأ أبو جعفرٍ وابنُ عامر: (يُلَقَّاهُ) بضمِّ الياءِ وفتحِ اللامِ وتشديدِ القاف، يعني: يُلَقَّى الإنسانُ ذلكَ الكتابَ؛ أي: يُؤْتاه، وقرأ الباقون: بفتح الياءِ وإسكانِ اللامِ وتخفيفِ القاف (¬2)؛ أي: يراه منشورًا، وأمالَهُ ابنُ ذكوانَ راوي ابنِ عامرٍ بخلافٍ عنه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 672)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 306)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 282)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 311). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 378)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"تفسير البغوي" (2/ 673)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 306)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 312).

[14]

{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}. [14] {اقْرَأْ} أي: يقال له: اقرأ {كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي: محاسبًا، ونصبهُ على التمييز، وفَوَّضَ تعالى حسابَ العبدِ إليه لئلَّا يُنْسَبَ إلى الظلمِ، ولتجبَ الحجةُ عليهِ باعترافِه. {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}. [15] {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي: من اجتهدَ حتى يهتديَ، فلها ثوابُه. {وَمَنْ ضَلَّ} أي: تغافلَ حتى ضلَّ. {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لأنَّ عليها عقابَه. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} ولا تحملُ نفسٌ آثمةٌ {وِزْرَ} إثمَ نفس {أُخْرَى} لأن كُلًّا مطالَبٌ بعملِه، وأصلُ الوزرِ: الثقلُ، رُوي أنَّ سببَها أنَّ الوليدَ بنَ المغيرةِ المخزوميَّ قالَ لأهلِ مكَّةَ: اكفُروا بمحمدٍ، وإثْمُكُمْ عليَّ، فنزلَتْ هذهِ الآية (¬1)؛ أي: إن الوليدَ لا يحملُ آثامَكم، وإنما إثمُ كُلِّ واحدٍ عليهِ. {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ينذرُ ويبينُ الشرائعَ، فلا حكمَ قبلَ الشرع، بل الأمرُ موقوفٌ إلى ورودِهِ بالاتفاقِ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "روح المعاني" للألوسي (15/ 35).

[16]

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}. [16] {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} مُنَعَّمِيها. قراءة العامة: (أَمَرْنَا) بالقصر؛ أي: أمرناهم بالطاعةِ، وقرأ يعقوبُ: (آمَرْنَا) بالمدِّ؛ أي: كَثَّرْنا، وَ (أَمَّرْنا) بالتشديدِ سَلَّطْنا، والتلاوةُ بالأولِ والثاني (¬1). {فَفَسَقُوا فِيهَا} فخرجوا عن الطاعةِ {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وجبَ عليها الوعيدُ. {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} أهلكناها وما فيها هلاكَ استئصالٍ. ... {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}. [17] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} المكذِّبَةِ {مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} كعادٍ وثمودَ مثالٌ لقريشٍ ووعيدٌ؛ أي: لستُمْ ببعيدٍ مما حصلوا فيه من العذابِ إذْ أنتم كَذَّبْتُم نبيَّكم، والقرنُ مئةُ سنةٍ على الأصحِّ، يعضُدُه الحديثُ في قولِه عليه السلام: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي" (¬2)، وروى محمدُ بنُ القاسمِ في ختنِهِ عبدِ اللهِ بنِ بِشْرٍ قال: وضعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على رأسِهِ وقالَ: "سَيَعِيشُ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 673)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 306). (¬2) رواه البخاري (2509)، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (2533)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

[18]

هَذَا الْغُلاَم قَرْنًا" قلتُ: كم القرنُ؟ قالَ: "مئةُ سنةٍ"، قالَ محمدُ بنُ القاسمِ: فما زِلْنا نَعُدُّ له حتى أكملَ مئةَ سنة، وماتَ رحمه الله (¬1). {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} فيعاقِبُ عليها، والباءُ في (بِرَبِّكَ) زائدةٌ، والتقديرُ: وكفى ربُّك، هذه الباءُ إنما تجيءُ في الأغلبِ في مدحٍ أو ذمٍّ، فكأنها تُعطي معنى: اكْتَفِ بِرَبِّكَ؛ أي: ما أكفاه في هذا! ... {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}. [18] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} يعني: الدنيا، مقصورًا عليها هَمُّهُ، وجوابُ (مَنْ كَانَ) {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} من البسطِ والتقتيرِ وغيرِهما، لا ما يشاء هو. {لِمَنْ نُرِيدُ} أن نفعلَ له ذلكَ، أو إهلاكُه قَيَّدَ المعجَّلَ، والمعجَّلَ له بالمشيئةِ والإرادةِ؛ لأنه لا يجدُ كُلُّ مُتَمَنٍّ ما يتمناه، ولا كلُّ واحدِ جميعَ ما يهواه. {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا} يدخُلُها. {مَذْمُومًا مَدْحُورًا} مطرودًا من رحمةِ اللهِ. ... ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (15/ 58)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2695).

[19]

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}. [19] {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} إرادةَ يقينٍ بها، وإيمانٍ باللهِ وبرسالاته. {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} وهي ملازمةُ أعمالِ الخيرِ وأقواله على حكمِ الشرعِ. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} مقبولًا، ولا يشكرُ اللهُ عملًا ولا سعيًا إلا أثابَ عليهِ، وغفرَ بسببِهِ. ... {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}. [20] {كُلًّا} نصبٌ بقولهِ: {نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ} أي: نُمِدُّ كلَّ واحدٍ من الخلائقِ الطائعَ والعاصي {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} رزقِهِ. {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} ممنوعًا في الدنيا عن مؤمنٍ وكافرٍ تفضُّلًا. ... {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}. [21] {انْظُرْ} يا محمدُ {كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في الرزقِ والعملِ، يعني: طالبَ العاجلةِ وطالبَ الآخرةِ. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ،

[22]

وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ عن ابنِ عامرٍ: (مَحْظُورًا انْظُرْ) بضمِّ التنوينِ، والباقون: بكسره (¬1). {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} للمؤمنينَ. {وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} لأَن التفاوتَ فيها بالجنةِ ودرجاتِها، والنارِ ودَرَكاتِها. ... {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}. [22] {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ} فتصيرَ. {مَذْمُومًا} من غيرِ حمدٍ. {مَخْذُولًا} ذليلًا بلا ناصرٍ، الخطابُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ غيرُه. ... {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}. [23] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} مقتصرينَ على عبادتِه تعالى. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} بِرًّا بهما، وعَطْفًا عليهما. {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (يَبْلُغَانِ) بألفٍ مطولةٍ بعدَ الغينِ وكسرِ النونِ على التثنية، وقرأ الباقونَ: بغير ألفٍ، وفتحِ النون على ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 273)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 225)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 314).

التوحيدِ، واتفقوا على تشديدِ النونِ في الحالتين (¬1). {عِنْدَكَ} إشارةً إلى كفالتِهِ {الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} المعنى: إذا أسنَّ والداك، أو أحدُهما، واحتاجا، أو أحدُهما في حالِ كبرِهما إلى أن تتولَّىَ منهما ما كانا يتولَّيانِهِ منكَ في حالِ الطفولةِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (كِلاَهُمَا) بالإمالةِ (¬2). {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} لفظٌ يقال لما يضجَرُ منه، وهي كلمةُ كراهيةٍ، وهذه اللفظةُ مثالٌ لجميعِ ما يمكنُ أن يقابَلَ به الآباءُ مما يكرهون، فلم تُرَدْ هذه في نفسِها، وإنما هي مثالٌ لأعظمَ منها. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (أُفَّ) بفتح الفاءِ من غير تنوينٍ، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: بكسر الفاءِ مع التنوينِ، وقرأ الباقون: بكسرِ الفاءِ من غيرِ تنوينٍ، والقراءاتُ الثلاثُ لغاتٌ معناها واحدٌ (¬3). {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} تَزْجُرْهما، والانتهارُ: إظهارُ الغضبِ في الصوتِ واللفظِ. {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} لينًا جيدَ المعنى. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 379)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"تفسير البغوي" (2/ 675)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 306)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 315). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 273)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 50)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 316). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 379)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"تفسير البغوي" (2/ 676)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 306 - 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 316 - 317).

[24]

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}. [24] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} تَدلَّلْ لهما وتواضَعْ. {مِنَ الرَّحْمَةِ} من أجلِ رحمتِكَ لهما. {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} وهذا كلُّه في الأبوينِ المؤمنينِ، وقد نهى القرآنُ عن الاستغفارِ للمشركينَ الأمواتِ، ولو كانوا أُولي قربى، قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُهُ في سَخَطِ الوالدِ" (¬1)، وقال: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلاَ عَاقٌّ وَلا مُدْمِنُ خَمْرٍ" (¬2). ... {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}. [25] {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} من برِّ الوالدينِ وعقوقِهما. {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} أبرارًا مطيعينَ بعدَ تقصيرِكم في حقِّ الوالدينِ وغيرِه. {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ} الراجعينَ بالتوبةِ {غَفُورًا} ما فرط منكُمْ. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1899)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء من الفضل في رضا الوالدين، والبخاري في "الأدب المفرد" (2)، وابن حبان في "صحيحه" (429)، وغيرهم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. (¬2) رواه النسائي (5672)، كتاب: الأشربة، باب: الرواية في المدمنين في الخمر، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 201)، وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

[26]

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)}. [26] {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} والمرادُ: صلةُ الرحمِ، خوطبَ بذلكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ: الأمة {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} من الزكاةِ المفروضةِ. {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} التبذيرُ: الإتلافُ وإنفاقُ المالِ في فسادٍ. ... {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)}. [27] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} أي: أمثالَهم؛ لأنهم أَطاعوهم. {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} مبالِغًا في الكفرِ. ... {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)}. [28] {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} عن ذَوي القربى والمذكورينَ قبلُ حياءً من الرَّدِّ. {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} انتظارَ رزقٍ من اللهِ ترجوهُ أن يأتيَكَ. {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} طَيِّبًا؛ أي: عِدْهُم جميلًا، وقلْ: يرزقُنا اللهُ وإياكم. ***

[29]

{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)}. [29] ونزل لما أعطى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قميصَه، ولم يبقَ له ثوبٌ يخرجُ بهِ إلى الصلاةِ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (¬1) كنايةٌ عن نهايةِ الإمساكِ. {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} كنايةٌ عن نهايةِ البَذْلِ. {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} تُلامَ على إتلافِ مالِكَ. {مَحْسُورًا} منقَطِعًا عن النفقةِ والتصرُّفِ. ... {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)}. [30] {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ} يوسِّعُ {الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يُضَيِّقُ. {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} فيعلَمُ من مصالِحهم ما يَخْفى عليهم. ... {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)}. [31] {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} مخافةَ فقرٍ. {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} وذلكَ أنَّ الجاهليةَ كانوا يَئِدُونَ بناتِهم خشيةَ ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 164).

[32]

الفاقة، فَنُهوا عن ذلكَ، وأخبرَهم أن رزقَهم ورزقَ أولادِهم على اللهِ. {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إثمًا عظيمًا. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (خَطَأً) بفتحِ الخاءِ والطاءِ مقصورًا، وقرأ ابنُ كثيرٍ: بكسرِ الخاءِ وفتحِ الطاءِ ممدودًا، وقرأ الباقون: بكسر الخاء وجزم الطاءِ، والقراءاتُ الثلاثُ معناها واحدٌ (¬1). ... {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)}. [32] {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} نهيٌ عن مقدِّماتِه؛ كالنظرةِ والغمزةِ، فَضْلًا عن مباشرتِه، وإذا نُهي عن مقدماتِه، فالنهيُ عنه أَوْلى، ولو أرادَ النهيَ عن نفسِ الزنى لقالَ: ولا تزنوا. {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} فعلةً ظاهرةَ القبحِ. {وَسَاءَ سَبِيلًا} بئسَ طريقًا طريقُه. ... {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)}. [33] {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} قولُه (وَلاَ تَقْتُلُوا) وما قبلَه من الأفعال جزمٌ بالنهيِ، والألفُ واللامُ التي في النفس هي ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 379)، و"التيسير" للداني (ص: 139 - 140)، و"تفسير البغوي" (2/ 680)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 318 - 319).

للجنس، والحقُّ الذي يُقْتَلُ بهِ النفسُ هو ما فَسَّرَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "لاَ يَحِلُّ دَمُ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثِ خِصالٍ: كُفْر بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ" (¬1)، وهي الحرابةُ، ومن ذلكَ الزندقةُ، ومسألةُ تركِ الصلاةِ؛ لأنها في معنى الكفرِ بعدَ الإيمانِ، ومنهُ قتلُ أبي بكرٍ مَنَعَةَ الزكاةِ، وقتلُ من امتنعَ في المدنِ من فروضِ الكفاياتِ. {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} نصبٌ على الحالِ، ومعناه: بغيرِ هذهِ الوجوهِ المذكورةِ. {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} أي: لقرابتِهِ الذي يَلي دمَهُ {سُلْطَانًا} تسلُّطًا على القاتلِ، إنْ شاءَ قتلَ، وإن شاءَ عفا، وإن شاءَ أخذَ الديةَ. {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تُسْرِفْ) بالخطاب لوليِّ القتيلِ، وقرأ الباقونَ: بالغيب (¬2)؛ أي: لا يُسْرِفِ الوليُّ في القتلِ، والإسرافُ: أَنْ يقتلَ غيرَ القاتلِ، أو يقتلَ اثنينِ أو أكثرَ بالواحدِ. {إِنَّهُ} أي: الوليُّ {كَانَ مَنْصُورًا} بنصرةِ الشرعِ والسلطانِ، وقيل: الضميرُ عائدٌ على المقتولِ، ونصرُهُ قتلُ قاتلِهِ، وحصولُ الأجير له، واختارَ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4502)، كتاب: الديات، باب: الإمام يأمر بالعفو في الدم، والترمذي (2158)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وابن ماجه (2533)، كتاب: الحدود، باب: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 380)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (2/ 680)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 320)، وثمة رواية عن ابن عامر أنه قرأ "تسرف" بالتاء.

[34]

ابنُ عطيةَ أن هذا أرجحُ الأقوال؛ لأنه المظلومُ، ولفظةُ النصرِ تقابِلُ أبدًا الظلمَ (¬1). ... {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)}. [34] {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بالفعلَةِ التي هي أسرعُ إلى إصلاحِ حالِه ومالِه. {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} منتهى بلوغِه، وتقدَّمَ الكلامُ على الرشدِ، وأحكامِ البلوغِ، واختلافُ الأئمةِ فيه مستوفىً في سورةِ النساء عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6]. {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} إذا عاهدْتُم لكلِّ أحدٍ {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} عنهُ. ... {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)}. [35] {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} ولا تَبْخَسوا فيه. {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} بالميزانِ السَّوِيِّ، وهو رومِيٌّ عُرِّبَ، ولا يقدحُ ذلكَ في عربيةِ القرآنِ؛ لأنَّ العجميَّ إذا استعملَتْه العربُ وأَجرته مُجرى كلامِهم في الإعرابِ والتعريفِ والتنكيرِ ونحوها، صار عربيًّا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (بالْقِسْطَاسِ) بكسرِ ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 453).

[36]

القافِ، والباقون: بضمِّها وهما لغتان (¬1). {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} عاقبةً وما يؤول إليه الأمرُ. ... {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [36] {وَلَا تَقْفُ} لا تتْبَعْ ولا تَقُلْ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} والقفوُ: اتِّباعُ الأثرِ، وأصلُه من القَفَا؛ أي: لا تقلْ سمعتُ ولم تسمعْ، ورأيتُ ولم ترَ، وعلمتُ ولم تعلمْ. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} قرأ ورشٌ عن نافعٍ: (وَالْفُوَادَ) بفتحِ الواوِ بغيرِ همزٍ، والضمير في (عنه) يعودُ على ما ليسَ للإنسانِ به علمٌ، ويكون المعنى: إن اللهَ تعالى يسأَلُ سمعَ الإنسانِ وبصرَهُ وفؤادَهُ عَمَّا قالَ مما لا علمَ له به، فيقعُ تكذيبُه من جوارحِهِ، وتلكَ غايةُ الخِزْيِ، ويحتملُ أن يعودَ الضميرُ في (عنه) على (كُلُّ) التي هي السمعُ والبصرُ والفؤادُ، والمعنى: إنَّ اللهَ يسألُ الإنسانَ عَمَّا حواهُ سمعهُ وبصرُه وفؤادُه، فكأنه قالَ: كلُّ هذهِ كانَ الإنسانُ عنهُ مسؤولًا؛ أي: عما حصلَ لهؤلاءِ من الإدراكاتِ، ووقعَ منها من الخطإِ، فالتقديرُ: عن أعمالِها مسؤولًا، فهو على حذفِ مضافٍ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 380)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، و"تفسير البغوي" (2/ 681)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 321).

[37]

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}. [37] {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} خيلاءَ {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} لنْ تقطعَها بكبرِكَ حتى تبلغَ آخِرَها {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} أي: لن تقدرَ أن تُجاوزَها أو تسُاويَها بكبرِكَ، وهو تهكُّمٌ بالمختالِ، وملخَّصُه: أنتَ عاجزٌ فلا تتكبَّرْ. ... {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}. [38] {كُلُّ ذَلِكَ} المذكورِ من المناهي {كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ: (سَيِّئُهُ) بضمِّ الهمزةِ والهاءِ وإلحاقِها واوًا في اللفظِ على الإضافة والتذكيرِ، ومعناه: كلُّ الذي ذكرناه من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (كانَ سيئه)؛ أي: سَيِّئ ما عَدَّدْنا عليكَ عندَ رَبِّكَ مَكْروهًا؛ لأن فيما عدَّ أمورًا حسنةً؛ كقولِه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} وغير ذلك، وقرأ الباقون: بفتحِ الهمزةِ ونصبِ تاء التأنيثِ معَ التنوين على التوحيدِ (¬1)، ومعناه: كلُّ الذي ذَكَرْنا من قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} إلى هذا الموضعِ سيئةً، لا حسنةً، والكلُّ يرجعُ إلى المنهيِّ عنه دونَ غيرِه، ولم يقل: مكروهةً؛ لأن فيه تقديمًا وتأخيرًا، تقديرُه: كل ذلكَ كانَ مكروهًا، سيئةً، وقوله: مكروهًا على التكريرِ لا على الصفةِ، مجازُهُ كلّ ذلكَ كانَ سيئةً، وكانَ مكروهًا، أو رجعَ إلى المعنى دونَ اللفظ؛ لأن السيئةَ الذنبُ، وهو مذكَّرٌ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 380)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، و"تفسير البغوي" (2/ 683)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 322).

[39]

{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}. [39] {ذَلِكَ} المذكورُ من الأحكامِ المتقدمةِ {مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} وهو الموحى؛ لأنه في غايةِ الإحكام، ثم خوطبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ غيرُه بقوله: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا} تلومُ نفسَكَ {مَدْحُورًا} مُبْعَدًا عن الخيرِ. ... {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}. [40] {أَفَأَصْفَاكُمْ} أَخَصَّكُم أيها المشركونَ {رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} لأنهم كانوا يقولون: الملائكةُ بناتُ اللهِ، والهمزةُ في (أَفَأَصْفَاكُمْ) للإنكارِ. {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} بإضافتِكم الأولادَ إليه، وبتفضيلِ أنفسِكم عليه. ... {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)}. [41] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} نَوَّعْنَا القولَ {فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (لِيَذْكُرُوا) بسكونِ الذالِ وضمِّ الكافِ مخفَّفًا؛ من الذكرِ بعدَ النسيان، وقرأ الباقونَ: بفتحِ الذالِ والكافِ مع تشديدِهما (¬1)، من التذكُّرِ: التدبُّرِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 381)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، =

[42]

{وَمَا يَزِيدُهُمْ} تصريفُنا {إِلَّا نُفُورًا} عن الحقِّ. ... {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)}. [42] {قُلْ} قلُ يا محمدُ لهؤلاءِ المشركين: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يَقُولُونَ) بالغيبِ على أنَّ الخطابَ معَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬1)؛ أي: كما تقولونَ أَيُّها المشركونَ. {إِذًا لَابْتَغَوْا} أي: طلبوا، يعني: الآلهةُ. {إِلَى ذِي الْعَرْشِ} أي: صاحبِ العرشِ. {سَبِيلًا} طريقًا ليغالبوهُ ويقهروهُ؛ كفعلِ ملوكِ الدنيا بعضِهم ببعضٍ. قرأ أبو عمرٍو: (ذِي الْعَرْش سبِيلًا) بإدغامِ الشينِ في السينِ (¬2). ... {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)}. [43] {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: ¬

_ = و"تفسير البغوي" (2/ 684)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 324). (¬1) المصادر السابقة. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 273)، وذكر أنه لم يقع في القرآن إدغام شين في سين إلا في هذا؛ من أجل زيادة الشين بالتفشّي، وينظر: "معجم القراءات القرآنية" (3/ 324).

[44]

(تقولُونَ) بالخطابِ، والباقون: بالغيبِ (¬1) {عُلُوًّا} تَعالِيًا. {كَبِيرًا} متباعِدًا عما يقولونَ. ... {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}. [44] {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أي: تنزِّهُهُ السمواتُ والأرضُ ومَنْ فيهنَّ من الملائكةِ والإنسِ والجنِّ عن هذهِ المقالةِ التي لكم، والاشتراك الذي أنتم بسبيلهِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ بخلافٍ عنه: (يُسَبِّحُ) بالياءِ على التذكيرِ؛ لقيامِ (لهُ) مقامَ تاءِ التأنيثِ؛ ولأن تأنيثَ (السمواتِ) غيرُ حقيقيٍّ، وقرأ الباقون: بالتاء مؤنثًا على اللفظ، والقراءتان حسنتان (¬2). {وَإِنْ} أي: وما {مِنْ شَيْءٍ} من حيٍّ وجمادٍ حتى صريرُ البابِ {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي: ينزِّهُ اللهَ ويحمَدُهُ ويمجِّدُه {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ} تفهمونَ {تَسْبِيحَهُمْ} لأنه ليسَ بلغتِكم. {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} فلذلكَ أمهلَكُم {غَفُورًا} لمن تابَ منكم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 381)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، و"تفسير البغوي" (2/ 684)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 317)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 324 - 325). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 381)، و"تفسير البغوي" (2/ 684)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 325).

[45]

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)}. [45] وكان المشركونَ يؤذون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مصلِّيًّا، وجاءتْ أُمُّ لهبٍ بحجرٍ لترضَخَ به رأسَه، فلم تَرَهُ، فنزل: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا} (¬1) على قلوبهم عن الفهم {مَسْتُورًا} ساتِرًا. ... {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)}. [46] {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطيةً؛ كراهةَ. {أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} صَمَمًا يمنعُهم عن استماعِه. {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} غيرَ مشفوعٍ به آلهتُهم {وَلَّوْا} رجعوا. {عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} جمعُ نافرٍ؛ أي: نافرينَ. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ من روايةِ الدوريِّ: (أَدْبَارَهُمْ) بالإمالةِ، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ، ورُوِيَ عن ورشٍ، وحمزةَ بينَ اللفظينِ، وقرأ الباقونَ: بإخلاصِ الفتحِ (¬2). ... {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)}. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 164). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 273)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 284)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 325).

[47]

[47] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} بسببِه ولأجله؛ من الهزءِ بكَ وبالقرآنِ. {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} وأنتَ تقرأُ القرآنَ {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} جمعُ نَجِيٍّ، وهم القومُ يتناجَوْن يتحدَّثون. {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} المشركونَ، وهم الوليدُ بنُ المغيرةِ وأصحابهُ. {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} شَبَّهوا الخيالَ الذي عندَه بزعمِهم، وأقوالَه الوخيمةَ برأيهم بما يكونُ من المسحورِ الذي قد خبَّلَ السحرُ عقلَه، وأفسدَ كلامَه. ... {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)}. [48] {انْظُرْ} يا محمدُ {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} مَثَّلوكَ بالشاعرِ والساحرِ والكاهنِ والمجنونِ. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في ضَمِّ التنوينِ وكسرِه عندَ قوله: (مَحْظُورًا انْظُرْ)، وكذلك اختلافُهم في قوله: (مَسْحُورًا انْظُرْ). {فَضَلُّوا} في جميعِ ما نَسبوه إليكَ. {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} لا يجدونَ {سَبِيلًا} إلى الهدى، أو إلى إفسادِ أمرِك وإطفاءِ نورِ اللهِ فيكَ بضربِهم الأمثالَ لكَ، واتِّباعِهم كلَّ حيلةٍ في جهتِك. ... {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)}. [49] {وَقَالُوا} تعجُّبًا وإنكارًا للبعثِ، واستبعادًا له: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا} وهو ما مرَّ عليهِ الزمنُ حتى إنه بلغَ به غايةَ البِلى وَقرَّبه من عالم الترابِ.

[50]

{لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} تلخيصُه: قالوا: حياتنُا بعدَ الموتِ محالٌ. واختلافُ القراء في (أَإِذا) (أَإِنا) كاختلافِهم فيهما في سورة الرعدِ. ... {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)}. [50] {قُلْ} يا محمدُ جوابًا لهم تعجيزًا وتوبيخًا {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا}. ... {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)}. [51] {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي: يعظُم في نفوسِكم؛ كالسمواتِ والأرضِ مما لم يقبلِ الحياةَ إن استطعتم هذه الأشياءَ، ثمَّ انظروا بأدلَّةِ العقلِ هل نحن قادرونَ على جعلِ الروحِ فيه؛ لأنا أوجدناكم، ثم أحييناكم، فلا يمتنعُ علينا إيجادُنا الروحَ. {فَسَيَقُولُونَ} استبعادًا {مَنْ يُعِيدُنَا} بعدَ الموتَ؟ {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ} أنشأَكُم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} فإنَّ القادَر على الإنشاءِ قادرٌ على الإعادةِ {فَسَيُنْغِضُونَ} أي: يحرِّكونَ. {إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ} استهزاءً بك. {مَتَى هُوَ} أي: الإعادةُ والبعثُ.

[52]

{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} أي: هو قريبٌ، لأنَّ (عَسَى) من اللهِ واجبٌ، نظيرُه {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17]. ... {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}. [52] {يَوْمَ} تقديرُه: يعيدُكم يومَ {يَدْعُوكُمْ} من قبورِكم بالنفخِة الآخرةِ {فَتَسْتَجِيبُونَ} فَتُجيبون {بِحَمْدِهِ} بأمرِه، وقيلَ: تُبعثونَ من قبورِكم طائعينَ حامِدين. {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ} في الدنيا، وفي القبورِ {إِلَّا قَلِيلًا} لأن الإنسانَ لو مكثَ ألوفًا من السنينَ في الدنيا وفي القبر، عُدَّ ذلكَ قليلًا في مدةِ القيامةِ والخلودِ. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (لَبِثْتُمْ) و (لَبِثْت) بإظهارِ الثاءِ عندَ التاءِ حيثُ وقعَ، والباقون: بالإدغامِ (¬1)، وروي عن أبي جعفرٍ: (فَسَيُنْغِضُونَ) بإخفاءِ النونِ عندَ الغينِ، ورُوي عنهُ الإظهارُ، وهو أشهرُ، وتقدَّمَ ذكرُ مذهبه في ذلك مستوفىً في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: (إِن يَكُنْ غَنِيًّا). ... {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)}. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 274)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 284)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 326).

[53]

[53] وكانَ المشركونَ يؤذونَ المسلمينَ، فشكَوْا إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزلَ اللهُ تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي} (¬1) المؤمنينَ {يَقُولُوا} للكافرينَ الكلمةَ {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهو ألَّا يكافئوهم على أذاهُم، ويقولوا لهم: يَهديكم اللهُ، وسببُ الآيةِ أَنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه شَتَمَهُ بعضُ الكفرةِ، فشتمَهُ عمرُ، وهَمَّ بقتلِه، فكادَ أن يثيرَ فتنةً، فنزلتِ الآيةُ (¬2)، وهذا نُسخ بآيةِ السيفِ. {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ} يفسِدُ ويهيجُ {بَيْنَهُمْ} المراءَ والشرَّ. {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} ظاهرَ العداوة. ... {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)}. [54] {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} خطابٌ لكفارِ مكةَ {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} يوفِّقْكُم فتؤمنوا {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} يُمِتْكُم على الشركِ فَتُعَذَّبوا. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} حَفِيظًا وكَفِيلًا، قيل: نُسِخَتْ بآيةِ القتالِ. ... {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)}. [55] {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: هو عالمٌ بهم وبأحوالِهم. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 164). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

[56]

{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ففضلَ إبراهيمَ بالخلَّةِ، وموسى بالتكليمِ، ومحمدًا بالمعراجِ. {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} تفضيلًا لهُ، كانَ زبورُ داود مئةً وخمسينَ سورةً ليسَ فيها حلالٌ ولا حرامٌ، بل تمجيدٌ وتحميدٌ، ودعاءٌ، صلواتُ اللهِ تعالى وسلامُه عليهم أجمعينَ، وهذا خطابٌ مع الذينَ يعترِفون بتفضيلِ الأنبياءِ، المعنى: إذا اعترفْتُم بتفضيلهِم، فلِمَ تنكرونَ فضلَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهو واحدٌ منهم. قرأ حمزةُ، وخلفٌ: (زُبُورًا) بضمِّ الزاي، والباقون: بفتحها (¬1). {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)}. [56] ونزلَ فيمن عبدَ غيرَ اللهِ تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أَنَّهم أولياؤكم. {مِنْ دُونِهِ} أي: دونِ اللهِ؛ ليكشفوا عنكم البلاءَ والضرَّ، وذلكَ أن المشركينَ أصابَهم قحطٌ شديدٌ، حتى أكلوا الكلابَ والجِيَفَ، فاستغاثوا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليدعوَ لهم، فنزلت. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (قُلِ ادْعُوا) بكسرِ اللامِ في الوصلِ، والباقون: بالضمِّ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 382)، و"التيسير" للداني (ص: 98)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 253)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 327). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 274)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 327)، ورويت عن الكسائي بضم اللام.

[57]

{فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ} القحطِ والجوعِ {عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} لكم من العسرِ إلى اليسرِ. ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}. [57] {أُولَئِكَ} أي: الأنبياءُ المذكورونَ في أولِ الآيةِ في قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}. {الَّذِينَ يَدْعُونَ} يتضرَّعونَ {يَبْتَغُونَ} يطلبونَ {إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} القربةَ إليه {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} إلى رحمةِ اللهِ تعالى، يبتغي الوسيلةَ إليهِ بصالحِ الأعمال. {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وأكبرُهم عيسى وأمُّه، وعزيرٌ، والملائكةُ، والشمسُ، والقمرُ والنجومُ، وما عُبِدَ من دونِ اللهِ، وهو مطيعٌ لله، وقيلَ غيرُ ذلكَ. {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} لا أمانَ لأحدٍ منه، بل يحذَرُه كلُّ مَلَكٍ مقرَّبٍ، ونبيٍّ مرسَلٍ لشدتِه. ... {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}. [58] رُوي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ يومًا على أصحابِه، فقال: "هَلْ

[59]

تَدْرُونَ مَا يُخَرِّبُ الْقُرَى؟ "، قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: "أَعْمَالُ السُّوءِ فَاجْتَنِبُوهَا"، وتلا: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بالموتِ والاستِئْصالِ. {أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} بالقتلِ وأنواعِ العقابِ إنْ لم يؤمنوا. {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ} في اللوحِ المحفوظِ {مَسْطُورًا} مكتوبًا. ... {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)}. [59] {وَمَا مَنَعَنَا} أي: وما صرَفَنا. {أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} التي اقترحَتْها قريشٌ. {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الذين أمثالُهم في الطبع؛ كعادٍ وثمودَ؛ لأنَّ سنةَ اللهِ فيمَنْ تقدَّمَ أنه كانَ إذا أُتِيَ بآيةٍ فلم يؤمنْ أن يهلِكَهُ، وكان تعالى قد حكمَ بإمهالِهم لإتمامِ أمرِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]. {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} بَيِّنَةً واضحةً {فَظَلَمُوا بِهَا} أي: جَحَدوا بها أنها من عندِ اللهِ، فعاجلناهم بالعقوبةِ. {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ} المعجزاتِ {إِلَّا تَخْوِيفًا} للعبادِ؛ ليؤمنوا. ***

[60]

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)}. [60] {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} أي: واذكرْ وقتَ إيحائِنا إليك. {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} علمَ بمكرِهِمْ بكَ، فهو حافِظُكَ منهم، فأَمْضِ أمَركَ، ولا تَخَفْ أحدًا. {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} ليلةَ الإسراءِ {إِلَّا فِتْنَةً} أي: اختبارًا {لِلنَّاسِ}، وتقدَّمَ الكلامُ على ذلكَ في أولِ السورةِ عندَ ذكرِ قصةِ المعراجِ. قرأ الكسائيُّ، وخَلَفٌ: (الرُّؤْيَا) بالإمالِة في الوقف فقطْ (¬1). {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} أي: الملعونَ آكلُها، وهي المذكورةُ. {فِي الْقُرْآنِ} وهي الزقُّوم، وقولُه: (وَالشَّجَرَةَ) عطفٌ على قولِه: (الرُّؤْيا)؛ أي: جعلْنا الرؤيا والشجرةَ فتنةً، فكانتِ الفتنةُ في الرؤيا ما تقدَّمَ في قصةِ المعراجِ من ارتدادِ كثيرٍ ممَّنْ أسلمَ، والفتنةُ في الشجرةِ الملعونةِ أنه لما نزلَ أمرُها في سورةِ الصافات، قالَ أبو جهلٍ وغيرُه: هذا محمدٌ يتوعَّدُكم بنارٍ تحرقُ الحجارةَ، ثم يزعُمُ أنها تنُبت الشجرَ، وقد علمتُم أن النارَ تحرقُ الشجرَ، وما نعرفُ الزقُّوم إلا التمرَ بالزُّبْدِ، ثم أمرَ أبو جهلٍ جاريةً له فأحضرَتْ تمرًا وزُبْدًا، وقال لأصحابه: تَزَقَّموا، فافتتن أيضًا بهذهِ المقالةِ بعضُ الضُّعفاءِ، فأخبرَ اللهُ نبيَّه أنما جعلَ الإسراءَ وذكرَ شجرةِ الزقومِ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 274)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 284)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 328).

[61]

فتنةً واختبارًا؛ ليكفرَ مَنْ سبقَ عليهِ الكفرُ، ويصدِّقَ مَنْ سبقَ عليه الإيمانُ (¬1)، كما رُويَ عن أبي بكرٍ رضي الله عنه ما سبقَ ذكرُه في قصةِ المعراجِ، قالَ الكواشيُّ رحمه الله: لو نظرَ، يعني: أبا جهلٍ، النظرَ الصحيحَ، لما استبعدَ ذلك؛ لأنه يمكنُ وجودُ جسمٍ لطيفٍ في النارِ لا يحترقُ كالسَّمَنْدَرِ وَبْرُ دُوَيْبَةٍ تكونُ ببلادِ التركِ لا تؤثرُ فيهِ النارُ، وتُتَّخَذُ منهُ مناديلُ، فإذا اتَّسَخَت المنديلُ، أُلقيتْ في النارِ، فيذهبُ الوسخُ ويبقى المِنْديل، وأعجبُ من ذلكَ أكلُ النَّعامِ النارَ والحديدَ المحمَّى، انتهى. {وَنُخَوِّفُهُمْ} بأنواعِ التخويفِ {فَمَا يَزِيدُهُمْ} تخويفُنا. {إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} تمرُّدًا وعُتُوًّا عَظيمًا. ... {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}. [61] {وَإِذْ قُلْنَا} أي: واذكرْ إِذْ قُلْنا {لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} أي: خلقتَهُ من طينٍ، وثُصِبَ بنزعِ الخافضِ، وقاسَ إبليسُ في هذهِ النازلةِ فأَخطأَ، وذلك أنه لما رأى الفضيلةَ لنفسِه من حيثُ رأى أن النارَ أفضلُ من الطين، وجهلَ أنَّ الفضائل في الأشياءِ إنما تكونُ حيثُ خَصَّها الله تعالى، ولا يُنْظَرُ إلى أُصولها. واختلافُ القراءِ في: (أَأَسْجُدُ) كاختلافِهم في {أَأَنْذَرْتَهُمْ} في سورةِ البقرةِ [الآية: 6]، وتقدَّمَ مذهبُ أبي جعفرٍ في ضمِّ التاءِ من قوله (لِلْمَلاَئِكَةُ اسْجُدُوا) في سورةِ البقرةِ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 165).

[62]

{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)}. [62] ولما أُمِرَ الخبيثُ بالسجودِ لآدمَ {قَالَ أَرَأَيْتَكَ} أَخْبِرْني عن. {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ} أي: فَضَّلْتَ، لِمَ فَضَّلْتَهُ {عَلَيَّ} وأنا خيرٌ منه، وتمَّ سؤالُ الخبيثِ، ثم ابتدأ آتيًا باللامِ الموطِّئَةِ للقسَمِ المحذوفِ فقال: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أثبتَ أبو عمرٍو، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ: الياءَ في (أَخَّرْتَنِي) وَصْلًا، وأثبتَها يعقوبُ وَصْلًا ووَقْفًا، وحذفها الباقونَ في الحالين (¬1). {لأَحْتَنِكَنَّ} لأستأصِلَنَّ {ذُرِّيَّتَهُ} بالإغواءِ {إِلَّا قَلِيلًا} منهم، وهم المستثنَوْنَ بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. ... {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)}. [63] {قَالَ} اللهُ تهديدًا له، وتحذيرًا منه؛ لئلَّا يُطاعَ: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من الإنسِ. {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} على صنيعِكم {جَزَاءً مَوْفُورًا} موفرًا مُكَمَّلًا. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلادٌ، وحمزهُ: (اذْهَب فمَنْ) بإدغامِ الباءِ في الفاء، والباقون: بالإظهار (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 382)، و"التيسير" للداني (ص: 141)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 309)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 329). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 274)، و"النشر في القراءات العشر" لابن =

[64]

{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)}. [64] {وَاسْتَفْزِزْ} اسْتَخِفَّ واسْتَزِلَّ {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} يعني: من ذريةِ آدمَ {بِصَوْتِكَ} أي: بالوسوسةِ. {وَأَجْلِبْ} اجمعْ {عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} جمع راجل، المعنى: اجهدْ جهدَكَ، واجمعْ عليهم مكرَكَ وحيلَك ما أمكَنكَ، فلن أعجزَ عن منعِك ومنعِهم إذا شئتُ، قال أهلُ التفسير: كلُّ راكبٍ وماشٍ في معاصي الله فهو من جُنْدِ إبليسَ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (وَرَجِلِكَ) بكسر الجيم، والباقون: بإسكانِها، وهما لغتان (¬1). {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} المحرَّمَةِ؛ كالربا والغُصوب {وَالْأَوْلَادِ} من الزنى، وما كانوا يَئدِونَهُ من البناتِ، ويُهَوِّدونه ويُمَجِّسونه ويُنَصِّرونه من أولادِهم. {وَعِدْهُمْ} بما لا يتمُّ لهم، وبأنهم غَيْرُ مبعوثينَ، فهذهِ مشاركَةٌ في النفوسِ. {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} باطِلًا؛ لأنه لا يُغْني عنهم شيئًا. ... ¬

_ = الجزري (2/ 8 - 9)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 330). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 383)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، و"تفسير البغوي" (2/ 693)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 330).

[65]

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)}. [65] {إِنَّ عِبَادِي} يعني: المخلَصينَ {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ} أي: على إغوائِهم {سُلْطَانٌ} قدرةٌ {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} حافِظًا لمن اعتمدَ عليه. **** {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)}. [66] {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} يسوقُ. {لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} لتطلبوا من رزقِه. {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} حيثُ هَيَّأَ لكم ما تحتاجونَ إليه، وسَهَّلَ عليكم ما يَعْسُرُ من أسبابِه. ... {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)}. [67] {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} خوفَ الغرقِ. {ضَلَّ} ذهبَ عن أوهامِكم. {مَنْ تَدْعُونَ} من الآلهةِ {إِلَّا إِيَّاهُ} فلا تدعونَ في ذلكَ الوقتِ سواهُ. {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} من الغرقِ {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} عن الإيمانِ. {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} للنعمِ، والإنسانُ هنا للجنسِ، وكلُّ واحدٍ لا يكادُ يؤدِّي شكرَ اللهِ كما يجبُ. ***

[68]

{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)}. [68] {أَفَأَمِنْتُمْ} الهمزةُ للإنكار، والفاءُ للعطفِ على محذوفٍ؛ أي: نجوتُم من البحرِ، فَأَمِنتُمْ {أَنْ يَخْسِفَ} نُغَوِّرَ. {بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} ناحِيَتَهُ عن الأرضِ؛ كقارونَ. {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} ريحًا عاصِفًا ترمي بالحصباءِ، وهي الأحجارُ الصغارُ. {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا} مَنْ يَتَوَكَّلُ بصرفِ ذلكَ عنكم. ... {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)}. [69] {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ} أي: في البحرِ {تَارَةً} مرةً. {أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} ريحًا شديدةً تقصفُ الشجرَ. {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي: تابِعًا مطالِبًا بالثأر. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (أَنْ نَخْسِفَ) (أَوْ نُرْسِلَ) (أَنْ نُعِيدَكُمْ) (فَنُرْسِلَ عَلَيْكُمْ) (فَنُغْرِقَكُمْ) بالنونِ في الخمسة؛ لقوله: (عَلَيْنَا)، وقرأ الباقون: بالياءِ، سوى أبي جعفرٍ ورويسٍ في قوله: (فَنُغْرِقَكُمْ) لقوله: (إِلَّا إِيَّاهُ)، وقرأ أبو جعفرٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (فَتُغَرِقَكُم) بالتاء على التأنيث، يعني: الريحَ، ورُويَ عن أبي جعفرٍ وجهُ ثانٍ: (فتُغَرِّقَكُمْ) بفتحِ

[70]

الغينِ وتشديدِ الراء (¬1)، وقرأ أبو جعفرٍ: (الرِّيَاحَ) على الجمعِ، والباقون: على التوحيد (¬2). ... {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}. [70] {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} جعلْنا لهم شَرَفًا وفَضْلًا، وهذا هو كرمُ نفيِ النقصانِ، لا كرمُ المالِ، قالَ ابنُ عباسٍ: "هو أنَّهم يأكلونَ بالأيدي، وغيرُ الآدميِّ يأكلُ بفيهِ منَ الأرضِ" (¬3). {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} على الدوابِّ {وَالْبَحْرِ} على السُّفُنِ. {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} لذيذِ المطاعمِ والمشاربِ. {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} وظاهرُ الآيةِ أن فضلَهم على كثيرٍ ممن خلقه، لا على الكُلِّ، وقال قومٌ: فُضِّلوا على جميعِ الخلقِ إلَّا على الملائكةِ، وقيلَ: إلَّا على جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ وملكِ الموتِ وأشباهِهم، وفي تفضيلِ الملائكةِ على البشرِ اختلافٌ، والتفضيلُ حقيقةً لا يعلمُه إلا الله ومن شاءَ من خلقِه، وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولِه ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 383)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، و"تفسير البغوي" (2/ 695)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 308)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 330 - 332). (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (10/ 293)، و"البحر المحيط" لأبي حيَّان (6/ 61)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 332). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (ص: 696).

[71]

تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] أنَّ مذهبَ أهلِ السُّنةِ أنَّ الأنبياءَ أفضلُ من الملائكةِ، وإنْ كانوا رُسُلًا. ... {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)}. [71] {يَوْمَ} أي: واذكرْ يومَ. {نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي: بمنِ ائْتَمُّوا به من نبيٍّ وغيرِه. {فَمَنْ أُوتِيَ} من المدعُوِّينَ {كِتَابَهُ} أي: كتابَ عملِه. {بِيَمِينِهِ} وهمُ السعداءُ. {فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} أي: ما فيه من الحسناتِ، ولم يذكرِ الأشقياءَ، وإنْ كانوا يقرؤون كتبَهم أيضًا، لأنهم إذا قرؤوا ما فيها، لم يُفْصِحوا به؛ خوفًا وحياءً، بخلافِ السعداءِ، فإنهم يقرؤون كتبَهم ظاهرًا مشهورًا ويُقْرِئُونها غيرَهم سُرورًا {وَلَا يُظْلَمُونَ} أي: جميعُ المدعوِّينَ {فَتِيلًا} وهو ما في شقِّ النواةِ طولًا، وتقدَّم في سورةِ النساءِ. ... {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}. [72] {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ} الدنيا {أَعْمَى} عن الهدايةِ {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} عن إثباتِ الحجَّةِ {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أَخْطَأُ طريقًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وورشٌ عن نافعٍ: (أَعْمَى) بالإمالةِ في الحرفينِ؛ لأن أَلفَها طرفٌ؛ لأنها بمعنى عامٍ، وهو من عَمَى

[73]

القلبِ، وافقَهم أبو عمرٍو ويعقوبُ في إمالةِ الأولِ، وفتحا الثانيَ، جَعلاهُ من أفعلِ التفضيل؛ لأن أفعلَ التفضيلِ يتصل بـ (من)، فصارتْ ألفُه وَسَطًا كألفِ (أَعْمَالكم)، فلم يمل، وقرأ الباقون: بفتحِهما على الأصلِ (¬1). ... {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)}. [73] ولما طلب المشركونَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلَ آيةَ رحمةٍ مكانَ آيةِ عذابٍ، وبالعكسِ، وأن يستلمَ آلهتَهم، وأن يطردَ الضعفاءَ والمساكينَ عنه، وأطمعوه في إسلامِهم، قالوا: فمالَ إلى بعضِ ذلكَ بخطراتِ القلبِ مما لا يمكن دفعُه، ولم يكنْ عَزْمًا؛ كَهَمِّ يوسفَ، والقولُ فيهما واحدٌ، وقد عفا الله عن حديثِ النفسِ، فنزل: {وَإِنْ كَادُوا} (¬2) المعنى: إن الشأنَ قاربوا. {لَيَفْتِنُونَكَ} لَيَصْرِفونَكَ بخدْعِهم. {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من القرآنِ {لِتَفْتَرِيَ} لتتقَوَّلَ {عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا} لو فعلْتَ ما طلبوا منكَ {لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} صديقًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 383)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، و"تفسير البغوي" (2/ 698)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 54)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 333). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 165).

[74]

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)}. [74] {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} على الحقِّ بعصمتِنا إياكَ. {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} المعنى: لَقاربتَ أن تسكُنَ إلى قولهم. {شَيْئًا قَلِيلًا} دليلٌ على أنه - صلى الله عليه وسلم - عُصِمَ ولم يَرْكَنْ إليهم في شيءٍ ما، فبعدَ أن عصمَه خاطبَه تحذيرًا لغيره، وتقديره: ولو رَكَنْتَ. ... {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}. [75] {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} أي: عذابِ الدنيا. {وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} في الآخرةِ؛ أي: لعذبناك عذابًا مضاعَفًا في الدارينِ. {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} مانِعًا يمنعُ عنكَ عذابَنا. ... {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)}. [76] {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} لينتزعونَكَ بسرعةٍ. {مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} من أرضِ المدينةِ، قالتْ له اليهودُ: ما المدينةُ بأرضِ الأنبياءِ، إنما أرضُهم الشامُ، وهي الأرضُ المقدسةُ، ولكنك تخافُ الرومَ، فإن كنتَ نبيًّا، فاخرجْ إليها؛ فإن اللهَ سيحميكَ كما حَمَى غيرَكَ من الأنبياءِ، فنزلتِ الآيةُ.

[77]

{وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ} (¬1) ولو خَرَجْتَ، لا يَبْقَوْنَ بعدَ خروجِك. {إِلَّا قَلِيلًا} أي: بعدَ إِخراجك كُنَّا نُهْلِكُهم. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (خَلْفَكَ) بفتحِ الخاءِ وإسكانِ اللامِ من غيرِ ألفٍ، وقرأ الباقون: (خِلاَفَكَ) بكسرِ الخاءِ وفتحِ اللام وألفٍ بعدَها، ومعناهما واحدٌ (¬2). ... {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}. [77] {سُنَّةَ} نصبٌ مصدرٌ {مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} أي: هذه سنتُنا أنَّ الأممَ إذا أَخْرجوا نبيَّهم، أو قتلوهُ، أُهْلِكوا. {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا} لعادتِنا {تَحْوِيلًا} تغييرًا. ... {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)}. [78] {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ميلِها من الزوالِ إلى الغروبِ، فيتناولُ صلاةَ الظهرِ والعصرِ {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ظلامِه، يتناولُ المغربَ والعشاءَ. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 166). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 383)، و"التيسير" للداني (ص: 141)، و"تفسير البغوي" (2/ 701)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 334)، وفيها أن قراءة ابن عامر: "خلافك".

[79]

{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} صلاةَ الصبحِ، سُمِّيت قرآنًا؛ لأن القرآنَ هو عُظْمُها؛ إذْ قراءتُها طويلةٌ مجهورٌ بها {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} تشهدُه ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ إذا صعِدَ هؤلاءِ ونزلَ هؤلاءِ. ... {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}. [79] {وَمِنَ اللَّيْلِ} أي: وعليكَ صلاةُ بعضِ الليلِ. {فَتَهَجَّدْ بِهِ} أي: بالقرآنِ، والتهجُّدُ لا يكونُ إلا بعدَ النومِ. {نَافِلَةً لَكَ} زيادةً على الفرائضِ، وكانتْ صلاةُ الليلِ فَرْضًا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعلى أُمَّتِه، فَنُسخَ في حقِّ أمتِهِ بالصلواتِ الخمسِ، وبقيَ الوجوبُ في حقِّهِ، وذهبَ قومٌ إلى أنَّ الوجوبَ نُسِخَ في حقِّه كأمتِهِ. {عَسَى} من اللهِ واجبٌ، لأنه لا يدعُ أن يعطيَ عبادَه أو يفعلَ بهم ما أَطمَعَهم فيه. {أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} يومَ القيامةِ فيقيمَك. {مَقَامًا مَحْمُودًا} هو مقامُ الشفاعةِ، يَغْبِطُهُ به الأولونَ والآخِرون؛ لأنَّ كلَّ مَنْ قُصِدَ من الأنبياءِ للشفاعةِ يحيدُ عنها، ويُحيلُ على غيرِه حتى يأتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - للشفاعة، فيقول: "أَنَا لَهَا" (¬1)، ثم يشفعُ، فَيُشَفَّعُ فيمن كانَ من أهلِها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7072)، كتاب: التوحيد، باب: كلام الرب -عز وجل- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ومسلم (193)، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[80]

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)}. [80] {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} المدينةَ {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} مكةَ، المعنى: حيثُما أدخلْتَني وأخرجْتَني فليكنْ بالصدقِ مِنِّي، ولا تجعلْني ذا الوجهينِ؛ فإن ذا الوجهينِ لا يجوزُ أن يكونَ أمينًا، نزلتْ حينَ أُمِرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالهجرةِ (¬1). {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} حجةً تنصرُني على المخالِف. ... {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}. [81] {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} الإسلامُ {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} بطلَ الكفُر. {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} هالِكًا عند مجيءِ الإسلام. ... {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}. [82] {وَنُنَزِّلُ} قرأ أبو عمروٍ، ويعقوبُ: بإسكانِ النونِ الثانيةِ، وتخفيفِ الزايِ، والباقون: بفتحِ النونِ وتشديدِ الزاي (¬2). {مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} للقلوبِ من الضلالة، و (مِنْ) يصحُّ أن تكونَ ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 166). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 308)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 286)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 335).

[83]

لابتداءِ الغايةِ، ويصحُّ أن تكونَ لبيانِ الجنسِ؛ كأَنه قال: ونُنْزِلُ ما فيه شفاءٌ من القرآنِ، قال ابنُ عطية: وأنكرَ بعضُ المتأوِّلينَ أن تكونَ (من) للتبعيضِ؛ لأنه تحفَّظَ من أن يلزمَه أن بعضَهُ لا شفاءَ فيه، وليس يلزمُه هذا، بل يصحُّ أن تكونَ للتبعيضِ بحسبِ أنَّ إنزالَه إنما هو مبعَّضٌ؛ كأنه قالَ: (وننزلُ من القرآنِ) شيئًا شيئًا (ما) فيهِ كلِّه (شفاءٌ)، واستعارةُ الشفاءِ للقرآنِ هو بحسبِ إزالتهِ للريبِ، وكشفِهِ غطاءَ القلبِ لفهمِ المعجزاتِ والأمورِ الدالةِ على الله تعالى المقررة لشرعه، انتهى (¬1). {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} لأنه سببُ الرحمة. {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} نَقْصًا؛ لأنهم يُنكرونَ القرآنَ فيخسرونَ. ... {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)}. [83] ونزلَ فيمنْ كان يدعو ويلجأُ إلى اللهِ في البلاءِ، ويتركُ ذلكَ في الرخاء: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ} بِسَعَةِ الرزقِ وكشفِ البلاءِ {أَعْرَضَ} وَلَّى عن التضرُّعِ. {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} بَعُدَ بناحيتِهِ، كأنه مستغنٍ مستبدٌّ بأمرِه. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (وَنَاءَ) بهمزةٍ بعدَ الألفِ، مثل فاعَ وجاءَ من النَّوْءِ، وهو النهوضُ والقيامُ، والباقون: يجعلونَ الهمزةَ قبلَ الألفِ (¬2)، ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 480). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 384)، و"التيسير" للداني (ص: 141)، و"تفسير البغوي" (2/ 710)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[84]

وأمالَ الكسائيُّ وخلفٌ لنفسِه، وعن حمزةَ فتحة النونِ والهمزةِ، وأمال أبو بكرٍ عن عاصمٍ، والسوسيُّ عن أبي عمرٍو بخلافٍ عنه، وخلادٌ عن حمزةَ فتحَ الهمزةِ فقط، وفتحوا النونَ، وقرأ الباقون: بفتحِ النونِ والهمزةِ على وزنِ نَعَى (¬1). {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} الشدةُ والبلاءُ {كَانَ يَئُوسًا} شديدَ القنوطِ من رحمةِ اللهِ تعالى. ... {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)}. [84] {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} طريقتِهِ. {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} أوضحُ طريقًا. ... {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}. [85] روى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: أنه كانَ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فمرَّ على حرثٍ بالمدينةِ، وإذا فيه جماعةٌ من اليهودِ، فقالَ بعضُهم لبعضٍ: سلوهُ عن الرُّوحِ، فإن أجابَ فيه، عرفتم أنه ليسَ بنبيٍّ، وذلكَ أنه كانَ عندَهم في التوراةِ أنَّ الروحَ مما انفردَ اللهُ تعالى بعلِمه، ولا يُطْلع عليه أَحَدًا من عبادِه، قال ابنُ مسعودٍ: وقالَ بعضُهم: لا تسألوه؛ لئلَّا يأتيَ فيه بشيء تكرهونه، ¬

_ = (2/ 308)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 335 - 336). (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 286)، والمصادر السابقة.

قال: فسألوهُ، فوقفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئًا على عسيبٍ، فظننتُ أنه يُوحَى إليه، ثم تلا عليهم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} (¬1). قال الجمهور: وقعَ السؤالُ عن الأرواحِ التي في الأشخاصِ الحيوانيةِ ما هي؟ فالروحُ اسمُ جنسٍ على هذا، وهو الشكلُ الذي لا تفسيرَ له، وفسرَها جمهورُ المتكلمين بجسمٍ لطيفٍ مشتبكٍ بالبدنِ اشتباكَ الماءِ بالعودِ الأخضرِ، وقال كثيرٌ منهم: إنها عَرَضٌ، وهي الحياةُ التي صارَ البدنُ بوجودها حَيًّا، قالَ السَّهْرَوَرْدِيُّ: ويدلُّ للأول وصفُها في الأخبارِ بالهبوطِ والعُروج والتردُّدِ في البرزخ، وقيل: هو جبريلُ، أو ملكٌ أعظمُ منهُ ومن جميعِ الملائكة، وقيل: عيسى عليه السلام، وقيلَ: القرآنُ، قالَ ابنُ عطيةَ: والأولُ أظهرهُا وأصوبُها (¬2)، قال الكواشيُّ: واختلفوا فيه، وفي ماهيته، ولم يأتِ أحدٌ منهم على دعواهُ بدليلٍ قطعيٍّ، غيرَ أنه شيءٌ بمفارقتهِ يموتُ الإنسانُ، وبملازمته له يبقى. ثم أومأ تعالى إلى تعذُّرِ معرفتهِ حقيقةً بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من علمِه {وَمَا أُوتِيتُمْ} أيُّها المؤمنونَ والكافرونَ. {مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} في جنبِ علمِ اللهِ تعالى، فالخطابُ في هذا لجميعِ العالَم، وهو الصحيحُ. وحُكِيَ أن عظيمَ الرومِ كتبَ إلى أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه يسألهُ عن الروحِ، فكتب لهُ الإمامُ عمرُ الآيةَ الشريفة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4444)، كتاب: التفسير، باب: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}، ومسلم (2794)، كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: سؤال اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 482).

[86]

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} إلى آخرِها، فأرسلَ عظيمُ الرومِ إليه أنَّ هذا الجوابَ لا يَكْفيني، وإنما أريدُ جوابًا أفهمُه، فقال الإمام عمرُ: "لا أعرفُ غيرَ ذلك"، وكان ذلكَ بحضورِ الإمامِ عليِّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، فاستأذنَ الإمامُ عمرُ في ردِّ جوابِ عظيمِ الرومِ، فأذِنَ له، فكتب: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الروحُ لطيفةٌ ربانيةٌ، نزلَتْ من الخزائنِ الرحمانية، أُودِعَتْ في الهياكلِ الجثمانيةِ، ضَمِنَ لها رزقَها، وجعلهَا عندَكَ رَهْنًا، فإذا وفي بما ضمِنَ، أَخذَ ما رَهَنَ"، انتهى. ... {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)}. [86] {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من القرآنِ كما منعْنا علمَ الروحِ عنكَ وعن غيرِكَ، اللامُ في (لَنَذْهَبَنَّ) جوابُ قسمٍ محذوفٍ مع نيابتِه عن جزاءِ الشرطِ، تقديرُه: واللهِ إنْ شِئْنا ذَهَبْنا بالقرآنِ، ومَحَوْناهُ من الصدورِ والمصاحِف. {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} أي: من يتوكَلُ بردِّ القرآن إليك. ... {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)}. [87] {إِلَّا رَحْمَةً} استثناء منقطع، أي: لكن لا نشاء ذلك. {مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} كإنزالِه عليكَ، وإبقائِه في حفظِك.

[88]

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}. [88] {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} متظاهرين. {عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} في البلاغةِ والإعجازِ. {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} لا يقدِرون على ذلكَ. {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} مُعينًا، نزلتْ حينَ قالَ الكفار: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31]، فكذَّبَهم الله عز وجل (¬1)؛ لأنه في أعلى طبقاتِ البلاغةِ، لا يشبهُ كلامَ الخلقِ؛ لأنه غيرُ مخلوقٍ، ولو كانَ مخلوقًا، لأَتَوا بمثلِه. ... {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)}. [89] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بَيَّنَّا {لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} من كلِّ معنى هو كالمثلِ في غرابتِه ووقوعِه مَوْقِعًا في الأنفس. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ: (ولَقَد صَّرَّفْنَا) وشبهه بإدغامِ الدالِ في الصادِ، والباقون: بالإظهار (¬2). {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} جُحودًا للحقِّ. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 714). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 276)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 286)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 337).

[90]

{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)}. [90] {وَقَالُوا} أي: المشركون تَعَنُّتًا واقتراحًا بعدَما ألزمَهم الحجةَ ببيانِ إعجازِ القرآنِ، وانضمامِ غيره من المعجزاتِ إليه. {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} يا محمدُ {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} عينًا ينبعُ منها الماءُ. قرأ أبو عمرٍو: (نُؤْمِن لَّكَ) بإدغامِ النونِ في اللام (¬1)، وقرأ الكوفيون، ويعقوبُ: (تفجُرَ) بفتحِ التاءِ وإسكانِ الفاءِ وضمِّ الجيمِ وتخفيفِها؛ لأنَّ الينبوعَ واحدٌ، وقرأ الباقونَ: بضمِّ التاءِ وفتحِ الفاءِ وكسرِ الجيمِ وتشديدِها؛ من التفجير، واتفقوا على تشديدِ قوله: (فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ) لأنها جمع، والتشديدُ يدلُّ على التكثيرِ، ولقوله: (تَفْجِيرًا) (¬2). ... {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)}. [91] {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} بستانٌ {مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا} وَسْطَها {تَفْجِيرًا} تشقيقًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 337). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 384)، و"التيسير" للداني (ص: 141)، و"تفسير البغوي" (2/ 714)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 308)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 337).

[92]

{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)}. [92] {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} قرأ نافع، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (كِسَفًا) بفتحِ السينِ جمعُ كِسْفِة؛ أي: قطعة، وقرأ الباقون: بالإسكانِ على التوحيد، جمعُه أكسافٌ وكسوفٌ (¬1). {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} ضَمينًا لصحةِ قولكَ. {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)}. [93] {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} ذهبٍ {أَوْ تَرْقَى} تصعَدَ. {فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} لصعودِك. {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} فيهِ تصديقُك. {قُلْ} قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: (قَالَ) بالألف إخبارًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكذا هو في مصاحفِ أهلِ مكةَ والشامِ، وقرأ الباقون: (قُلْ) بغيرِ ألفٍ على الأمرِ، وكذا هو في مصاحِفِهم؛ أي: قلْ يا محمدُ (¬2): {سُبْحَانَ رَبِّي} تنزيهًا للهِ من أن يتحكَّمَ عليه، أو تعجُّبًا من اقتراحاتِهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 385 - 386)، و"التيسير" للداني (ص: 142)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 309)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 339). (¬2) المصادر السابقة.

[94]

{هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} أي: ما هذا في قوى البشرِ، وليسَ لبشرٍ ولا لرسولٍ الإتيانُ بشيءٍ منهُ إلا بإذنِ الله. ... {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)}. [94] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} أي: أهلَ مكةَ. {أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} القرآنُ. {إِلَّا أَنْ قَالُوا} جَهْلًا مهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} ولم يبعثْ مَلَكًا؟ فلا نؤمنُ به. ... {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)}. [95] فردَّ تعالى عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} كَمَشْي الإنسِ؛ أي: لو سكنَ الأرضَ ملائكةٌ، واستقرُّوا فيها. {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} لأن رسولَ كلِّ قومٍ من جنسِهم؛ لأنَّ القلبَ إلى الجنسِ أميلُ منهُ إلى غيرِ الجنسِ. ... {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)}. [96] {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أني رسولُه إليكم.

[97]

{إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} يعلمُ أحوالَهم، فيجازيهم، فيه تسليةٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وتهديدٌ للكفار. ... {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)}. [97] {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} أثبتَ نافع، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو الياءَ في (المهتدي) وَصْلًا، ويعقوبُ في الحالينِ، وحذفَها الباقونَ فيهما (¬1). {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} يَهْدونهم. {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أي: يُسْحبون عليها في النار، قيلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ يمشونَ على وجوهِهِمْ؟ قالَ: "الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ" (¬2) {عُمْيًا} لا يُبْصرون ما يُقِرُّ أعينَهم {وَبُكْمًا} لا ينطقونَ بحجَّةٍ {وَصُمًّا} لا يسمعون ما يلتذُّونَ به. {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} سكنَ لهيبُها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 349)، و"التيسير" للداني (ص: 129)، و"تفسير البغوي" (2/ 467)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 175). (¬2) رواه البخارى (4482)، كتاب: التفسير، باب قوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ ...}، ومسلم (2806)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: يحشر الكافر على وجهه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[98]

{زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} تَلَهُّبًا واشتعالًا، فالزيادة في حَيِّزِهم، وأما جهنمُ، فعلى حالِها من الشدَّةِ لا يُصيبُها فُتورٌ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (خَبَت زدْنَاهُمْ) بإدغامِ التاءِ في الزاي، واختلِفَ عن هشامٍ راوي ابنِ عامر، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1). ... {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)}. [98] {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} تقدَّمَ تفسيرُ نظيرِها، والتنبيهُ على مذاهبِ القراء فيها في السورةِ. ... {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)}. [99] فأجابهم اللهُ تعالى بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} في عظمها وشدَّتها. {قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} في صغرِهم وضعفهم. {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا} وَقْتًا لعذابِهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 276)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 286)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 339).

[100]

{لَا رَيْبَ فِيهِ} أنه يأتيهم، وهو الموتُ أو القيامةُ. {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} عِنادًا. ... {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}. [100] {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} المعنى: لو مَلَكْتُم {خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي: رزقِهِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (رَبِّيَ) بفتحِ الياءِ، والباقون: بإسكانها (¬1). {إِذًا لأَمْسَكْتُمْ} لَبَخِلْتُم {خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} والفاقةِ. {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} ضَيِّقًا بخيلًا. ... {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101)}. [101] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: دلالاتٍ واضحاتٍ، وهي في قولِ جمهورِ المفسِّرين: بياضُ اليد، والعصا، والطوفانُ، والجرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادعُ، والدَّمُ، وحَلُّ عقدةٍ من لسانِه، وانفلاقُ البحرِ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 386)، و"التيسير" للداني (ص: 141)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 309)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 340).

وقال الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ رضي الله عنه: ثنا يزيد، أنبأ شعبةُ، عن عمرِو بنِ مُرَّةَ، سمعتُ عبدَ اللهِ بنَ سلمةَ يحدِّثُ عن صفوانَ بنِ عَسَّالٍ المراديِّ، قال: قال يهوديٌّ لصاحِبه: اذهبْ بنا إلى هذا النبيِّ حتى نسألَه عن هذهِ الآيةِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فقال: لا تقلْ له نبيٌّ، فإنه لو سمعَكَ، لصارتْ له أربعةُ أعينٍ، فسنألاهُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ولا تَسْحَرُوا، وَلاَ تأْكُلُوا الرِّبَا، وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقتُلَهُ، وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصنًا، أو قال: ولا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، شعبةُ هو الشاكُّ، وَأَنْتُمْ يَهُودُ عَلَيْكُمُ خَاصَّةً أَلَّا تَعْدُوا في السَّبْتِ"، فقبَّلا يديهِ ورجليه، وقالا: نشهدُ أنكَ نبيٌّ، قالَ: "فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَتَّبِعَانِي؟ "، قالا: إن داودَ عليه السلامُ دعا أن لا يزالُ من ذريتِه نبيٌّ، فإنا نخشى إنْ أسلَمْنا أن تقتلَنا يهودُ (¬1). {فَاسْأَلْ} يا محمدُ مَنْ آمنَ من {بَنِي إِسْرَائِيلَ} كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه؛ لتحتجَّ بهِ على مَنْ لم يؤمنْ. قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَسَلْ) بالنَّقْلِ، والباقون: بالهمز (¬2). {إِذْ جَاءَهُمْ} موسى. قرأ أبو عمرٍو، وهشامٌ عن ابنِ عامرٍ: (إذ جاءَهُمْ) ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 239)، والترمذي (2733)، كتاب: الاستئذان، باب: ما جاء في قبلة اليد والرجل، وقال: حسن صحيح، وغيرهما. (¬2) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (6/ 85)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 276)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 340).

[102]

بإدغامِ الذالِ في الجيم، والباقون: بالإظهار (¬1). {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} سُحِرْتَ، فتخبَّطَ عقلُكَ. ... {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)}. [102] {قَالَ} موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ}: قرأ الكسائيُّ: (عَلِمْتُ) بضم التاء، يخبرُ عن نفسِه أنه ليسَ بمسحورٍ، وأنَّ ما جاء به حقٌّ، وقرأ الباقون: بفتح التاءِ خطابًا لفرعونَ (¬2)؛ لأنه كان في حِجْرِهِ، ولم يكنْ رأى منهُ شيئًا يدلُّ على ذلك؛ أي: لقد علمتَ أَني لستُ بمسحورٍ. {مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ} الآياتِ التسعَ {إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولكنَّك عانَدْتَ. واختلافُ القراء في (هَؤُلاَءِ إِلَّا) كاختلافِهم في (هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ) في سورةِ البقرةِ {بَصَائِرَ} بيناتٍ تبُصِّرُكَ صِدْقي، وانتصابُه على الحال {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} هالِكًا ملعونًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 278)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 286 - 287)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 340). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 385)، و"التيسير" للداني (ص: 141)، و"تفسير البغوي" (2/ 720)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 340 - 341)، وقراءة نصب التاء أصح في المعنى، وعليه أكثر القرَّاء؛ لأن موسى لا يحتج عليه بعلم نفسه، ولا يثبت عن عليٍّ رضي الله عنه رفع التاء؛ لأنه روي عن رجل من مراد -وهو كلثوم المرداوي وهو مجهول- عن علي، ولم يتمسك بها أحد من القراء غير الكسائي. اهـ كذا قاله البغوي.

[103]

{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)}. [103] {فَأَرَادَ} فرعونُ {أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ} أي: يخرجَهم: موسى وقومَه. {مِنَ الْأَرْضِ} أرص مصرَ {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} تأكيدٌ. ... {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)}. [104] {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ} من بعدِ إهلاكِه. {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} أي: أرضَ الشامِ ومصرَ. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} وهي الساعةُ. {جِئْنَا بِكُمْ} من قبورِكم إلى موقفِ القيامةِ {لَفِيفًا} جَمْعًا مختلِطين. ... {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)}. [105] {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} يعني: القرآنَ، أنزلناهُ بالدينِ القائمِ وبالأمرِ الثابتِ. {وَبِالْحَقِّ} بالأوامرِ والنواهي {نَزَلَ} القرآنُ. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا} للمطيعينَ {وَنَذِيرًا} للعاصينَ. ***

[106]

{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)}. [106] {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} قراءة العامةِ: (فَرَقْنَاهُ) بتخفيفِ الراء؛ أي: بَيَّنَّاه وأوضَحْناه، وقرأ أبانُ عن عاصمٍ: بتشديد الراء، أي: أنزلناهُ نُجومًا شيئًا بعدَ شيءٍ (¬1). {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} قراءةُ العامةِ: (مُكْثٍ) بضمِّ الميمِ، وقرأ أبانُ عن عاصمٍ: بفتحِ الميمِ، وهما لغتان (¬2) معناهما تُؤَدَةٌ وتثَبُّتٌ لِيفهموهُ. {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} حسبَ الحوادثِ. ... {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)}. [107] {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} تهديدٌ ووعيدٌ وتحقيرٌ للكفارِ. {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبلِ القرآنِ، وهم العلماءُ الذين قرؤوا الكتبَ السابقةَ، وعرفوا حقيقةَ الوحيِ وأمارةَ النبوَّةِ. {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} القرآنُ {يَخِرُّونَ} يسقُطونَ {لِلْأَذْقَانِ} أي: عليها، والأذقانُ جمعُ ذَقَنٍ، وهو مجمَعُ اللَّحْيَيْنِ. {سُجَّدًا} تعظيمًا لله تعالى، ونصبهُ على الحال. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 7221)، و"المحتسب" لابن جني (1/ 23)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 342). (¬2) ذكر هذه القراءة العكبري في "إملاء ما منَّ به الرحمن" (2/ 53)، والفخر الرازي في "تفسيره" (21/ 68)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 342)، عن ابن محيصن، وهي قراءة شاذة.

[108]

{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)}. [108] {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} عن خلفِ الموعدِ. {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} كائِنًا لا محالةَ. ... {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}. [109] {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} كَرَّرَ القولَ لتكرُّرِ الفعلِ منهم، وهذه مبالغةٌ ومدحٌ لهم، وذكرَ الذقنَ؛ لأنها أقربُ ما في رأسِ الإنسانِ إلى الأرضِ، لا سيما عندَ سجودِه. {وَيَزِيدُهُمْ} القرآنُ {خُشُوعًا} تَواضُعًا، وهذا محلُّ سجودٍ بالاتِّفاقِ، وتقدَّمَ اختلافُ الأئمةِ في سجودِ التلاوةِ وحكمِه، وسجودِ الشكرِ آخرَ سورةِ الأعرافِ مستوفًى. ... {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)}. [110] قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه: "سجدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ ذاتَ ليلةٍ فجعلَ يقولُ في سجودِهِ يا اللهُ يا رَحْمَنُ"، فقال أبو جهلٍ: إن محمدًا ينهانا عن آلِهتنا، وهو يدعو إلهينِ، فأنزل اللهُ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (¬1) المعنى: أنهما اسمانِ لواحدٍ، فإنْ دعوتموهُ باللهِ، فهو ذلكَ، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (15/ 182)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (2/ 723)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 348).

وإن دعوتموهُ بالرحمنِ، فهو ذلك. قرأ عاصمٌ، وحمزةٌ: (قُلِ ادْعُوا) (أَوِ ادْعُوا) بكسرِ اللامِ والواو في الوصل، وافقَهُما يعقوبُ في كسرِ اللامِ فقط، وقرأ الباقون: بضمِّهما (¬1). {أَيًّا مَا تَدْعُوا} و (ما) صلةٌ، مجازُه: أَيًّا تَدْعو؛ كقولهِ (عَمَّا قَلِيل) و (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ)، وتقديرهُ: أيَّ الأسماءِ تدعو به، فأنتَ مصيبٌ، ووقفَ حمزةُ، والكسائيُّ، ورويسٌ عن يعقوبَ على قوله: (أيًّا) دونَ (ما)، وعَوَّضُوا من التنوينِ ألفًا، ويبتدِئون (مَا تَدْعُوا) بتقدير: الذي تدعوهُ، ووقفَ الباقونَ على (ما) (¬2). {فَلَهُ} سبحانَه {الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} التي تقتضي أفضلَ الأوصافِ. {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي: بقراءتك في صلاتِك، فَيَسُبَّكَ المشركونَ. {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ولا تُخْفيها عن أصحابِك المصلِّينَ معكَ. {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ} الفعلِ، وهو الجهرُ، والمخافة. {سَبِيلًا} طريقًا وَسَطًا. ... {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 389)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 225)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 334)، ورويت القراءة بضم اللام عن يعقوب. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 61)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 287)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 343).

[111]

[111] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} قال الحسينُ بنُ الفضل: يعني: الحمدُ للهِ الذي عَرَّفَني أنه لم يَتَّخِذْ ولدًا (¬1)، والآيةُ ردٌّ على اليهودِ والنصارى والعربِ في قولهم: عزيرٌ وعيسى والملائكةُ ذرية اللهِ، تعالى عن أقوالِهم. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} في الألوهيةِ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي: لم يَذِلَّ فيحتاجَ إلى وَليٍّ يتعزَّزُ به، وهو ردٌّ على العربِ في قولهم: لولا أولياءُ الله لَذَلَّ. {وَكَبِّرْهُ} عن أنْ يكونَ له شريكٌ أو وَلِيٌّ {تَكْبِيرًا} قال عمرُ رضي الله عنه: "قَوْلُ العبدِ: اللهُ أكبرُ، خيرٌ من الدنيا وما فيها"، وهي أبلغُ لفظةٍ للعربِ في معنى التعظيمِ والإجلالِ، ثم أَكَّدَها بالمصدر تحقيقًا لها وإبلاغًا في معناها، والله أعلم (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (2/ 725). (¬2) إلى هنا تم الجزء الأول من تجزئة المؤلف لتفسيره، والمكون من جزأين، وجاء في آخره: "قال جامعه عفا لله عنه بكرمه: وكان الفراغ من جمع هذا الجزء عقب صلاة الظهر من يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر صفر ختم بالخير والظفر سنة أربع عشرة وتسع مئة من الهجرة الشريفة النبوية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والتحية والبركة والإكرام وكان جمعه بالمسجد الأقصى الشريف شرفه الله وعظمة بقبة موسى عمَّرها الله بذكره ووافق الفراغ من تبيضه عقب صلاة الظهر من يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع عشرة وتسع مئة، الحمد لله وحده وصلواته على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه وسلامه، حسبنا الله ونعم الوكيل". * هذا وقد وقع في النسخة الخطية "ش" خرم من قوله: "واستعارة الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب، وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات" (ص: 125) من هذا المجلد إلى هنا.

سورة الكهف

سُوْرَةُ الكَهفِ مكيةٌ في قولِ جميعِ المفسرينَ، ورُويَ عن فرقةٍ أنَّ أولَ السورةِ نزلَ بالمدينةِ إلى قوله: {جُرُزًا} والأولُ أصحُّ، آيها: مئةٌ وعشر (¬1) آياتٍ، وحروفُها: ستةُ آلافٍ وثلاثُ مئةٍ وستون حرفًا، وَكَلِمُها: ألفٌ وخمسُ مئةٍ وسبعُ وسبعونَ كلمةً، وهي من أفضل سورِ القرآنِ، ورُوي عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ عِظَمُها كَمَا بَيْنَ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ، وَلمن جَاءَ بِهَا من الأجر مِثْلَ ذَلِكَ؟ " قالوا: أَيُّ سورةٍ هيَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: "سُورَةُ الْكَهْفِ، مَنْ قَرَأَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى وَزِيَادَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، ومَنْ قَرَأَ بِهَا، أُعْطِي نُورًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَوُقِيَ بِهَا فِتْنَةَ الدَّجَّالِ (¬2) " (¬3). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)}. ¬

_ (¬1) في "ت": "عشرون". (¬2) في "ت": "القبر". (¬3) رواه ابن الضريس في "فضائل القرآن" عن إسماعيل بن أبي رافع بلاغًا، كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 475).

[1]

[1] لما سألتْ قريشٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن المسائلِ الثلاث: الرُّوحِ والكهفِ وذي القرنينِ حَسْبَ ما أَمَرهم به اليهودُ، قالَ لهم رسولُ اللهِ: "غَدًا أُخْبِرُكُمْ"، ولم يقلْ: إن شاءَ الله، فعوتبَ بلبثِ الوحيِ عنهُ خمسةَ عشرَ يومًا، فأرجفَ به المشركونَ، وقالوا: إنَّ محمدًا قَدْ تركه رِئِيُّهُ الذي كانَ يأتيه من الجنِّ، وقال بعضُهم: قد عجزَ عن أكاذيبهِ، إلى غيرِ ذلكَ، فشقَّ ذلكَ عليه، فجاءه الوحيُ من الله سبحانَه بالجوابِ، فافتتحَهُ بحمدِ اللهِ تعالى، فقال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} (¬1) أي: الثناءُ له، وتقدَّمَ الكلامُ عليه مستوفىً في سورةِ الفاتحةِ. {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {الْكِتَابَ} القرآنَ. {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} والعِوَجُ: فَقْدُ الاستقامَةِ، وهو بكسرِ العينِ في المعاني، وبفتحِها في الأشخاصِ؛ كالعصَا والحائطِ ونحوِهما. ... {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)}. [2] {قَيِّمًا} مستقيمًا نصبٌ على الحال، وفيه تقديمٌ وتأخيرٌ، مجازُه: أنزلَ على عبدِهِ الكتابَ قِيمًا، ولم يجعلْ له عِوَجًا، قالَ ابنُ عطية: ويصحُّ أن يكونَ معنى (قيمًا): قيامَهُ بأمرِ الله تعالى على العالَمِ (¬2). وهذا المعنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللذين عنى العالم، وكان حفص عن عاصم يسكت يسيرًا على (عِوَجًا)؛ تنبيهًا على تمام الوقف ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (10/ 385). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (3/ 495).

[3]

عليه، ثم يقول: (قَيِّمًا) (¬1) {لِيُنْذِرَ} الكافرين {بَأْسًا} عذابًا. {شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} من عنده. روى أبو بكر عن عاصم: (لَدْنِهِ) بسكون الدال وإشمامها الضم من غير صوت يسمع؛ دلالة على أن أصلها الضم، وبكسر النون والهاء وصلتها بياء في اللفظ، فكسرُ النون لسكونها وسكون الدال قبلها، وكسر الهاء إتباع، وقرأ الباقون: بضم الهاء والدال، وإسكان النون، وابن كثير على أصله في الصلة بواو (¬2). {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} هو نعيم الجنة وما يتقدمه من خير الدنيا. ... {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)}. [3] {مَاكِثِينَ} مقيمين. {فِيهِ أَبَدًا} ظرف دال على زمن غير متناه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ (وَيَبْشُر) بفتح الياء وتخفيف الشين وضمها؛ من البشر، وهو البشرى والبشارة. وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد الشين مكسورة من بَشَّر المضعف على التكثير (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف" لمكي (2/ 55)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 287)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 347). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 388)، و"التيسير" للداني (ص: 142)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 288)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 347 - 348). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 87)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 348).

[4]

{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)}. [4] {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وهم ثلاث طوائف: اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، وبعض العرب في الملائكة. ... {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)}. [5] {مَا لَهُمْ بِهِ} باتخاذ الولد لله تعالى {مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} من قبلهم؛ لأن ذلك مستحيل في حقه تعالى {كَبُرَتْ} عظمت {كَلِمَةً} نصب على التمييز {تَخْرُجُ} أي: تظهر {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} وهي قولهم: اتخذ الله ولدًا (¬1) {إِنْ} أي: ما {يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} فهي (ما) النافية. ... {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}. [6] {فَلَعَلَّكَ} هذه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لا تكن كذلك. وقوله: {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: قاتلها {عَلَى آثَارِهِمْ} من بعد ذهابهم عنك. {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} أي: القرآن {أَسَفًا} حزنًا على فوات إيمانهم. ¬

_ (¬1) "وهي قولهم: اتخذ الله ولدًا" زيادة من "ت".

[7]

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}. [7] {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} والمراد بما على الأرض: كل ما يزينها من علماء وصلحاء ونبات وزخارف ونحوه، ولم يدخل في هذا الجبال الصم، وكل ما لا زينة فيه؛ كالحيات والعقارب ونحوها {لِنَبْلُوَهُمْ} لنختبر الناظرين إليها. {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أزهد في الدنيا. ... {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}. [8] {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا} أي: الأرض. {صَعِيدًا} أملس مستويًا. {جُرُزًا} غليظًا يابسًا لا ينبت. ... {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)}. [9] ثم جاء بما هو أعجب من ذلك فقال: {أَمْ حَسِبْتَ} أي: بل ظننت. {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} الغار في الجبل. {وَالرَّقِيمِ} لوح رُقم فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم، ثم وضعوه

[10]

على باب الكهف، وكان اللوح من رصاص، والرقيم بمعنى: المرقوم؛ أي: المكتوب، والرقم: الكتابة (¬1). {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} أي: كانوا آية يعجب بها من علمها، وفيه معنى الإنكار على السائلين عن أصحاب الكهف؛ كأنه قال: لا تعجبوا من أمرهم، ففيما خلقناه من صنوف الخلق ما هو أعجب منه. ... {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)}. [10] {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} جمع فتى، وهو الشاب الكامل. {إِلَى الْكَهْفِ} أي: رجعوا وهربوا إليه، وأما خبر مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق: مرح أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا، وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح يعبدون الله تعالى، وكان ملك منهم يقال له: دقيانوس قد عبد الأصنام، وقتل من خالفه، وكان ينزل قرى الروم، فلا يترك في قرية نزلها أحدًا إلا فتنه حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، أو يقتله، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف، وسيأتي ذكرها، فهرب أهل الإيمان منه، وكان حين قدمها أَمَرَ أن يجمع له أهل الإيمان، فمن وقع به خيره بين القتل وبين عبادة الأوثان، فمنهم من يرغب في الحياة، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله، فيقتل. ¬

_ (¬1) ورد على هامش "ش": "وقيل: أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثةً خرجوا ... " وتتمة الكلام مقدار عشرة أسطر، إلا أنها مطموسة.

فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتلون ويقطعون، ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها، وعلى كل باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة، فلما رأى ذلك هؤلاء الفتية، حزنوا حزنًا شديدًا، وأقبلوا على الصيام والقيام والتسبيح والدعاء، وكانوا سبعة في قول ابن عباس، وأسماؤهم عنده: مكشلمينا، ويمليخا، ومرطونس، ونينوس، وسارينوس، ودوانوانس، وكفشططيوش، وقيل: كانوا ثمانية، وكثر الاختلاف في أسمائهم وأنسابهم وحِرفهم واسم كلبهم ولونه (¬1). {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ} من عندك {رَحْمَةً} أي: رزقًا. {وَهَيِّئْ} وأصلح {لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} الذي نحن فيه، وهو الإيمان وترك الكفر. {رَشَدًا} صوابًا، أي: اجعلنا راشدين. قرأ أبو جعفر (وَهَيِّي) و (يُهَيِّي) بإسكان الياء الثانية بغير همز (¬2). فظهر عليهم، وحملوا إلى الملك فقال: اختاروا إما أن تذعنوا لآلهتنا، ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/ 79) عن أسماء الفتية: " .. وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسمَ كلبهم نظر في صحته، والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب، وقد قال تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} أي، سهلًا هيِّنًا فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة". وقال أيضًا (3/ 77) عن لون الكلب: "واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها، ولا طائل تحتها، ولا دليل عليها، بل هي مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 349، 351).

[11]

وإما أن أقتلكم، فقال مكشلمينا، وهو أكبرهم: إن لنا إلهًا ملك السموات والأرض جلت عظمته، لن ندعو من دونه إلهًا أبدًا، وقال بقية الفتية لدقيانوس كذلك، فقال الملك: ما يمنعني أن أعجل لكم العقوبة إلا أنكم شباب، ورأيت أن أجعل لكم أجلًا تذكرون فيه وتراجعون عقولكم، فأخذوا من بيوتهم نفقة، وخرجوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له: بنجلوس، واسم الكهف حيرم، وأقاموا به يعبدون الله فيه، واتبعهم كلب كان لهم، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم، وهو يمليخا، وكان من أجملهم وأجلدهم، فكان يبتاع طعامهم من المدينة سرًّا، فإذا دخل المدينة، لبس ثياب المساكين، ويشترى طعامهم، ويتجسس لهم الأخبار، ولبثوا كذلك زمانًا حتى أخبرهم يمليخا أن الملك يطلبهم، ففزعوا لذلك، وحزنوا، فبينا هم كذلك عند غروب الشمس يتحدثون ويتدارسون، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف. ... {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)}. [11] قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} أي: أنمناهم إنامة ثقيلة {فِي الْكَهْفِ سِنِينَ} ظرف لـ (ضربنا) {عَدَدًا} نعت (سنين) أي: معدودة، وتخصيص الآذان بالذكر؛ لأنها الجارحة التي منها عِظَمُ فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع. ... {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}. [12] وألقي النوم عليهم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، فسمع الملك أنهم بجبل بنجلوس، فألقى الله في نفسه أن يأمر

بالكهف فيسد عليهم حتى يموتوا جوعًا فيه، وظنهم أيقاظًا وهم رقود، أراد الله تعالى أن يكرمهم، وأن يجعلهم آية، وكان القوم يُقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ثم عمد رجلان كانا مؤمنين في بيت الملك يكتمان إيمانهما اسم أحدهما يندروس، والثاني روناس، فكتبا شأن الفتية وأنسابهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس، وجعلاه في البنيان، فبقي دقيانوس ما بقي، ثم مات وقومه وقرون بعده، وخلفت الملوك بعد الملوك، ثم مَلَكَ تلك البلاد رجل صالح اسمه نيدوسيس ثمانيًا وعشرين سنة، فتحزب الناس في ملكه، فكانوا أحزابًا، منهم من يؤمن بالله، ومنهم من يكفر ويكذب بالساعة، فبكى الملك الصالح، وتضرع إلى الله حين رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق، ثم دخل بيته وأغلق بابه، ولبس مُسوحًا وجعل تحته رمادًا، وجعل يتضرع إلى الله تعالى، ويبكي ويدعو الله أن يظهر لهم آية يبين لهم بطلان ما هم عليه، حتى أراد الله أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف، ويبين للناس شأنهم، ويجعلهم آية؛ ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن يستجيب لعبده الصالح، ويجمع كلمة المؤمنين، فألقى في نفس رجل من ذلك البلد الذي به الكهف أن يهدم بنيان لهم (¬1) الكهف، فيبني حظيرة لغنمه، فهدمه، وحجبه الله بالرعب حتى لا يقدر أن يتقدم حتى ينظر إليهم، وكلبهم دونهم، وأذن الله للفتية أن يجلسوا، فجلسوا مستبشرين، فسلم بعضهم على بعض، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم، قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أيقظناهم بعد ما أنمناهم. ¬

_ (¬1) "فم" ساقطة من "ت".

وقوله: {لِنَعْلَمَ} عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود، وإلا فقد كان الله تعالى علم {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} الفريقين {أَحْصَى} أحفظ {لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} المعنى: أيهم أضبطُ غاية لأوقات لبثهم. قال ابن عطية: والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إذ ظنوا لبثهم قليلًا، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عهدهم التاريخ بأمر الفتية، قال: وهذا قول الجمهور من المفسرين (¬1). وقيل: المراد بالحزبين: المختلفين في مدة لبثهم، وذلك حين تنازع المسلمون الأولون أصحاب الملك نيدوسيس، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين رأوا أصحاب الكهف في قدر مدة لبثهم في الكهف، فقال المسلمون الأولون: مكثوا ثلاث مئة سنة وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل مكثوا كذا وكذا، وقال آخرون: الله أعلم بما لبثوا. فلما استيقظ الفتية من نومهم، قاموا إلى الصلاة، فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يرون في وجوههم ولا في أبدانهم شيئًا ينكرونه، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس في طلبهم، فلما قضوا صلاتهم، قالوا لصاحب نفقتهم: أنبئنا ما الذي قال الناس في شأننا عشي أمس عند هذا الجبار؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد يخيل إليهم أنهم قد ناموا أطول مما كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم، فقال بعضهم لبعض: كم لبثتم نيامًا؟ قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم، ثم قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، وكل ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 500).

في أنفسهم يسير، فقال لهم (¬1) صاحب نفقتهم: إن الملك أراد قتلكم، أو تذبحوا للطواغيت، فقال كبيرهم: يا إخوتاه! اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله، ثم قالوا لصاحب نفقتهم: انطلق إلى المدينة فتسمَّعْ ما يقال بها، وما الذي نُذكر به عند دقيانوس، وتلطف، ولا تشعرن بك أحدًا، وابتع لنا طعامًا فأتنا به، وزدنا على الطعام الذي جئتنا به، فقد أصبحنا جياعًا، ففعل كما كان يفعل، ووضع ثيابه (¬2) وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وأخذ وَرِقًا من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس، وانطلق خارجًا، فلما مر بباب الكهف، رأى الحجارة منزوعة عن بابه، فعجب منها، ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة، فنظر في أعلى الباب علامة أهل الإيمان، فاستخفى وتحول إلى باب آخر، فرأى مثل ذلك، حتى خُيلَ إِليهِ أن المدينة ليست بالذي كان يعرف، ورأى ناسًا يحلفون باسم عيسى، ولم يميز منهم أحدًا، فازداد حيرة، وظن أنه نائم، فسأل عن اسم المدينة، فقيل له: أقسوس، فقال: لعل عقلي ذهب، فدفع الورق إلى البياع ليشتري طعامًا، فعجب البياع من الورق، وطرحها إلى رجل من أصحابه، فجعلوا ينظرون إليها، ويقول بعضهم لبعض: إن هذا رجل قد أصاب كنزًا، وجعل أهل المدينة يقولون: ما رأينا هذا الفتى قط، فحملوه إلى رجلين كانا رأسي المدينة ومدبري أمرها، وهما صالحان، اسم أحدهما أزيوس، والآخر أضطيوس، فنظرا إلى الورق، فعجبا منه، فقال أحدهما: أين الكنز يا فتى؟ فقال: ما وجدت ¬

_ (¬1) "لهم" زيادة من "ت". (¬2) "ثيابه" زيادة من "ت".

كنزًا، وهذا الورق ورق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، وإني رجل من أهل المدينة، أنا فلان بن فلان، فلم يعرفه أحد، ولا عرف أباه، قالوا: فنقش هذا الورق من ثلاث مئة سنة، وأنت غلام شاب؟! فقال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا: ما نعرف على وجه الأرض اليوم هذا الاسم إلا ملك قد هلك، وهلك بعده قرون، قال لهم: فما يصدقني أحد، لقد كنا فتية، وكان الملك أكرهنا على عبادة الأوثان، فهربنا منذ أيام إلى الكهف، وخرجت لأشتري لأصحابي طعامًا، وأتجسس الأخبار، فانطلقوا معي إلى الكهف في جبل بنجلوس؛ لأريكم أصحابي، فلما سمع أريوس ما يقول، قال: يا قوم! لعلَّ هذهِ آية من آيات الله جعلها لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه، فانطلق معه أريوس وأطيطوس، وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم، فلما سمع أصحاب الكهف الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، جزعوا وظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى بهم، فسبق إليهم صاحبهم، وقص عليهم النبأ كله، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نيامًا بإذن الله، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقًا للبعث، ثم فتحوا التابوت النحاس الموضوع بباب الكهف، فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما أسماؤهم، وأنهم كانوا فتية آمنوا وهربوا من ملكهم دقيانوس الجبار؛ مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا هذا الكهف، فلما أخبر بمكانهم، أمر بسد الكهف عليهم، فكتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم، فلما قرؤوه، عجبوا، وحمدوا الله الذي أراهم آية للبعث فيهم، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثم دخلوا على الفتية الكهف، فوجدوهم جلوسًا مشرقة وجوههم لم تبلَ ثيابهم، وجاء الملك

[13]

الصالح نيدوسيس حتى وقف عليهم، واعتنقهم، وبكى، فدعوا له، فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم، فناموا، فتوفى الله أنفسهم، فأمر الملك أن يجعلوا في توابيت الذهب، ثم رآهم في المنام، فقالوا له: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة، وإنما خلقنا من تراب، وإلى التراب نصير، فأمر الملك بتابوت من ساج، فجعلوا فيه، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد على الدخول إليهم، فأمر الملك، فجُعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه، وجعل لهم عيدًا عظيمًا، وأمر أن يؤتى كل سنة. وقد حكى المفسرون والمؤرخون قصة أهل الكهف على وجوه كثيرة بألفاظ مختلفة، والله أعلم (¬1). ... {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)}. [13] قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ} ننزل {عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ} خبر الفتية {بِالْحَقِّ} بالصدق. {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} شبان وأحداث، حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة، ولذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان. {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ثبتناهم على ذلك. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (15/ 200)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 363). وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 7)، وما بعدها.

[14]

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)}. [14] {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} قويناها على قول الحق، وصبرناها على هجر الأوطان {إِذْ قَامُوا} بين يدي الملك ديقيانوس حين أمرهم بالسجود للأصنام وعبادة غير الله تعالى {فَقَالُوا} مخلصين رادين عليه {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} ولئن دعونا إلهًا غيره {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا} قولًا {شَطَطًا} جورًا، والشطط: هو الإفراط في الظلم. ... {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}. [15] ثم أنكروا حال قومهم فقالوا: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} تعالى. {آلِهَةً لَوْلَا} هَلَّا {يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ} على عبادة الأصنام {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} حجة ظاهرة {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ} فزعم أن معه إلهًا شريكًا؟! ... {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)}. [16] ثم قال بعضهم لبعض: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} أي:

[17]

اعتزلتم قومكم ومعبودهم {إِلَّا اللَّهَ} فإنكم لم تعتزلوا عبادته، المعنى: إذ بعدتم عن قومكم ومرادهم. {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} فالجؤوا إليه. {يَنْشُرْ} يبسط {لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} بأن يسهلها عليكم ويعيذكم من عدوكم. قرأ أبو عمرو (يَنْشُر لَكمْ) بإدغام الراء في اللام من رواية السوسي، واختلف عنه من رواية الدوري، والوجهان صحيحان عن أبي عمرو (¬1) {وَيُهَيِّئْ} يسهل {لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} ما يرتفق به الإنسان، قالوأ ذلك توكلًا على الله. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (مَرْفِقًا) بفتح الميم وكسر الفاء، والباقون: بكسر الميم وفتح الفاء، ومعناهما واحد. ... {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)}. [17] {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} قرأ ابن عامر، ويعقوب: (تَزْوَرُّ) بإسكان الزاي وتشديد الراء من غير ألف؛ مثل: تحمرُّ، وقرأ الكوفيون: بفتح الزاي وتخفيفها وألف بعدها وتخفيف الراء، أصله: تتزاور، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا، وقرأ الباقون: بتشديد الزاي وإثبات الألف، أصله تتزاور، قلبت التاء الثانية زايًا، ثم أدغمت، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 18)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 288)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 350).

والقراءات بمعنى واحد (¬1)؛ أي: تميل وتعدل عن كهفهم. {ذَاتَ الْيَمِينِ} ظرف لـ (تزاور)، والمعنى: نحو الجهة المسماة باليمين. {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} تجاوزهم، وتعدل عنهم. {ذَاتَ الشِّمَالِ} وأصل القرض: القطع، ومنه سمي المقراض؛ لأنه يقطع به. {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} أي: متسع من مكان (¬2) الكهف، يصل إليهم النسيم، ويدفع عنهم كرب الغار ووخمه، ولا تصل إليهم الشمس عند طلوع ولا غروب. {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} عجائبه الدالة على قدرته، ثم مدحهم فقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ} بأن فتح له طريق الهداية فسلكها {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} أي: المخلص في إيمانه الذي أصاب الفلاح. أثبت نافع وأبو جعفر وأبو عمرو الياء في (المهتدي) وصلًا، وأثبتها يعقوب وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 388)، و"التيسير" للداني (ص: 142)، و"تفسير البغوي" (3/ 18)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 310)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 352). (¬2) "مكان" ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 391)، و"التيسير" للداني (ص: 147)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 353).

[18]

وذم ضدهم فقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ} أي: يضلله تعالى بخذلانه. {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} يرشده إلى فلاحه. {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)}. [18] {وَتَحْسَبُهُمْ} يا محمد {أَيْقَاظًا} جمع يَقُظ؛ كعضُد؛ أي: منتبهين؛ لأنهم كانت أعينهم مفتحة في نومهم {وَهُمْ رُقُودٌ} نيام، جمع راقد، ويتنفسون مع ذلك ولا يتكلمون {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} مرة للجنب الأيمن، ومرة للجنب الأيسر. قال ابن عباس: "كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم" (¬1)، ويقال: كان يوم عاشوراء يوم تقلبهم. {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} مادٌّ يديه {بِالْوَصِيدِ} والوصيد: العتبة التي لباب الكهف، أو موضعها حيث ليست على الأصح، وقيل: هو فناء الباب، والباب الموصد: هو المغلق، وأكثر أهل التفسير على أنه كان من جنس الكلاب. قال ابن عباس: "كان كلبًا أنمر، واسمه قطمير" (¬2)، وقيل كان أسدًا، ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 366). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 373).

ويسمى الأسد كلبًا، فكانوا إذا انقلبوا انقلب موافقة لهم، وهو مثلهم في النوم واليقظة. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} أي: لو نظرت إليهم يا محمد. {لَوَلَّيْتَ} لرجعت هيبة وخوفًا. {مِنْهُمْ فِرَارًا} هاربًا؛ لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله من رقدتهم. {وَلَمُلِئْتَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: بتشديد اللام الثانية، والباقون بتخفيِفها، وأبو جعفر وأبو عمرو يبدلان الهمز ياءً، وكلها لغات بمعنى: لامتلأْتَ (¬1). {مِنْهُمْ رُعْبًا} خوفًا؛ لما ألبسهم الله من الهيبة، ولعظم أجرامهم، وانفتاح عيونهم، ولوحشة مكانهم. قرأ ابن عامر، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب: (رُعُبًا) بضم العين، والباقون: بإسكانها (¬2). وعن ابن عباس قال: "غزونا مع معاوية نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء، فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس: قد منع ذلك من هو خير منك، فقال: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا}، فبعث معاوية ناسًا فقال: اذهبوا فانظروا، فلما ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 389)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"تفسير البغوي" (3/ 20)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 310)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 354 - 355). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 355).

[19]

دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحًا، فأخرجتهم" (¬1). ... {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)}. [19] {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} أي: كما أنمناهم هذه المدة بقدرتنا، مثلَ ذلك أيقظناهم {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} عن حالهم وما جرى لهم. {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} وهو رئيسهم مكشلمينا: {كَمْ لَبِثْتُمْ} في نومكم؛ لأنهم استكثروا طول نومهم. قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب، وخلف: (لَبِثْتُمْ) (لَبِثْتَ) بإظهار الثاء عند التاء حيث وقع، والباقون: بالإدغام (¬2). {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا} لأنهم دخلوا الكهف طلوع الشمس، وبعثهم الله آخر النهار، فلما رأوا الشمس، قالوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فلما نظروا إلى ¬

_ (¬1) انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 301)، و"تغليق التعليق" لابن حجر (4/ 244)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 366). قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/ 76): "ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه، ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالًا، والله أعلم بأي بلاد الله هو، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه، وقد أعلمنا الله بصفته، ولم يعلمنا بمكانه". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 279)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 355).

[20]

أظفارهم وأشعارهم، تيقنوا أن لبثهم أكثر من يوم. فثم: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} يعني: يمليخا {بِوَرِقِكُمْ} قرأ أبو عمرو، وحمزة، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب (بِوَرْقِكُمْ) بإسكان الراء، والباقون: بكسرها (¬1)، والقراءتان معناهما واحد، وهي الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، المعنى: فأرسلوا واحدًا منكم بفضتكم {هَذِهِ} المعدة للنفقة {إِلَى الْمَدِينَةِ} التي خرجنا منها، وهي المسماة في الإسلام طرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أقسوس. {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا} يعني: أي أهلها {أَزْكَى طَعَامًا} أحل وأطيب؛ لأنهم كان فيهم من يذبح للطواغيت {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ} بشيء. {مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} يترفَّق في الشراء، وفي طريقه، وفي دخوله (¬2) المدينة حتى لا يطلع عليه. {وَلَا يُشْعِرَنَّ} يعلمن {بِكُمْ أَحَدًا} من الناس. ... {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}. [20] {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا} يطلعوا {عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم، قيل: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 389)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"تفسير البغوي" (3/ 21)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 310)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 355 - 356). (¬2) "وفي دخوله" ساقطة من "ت".

[21]

كان من عادتهم القتل بالحجارة، وهو أخبث القتل. {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} يردوكم إلى دينهم {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} لن تسعدوا لا في الدنيا ولا في الآخرة إن رجعتم إلى دينهم. ... {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}. [21] {وَكَذَلِكَ} أي: وكما أنمناهم وأيقظناهم لحكمة. {أَعْثَرْنَا} أطلعنا {عَلَيْهِمْ} لحكمة، وهي {لِيَعْلَمُوا} قوم نيدوسيس. {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث {حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} لأن الكفار منهم كانوا ينكرون البعث والحساب، المعنى: ليعلموا أنَّ القادر على إنامة هؤلاء هذه المدة، وإبقائهم بلا غذاء قادر على إحياء الموتى وحشرهم. {إِذْ} أي: واذكر إذ {يَتَنَازَعُونَ} أي: المسلمون والكافرون {بَيْنَهُمْ} بين المتنازعين {أَمْرَهُمْ} أمر الفتية {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} والتنازع في البنيان، فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدًا يصلي فيه الناس؛ لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم كنيسة؛ لأنهم من أهل نسبنا، فلما لم يتحقق المتنازعون ذلك قالوا: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} قرأ السوسي عن ابن عمرو: (أَعْلَمْ بِهِمْ) (أَعْلَمْ بِعِدَّتِهِمْ) وشبهه بإسكان الميم عند الباء إذا تحرك ما قبلها تخفيفًا لتوالي الحركات، فتخفى إذ ذاك بغنة، فإن سكن ما قبلها، ترك ذلك

[22]

إجماعًا (¬1). فغلب المؤمنون كما أخبر تعالى في قوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} وهم نيدوسيس الملك وأصحابه: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ} لنجعلن على باب الكهف. {مَسْجِدًا} فجعلوا ثَمَّ مسجدًا يُصلى عليه. ** {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}. [22] {سَيَقُولُونَ} أي: نصارى نجران حين ناظروا النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدد أصحاب الكهف: {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وهذا قول السيد، وكان يعقوبيًّا، وقيل: اليهود {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} وهذا قول العاقب، وكان نسطوريًّا. {رَجْمًا} مصدرة أي: ظنًّا وحسدًا، وهو يستعار من الرجم؛ كأن الإنسان يرمي الموضع المشكل المجهول عنده يظنه المرة بعد المرة يرجمه؛ عسى أن يصيب {بِالْغَيْبِ} من غير يقين. {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وهذا قول المسلمين، فصدقهم الله تعالى، والواو في قوله: (وثامنهم) واو عطف دخلت في آخر ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 278 - 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 357 - 358).

إخبار عن عددهم؛ لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذه نهاية ما قيل، ولو سقطت، لصح الكلام، ولو كانت فيما قبل من قوله (ورابعهم) (وسادسهم)، لصح الكلام (¬1)؛ لأن الجملة الثانية إذا التبست بالأولى، جاز إثبات الواو وحذفها، ولا يجوز حذف الواو إذا لم ترتبط الثانية بالأولى. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يردَّ علمَ عدتهم إليه عز وجل. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (رَبِّيْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} أخبر تعالى أن عالم ذلك من البشر قليل، والمراد به قوم من أهل الكتاب، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة، وثامنهم كلبهم" (¬3). قال ابن عطية: ويستدل على هذا من الآية بأن القرآن لما حكى قول من قال: ثلاثة وخمسة، قرن بالقول: إنه رجم بالغيب، فقدح ذلك فيها، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدح فيها بشيء (¬4). {فَلَا تُمَارِ} أي: لا تجادل {فِيهِمْ} في أهل الكهف {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} ¬

_ (¬1) قوله: "ولو كانت فيما ... لصح الكلام" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 402)، و"التيسير" للداني (ص: 147)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 358). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 366)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 422)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (6113). (¬4) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 508).

[23]

إلا جدال عالم متيقن (¬1)؛ لأنه تعالى عرفك الحق من ذلك. قرأ الدوري عن الكسائي: (تمار) بالإمالة بخلاف عنه (¬2). {وَلَا تَسْتَفْتِ} أي: لا تسأل {فِيهِمْ} في أصحاب الكهف {مِنْهُمْ} من أهل الكتاب {أَحَدًا} عن قصتهم؛ لأنك خبير بذلك. ... {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا}. [23] ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن ذي القرنين والروح وأهل الكهف، فقال: "غدًا أخبركم"، ولم يستثن، نزل: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} (¬3) أي: لأجل شيء تهم به. {إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} أي: فيما يُستقبل من الزمان، لا اليوم الذي يلي يومك. ... {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}. [24] {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} في الكلام حذف يقتضيه الظاهر، تقديره: إلا أن تقول: إلا أن يشاء الله، أو إلا أن تقول: إن شاء الله، فالمعنى: إلا أن تذكر مشيئة الله. ¬

_ (¬1) "عالم متيقن" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 358). (¬3) انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 331).

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ} بالاستغفار {إِذَا نَسِيتَ} الاستثناء. قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن: معناه إذا نسيت الاستثناء، ثم ذكرت، فاستثن (¬1)، وجوز ابن عباس الاستثناء في اليمين إلى سنة ما لم يحنث، وعن الحسن وطاوس: ما دام في المجلس، واتفق الأئمة الأربعة على أن الاستثناء في اليمين بالله تعالى لا ينفع ويسقط الكفارة إلا أن يكون متصلًا باليمين لفظًا أو حكمًا، واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق (¬2)، فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز، واشترط الشافعي أن ينوي الاستثناء قبل فراغ اليمين، وقال مالك وأحمد: لا يجوز الاستثناء فيهما. واختلفوا في الاستثناء من غير الجنس، فقال أحمد، ومحمد بن الحسن، وزفر: لا يصح، وأكثر الشافعية والمالكية: يلزم صحة استثناء ثوب وغيره، والأشهر عن أبي حنيفة صحته من مكيل وموزون من أحدهما فقط، واستثناء الكل باطل بالاتفاق، وكذا الأكثر من عدد مسمى عند الإمام أحمد، وأبي يوسف، وابن الماجشون من المالكية، وقال الأئمة الثلاثة: يصح، ولا يصح الاستثناء إلا نطقًا إلا في يمين خائف بنطقه بالاتفاق، وإذا تعقب الاستثناء جملًا بواو العطف، وصلح عوده إلى كل واحدة، فللجميع عند الأئمة الثلاثة إلا لمانع؛ كبعد مفردات، وعند أبي حنيفة للأخيرة، والاستثناء من النفي إثبات، وبالعكس عند الشافعية والمالكية والحنابلة؛ خلافًا للحنفية في الأولى، ولبعضهم فيهما. {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي} يدلني. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 23). (¬2) "والعتق" زيادة من "ت".

[25]

{لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} أي: يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد، والإشارة بهذا إلى الاستدراك الذي يقع من ناسي الاستثناء. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (يَهْدِيَني) بإثبات الياء حالة الوصل، وابن كثير ويعقوب بإثباتها في الوصل والوقف، وحذفها الباقون في الحالين (¬1). ... {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)}. [25] {وَلَبِثُوا} يعني: أصحاب الكهف {فِي كَهْفِهِمْ} نيامًا أحياء. {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} هذا إخبار من الله سبحانه عن مدة لبثهم في الكهف، وهو الأصح. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ثَلاَثَ مِئَةِ) بغير تنوين على الإضافة، والباقون: بالتنوين، وأبدلوا السِّنين من (ثَلاَثِ مِئَةٍ) (¬2). ... {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)}. [26] وقوله: {قُلِ} معناه: أن الأمر في مدة لبثهم كما ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 389)، و"التيسير" للداني (ص: 147)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 358 - 359). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 390)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"تفسير البغوي" (3/ 25)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 359).

[27]

ذكرنا، فإن نازعوك فيها، فأجبهم وقل: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} أي: هو أعلم منكم، وقد أخبر بمدة لبثهم. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاث مئة شمسية، والله ذكر ثلاث مئة قمرية، والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مئة سنة ثلاث سنين، فيكون في ثلاث مئة تسع سنين، فلذلك قال: وازدادوا تسعًا" (¬1). {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: هو المختص بعلم ما غاب فيهما. {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي: ما أبصرَ اللهَ وأسمعَه! فلا يغيب عنه شيء {مَا لَهُمْ} أي: لأهل السموات والأرض {مِنْ دُونِهِ} أي: من دون الله {مِنْ وَلِيٍّ} يتولى أمورهم. {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} فليس لأحد أن يحكم بحكم لم يحكم به الله. قرأ ابن عامر: (وَلاَ تشرِكْ) بالخطاب وجزم الكاف على النهي، وقرأ الباقون: بالغيب، ورفع الكاف على الخبر؛ أي: لا يشركُ الله في حكمه (¬2). ... {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)}. [27] ولما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15]، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 26)، و"تفسير ابن كثير" (3/ 80). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 390)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"تفسير البغوي" (3/ 26)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 360).

[28]

نزل: {وَاتْلُ} واقرأ يا محمد {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} أي: القرآن، واعمل به. {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لا نقص في قوله. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: {مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} بإدغام اللام الأولى في الثانية (¬1). {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملجأ يلجأ إليه. ... {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}. [28] ولما طلب عيينة بن حصن الفزاري وأصحابه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إبعاد أبي ذر وأصحابه من الفقراء من مجلسه؛ لرثاثة حالهم؛ ليجلسوا إليه، نزل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} (¬2) أي: احبسها. {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} طرفي النهار. قرأ ابن عامر: {بِالْغَدَاةِ} بضم الغين وإسكان الدال وواو بعدها، وقرأ الباقون: بفتح الغين والدال وألف بعدها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 360). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (15/ 234)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (3/ 27)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 380). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 390)، و"التيسير" للداني (ص: 102)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 361).

[29]

{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} تعالى، لا يبتغون عرضًا من الدنيا. {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} لا تجاوزهم نظرك إلى غيرهم {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: لا تطرد الفقراء لفقرهم ورثاثة حالهم، ولا تمل إلى الأغنياء لجمالهم وغناهم. قرأ أبو عمرو (تُرِيد زينَةَ) بإدغام الدال في الزاي (¬1). {وَلَا تُطِعْ} في طردهم {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} هو عيينة وأصحابه {عَنْ ذِكْرِنَا} عن القرآن والتوحيد {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} في الشرك وطلب الشهوات. {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} سرفًا وتضييعًا. ... {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}. [29] {وَقُلِ} يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا {الْحَقُّ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: الذي أنبأتكم به الحق {مِنْ رَبِّكُمْ} بترك طرد المؤمنين، ثم خيرهم تهديدًا، فقال: {فَمَنْ شَاءَ} الإيمان {فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ} الكفر {فَلْيَكْفُرْ} المعنى: لستُ بطارد المؤمنين لهواكم، فاعملوا ما شئتم. {إِنَّا أَعْتَدْنَا} هيأنا {لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} والسرادق: هو ما أحاط بالبناء من الستر {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} من العطش {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 361).

[30]

هو القيح والدم الأسود {يَشْوِي الْوُجُوهَ} ينضجها {بِئْسَ الشَّرَابُ} المهل {وَسَاءَتْ} قبحت النار {مُرْتَفَقًا} أي: مجلسًا جامعًا، أو متكأ، وأصل الارتفاق: نصبُ المرفق تحت الخد. ... {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)}. [30] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} أي: لا نضيع أعمالهم، بل نثيبهم بها. ... {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}. [31] فإن قيل فأين جواب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قيل: جوابه قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} وأما قوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ} فكلام معترض، والعدن: الإقامة، يقال: عدنَ فلان بالمكان: إذا أقام به، وسميت عدنًا؛ لخلود المؤمنين فيها. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا} يلبسون في الجنة. {مِنْ أَسَاوِرَ} واحدها سوار، وهو ما يُلبس في الذراع {مِنْ ذَهَبٍ} (من) الأولى للابتداء، والثانية للبيان صفة لأساور، وتنكيرها لتعظيم حسنها من الإحاطة به {وَيَلْبَسُونَ} قرأ أبانُ عن عاصم: بكسر الباء،

[32]

والباقون: بفتحها (¬1) {ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ} جمع سندسة، وهو رفيع الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} ثخينه، وهو فارسي معرب {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} جمع أريكة، وهي السرير في الحجلة، وهي ستر كالبيت، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعا؛ كما هو هيئة المتنعمين. قرأ أبو جعفر: (مُتَّكِينَ) و (مُتَّكُونَ) وشبهه بغير همز حيث وقع، والباقون: بالهمز (¬2). {نِعْمَ الثَّوَابُ} أي: نعم الجزاء الجنة {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} مجلسًا ومقرًا. ... {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)}. [32] {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} أي: مثل حال هؤلاء المؤمنين والكافرين بحال. {رَجُلَيْن} وكانا أخوين في بني إسرائيل، مؤمن اسمه يهودا، وكافر واسمه قطروس، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطرا، فاشترى الكافر بها ضياعًا وعقارًا، وصرفها المؤمن في وجوه الخير، وآل أمرهما إلى ما أخبر الله تعالى به في قوله: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} بستانين {مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي: جعلناه محيطًا بالجنتين {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} وسطهما {زَرْعًا} يقتات به؛ أي: جمعت ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (6/ 122)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 362). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 362).

[33]

هذه الأرض أنواع الثمرات وأصناف الأقوات، ولم يكن بين الجنتين موضع خراب. ... {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)}. [33] {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} مبتدأ، خبره {آتَتْ أُكُلَهَا} أعطت ثمرها. قرأ نافع، وابنُ كثير، وأبو عمرٍو: (أُكْلَها) بإسكان الكاف والباقون: بضمها (¬1) {وَلَمْ تَظْلِمْ} أي: تنقص {مِنْهُ شَيْئًا} بل أتت به في غاية الكمال {وَفَجَّرْنَا} شققنا. قرأ يعقوب (وَفَجَرْنَا) بتخفيف الجيم، والباقون: بالتشديد (¬2) {خِلَالَهُمَا} وسطهما {نَهَرًا} يجري بينهما؛ ليزيد بهاؤهما. ... {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)}. [34] {وَكَانَ لَهُ} لصاحب البستان {ثَمَرٌ} قرأ أبو عمرو: (ثُمْرٌ) بضم الثاء وإسكان الميم، وقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وابن عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بضم الثاء والميم، وقرأ أبو جعفرٍ، وعاصم، ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 263). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 31)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 236).

[35]

ويعقوبُ: بفتحهما (¬1)، فمن قرأ بالضم، فهي الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف، جمع ثمار، ومن قرأ بالفتح، جمع ثمرة، وما يخرجه الشجر من الثمار المأكولة. {فَقَالَ} الكافر صاحب البستان {لِصَاحِبِهِ} المؤمن {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} يراجعه في الكلام {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا} لإقباله على الدنيا، وتركه الآخرة {وَأَعَزُّ نَفَرًا} عشيرة. قرأ نافع، وأبو جعفر: (أَنَا أَكْثَرُ) بالمد (¬2). ... {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)}. [35] {وَدَخَلَ} الكافر. {جَنَّتَهُ} التي لا جنة له سواها، ولا حظَّ له في الجنة التي وعد المتقون، ولم يقل: جنتيه؛ لأن المراد ما هو جنته، وأخذ بيد أخيه المسلم يطوف به فيها، ويفاخره بها. {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بالكفر {قَالَ} إعجابًا: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ} تهلك {هَذِهِ} الجنة {أَبَدًا} لطول أمله. ... ¬

_ (¬1): انظر "السبعة" لابن مجاهد (ص: 390)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"تفسير البغوي" (3/ 31)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 310)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 363 - 364). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 364).

[36]

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)}. [36] {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} كائنة. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} كما تزعم. {لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} أي: مرجعًا؛ فإنه لم يعطني الجنة في الدنيا، إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر: (مِنْهُمَا) بميم بعد الهاء على التثنية؛ أي: من الجنتين، وكذلك هي في مصاحفهم، وقرأ الباقون: بحذف الميم على الإفراد، أراد: جنته، وكذلك هي في مصاحفهم (¬1). ... {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)}. [37] {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} المسلم {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} أي: أباك آدم؟ لأنه خلق من تراب. {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي: مَنِيٍّ {ثُمَّ سَوَّاكَ} عدلك وكمَّلك {رَجُلًا} بشرًا ذكرًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 390)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"تفسير البغوي" (3/ 32)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 364 - 365).

[38]

{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)}. [38] {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} قرأ أبو جعفر، وابن عامر، ورويس عن يعقوب: (لَكِنَّا) بإثبات الألف بعد النون في الحالين، وحذفها الباقون وصلًا، ولا خلاف في إثباتها في الوقف إتباعًا للرسم، وأصله: لكن أنا، فحذفت الهمزة طلبًا للتخفيف؛ لكثرة استعماله، ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى، قال الكسائيُّ: فيه تقديم وتأخير، مجازه: لكن الله هو ربي (¬1). {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (بِرَبِّيْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). ... {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)}. [39] {وَلَوْلَا} أي: هَلَّا. {إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} عند دخولها {مَا شَاءَ اللَّهُ} أي: الأمرُ ما شاء الله، وتشكره على إنعامه عليك، وقلت: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} اعترافًا بالعجز على نفسك، والقدرة لله. ثم قال: {إن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} فتكبرتَ عليَّ. قرأ أبو عمرو، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 391)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"تفسير البغوي" (3/ 32)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 365). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 147)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 366 - 367).

[40]

وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (إِذ دخَلْتَ) بإدغام الذال في الدال، والباقون: بالإظهار (¬1). ... {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)}. [40] {فَعَسَى} فلعل {رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ} يعطيني في الآخرة {خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} في الدنيا {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أي: على جنتك {حُسْبَانًا} مرامي، جمع حسبانة، وهي الصواعق {مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا} أرضًا {زَلَقًا} يزلق عليها؛ لملاستها. ... {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)}. [41] {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} غائرًا في الأرض لا سبيل له. {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} أي: إن طلبته لم تجده، تلخيصه: أرجو أن أُرزق أفضلَ من جنتك، وأن تهلك جنتك. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، وقالونُ عن نافع: (إِنْ تَرَنِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬2)، وقرأ نافع، وأبو جعفر: (أَنَا أَقَلَّ) ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 280)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 290)، "ومعجم القراءات القرآنية" (3/ 367). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 391)، و"التيسير" للداني (ص: 147)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 367).

[42]

بالمد كما تقدم في (أَنَا أَكْثَرُ) [الآية:34] , وأثبت نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو الياء في (يُؤْتيَنِي) وصلًا، وأثبتها ابن كثير ويعقوب وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬1). ... {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)}. [42] {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بالهلاك، فهلكت ثمرته. قرأ أبو عمرو: {بِثَمَرِهِ} بضم الثاء وإسكان الميم، وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، ورويس عن يعقوب: بضم الثاء والميم، وقرأ أبو جعفر، وعاصم، وروح عن يعقوب: بفتحهما (¬2). {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} هو التصفيق وتقليبهما ظهرًا لبطن تندمًا {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي: في عمارتها {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطة {عَلَى عُرُوشِهَا} سقوفها، يعني: أن السقوف وقعت، ثم تهدمت الحيطان عليها، فهي خاوية، والحيطان على العروش، وتعطف على (يُقَلِّبُ). {وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: بإسكان الياء، والباقون بفتحها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 391)، و"التيسير" للداني (ص: 147)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 368). (¬2) وقد تقدم قريبًا. (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 147)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[43]

{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)}. [43] قال الله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} جماعة. {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من عذابه. {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} ممتنعًا بنفسه من العذاب. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَكُن لَهُ) بالياء على التذكير للفصل بـ (له)، وقرأ الباقون: بالتاء مؤنثًا؛ لتأنيث (فئة) (¬1). ... {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}. [44] {هُنَالِكَ} أي: في ذلك الوقت، وهي اسم مكان، ويستعمل في الزمان. {الْوَلَايَةُ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بكسر الواو، يعني: السلطان والملك، وقرأ الباقون: بفتح الواو (¬2)، بمعنى: النصرة والتولي؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]. {لِلَّهِ الْحَقِّ} قرأ أبو عمرو، والكسائي: (الْحَقُّ) بالرفع صفة للولاية، وقرأ الباقون: بالجر صفة لله (¬3). ¬

_ = (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 366 - 367). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 392)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 369). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 392)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و"تفسير البغوي" (3/ 34)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 369 - 370). (¬3) المصادر السابقة.

[45]

{هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} أفضل جزاءً لأهل طاعته. {وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي: عاقبة للمؤمنين، المعنى: ثواب الله تعالى للمؤمنين في الآخرة أفضل من غيره. قرأ عاصم، وحمزة، وخلف: (عُقْبا) بإسكان القاف (¬1). ... {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)}. [45] {وَاضْرِبْ} يا محمد {لَهُمْ} لقومك. {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} يعني: المطر {فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي: تكاثف بسبب نزوله {نَبَاتُ الْأَرْضِ} وامتزج الماء بالنبات حتى روي وحَسُن. {فَأَصْبَحَ} عن قريب {هَشِيمًا} أي: مهشومًا، تهشَّم: تكسر. {تَذْرُوهُ} تفرقه. {الرِّيَاحُ} فتذهب به، المعنى: شبه الدنيا بما فيها منها بنبات حسن، فيبس فتكسر، ففرقته الريح، فانعدم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (الرِّيحُ) بغير ألف على الإفراد، وقرأ الباقون: بألف بعد الياء على الجمع (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 392)، و"التيسير" للداني (ص: 143)، و "تفسير البغوي" (3/ 34)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 371). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 371).

[46]

{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من السعادة والشقاوة، والإنشاء والإفناء {مُقْتَدِرًا} قادرًا. ... {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}. [46] ثم زهَّد تعالى فيها، ووبخ المفتخرين بها، فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} التي يفتخر بها عيينةُ وأصحابهُ الأغنياء. {زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يتجمَّل بهما فيها (¬1). {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} عند الجمهور هي قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} من المال والبنين {ثَوَابًا} جزاءً. {وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي: ما يتعلق بها من الأمل. ... {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}. [47] {وَيَوْمَ} أي: واذكر يوم. {نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} وتسييرها: إزالتها من أماكنها، وتسييرها كما يسير السحاب؛ كما قال تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]. قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير: (تُسَيَّرُ) بالتاء وضمها وفتح الياء، ورفع ¬

_ (¬1) في "ت": "فيهما".

[48]

{الْجِبَالَ} مجهولًا، وقرأ الباقون: بالنون وضمها وكسر الياء (¬1)، ونصب (الجبالَ) مفعول (نسير) خبر عن الله تعالى. {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ظاهرة ليس فيها ما يستظل به من شجر ولا بناء، قد ذهب عنها كل ما كان عليها. {وَحَشَرْنَاهُمْ} أي: جمعنا المؤمنين والكافرين إلى الموقف والحساب. {فَلَمْ نُغَادِرْ} أي: نترك {مِنْهُمْ أَحَدًا} إلا قذفته الأرض. ... {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}. [48] {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} أي: مصطفِّين، فثَمَّ يقال لهم: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} , فرادى حفاةً عراةً، لا شيء معكم من المال والولد، ولما خرج من قصة إلى قصة، أضربَ فقال: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} تجازون وتحاسبون فيه، يقوله لمنكر البعث. قرأ الكسائي، وهشام (بَل زعَمْتُمْ) بإدغام اللام في الزاي، والباقون بالإظهار (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 393)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 35)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 372). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 280)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 291)، "ومعجم القراءات القرآنية" (3/ 373).

[49]

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [49] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} الذي كتبت فيه أعمالهم {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا فِيهِ} من الذنوب. {وَيَقُولُونَ} عند معاينة ما فيه من القبائح: {يَاوَيْلَتَنَا} يا هلاكنا! ينادون هلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} تعجبًا من شأنه. وقف أبو عمرو، والكسائي بخلاف عنه على الألف دون اللام من قوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ} في النساء [الآية: 78]، {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} هنا، و {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} في الفرقان [الآية: 7]، {فَمَالِ الَّذِينَ} في سأل [الآية: 36]، ووقف الباقون (فمال) على اللام إتباعًا للخط، بخلاف عن الكسائي (¬1)، قال ابن عطية: ومنعه قوم جملة؛ لأنها حرف جر، فهي بعض المجرور، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء، فلا (¬2)، انتهى. {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} عن جلبها (¬3) {وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} عدَّها وأثبتها. قال ابن عباس: "الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة" (¬4). ¬

_ (¬1) وقد تقدم عنهم ذلك في سورة النساء. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (2/ 81). (¬3) في "ت": "تصدر عن جانبها". (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان" (290)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 137)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7414).

[50]

{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا} من خير وشر {حَاضِرًا} مكتوبًا لا يغيب منه شيء {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} لا يؤاخذ أحدًا بجرم لم يعمله. ... {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}. [50] {وَإِذْ} أي: واذكر يا محمد إذ. {قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} قرأ أبو جعفر (للملائكةُ) بضم التاء حالة الوصل إتباعًا، وروي عنه إشمام كسرتها الضم، والوجهان صحيحان عنه (¬1)، وتقدم الكلام على ذلك، وعلى تفسير السجود مستوفىً في سورة البقرة عند تفسير نظير هذه الآية. {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} استثناء متصل {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} قال ابن عباس: "كان من حي من الملائكة يقال لهم: الجن، خُلقوا من نار السموم" (¬2)، وتقدم في سورة البقرة أنه كان من الملائكة، لا من الجن على الأصح. وقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي: من الملائكة الذين هم خزنة الجنة، قال ابن عطية: ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى؛ ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 210)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 373). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 201).

[51]

إذ كان مقترنًا (¬1) بالأمر والنهي مرسلًا والملك مشتق من الملائكة، وهي الرسالة، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول: (اسجدوا) (¬2)، وقيل: كان من الجن حقيقة، لأن له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم. {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي: خرج عن طاعته. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} الهمزة للإنكار دخلت على فاء العطف، والواو لآدم وذريته، والهاء للخبيث، وتقديره: أفتتخذون إبليس وذريته. {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} أي: أعداء. {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} من الله إبليسُ وذريته. ... {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}. [51] {مَا أَشْهَدْتُهُمْ} أي: ما أحضرتهم، يعني: إبليس وذريته، وقيل: جميع الخلق. قرأ أبو جعفر: (مَا أَشْهَدْنَاهُمْ) بالنون والألف على الجمع للعظمة؛ أي: أحضرناهم، وقرأ الباقون: بالتاء مضمومة من غير ألف على ضمير المتكلم (¬3). {خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} فأستعين بهم على خلقها، وأشاورهم فيها. ¬

_ (¬1) في "ت": "متصرفًا". (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 522). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 40)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 374).

[52]

{وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} عن الدين. {عَضُدًا} أعوانًا أعتضد بهم. قراعة العامة: (وَمَا كُنْتُ) بضم التاء، وقرأ أبو جعفر: بفتحها خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)؛ أي: لا يجوز ذلك الاعتضاد بأحد من المضلين. ... {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)}. [52] {وَيَوْمَ} أي: واذكر يوم {يَقُولُ} قرأ حمزة: (نَقُولُ) بالنون، يخبر تعالى عن نفسه، وقرأ الباقون: بالياء (¬2)؛ أي: يقول هو تعالى ثَمَّ للكفار: {نَادُوا شُرَكَائِيَ} بزعمكم؛ يعني: الأوثان {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم يشفعون لكم. {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا} لم يجيبوا، ولم يشفعوا. {لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} أي: مهلكا بينهم وبين آلهتهم. ... {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}. [53] {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 311)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 291)، و "معجم القراءات القرآنية" (3/ 374). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 393)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 40)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 375).

[54]

وخلف، وورش، وابن ذكوان: (رأى) بإمالة الراء والهمزة حيث وقع، وافقهم أبو عمرو في إمالة الهمزة فقط، وروي عن السوسي أربعة أوجه: فتح الراء والهمزة، وكسرهما، وفتح الراء وكسر الهمزة، وعكسه، وروي عن أبي بكر وجهان: كسر الراء وفتح الهمزة، وكسرهما، وروي عن حمزة: كسر الراء وفتح الهمزة، والباقون بفتحهما جميعًا (¬1). {فَظَنُّوا} أيقنوا {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} داخلوها. {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} معدلًا وانصرافًا. ... {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)}. [54] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} من كل جنس يحتاجون إليه ليتذكروا ويتعظوا. {وَكَانَ الْإِنْسَانُ} والمراد: جميع الناس، وهو الأصح. {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} خصومة، المعنى: أن الإنسان أكثر جدالًا من غيره. عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة ليلة، فقال: "ألا تُصلِّيان؟ " فقال علي: يا رسول الله ا! إن أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال ذلك، ولم يرجع إليه بشيء، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 281)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 291)، "ومعجم القراءات القرآنية" (3/ 375 - 376).

[55]

ثم سمعه علي وهو مولٍّ يضرب فخذه وهو يقول (¬1): {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (¬2). ... {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)}. [55] {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} القرآن والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} من الذنوب. {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ} تقديره: وما منع الناسَ الإيمانَ والاستغفارَ إلا انتظارُ إتيان مثل. {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} يعني: سنتنا في إهلاكهم؛ من الغرق والصيحة والظلة (¬3) والريح وغير ذلك. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} قرأ الكوفيون، وأبو جعفر: (قُبُلًا) بضم القاف والباء، جمع قبيل؛ أي: أصنافًا، وقرأ الباقون: بكسر القاف وفتح الباء، يعني: مقابلة عيانًا (¬4). ¬

_ (¬1) "وهو يقول" ساقطة من "ت". (¬2) رواه البخاري (1075)، كتاب: أبواب التهجد، باب: تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، ومسلم (775)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح. (¬3) في "ت" "الظلمة". (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 393)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 42)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 376).

[56]

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}. [56] {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} للمؤمنين والكافرين. {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} باقتراح الآيات تعنتًا، والسؤالِ عن قصة أهل الكهف. {لِيُدْحِضُوا} ليبطلوا {بِهِ الْحَقَّ} من إدحاض القدم، وهو إزلاقها. {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي} أي: القرآن {وَمَا أُنْذِرُوا} به من العذاب {هُزُوًا} سخرية. قرأ حمزة وخلف (هُزْؤًا) بجزم الزاي حيث وقع، والباقون: بضمها، وحفص: بإبدال الهمزة واوًا (¬1). ... {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}. [57] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} بالقرآن. {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} تولى وترك العمل بها. {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من الكفر والمعاصي. {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية. {أَنْ يَفْقَهُوهُ} أي: لئلا يفهموا القرآن. {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} ثقلًا عن سماع الحق. ¬

_ (¬1) سلفت في تفسير الآية (67) من سورة البقرة.

[58]

{وَإِنْ تَدْعُهُمْ} يا محمد {إِلَى الْهُدَى} والمراد: من حقت عليه الشقاوة {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون. ... {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)}. [58] {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ} للمؤمنين. {ذُو الرَّحْمَةِ} لهم خاصة في الآخرة والرحمة في الدنيا؛ بمعنى: النعمة، فهي تعمُّ المسلمَ والكافرَ. {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ} في الدنيا {بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} فيها. {بَلْ لَهُمْ} أي: لهلاكهم {مَوْعِدٌ} يعني: البعث. {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} منجاة. قرأ أبو جعفر، وورش عن نافع: {يُؤَاخِذُهُمْ} (تُوَاخِذُنِي) بفتح الواو بغير همز، والباقون: بالهمز (¬1). ... {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}. [59] {وَتِلْكَ الْقُرَى} المتقدمة؛ كقرى عاد وثمود وغيرهم. {أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} بالتكذيب؛ كقريش. {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ} أي: لإهلاكهم {مَوْعِدًا} أجلًا. قرأ أبو بكر ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 292)، و"محجم القراءات القرآنية" (3/ 377).

[60]

عن عاصم: (لِمَهْلَكِهِمْ) بفتح الميم واللام التي بعد الهاء، وقرأ حفصٌ عنه: بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر هلك، ومعنى القراءتين: جعلنا لوقت هلاكهم، وقرأ الباقون: بضم الميم وفتح اللام على المعنى الأول، وهو مصدر أهلك يهلك (¬1). ... {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}. [60] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} هو ابن عمران على الأصح {لِفَتَاهُ} وخادمه هو يوشع بن نون عليه السلام، كان يتبعه ويخدمه، ويأخذ منه العلم. {لَا أَبْرَحُ} لا أزال أسير. {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} ملتقى العذب والمالح، [وقيل: المراد: المكان الجامع لملتقى بحري فارس والروم مما يلي الشرق] (¬2)، وقيل غير ذلك، وقالت فرقة: البحران كناية عن موسى والخضر؛ فإن موسى عليه السلام كان بحر علم الظاهر، والخضر بحر علم الباطن، قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف (¬3). قرأ أبو عمرو: (لاَ أَبْرَح حَتَّى) بإدغام الحاء الأولى في الثانية (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 393)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 42 - 43)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 378 - 379). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 528). (¬4) انظر: "غيث النفع" للصفاقسي (ص: 281)، "ومعجم القراءات القرآنية" (3/ 379 - 380).

[61]

{أَوْ أَمْضِيَ} أسير {حُقُبًا} زمانًا غير محدود، وجمعه أحقاب، والحقب أقل زمان، وقيل: ثمانون سنة. ... {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)}. [61] {فَلَمَّا بَلَغَا} أي: موسى وفتاه. {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي: بين البحرين، وهو الموضع الذي وعد موسى أن يجتمع فيه بالخضر، وفيه الصخرة، وفيه عين الحياة التي لا يصيب ماؤها ميتًا إلا حيي. {نَسِيَا حُوتَهُمَا} الذي تزودا به، فأصابه شيء من برد ماء العين، فعاش {فَاتَّخَذَ} الحوت {سَبِيلَهُ} طريقه. قرأ أبو عمرو: (فَاتَّخَذَ سبِيلَهُ) بإدغام الذال في السين في الحرفين (¬1). {فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} مسلكًا يسرب فيه من قوله: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} الرعد: 10]، وإنما كان الحوت مع يوشع، فنسي موسى أن يطلبه ويتعرف حاله، ونسي يوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. وملخص القصة: ما روي عن أُبيِّ بنِ كعب: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أيُّ الناسِ أعلمُ؟ قال: أنا، فعتِبَ الله عليه؛ إذ لم يردَّ العلمَ إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا ربِّ فكيف لي به؟ قال: ¬

_ (¬1) المصدران السابقان.

[62]

تأخذ معك حوتًا، فتجعله في مِكْتل، فحيثما فقدت الحوت، فهو ثَمَّ، فأخذ حوتًا، فجعله في مكتل، ثم انطلق، فانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرةَ التي عند مجمع البحرين، وضعا رؤوسَهما فناما، واضطرب الحوت في المِكْتل حين أصابه بردُ الماء، فخرج منه، فسقط في البحر، فعلم يوشع بأمره، وأمسك الله جِرْيَة الماء عن الحوت، فصار عليه مثلُ الطاق، فصار للحوت سربًا، فلما استيقظ موسى، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقيةَ يومِهما وليلتِهما" (¬1). ... {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)}. [62] {فَلَمَّا جَاوَزَا} مجمع البحرين {قَالَ} موسى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} الغداء: ما يعد للأكل أول النهار، والعشاء: آخره {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا} الذي سرنا بعد مجاوزة الصخرة {نَصَبًا} تعبًا، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به؛ ليتذكر الحوت، ويرجع إلى مطلبه. ... {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)}. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4448)، كتاب: التفسير، باب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ}، ومسلم (2380)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر -عليه السلام-، عن أبي كعب رضي الله عنه.

[63]

[63] {قَالَ} فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} يعني: التي رقد عندها موسى. {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} عند الصخرة. {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} أي: ما أنساني ذكرَه إلا الشيطانُ، وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه. قرأ الكسائي: (أَنْسانِيه) بالإمالة، وقرأ حفص عن عاصم: (أَنْسَانِيهُ إِلَّا) بضم الهاء في الوصل، والباقون: بكسرها (¬1). {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} قال ابن عباس: "أي: اتخذ موسى طريق الحوت في البحر عجبًا، فكان للحوت سربًا، ولموسى وفتاه عجبًا" (¬2)، وقيل: هو جواب من موسى ليوشع حين قال له: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ} فقال موسى: {عَجَبًا} أي: أعجب عجبًا، قال ابن زيد: "أي شيء أعجب من حوت كان دهرًا من الدهور يؤكل منه، ثم صار حيًّا، ويبس له الماء، قال: وكان شق حوت" (¬3). ... {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)}. [64] {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ} أي: أمر الحوت {مَا كُنَّا نَبْغِ} أي: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 394)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 46)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 305)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 380 - 381). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 46).

[65]

نطلب؛ لأنه وعد وجود الخضر حيث ينسى بعض متاعه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، والكسائي: (نَبْغِي) بإثبات الياء وصلًا، وحذفها تخفيفًا وإتباعًا لخط المصحف، وقرأ ابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬1). {فَارْتَدَّا} رجعا {عَلَى آثَارِهِمَا} يقتصَّانِ الأثرَ الذي جاءا فيه. {قَصَصًا} مصدر. ... {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}. [65] فأتيا الصخرة {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} وهو الخضر على الصحيح، واسمه: بليا بن ملكان بن يقطر بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكًا، والخضر لقب له، سمي به لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما سُمِّي خضرًا؛ لأنه جلس على فَروةٍ بيضاءَ، فاهتزَّت تحته خضرًا" (¬2)، وترك الملك زهدًا في الدنيا، وقال مجاهد: سمي خضرًا؛ لأنه إذا صلى اخضَّر ما حوله (¬3)، فأتاه ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 391 - 403)، و"التيسير" للداني (ص: 147)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 381). (¬2) رواه البخاري (3221)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى -عليهما السلام-. (¬3) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 402)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 420).

[66]

موسى وهو مسجًى بثوب مستلقيًا على قفاه، فسلم عليه، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، والخضر نبي عند الجمهور، وقيل: هو عبد صالح غير نبي، قال ابن عطية: والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي إليه (¬1). {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً} نبوة وشفقة {مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وهو علم الباطن اللدني، فقال: يا موسى! أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. ... {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)}. [66] {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى} شرطِ. {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} علمًا يرشدني. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (تُعَلِّمَنِي) بإثبات الياء وصلًا، وابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (¬2)، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: (رَشَدًا) بفتح الراء والشين، والباقون: بضم الراء وإسكان الشين، وهما لغتان (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 529). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 391)، و"التيسير" للداني (ص: 147)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 382). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 394)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 48)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 382).

[67]

{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)}. [67] ولما قال موسى هذا، قال له الخضر: كفى بالتوراة علمًا، وببني إسرائيل شغلًا، فقال موسى: الله أمرني بذلك، فحينئذ {قَالَ} الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} لأنك ترى ما تنكره. قرأ حفص عن عاصم: (مَعِيَ) بفتح الياء في الأحرف الثلاثة، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)}. [68] ثم عذر الخضر موسى في عدم صبره، فقال: {كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} علمًا، قال ابن عطية: كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها، وكان علم موسى عليه السلام علم الأحكام والفتيا بظواهر أقوال الناس وأفعالهم (¬2). ... {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)}. [69] {قَالَ} موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} إنما استثنى؛ لأنه لم يثق من نفسه بالصبر، وهذه عادة الأنبياء والأولياء. قرأ أبو جعفر: (سَتَجِدُنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3). {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} لا أخالفك فيما تأمر. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 402)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 382). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 529). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 420)، و"التيسير" للداني (ص: 147)، =

[70]

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)}. [70] {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي} فلا تبدأني بالسؤال {عَنْ شَيْءٍ} أنكرتَهُ مني. {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} حتى أبتدئك بذكره، وأوضح لك علته. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (تَسْأَلنِّي) بفتح اللام وتشديد النون مكسورة مع إثبات الياء بعدها؛ لأن نون التوكيد المشددة التي يبنى معها (¬1) الفعل على الفتح دخلت على نون الوقاية، فحذفت، وبقيت نون التوكيد مكسورة للياء بعدها، وروي عن ابن ذكوان راوي ابن عامر حذف الياء في الحالين استغناء بالكسرة عنها، وقرأ الباقون: بإسكان اللام وتخفيف النون مكسورة؛ لأنه لم يلحق الفعل نون التوكيد، وأثبتوا الياء في الحالين إتباعًا لخط المصحف (¬2)، فلما شرط الخضر على موسى ذلك، قَبِلَ شَرطَه. ... {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)}. [71] {فَانْطَلَقَا} يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة، فاستحملا صاحبَها، فحملهما بغير أجر. {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} وبلغا اللُّجَّ. ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 383)، وقرأ بفتح الياء -أيضًا- نافع. (¬1) في "ت": "معه". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 47).

[72]

{خَرَقَهَا} الخضر؛ بأن أخذ فأسًا، فاقتلع لوحًا أو لوحين من ألواحها من قبل البحر، فسدَّ موسى الخرقَ بثيابه، و {قَالَ} للخضر: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (لِيَغْرَقَ) بالياء مفتوحة وفتح الراء (أَهُلُهَا) برفع اللام فاعلًا، وقرأ الباقون: بالتاء مضمومة وكسر الراء ونصب (أَهْلَها) مفعولًا خطابًا للخضر (¬1). {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} عظيمًا منكرًا، والإمر في كلام العرب: الداهية، وأصله كل شيء جديد كبير، وروي أن الماء لم يدخلها، وروي أن الخضر أخذ قدحًا من زجاج، ورقع به خرق السفينة. وفي الآية دليل على أن الوصيَّ له أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحًا؛ مثل أن يخاف على ريعه ظالمًا، فيخرب بعضه، قال أبو يوسف: لو طمع السلطان في مال اليتيم، فصالحه الوصيُّ من مال اليتيم على الأقل مما طمع، لم يضمن؛ لأنه مأمور بحفظ مال اليتيم ما أمكنه، والحكم في المسألة كذلك بالاتفاق، والله أعلم. ... {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)}. [72] {قَالَ} الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} تذكير لما ذكره قبل. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 395)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 49)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 293)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 284).

[73]

{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)}. [73] {قَالَ} موسى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} بنسياني. وتقدم مذهب أبي جعفر وورش في (لاَ تُواخِذْنِي) عند قوله: (لَوْ يُواخِذُهُمْ). {وَلَا تُرْهِقْنِي} تغشيني، يقال: رهقه: إذا غشيه. {مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} أي: لا تعسر علي متابعتك. عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الأولى كانت من موسى نسيانًا، والثانية شرطًا، والثالثة عهدًا" (¬1). قرأ أبو جعفر: (عُسُرًا) (يُسُرًا) بضم السين فيهما حيث وقع (¬2). ... {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}. [74] {فَانْطَلَقَا} بعد خروجهما من السفينة. {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا} لم يبلغ الحنث يلعب مع الصبيان، أحسنهم وجهًا، فأضجعه الخضر، فذبحه بالسكين {فَقَتَلَهُ}، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا، ولو عاش، لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2578)، كتاب: الشروط، باب: الشروط مع الناس بالقول، عن أبي بن كعب رضي الله عنه. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 384 - 385). (¬3) رواه مسلم (2661)، كتاب: القدر: باب: معنى: "كل مولود يولد على الفطرة"، عن أبي بن كعب رضي الله عنه.

[75]

{قَالَ} موسى توبيخًا {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (زَكِيَّةً) بغير ألف بعد الزاي وتشديد الياء، وقرأ الباقون: بالألف وتخفيف الياء (¬1)، ومعناهما واحد، مثل: قاسية وقسية؛ أي: طاهرة من الذنوب، وقال أبو عمرو بن العلاء: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية التي أذنبت ثم تابت {بِغَيْرِ نَفْسٍ} لم تقتله قصاصًا. {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} أي: منكرًا، والنكر: أعظم من الإمر. قرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (نُكُرًا) بضم الكاف حيث وقع، والباقون: بإسكانها، ومعناهما واحد (¬2). ... {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)}. [75] {قَالَ} الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} لن تطيق معي صبرًا، وزاد هنا: (لَكَ) توبيخًا لموسى؛ لأنه كان في الأولى معذورًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 395)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و "تفسير البغوي" (3/ 50)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 313)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 385). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 395)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 50)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 385).

[76]

{قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)}. [76] ولذلك {قَالَ} موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} بعد هذه المرة. {فَلَا تُصَاحِبْنِي} وفارقني. قرأ روح عن يعقوب بخلاف عنه: (تَصْحَبْنِي) بفتح التاء وإسكان الصاد وفتح الحاء بغير ألف؛ من الصحبة، وقرأ الباقون: (تُصَاحِبْنِي) بالألف وضم التاء وكسر الحاء (¬1)؛ أي: لا تصحبني نفسك، ولا تزودني شيئًا من علمك. {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} قرأ نافع وأبو جعفر: (لَدُنِي) بضم الدال وتخفيف النون، وروى أبو بكر عن عاصم: بتخفيف النون وإشمام الدال الضم بعد إسكانها، وقرأ الباقون: بضم الدال وتشديد النون (¬2)، فالقراءة بالتخفيف بحذف النون الأصلية، والإتيان بنون الوقاية، ومن شدد أدخل نون الوقاية على الأصلية، فأدغم. المعنى: قد اتضح عذرك عندي في مفارقتي؛ لأني لم أحفظ وصيتك. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 51)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 313)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 293)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 286). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 396)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (3/ 51)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 313)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 386 - 387).

[77]

قال - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم (¬1) الله أخي موسى، استحيا فقال ذلك" (¬2). وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحمة الله علينا وعلى موسى -وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه- لولا أنه عجَّل، لرأى العَجَبَ، ولكنه أخذته من صاحبه ذَمَامةٌ قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} فلو صبر، لرأى العجب" (¬3). ... {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)}. [77] {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} هي إنطاكية {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} طلبا منهم ضيافة، وأعاد ذكر الأهل تأكيدًا {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} امتنعوا من إطعامهما. قال قتادة: شر القرى التي لا تضيف الضيف (¬4). وعن أبي هريرة قال: أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما، فدعا لنسائهم، ولعن رجالهم (¬5). ¬

_ (¬1) في "ت": "رحم". (¬2) انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 305). (¬3) رواه مسلم (2380)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر -عليه السلام-، عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 52). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه.

ومذهب أحمد: يجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به يومًا وليلة بشرط أن يكون مجتازًا في قرية لا مصر، فإن أبي، فللضيف طلبه به عند الحاكم، فإن تعذر، جاز له الأخذ من ماله، ومن مر بثمر في شجر لا حائط عليه ولا ناظر، فله أن يأكل منه ولا يحمل، وكذا الحكم في الزرع، ولبن في الماشية، وهذا من مفردات مذهبه؛ خلافًا للثلاثة. {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} يسقط، هذا من مجاز كلام العرب؛ لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه: قرب ودنا من السقوط، وكان الخضر رأى حائطًا ارتفاعه مئة ذراع قد قارب السقوط، فمسحه بيده. {فَأَقَامَهُ} عدله {قَالَ} موسى: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب: (لَتَخِذْتَ) بتخفيف التاء الأولى وكسر الخاء من غير ألف وصل؛ من تَخِذَ يَتْخَذُ: عمل شيئًا، على وزن لعلمت، فابن كثير، ورويس عن يعقوب يظهران الذال عند التاء، وأبو عمرو يدغمها، وقرأ الباقون: بتشديد التاء الأولى وفتح الخاء وألف وصل، وزن لاكتسبت، فيكون اتخذ افتعل، فحفص عن عاصم يظهر الذال، والباقون يدغمونها، وهما لغتان، مثل اتبع وتبع (¬1)، المعنى: أن موسى قال للخضر: قد علمت حاجتنا إلى الطعام، فلو طلبت على عملك جعلًا، لدفعنا به ألم الجوع. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 396)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (3/ 52)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 15 - 16 و 314)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 294)، و"معجم القراءات القرآنية" (3/ 388 - 389).

[78]

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)}. [78] فثم {قَالَ} الخضر {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي: لا أصحبك بعد هذا. {سَأُنَبِّئُكَ} سوف أخبرك. {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} وأنكرتَه عليّ، فقال له موسى: أخبرني بعلم ما لم أستطع عليه صبرًا قبل المفارقة. ... {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)}. [79] فقال: {مَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} لضعفاء، وكانوا عشرة إخوة: خمسة زَمْنى، وخمسة {يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} مؤاجرة؛ طلبًا للتكسب {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} أجعلها ذات عيب {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أي: قدامهم ملك كافر اسمه الجلندا {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}. روي أن الخضر اعتذر إلى القوم، وذكر لهم شأن الملك الغاصب، ولم يكونوا يعلمون بخبره، وقال: أردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا، أصلحوها فانتفعوا بها. والغصب: هو الاستيلاء على مال الغير قهرًا بغير حق، وهو محرم بالاتفاق. واختلفوا في الصلاة في المغصوب، فقال أحمد: لا تصح، ولا يسقط

[80]

الطلب بها، وقال مالك والشافعي: يصح مع التحريم، فلا يثاب، وقال الحنفية: تكره، وكذا حكم الحج وسائر العبادات مما له حكم من صحة أو فساد، والعقود كالبيع والنكاح ونحوهما. {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)}. [80] {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا} خِفْنا. {أَنْ يُرْهِقَهُمَا} يغشيهما. {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} بأن يطغى عليهما بعقوقهما، أو يحملهما حبُّه على متابعته، وذلك طغيان وكفر. ... {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)}. [81] {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا} يعوضهما. {رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} صلاحًا وتقوى. {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} رحمة وعطفًا، ونصبه على التمييز، فأبدلهما الله تعالى جارية تزوجت نبيًّا، فولدت نبيًّا، فهدى الله به أمة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (يُبَدِّلَهُمَا) بفتح الباء وتشديد الدال من بَدَّل، وقرأ الباقون: بإسكان الباء وتخفيف الدال من أبدل، وهما لغتان (¬1)، وفرق بعضهم ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 397)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (3/ 53)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[82]

فقال: التبديل: تغيير شيء أو تغيير حاله وعينُ الشيء قائمة، والإبدال: رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه، وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (رُحُمًا) بضم الحاء، والباقون: بجزمها، ومعناهما واحد (¬1). ... {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}. [82] {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} وكان اسمهما أصرم وصريم. {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان ذهبًا وفضة" (¬2)، وعن ابن عباس: "كان لوحًا من ذهب مكتوب في أحد جانبيه: عجبًا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبًا لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، عجبًا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب، عجبًا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبًا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الآخر: أنا الله وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير، وأجريته على يديه، والويل لمن ¬

_ = (2/ 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 8). (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 316)، وباقي المصادر في التعليق السابق. (¬2) رواه الترمذي (3152)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الكهف، وقال: غريب، والحاكم في "المستدرك" (3397).

خلقته للشر، وأجريته على يديه" (¬1)، وهذا قول أكثر المفسرين. {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فحُفِظا بصلاح أبيهما في أنفسهما ومالهما، وقيل: كان الجد السابع. {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} إيناس رشدهما {وَيَسْتَخْرِجَا} حينئذ {كَنْزَهُمَا رَحْمَةً} نعمة {مِنْ رَبِّكَ} قال أولًا: {فَأَرَدتُّ} ثم قال: {فَأَرَدنَا}، ثم قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} توسعًا في اللغة، قال بعضهم: لما قال الخضر: (فأردت) أُلهم: من أنت حتى تكون لك إرادة؟! فجمع في الثانية، فأُلهم: من أنت وموسى حتى تكون لكما إرادة؟ فخص في الثالثة الإرادة لله (¬2) تعالى؛ ليعلم أن الكل إليه. {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي: باختياري، بل بأمر الله وإلهامه. {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ} أي: ما لم تُطق. {عَلَيْهِ صَبْرًا} اسطاع واستطاع بمعنى واحد. ولما فارقه موسى، قال: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتُحدِّثَ به، واطلبه لتعمل به. واختلف في حياة الخضر، فكثير من العلماء ذهب إلى أنه حي، وهو يصلي الجمعة في خمسة مساجد: في المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، ومسجد قباء، ومسجد الطور، في كل مسجد جمعة، ويأكل في كل جمعة أكلتين من كمأة وكرفس، ويشرب مرة من ماء ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "الزهد" (2/ 214). (¬2) في "ت": "بالله".

لا زمزم، ومرة من جب سليمان الذي ببيت المقدس، ويغتسل من عين سلوان. قال الشيخ أبو محمد نصر البندنيجي: سألت الخضر: أين تصلي الصبح؟ فقال: عند الركن اليماني، قال: وأقضي بعد ذلك شيئًا كلفني الله تعالى قضاءه، ثم أصلي الظهر بالمدينة، ثم أقضي شيئًا كلفني الله قضاءه، وأصلي العصر ببيت المقدس، حكى ذلك صاحب "مثير الغرام" (¬1) وغيره. وسبب حياته -على ما حكاه البغوي-: أنه شرب من عين الحياة (¬2). وروى المشرف بسنده، وحكاه غيره: أن الخضر وإلياس -عليهما السلام- يصومان شهر رمضان ببيت المقدس (¬3)، ويوافيان الموسم كل عام (¬4)، وإلياس من أنبياء بني إسرائيل، وذهب قوم إلى أن الخضر ميت؛ لقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]، وقال - صلى الله عليه وسلم - بعدما صلى العشاء ليلة: "أَرَأَيْتَكمْ ليلتكم هذه؛ فإن رأس مئة سنة لا يبقى ممن هو اليوم ¬

_ (¬1) اسم "مثير الغرام" أطلق على ثلاثة كتب، وهي: 1 - "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن" لأبي الفرج ابنِ الجوزي، و 2 - "مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام" لشهاب الدين المقدسي المتوفى (765)، و 3 - "مثير الغرام في زيارة الخليل عليه السلام" وإسحاق بن إبراهيم التدمري المتوفى (833). انظر: "كشف الظنون" (2/ 1589 - 1590). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 55). (¬3) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 196): رواه أحمد في "الزهد" بإسناد حسن عن أبي رَواد، وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (1/ 12): وهو معضَل. (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 196): رواه الدارقطني في "الأفراد" من طريق عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا، وفي إسناده محمد بن أحمد بن زيد، وهو ضعيف.

[83]

على ظهر الأرض أحد" (¬1)، ولو كان الخضر حيًّا، لكان لا يعيش بعده. ... {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}. [83] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} هو الإسكندر الذي ملك الدنيا، وكان في زمن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل: اسمه عبد الله، أو مرزبان، وكان عبدًا صالحًا، أحب الله فأحبه الله، وناصح الله فناصحه الله، وهو من ذرية نوح عليه السلام، وسمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس: مشرقها ومغربها، وقيل: بعثه الله إلى قومه، ولم يكن نبيًّا، فأمرهم بالتقوى، فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله تعالى، ثم بعثه مرة أخرى إليهم، فضربوه على قرنه فمات، فأحياه، فسمي ذا القرنين، وقيل غير ذلك. قال ابن عطية: أحسن الأقوال أنه كان ذا ظفرتين من شعرهما قرناه، فسمي به، والظفائر قرون الرأس (¬2). وروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان، وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، والإسكندر، والكافران: نمرود، وبخت نصر. وتوفي الإسكندر بناحية السواد بشهرزور بعد أن غزا الهند حتى انتهى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (116)، كتاب: العلم، باب: السهر في العلم، ومسلم (2537)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم"، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 538).

[84]

إلى البحر المحيط، فهال ذلك ملوك المغرب، فوفدت عليه رسلهم بالانقياد والطاعة، ودخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي وبحر الشمس في الجنوب في أربع مئة رجل من أصحابه يطلب عين الحياة، فلم يصبها، فسار فيه ثمانية عشر يومًا، وبنى اثنتي عشرة مدينة سماها كلها إسكندرية، وكانت مملكته اثنتي عشرة سنة، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: أربع عشرة، وكان عمره ستًّا وثلاثين سنة، كذا نقله بعض المؤرخين، وقال الكواشي: قالوا: وعاش ألفًا وست مئة سنة، وحكى البيضاوي قولًا أن سبب تسميته بذي القرنين؛ لأنه انقرض في أيامه قرنان من الناس، والله أعلم (¬1). {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ} سأذكر لكم {مِنْهُ} من خبره {ذِكْرًا} خبرًا. ... {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)} [الكهف: 84]. [84] {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} بأن قويناه. {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} أي: من أسباب كل شيء و (¬2) أراده. ... {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} [الكهف: 85]. [85] {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أي: اقتفى طريقًا موصلًا إلى مراده. قرأ الكوفيون، وابن عامر: (فَأَتْبَعَ) (ثُمَّ أَتْبَعَ) بقطع الهمزة وإسكان التاء في المواضع الثلاثة، أي: أدرك، ولحق، وقرأ الباقون، وهم أهل الحجاز والبصرة: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البيضاوي" (3/ 519). (¬2) "و" زيادة من "ت".

[86]

بوصل الهمزة وتشديد التاء في الثلاثة (¬1)؛ أي: سار، يقال: ما زلت أتبعه حتى اتبعته؛ أي: ما زلت أسير خلفه حتى لحقته، والمعنى: سلك طريقًا نحو الغرب. ... {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)} [الكهف: 86]. [86] {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (حَمِئَةٍ) بغير ألف بعد الحاء وهمز الياء؛ أي: ذات حمأة، وهو الطين الأسود، وقرأ الباقون: (حَامِيَةٍ) بالألف وفتح الياء من غير همز (¬2)، أي: حارة، ولا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين. وسأل معاوية كعب الأحبار: كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين، كذلك نجده في التوراة (¬3). {وَوَجَدَ عِنْدَهَا} أي: عند تلك العين. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 397)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (3/ 57)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 9 - 11). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 398)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (3/ 57)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 9 - 10). (¬3) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (2/ 412)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (2/ 197 - 198). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 450 - 451).

[87]

{قَوْمًا} كافرين، لباسهم جلود الوحش، وطعامهم ما لَفَظَه البحرُ، فخيَّره الله بين أن يعذبَهم، أو يدعوهم إلى الإيمان كما قال تعالى: {قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ} والمراد منه: الإلهام، لأنه لم يكن نبيًّا على الأصح {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} يعني: إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام. {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} عفوًا؛ أي: خيَّرناك في قتل من لم يؤمن، وفي العفو عنه، أو الأسر بشرط الإيمان. ... {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)} [الكهف: 87]. [87] {قَالَ} الإسكندر: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أشرك {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} بالقتل في الدنيا. {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} في الأخرى {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} شديدًا. ... {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)} [الكهف: 88]. [88] {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} قرأ يعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (جَزَاءً الْحُسْنَى) بالنصب والتنوين وكسره للساكنين؛ أي: فله الحسنى جزاء، ونصب (جَزَاءً) على المصدر، وقرأ الباقون: بالرفع من غير تنوين على الإضافة (¬1)، فالحسنى: الجنة، وأضاف الجزاء إليها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 398)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، =

[89]

{وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} أي: لا نأمره بما يصعب عليه، بل بما يسهل. وتقدم مذهب أبي جعفر في ضم السين من (يُسُرًا)، عند قوله: (عُسُرًا). ... {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)} [الكهف: 89]. [89] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي: سلك طريقًا ومنازل. ... {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)} [الكهف: 90]. [90] {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} أي: موضع طلوعها. {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} هم الزنج. {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} يخصهم؛ لأن أرضهم لا تحمل بناءً ولا شجرًا، ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوعها، ويظهرون منها عند ارتفاعها. روي أنه وصل إليهم رجل، فرأى أناسًا يفرش أحدهم أذنه ويلبس الأخرى، قال: فبينا أنا عندهم، إذ سمعت شيئًا كالصلصلة، فغشي علَيَّ، فأفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء، إذا هي عليه كهيئة الزيت، فأدخلونا سربًا لهم، فلما ارتفعت، خرجوا إلى البحر يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس، فينضج لهم. ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 315)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 10).

[91]

{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)} [الكهف: 91]. [91] {كَذَلِكَ} أي: كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس، حكم في الذين عند مطلعها كذلك. {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} بما عنده من الجند والآلات والعدد والأسباب {خُبْرًا} علمًا. ... {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)} [الكهف: 92]. [92] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} يعني: طريقًا ثالثًا معترضًا بين المشرق والمغرب آخذًا من الجنوب إلى الشمال. ... {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)} [الكهف: 93]. [93] {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وحفص عن عاصم: (السَّدَّيْنِ) بفتح السين، والباقون: بضمها، وهما لغتان معناهما واحد (¬1)، وقال عكرمة: ما كان من صنعة بني آدم، فهو السد -بالفتح-، وما كان من صنع الله، فهو بالضم- (¬2)؛ لأن السد -بالضم- فعل مبني لمفعول، وبالفتح مصدر، وهما الجبلان بين أرمينيا وأذربيجان، فلما ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 399)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (3/ 59)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 12). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 459).

[94]

وصل إلى السدين {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} أي: من ورائهما. {قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يُفْقِهُونَ) بضم الياء وكسر القاف على معنى: لا يُفهمون غيرهم قولًا، وقرأ الباقون: بفتح الياء والقاف (¬1)؛ أي: لا يَفهمون كلامَ غيرهم، قال ابن عباس: "لا يفهمون كلام أحد، ولا يفهم الناس كلامهم" (¬2). ... {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)} [الكهف: 94] [94] {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ} أي: قال مترجمهم: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قرأ عاصم: بهمزهما، والباقون: بغير همز تخفيفًا، وهما اسمان أعجميان مثل هاروت وماروت، وهم من ولد يافث بن نوح، والقراءة بالهمز وعدمه لغتان (¬3)، أصلها من أجيج النار، وهو ضوؤها وشررها، شبهوا به؛ لكثرتهم وشدتهم. قال المؤرخون: أولاد نوح ثلاثة: سام، وحام، ويافث، فسام ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 399)، و"التيسير" للداني (ص: 145)، و"تفسير البغوي" (3/ 59)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 315)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 12). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 59). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 399)، و"التيسير" للداني (ص: 145 - 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 60)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 13).

أبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج. عن ابن عباس: "هم عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء" (¬1)؛ لأنه لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه يحملون السلاح، فمنهم من طوله مئة وعشرون ذراعًا، أو خمسون، ومنهم من طوله وعرضه كذلك، ومنهم من يلتحف بأذنه ويفترش الأخرى. وروي أنهم على مقدار واحد ذكرهم وأنثاهم، طول أحدهم مثل نصف الرجل المربوع منا. قال علي -رضي الله عنه-: "منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا، وأنياب وأضراس كأضراس السباع، لهم شعر في أجسادهم" (¬2). فلما وصل ذو القرنين إلى أولئك القوم، قالوا له شكاية: إن يأجوج ومأجوج. {مفسدون في الأرض} بالقتل والتخويف وإتلاف الزروع وفعل الخبيث. {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} جعلًا نخرجه من أموالنا. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (خَرَاجًا) بفتح الراء وألف بعدها، وهو المال المضروب على الأرض يؤدى في كل مدة، وقرأ الباقون: بإسكان الراء من غير ألف، مصدر خرج (¬3)، وهو الجعل كما تقدم أولًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 60)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (5/ 190). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 61)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (5/ 190). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 400)، و"التيسير" للداني (ص: 146)، =

[95]

{عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} حاجزًا لئلا يصلوا إلينا. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (سَدًّا) بفتح السين، والباقون: بضمها، وهما لغتان (¬1). ... {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)} [الكهف: 95]. [95] {قَالَ مَا مَكَّنِّي} أي: قَوَّاني {فِيهِ رَبِّي} هو من العلم وطلب ثوابه والمال. {خَيْرٌ} هو أفضل مما تعطونني أنتم. قرأ ابن كثير: (مَكَنَنِي) بنونين مخففتين، الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة على الأصل، والباقون: بواحدة مكسورة مشددة على الإدغام (¬2)، المعنى: ثواب الله خير من ثوابكم. {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي: آلة أتقوى بها {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} هو أكبر من السد، فجاؤوه بذلك، فحفر ما بين السدين حتى بلغوا الماء. ... ¬

_ = و"تفسير البغوي" (3/ 62)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 315)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 14). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 399)، و"التيسير" للداني (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 59)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 14). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 455)، و"التيسير" للداني (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 62)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 14).

[96]

{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)} [الكهف: 96]. [96] ثم قال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى} قِطعه، جمع زبرة. قرأ أبو بكر عن عاصم: (رَدْمًا ائْتُونِي) بكسر التنوين ووصل التنوين مع همزة ساكنة بعده، من باب المجيء، وإذا ابتدأ، كسر همزة الوصل، وأبدل الهمزة الساكنة بعدها ياءً، والباقون: بقطع الهمزة ومدة بعدها في الحالين؛ من الإعطاء، وورش على أصله يلقي حركة الهمزة على التنوين قبلها (¬1)، فجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد بعضها فوق بعض، وجعل بينهما الحطب والفحم. {حَتَّى إِذَا سَاوَى} قرأ أبان عن عاصم: (سَوَّى) بتشديد الواو من غير ألف، وقرأ الباقون: (سَاوَى) بالألف وتخفيف الواو (¬2)؛ أي: ملأ. {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن عامر: بضم الصاد والدال، وروى أبو بكر عن عاصم: بضم الصاد وإسكان الدال، والباقون: بفتحهما، وكلها لغات (¬3)، معناها: الناحيتان من الجبلين؛ لأنهما يتصادفان؛ أي: يتقابلان، فلما ملأ ما بينهما بالزبر والحطب، ووضح حوله منافخ. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 400)، و"التيسير" للداني (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 63)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 15). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 63). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 401)، و"التيسير" للداني (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 63)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 16).

[97]

{قَالَ انفُخُوا} فنفخوا النار. {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ} أي: الحديد {نَارًا} أي: كالنار. {قَالَ آتُونِي} قرأ حمزة، وأبو بكر بخلاف عنه: (قالَ ائْتُوني) بوصل الألف وهمزة ساكنة؛ من باب المجيء، وإذا ابتدأ ا، كسرا همزة الوصل، وأبدلا الهمزة الساكنة ياء، والباقون: بقطع الهمزة ومدة بعدها في الحالين من الإعطاء (¬1) {أُفْرِغْ} أصب. {عَلَيْهِ قِطْرًا} نحاسًا مذابًا، فجعلت النار تأكل الحطب، وتصير النحاس مكان الحطب، حتى لزم الحديد النحاس، وكان طوله مئة فرسخ، وعرضه خمسين ذراعًا، وارتفاعه مئتي ذراع، وقيل غير ذلك. ... {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)} [الكهف: 97]. [97] {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي: يعلوه من فوقه؛ لملاسته ورفعته. قرأ حمزة (فما اسطَّاعُوا) بتشديد الطاء، يريد: فما استطاعوا، فأدغم التاء في الطاء، وجمع بين ساكنين وصلًا، قال ابن الجزري: والجمع بينهما في مثل ذلك (¬2) جائز مسموع، وقرأ الباقون: بتخفيفها على حذف (¬3) التاء {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} خَرْقًا؛ لصلابته وسمكه. ... ¬

_ (¬1) انظر: "معجم القراءات القرآنية" (4/ 17)، وباقي المصادر في التعليق السابق. (¬2) "في مثل ذلك" زيادة من "ت". (¬3) المصادر السابقة.

[98]

{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} [الكهف: 98]. [98] فلما فرغ منه {قَالَ هَذَا} أي: السد {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} علي وعليكم؛ لعدم خروجهم بسببه {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي: وقت خروجهم. {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قرأ الكوفيون: (دَكَّاءَ) بالمد والهمز من غير تنوين؛ أي: أرضًا ملساء، والباقون: بالتنوين من غير همز (¬1)؛ أي: مستويًا مع وجه الأرض. {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} واجبًا بالثواب والعقاب وغيرهما، هذا آخر كلام ذي القرنين. روي أنهم يحفرون كل يوم الردم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غدًا، فيعيده الله كما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله، فيعودون وهو كهيئته، فيحفرونه، ويخرجون، مقدمتُهم بالشام، وساقتهم بخراسان، فيشربون المياه، وينحصر الناس منهم في حصونهم، ولا يقدرون على إتيان مكة والمدينة وبيت المقدس، ويرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء، فيرسل الله تعالى عليهم دودًا في أعناقهم، فيهلكون جميعًا، فيرسل الله عليهم طيرًا، فتلقيهم في البحر، ويرسل مطرًا يغسل الأرض، وخروجهم يكون بعد خروج الدجال وقتلِ عيسى إياه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 402)، و"التيسير" للداني (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 63)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 18).

[99]

{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)} [الكهف: 99]. [99] {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي: بعض يأجوج ومأجوج من وراء السد يوم سد {يَمُوجُ} يضطرب ويختلط {فِي بَعْضٍ} لكثرتهم وعدم خروجهم. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة {فَجَمَعْنَاهُمْ} أي: جميع الخلائق يوم القيامة للحساب. {جَمْعًا} في مكان واحد. ... {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} [الكهف: 100]. [100] {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} أي: أظهرناها. {يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} حتى يشاهدوها عيانًا. ... {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)} [الكهف: 101]. [101] {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} عن القرآن والإيمان به، وقوله (أعينهم) كناية عن البصائر، لا عين الجارحة. {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} لذكري؛ لإفراط صممهم عن الحق. ... {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)} [الكهف: 102]. [102] {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الاستفهام للإنكار {أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي} أي: ملائكتي وعيسى وعزيرًا والشياطين {مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} المعنى: أفظن

[103]

الكافرون اتخاذهم عبادي من دوني أربابًا ينفعهم، أو لا أعذبهم. {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} منزلًا، المعنى: جهنم معدة للكافرين كالنزل المعد للضيف. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (دُونِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1)، وقرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (أَوْلِيَاءَ إِنَّا) بتحقيق الهمزتين، والباقون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تجعل بين بين (¬2). ... {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} [الكهف: 103]. [103] {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} نصب على التمييز؛ أي: بالذين هم أشد الخلق وأعظمهم خسرانًا فيما عملوا. ... {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 104]. [104] {الَّذِينَ ضَلَّ} ضاع {سَعْيُهُمْ} عملهم الخير. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لكفرهم؛ كالرهبان؛ فإنهم خسروا دنياهم وآخرتهم. {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} عملًا ينفعهم؛ لعجبهم، واعتقادهم ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 147)، و"الكشف" لمكي (2/ 82)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 296)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 19). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 283)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 296)، "ومعجم القراءات القرآنية" (4/ 19).

[105]

أنهم على الحق. قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر: (يَحْسَبُونَ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (¬1). ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} [الكهف: 105]. [105] {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} بالقرآن {وَلِقَائِهِ} بالبعث {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطل اجتهادهم بكفرهم، فلا يثابون على أعمالهم. {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أي: نزدريهم، فلا يكون لهم مقدار، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} " (¬2). ... {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)} [الكهف: 106]. [106] {ذَالِكَ} المذكور من هبوط أعمالهم وخسة قدرهم، مبتدأ {جَزَآؤُهُم} مبتدأ ثان، خبره {جَهَنَّمُ} وهما خبر (ذلك). {بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} سخرية. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 283)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 291)، "ومعجم القراءات القرآنية" (4/ 20). (¬2) رواه البخاري (4452)، كتاب: التفسير، باب: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}، ومسلم (2785)، في أول كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[107]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107] [107] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ} في علم الله. {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} وهو وسط الجنة، ومعناه: البستان. {نُزُلًا} قال كعب: "ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر" (¬1). ... {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} [الكهف: 108]. [108] {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ} لا يطلبون {عَنْهَا حِوَلًا} تحويلًا. ... {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]. [109] {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ} أي: ماؤه {مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} تكتب به، وهي وعده لأوليائه، ووعيده لأعدائه وحكمه، وسمي المداد مدادًا؛ لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء. {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} أي: فني ماؤه {قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ} [أي: تفرغ]. {كَلِمَاتُ رَبِّي} أي: علمه وحكمه. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَنْفَد) بالياء على التذكير لتقديم الفعل، والباقون: بالتاء على التأنيث (¬2) ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في "تفسيره" (16/ 36). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 402)، و"التيسير" للداني (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 70)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[110]

{وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} بمثل ماء البحر {مَدَدًا} زيادة عليه، لينفد أيضًا، ولم تنفد (¬1) كلماته تعالى، ونصبه تمييز. ... {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. [110] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} آدمي {مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} منزه عما لا يليق به، وكان كفرهم بعبادة الأصنام، فلذلك خصص هذا الفعل فيما أوحي إليه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} يأمل حسن لقائه. {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} خالصًا {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} لا يرائي بعمله. قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أعمل العمل لله تعالى، فإذا اطلع عليه، سرني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا يقبل ما شورك فيه"، فنزلت (¬2). وعنه -عليه السلام-: "اتقوا الشِّركَ الأصغرَ"، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء" (¬3). ¬

_ = (2/ 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 21). (¬1) في "ت": "لنفذ أيضًا، ولم تنفذ". (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 171). قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 313)، غريب. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 428)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6831)، عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه-. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4301)، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج -رضي الله عنه-.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من حفظ عشر آياتٍ من أول سورة الكهف، عُصِمَ من فتنة الدجال" (¬1). وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورةَ الكهف، فهو معصومٌ ثمانيةَ أيامٍ من كل فتنة، فإن خرج الدجال في الأيام الثمانية، عصمه الله من فتنة الدجال" (¬2). وروي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، فذكر الدجال، فقال: "آتٍ بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء ثلث قطرها، والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها، والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله، والأرض نباتها كله، فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلا هلك؛ وإن من أشد فتنته أن يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك، ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعًا، وأعظمه أسنمة، قال: ويأتي الرجل قد مات أخوه، ومات أبوه، فيقول: أرأيت إن أحييت لك أباك، وأحييت لك أخاك، ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له الشياطين (¬3) نحو أبيه وأخيه، قالت: ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، ثم رجع والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم به، فأخذ بلحمتي الباب، فقال: مهيم أسماء؟ قلت: يا رسول الله! لقد خلعت ¬

_ (¬1) رواه مسلم (809)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (2/ 49 - 50)، عن علي -رضي الله عنه-. (¬3) في "ت": "الشيطان".

أفئدتنا بذكر الدجال، قال: إن يخرج، فأنا حجيجه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن، قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله! والله إنا لنعجنن عجيننا، فما نخبزه حتى نجوع، فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال: يجزئهم ما يجزئ أهل السماء من التسبيح والتقديس" (¬1). ومما ورد في أمر الدجال: ما روي عن الضحاك أنه قال: "الدجال ليس له لحية، وافر الشارب، طول وجهه ذراعان، وقامته في السماء ثمانون ذراعًا، وعرض ما بين منكبيه ثلاثون ذراعًا، ثيابه وخفاه وسرجه ولجامه بالذهب والجوهر، وعلى رأسه تاج مُرصَّع بالذهب والجوهر، هيئته المجوس، وكلامه الفارسية، تطوى له الأرض ولأصحابه طيًّا طيًّا، يطأ مجامعها، ويرد مناهلها إلا المساجد الأربعة: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الطور" (¬2). وفي الحديث الشريف: أن عينه اليمنى طافية (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 455)، وعبد الرزاق في "المصنف" (6/ 455)، والطيالسي في "مسنده" (1633)، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 158). (¬2) لم أقف عليه، غير أن الألوسي في "روح المعاني" (15/ 11) قال: فقد أخرج أحمد في "المسند" أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد: مسجد المدينة، ومسجد مكة، والأقصى، والطور ... اهـ. والصحيح الثابت أنه "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نَقْبٌ إلا عليه الملائكة صافِّين يحرسونها .. " كما رواه البخاري (1782)، كتاب: فضائل المدينة، باب: "لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم (2943) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجسَّاسة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (3256)، كتاب: الأنبياء، باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ...}، =

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: "إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكنني سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبيٌّ لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور" (¬1). وعن خالد بن معدان قال: عصمة المؤمنين من المسيح الدجال بيت المقدس (¬2). وعن ربيعة بن يزيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزالون تقاتلون الكفار حتى تقاتل بقيتكم جنود الدجال ببطن الأردن، بينكم النهر، أنتم غربيه، وهم شرقيه"، قال ربيعة: فقال المحدث من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فما سمعت بنهر الأردن إلا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). والأردن هو نهر الشريعة المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ ¬

_ = ومسلم (169)، كتاب: الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والدجال، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬1) رواه البخاري (2892)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كيف يعرض الإسلام على الصبي، ومسلم (169)، (4/ 2245)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر ابن صياد. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (19447)، عن أبي الزاهرية مرفوعًا: "معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومعقلهم من الدجال ببيت المقدس ... ". (¬3) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2458)، والطبراني في "مسند الشاميين" (638)، والديلمي في "مسند الفردوس" (7066)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (62/ 323)، عن نهيك بن صريم -رضي الله عنه-.

مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249]، وهو شرقي بيت المقدس، ومسافته عنه نحو يوم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفًا عليهم التيجان" (¬1). ويرويه أبو أمامةَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومع الدجال يومئذ سبعون ألف يهودي كلهم ذو تاج وسيف مُحَلَّى" (¬2). وروي أن نبي الله عيسى - صلى الله عليه وسلم - يأخذ من حجارة بيت المقدس ثلاثة أحجار: الأول منها يقول: باسم إله إبراهيم، والثاني: باسم إله إسحاق، والثالث باسم إله يعقوب، ثم يخرج بمن تبعه من المسلمين إلى الدجال، فإذا رآه، انهزم عنه، فيدركه عند باب لُدّ، فيرميه بأول حجر، فيضعه بين عينيه، ثم الثاني، ثم الثالث، فيقع، فيضربه عيسى فيقتله، فيقتل الدجال واليهود، حتى إن الحجر والشجر ليقولان: يا مؤمن هذا تحتي يهودي، فأته فاقتله (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2944)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في بقية من أحاديث الدجال، لكنه قال: "عليهم الطيالسة" بدل "التيجان"، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 224)، وغيرهما، لكن عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬2) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1249)، والروياني في "مسنده" (1239)، والطبراني في "الأحاديث الطوال" (48)، وتمام الرازي في "فوائده" (267)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/ 223). (¬3) انظر: تخريج الحديث المتقدم.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم إمامًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير" (¬1). وأما لُدّ، فهي بليدة بأرض فلسطين شمالي مدينة الرملة، مسافتها عن بيت المقدس نحو يوم، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2109)، كتاب: البيوع، باب: قتل الخنزير، ومسلم (155)، كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى بن مريم .. ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

سورة مريم عليها السلام

سُوْرَةُ مريم عليها السَّلام مكية بإجماع، إلا السجدة منها، ففيها خلاف، وآيها تسع وتسعون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وثمان مئة وحرفان، وكلمها: تسع مئة واثنتان وستون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {كهيعص (1)} [مريم: 1]. [1] {كهيعص} قرأ أبو عمرو: بإمالة الهاء وفتح الياء، وقرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف: بضم الهاء وإمالة الياء ضد الأول، وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بإمالة الهاء والياء جميعًا، واختلف عن نافع، فروي عنه إمالتها بين بين، وفتحها، والأول أشهر، وفتحها الباقون، وهم أبو جعفر، وابن كثير، ويعقوب، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر يقطع الحروف على أصله، يسكت على كل حرف سكتة يسيرة في جميع أحرف الهجاء من أوائل السور، وأظهرَ دالَ (صاد) عند ذال (ذِكْرُ): نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب، وأدغمها الباقون، وأشبع مدَّ (ع): ورش بخلاف عنه (¬1)، واختلف في الحروف التي في أوائل السور ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 406)، و"التيسير" للداني (ص: 148)، =

[2]

على قولين: فقيل: هي سر الله في القرآن، لا ينبغي أن يتعرض له، نؤمن بظاهره، ونترك باطنه، وقال الجمهور: بل ينبغي أن يتكلم فيها، وتطلب معانيها؛ فإن العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالًا على كلمة، وليس في كتاب الله ما لا يفهم، وتقدم الكلام فيها أول سورة البقرة، قال ابن عباس: (كهيعص): هذه حروف دالة على أسماء من أسماء الله تعالى: (الكاف) من كبير، و (الهاء) من هاد، و (الياء) من علي، و (العين) من عزيز، و (الصاد) من صادق (¬1)، وقيل: معناه كافٍ لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده. ... {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)} [مريم: 2]. [2] {ذِكْرُ} خبر مبتدأ؛ أي: المتلوُّ ذكرُ {رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} وفيه تقديم وتأخير، معناه: ذكر ربك عبده زكريا برحمته، و (رحمت) بالتاء في سبعة مواضع، وقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (¬2)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (زَكَرِيَّا) مقصورًا بغير همز حيث وقع، والباقون: بالهمز والمد (¬3). ... ¬

_ = و"تفسير البغوي" (3/ 73)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 241 - 425 و 2/ 71)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 25 - 27). (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (3405)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (10/ 300)، وغيرهما. (¬2) انظرها في تفسير الآية (218) في سورة البقرة. (¬3) انظرها في تفسير الآية (37) من سورة آل عمران.

[3]

{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 3]. [3] {إِذْ نَادَى} دعا {رَبَّهُ} في محرابه {نِدَاءً خَفِيًّا} سرًّا جوفَ الليل؛ لأنه أسرع للإجابة. قرأ ابن كثير، وعاصم، وروح عن يعقوب: (زَكَرِيَّاءَ إِذْ) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية (¬1)، وتقدم ذكر زكريا ووفاته في سورة آل عمران عند تفسير قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37]. ... {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)} [مريم: 4]. [4] {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي: ضعف من الكبر. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} كناية عن عموم الثيب، شبهه بلهب النار، ونصبه على التمييز، تقديره: اشتعل شيبُ رأسي. قرأ أبو عمرو: (الرَّأْس شَيْبًا) بإدغام السين في الشين (¬2). {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي: عودتني الإجابة فيما مضى، وما أشقيتني قَطُّ بِرَدٍّ. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 87)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 28). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 284)، "ومعجم القراءات القرآنية" (4/ 30).

[5]

{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)} [مريم: 5]. [5] {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} العصبة. {مِنْ وَرَائِي} أي: بعدي؛ ألا يقوموا مقامي في الدين، خاف تضييع بني عمه دين الله، وتغيير أحكامه؛ لما شاهد من بني إسرائيل من تبديل الدين، وقتل الأنبياء، فسأل ربه ولدًا صالحًا يأمنه على أمته لئلا يضيع الدين. قرأ ابن كثير: (وَرَائِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1) {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} لا تلد. {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أعطني من عندك {وَلِيًّا} ولدًا. ... {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} [مريم: 6]. [6] {يَرِثُنِي} في النبوة والعلم {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} الملكَ. {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أي: راضيًا بقضائك تقيًّا مرضيًّا. قرأ أبو عمرو، والكسائي: (يَرِثْنِي وَيَرِثْ) بجزم الثاء فيهما على جواب الدعاء، والباقون: بالرفع على الحال والصفة؛ أي: وليًّا وارثًا (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 407)، و"التيسير" للداني (ص: 150)، و "تفسير البغوي" (3/ 74)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 30). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 407)، و"التيسير" للداني (ص: 148)، و"تفسير البغوي" (3/ 74)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 31).

[7]

{يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)} [مريم: 7]. [7] {يَازَكَرِيَّا} فيه إضمار؛ أي: فاستجاب الله له دعاءه، فقال، أو: فنودي: (يا زكريا) {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ} بولد {اسْمُهُ يَحْيَى} سمي به لأنه حيي به الرحم اليائس. {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} أي: لم يسم قبله يحيى. قرأ ابن عامر، وعاصم، وروح عن يعقوب: (يَا زَكَرِيَّاءُ إِنَّا) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تبدل واوًا خالصة (¬1)، وقرأ حمزة: (نَبْشُرُكَ) بفتح النون وجزم الباء وضم الشين مخففة، من البشر، وهو البشرى والبشارة، وقرأ الباقون: بضم النون وفتح الباء وكسر الشين مشددة (¬2)؛ من بَشَّرَ المضعف على التكثير، والبشر والتبشير والإبشار لغات فصيحات. ... {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)} [مريم: 8]. [8] {قَالَ رَبِّ أَنَّى} أي: كيف، ومن أين {يَكُونُ لِي غُلَامٌ}، وليس في ما أستحق به ذلك، {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} لا تلد. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 87 و 148)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 297 - 298)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 32). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 87 - 88)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 32).

[9]

{وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} يبسًا، أي: بلغت العتي من أجل الكبر. قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (عِتِيًّا) بكسر العين، والباقون: بضمها، وهما لغتان (¬1). ... {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} [مريم: 9]. [9] فثَم {قَالَ} جبريل: {كَذَلِكَ} أي: كما قلتُ لك. {قَالَ رَبُّكَ هُوَ} أي: خلقُ يحيى من كبيرين {عَلَيَّ هَيِّنٌ} سهل. {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} قرأ حمزة والكسائي: (خَلَقْنَاكَ) بالنون والألف على لفظ الجمع للتعظيم، وقرأ الباقون: بالتاء مضمومة من غير ألف على لفظ التوحيد (¬2)، وكلاهما إخبار؛ أي: أوجدناك. {مِنْ قَبْلُ} أي: قبل يحيى {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} بل كنت معدومًا. ... {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)} [مريم: 10]. [10] {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} دلالة على حمل امرأتي. قرأ نافع، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 407)، و"تفسير البغوي" (3/ 76)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 33). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 408)، و"التيسير" للداني (ص: 148)، و"تفسير البغوي" (3/ 76)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 34).

[11]

وأبو جعفر، وأبو عمرو: (لِيَ آية) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أي: صحيحًا من غير خرس، روي أنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس، فإذا أراد (¬2) ذكر الله، انطلق لسانه. روي عن يعقوب وقنبل: الوقفُ بالياء على (لَيَالِي). ... {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)} [مريم: 11]. [11] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} صبيحة ليلة حمل امرأته. {مِنَ الْمِحْرَابِ} من المصلَّى، أو من الغرفة، وكان الناس ينتظرونه ليخرج إلى الصلاة، فخرج متغيرًا لونُه، فأنكروه وقالوا: ما لك يا زكريا؟ {فَأَوْحَى} أومأ {إِلَيْهِمْ} إشارة بإصبعه {أَنْ سَبِّحُوا} صلوا. {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} طرفي النهار (¬3). قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: (المحرابَ) بالإمالة، والباقون: بالفتح (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 414)، و"التيسير" للداني (ص: 150)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 34). (¬2) "أراد" زيادة من "ت". (¬3) "النهار" ساقطة من "ش". (¬4) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 64)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 298)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 34).

[12]

{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} [مريم: 12]. [12] {يَايَحْيَى} فيه حذف معناه: يولد له، وقلنا للمولود: يا يحيى {خُذِ الْكِتَابَ} أي: التوراة بلا اختلاف؛ لأنه ولد قبل عيسى عليه السلام، ولم يكن الإنجيل عند الناس موجودًا {بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد. {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ} النبوة، وقيل: الفهم للتوراة. {صَبِيًّا} شابًّا لم يبلغ حد الكهول. وروي أنه نبئ وفهم التوراة وهو ابن ثلاث سنين، وروي أنه قال له الصبيان: لم لا تلعب؟ فقال: أللعبِ خُلِقتُ؟! ... {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)} [مريم: 13]. [13] {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} أي: رحمة من عندنا، المعنى: رحمة للخلق، ولأبويه {وَزَكَاةً} تطهيرًا وبركة وصدقة تصدق الله بها على أبويه وأهل زمانه. {وَكَانَ تَقِيًّا} مطيعًا، وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة، ولا هَمَّ بها. ... {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} [مريم: 14]. [14] {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} أي: جعلناه محسنًا إليهما، مشفقًا عليهما. {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا} متكبرًا {عَصِيًّا} لربه. ***

[15]

{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: 15]. [15] {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} أي: سلامة له من الشيطان. {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} إلى الموقف. قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال: يوم ولد فيخرج مما كان، ويوم يموت (¬1) فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم ير مثله، فخص يحيى بالسلامة في هذه المواطن (¬2). ... {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)} [مريم: 16]. [16] {وَاذْكُرْ} يا محمد {فِي الْكِتَابِ} أي: القرآن {مَرْيَمَ} يعني: قصتها، وهذا ابتداء قصته ليست من الأولى. {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} أي: اعتزلتهم ناحية {مَكانًا} ظرف {شَرقِيًّا} نعته؛ أي: نحو المشرق في بيت المقدس، ولذلك اتخذ النصارى المشرق قبلة. ... {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)} [مريم: 17]. ¬

_ (¬1) "ويوم يموت" ساقطة من "ش". (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (16/ 58 - 59)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (2/ 228)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (64/ 174).

[17]

[17] {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} سترًا تستتر به؛ لتخلو للعبادة، وقيل: لتغتسل من الحيض، وقد تقدم في تفسير سورة آل عمران أنها كانت لا تحيض. {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} يعني: جبريل عليه السلام. {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} أتاها جبريل -عليه السلام- متمثلًا بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (فَتَمَثَّل لهَا) بإدغام اللام الأولى في الثانية (¬1). ... {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)} [مريم: 18]. [18] فلما رأته يقصد نحوها {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} مطيعًا؛ أي: إن اتقيت، فستنتهي لتعوذي. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنِّيْ أَعُوذُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). ... {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)} [مريم: 19]. [19] {قَالَ} لها جبريل: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ} قرأ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 285)، "ومعجم القراءات القرآنية" (4/ 35). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 413)، و"التيسير" للداني (ص: 150)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 64)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 35).

[20]

أبو عمرو، ويعقوب، وورش عن نافع (لِيَهَبَ) بالياء بعد اللام؛ أي: ليهب لك ربك، وقرأ الباقون بخلاف عن قالون: (لِأهَبَ) بهمزة بين اللام والهاء (¬1)، وأخبر جبريل عن نفسه؛ لأنه الواهب بأمر ربه، ورسمها (لأهب) {غُلَامًا زَكِيًّا} ولدًا طاهرًا لا يقارف ذنبًا. ... {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)} [مريم: 20]. [20] {قَالَتْ} مريم: {أَنَّى} من أين {يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ولم يقربني زوج {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} زانية تبغي الرجال، تلخيصه: إنما يكون الولد من نكاح أو سفاح، وليسا عندي، ولا أحدهما. ... {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)} [مريم: 21]. [21] فثَمَّ {قَالَ} جبريل: {كَذَلِكِ} أي: كما قلتُ لك. {قَالَ رَبُّكِ هُوَ} أي: خلقُ ولدٍ بلا أب {عَلَىَّ هَيِّنٌ} سهل. {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} علامة {لِلنَّاسِ} ودلالة على قدرتنا {وَرَحْمَةً مِنَّا} لمن آمن به؛ لأنه سبب الرحمة. {وَكَانَ} ذلك {أَمْرًا مَقْضِيًّا} مقدرًا لا يرد. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 408)، و"التيسير" للداني (ص: 148)، و"تفسير البغوي" (3/ 79)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 317)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 36).

[22]

قال ابن عباس: أنست به، فنفخ في جيب درعها، فَسَرتِ النفخةُ بإذن الله تعالى (¬1). ... {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)} [مريم: 22]. [22] {فَحَمَلَتْهُ} أي: حملت عيسى في بطنها. {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} أي: انفردت وهو في بطنها. {مَكَانًا قَصِيًّا} بعيدًا من أهلها وراء الجبل بوادي بيت لحم قبل بيت المقدس، بينهما أربعة أميال؛ فرارًا من قومها أن يُعيِّروها بولادتها من غير زوج، وكانت مدة الحمل ساعة واحدة في قول ابن عباس، وقيل غير ذلك، وكان سنها ثلاث عشرة سنة، وقد ورد في حديث المعراج الشريف أن جبريل عليه السلام قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين أسري به: "انزلْ فصلِّ، فنزل فصلى، قال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام" (¬2)، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يبعث بزيت يسرج في بيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام. ... {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)} [مريم: 23]. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (4156)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (70/ 86 - 87). (¬2) تقدم تخريج حديث الإسراء والمعراج في "الصحيحين" وهذا لفظ النسائي في "سننه" (450)، كتاب: الصلاة، باب: فرض الصلاة.

[23]

[23] {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} وهو تحرك الولد للخروج وألم الولادة حتى ذهبت. {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} وكانت يابسة في الصحراء في شدة الشتاء، التجأت إليها؛ لتستند إليها، وتتمسك بها؛ إذ لم تكن لها قابلة تعينها، أو (¬1) لئلا يراها أحد. {قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} تمنت الموت استحياء من الناس، ومخافة لومهم. قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مِتُّ) بكسر الميم، والباقون: بضمها (¬2). {وَكُنْتُ نَسْيًا} قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: (نَسْيًا) بفتح النون، والباقون: بكسرها (¬3)، ومعناهما: حقيرًا. {مَنْسِيًّا} إذا أُلقي نسي، ولم يلتفت إليه. ... {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)} [مريم: 24]. [24] {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، وروح عن يعقوب: (مِنْ) بكسر الميم ¬

_ (¬1) في "ت": "و". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 408)، و"التيسير" للداني (ص: 148)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 298)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 37). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 80)، والمصادر السابقة، وهذه القراءة والتي قبلها رويتا بخلاف عن عاصم.

[25]

(تَحْتِهَا) بخفض التاء، وقرأ الباقون: بفتح الميم ونصب التاء (¬1)، وهو جبريل -عليه السلام- وكانت مريم على أكمة، وجبريل -عليه السلام- وراء الأكمة تحتها، لما سمع كلامها، وعرف جزعها، ناداها: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} نهرًا صغيرًا. قرأ أبو عمرو (جَعَل ربُكِ) بإدغام اللام في الراء (¬2). ... {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم: 25]. [25] روي أن جبريل -عليه السلام- أو عيسى -عليه السلام- ضرب بعقبه الأرض، فظهرت (¬3) عين ماء عذب، فجرى النهر اليابس، فاخضرَّت النخلة وأثمرت وأينعت ثمرتها، فقيل لها: {وَهُزِّى} أي: حركي. {إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} وأميليه إليك، والباء مزيدة للتأكيد، والهز: تحريك بجذب ودفع. {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ} قرأ حمزة: (تَسَاقَطْ) بفتح التاء والقاف وتخفيف السين، أصله: تتساقط، فحذف إحدى التاءين، وروى حفص عن عاصم: بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين، على وزن تُفاعِل، وساقط بمعنى: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 408)، و"التيسير" للداني (ص: 148)، و"تفسير البغوي" (3/ 81)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 318)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 39). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 385)، "ومعجم القراءات القرآنية" (4/ 39). (¬3) في "ش": "فظهر".

[26]

أسقط، والتأنيث لأجل النخلة، وقرأ يعقوب: بالياء على التذكير وفتحها وتشديد السين وفتح القاف، رده إلى الجذع، أي: يتساقط، وقرأ الباقون: بفتح التاء والقاف وتشديد السين؛ أي: تتساقط، فأدغمت إحدى التاءين في السين (¬1) {رُطَبًا جَنِيًّا} أي: مجنيًّا. ... {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)} [مريم: 26]. [26] {فَكُلِي} من الرطب {وَاشْرَبِي} من ماء النهر. {وَقَرِّي عَيْنًا} طيبي نفسًا بعيسى، وبانتفاء التهمة عنك؛ بحمل النخلة اليابسة، وجري النهر اليابس؛ لأنه إذا شوهد ذلك، لم يستبعد وجود ولد بلا فحل، وقرة العين مأخوذة من القر، وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد، ودمع الحزن سخن، وإنما معنى قرة العين: أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع؛ إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت العين به و (عَيْنًا) نصب على التمييز {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} أي: فإن رأيت {مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} فسألك عن ولدك. {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} صمتًا، والصوم في اللغة: الإمساك عن الطعام والكلام، أُمرت أن تنذُرَ السكوت؛ لأن عيسى يكفيها، ولئلا تجادل ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 409)، و"التيسير" للداني (ص: 149)، و"تفسير البغوي" (3/ 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 318)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 39 - 50).

[27]

السفهاء، وعرفتهم بصيامها إشارة، وكان هذا في شريعتهم، ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتًا. {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} آدميًّا؛ أي: أنا ممنوعة من كلام البشر. ... {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)} [مريم: 27]. [27] {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} فلما رأوه معها، بكَوْا وحزنوا، وكانوا أهل بيت صالح، ثم {قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ} أي: فعلت. {شَيْئًا فَرِيًّا} عظيمًا من الافتراء. ... {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} [مريم: 28]. [28] {يَاأُخْتَ هَارُونَ} كان رجلًا صالحًا عابدًا في بني إسرائيل، شُبهت به، روي أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفًا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل، سوى سائر الناس، شبهوها به على معنى: أنا ظننا أنك مثله في الصلاح، وليس المراد منه الأخوة في النسب. {مَا كاَنَ أَبُوكِ} عمران {امْرَأَ سَوْءٍ} زانيًا {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} أي: زانية، فمن أين لك هذا الولد؟! {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)} [مريم: 29]. [29] {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إلى عيسى عليه السلام؛ أي: كلموه ليجيبكم،

[30]

فغضب القوم، وقالوا: مع ما فعلت تسخرين بنا؟! ثم {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ} أي: وجد. {فِي الْمَهْدِ} أي: في حجر أمه {صَبِيًّا} وكان عيسى يرضع. {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}. [30] فقالت له: تكلم، فأقبل عليهم بوجهه، ثم اتكأ على يساره، وأشار بسبابته، ثم {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} اعترف بالعبودية وهو ابن يوم أو أربعين؛ لئلا يُعبد. {آتَانِيَ الْكِتَابَ} قال الأكثرون: أوتي الإنجيل وهو صغيرٌ طفلٌ، وكان يعقل عَقلَ الرجال. قرأ حمزة: (آتَانِيْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1)، وقرأ أبو عمرو (فِي المَهْد صبِّيًّا) بإدغام الدال في الصاد (¬2) {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}. ... {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}. [31] {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} على من آمن بي واتبعني. {أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي} أمرني. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 409)، و"التيسير" للداني (ص: 150)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 43). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 285)، "ومعجم القراءات القرآنية" (4/ 43).

[32]

{بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)} قرأ الكسائي: (آتَانِي) (وَأَوْصَانِي) بالإمالة، والباقون: بالفتح (¬1). ... {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)} [مريم: 32]. [32] {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} أي: وجعلني برًّا بها؛ أي: كثير الإحسان إليها. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} بمخالفته. ... {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} [مريم: 33]. [33] {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} أي: السلامة عند الولادة من طعن الشيطان. {وَيَوْمَ أَمُوتُ} عند الموت من الشرك. {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} من الأهوال، ولما كلمهم عيسى بهذا، علموا براءة مريم، ثم سكت عيسى ولم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان. ... {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)} [مريم: 34]. [34] {ذَلِكَ} المعنى ذلك الذي هذه قصته. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 409)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 299)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 43 - 44).

[35]

{عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} لا ما يقول النصارى من أنه إله، أو أنه ابن الله. {قَوْلَ الْحَقِّ} قرأ ابن عامر، وعاصم، ويعقوب: (قَوْلَ الْحَق) بنصب اللام؛ أي: قالَ قولَ الحق، وقرأ الباقون: برفعها (¬1)، أي: هذا الكلام قول الحق، والحق هو الله سبحانه. {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} يشكُّون ويختلفون؛ لأن اليهود قالوا: عيسى ساحر كذاب، وبعض النصارى قال: هو الله، وبعضهم: ولده، وبعضهم: شريكه، وكذبوا جميعًا. ... {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)} [مريم: 35]. [35] {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} أي: ما ينبغي له ذلك، وجيء بـ (مِنْ) للنفي العام؛ [لأنك إذا قلت: ما عندي رجل، جاز أن يكون عندك أكثر من رجل] (¬2)، وإذا قلت: ما عندي من رجل، نفيت أن يكون عندك واحد وأكثر {سُبْحَانَهُ} عن صفات المخلوقين. {إِذَا قَضَى أَمْرًا} أراد كونه {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قرأ ابن عامر: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 409)، و"التيسير" للداني (ص: 149)، و"تفسير البغوي" (3/ 85)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 318)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 45)، وقراءة يعقوب في "النشر". (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ش".

[36]

(فَيَكُونَ) بنصب النون؛ لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوبًا، وقرأ الباقون: بالرفع على معنى: فهو يكونُ (¬1). ... {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)} [مريم: 36]. [36] {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أطيعوه؛ لاختصاصه بالربوبية. {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هو الطريق المشهود له بالاستقامة. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب، (وإنَّ الله) بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون: بفتحها عطفًا على ما قبل (¬2)؛ أي: أوصاني بالصلاة والزكاة، وبأن الله. ... {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)} [مريم: 37]. [37] {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي: اليهود والنصارى، فجعله اليهود ولد زنا، والنصارى إلهًا. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: شهودهم يوم القيامة. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 409)، و"التيسير" للداني (ص: 76)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 46). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 410)، و"التيسير" للداني (ص: 149)، و"تفسير البغوي" (3/ 86)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 318)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 46).

[38]

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)} [مريم: 38]. [38] {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أي: ما أسمعَهم وأبصرَهم. {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} حين لا ينفعهم ذلك، لأنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ما لم يسمعوا أو لم يبصروا في الدنيا. {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: خطأ بَيِّن. ... {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} [مريم: 39]. [39] {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} هو يوم القيامة يقع فيه الندم على ما فات {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} فرغ من الحساب، واستقر كلٌّ في مقره (¬1)، ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، ويذبح، وينادى على أهل النار وأهل الجنة: خلود بلا موت؛ كما ورد به الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} عن الاهتمام لذلك المقام. {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لا يصدقون به في الدنيا. ... {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)} [مريم: 40]. [40] {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} بأن نهلك جميع سكانها. ¬

_ (¬1) في "ت": "مستقره". (¬2) رواه البخاري (4453)، كتاب: التفسير، باب: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39]، ومسلم (2849)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

[41]

{وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} في الآخرة، فيجازون. قرأ يعقوب: (يَرْجِعُونَ) بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون: بضم الياء وفتح الجيم (¬1). ... {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)} [مريم: 41]. [41] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشام: (أَبْرَاهَامَ) بالألف (¬2). {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} مبالِغا في الصدق بجميع ما صدر عن الله. {نَبِيًّا} النبي العالي في الرتبة بإرسال الله إياه. ... {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42]. [42] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} آزر وهو يعبد الأصنام: {يَاأَبَتِ} قرأ أبو جعفر، وابن عامر: (يَا أَبَتَ) بفتح التاء حيث وقع، والباقون: بكسرها، ووقفًا: (يَا أَبَهْ) بالهاء، ووافقهما في الوقف ابن كثير، ويعقوب (¬3). {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ} صوتًا {وَلَا يُبْصِرُ} العبادة {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ} أي: لا يدفع {شَيْئًا} من عذاب الله عنك؟! ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 299)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 47). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 221)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 48). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 293)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 299)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 48).

[43]

{يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)} [مريم: 43]. [43] {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} بالله والبيان. {مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي} على ديني {أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} مستقيمًا. ... {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)} [مريم: 44]. [44] {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} لا تطعه بعبادة الأصنام. {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} عاصيًا. ... {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)} [مريم: 45]. [45] {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ} يصيبك. {عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} قريبًا في النار. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنِّيْ أَخَافُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1). ... {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)} [مريم: 46]. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 413)، و"التيسير" للداني (ص: 150)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 48).

[46]

[46] {قَالَ} آزرُ توبيخًا: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي} أي: عن عبادة الأصنام. {يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} عن شتم الأصنام {لأَرْجُمَنَّكَ} قال ابن عباس: معناه: لأضربنك (¬1)، وقيل: لأشتمنك {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} حينًا طويلًا. ... {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} [مريم: 47]. [47] {قَالَ} إبراهيم: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} أي: سلمت من أن أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره. {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} سأسأل الله لك توبة تنال بها المغفرة. {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} بليغًا في البر واللطف. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (رَبِّيَ إنه) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). ... {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)} [مريم: 48]. [48] {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} تعبدون. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 89)، و"تفسير القرطبي" (11/ 111). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 413)، و"التيسير" للداني (ص: 150)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 219)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 49).

[49]

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام، فارتحل من كوثا إلى الأرض المقدسة {وَأَدْعُو رَبِّي} أعبدُه. {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي} بعبادته. {شَقِيًّا} أي: عسى أن يجيبني فيك، ولا يخيبني. ... {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} [مريم: 49]. [49] {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فذهب مهاجرًا. {وَهَبْنَا لَهُ} بعد الهجرة. {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أولادًا كرامًا على الله، يأنس بهم بدلَ الكفار. {وَكُلًّا} من إبراهيم وإسحاق ويعقوب {جَعَلْنَا نَبِيًّا}. ... {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)} [مريم: 50]. [50] {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} نعمتنا، وهو ما بسط الله لهم، في الدنيا من سعة الرزق. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} أي: ثناءً حسنًا في جميع أهل الأديان، فكلهم يتولونهم، ويثنون عليهم. ... {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)} [مريم: 51]. [51] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} قرأ الكوفيون (مُخْلَصًا)

[52]

بفتح اللام؛ أي: مختارًا اختاره الله لعبادته ونبوته، وقرأ الباقون: بكسرها (¬1) أي: أخلص هو نفسه لله وحده. {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} والرسول من الأنبياء: الذي يكلف تبليغ أمة، وقد يكون نبي غيرَ رسول. ... {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم: 52]. [52] {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} من موسى، لا من الجبل؛ لأن الجبل لا يمين له، إنما ذلك بالنسبة إلى الشخص، والطور: جبل بين مصر ومدين، ويقال: اسمه الزبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار، فنودي: {يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} [القصص: 30]. {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} أي: مناجيًا، قال ابن عباس: معناه: قربه فكلمه (¬2) ومعنى التقريب: إسماعه كلامه. ... {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)} [مريم: 53]. [53] {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا} من نعمتنا عليه. {أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} وذلك حين سأل ربه فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 410)، و"التيسير" للداني (ص: 149)، و"تفسير البغوي" (3/ 90)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 49). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 91).

[54]

هَارُونَ أَخِي (30)} [طه: 30 - 31]، فأجاب الله دعاءه، وأرسل إلى هارون، ولذلك سماه هِبةً له. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)} [مريم: 54]. [54] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} هو ابن إبراهيم عليهما السلام، وهو الذبيح في قول الجمهور، وقالت فرقة: الذبيح إسحاق، والراجح الأول؛ لأن أمر (¬1) الذبح كان بمنى عند مكة بلا خلاف بين العلماء، وما روي قط أن إسحاق دخل تلك البلاد. {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} لم يعد أحدًا شيئًا إلا وفى به، روي أنه ومحمد رجلًا (¬2) أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه، فأقام إسماعيل مكانه يومه وليلته حتى رجع إليه الرجل، وقيل: انتظره سنة، قال ابن عطية: وهو بعيد غير صحيح، والأول أصح (¬3). {وَكَانَ رَسُولًا} إلى جرهم {نَبِيًّا} مخبرًا عن الله -عز وجل-. {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)} [مريم: 55]. [55] {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} قومه وأمته. {بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} التي افترضها الله عليهم. ¬

_ (¬1) "أمر" زيادة من "ت". (¬2) في "ش": "رجلان". (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 21).

[56]

{وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} صالحًا زكيًّا (¬1)؛ لأنه قام بطاعته. ... {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)} [مريم: 56]. [56] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} وهو جد أبي نوح، واسمه حنوخ -بحاء مهملة ونون وواو وخاء معجمة-، وسمي إدريس، لكثرة درسه الكتب، وهو ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وكان إدريس خياطًا، وهو أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكان من قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، وأول من نظر في علم الحساب، وأدرك إدريس من حياة شيث جد جده عشرين سنة، ولما صار له من العمر ثلاث مئة وخمس وستون سنة، رفعه الله إلى السماء، وكان قد نبأه الله تعالى، وانكشفت له الأسرار السماوية، ونزل عليه جبريل أربع مرات، وله صحف منها: لا تروموا أن تحيطوا بالله خبرة؛ فإنه أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين، إلا من آثره. {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}. ... {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]. [57] {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} الجنة؛ لأنه روي أنه أذيق الموت ساعة، ثم أُحيي، ثم أُدخل الجنة ولم يخرج منها، وقيل: رفع إلى السماء الرابعة، وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وقال كعب: صعد به ملك من الملائكة إلى ¬

_ (¬1) في "ت": "زاكيًا". (¬2) وقد تقدم ذلك في حديث الإسراء والمعراج.

[58]

السماء، فلما صار في الرابعة، قبض روحه (¬1). واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت؟ فقال قوم: هو ميت، وقال قوم: هو حي، وقالوا: أربعة من الأنبياء في الأحياء: اثنان في الأرض: الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى عليهم السلام. ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} [مريم: 58]. [58] {أُولَئِكَ} النبيون المذكورون من زكريا إلى إدريس {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ}، وقوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} يريد: إدريس ونوحًا {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} في السفينة، يريد: إبراهيم؛ لأنه من ولد سام بن نوح {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} يريد: إسماعيل وإسحق ويعقوب {وَإِسْرَائِيلَ} يعني: ومن ذرية إسرائيل: موسى وهارون وزكريا ويحيى، وعيسى بن مريم من ذريته {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} أرشدنا واصطفينا. {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} من خشية الله، أخبر تعالى أن الأنبياء كانوا يسجدون ويبكون لسماع آيات الله. قرأ حمزة، والكسائي: (وَبكِيًّا) بكسر الباء، والباقون: بضمها (¬2)، وهذا محل سجود بالاتفاق، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في سجود التلاوة وحكمه وسجود الشكر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 92). (¬2) سلفت عند تفسير الآية (8) من هذه السورة.

مستوفىً آخر سورة الأعراف. وملخصه أنه كالصلاة يشترط له الطهارة واستقبال القبلة بالاتفاق، ولا يسجد له في وقت نهي عند الثلاثة؛ خلافًا للشافعي، وأما حكمه، فقال أبو حنيفة: هو واجب على التالي والسامع، سواء قصد السماع، أو لم يقصد، ويكبر ويسجد بلا رفع يد، ثم يكبر [ويرفع بلا تشهد ولا سلام، وقال مالك: هو فضيلة للقارئ وقاصد الاستماع، ويكبر] (¬1) لخفضه ورفعه، وليس له تسليم، وقال الشافعي: هو سنة للقارئ والمستمع [والسامع، وينوي ويكبر للإحرام رافعًا يديه، ثم للهوي بلا رفع، ويسجد كسجدة الصلاة، ويرفع مكبرًا، ويسلم من غير تشهد، وقال أحمد: هو سنة للقارئ والمستمع] (¬2) دون السامع، وسجوده عن قيام أفضل، ويكبر إذا سجد وإذا رفع، والسلام ركن، وتجزئ واحدة بلا تشهد، وأما سجود الشكر، فقال أبو حنيفة ومالك (¬3): هو مكروه، فيقتصر على الحمد والشكر باللسان، وخالف أبو يوسف ومحمد أبا حنيفة، فقالا: هي قربة يثاب فاعلها، وقال الشافعي وأحمد: يسن، وحكمه عندهما كسجود التلاوة، لكنه لا يفعل في الصلاة، وقد وقع الكلام على ذلك بأتم من هذا آخر سورة الأعراف، وذكر اختلاف الأئمة في عدد السجدات ومكانها (¬4)، ونبه على كل شيء في محله فيما مضى من السجدات، وسيأتي التنبيه على ما بقي منها في محل كل سجدة إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) "ومالك" زيادة من "ت". (¬4) في "ت": "محلها".

[59]

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]. [59] {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعد الأنبياء المذكورين {خَلْفٌ} وهم قوم سوء (فالخلْف) -بسكون اللام-: الطالح، وبفتحها: الصالح، والتلاوة بالأولى (¬1)، والمراد بالخلف هنا: أهل الكتابين والمجوس ومن لحق بهم. {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} المفروضة بتركها {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} ملاذ النفس المحرمة {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} وهو واد في جهنم تستعيذ أودية جهنم من حره، أعده الله للزاني المصر عليه، وشارب الخمرة المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور. ... {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 60]. [60] {إِلَّا مَنْ تَابَ} من الشرك {وَآمَنَ} صدَّق النبي. {وَعَمِلَ صَالِحًا} أدى الفرائض. {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (يَدْخُلُونَ) بفتح الياء وضم الخاء، والباقون: بضم الياء وفتح الخاء (¬2) {وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} لا ينقصون من أعمالهم شيئًا. ¬

_ (¬1) في "ت": "بالأول". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 97)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =

[61]

{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)} [مريم: 61]. [61] {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} أي: وعدهم بها وهي غائبة عنهم. {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} آتيًا. ... {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)} [مريم: 62]. [62] {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي: في الجنة. {لَغْوًا} أي: ما يلغى من الكلام ويؤثم. {إِلَّا سَلَامًا} أي: لكن سلامًا بمعنى: سلامة. {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} طرفي النهار، ولأنهار ثَمَّ ولا ليل، بل المراد: مقدارهما. ... {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63]. [63] {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ} نعطي {مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} متقيًا لله تعالى. قرأ رويس عن يعقوب (نُوَرِّثُ) بفتح الواو وتشديد الراء، والباقون: بالإسكان والتخفيف (¬1). ... ¬

_ = 300)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 50). (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 318)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 51).

[64]

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]. [64] {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} هو قول جبريل عليه السلام لما استبطأه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: ذلك لأنا عبيد مأمورون لا نفعل شيئًا إلا بإذن. {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} وما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي: مما يلحقه النسيان. ... {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65]. [65] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من الخلق {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} اصبر على أمره ونهيه {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: شبيها ونظيرًا. قرأ أبو عمرو: (لِعِبَادَتِه هلْ) بإدغام الهاء في الهاء، (وَاصْطَبِر لعِبَادَتِه): بإدغام الراء في اللام، بخلاف عنه في الثاني (¬1). ... {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)} [مريم: 66]. [66] [وكان أُبيُّ بن خَلَفٍ ينكر البعث، ففتَّت عظمًا، وقال: أنبعث ¬

_ (¬1) انظر: "غيث النفع" للصفاقسي (ص:286)، "ومعجم القراءات القرآنية" (4/ 52).

[67]

بعد ما صرنا كذا؟! فنزل] (¬1): {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} (¬2) قاله استهزاء وتكذيبًا. واختلف القراء في (أَئِذَا)، فقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (إِذَا) بهمزة واحدة على الخبر، وقرأ الباقون: بهمزتين على الاستفهام، فالكوفيون، وهشام، وروح، وابن ذكوان بخلاف عنه: يحققون الهمزتين، والباقون: يحققون الأولى، ويسهلون الثانية، ومنهم أبو جعفر، وقالون، وأبو عمرو، ويفصلون بينهما بألف، واختلِف عن هشام في الفصل مع تحقيق الهمزتين (¬3). ... {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)} [مريم: 67]. [67] {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ} المعنى: أيقول الإنسان: سأخرج حيًّا بعد الموت، ولا يتأمل خلقنا له {مِنْ قَبْلُ} أي: قبل هذه الحالة. {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} فيستدل على أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة. قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: (يَذْكُرُ) بتخفيف الذال والكاف مع ضم الكاف؛ من الذكر، وقرأ الباقون: بتشديدهما وفتح الكاف (¬4)؛ من التذكُّر (¬5): التفكر. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 172). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 149)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 372)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 300)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 52 - 53). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 410)، و"التيسير" للداني (ص: 149)، و"تفسير البغوي" (3/ 98)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 53). (¬5) في "ت": "التذكير".

[68]

{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)} [مريم: 68]. [68] ثم أقسم بنفسه تعالى فقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أي: الكفار. {وَالشَّيَاطِينَ} معهم؛ لأن كل كافر يحشر مع شيطانه في سلسلة. {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} قبل دخولهم إياها {جِثِيًّا} جمع جاثٍ؛ أي: جاثين على الركب، وهي قعدة الخائف الذليل على ركبتيه، كالأسير ونحوه؛ لهول ذلك الوقت، وضيق المكان. ... {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} [مريم: 69]. [69] {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ} لنخرجَنَّ {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} طائفةً. {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} جرأة، يبدأ بالأكثر جرمًا، فالأكثر، ثم الذين يلونهم؟ الأعتى فالأعتى منهم. ... {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)} [مريم: 70]. [70] {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} دخولًا؛ أي: نحن أعلم بالذين هم أحق بالعذاب ودخول النار، المعنى: نحشرهم، ثم نخرج الأعصى فالأعصى منهم، ثم نُدخل النار أولًا أحقَّهم بها، ثم أحقهم بها، على قدر ذنوبهم. قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: (جِثيًّا) في الحرف المتقدم والآتي و (عِتِيًّا) و (صِلِيًّا) بكسر أولهن (¬1)، والباقون: بالضم (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت": "أوائلهن". (¬2) انظر تفسير الآية (8) من هذه السورة.

[71]

{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} [مريم: 71]. [71] {وَإِنْ مِنْكُمْ} أي: وما منكم {إِلَّا وَارِدُهَا} داخلها، وأصل الورود: الحضور، ويطلق على الحضور والدخول، فعلي وابن عباس -رضي الله عنهما- يفسران الورود بالدخول، لكنها تكون (¬1) على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم، وعلى الكافرين نارًا، روي أنهم يمرون عليها لا يحسون بها؛ لخمودها، في الحديث: "تقول النار للمؤمن: جُزْ فقد أطفأ نورُك لهبي" (¬2). {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} حتم الأمر: أوجبه، أي: لازمًا قضاه الله عليكم. ... {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 72]. [72] {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك. قرأ الكسائي، ويعقوب: (نُنْجِي) بإسكان النون الثانية مخففًا، والباقون: بفتحها مشددًا (¬3). {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} على الركب، تلخيصه: ورودكم جهنم لا بد منه، ثم نخلص المؤمن منها، ونترك الكافر معذبًا فيها. ¬

_ (¬1) "تكون" زيادة من "ت". (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 258)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 394)، وتمام الرازي في "فوائده" (960)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 329)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 193)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (375)، عن يعلى بن منية رضي الله عنه. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 411)، و"التيسير" للداني (ص: 149)، و"تفسير البغوي" (3/ 100 و 102)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 55).

[73]

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} [مريم: 73]. [73] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن وما بَيَّن الله فيه. {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: مشركي قريش: النضر بن الحارث وأصحابه. {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يعني: فقراء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة، وفي ثيابهم رثاثة، وكان المشركون يرجلون شعورهم، ويدهنون رؤوسهم، ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} منزلًا ومسكنًا. قرأ ابن كثير: (مُقَامًا) بضم الميم: ظرف من قام، والباقون: بفتحها (¬1): مصدر من قام. {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} مجلسًا، المعنى: قال المشركون للمؤمنين؛ احتقارًا بهم: أينا أطيب عيشًا وأحسن مجلسًا نحن أو أنتم؟ ... {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)} [مريم: 74]. [74] فأجابهم الله تعالى فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أمة. {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا} لباسًا وأموالًا {وَرِئْيًا} قرأ أبو جعفر، وقالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر (¬2): (وَرِيًّا) بتشديد الياء غير مهموز؛ من ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 400)، و"التيسير" للداني (ص: 149)، و"تفسير البغوي" (3/ 105)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 56). (¬2) "عن ابن عامر" ساقطة من "ت".

[75]

الري بمعنى النعمة (¬1)، وقرأ الباقون: بهمزة ساكنة بين الراء والياء (¬2): هو المنظر والهيئة، (وَزِيًّا) بالمعجمة؛ من الزينة، والتلاوة بالأول والثاني. ... {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)} [مريم: 75]. [75] {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ} أي: الكفر {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} هذا أمر بمعنى الخبر؛ أي: يمهله في غَيِّه {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ} في الدنيا؛ بأن ينصر الله المسلمين عليهم، فيعذبهم بالقتل والأسر. {وَإِمَّا السَّاعَةَ} يعني: القيامة، فيصيرون إلى النار. {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} منزلًا إذا صاروا في النار {وَأَضْعَفُ جُنْدًا} عددًا وقوة إذا نصر الله المسلمين. ... {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)} [مريم: 76]. [76] {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا} آمنوا بالإيمان {هُدًى} إيمانًا ورشدًا {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} الأعمال الصالحة؛ من الذكر وغيره. {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} عاقبة. ... ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) المصادر السابقة.

[77]

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} [مريم: 77]. [77] ونزل فيمن سخر بالبعث، وهو العاص بن وائل السهمي: قال خباب بن الأرت: كان لي على العاص بن وائل دين، فتقاضيته، فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد، قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا مت ثم بعثت، فسيكون لي ثَمَّ مال وولد، فأعطيك، فإنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة؛ استهزاء واستخفافًا، فنزل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (¬1) قرأ حمزة والكسائي: (وَوُلْدًا) بضم الواو وإسكان اللام في هذا الحرف، وفي الثلاثة الآتية: جمع ولد كأسَد وأُسْد، وقيل -بالفتح-: الابن والابنة، وبالضم: الأهل، وقرأ الباقون: بفتح الواو واللام فيهن (¬2). ... {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} [مريم: 78]. [78] {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} أي: نظر في اللوح المحفوظ. {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} أي: عهد إليه أنه يعطيه ذلك. ... ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4455)، كتاب: التفسير، باب: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا}، ومسلم (2795)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 412)، و"التيسير" للداني (ص: 149)، و"تفسير البغوي" (3/ 108)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 58).

[79]

{كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)} [مريم: 79]. [79] {كَلَّا} رد عليه، يعني: أنه مخطئ فيما تصوره لنفسه. {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} سنحفظ عليه قوله، فنجازيه عليه. {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} نزيده عذابًا فوق عذابه. ... {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)} [مريم: 80]. [80] {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي: نهلكه ونورث ماله وولده غيرَه. {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} بلا أهل ولا مال. ... {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)} [مريم: 81]. [81] {وَاتَّخَذُوا} يعني: مشركي قريش. {مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} أصنامًا يعبدونها {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} ليعتزوا بهم. ... {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 82]. [82] {كَلَّا} تفسيرها كالتي تقدمت {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أي: ستجحد الآلهة عبادة المشركين. {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ} على المشركين {ضِدًّا} أي: ضد العز، وهو الذل. ***

[83]

{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83]. [83] ثم عَجَّب تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - منهم بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ} سلَّطناهم {عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} تزعجهم إزعاجًا، وتسوقهم إلى المعاصي بسرعة، وأصل الأَزِّ: الحركة مع صوت متصل؛ من أزيز القِدْر: غليانها. ... {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} [مريم: 84]. [84] ثم سلَّاه بقوله: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} بطلب العذاب قبل حينه. {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ} أنفاسهم وأعمارهم وأعمالهم؛ ليستوفوا آجالهم. {عَدًّا} فلا يزادون عليها، ولا ينقصون منها. ... {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85]. [85] {يَوْمَ} أي: واذكر يا محمد يوم. {نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} نجمعهم من قبورهم. {إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} ركبانًا، جمع وافد. ... {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم: 86]. [86] {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} جمع وارد، فيساقون رجَالة عطاشًا قد تقطعت أعناقهم من العطش. ***

[87]

{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)} [مريم: 87]. [87] {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أي: لا يشفع ثَمَّ {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} توحيدًا وإيمانًا، المعنى: لا يشفع إلا المؤمن المأمور بالشفاعة المأذون له فيها، ولا يشفع إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، وروي أن أهل العلم والفضل والصلاح يَشفعون فيُشفعون. ... {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)} [مريم: 88]. [88] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} يعني: اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله. ... {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)} [مريم: 89]. [89] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} منكرًا عظيمًا. ... {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)} [مريم: 90]. [90] {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} قرأ نافع، والكسائي: (يَكَادُ) بالياء على التذكير؛ لتقدم الفعل، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث؛ لتأنيث (السَّموات) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 413)، و"التيسير" للداني (ص: 150)، =

[91]

{يَتَفَطَّرْنَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، والكسائي، وحفص عن عاصم: بالتاء وفتح الطاء مشددة من التفطر، وقرأ الباقون: بالنون وكسر الطاء مخففة؛ من الانفطار، ومعناهما واحد (¬1)؛ أي: يتشققن {مِنْهُ} أي (¬2): من قولهم الكفر {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} أي: تنخسف. {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} أي: سقوطًا من سماع قولهم. ... {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)} [مريم: 91]. [91] {أَنْ دَعَوْا} يعني: لأن جعلوا {لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}. ... {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 92]. [92] ثم نفى سبحانه عن نفسه الولد فقال: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} المعنى: لا يتأتى له تعالى اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد إنما يكون لحاجة ومجانسة، والله تعالى منزه عن ذلك؛ لامتناعهما في حقه سبحانه. ... {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]. [93] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: ما منهم. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (3/ 108)، و"معجم القراءَات القرآنية" (4/ 61)، وقرأ "يكاد" نافع والكسائي، دون حفص. (¬1) المصادر السابقة. (¬2) "أي" زيادة من "ت".

[94]

{إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ} يوم القيامة {عَبْدًا} ذليلًا خاضعًا. واستدل بعض العلماء على أن الولد يعتق على والده إذا ملكه بأي وجه من وجوه الملك، وأن الولد لا يكون عبدًا بقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} إلى قوله: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}، وقد اتفق الأئمة على أن من ملك والديه، وإن علوا، وأولاده، وإن سفلوا، فإنهم يعتقون عليه بملكه لهم، وأن ولاءهم له، واختلفوا فيما عدا الوالدين، والمولودين فقال أبو حنيفة وأحمد: كل ذي رحم محرم منه إذا ملكه، عتق عليه، وله ولاؤه، وقال مالك في المشهور عنه: يعتق عليه الوالدون والمولودون من علو وسفل، والإخوة والأخوات من كل جهة فقط دون أولادهم، وقال الشافعي: لا يعتق إلا عمود النسب من عُلْو وسُفْل فقط. ... {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)} [مريم: 94]. [94] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} عَلِمَهم كلَّهم، فلا يخفى عليه أحد. ... {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 95]. [95] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} وحيدًا من ماله وولده، والكل اسم لجملة مرعية عن أجزاء محصورة، وكلمة (كل) عام تقتضي عموم الأسماء والإحاطة على سبيل الانفراد، وكلمة (كما) تقتضي عموم الأفعال. ***

[96]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96]. [96] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} محبة. ... {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)} [مريم: 97]. [97] {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} سهلنا القرآن {بِلِسَانِكَ} بلغتك يا محمد. {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أي: المؤمنين. قرأ حمزة: (لِتَبْشُرَ) بفتح التاء وتخفيف الشين وضمها؛ من البشر، وهو البشرى والبشارة، والباقون: بضم التاء وتشديد الشين مكسورة (¬1)؛ من بَشَّر المضعف على التكثير {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} جمع ألد، وهو الشديد الخصومة. ... {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)} [مريم: 98]. [98] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أمة {هَلْ تُحِسُّ} أي: ترى. {مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} صوتًا خفيًّا، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 87 - 88)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 62).

سورة طه عليه السلام

سورة طه عليه السلام (¬1) [مكية، وآيها مئة وخمس وثلاثون آية] (¬2)، وحروفها: خمسة آلاف ومئتان واثنان وأربعون حرفًا، وكلمها ألف وثلاث مئة وإحدى وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طه (1)} [طه: 1]. [1] {طه} قرأ أبو عمرو، وورش بخلاف عنه: بفتح الطاء وإمالة الهاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: بإمالتهما جميعًا، وقرأ الباقون: بفتحهما (¬3)، وأبو جعفر: بتقطيع الحروف على أصله (¬4)، ولم يُمِل أحد الطاء مع فتح الهاء، و (طه) اسم من أسماء محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: معناه بالسريانية: يا رجل، وقيل: هو قسم أقسم الله ¬

_ (¬1) "عليه السلام" زيادة من "ت". (¬2) ما بين معكوفتين بياض في "ش". (¬3) في "ت": "بفتحها". (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 150)، و"تفسير البغوي" (3/ 111)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 71)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 67).

[2]

بطَوْله وهدايته، وقيل: هو أمر من الوطء، والهاء كناية عن الأرض؛ أي: اعتمد على الأرض بقدميك. ... {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} [طه: 2]. [2] {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} أي: لم ننزله عليك لتتعب به. نزلت لما أطال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القيام في الصلاة وبالغ فيه حتى قام على إحدى رجليه بعد نزول القرآن، فأمره الله أن يخفف على نفسه؛ شفقة عليه، وإكرامًا له (¬1). أمالَ رؤوسَ آي هذه السورة: ورش عن نافع، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف (¬2). ... {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} [طه: 3]. [3] {إِلَّا تَذْكِرَةً} استثناء منقطع؛ أي: لكن نزلناه عظة وتذكيرًا بالأحكام. {لِمَنْ يَخْشَى} اللهَ تعالى. ... {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)} [طه: 4]. [4] {تَنْزِيلًا} بدل من قوله: (تَذْكِرَةً). ¬

_ (¬1) انظر "أسباب النزول" للواحدي (ص: 173). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 153)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 69).

[5]

{مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} صفة أقامها مقام الموصوف، والعلى: جمع العليا. ... {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]. [5] {الرَّحْمَنُ} رفع بالابتداء {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} استواء يليق بعظمته بلا كيف، وهذا من متشابه القرآن، نؤمن به، ولا نتعرض لمعناه، وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لرجل مسألة عن الاستواء، فقال له مالك: "الاستواء معلوم -يعني: في اللغة-، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني"، فأدبر الرجل وهو يقول: يا أبا عبد الله لقد سألت فيها أهل العراق وأهل الشام، فما وفق فيها أحد توفيقك (¬1). وسئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: "هو كما أخبر، لا كما يخطر للبشر". وتقدم الكلام على ذلك مستوفىً (¬2) في سورة الأعراف. ... {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)} [طه: 6]. [6] {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من جميع المخلوقات. ¬

_ (¬1) رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (3/ 398)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 325 - 326). (¬2) "مستوفًى" ساقطة في "ت".

[7]

{وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} التراب الندِيّ تحت الظاهر. ... {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} [طه: 7]. [7] {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} ترفع صوتك به. {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ} ما أسره لغيره. {وَأَخْفَى} هو ما أسر في نفسه. ... {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 8]. [8] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وَحَّدَ نفسه سبحانه. {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} يريد: التسميات التي تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن، وتقدم ذكر الأسماء الحسنى، والكلام عليها في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. ... {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)} [طه: 9]. [9] {وَهَلْ} أي: وقد {أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} استفهام بمعنى التقرير. ... {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)} [طه: 10]. [10] {إِذْ رَأَى نَارًا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان بخلاف عن هشام وأبي بكر: (رَأَى) بإمالة الراء تبعًا للهمزة، وأمال

[11]

أبو عمرو الهمزة فقط (¬1)، وملخص القصة: أن موسى استأذن شعيبًا -عليهما السلام- في الخروج بزوجته، فأذن له، فخرج بها سائرًا على غير الطريق غيرة نحو الطور الأيمن الغربي في ليلة شاتية باردة، فأخذ امرأتَه الطلقُ، فقدح زنده مرارًا فلم يورِ، فأبصر نارًا من بعيد. {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} أقيموا. قرأ حمزة (لِأهْلِهُ امْكُثُوا) بضم الهاء في الوصل، والباقون: بكسرها فيه (¬2). {إِنِّي آنَسْتُ} أبصرت {نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} بشعلة نار في طرف عود أو فتيلة. قرأ الكوفيون، ويعقوب: (إِنِّيْ آنَسْتُ)، و (لَعَلِّيْ آتِيكُمْ) بإسكان الياء فيهما، وافقهم ابن عامر في الأول، والباقون: بفتح الياء فيهما (¬3)، ولم يقل: (آتيكم) بلا (لعلي)؛ لأنه لم يكن متيقنًا الوفاء بالوعد {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أي: هاديًا يدلني على الطريق. ... {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (11)} [طه: 11]. [11] {فَلَمَّا أَتَاهَا} رأى شجرة خضراء من العَوْسَج من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد، وسمع (¬4) تسبيح الملائكة، وأُلقيت عليه السكينة، فثَمَّ {نُودِيَ يَامُوسَى}. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 70). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 150)، و"تفسير البغوي" (3/ 114)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 71). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 154)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 71). (¬4) في "ت": "تسمَّع".

[12]

{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)} [طه: 12]. [12] {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (أَنِّي) بفتح الهمزة؛ أي: بأني، وأبو عمرو: يدغم الياء في الياء في قوله (نُودِي يَّا مُوسَى)، والباقون: بكسرها؛ أي: نودي موسى، فقيل إني (¬1)، فنافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: يفتحون الياء، والباقون: يسكنونها، روي أنه لما سمع هذا النداء، فقال: من المتكلم؟ فقال تعالى: (أَنَا رَبُّك). {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} أي: ألقهما؛ لأنهما كانا من جلد حمار ميت. {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} المطهر. وقف يعقوب: (بِالْوَادِي) بإثبات الياء (¬2) {طُوًى} فخلعهما وألقاهما، ورأى الوادي. قرأ الكوفيون، وابن عامر: (طُوًى) بالتنوين، على أنه اسم الوادي، وقرأ الباقون: بغير تنوين، على أنه اسم البقعة، واتفقوا على ضم الطاء (¬3). وعن ابن عباس: "قيل له: (طوى)؛ لأن موسى طواه بالليل إذ مر به، فارتفع إلى أعلى الوادي" (¬4)، فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه؛ كأنه قال: إنك بالواد الذي طويته طوى؛ أي: تجاوزته فطويته بسيرك. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 150)، و"تفسير البغوي" (3/ 115)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 72). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 318)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 72). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 150)، و"تفسير البغوي" (3/ 116)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 72). (¬4) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 560).

[13]

{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)} [طه: 13]. [13] {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} قرأ حمزة: (وَأَنَّا) بتشديد النون (اخْتَرْنَاكَ) بالنون مفتوحة وألف بعدها على الخبر عن نفسه، بلفظ الجمع في الكلمتين؛ تعظيمًا لله تعالى، وقرأ الباقون: (وَأَنَا) بتخفيف النون (اخْتَرْتُكَ) بتاء مضمومة من غير ألف (¬1)، على لفظ الواحد فيهما على الخبر عن نفسه في اللفظ، ومعناه: إني اصطفيتك برسالاتي {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} إليك. ... {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]. [14] {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنَّنِيْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} لعبادتي؛ لأن الصلاة مشتملة على قراءة، والقراءة مشتملة على أذكار. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (لِذِكْرِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3). ... {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)} [طه: 15]. [15] {إِنَّ السَّاعَةَ} القيامة {آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} أُسِرُّها، ولا أقول: ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 150 - 151)، و"تفسير البغوي" (3/ 116)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 73). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 154)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 74). (¬3) المصادر السابقة.

[16]

هي آتية؛ أي: أسترها عن العباد، ولا أذكرها لهم؛ لأنهم إذا لم يعلموا متى قيامها، كانوا على وَجَلٍ منها في كل وقت {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} بعملها من خير وشر. ... {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} [طه: 16]. [16] ثم نهى تعالى موسى - صلى الله عليه وسلم -، والمراد: غيره بقوله: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي: عن الإيمان بها {مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا} من الكفار. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} في عبادة غير الله {فَتَرْدَى} فتهلك إن انصددت عنها. ... {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17)} [طه: 17]. [17] {وَمَا تِلْكَ} أي: وما التي {بِيَمِينِكَ} في يدك اليمنى {يَامُوسَى} سؤال تقرير، والحكمة فيه تنبيهه على أنها عصا، حتى إذا قلبها حية، علم أنه معجز عظيم، وهذا على عادة العرب، يقول الرجل لغيره: هل تعرف هذا، وهو لا يشك أنه يعرفه، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه. ويروى أن (¬1) عصا موسى هي التي هبط بها آدم من الجنة، وأنها من ورق آس من أحد الخطوط المستطيلة في وسط الورقة، وأن طولها اثنا عشر ذراعًا بذراع موسى عليه السلام، وكانت العصا شعبتين، وفي أسفلها سنان، ولها محجن. ¬

_ (¬1) في "ت": "أنه".

[18]

{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)} [طه: 18]. [18] {قَالَ هِيَ عَصَايَ} فقيل: ما تصنع بها؟ قال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أعتمد عليها عند الوثبة، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} أي: أضرب بها الأغصان ليسقط ورقها، فترعاه الغنم، (وَأَهُسُّ) بالمهملة: أزجر بها (¬1)، والتلاوة بالأول. {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ} جمع مأربة -بضم الراء وفتحها-؛ أي: حوائج {أُخْرَى} على تأنيث الجمع في المعنى، وأراد بالمآرب: ما يستعمل فيه العصا في السفر، فكان يحمل بها الزاد، ويشد بها الحبل فيستقي الماء من البئر، ويحارب بها السباع، وتماشيه وتحدثه، ويركزها فتورق، وتحمل أي ثمرة أحب له (¬2)، وتضيء له شعبتاها (¬3) في الليل كشمعتين، وتطرد عنه الهوام، وغير ذلك (¬4). قرأ ورش، وحفص: (وَلِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬5). ¬

_ (¬1) وهي قراءة عكرمة، انظر: "تفسير البغوي" (3/ 117). (¬2) "له" ساقطة من "ت". (¬3) في "ت": "شعبتها". (¬4) قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 146): "وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت لما استنكر موسى عليه الصلاة والسلام صيرورتها ثعبانًا، فما كان يفر منها هاربًا، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية". (¬5) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 426)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 303)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 77).

[19]

{قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19)} [طه: 19]. [19] {قَالَ} الله تعالى: {أَلْقِهَا يَامُوسَى} انبذها. ... {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)} [طه: 20]. [20] قال وهب: ظن موسى أنه يقول: ارفضها، {فَأَلْقَاهَا} على وجه الرفض (¬1)، ثم حانت منه نظرة، {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ} عظيمة {تَسْعَى} تمشي مسرعة على بطنها، قال هنا: (حَيَّة)، وفي غيره (جَانّ)، وهو الخفيف من الحيات، و (ثعبان)، وهو عظيمها؛ لأن الحية تعم الذكر والأنثى، والصغير والكبير. ... {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه: 21]. [21] فلما رآها لا تمر بحجر إلا ابتلعته، ولا شجر إلا اقتلعته، ويُسمع لأنيابها صريف شديد، ولى مدبرًا وهرب، ثم ذكر ربه، فوقف استحياء منه، ثم نودي: أن يا موسى! أقبل، ارجع حيث كنت، فرجع وهو شديد الخوف {قَالَ} تعالى: {خُذْهَا} بيمينك. {وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} أي: سنردها عصا كما كانت، فأدخل موسى يده في كمه ليأخذها، فسمع النداء: أرأيت لو أذن لها أن تضربك كان يغنيك؟! فكشف يده وأدخلها في فيها؛ فإذا هي عصا كما ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص:61)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2847).

[22]

كانت، ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ، وأري ذلك موسى عند المخاطبة؛ لئلا يجزع إذا انقلبت حية لدى فرعون. ... {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)} [طه: 22]. [22] ثم نبه على آية أخرى فقال: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} أي: اجمعها إلى جيبك ما بين أسفل العضد إلى الإبط، وأصله من جناح الطير؛ لأنه يجنح به؛ أي: يميل، فكأن الإنسان يجنح بجانبيه عند العطفات والالتفات، المعنى: أدخلها تحت عضدك. {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} برص، فكان ليده نور ساطع يضيء كضوء الشمس والقمر. {آيَةً أُخْرَى} دلالة على صدقك. ... {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)} [طه: 23]. [23] {لِنُرِيَكَ} المعنى: فعلنا ذلك لنريك. {مِنْ آيَاتِنَا} الآية {الْكُبْرَى} العظمى (¬1)، وكانت يده أكبر آياته. ... {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} [طه: 24]. [24] {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} ترفَّع وعلا وتجاوز الحد في الكفر. ... ¬

_ (¬1) "العظمى" زيادة من "ت".

[25]

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)} [طه: 25]. [25] {قَالَ} موسى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} وسِّعه لتحمل الحق والمشاق، ورديء أخلاق فرعون وجنده. ... {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)} [طه: 26]. [26] {وَيَسِّرْ} سَهِّل {لِي أَمْرِي} لأبلِّغ الرسالة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} [طه: 27]. [27] {وَاحْلُلْ عُقْدَةً} رثة {مِنْ لِسَانِي} حدثت بسبب إلقائي الجمرة في فيَّ، وذلك أن موسى في صغره لطم فرعون لطمة عظيمة، وأخذ بلحيته، فأراد قتله، فقالت آسية؛ أيها الملك! إنه صغير لا يعقل، جرِّبْه إن شئت، فجعل في طست جمرًا، وفي آخر جوهرًا، ووضعتهما لدى موسى، فأراد أخذ الجوهر، فأخذ جبريل يده ووضعها على الجمر، فأخذ جمرة ووضعها في فيه، فاحترق، فصار بلسانه لُكْنة منها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 154)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 79). (¬2) قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 154): "رواه النسائي في "السنن الكبرى"، وأخرجه أبو جعفر بن جرير، وابن أبي حاتم في "تفسيريهما"، كلهم من حديث =

[28]

{يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه: 28]. [28] {يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي: احلل العقدة كي يفقهوا كلامي، والفقه لغةً: الفهم. ... {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)} [طه: 29]. [29] {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا} معينًا {مِنْ أَهْلِي} والوزير: من الوزر: الثقل؛ لأن الوزير يتحمل أثقال الملك، ويعتمد عليه. ... {هَارُونَ أَخِي (30)} [طه: 30]. [30] وكان هارون أجمل شكلًا، وأفصح لسانًا من موسى، فلذلك قال: {هَارُونَ أَخِي}. ... {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)} [طه: 31]. [31] {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قَوِّ به ظهري. ... ¬

_ = يزيد بن هارون، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس -رضي الله عنهما- مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضًا".

[32]

{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} [طه: 32]. [32] {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} الذي حَمَّلْتني. قرأ ابن عامر، وأبو جعفر بخلاف عن الثاني: (أَخِي أَشْدُدْ) بفتح الألف في الوصل والقطع، (وأُشْرِكْه): بضم الألف، وسكَّنا الياء من (أَخِيْ)، فهما خبر من موسى (¬1)، فـ (أَشْدُدْ) جزم جواب الطلب كجواب الشرط، (وأُشْرِكْهُ) عطف عليه، المعنى: أعتضد به أنا، وأجعله أنا شريكي، وقرأ الباقون: بوصل همزة (اشدد)، وتبتدأ (¬2) بالضم، وبفتح همزة (أَشْرِكْهُ) دعاء من موسى، المعنى: افعل أنت اللهم ذلك به، وفتحَ الياء من (أَخِيَ): أبو عمرو، وابن كثير، وسكَّنها الباقون، وهم: نافع، والكوفيون، ويعقوب (¬3)، وقرأ ابن كثير: (وَأَشْرِكْهُو فِي أَمْرِي) بإشباع الهاء ووصلها بواو في الدرج، والباقون باختلاس ضمتها (¬4). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 151)، و "تفسير البغوي" (3/ 120)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 320)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 79 - 80). (¬2) في "ش": "تتبدل". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 418)، و"التيسير" للداني (ص: 151)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 79). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 418)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 80).

[33]

{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)} [طه: 33]. [33] {كَيْ نُسَبِّحَكَ} تسبيحًا {كَثِيرًا}. ... {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)} [طه: 34]. [34] {وَنَذْكُرَكَ} ذكرًا {كَثِيرًا} فإن التعاون يهيج الرغبات، ويؤدي إلى تزايد الخير. ... {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} [طه: 35]. [35] {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} تعلم أحوالنا. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (نُسَبِّحَك كَّثيرًا وَنَذْكُرَك كَّثيرًا إِنَّك كُّنْتَ) بإدغام الكاف في الكاف من الأحرف الثلاثة (¬1). ... {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى (36)} [طه: 36]. [36] {قَالَ} الله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} طِلْبتك. {يَمُوسَىَ} مِنَّةً عليك. ... {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)} [طه: 37]. [37] {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} قبل هذه المرة. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 320)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 303)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 80).

[38]

{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)} [طه: 38]. [38] {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} ألهمناها {مَا يُوحَى} ما يُلْهَم. ... {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39]. [39] ثم فسر الإلهام فقال: {أَنِ اقْذِفِيهِ} اجعليه {فِي التَّابُوتِ} فأخذت قطنًا محلوجًا، ووضعته في التابوت، وألقت موسى فيه، وشدت عليه وأحكمته؛ لئلا يصل إليه الماء، وكان يدخل من النيل نهر إلى دار فرعون {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} بحر النيل. {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} أي: الجانب، وسمي ساحلًا؛ لأن الماء يسحله؛ أي: يقشره. {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} وهو فرعون، وهذا إخبار لأم موسى بصيغة الأمر لليم، فألقته فيه، فدخل دار فرعون، فبصر به، فأمر بإخراجه، فأُخرج، وفتحوا التابوت، فإذا فيه صبي أحسن الناس وجهًا، فأخذه فرعون وأحبه هو وآسيا حبًّا شديدًا؛ بحيث لا يصبران عنه، يصدق ذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} قال ابن عباس: "أحبه وحببه إلى الناس" (¬1)، والواو بعد عاطفة على محذوف تقديره: ألقيت عليك محبة لتحب. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 121)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (5/ 284)، و"تفسير القرطبي" (11/ 196).

[40]

{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} لتربى على حفظي ورعايتي. قرأ أبو جعفر: (وَلْتُصْنَعْ) بإسكان اللام وجزم العين، فيجب له إدغامها، وقرأ الباقون: بكسر اللام ونصب العين (¬1)، وأبو عمرو ورويس: يدغمان العين في العين على أصلهما في إدغام المتماثلين، وفتح نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو الياء من (عَيْنِيَ)، وسكنها الباقون (¬2). ... {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى (40)} [طه: 40]. [40] {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} ظرف (لتصنع)؛ لأن أخته مريم خرجت متعرفة خبره، فجاءتهم، وكان لا يقبل ثدي مرضعة {فَتَقُولُ} أي: فقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} أي: امرأة تحضنه وترضعه ويقبل ثديها؟ قالوا: نعم، من هي؟ قالت: أمي، قالوا: لها لبن؟ قالت: نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، فجاءت بالابن (¬3)، فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بلقائك {وَلَا تَحْزَنَ} ليزول حزنها {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} هو القبطي، فاغتممت خوفًا من الله تعالى ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 426)، و"تفسير البغوي" (3/ 121)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 81). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 320)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 303)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 81). (¬3) في "ت": "بالأم".

[41]

{فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} بأن غفر لك، وأُنجيت من فرعون. {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} مصدر؛ أي: اختبرناك اختبارًا بإيقاعك في المحن، وتخليصك منها {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} عند شعيب، قال وهب: لبث عنده ثمانيًا وعشرين سنة: عشر مهر ابنته، وأقام عنده ثماني عشرة سنة حتى ولد له. وتقدم اختلاف القراء في الإدغام والإظهار من (لَبِثْتَ) في سورة الكهف [الآية: 19]، ومدين: بين مصر ومكة، مسافتها عن مصر نحو اثني عشر يومًا، وهي منزلة للحجاج، تعرف في هذه الأزمنة بمغارة شعيب، تقدم ذكرها في سورة الأعراف. {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ} موعد مقدر في علمي {يَامُوسَى} أنك تجيء، وأستنبئك فيه، وكان مجيؤه على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء. ... {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه: 41]. [41] {وَاصْطَنَعْتُكَ} أي: اصطفيتك {لِنَفْسِي} بأن جعلتك نبيًّا. ... {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)} [طه: 42]. [42] {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} هارون إلى الناس {بِآيَاتِي} التسع. {وَلَا تَنِيَا} تفتُرا. {فِي ذِكْرِي} التسبيح والتقديس والالتجاء إلي. ***

[43]

{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)} [طه: 43]. [43] {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} بإدعائه الربوبية. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (لِنَفْسِيَ اذْهَبْ) (ذِكَرِيَ اذْهَبَا) بفتح الياء فيهما، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 44]. [44] {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} سهلًا، أي: ارفقا به، ولا تعنِّفاه، وكَنِّياه، لما له من حق التربية، وكان يكنى بأبي مصعب. {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} يتعظ {أَوْ يَخْشَى} الله، فيسلم، قالوا: تذكر فرعون وخشي، وروي أنه أحب اتباع موسى، فشاور هامان، فقال: كنت أرى لك رأيًا وعقلًا، أنت الآن ربٌّ تريد أن تكون مربوبًا؟! وأنت منا الآن تُعبد، تريد الآن أن تَعبد؟! فقلبه عن رأيه (¬2). ... {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)} [طه: 45]. [45] وكان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي بهارون، وأوحي إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة، وأخبره بما أوحي إليه. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 154)، و"تفسير البغوي" (3/ 122)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 82 - 83). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 123)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (5/ 288).

[46]

{قَالَا} يعني: موسى وهارون: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} يعجل عقوبتنا {أَوْ أَنْ يَطْغَى} يجاوز الحد في الإساءة إلينا. ... {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46]. [46] {قَالَ} الله: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} بعوني. {أَسْمَعُ} ما يقول {وَأَرَى} ما يصدر منه. ... {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)} [طه: 47]. [47] {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا} فأتياه فقالا (¬1): {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} أرسلَنا إليك. {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى الشام {وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} بأشغالك الشاقة. {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} حجة على صدقنا {مِّن رَّبِّكَ} لأن الرسالة لا تثبت إلا بحجة ظاهرة، قال فرعون: وما هي؟! فأخرج موسى يده لها شعاع كشعاع الشمس، {وَالسَّلَامُ} المنجِّي من سخط الله تعالى. {عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} التوحيد. ... {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)} [طه: 48]. [48] {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ} بما جئنا به. {وَتَوَلَّى} أعرض عنه. ¬

_ (¬1) في "ت": "فَأْتياه فقولا" بصيغة الأمر، والصواب "فأَتياهُ فَقَالا" بصيغة الماضي.

[49]

{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49)} [طه: 49]. [49] {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} خاطبهما أولًا، ثم خص موسى بالنداء؛ لأنه الأصل، وهارون تابعه. ... {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50]. [50] {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه {ثُمَ هَدَى} أي: عَرَّفَ كيف يُرتفق بما أعطى. ... {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)} [طه: 51]. [51] {قَالَ} فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} سؤال عن حال الأمم الماضية. ... {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52]. [52] {قَالَ} موسى: {عِلْمُهَا} محفوظ. {عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} اللوح المحفوظ. {لَا يَضِلُّ رَبِّي} أي: لا يخطئ {وَلَا يَنْسَى} شيئًا، فلا يترك من كفر به حتى ينتقم منه، ولا من وَحَّده حتى يجازيَه. ***

[53]

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)} [طه: 53]. [53] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} قرأ الكوفيون: (مَهْدًا) بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف، مصدر وصف به، أي: كالمهد يتمهدونها، وقرأ الباقون: (مِهَادًا) بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها (¬1)، وهو اسم ما يمهد كالفراش، المعنى: وَطَّأَ لكم الأرض لتسكنوها. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي: جعل لكم فيها طرقًا لتسلكوها. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني: المطر، ثم الإخبار عن موسى -عليه السلام-، ثم أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن نفسه بقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} أصنافًا {مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} مختلفة النفع والطعم واللون، جمع شتيت؛ كمرضى جمع مريض. ... {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)} [طه: 54]. [54] {كُلُوا} من النبات {وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أسيموها فيه؛ أي: أخرجنا مبيحين لكم الأكل ورعي الدواب. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكرت {لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} لذوي العقول جمع نهية؛ لأنها تنهى صاحبها عن القبيح. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 151)، و"تفسير البغوي" (3/ 125)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 85).

[55]

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 55]. [55] ثم عرفهم أن الأرض أصلهم ومصيرهم، فقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} لأنكم من آدم، وآدم من التراب {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} مقبورين بعد الموت {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} عند البعث {تَارَةً أُخْرَى} كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم. ... {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)} [طه: 56]. [56] {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} يعني: فرعون {كُلَّهَا} يعني: الآيات التسع، {فَكَذَّبَ} بها {وَأَبَى} الإسلام. ... {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (57)} [طه: 57]. [57] {قَالَ} يعني: فرعون: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} مصر {بِسِحْرِكَ يَامُوسَى} هذا تعلل وتحير، ودليل على أنه علم كونه محقًا حتى خاف منه على ملكه؛ فإن ساحرًا لا يقدر أن يخرج ملكًا مثله من أرضه. ... {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)} [طه: 58]. [58] {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} أي: بسحر يماثله {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} أي: فاضرب بيننا وبينك ميقاتًا، والموعد بمعنى: الوعد؛ لقوله:

[59]

{لَا نُخْلِفُهُ} لا نجاوزه {نَحْنُ وَلَا أَنْتَ} فإن الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان. قرأ أبو جعفر (نُخْلِفْهُ) بإسكان الفاء جزمًا جواب الأمر، فتمتنع الصلة، وقرأ الباقون: بالرفع والصلة (¬1). {مَكَانًا سُوًى} يعني وسطًا بين الموضعين؛ أي: نتواعد مكانًا، فتستوي مسافته على الفريقين. قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، ويعقوب، وخلف: (سُوًى): بضم السين، والباقون: بكسرها، وهما لغتان (¬2)، وروي عن أبي بكر إمالة (سُوًى) حالة الوقف؛ وفاقًا لمن قرأ بالإمالة، وروي عنه الفتح أيضًا (¬3). ... {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)} [طه: 59]. [59] {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة. {وَأَنْ يُحْشَرَ} أن يُجمع {النَّاسُ ضُحًى} ضحوةً نهارًا؛ ليكون أبعد من الريبة، وأبينَ لكشف الحق. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 127). و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 320)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 86). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 151)، و"تفسير البغوي" (3/ 127)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 320)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 86). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 153)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 87).

[60]

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)} [طه: 60]. [60] {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} مكره وسحرته، وكانوا اثنين وسبعين، وقيل: أكثر من ذلك، وحضر أهل دولته، وجاء موسى -عليه السلام- ببني إسرائيل معه. {ثُمَّ أَتَى} الموعد. ... {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)} [طه: 61]. [61] {قَالَ لَهُمْ مُوسَى} يعني: للسحرة: {وَيْلَكُمْ} وهذه مخاطبة محذور، وندبهم في هذه الآية إلى قول الحق إذا رأوه، ولا يباهتوا بكذب. فقال: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ} أي: يهلككم {بِعَذَابٍ} عظيم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (فَيُسْحِتكمْ) بضم الياء وكسر الحاء، والباقون: بفتحهما، ومعناهما واحد (¬1). {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} على الله تعالى. قرأ حمزة (خَابَ) بالإمالة حيث وقع، واختلف عن ابن ذكوان (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 151)، و"الكشف" المكي (2/ 98)، و"تفسير البغوي" (3/ 127)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 88). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 304 - 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 88).

[62]

{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)} [طه: 62]. [62] {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} يعني: السحرة تناظروا في أمر موسى، وقالوا: إن كان ساحرًا، سنغلبه، وإن كان (¬1) ما يأتي به من السماء، فله أمره. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أخفوا كلامهم من فرعون. ... {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)} [طه: 63]. [63] {قَالُوا} تفسير لـ {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} يعني: موسى وهارون. قرأ أبو عمرو: (إِنَّ) بتشديد النون (هَذَيْنِ) بالياء على الأصل، وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: (إِنْ) بتخفيف النون (هَذَانِ) بالألف، فابن كثير يشدد النون من (هَذَانِّ)، وحفص يخففها؛ أي: ما هذان إلا ساحران؛ كقوله تعالى: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186]، أي: ما نظنك إلا من الكاذبين، وقرأ الباقون: (إِنَّ) بتشديد النون كأبي عمرو، و (هَذَانِ) بالألف وتخفيف النون من (هَذَانِ) كحفص، فيكون (إِنَّ) بمعنى: نعم، و (هَذَانِ) مبتدأ، و (سَاحِرَانِ) خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة، تقديره: هذان لهما ساحران، أو (هذان) مبتدأ، (ساحران) خبره، واللام زائدة (¬2)، قال ¬

_ (¬1) "كان" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص:151)، و"تفسير البغوي" (3/ 128 - 129)، =

[64]

الكواشي: والقراءة بتشديد (إِنَّ) ونصب (هَذَيْنِ) زعموا أنها مخالفة لخط المصحف، وزعم بعضهم أنما حمله على ذلك خشية اللحن، وهذا طعن في عدالة أبي عمرو وعلمه؛ لأنه هو الذي قرأها؛ لأن هذا يشعر أنه قرأها من تلقاء نفسه، لم يأخذها متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه غير عالم بتعليل (إِنَّ هَذَانِ) بالرفع وتشديد (إِنَّ)، وكيف يجوز اعتقاد مثل هذا بمن شهد له بالعدالة والبراعة في علم العربية، حتى زعموا أنه قال: إني لأستحي من الله أن أقرأ: (إِنَّ هَذَانِ) يعنون: بالرفع وتشديد (إِنَّ)، وكيف يجوز أن يعتقد بأحد من المسلمين أنه يستحيي من قراءة ما صح وتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن أبا عمرو وغيره من الأئمة كانوا ينشدون ويسمعون الأشعار المنحولة والغريبة، ولا يؤخذ ذلك عليهم، انتهى. {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} مصر {بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ} بدينكم وشريعتكم {الْمُثْلَى} تأنيث الأمثل، وهو الأعدل. ... {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)} [طه: 64]. [64] {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} قرأ أبو عمرو: (فَاجْمَعُوا) بوصل الهمزة وفتح الميم من جَمَع: لمّ؛ أي: لا تتركوا منه شيئًا. وقرأ الباقون: بالقطع وكسر الميم (¬1)؛ من أجمع: أحكم؛ أي: أحكموا ما تكيدون به موسى، واعزموا كلكم على كيده مجتمعين له، ولا تختلفوا فينحل أمركم. ¬

_ = و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 90). (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 152)، و"تفسير البغوي" (3/ 130)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 91).

[65]

{ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي: مصطفين؛ ليكون أهيب في صدور الناس، فجاؤوه في سبعين صفًا، كل صف ألف، فثَمَّ رغبهم فرعون في غلب موسى بما هو اعتراض فقال: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ} فاز بالمطلوب {مَنِ اسْتَعْلَى} غلب. ... {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)} [طه: 65]. [65] {قَالُوا} يعني: السحرة تأدبًا: {يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} عصاك {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}. ... {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} [طه: 66]. [66] {قَالَ} موسى: {بَلْ أَلْقُوا} ما معكم؛ احتقارًا لهم، وليظهر الحق من الباطل، فألقوه. {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} جمع العصا {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ} قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر، وروح عن يعقوب: (تُخَيَّلُ) بالتاء مضمومة على التأنيث مع فتح الياء لتأنيث جماعة الحبال والعصي، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير (¬1)، ردوه إلى الكيد أو السحر. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" للطبراني (7/ 14)، و"تفسير البغوي" (3/ 130)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 321)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 92).

[67]

{أَنَّهَا تَسْعَى} روي أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم، ولطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس، اضطربت، فخيل إليه وإلى الناس أنها تسير وتتحرك، وكانت قد أخذت ميلًا من كل جانب. ... {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)} [طه: 67]. [67] {فَأَوْجَسَ} أضمر {فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} ظنًّا منه أنها تقصده كعادة البشر. ... {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)} [طه: 68]. [68] {قُلْنَا} لموسى: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} أي (¬1): الغالب القاهر لهم. ... {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه: 69]. [69] {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} من العصا {تَلْقَفْ} تبتلع {مَا صَنَعُوا} بقدرة الله تعالى. قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: (تلْقَفُ) برفع الفاء على الحال والاستئناف، وقرأ حفص عن عاصم: بإسكان اللام مع تخفيف القاف والجزم، وقرأ الباقون: بتشديد القاف والجزم جواب (وَأَلْقِ)، فالفاعل موسى، نسب إليه التلقف؛ لأنه كان بسببه، والبزي عن ابن كثير: ¬

_ (¬1) "أي" ساقطة من "ت".

[70]

على أصله في تشديد التاء من (تّلَقَّفْ) وصلًا؛ كأنه أراد: تتلقف، فأدغم (¬1). {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ} مكر {سَاحِرٍ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (سِحْرٍ) بكسر السين [وإسكان الحاء من غير ألف؛ أي: حيلة سحر، وقرأ الباقون: بالألف وفتح السين] (¬2) وكسر الحاء، بإضافة الكيد إلى الفاعل، وهي أولى من إضافته إلى الفعل، وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية (¬3) {وَلَا يُفلِحُ} لا يسعد {السَّاحِرُ} المراد: الجنس {حَيْثُ أَتَى} من الأرض. ... {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)} [طه: 70]. [70] فألقى موسى عصاه، فالتقمت ما جاؤوا به، فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر، وإنما هو من آيات الله ومعجزاته {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} شكرًا لله على الهداية، روي أنهم رأوا الجنة ومنازلهم فيها في سجودهم، ثم رفعوا رؤوسهم. و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} قدم هارون؛ لكبر سنه. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 152)، و"تفسير البغوي" (3/ 131)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 305)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 93). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 421)، و"التيسير" للداني (ص: 152)، وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 131)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 94).

[71]

{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} [طه: 71]. [71] {قَالَ} فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} قرأ حفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب، وقنبل عن ابن كثير بخلاف عنه: (أَمَنْتُمْ) بهمزة واحدة على الخبر، والباقون: بهمزتين على الاستفهام، فحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف، وروح عن يعقوب يقرؤون بتحقيق الهمزتين على الأصل، والباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، ولم يدخل أحد منهم ألفًا بين الهمزة المحققة والمسهلة في هذا المحل؛ كما أدخلها من أدخلها منهم في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) وبابه، لكراهية اجتماع ثلاث ألفات بعد الهمزة (¬1)، وأبو عمرو يدغم التاء في السين من قوله: (السَّحَرَة سُّجَّدًا) (¬2)، ومعنى الكل إنكارة أي: أصدقتم لموسى، وآمنتم بربه من غير أمري إياكم. {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} لرئيسكم ومعلمكم. {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} اليد اليمنى والرجل اليسرى، و (مِنْ) لابتداء الغاية؛ لأن القطع مبتدأ من مخالفة العضو العضو؛ أي: ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 152)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 368 - 369)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 95). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 291)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 95).

[72]

لأقطعنها مختلفات، وابتداء الغاية داخلها (¬1) بالاتفاق، لا انتهاؤها عند المالكية والشافعية والحنابلة، وعن أبي بكر من أصحاب أحمد: إن كانت الغاية من جنس المحدود كالمرافق، دخلت، وإلا، فلا، وعند الحنفية: إن قامت الغاية بنفسها، لم تدخل؛ كبعتك من هنا إلى هنا، وإن تناوله صدر الكلام، فالغاية لإخراج ما وراءه؛ كالمرافق، والغاية في الخيار، ومنع أبو حنيفة دخول العاشر في قوله: من درهم إلى عشرة ونحوِه، وأدخله صاحباه. {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: عليها {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} يريد: نفسه وربَّ موسى عليه السلام {أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} وأدوم عقابًا. {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)} [طه: 72]. [72] {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ} لن نختارك {عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} الدلالات على صدق موسى {وَالَّذِي فَطَرَنَا} أي: ولن نؤثرك على الله الذي فطرنا، فالواو في قوله: (وَالَّذِي) عاطفة، وقيل هي واو قسم، و (فَطَرَنا) معناه: خلقنا واخترعنا. {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} فافعل يا فرعون ما شئت. روي عن يعقوب وقنبل: الوقف بالياء على (قَاضِي) (¬2) {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} إنما ¬

_ (¬1) في "ت": "داخل". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 138)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 72).

[73]

تحكم فينا مدة حياتنا؛ فإن سلطانك في الدنيا، وسيزول عن قريب. ... {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} [طه: 73]. [73] {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} ولما رأوا موسى تحرسه عصاه وهو نائم، قالوا: ليس بساحر؛ لأن الساحر يبطل سحره إذا نام، فكرهوا معارضته خوفَ الفضيحة، فأكرههم فرعون على الإتيان بالسحر، فذلك قوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} و (ما) موصولة منصوبة عطف على (خَطَايَانَا) أي: ليغفر خطايانا، والذي أكرهتنا عليه {وَاللَّهُ خَيْرٌ} عطاءً منك إذا أُطيع {وَأَبْقَى} عقابًا منك إذا عُصي، وهذا جواب لقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} [طه: 71]. ... {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)} [طه: 74]. [74] {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ} أي: يأت موعدَ ربه. {مُجْرِمًا} أي: مشركًا، والمجرم: من اكتسب الخطايا والجرائم. {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح {وَلَا يَحْيَى} حياة ينتفع بها. قالت فرقة: هذه الآية بجملتها هي من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه، وقالت فرقة: بل هي من كلام الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ تنبيهًا على قبح مافعل فرعون، وحسنِ ما فعل السحرة، وموعظة وتحذيرًا.

[75]

{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75]. [75] {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} أي: مات على الإيمان. {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} في الدنيا. {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} هي القرب من الله تعالى. قرأ السوسي عن أبي عمرو: (يَأْتِهْ) بإسكان الهاء، (مُومِنًا) بإسكان الواو بغير همز، وقرأ أبو جعفر، وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر، ورويس عن يعقوب: باختلاس كسرة الهاء، بخلاف عنهم، إلا رويس، وقرأ الباقون: بإشباع الهاء، وكلها لغات (¬1). ... {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه: 76]. [76] {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي: أطاع الله، وأخذ بأزكى الأمور. ... {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)} [طه: 77]. [77] {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي: سر بهم ليلًا من أرض مصر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: (أَنِ اسْرِ) بوصل الألف، من ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 152)، و"تفسير البغوي" (3/ 132)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 309 - 310)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 305)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 97).

[78]

سرى، ويكسرون النون من (أن) للساكنين وصلًا، ويبتدئون بكسر الهمزة، وقرأ الباقون: بقطع الهمزة مفتوحة؛ من أسرى، ومعناهما واحد، وهو سير الليل، وحمزة يسكت على الساكن قبل الهمزة (¬1). {فَاضْرِبْ} أي: اجعل {لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ} بالضرب بالعصا {يَبَسًا} يابسًا، ليس فيه ماء ولا طين، وذلك أن الله أيبس له الطريق في البحر، وتقدم ذكر القصة في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ (50)} [البقرة: 50]. {لَا تَخَافُ دَرَكًا} لحاقًا. قرأ حمزة: (لاَ تَخَفْ) بالجزم على النهي، وقرأ الباقون: بالألف والرفع على النفي (¬2)؛ لقوله: {وَلَا تَخْشَى} المعنى: لا تدرَك وأنت آمن. ... {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)} [طه: 78]. [78] {فَأَتْبَعَهُمْ} فلحقهم {فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} وكان هو فيهم. {فَغَشِيَهُمْ} فغطاهم {مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} ما غرقهم، وهو إبهام أهول من النص. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 535)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 97). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 152)، و"تفسير البغوي" (3/ 133)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 98).

[79]

{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)} [طه: 79]. [79] {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} من أول أمره وإلى هذه النهاية، ثم أكد تعالى بقوله: {وَمَا هَدَى} مقابلة لقول فرعون {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)} [غافر: 29]. ... {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)} [طه: 80]. [80] {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} فرعون. {عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} لما جاءه موسى، وإنزال التوراة عليه. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ظاهر هذه الآية أن القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول هذه النعم التي عدَّد الله عليهم، وبين خروجهم من البحر وبين هذه المقالة مدة وحوادث. ... {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)} [طه: 81]. [81] {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} لذائذه {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} لا تجاوزوا حد الله لكم فيه؛ كالسرف والبطر والمنع عن المستحق. {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} فيلزمكم (¬1) عذابي. ¬

_ (¬1) في "ت": "فليلزمكم".

[82]

{وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} هلك. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (أَنْجَيْتكُمْ) (وَوَعَدْتُكُمْ) (مَا رَزَقْتكمْ) بالتاء المضمومة على لفظ الواحد من غير ألف في الثلاثة، وقرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (وَعَدْنَاكُمْ) بالنون مفتوحة وبعدها ألف؛ من الوعد، وقرأ الباقون، وهم نافع، وابن كثير، وعاصم، وابن عامر: (وَاعَدْنَاكُمْ) بألف بين الواو والعين؛ من المواعدة (¬1)، وقرأ الكسائي: (فَيَحُل عَلَيْكُمْ) بضم الحاء، (وَمَنْ يَحْلُلْ) بضم اللام الأولى؛ أي: ينزل، وقرأ الباقون: بكسر الحاء واللام منهما (¬2)، أي: يجب، والحرف الثالث مجمَع عليه، وهو الآتي قريبًا. ... {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]. [82] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} من الشرك. {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أدى الفرائض. {ثُمَّ اهْتَدَى} لزم السنة. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 422)، و"التيسير" للداني (ص: 730)، و"تفسير البغوي" (3/ 134)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 321)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 99). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 422)، و"تفسير البغوي" (3/ 134)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 100 - 101).

[83]

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83)} [طه: 83]. [83] ولما سار موسى بسبعين رجلًا لمناجاة ربه وللإتيان بالتوراة، فلما قرب من الطور، أسرع المسير نحوه شوقًا إلى مناجاة ربه. فقال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ} أي: أيُّ شيء أوجب سبقك وعجلتك. {عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى}؟ ... {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه: 84]. [84] واقتضى السؤال عن السبب السؤال عن العذر، فقدم العذر اعترافًا منه بالنقص تأدبًا مع الله تعالى {قَالَ هُمْ أُولَاءِ} بالقرب مني يأتون. {عَلَى أَثَرِي} ما تقدمتهم إلا بخطا يسيرة لا يُعتد بها عادة، ثم ذكر موجب العجلة فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} فإن المسارعة إلى امتثال أمرك توجب مرضاتك. قرأ رويس عن يعقوب: (إِثْرِي) بكسر الهمزة وإسكان الثاء، والباقون: بفتحها (¬1). ... {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)} [طه: 85]. [85] {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي: ابتلينا الذين خلفتهم مع ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 321)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 102).

[86]

هارون، وكانوا ست مئة ألف، فافتتنوا بالعِجْل غير اثني عشر ألفًا من بعد انطلاقك إلى الجبل. {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} بصياغته له؛ لأنه كان سبب ذلك، وكان منافقًا من طائفة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة أظهروا الإسلام. ... {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)} [طه: 86]. [86] {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} شديد الغضب. {قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أي: صدقًا، وهو أربعون ليلة. {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أي: مدة ذهابي عنكم. {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ} يجب. {عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} عهدي. ... {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)} [طه: 87]. [87] {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي: باختيارنا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم: (بِمَلْكِنَا) بفتح الميم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بضمها، والباقون: بكسرها، وكلها لغات بمعنى واحد (¬1)، وقيل: ضم ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (3/ 135)، و"النشر في =

[88]

الميم معناه: لم يكن لنا ملك، فنخلف موعدك بقوته وسلطانه، وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، وفتح الميم من (مَلْك)، والمعنى: ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب، ولا وُفِّقنا له، بل غلبتنا أنفسُنا، وكسر الميم قد أكثر استعماله فيما تحوزه اليد، ومعناها كالتي قبلها. {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب: (حَمَلْنَا) بفتح الحاء والميم مخففة؛ أي: حملنا نحن. وقرأ الباقون: بضم الحاء وكسر الميم مشددة مجهولًا (¬1)؛ أي: حَمَّلَنا غيرُنا. {أَوْزَارًا} أثقالًا {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} من حلي قوم فرعون كانوا استعاروها بسبب عرس، فبقيت عندهم، وكانت معهم حين خرجوا من مصر. {فَقَذَفْنَاهَا} أي: طرحنا الحلي في حفيرة. {فَكَذَلِكَ} أي: إلقاءً مثلَ إلقائهم. {أَلْقَى السَّامِرِيُّ} ما معه من الحلي. ... {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)} [طه: 88]. [88] {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} من تلك الحلي المذابة. ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 103 - 104). (¬1) المصادر السابقة.

[89]

{عِجْلًا جَسَدًا} جسدًا {لَهُ خُوَارٌ} صوت يُسمع. {فَقَالُوا} أي: السامري وأتباعه {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أي: تركه موسى هاهنا، وذهب يطلبه، تلخيصه: غلبنا بسبب كيد السامري. ... {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)} [طه: 89]. [89] {أَفَلَا يَرَوْنَ} أي: يعلمون. {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} لا يرد عليهم جوابًا. {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} لأنه عاجز عن ذلك، فكيف يتخذ إلهًا؟! هذا غاية الجهل. ... {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)} [طه: 90]. [90] {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} قبل أن يرجع إليهم موسى: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} أي: بالعجل محنةً واختبارًا، فلا تعبدوه. {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} لا شريك له. {فَاتَّبِعُونِي} على ديني في عبادة الله {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} الذي أمركم به. ... {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)} [طه: 91]. [91] {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} أي: لا نزالُ نعبدُه. {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فاعتزلهم هارون بمؤمنيه.

[92]

{قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)} [طه: 92]. [92] فلما رجع موسى، وسمع الصياح، وكانوا يرقصون حول العجل، قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلما بصر بهارون، أخذ شَعره بيمينه، ولحيته بشماله، و {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} بعبادة العجل. ... {أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} [طه: 93]. [93] {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} (لا) زائدة، المعنى: أي شيء صدَّكَ عن قتالهم وصدّهم واللحوق بي؟ أثبت نافع وأبو عمرو الياء في (تتَّبِعَنِي) وصلًا، وأثبتها في الحالين: أبو جعفر، وابن كثير، ويعقوب، وفتحها أبو جعفر وصلًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬1). {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} بالصلابة في الدين والمحاماة عليه؟ ... {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} [طه: 94]. [94] {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} أي: بشعر رأسي، وكان قد أخذ ذؤابته. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 154)، و"الكشف" لمكي (2/ 109)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 105).

[95]

عاصم: (يَبْنَؤُمِّ) بكسر الميم على حذف الياء تخفيفًا، والباقون: بفتحها (¬1)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (بِرَأْسِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ} إذا قاتلت أحدَ الفريقين بالآخر. {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} لم تحفظ وصيتي حين قلت لك: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142]، أي: ارفق بهم. ... {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ (95)} [طه: 95]. [95] ثم أقبل موسى على السامري {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ} أي: ما طلبك. {يَاسَامِرِيُّ} وما الذي حملك على فعلك؟ ... {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)} [طه: 96]. [96] {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا} أي: علمت ما لم يعلموا {بِهِ}. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف (تَبْصُرُوا) بالتاء على الخطاب، والباقون: بالغيب على الخبر (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 113)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 106). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 154)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 106). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 424)، و"تفسير البغوي" (3/ 137)، =

[97]

{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أخذت ملء كفي من تراب موطئ فرس جبريل عليه السلام. {فَنَبَذتُهَا} ألقيتها في فم العجل المصاغ. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب: (فَنَبَذْتُهَا) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (¬1)، فإن قيل: كيف عرفَ جبريلَ ورآه من بين سائر الناس؟ قيل: لأن أمه لما ولدته في السنة التي يقتل فيه البنون، وضعته في كهف حذرًا عليه، فبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة. {وَكَذَلِكَ} أي: كما حدثتك {سَوَّلَتْ} زينت. {لِي نَفْسِي} وحسنته في. ... {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)} [طه: 97]. [97] {قَالَ} له موسى {فَاذْهَبْ} من بيننا طريدًا {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ} طول عمرك. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وابن كثير، ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 107). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 292)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 8 - 9 و 16)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 108).

وعاصم، ويعقوب، وخلف عن حمزة: (فَاذْهَبْ فَإِنَّ) بإظهار الباء عند الفاء، والباقون: بالإدغام (¬1). {أَن تَقُولَ لَا مسَاسَ} لا مخالطة مع أحد، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، وإذا مس أحدًا، أو مسه أحد، حُمَّا جميعًا، فكان إذا رأى أحدًا قال: لا مساس؛ أي: لا تقربني، وفر منه، عاقبه الله بذلك، وروي أن ذلك موجود في أولاده إلى الآن. {وَإِنَّ لَكَ} يا سامري {مَوْعِدًا} أي: لعذابك يوم القيامة. {لَنْ تُخْلَفَهُ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بكسر اللام؛ من أخلفتُ الموعدَ: غبت عنه؛ أي: لن تتخلف أنت عن الإتيان إلى الموعد، وهو الحشر، بل تصل إليه، وقرأ الباقون: بفتح اللام (¬2)؛ أي: لن تخلف الموعد، بل تبعث إليه. {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} بزعمك. {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي: دمت عليه مقيمًا. {لَنُحَرِّقَنَّهُ} قراءة الجمهور: بضم النون وفتح الحاء وكسر الراء مشددة؛ من الإحراق بالنار، وقرأ أبو جعفر: بضم النون وإسكان الحاء وكسر الراء خفيفة، ومعناه كالأول، وروي عنه وجه ثان: بفتح النون وإسكان الحاء وضم الراء خفيفة، وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (3/ 138)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 109).

[98]

عنه (¬1)؛ أي: لنبردنه، ومنه قيل للمبرد: المحرق. {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ} لنذرينه {فِي الْيَمِّ نَسْفًا} لا يصادف منه شيء. روي أن موسى أخذ العجل فذبحه، فسال منه دم؛ لأنه كان قد صار لحمًا ودمًا، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في البحر، وروي أنه ذبحه، ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في البحر (¬2)، وتقدم ذكر القصة في سورة البقرة [الآية: 52]. ... {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)} [طه: 98]. [98] {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إذ لا أحدَ يماثله أو يدانيه في كمال العلم والقدرة. {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} تمييز؛ أي: وسع علمه كل شيء. ... {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)} [طه: 99]. [99] {كَذَلِكَ} مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: مثل ما ذكرناه لك من أخبار بني إسرائيل {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ} أخبار. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 138)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 110). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 138)، "زاد المسير" لابن الجوزي (4/ 321)، و"تفسير القرطبي" (7/ 292)، و"تفسير اللباب" لابن عادل (2/ 377).

[100]

{مَا قَدْ سَبَقَ} من أخبار الأمور الماضية والأمم؛ تبصرة لك، وزيادة في علمك. {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} يعني: القرآن، وقيل: ذكرهًا جميلًا , وصيتًا عظيمًا بين الناس. ... {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)} [طه: 100]. [100] {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} عن القرآن، فلم يؤمن به. {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} إثما ثقيلًا، ووحد الضمير في (فإنه) ردًّا إلى لفظ (مَنْ). ... {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)} [طه: 101]. [101] {خَالِدِينَ فِيهِ} في عقاب الوزر، والجمع في (خالدين) نظرًا إلى المعنى، ونصبه حال من ضمير (يحمل). {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرًا بالقرآن. ... {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)} [طه: 102]. [102] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} القرن. قرأ أبو عمرو: (ننفُخُ) بنون مفتوحة وضم الفاء إخبارًا عن الله تعالى؛ لقوله: (وَنَحْشُرُ)، وقرأ الباقون:

[103]

بالياء وضمها وفتح الفاء مجهولًا (¬1) {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} المشركين. {يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} زرق العيون من العطش. ... {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)} [طه: 103]. [103] {يَتَخَافَتُونَ} يتسارون {بَيْنَهُمْ} ويتكلمون خفية؛ لهول ذلك اليوم قائلين: {إِنْ لَبِثْتُمْ} في الدنيا، وقيل: في القبور؛ استقصارًا لمدة لبثهم فيها. {إِلَّا عَشْرًا} ليالي. وتقدم التنبيه على اختلاف القراء في الإدغام والإظهار من (لَبِثْتُمْ) عند تفسير قوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ} [طه: 40]. ... {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)} [طه: 104] [104] قال الله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي: يتسارون بينهم. {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أعقلهم وأعدلهم وأوفرهم رأيًا: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (3/ 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 112).

[105]

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)} [طه: 105]. [105] ولما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يُصنع بالجبال يوم القيامة؟ أنزل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} (¬1) يقلعها من أصلها، ويجعلها كالرمل. ... {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)} [طه: 106]. [106] ثم يرسل الرياح عليها {فَيَذَرُهَا} أي: يترك أماكنها. {قَاعًا} مستويًا من الأرض {صَفْصَفًا} أملس لا نبات فيه. ... {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه: 107]. [107] {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} أودية {وَلَا أَمْتًا} ارتفاعًا. ... {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} [طه: 108]. [108] {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} المنادي للحشر، وهو إسرافيل -عليه السلام- حين ينادي: أيتها العظام البالية، والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة! هلمي إلى عرض الرحمن، فيأتون سريعًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 139)، و"تفسير النسفي" (3/ 67).

[109]

{لَا عِوَجَ لَهُ} أي: لا يعوج مدعو عن صوته، بل يتبعه من غير انحراف عننه. {وَخَشَعَتِ} هو خفيت وذلت {الْأَصْوَاتُ} أي: أربابها. {لِلرَّحْمَنِ} هيبة وإجلالًا. {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} صوتًا خفيًّا؛ من هميس الإبل، وهو صوت أقدامها إذا مشت، المعنى: لا تسمع إلا مشي الأقدام بخفاء إلى المحشر خوفًا. ... {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} [طه: 109]. [109] {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} لأحد من الناس {إِلَّا} شفاعة. {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع فيشفع. {وَرَضِيَ لَهُ} للمشفوع فيه {قَوْلًا} بأن قال: لا إله إلا الله. ... {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110]. [110] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: يعلم تعالى جميع أحوالهم؛ يعني: الذين يتبعون الداعي. {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ} تعالى {عِلْمًا} لا يدركونه، ولا يعلمون ما هو صانع بهم، ونصب (علمًا) تمييز. ... {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)} [طه: 111]. [111] {وَعَنَتِ} خضعت {الْوُجُوهُ} وجوه العصاة.

[112]

{لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أي: خسر من أشرك بالله، والظلم: الشرك. ... {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه: 112]. [112] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ} قرأ ابن كثير: (فَلاَ يَخَفْ) مجزومًا على النهي جواب (¬1) لقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ) نهى المؤمن الصالح أن يخاف، وقرأ الباقون: (فَلاَ يَخَافُ) مرفوعًا استئنافًا (¬2)؛ أي: فهو ليس يخاف. {ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} نقصًا من حسناته. ... {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} [طه: 113]. [113] {وَكَذَلِكَ} أي: وكما بيناه في هذه السورة. {أَنْزَلْنَاهُ} أي: هذا الكتاب. {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي: بلسان العرب. {وَصَرَّفْنَا فِيهِ} كررنا في القرآن {مِنَ الْوَعِيدِ} وعيدًا. ¬

_ (¬1) في "ت": "جوابًا". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 424)، و"التيسير" للداني (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (3/ 141)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 113).

[114]

{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الشرك {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ} الوعيد. {ذِكْرًا} اعتبارًا وعظة بهلاك من تقدمهم. ... {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114]. [114] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} عما يقول المشركون. {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} أي: بقراءته. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} قراءته؛ أي: تثَبَّتْ حتى يفرغ جبريل من قراءته، ثم اقرأه؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يسابق جبريل خوفَ النسيان (¬1). قرأ يعقوب: (نَقْضِيَ) بالنون مفتوحة وكسر الضاد وفتح الياء نصبًا على تسمية الفاعل (وَحْيَهُ) بالنصب، وقرأ الباقون: (يُقْضَى) بالياء مضمومة وفتح الضاد، ورفع (وَحْيُهُ) (¬2). {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} بالقرآن؛ أي: حفظًا وفهمًا. ... {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]. [115] {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} أوصيناه ألا يأكل من الشجرة. ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 142)، وأخرج نحوه ابنُ أبي حاتم عن السُّدي، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 35 - 36). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 142)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 114).

[116]

{مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل هذا الزمان {فَنَسِيَ} العهد {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} صبرًا عما نُهي عنه. وعطف قصة آدم على قوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وعرقهم راسخ في النسيان، قال ابن عباس: "إنما سمي الإنسان إنسانًا؛ لأنه عُهد إليه، فنسي" (¬1). ... {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)} [طه: 116]. [116] {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} أن يسجد. قرأ أبو جعفر: (لِلْمَلاَئِكَةُ اسْجُدُوا) بضم التاء حالة الوصل إتباعًا، وروي عنه: إشمام كسرتها الضم، والوجهان صحيحان عنه (¬2)، وتوجيه قراءته مستوفًى في سورة البقرة [الآية: 34]. ... {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]. [117] {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} حواء. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 19)، والطبراني في "المعجم الصغير" (925)، وأبو الشيخ في "العظمة" (5/ 1545)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (7/ 375). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 210 - 211)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 115).

[118]

{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} فتتعب في الدنيا بتحصيل ما يُحتاج إليه منها؛ كمأكل ومشرب وملبس، وخص آدم بالشقاء؛ لأن طلب المكاسب غالبًا يكون بالرجال. ... {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118]. [118] {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}. ... {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 119]. [119] {وَأَنَّكَ} قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: (وَإِنَّكَ) بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون: بالفتح نسقًا على قوله: (أَلَّا تَجُوعَ) (¬1). {لَا تَظْمَأُ} تعطش {فِيهَا وَلَا تَضْحَى} تبرز للشمس؛ لأنه ليس في الجنة شمس، وأهلها في ظل ممدود. ... {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} [طه: 120]. [120] {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} فأنهى إليه وسوسة. {قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} أي: من أكل منها لا يموت. {وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} لا يفنى. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 424)، و"التيسير" للداني (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (3/ 143)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 116).

[121]

{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 121]. [121] {فَأَكَلَا} يعني: آدم وحواء {مِنْهَا} وسارعت إلى ذلك حواء، فلما رآها آدم قد أكلت، أكل، فطارت عنهما ثيابهما. {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} أي: عوراتهما. {وَطَفِقَا} جعلا {يَخْصِفَانِ} يلصقان. {عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} ويضمان شيئًا إلى شيء يستتران بالورق، وهو ورق التين. {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} بأكل الشجرة {فَغَوَى} أي: ضلَّ عن المطلوب منه. ... {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 122]. [122] {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة؛ من جبيت الشيء: قربته إلي، وجمعته بي. {فَتَابَ عَلَيْهِ} قبِلَ توبته {وَهَدَى} هداه إلى المداومة على التوبة. ... {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]. [123] {قَالَ اهْبِطَا} يا آدم وحواء {مِنْهَا} ثم أخبرهما أن إبليس والحية يهبطان معهما بقوله: {جَمِيعًا بَعْضُكُمْ} يا ذرية آدم وإبليس {لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} إلى يوم القيامة، و (عدو) يوصف به الواحد والاثنان والجمع.

[124]

{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} يا آدم وحواء، وجُمعا؛ لأنهما أصل البشر {مِنِّي هُدًى} دعاء شرعي، وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} شرط، وجوابه في قوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} رسولي وكتابي. قرأ الدوري عن الكسائي: (هُدَايَ) بالإمالة (¬1). {فَلَا يَضِلُّ} في الدنيا {وَلَا يَشْقَى} في الآخرة. ... {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 124]. [124] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أي: القرآن، وكفر به. {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} ضيقًا ونكدًا شاقًّا من العيش. {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} البصر، وقيل: أعمى عن الحجة. ... {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)} [طه: 125]. [125] {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} بحجتي، أو بالعين، روي أنه يحشر من قبره بصيرًا، فإذا سيق إلى الموقف، عمي. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: (حَشَرْتنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 292)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 308)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 118). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 154)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 119).

[126]

{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 126]. [126] {قَالَ كَذَلِكَ} أي: مثل ما {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} تركت العمل بها. {وَكَذَلِكَ} ومثل تركك آياتنا {الْيَوْمَ تُنْسَى} أي: تترك في النار كالمنسي. ... {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} [طه: 127]. [127] {وَكَذَلِكَ} ومثل جزائنا المعرضَ عن آياتنا. {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أشرك. {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ} وهو حشره أعمى أبدًا. {أَشَدُّ} مما يعذب به في الدنيا والقبر. {وَأَبْقَى} أدومُ ضرًّا من ضيق العيش في الدنيا. ... {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)} [طه: 128]. [128] ثم ابتدأ يوبخهم ويذكرهم العبر بقوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أي: يبين الله لهم. قرأ زيد عن يعقوب: (نَهْدِ) بالنون، والباقون: بالياء (¬1)، والمراد: كفار مكة. ¬

_ (¬1) ذكرها القرطبي في "تفسيره" (11/ 260) من قراءة ابن عباس والسَّلمي.

[129]

{كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي: الأمم. {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ديارهم ومنازلهم إذا سافروا، والخطاب لقريش، كانوا يسافرون إلى الشام، فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} لذوي العقول. ... {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)} [طه: 129]. [129] {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ} أي: حكمة. {سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} بتأخير العذاب. {لَكَانَ لِزَامًا} أي: لازمًا لهم في الدنيا. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} مضروب، وهو يوم القيامة، معطوف على (كَلِمَةٌ) فيه تقديم وتأخير تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى، لكان لزامًا. ... {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)} [طه: 130]. [130] {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فيك، وهذا منسوخ بآية القتال {وَسَبِّحْ} أي: صل {بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: وأنت حامد؛ بأن وُفِّقت للتسبيح.

[131]

{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} هي صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} وهي صلاة العصر. {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} ساعاته جمع أَنِيّ؛ كنجِيِّ، وإنًا؛ كمِعًى {فَسَبِّحْ} والمراد: صلاة المغرب والعشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة الظهر، سميت طرفًا؛ لأنها في آخر الطرف الأول من النهار، وأول الطرف الآخر منه، فهو في طرفين منه؛ أي: سبحه في جميع الأوقات. {لَعَلَّكَ تَرْضَى} وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم: (تُرضَى) بضم التاء مجهولًا؛ أي: يرضاك ربك، وقرأ الباقون: بفتحها؛ أي: ترضى بما تُعطى من الثواب يا محمد (¬1). ... {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]. [131] {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} لا تنظر {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} أعطينا {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي: أصنافًا من الكفرة {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قراءة العامة: بجزم الهاء؛ أي: زينتها، وقرأ يعقوب: بفتح الهاء (¬2)؛ أي: نور النبات. {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنجعل فتنتهم فيما أعطيناهم. {وَرِزْقُ رَبِّكَ} ثوابه في الميعاد. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 425)، "التيسير" للداني (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (3/ 147)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 121). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 148). و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 122).

[132]

{خَيْرٌ وَأَبْقَى} مما رزقوا. ... {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)} [طه: 132]. [132] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} أي: أهل بيتك {بِالصَّلَاةِ} مع ائتمارك بها {وَاصْطَبِرْ} أنت وهم {عَلَيْهَا} على الإتيان بها؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} لا نكلفك رزق نفسك ولا غيرك. {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} وإياهم. {وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة {لِلتَّقْوَى}. روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أصاب أهلَه ضرٌّ، أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية. ... {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)} [طه: 133]. [133] {وَقَالُوا} يعني: المشركين. {لَوْلَا} أي: هَلَّا {يَأْتِينَا} محمد. {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} كموسى وعيسى. {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ} قرأ نافع، وأبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم، وابن جماز عن أبي جعفر: (تَأْتِهِمْ) بالتاء؛ لتأنيث البينة، وقرأ الباقون:

[134]

بالياء على التذكير (¬1)؛ لتقدم الفعل، ولأن البينة هي البيان، فرد إلى المعنى. {بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} أي: ما في الكتب المتقدمة من أخبار الأمم التي أهلكت لما اقترحوا الآيات، فأتتهم، فلم يؤمنوا بها. ... {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)} [طه: 134]. [134] {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} من قبل محمد. {لَقَالُوا} يوم القيامة. {رَبَّنَا لَوْلَا} هَلَّا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} يدعونا. {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ} بالقتل والسبي في الدنيا. {وَنَخْزَى} بالعقاب يوم القيامة. ... {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)} [طه: 135]. [135] {قُلْ كُلٌّ} منا ومنكم {مُتَرَبِّصٌ} منتظر، نحن نتربص بكم العذاب، وأنتم تتربصون بنا الدوائر {فَتَرَبَّصُوا} فانتظروا. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (3/ 148)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 123).

{فَسَتَعْلَمُونَ} وإذا جاء أمر الله، وقامت القيامة. {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} الطريق المستقيم {وَمَنِ اهْتَدَى} من الضلالة، أي: ستعلمون من هذا (¬1)، والله سبحانه أعلم. ... ¬

_ (¬1) "من هذا" زيادة من "ت".

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء مكية بإجماع، وآيها مئة واثنتا عشرة آية، وحروفها: أربعة آلاف وثماني مئة وتسعون حرفًا، وكلمها: ألف ومئة وثمان وستون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} [الأنبياء: 1]. [1] {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي: وقت حسابهم؛ يعني: يوم القيامة، نزلت تخويفًا لمنكري البعث، وهي عامة في جميع الناس، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} عما يُفعل بهم {مُعْرِضُونَ} من التأهب لذلك المقام. روي أن رجلًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبني جدارًا، فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا أنزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل اليوم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} فنفض يده من البنيان وقال: والله لا بنيت أبدًا، وقد اقترب الحساب (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (11/ 266).

[2]

{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} [الأنبياء: 2]. [2] {مَا يَأْتِيهِمْ} يعني: المشركين. {مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} يعني: القرآن {مُحْدَثٍ} أي: محدث التنزيل، لا نفس القرآن؛ أي: ما يأتيهم شيء من القرآن. {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} مستهزئين به؛ لفرط غفلتهم. ... {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)} [الأنبياء: 3]. [3] {لَاهِيَةً} غافلة {قُلُوبُهُمْ} عما يراد منها. {وَأَسَرُّوا} وأخفوا {النَّجْوَى} هي التناجي سرًّا؛ أي: كتموا ما تناجَوْا به. {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: أشركوا، ثم بين الله تعالى سرهم الذي تناجوا به، وهو قول بعضهم لبعض: {هَلْ هَذَا} أي: محمد - صلى الله عليه وسلم - {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ثم قال بعضهم لبعض على جهة التوبيخ في الجهالة: {أَفَتَأْتُونَ} أفتحضرون السحر؛ أي: ما يقول، شبهوه بالسحر، المعنى: أفتتبعون {السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} تعلمون أنه سحر؟! ... {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)} [الأنبياء: 4]. [4] {قَالَ} أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم وللناس أجمعين: {رَبِّي يَعْلَمُ

[5]

الْقَوْلَ} أي: أقوالكم {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وهو بالمرصاد في المجازاة عليها. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (قَالَ رَبِّي) بألف بعد القاف؛ أي: أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ربه يعلم القول. وقرأ الباقون: بغير ألف على الأمر، وتقدم معناه، وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار (¬1). {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بأفعالهم. ... {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)} [الأنبياء: 5]. [5] {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} أخلاط أحلام رآها في النوم. {بَلِ افْتَرَاهُ} اختلقه. {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} أي: كذاب، وما جاءكم به شعر؛ يعني: أن المشركين اقتسموا القول فيه، ولما اقتضت الآية المتقدمة أنهم قالوا: إن ما عنده سحر، عدد الله في هذه الآية جميع ما قالته طوائفهم، ووقع الإضراب بكل مقالة عن المتقدمة؛ ليبين اضطراب أمرهم، فبعد اختلافهم في القرآن، رجعوا إلى مقترحهم من الآيات. فقالوا: {فَلْيَأْتِنَا} محمد {بِآيَةٍ} كالناقة والعصا. {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} بالآيات. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 428)، و "التيسير" للداني (ص: 154)، و"تفسير البغوي" (3/ 152)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 129).

[6]

{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)} [الأنبياء: 6]. [6] فنزل: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ} قبل مشركي قريش {مِنْ قَرْيَةٍ} أي: أهل قرية عند مجيء الآيات التي اقترحوها، فلذلك {أَهْلَكْنَاهَا} وهذه الأمة موعودة ألَّا تستأصل إلى قيام الساعة، فلذلك لم تُعط مقترحَها. {أَفَهُمُ} أي: كفار قريش {يُؤْمِنُونَ} عند مجيء الآيات؟! هم أعتى من ذلك. ... {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} [الأنبياء: 7]. [7] ونزل جواب {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} وطلبهم (¬1). {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} قرأحفص عن عاصم: (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء على لفظ الجمع، وقرأ الباقون: بالياء وفتح الحاء على ما لم يُسم فاعله (¬2). {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} أهلَ العلم بالكتابين. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلُوا) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬3) {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك. ... ¬

_ (¬1) "وطلبهم" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 428)، و"التيسير" للداني (ص: 130)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 130). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 309)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 130).

[8]

{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)} [الأنبياء: 8]. [8] ثم أعلم تعالى أنه كمن تقدمه من الأنبياء بقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ} أي: الأنبياء {جَسَدًا} ولم يقل: أجسادًا؛ لأنه اسم جنس. {لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} هذا رد لقولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان: 7]؛ أي: لم نجعل الرسل ملائكة، بل جعلناهم بشرًا يأكلون الطعام {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} في الدنيا. ... {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)} [الأنبياء: 9]. [9] {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم. {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} من المؤمنين بهم. {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} المفرطين في غَيهم وكفرهم. ... {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10]. [10] {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} يا معشر قريش {كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} شرفُكم وما تحتاجون إليه من مصالح دينكم ودنياكم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فتؤمنون. ... {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)} [الأنبياء: 11]. [11] {وَكَمْ قَصَمْنَا} أهلكنا {مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} أي: كافرة؛

[12]

يعني: أهلها، والقصم: الكسر بانفصال، ظاهر المعنى: أهلكنا كثيرًا من أهل القرى الظالمين. {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} أي: جئنا ببدلهم، فسكنوا مساكنهم. ... {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)} [الأنبياء: 12]. [12] {فَلَمَّا أَحَسُّوا} أي: المهلكون {بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا} أي: القرية. {يَرْكُضُونَ} مسرعين. نزلت هذه الآية في أهل حصورا، وهي قرية باليمن كان أهلها من العرب، فبعث الله إليهم نبيًّا يدعوهم إلى الله (¬1)، فكذبوه وقتلوه، فسلط الله عليهم بُخت نصَّر حتى قتلهم وسباهم، فندموا وانهزموا (¬2). ... {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)} [الأنبياء: 13]. [13] فقالت لهم الملائكة: {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ} نُعِّمْتُم {فِيهِ} من الدنيا {وَمَسَاكِنِكُمْ} التي كانت لكم. {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} شيئًا من دنياكم؛ استهزاءً بهم. ... ¬

_ (¬1) "يدعوهم إلى الله" زيادة من "ت". (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (17/ 9).

[14]

{قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)} [الأنبياء: 14]. [14] فأتبعهم بخت نصر وأصحابه (¬1)، وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جَوِّ السماء: يا ثارات الأنبياء! فلما رأوا ذلك {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} اعترفوا حين لا ينفع الاعتراف. ... {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)} [الأنبياء: 15]. [15] {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ} أي: قولهم: يا ويلنا {دَعْوَاهُمْ} سميت لأنهم دعوا ويلهم {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا} أي: محصودين بالموت والسيف {خَامِدِينَ} ساكنين. ... {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} [الأنبياء: 16]. [16] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} أي: عبثًا، بل لمصالح الدارين. ... {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)} [الأنبياء: 17]. [17] {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} هو الولد والمرأة {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} من الحور والولدان والملائكة؛ لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره. ¬

_ (¬1) "وأصحابه" ساقطة من "ت".

[18]

{إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} ولكن لم نفعل؛ لاستحالته في حقنا. ... {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء: 18]. [18] {بَلْ} إضراب عن اتخاذ اللهو. {نَقْذِفُ} نرمي {بِالحَقِّ} الإيمان. {عَلَى الْبَاطِلِ} الشرك {فَيَدْمَغُهُ} يكسره {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} هالك. {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} اللهَ سبحانه به من الولد ونحوه. ... {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)} [الأنبياء: 19]. [19] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عبيدًا وملكًا {وَمَنْ عِنْدَهُ} من الملائكة، نسبوا إليه تشريفًا، لا أنه تعالى في مكان. {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} لا يتعظمون عنها {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} يَعْيَون. ... {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20]. [20] {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} يضعُفون، وأصل الفتور: السكون بعد حدَّة. ***

[21]

{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)} [الأنبياء: 21]. [21] {أَمِ} معناها: بل {اتَّخَذُوا} والهمزة لإنكار اتخاذهم {آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ}؛ لأن كل الأصنام منها. {هُمْ يُنْشِرُونَ} يحيون الموتى؛ زيادة توبيخ، أي: ليست آلهتهم كذلك، فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة. ... {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء: 22]. [22] ثم بين تعالى أمر التمانع بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} أي: في السماء والأرض. {آلِهَةٌ إِلَّا} أي: غيرُ {اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض، ويهلك من فيهما؛ لوجود التمانع؛ لأن كل أمر بين اثنين أو أكثر لا يجري على نظام واحد، ثم نزه تعالى نفسه عما وصفه به أهل الجهالة والكفر فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}. ... {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]. [23] ثم وصف تعالى نفسه بأنه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} سؤال إنكار؛ إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء؛ لأنه يضع الأشياء في محلها. {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لأنهم عبيد حقيقة، وفي أفعالهم خلل كثير. ***

[24]

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} [الأنبياء: 24]. [24] {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} استفهام إنكار، وفي تكرار هذا التقرير مبالغة في الإنكار، وزيادة على الأول، وهي قوله: {مِنْ دُونِهِ} فكأنه قررهم هنا على قصد الكفر بالله تعالى، ثم دعاهم إلى الحجة والإتيان بالبرهان بقوله (¬1): {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي: حجتكم على ذلك {هَذَا} أي: القرآن {ذِكْرُ} عظة {مَنْ مَعِيَ} على ديني. قرأ حفص عن عاصم: (مَعِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2) {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} يعني: الكتب المنزلة، ومعناه: راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب، هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدًا؟ فلما لم يرجعوا عن كفرهم، أضرب عنهم فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} أي: جميع الكفار. {لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} القرآنَ والتوحيد؛ لجهلهم. {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} عن النظر فيما يجب عليهم. ... {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]. ¬

_ (¬1) "بقوله" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 432)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 132).

[25]

[25] ولما أخبر تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم، أتبعَ ذلك بإعلامه أنه ما أرسل قط رسولًا إلا أوحى إليه: أن الله تعالى فرد صمد. فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَحِّدونِ. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء على التعظيم؛ لقوله: (أَرْسَلْنَا)، وقرأ الباقون: بالياء وفتح الحاء على ما لم يسم فاعله (¬1)، وقرأ يعقوب: (فَاعْبُدُوني) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬2). ... {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} [الأنبياء: 26]. [26] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} نزه نفسه عن ذلك {بَلْ} أي: بل هم. {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} مشرفون؛ يعني: الملائكة، وهذا تكذيب وردّ لقول خزاعة: الملائكة بنات الله، والعبودية تنافي الولادة. ... {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)} [الأنبياء: 27]. [27] {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} أي: يتبعون أمره، ولا يتقدمون قولَه بقولهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 428)، و"التيسير" للداني (ص: 154)، و"تفسير البغوي" (3/ 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 132). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 132).

[28]

{وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} لا يأتون إلا مراده. ... {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} [الأنبياء: 28]. [28] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ما عملوا، وما هم عاملون. {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وهو من قال: لا إله إلا الله. {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ} هيبته {مُشْفِقُونَ} خائفون. ... {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء: 29]. [29] ثم تهدد المشركين بتهديد من يدعي الربوبية فقال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} أي: من جميع الخلائق {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). وعن ابن عباس قال: "إن الله فضل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على أهل السماء، وعلى الأنبياء -صلوات الله عليهم-، قالوا: فما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله قال لأهل السماء: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} الآية، وقال لمحمد: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1]، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 133).

[30]

الآية [إبراهيم: 4]، وقال لمحمد: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] (¬1). {فَذَلِكَ} مبتدأ، خبره {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها. ... {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30]. [30] {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ ابن كثير: (أَلَمْ) بغير واو كما هي في المصحف المكي، وقرأ الباقون: بواو قبل اللام كما هي في مصاحفهم (¬2)، المعنى: ألم يعلم الكافرون. {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا} أي: جنساهما. {رَتْقًا} شيئًا واحدًا، والرتق: هو الضم والالتحام. {فَفَتَقْنَاهُمَا} فصلنا بينهما بالهواء، فجعلت السماء سبعًا، والأرض سبعًا، وعلم الكفار ذلك {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ} النازل من السماء. {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: أحييناه به؛ لأنه سبب حياته، والنبات داخل فيه. {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} مع ظهور الآيات؟! ... ¬

_ (¬1) رواه الدارمي في "سننه" (46)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11610)، والحاكم في "المستدرك" (3335)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (151). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 428)، و"تفسير البغوي" (3/ 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 133).

[31]

{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} [الأنبياء: 31]. [31] {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} جبالًا ثوابتَ {أَنْ} أي: لئلَّا. {تَمِيدَ بِهِمْ} أي: تتحرك {وَجَعَلْنَا فِيهَا} في الرواسي {فِجَاجًا} طرقًا واسعة {سُبُلًا} تفسير الفجاج {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} إلى مصالحهم. ... {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)} [الأنبياء: 32]. [32] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} أي: أن تقع على الأرض إلا بإذنه. {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا} التي فيها من الشمس والقمر والنيرات. {مُعْرِضُونَ} لا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون فيؤمنون. ... {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33]. [33] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} تنوينه بدل من محذوف، أي: كل واحد من المذكور {فِي فَلَكٍ} والفلك: مدار النجوم الذي يضمها، والفلك في كلام العرب: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك. {يَسْبَحُونَ} يجرون بسرعة كالسابح، وذكر ضمير (يسبحون)، وجمع جمع العقلاء؛ لوصفهم بالسباحة، وهي فعل من يعقل. ***

[34]

{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} [الأنبياء: 34]. [34] ونزل نفيًا للشماتة بالموت لما قال المشركون: إن محمدًا سيموت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} (¬1) البقاء. {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} وحذفت الهمزة من (أَفَهُم)؛ لدلالة الأولى عليها. قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مِتَّ) بكسر الميم، والباقون: بضمها (¬2). ... {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35]. [35] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} تزهق بملابسة أيسر جزء من الموت، وهذا تهويل لشأنه. {وَنَبْلُوكُمْ} نختبركم {بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} بالشدة والرخاء، وكل ما يصح أن يكون ابتلاء. {فِتْنَةً} امتحانًا وكشفًا؛ ليظهر كيف شكركم فيما تحبون، وكيف صبركم فيما تكرهون. {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجازيكم. قراءة الجمهور: (تُرْجَعُونَ) بالخطاب ¬

_ (¬1) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 427). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 91)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 134).

[36]

بضم التاء وفتح الجيم، ويعقوب: بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الثعلبي عن ابن ذكوان: بالغيب بفتح الياء وكسر الجيم (¬1). ... {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)} [الأنبياء: 36]. [36] {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ ورش، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وخلف، وابن ذكوان بخلاف عنه: (رَآكَ) و (رَآهُ) و (رَآهَا) بإمالة الهمزة والراء، وأمال الدوري عن أبي عمرو الهمزة بخلاف عنه، وأمال السوسي الراء (¬2). {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} ما يتخذونك {إِلَّا هُزُوًا} سخريًّا، نزلت في أبي جهل، مر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضحك وقال: هذا نبي بني عبد مناف (¬3) {أَهَذَا} أي: يقول بعضهم لبعض: أهذا {الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أي: يعيب أصنامكم. {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي: بما يذكر به من الوحدانية. {هُمْ كَافِرُونَ} جاحدون، وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب، و (هُمْ) الثانية صلة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 429)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 310)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 134). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 310)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 135). (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2698).

[37]

{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)} [الأنبياء: 37]. [37] {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: مستعجلًا، هذا توطئة للرد عليهم في استعجالهم العذاب، وطلبهم آية مقترحة، وهي مقرونة بعذاب مجهر، ووصف تعالى الإنسان الذي هو اسم الجنس بأنه خُلق من عجل، وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام، لأنه لما دخلت الروح رأسه، أبصر ثمار الجنة، فقام نحوها عَجِلًا قبل أن تبلغ الروح رجليه {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} نقماتي، قيل لهم ذلك على جهة الوعيد أن الآيات ستأتي. {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} فلا تطلبوا العذاب من قبل وقته، فأراهم يوم بدر. وقرأ يعقوب: (تستَعْجِلُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬1). ... {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [الأنبياء: 38]. [38] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وقت العذاب. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعنون: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ... {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)} [الأنبياء: 39]. [39] {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ} السياط {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} يمنعون من العذاب، وجواب ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 135).

[40]

{لَوْ يَعْلَمُ} محذوف، معناه: لو علموا، لما أقاموا على كفرهم، ولما استعجلوا، ولا قالوا: متى هذا الوعد؟ ... {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)} [الأنبياء: 40]. [40] {بَلْ تَأْتِيهِمْ} الساعة {بَغْتَةً} فجأة. {فَتَبْهَتُهُمْ} فتحيرهم. {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} يمهلون. ... {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)} [الأنبياء: 41]. [41] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وخلف: (وَلَقَدُ اسْتُهْزِئَ) بضم الدال في الوصل، وأبو جعفر: على أصله في فتح الياء من غير همز (¬1). {بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} كما استهزئ بك، فصبروا. {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فنزل بالمستهزئين العذاب جزاء استهزائهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:310)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 136).

[42]

{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42]. [42] فاصبر أنت، و {قُلْ} للمستهزئين: {مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} يحفظكم. {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} من عذابه. {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ} عن القرآن ومواعظه. {مُعْرِضُونَ} لا يُخطرونه ببالهم. ... {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)} [الأنبياء: 43]. [43] {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} المعنى: أيظنون أن آلهتهم تمنعهم من دوننا؟ ثم وصف الآلهة بالضعف فقال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا} من عذابنا. {يُصْحَبُونَ} يُجارون. ... {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)} [الأنبياء: 44]. [44] {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} في الكلام تقدير بعد محذوف؛ كأنه قال: ليس ثَمَّ شيء من هذا كله، بل ضل هؤلاء؛ لأنا متعناهم ومتعنا آباءهم، فنسوا عقاب الله، وظنوا أن حالهم لا يبيد، ثم وقفهم تعالى على مواضع العبر في الأمم في قوله:

[45]

{أَفَلَا يَرَوْنَ} رؤية العين يتبعها رؤية القلب {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أَطرَافِهَا للمشركين بالفتح على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونزيد في أطرافها للمؤمنين نصرًا عليهم. {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أم نحن؟ {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)} [الأنبياء: 45]. [45] {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ} أُخَوفكم {بِالْوَحْيِ} بالقرآن. {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} قرأ ابن عامر: (تُسمِعُ) بالتاء وضمها وكسر الميم من أَسمعَ، خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصب (الصُّمَّ الدُّعَاءَ) مفعولين، وقرأ الباقون: بالياء مفتوحة غيبًا، وفتح الميم ورفع (الصُّمُّ) فاعلًا، ونصب (الدُّعَاءَ) مفعولًا (¬1)؛ من سمع، إخبار عن الكفار. {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} أي: هم صم عن الدعاء إلى الإيمان وقت الإنذار. واختلاف القراء في الهمزتين من (الدُّعَاءَ إِذَا) كاختلافهم فيهما من (أَوْلِيَاءَ إِنَّا) في سورة الكهف [الآية: 102]. {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)} [الأنبياء: 46]. [46] {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ} شيء قليل في الدنيا {مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 155)، و "تفسير البغوي" (3/ 161)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 137).

[47]

الذين خُوِّفوا به في الأخرى، {لَيَقُولُنَّ} عند نزولها بهم: {يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بشركنا؛ أي: لدعوا على أنفسهم بالويل، واعترفوا عليها بالظلم. ... {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47]. [47] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} أي: ذوات القسط، والقسط: العدل. {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: لأجله {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} من الظلم. وفي الأخبار: أن الميزان له لسان وكفتان، توزن به الأعمال (¬1)، ليتيين للناس المحسوس المعروف عندهم، والخفة والثقل متعلقة بأجسام يقرنها الله تعالى يومئذ بالأعمال، فإما أن تكون صحف الأعمال، أو مثالات تخلق، أو ما شاء الله تعالى. {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} صفة لحبة. قرأ نافع، وأبو جعفر: (مِثْقَالُ) برفع اللام على أن (كان) تامة؛ أي: وإن وقع زنة حبة، وقرأ الباقون: بنصب اللام (¬2)، على معنى: وإن كان الشيء أو العمل ¬

_ (¬1) سلف عند تفسير الآية (8) من سورة الأعراف، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس، كما في "الدر المنثور" (4/ 195)، وأخرج نحوه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة" (1793) عن سلمان، وانظر "فتح الباري" لابن حجر (21/ 163). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 155)، و"تفسير البغوي" (3/ 162)، و"النشر في =

[48]

مثقال حبة؛ أي: زنة مثقال حبة من خردل {أَتَيْنَا} جئنا. {بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} حافظين، تَوَعَّدَهم. ... {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)} [الأنبياء: 48]. [48] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} التوراة {وَضِيَاءً} التوراة أيضًا؛ أي: آتيناهم الفرقان مضيئًا. قرأ قنبل عن ابن كثير: (وَضِئَاءً) بهمزتين قبل الألف وبعدها، وقرأ الباقون: بهمزة واحدة بعد الألف (¬1) {وَذِكْرًا} عظة {لِلْمُتَّقِينَ}. ... {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)} [الأنبياء: 49]. [49] {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يخافونه في الخلاء كخوفه بين الناس. {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ} وأهوالها {مُشْفِقُونَ} خائفون. ... {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)} [الأنبياء: 50]. [50] {وَهَذَا} أي: القرآن {ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} لمن تذكَّر به وتبرَّك ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 138). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 429)، و"التيسير" للداني (ص: 120)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 139).

[51]

{أَنْزَلْنَاهُ} على محمد {أَفَأَنْتُمْ} يا أهل مكة {لَهُ مُنْكِرُونَ} جاحدون؟ وهذا استفهام توبيخ وتعيير. ... {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)} [الأنبياء: 51]. [51] {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} نبوته {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل موسى وهارون؛ أي: كما هديناهما وآتيناهما النبوة، هدينا إبراهيم واصطفيناه من قبل ذلك، وقيل معنى: {مِنْ قَبْلُ} أي: هديناه صغيرًا. {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أخبر تعالى أنه آتاه ذلك وهو عالم أنه لذلك أهل. ... {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 52]. [52] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} تهاونًا بهم. {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} الأصنام المصورة. {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا} أي: عليها {عَاكِفُونَ} والعكوف: الملازمة للشيء، والعامل في (إِذْ) قولُه (آتينا). ... {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)} [الأنبياء: 53]. [53] فلما عجزوا عن الإتيان بالدليل على ذلك {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} فقلدناهم. ***

[54]

{قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)} [الأنبياء: 54]. [54] فثم {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} الذين قلدتموهم. {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} خطأ ظاهر. ... {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)} [الأنبياء: 55]. [55] {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} أي: أجادٌّ أنت فيما تقول أم تلعب؟ ... {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)} [الأنبياء: 56]. [56] فثم أضرب عنهم مخبرًا أنه جِدٌّ، ومثبتًا الربوبية وحدوث الأصنام. {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} عبارة عن الأصنام كأنها تعقل، وهذا من حيث لها طاعة وانقياد، وقد وصفت في مواضع بما يوصف به (¬1) من يعقل؛ أي: فكيف يُعبد المخلوق ويُجحد الخالق؟! {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} المذكور من التوحيد {مِنَ الشَّاهِدِينَ} بصحته. ... {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} [الأنبياء: 57]. [57] {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ} لأكسرن {أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا} عنها ¬

_ (¬1) "به" زيادة من "ت".

[58]

{مُدْبِرِينَ} إلى عيدكم، وكان لهم في كل سنة مجمع وعيد، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم، دخلوا على الأصنام، فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد، قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم! لو خرجت معنا إلى عيدنا، لأعجبك ديننا، فخرج معهم إبراهيم، فلما كان في بعض الطريق، ألقى نفسه وقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] يقول: أشتكي رجلي، فلما مضوا، نادى في آخرهم، وقد بقي ضَعِيفُو الناس: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسمعوها منه. ... {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} [الأنبياء: 58]. [58] ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، وكانوا قد وضعوا طعامهم لدى أصنامهم زعموا التبرك عليه، فإذا رجعوا، أكلوه، فلما لم يبق عندهم أحد، أخذ الفأس ودخل عليهم، والطعام لديهم، وقال استهزاء بهم: {أَلَا تَأكُلُونَ} [الصافات: 91]، فلم يجيبوه، فأكبَّ عليهم به (¬1). {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} فتاتًا. قرأ الكسائي: بكسر الجيم، والباقون: بضمها، وهما لغتان معناهما واحد (¬2)، وقوله: {فَجَعَلَهُمْ} ونحوه معاملة للأصنام بحال من يعقل؛ من حيث كانت تُعبد وتُنزل منزلة من يعقل. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (17/ 38). وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 163)، و"تفسير القرطبي" (11/ 297). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 429)، و"تفسير البغوي" (3/ 164)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 140).

[59]

{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} أي: كسر جميع الأصنام إلا كبيرها؛ فإنه تركه ولم يكسره، وعلق الفأس في عنقه. {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} إلى الأصنام (¬1)؛ أي: الصنم الأعظم. {يَرْجِعُونَ} فيسألونه عن كاسرها، وهذا تبكيت لهم، وإثبات للحجة عليهم. ... {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)} [الأنبياء: 59]. [59] فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم، ورأوا ذلك {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي: من المجرمين. ... {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)} [الأنبياء: 60]. [60] {قَالُوا} يعني: الذين سمعوا قول إبراهيم: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} يعيبهم. {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} هو الذي نظن أنه صنع هذا. ... {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)} [الأنبياء: 61]. [61] فبلغ ذلك نمرود الجبار وأصحابه {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي: ظاهرًا بمرأى من الناس. ¬

_ (¬1) "إلى الأصنام" ساقطة من "ت".

[62]

{لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أنه قال لآلهتنا ما قال، وأنه كسرها؛ لئلا نأخذه بلا بينة. ... {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62)} [الأنبياء: 62]. [62] فلما جيء به {قَالُوا} له: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ} قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر، وقالون عن نافع، ورويس عن يعقوب: (أَأَنْتَ) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والألف، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون: يفصلون بين الهمزتين بإلف، وورش: يبدلها ألفًا خالصة، وروي عنه التسهيل بين بين، وقرأ الباقون وهم الكوفيون، وابن ذكوان، وروح: بتحقيق الهمزتين من غير فصل بينهما كل القرآن، واختلف عن هشام في الفصل بألف مع تحقيق الهمزتين، واختلف عنه أيضًا في تسهيل الثانية بين بين وتحقيقها (¬1). ... {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} [الأنبياء: 63]. [63] {قَالَ} إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار، وهو أكبر منها، فكسرهن، وأراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم، فذلك قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 141 - 142).

{فَاسْأَلُوهُمْ} عن حالهم. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلُوهُمْ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬1). {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} أي: إن قدروا على النطق، قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق، وفي ضميره: أنا فعلت ذلك. عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: اثنتين منهن في ذات الله: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وقوله لسارة: هذه أختي" (¬2). وملخص قصة سارة: أنه لما نجى الله خليله - صلى الله عليه وسلم - من النمرود الجبار، استجاب له رجال من قومه على خوف من نمرودَ وملئِه، ثم إن إبراهيم وأصحابه أجمعوا على فراق قومهم، فخرج إبراهيم هو وأهله ومن معه، فنزل الرها، ثم سار إلى مصر، وصاحبها فرعون، فَذُكِرَ لفرعون جمال سارة زوج الخليل عليه السلام، وهي ابنة عمه هاران، فسأل إبراهيمَ عنها، فقال: هذه أختي؛ يعني: في الإسلام؛ خوفًا أن يقتله، فقال له: زينها وأرسلها إلي، فأقبلت سارة إلى الجبار، وقام إبراهيم يصلي، فلما دخلت إليه ورآها، أهوى إليها يتناولها بيده، فأيبس الله يده ورجله، فلما تخلى عنها، أطلقه الله، وتكرر ذلك منه، فأطلقها، ووهبها هاجر (¬3). ¬

_ (¬1) المصدران السابقان. (¬2) رواه البخاري (3179)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، ومسلم (2371)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل -عليه السلام-. (¬3) انظر: و"تفسير ابن كثير" (5/ 350)، وأصل القصة في "الصحيح" كما سلف. =

[64]

وفي بعض الأخبار: أن الله تعالى رفع الحجاب بين إبراهيم وسارة حتى ينظر إليها من وقت خروجها من عنده إلى وقت انصرافها؛ كرامة لهما صلوات الله عليهما، وتطييبًا لقلب إبراهيم عليه السلام. ثم سار إبراهيم من مصر إلى الشام، وأقام بين الرملة وإيليا، فهو أول من هاجر من وطنه في ذات الله، والحديث الوارد أنه لم يكذب إلا ثلاث كذبات ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يُذم فاعله، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزًا، ويجوز أن يكون الله عز وجل أذن له في ذلك لقصد الصلاح، وتوبيخهم، والاحتجاج عليهم؛ كما أذن ليوسف عليه السلام حتى أمر مناديه فقال لإخوته: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]، ولم يكونوا سرقوا (¬1). ... {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)} [الأنبياء: 64]. [64] {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: فتفكروا بقلوبهم، ورجعوا إلى عقولهم. {فَقَالُوا} ما نراه إلا كما قال {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} بعبادتكم من لا يتكلم. ... ¬

_ = وانظر: "صحيح مسلم" (2371)، باب: من فضائل إبراهيم الخليل. (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 165).

[65]

{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)} [الأنبياء: 65]. [65] {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} رُدُّوا إلى الكفر بعد اعترافهم بالظلم، ومنه: نكس المريض: عاد إلى المرض بعد العافية، وأصله قلبُ أعلى الشيء أسفله، وقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} أي: لقد علمت عجزهم عن المنطق، فكيف نسألهم؟! ... {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)} [الأنبياء: 66]. [66] فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليه السلام {قَالَ} لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا} إن عبدتموه. {وَلَا يَضُرُّكُمْ} إن تركتم عبادته؟! ... {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} [الأنبياء: 67]. [67] {أُفٍّ لَكُمْ} أي: نتنًا وقذرًا لكم {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أليس لكم عقل تعرفون هذا الذي يعرفه كل عاقل فتؤمنون؟! قرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (أُفَّ) بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم: بكسر الفاء مع التنوين، وقرأ الباقون: بكسر الفاء من غير تنوين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 429 - 430)، و"النشر في القراءات العشر" =

[68]

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} [الأنبياء: 68]}. [68] فلما لزمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب، أضربوا عن محاجته، {قَالُوا حَرِّقُوهُ} بالنار؛ لأنها أوجح وأبشع. {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} على الذي أهانها {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} النصر لها. ... {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]. [69] فلما جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، حبسوه في بيت بكوثا شهرًا، وبنوا بنيانًا كالحظيرة، قيل: طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملؤوه من الحطب، وأوقدوا في نواحيه النيران، فصارت نارًا واحدة شديدة، حتى إن الطير لتحترق إذا مرت بها. وروي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها، فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق، فعملوه، وعمدوا إلى إبراهيم عليه السلام، فغلُّوه ووضعوه في كفة المنجنيق، فثم قال إبراهيم: "لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، فاستغاثت الملائكة قائلة: يا رب! هذا خليلك قد نزل به من عدوك ما أنتَ أعلمُ به، فقال تعالى: إن خليلي ليس في خليل سواه، وأنا إلهه، وليس له إله غيري، فإن استغاث بكم، فانصروه، وإلا، فخلُّوا بيني وبينه، فأتاه خازن المياه فقال له: إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الرياح فقال له: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم: ¬

_ = لابن الجزري (2/ 306 - 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 142).

لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل، وتعرض له جبريل وهو يقذف به في لجة الهواء إلى النار، وقال له: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله، فبلى، قال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فلم يستنصر بغير الله، ولا جنحت همته لما سوى الله، بل استسلم لحكم الله مكتفيًا بتدبير الله -عز وجل- عن تدبير نفسه، وكان يومئذ ابن ست عشرة سنة، ولما وقع في النار، لم يحترق سوى وثاقه"، فذلك قوله تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬1) أي: ابردي ليسلم، فذهبت حرارتها وإحراقها، وبقيت إضاءتها وإشراقها. قال ابن عباس: "لو لم يقل: بردًا وسلامًا، [لمات إبراهيم من بردها، ولو لم يقل: على إبراهيم، لبقيت بردًا وسلامًا] (¬2) أبدًا" (¬3). وروي أنه لم يبق في ذلك الوقت نار بمشارق الأرض ومغاربها إلا خمدت، ظانة أنها المعنية بالخطاب، قال كعب الأحبار: "جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ؛ فإنه كان ينفخ في النار" فلذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلها، وسماها فويسقًا (¬4). وعن علي رضي الله عنه: "أن البغال كانت تتناسل، وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم، فدعا عليها، فقطع الله نسلها، ولما ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 166 - 167)، و"تفسير القرطبي" (11/ 303)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 175)، و"روح المعاني" للآلوسي (12/ 425). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 167). (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 167)، و"تفسير القرطبي" (11/ 304).

[70]

سقط في النار، تلقته الملائكة، فأجلسوه على الأرض، فإذا بعين ماء عذب وروضة وورد ونرجس، فأقام بها سبعة أيام، وجاءه ملك بقميص من حرير الجنة، وطنفسة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة، وجعل يحدثه ويقول له: إن ربك يقول لك: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي" (¬1). وروي أنه قال: "ما كنت قط أنعمَ مني من الأيام التي كنتُ فيها في النارِ" (¬2). ... {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 70]. [70] فلما رأوه، وقد أكرمه الله بما كرمه، آمن بالله جمع كبير في سر؛ خوفًا من نمرود، وخرج إبراهيم من مكانه يمشي، وفارقه جبريل عليه السلام، فأقبل نحو منزله، فأرسل إليه نمرود وسأله عن كسوته ورفيقه، فقال: "إنه ملك أرسله إلي ربي، وقص عليه القصة"، فقال نمرود: إن إلهك الذي تعبده لإله عظيم، وإني مقرب قربانًا إليه؛ لما رأيت من عزته وعظمته وقدرته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته (¬3)، فقرب أربعة آلاف بقرة، ثم احترم إبراهيم بعد ذلك، وكف عنه، وقد عذب الله النمرود بإرسال البعوض عليه وعلى جيشه، فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظامًا، ودخلت واحدة منها في منخر الملك نمرود، فلبثت في منخره، عذبه الله بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب حتى أهلكه الله عز وجل، ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (6/ 185). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (17/ 44) عن المنهال بن عمرو. (¬3) "إلا عبادته" زيادة من "ت".

[71]

وسلط الله على مدينة كوثا الزلازل حتى خربت. {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} (¬1) إحراقًا. {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} في نفقاتهم على كيده. ... {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 71]. [71] {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا} ولد هارون أخي إبراهيم من نمرود وقومه من أرض العراق. {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} هي أرض الشام، بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأنهار والأشجار، ولأن أكثر الأنبياء يبعثون منها. روي أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة، وبينهما يوم وليلة. ... {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)} [الأنبياء: 72]. [72] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} ولده لصلبه بدعائه حيث قال: {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} [الصافات: 100] {وَيَعْقُوبَ} ولد الولد {نَافِلَةً} زيادة من غير سؤال. {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ... {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} [الأنبياء: 73]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 168).

[73]

[73] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} يقتدى بهم في الخير (¬1) {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يدعون الناس إلى ديننا. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (أَئِمَّةً) بهمزتين محققتين على الأصل، والباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين، وروي عنهم وجه: أنها تجعل ياء خالصة مكسورة تخفيفًا لاستثقالهم تحقيق همزتين في كلمة واحدة، وأبو جعفر يدخل بينهما ألفًا مع تسهيل الثانية، وهشام راوي ابن عامر روى عنه المد مع تحقيق الهمزة الثانية (¬2). {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} وهي جميع الأعمال الصالحة. {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} المحافظة عليها، وحذفت الهاء من (إقامة)؛ لإضافتها إلى الصلاة. {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} إعطاءها {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} موحِّدين. ... {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)} [الأنبياء: 74]. [74] {وَلُوطًا} سمي بذلك؛ لأن حبه لِيطَ بقلب إبراهيم؛ أي: تعلق ولصق، وكان عمه إبراهيم يحبه حبًّا شديدًا، وهو ممن آمن به وهاجر معه إلى مصر وعاد إلى الشام. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} حكمة وفصلًا بين الخصوم {وَعِلْمًا} بما ينبغي علمه ¬

_ (¬1) "يقتدى بهم في الخير" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 142 - 143).

[75]

للأنبياء عليهم السلام {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ} سدوم. {الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ} أي: يعمل أهلها. {الْخَبَائِثَ} إتيان الرجال، وقطع السبل، والمكس، وغير ذلك من المعاصي. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} بعملهم الخبائث. ... {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} [الأنبياء: 75]. [75] {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} أي: في أهل رحمتنا. {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} الذين سبقت لهم منا الحسنى. ... {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)} [الأنبياء: 76]. [76] {وَنُوحًا إِذْ نَادَى} دعا على قومه {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل إبراهيم ولوط {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} الغرق، وتكذيب قومه. ... {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 77]. [77] {وَنَصَرْنَاهُ} منعناه {مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أن يصلوا إليه بسوء.

[78]

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} لاجتماع الأمرين: تكذيب الحق، والانهماك في الشر؛ لأنهما لم يجتمعا في قوم إلا أهلكهم الله. ... {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)} [الأنبياء: 78]. [78] {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} أي: اذكرهما {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} كان زرعًا أو كرمًا {إِذ نَفَشَتْ فِيهِ} دخلت فيه {غَنَمُ الْقَوْمِ} فأكلته، والنفش: انتشار الغنم ليلًا بلا راع، وأصله الانتشار. {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي: عالمين، لا يخفى علينا علمه، جمع اثنين فقال: {لِحُكْمِهِمْ} وهو يريد داود وسليمان؛ لأن الاثنين جمع، وهو مثل قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وهو يريد: أخوين، وقيل: {لِحُكْمِهِمْ} أي: لحكم الحاكمينِ والمتحاكمين، وأقل الجمع ثلاثة حقيقة بالاتفاق. ... {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} [الأنبياء: 79]. [79] {فَفَهَّمْنَاهَا} أي: الحكومة {سُلَيْمَانَ} وعلمناه القضية. فيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان؛ لأن الغنم رعت الزرع بلا راع ليلًا، فتحاكما إلى داود، فحكم لصاحب الزرع بالغنم، فقال سليمان: غير هذا أرفق بهما، وكان سنه إحدى عشرة سنة، فعزم عليه داود بالأبوة

والنبوة ليحكمن بينهما، فدفع الغنم إلى صاحب الزرع ينتفع بدرها ونسلها وصوفها، وإلى صاحب الغنم الحرث يصلحه، فإذا عاد كحاله حين هلك، ترادا، فقال له: القضاء ما قضيت، هذا كان في شريعتهم. وأما في شريعتنا، فما أفسدته البهائم من الزرع والشجر وغيرهما نهارًا بلا راع، فلا ضمان على ربها عند مالك والشافعي وأحمد، وما أفسدته ليلًا، ففيه الضمان عندهم إن فرط، وإلا، فلا؛ لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار، والمواشي تسرح بالنهار، وترد بالليل إلى المراح. وعند أبي حنيفة: لا ضمان في ذلك في ليل ولأنهار، إلا أن يكون معها سائق أو قائد، إلا أن ترسل عمدًا. واختلفوا فيما أتلفت من الأنفس والأموال سوى الزروع والثمار، فقال مالك: لا ضمان على ربها في ليل ولا نهار، وقال الشافعي: يضمن ما أتلفت من نفس ومال إذا كان معها ليلًا أو نهارًا، فإن بالت أو راثت بطريق، فتلف به نفس أو مال، فلا ضمان عليه، وقال أبو حنيفة وأحمد: إذا كانت يزيد راكب أو سائق أو قائد، فيضمن ما جنت يدها أو فمها، أو وطؤها برجلها، وقيد أحمد بما [إذا كان قادرًا على التصرف فيها، ولا يضمن عندهما ما نفحت برجلها، وقيد أحمد] (¬1) بما إذا لم يكبحها؛ أي: يجد بها زيادة على المعتاد، أو يضربها على وجهها، ولا يضمن عندهما ما جنت بذنبها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

وكان حكم داود وسليمان -عليهما السلام- بوحي عند بعض، ومنع الأنبياء من الاجتهاد؛ لاكتفائهم بالوحي، فكان حكم سليمان ناسخًا لحكم داود باجتهاد عند بعض؛ ليدركوا فضيلة المجتهدين، وجوز الخطأ عليهم؛ لأن المجتهد لا يقدر على إصابة الحق في كل حادثة، وأما العلماء، فلهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة، وإذا أخطأوا، فلا إثم عليهم. وتقدم ذكر مذاهب الأئمة في جواز اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر الدنيا، وحكم المجتهدين بعده في سورة التوبة عند ذكر قصة حنين، ومما يوضح أن داود وسليمان كانا على الصواب قوله: {وَكُلًّا} يعني: داود وسليمان. {آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} الفهم في القضاء والنبوة. قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله تعالى حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده (¬1). {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} يقدسن الله تعالى معهُ. {وَالطَّيْرَ} عطف على الجبال. {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} قادرين على المذكور من التسبيح والتفهيم، وكان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر، وكانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير. ... ¬

(¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 93)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 118).

[80]

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}. [80] {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} دروع {لَكُمْ} واللبوس في اللغة: اسم لكل ما يُلبس في الأسلحة، والمراد: الدروع؛ لأنها كانت من صفائح، فهو أول من سردها وحلقها؛ لتجتمع التحفة والحصانة. {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي: يحرزكم من الحرب. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بالتاء على التأنيث، يعني: الصنعة، ورواه أبو بكر، ورويس عن يعقوب: بالنون إلى الله تعالى لقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ}، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير؛ أي: داود (¬1). {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} نعمتنا عليكم؟ خطاب لداود وأهل بيته، وقيل: لأهل مكة، فهل أنتم شاكرون نعمتي بطاعة الرسول؟ ... {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء: 81]. [81] {وَلِسُلَيْمَانَ} أي: وسخرنا لسليمان {الرِّيحَ} وهي هواء متحرك، وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته، وتذكر وتؤنث. قرأ أبو جعفر: (الرِّيَاحَ) بألف بعد الياء على ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 430)، و"التيسير" للداني (ص: 155)، و"تفسير البغوي" (3/ 673)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 144).

[82]

الجمع، والباقون: بغير ألف على التوحيد (¬1) {عَاصِفَةً} قوية. {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} هي الشام، فكانت تسير به وبجنده على البساط، وكان عرضه فرسخًا في فرسخ، منسوج بإبريسم، عملته له الجن -حيث شاء، ثم يعود من يومه إلى منزله، وكان يقيل بمكان بينه وبينه شهر، ويمسي بآخر بينه وبينه شهر، وكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر، ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل، وكان مقامه بتدمر، بناها له الشياطين بالصّفّاح والعَمَد وألوان الرخام. {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ} علمناه. {عَالِمِينَ} بصحة التدبير فيه، فنفعل مقتضى الحكمة. ... {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)} [الأنبياء: 82]. [82] {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ} أي: وسخرنا منهم {مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} في البحر لاستخراج الدُّرِ ونحوه {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} أي: سواه من الأعمال. {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} لئلا يعصوه، ولئلا يفسدوا عملهم، لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل قبل الليل، أفسدوه إن لم يشتغلوا بغيره. ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 145).

[83]

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء: 83]. [83] {وَأَيُّوبَ} أي: واذكره {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} لما ابتلي بفقد جميع ماله وولده، وتمزيق جسده، وكان برًّا تقيًّا رحيمًا بالمساكين، مؤديًا لحق الله، شاكرًا لأنعم الله، وتقدم ذكر نسبه في سورة النساء، وكان صاحب أموال عظيمة، وكانت له الثنية جميعها من أعمال دمشق ملكها، فابتلاه الله تعالى بأن أذهب أمواله حتى صار فقيرًا، ثم ابتلاه في جسده حتى تجذم ودوَّد، وبقي رميًّا على مزبلة لا يطيق أحدٌ أن يشم رائحته (¬1)، ورفضه كل الناس غير زوجته رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام؛ فإنها استمرت صابرة تخدمه حتى باعت ظفيرتها بشيء أكله، فتزايا لها إبليس، وقال لها: اسجدي لي لأرد مالكم، فاستأذنت أيوب، فغضب وحلف ليضربنها مئة، ثم عافاه الله تعالى بعد ثلاث سنين، أو سبع، ورزقه، ورد على امرأته شبابها وحسنها، وولدت له ستة وعشرين ذكرًا، ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (18/ 505) عن الحسن، وذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 176 - 179) في خبر طويل، وانظر "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 85). ومعلوم أن الله تبارك وتعالى حمى أنبياءه -عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- من كل ما ينفِّر، وعصمهم من مثل ما روي عن سيدنا أيوب -عليه السلام-. قال العلامة جمال الدين القاسمي في "محاسن التأويل" عند تفسيره لهذه الآية: إن أسانيدها مختلفة واهية، لا يقام لها وزن. وقال صاحب "أضواء البيان" (4/ 239): كل ذلك من الإسرائيليات، وغاية ما دلَّ عليه القرآن أن الله سبحانه ابتلى أيوب، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كلَّ ضر، ووهبه أهله ومثلهم معهم.

[84]

ولما عوفي، أمره الله أن يأخذ عرجونًا من النخل فيه مئة شمراخ، فيضرب به زوجته رحمة؛ ليبر في يمينه، ففعل، وكان أيوب نبيًّا في عهد يعقوب، وعاش ثلاثًا وتسعين سنة {أَنِّي} أي: بأني {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أي: الضرر والشدة. قرأ حمزة: (مَسَّنِي الضُّرُّ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1) {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وشكواه لم تخرجه عن الصبر، ولذلك وصف بالصبر بقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44]؛ لأنها إلى الخالق بأوجز عبارة، وألطف إشارة إلى أنه تعالى أهل أن يَرحم، وأيوب أهل أن يُرحم، وفي الحديث: "إذا أحب الله عبدًا ابتلاه؛ ليسمع تضرعه" (¬2). ... {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 84]. [84] {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} نداءه {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} أولاده، روي أن الله تعالى أحياهم {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} آتاه الله مثلهم. {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} لأيوب {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} عظة للمطيعين؛ ليصبروا كصبره، فيثابوا كثوابه، وتأتي تتمة قصته في سورة (ص) إن شاء الله تعالى. سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 146). (¬2) رواه هنّاد بن السّري في "الزهد" (1/ 239)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 122)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9788)، والديلمي في "مسند الفردوس" (970)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[85]

فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" (¬1). ... {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)} [الأنبياء: 85]. [85] {وَإِسْمَاعِيلَ} يعني: ابن إبراهيم. {وَإِدْرِيسَ} تقدم ذكره في سورة مريم. {وَذَا الْكِفْلِ} هو بشر بن أيوب، بعثه الله بعد أبيه، وسماه ذا الكفل، وكان مقامه بالشام، وقبره في قرية كفل حارس من أعمال نابلس، وسمي بذلك؛ لأنه تكفل بصيام جميع نهاره، وقيام جميع ليله، وأن يقضي بين الناس ولا يغضب، فوفى، فشكر الله له، ونبأه، فسمي ذا الكفل. {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} على أمر الله. ... {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)} [الأنبياء: 86]. [86] {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} يعني: النبوة. {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} الكاملين في الصلاح، فإن الأنبياء صلاحهم معصوم عن كدر الفساد. ... ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2398)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (4023)، كتاب: الفتن، باب: الصبر على البلاء، والنسائي في "السنن الكبرى" (7481)، والإمام أحمد في المسند (1/ 172)، وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.

[87]

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]. [87] {وَذَا النُّونِ} أي: اذكر صاحب الحوت، وهو يونس بن متى عليه السلام، سمي به لابتلاع النون إياه، وهو الحوت. {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} غضب على قومه لكفرهم، لا مغاضبًا لربه؛ إذ مغاضبة الله معاداة له، ومعاداة الله كفر لا تليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء؟! {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ} أي: نُضَيِّق {عَلَيْهِ} قراءة العامة: بالنون مفتوحة وكسر الدال، وقرأ يعقوب: بالياء مضمومة وفتح الدال مخففة على المجهول (¬1). {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} بطن الحوت والبحر والليل {أَنْ} أي: بأن {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} بمغاضبتي، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وإما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له" (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 188 - 189)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 146). (¬2) رواه التر مذي (3505)، كتاب: الدعوات، باب: (82)، والنسائي في "السنن الكبرى" (10492)، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 170)، وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.

[88]

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 88]. [88] {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أجبناه {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} من تلك الظلمات. {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} من كل كرب إذا استغاثوا بنا. قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (نُجِّي) بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء، على معنى: (نُنَجِّي)، ثم حذفت إحدى النونين تَخفيفًا، كما جاء عن ابن كثير وغيره قراءة {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} في الفرقان [الآية: 25]، قال الإمام أبو الفضل الرازي في كتابه "اللوامح": {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} على حذف النون الذي هو فاء الفعل من (نُنَزِّل). قراءة أهل مكة ووجه النضب في المؤمنين: أن المصدر قام مقام الفاعل، فبقي الـ (المؤمنين) مفعولًا به صريحًا، تقديره: نجي النجاء المؤمنين، ونظيره {ليَجْزِىَ قَوْمَا} على قراءة أبي جعفر في الجاثية [الآية: 14]؛ أي: ليجزي الجزاء قومًا، وقرأ الباقون: بنونين، الثانية ساكنة مع تخفيف الجيم مستقبل أنجينا، وقد اعترض الزمخشري وغيره على قراءة ابن عامر وأبي بكر، وزعموا أنها لحن، فرد الكواشي اعتراضهم، وبين وجه الصحة فيها، وأشبع الكلام في ذلك (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 430)، و"الكشف" لمكي (2/ 113)، و"تفسير البغوي" (3/ 189 - 190)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 147).

وتقدم ذكر يونس عليه السلام، ووفاته، ومحل قبره في سورة النساء [الآية: 163]، وتقدم طرف من ذكر قصته في سورة يونس [الآية: 98]، ولنذكر في هذا المحل باقيها باختصار، فنقول وبالله التوفيق: يونس بن متى عليه السلام، قيل: إنه من بني إسرائيل، وإنه من سبط بنيامين، وتزوج بنت رجل من الأولياء اسمه زكريا كان مقيمًا بالرملة، فأقام يونس عنده، ثم بعد وفاة زكريا، توجه إلى بيت المقدس يعبد الله تعالى، وكانت بعثته في أيام يوثم بن عَزِّيا هو أحدِ ملوك بني إسرائيل، وبعثه الله إلى أهل نينوى قبالة الموصل، بينهما دجلة، وكانوا يعبدون الأصنام، فنهاهم وواعدهم العذاب في يوم معلوم إن لم يتوبوا، وضمن ذلك عن ربه -عز وجل-، وخرج يونس من بين أظهرهم، فلما أظلهم العذاب، آمنوا، فكشفه الله عنهم كما تقدم في سورة يونس، وجاء يونس لذلك اليوم، فلم ير العذاب حل بهم، ولا علم بإيمانهم، فذهب مغاضبًا، ودخل في سفينة من سفن دجلة، فوقفت السفينة ولم تتحرك، فقال رئيسها: فيكم من له ذنب، فتساهموا على من يلقونه في البحر، فوقعت المساهمة على يونس، فرموه، فالتقمه الحوت، وسار به إلى الأيكة، وكان من شأنه ما أخبر الله تعالى به. وملخص قصته: أن الحوت التقمه، فكان يونس يسجد على قلب الحوت، والحوت يقول: يا يونس! أسمعني تسبيح المغمومين، وهو يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فتقول الملائكة: "إلهنا! إنا نسمع تسبيح مكروب، كان لك شاكرًا، اللهم فارحمه في كربته وغربته"، واختلف في مدة لبثه، فمنهم من قال: أربعين يومًا، وقيل: ثلاثة أيام، فلما انقضت مدة قدرها الله تعالى له، أمر الحوت أن يرده إلى الموضع الذي أخذه منه، فشق ذلك على الحوت؛ لاستئناسه بذكر الله

[89]

تعالى، فقيل له: اقذفه، فقذفه في الساحل، فذلك قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)} [الصافات: 145]، وخرج يونس مثل الفرخ المنتوف (¬1)، وقد ذهب بصره، وهو لا يقدر على القيام، فأنبت الله شجرة من يقطين لها أربعة آلاف غصن، فكانت فِراشه وغطاءه، وأمر الله الظبية فجاءته وأرضعته حتى قوي، وهبط جبريل -عليه السلام-، فسلم عليه، وأمرَّ يده على رأسه وجسده، فأنبت الله لحيته، ورد عليه بصره، وأوحى الله إليه بإيمان قومه حين رأوا العذاب، ثم هبط إليه ملك، ودفع إليه حلتين، وقال: سر إلى قومك؛ فإنهم يتمنونك، فاتزر بواحدة، وارتدى بأخرى، وسار يونس -عليه السلام-، فاجتمع بزوجته وولديه قبل وصوله إلى قومه، ثم وصل الخبر إلى قومه، فوثب الملك عن سريره، وخرجوا كلهم إلى يونس -عليه السلام-، وسلموا عليه، وفرحوا به، وحملوه إلى المدينة، وأقام فيهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى أن توفاه الله تعالى، وفي قصته خلاف بين المفسرين والمؤرخين، والله أعلم. ... {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)} [الأنبياء: 89]. [89] {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى} دعا. {رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} بلا ولد يرثني. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 459)، وابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" (38)، و"العقوبات" (171) عن عبد الله بن مسعود، ولم يرفعه، بلفظ: "كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش" ولم أقف على باقيه، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر: (10/ 212).

[90]

{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} خير من يبقى بعد من يموت. واختلاف القراء في الهمزتين من (زَكَرِيَّا إِذْ) كاختلافهم فيهما في أول سورة مريم. ... {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)}. [90] {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} ولدًا. {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} بتحسين خَلْقها وخُلقها، وجعلِها ولودًا بعد العقم {إِنَّهُمْ} أي: مَنْ ذُكر من الأنبياء. {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} يبادرون في عمل الطاعات. {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} طمعًا وخوفًا. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} متواضعين ذللًا. قرأ الدوري عن الكسائي: {يُسَارِعُونَ} بالإمالة، وأمال أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: (مُوسَى) و (عِيسَى) و (يَحْيَى) حيث وقع (¬1). ... {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)}. [91] {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} منعته مما لا يحل، وهي مريم بنت عمران. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 311 - 312)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 148).

[92]

{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أمرنا جبريلَ حتى نفخ في جيب درعها، فأجرينا فيها روح عيسى -عليه السلام- المخلوقة. {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} دلالة على كمال قدرتنا حمل امرأة بلا مساسة ذكر، وكون ولد من غير أب، ووحد الآية، ولم يقل: آيتين؛ لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما آية؛ لأن الآية فيهما واحدة. ... {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}. [92] {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الأمة: الملة، و (هذه) إشارة إلى الإسلام، فأبطل ما سواه من الأديان، و (أمتكم) رفع خبر (إن)، و (أمة واحدة) نصب حال. {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} قرأ يعقوب: (فَاعْبُدُونِي) بإثبات الياء (¬1). ... {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}. [93] ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة فقال: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: اختلفوا في الدين، فصاروا فرقًا. {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فنجازيه. ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 194).

[94]

{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)}. [94] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} لا يجحد عمله {وَإِنَّا لَهُ} للسعي {كَاتِبُونَ} في صحيفة عمله، فنثيبه عليه. ... {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)}. [95] {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي: وحرام على أهل قرية حكمنا بإهلاكهم أن تقبل أعمالهم؛ لأنهم لا يرجعون عن كفرهم، وقيل: المعنى: حرام عليهم الرجوع إلى الدنيا بعد الهلاك. قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: (وَحِرْمٌ) بكسر الحاء وإسكان الراء من غير ألف، والباقون: بفتح الحاء والراء وألف بعدها، ومعناهما واحد؛ لأنهما لغتان مثل حِلّ وحلال (¬1). ... {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)}. [96] {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي: فتح سدهما. قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (فُتِّحَتْ) بالتشديد على التكثير، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 431)، و"تفسير البغوي" (3/ 191)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 150).

[97]

والباقون: بالتخفيف (¬1)، وتقدم تفسير يأجوج ومأجوج، واختلاف القراء فيهما في سورة الكهف (¬2). {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} هو المكان المرتفع {يَنْسِلُونَ} يسرعون. ... {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}. [97] {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} هو يوم القيامة {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} مرتفعة الأجفان {أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فلا تكاد تطرف؛ لهول ما ترى، يقولون: {يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} اليوم. {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} بوضعنا العبادة في غير موضعها. ... {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)}. [98] ونزل خطابًا لعابدي الأصنام وإبليس وأتباعه: ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 102)، و"تفسير البغوي" (3/ 192)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 358)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 151). (¬2) عند تفسير الآية (94) منها.

[99]

{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ما يُرمى به فيها للوقود. {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فيها داخلون. ... {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)}. [99] ثم وبخهم، وأخبرهم أن آلهتهم يدخلون النار بقوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ}؛ أي: الأصنام {آلِهَةً} على الحقيقة {مَا وَرَدُوهَا} لأن المؤاخذ المعذب لا يكون إلهًا. {وَكُلٌّ} من العابد والمعبود منهم {فِيهَا خَالِدُونَ} لا خلاص لهم منها. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: {هَؤُلاَءِ آلِهَةً} بتحقيق الهمزتين، وقرأ الباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تبدل ياء (¬1). ... {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)}. [100] {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أنين وتنفس شديد. {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} شيئًا؛ لشدة غليان النار، ولما بهم من الألم، ومنعوا السمع؛ لأن فيه (¬2) أنسًا. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 312)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 153). (¬2) في "ت": "فيها".

[101]

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)}. [101] ولما سمع عبد الله بن الزبعرى السهمي ذلك، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أليس اليهود عبدوا عزيرًا، والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة؟ فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا} (¬1) المنزلة {الْحُسْنَى} السعادة، يعني: عزيرًا والمسيح والملائكة. {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وأنزل في ابن الزبعرى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف: 58]. ... {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ خَالِدُونَ (102)}. [102] {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} صوتها الخفي إذا دخلوا الجنة. {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ} من النعيم {خَالِدُونَ} مقيمون. ... {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}. [103] {لَا يَحْزُنُهُمُ} قرأ أبو جعفر: بضم الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي (¬2) {الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} النفخة الآخرة ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 174 - 175). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 244)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 153).

[104]

{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} تستقبلهم عند باب الجنة مهنئين يقولون لهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فيه الجنة والثواب. ... {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)}. [104] {يَوْمَ} أي: واذكر يوم {نَطْوِي السَّمَاءَ} وطيُّها: تكوير نجومها، ومحو رسومها. قرأ أبو جعفر: (تُطْوَى) بالتاء وضمها على التأنيث وفتح الواو ورفع (السَّمَاءُ) على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون: بالنون مفتوحة على التعظيم وكسر الواو ونصب (السَّمَاءَ) (¬1). {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (لِلْكُتُبِ) بضم الكاف والتاء من غير ألف على الجمع، وقرأ الباقون: بكسر الكاف وفتح التاء مع الألف على الإفراد (¬2)، و (السِّجِل) الصحيفة (للكتب)؛ أي: لأجل ما كتب، معناه: كطي الصحيفة على مكتوبها، والسجل: اسم مشتق من المساجلة، وهي المكاتبة، والطيُّ: هو الدرج الذي ضد النشر، ثم أومأ إلى تبديل السماء فقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} نرده مثل أول خلقه، وأول خلقه إيجاد ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 195)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 154). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 431)، و"تفسير البغوي" (3/ 195)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 155).

[105]

عن عدم، والخلق هنا يعم جميع الخلائق، المعنى: كما أوجدناه عن عدم، فكذلك نعيده عند البعث عن عدم. {وَعْدًا عَلَيْنَا} مصدر مؤكد؛ لأن نعيده عِدة بالإعادة. {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ذلك. ... {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}. [105] {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} وفي جميع الكتب المنزلة. قرأ حمزة، وخلف: (الزُّبُورِ) بضم الزاي، والباقون: بفتحها (¬1). {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي: اللوح المحفوظ؛ لأنها كلها أخذت منه {أَنَّ الْأَرْضَ} أي: أرض الجنة، أو الأرض المقدسة. {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، يفتحون أرض الكفار، ويدخلون الجنة. قرأ حمزة: (عِبَادِي الصَّالِحُونَ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). ... {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء: 106]. [106] {إِنَّ فِي هَذَا} أي: القرآن {لَبَلَاغًا} لكفاية. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 98)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 312)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 155). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 155).

[107]

{لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} عاملين، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ... {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. [107] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} جميعًا، فهو رحمة للمؤمن في الدارين، وللكافر في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال والمسخ ونحوه. ... {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)} [الأنبياء: 108]. [108] {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} منزه عما لا يليق بصفات الوحدانية {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} استفهام بمعنى الأمر؛ أي: آمنوا بالمذكور. ... {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)} [الأنبياء: 109]. [109] {فَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الإيمان {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ} أعلمتكم. {عَلَى سَوَاءٍ} فاستوينا في العلم بما أعلمتكم به {وَإِنْ أَدْرِي} وما أعلم. {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} أي: لا أعلم متى يحل بكم العذاب، وهو (¬1) أهولُ وأخوفُ. ... ¬

_ (¬1) في "ت": "وهذا".

[110]

{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)} [الأنبياء: 110]. [110] {إِنَّهُ} الضمير عائد إلى الله عز وجل {يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} وفي هذه الآية تهديد؛ أي: يعلم جميع الأشياء الواقعة منكم، وهو بالمرصاد في الجزاء عليها. ... {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)} [الأنبياء: 111]. [111] {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ} أي: تأخير العذاب عنكم. {فِتْنَةٌ لَكُمْ} أي: اختبار؛ ليرى كيف صنيعكم، وهو أعلم. {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي: تمتعون إلى انقضاء آجالكم. ... {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} [الأنبياء: 112]. [112] {قَالَ} قرأ حفص عن عاصم: (قَالَ) بالألف إخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الباقون: (قُلْ) بغير ألف على الأمر (¬1)؛ أي: أمره الله تعالى أن يقول على جهة الدعاء: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} وقرأ أبو جعفر: (رَبُّ) بضم الباء، وقال ابن الجزري: ووجهه أنه لغة معروفة جائزة في نحو يا غلامي تنبيهًا على الضم، وأنت تنوي الإضافة، وليس ضمه على أنه منادى مفرد؛ كما ذكره أبو الفضل الرازي؛ لأن هذا ليس من نداء النكرة المقبل عليها، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 432)، و"التيسير" للداني (ص: 156)، و"تفسير البغوي" (3/ 197)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 156).

وقرأ الباقون: بكسر الياء اكتفى بها عن الياء (¬1)، ومعنى {احْكُمْ}: افصل بيني وبين مكذبي بالعذاب، فالحق بمعنى العذاب هنا، فعذبوا يوم بدر، وقرأ زيد عن يعقوب: (رَبِّي) بالياء (أَحْكَمُ) بقطع الألف وفتح الكاف ورفع الميم على وزن أفعل على الابتداء والخبر من الإحكام (¬2). {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} من الكذب والباطل. قرأ الدوري عن ابن ذكوان: (يَصِفُونَ) بالغيب، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬3)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 156). (¬2) انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 93)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 157)، وهذه القراءة ليست متواترة عن يعقوب. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 432)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 312)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 157).

سورة الحج

سورة الحج قال الجمهور: هي مختلطة، منها مكي، ومنها مدني، قال ابن عطية: وهذا هو الأصح (¬1)، والله أعلم؛ لأن الآيات تقتضي ذلك، وآيها: ثمان وسبعون آية، وحروفها: خمسة آلاف ومئة وخمسة وسبعون حرفًا، وكلمها: ألف ومئتان وإحدى وتسعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)} [الحج: 1]. [1] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أطيعوه، وهذا تحذير لجميع العالم. {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} حركتها الشديدة {شَيْءٌ عَظِيمٌ} لا يوصف لعظمته، والزلزلة: التحريك العنيف، وزلزلة الساعة: هي كالمعهود في الدنيا، إلا أنها في غاية الشدة، واختلف فيها، فقال الجمهور: هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، وقيل: هي في القيامة على ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 105).

[2]

جميع العالم. قرأ أبو عمرو {السَّاعَةِ شَيْءٌ}؛ بإدغام التاء في الشين (¬1). ... {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2]. [2] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} يعني: الزلزلة {تَذْهَلُ} تشغل {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} من الولد، فتترك إرضاعه في حال إلقامه ثديها؛ لشدة الأمر. {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ} أي: حبلى {حَمْلَهَا} ولدها قبل تمامه، والحمل -بالفتح-: ما تحمله الإناث، و -بالكسر-: ما يحمل على الظهر والرأس، والتلاوة بالأول، وهذا دليل لمن قال: إن الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل، ومن قال: هي في القيامة، جعل ذلك تهويلًا لشأنها، يعني: لو فُرض ثَمَّ حامل، لوضعت. {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} تشبيه لهم من الخوف. قرأ أبو عمرو: (النَّاس سُّكَارَى) بإدغام السين في السين (¬2) {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} السُّكر الحقيقي الذي هو من الخمر. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (سَكْرَى) بفتح السين وإسكان الكاف من غير ألف فيها. وقرأ الباقون: بضم السين وفتح الكاف وألف بعدها، وهما لغتان لجمع السكران؛ مثل: كَسْلَى وكُسالى (¬3)، وقرأ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 161). (¬2) المصدران السابقان. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 434)، و"تفسير البغوي" (3/ 200)، =

[3]

أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: بالإمالة فيهما، واختلف عن ورش وابن ذكوان في الإمالة والفتح (¬1). {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم، وأذهب تمييزهم. ... {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)} [الحج: 3]. [3] وكان النضر بن الحارث كثير الجدال في الله تعالى بالباطل، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وينكر البعث وإحياء من صار ترابًا، فنزل فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ} (¬2) في جداله {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} عاتٍ مستمر في الشر. ... {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} [الحج: 4]. [4] {كُتِبَ عَلَيْهِ} قُضي على الشيطان {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} تبعه. {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} لأن من شأنه الإضلال {وَيَهْدِيهِ} يدعوه. ¬

_ = و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 162). (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 66)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 313)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 162 - 163). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 8).

[5]

{إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} بما يزين له من الباطل، والهاء في (عليه)، وفي (فأنه) للشيطان، وفي (يضله) لمتوليه، وفي معنى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ} الآية من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: من أعان ظالمًا، سُلِّط عليه. ... {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} [الحج: 5]. [5] ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِنَ الْبَعْثِ} أي: إن ارتبتم في البعث، فاستدلوا على صحته ببدء خلقكم. {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يعني: أصلكم آدم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} مَنِيّ، خلقتم أنتم منها {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} دم جامد {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} لحمة صغيرة قدر ما تمضغ، وذلك أن النطفة تصير دمًا غليظًا، ثم تصير لحمًا. {مُخَلَّقَةٍ} مصورة تامة الخلق. {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} النطفة قبل أن تصور، وهي ما تمجه الأرحام، وما يعني السقط {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} قدرتنا على البعث. {وَنُقِرُّ} نثبتُ {فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} ثبوتَه.

{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وقت الولادة. قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر، ورويس: (نَشَاءُ إِلَى) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تبدل واوًا خالصة مكسورة، وهو قول جمهور القراء المتقدمين، وذهب بعضهم إلى أنها تجعل بين الهمزة والياء، وهو مذهب أئمة النحو والمتأخرين من القراء، وهو الأوجه في القياس، وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح: بتحقيق الهمزتين (¬1). واتفق الأئمة على أن الأَمَة تكون أمَّ ولد بما أسقطته من ولد [تام الخلق، وتكون عند مالك أم ولد] (¬2) بالعلقة والمضغة، سواء كانت مخلقة أو غير مخلقة، وعند أبي حنيفة: إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم؛ كإصبع أو عين أو غير ذلك، فهي به أم ولد، وعند الشافعي وأحمد: إذا وضعت ما فيه صورة، ولو خفية، صارت أم ولد. واتفقوا على أن المولود إذا استهل صارخًا، غسل وصلي عليه، فإن لم يستهل صارخًا، لم يصل عليه عند الثلاثة، وعند أحمد: إذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر، غسل، وصلي عليه. {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} من الرحم {طِفْلًا} اسم جنس؛ أي: أطفالًا. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} كمال عقلكم وقوتكم. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} قبل بلوغ الكبر. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أخسه، وهو الخرف. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 313)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 165). (¬2) ما بين معكوفتين ساقط من "ش".

[6]

{لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ} عَلِمَه قبل {شَيْئًا} أي: لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه، فلا يعلم من ذلك شيئًا. {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} يابسة {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} المطر {اهْتَزَّتْ} تحركت بالنبات {وَرَبَتْ} قرأ أبو جعفر (وَرَبَأَتْ) بهمزة مفتوحة بعد الباء؛ أي: ارتفعت، وقرأ الباقون: بحذف الهمزة؛ أي؛ انتفخت (¬1). {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} نوع. {بَهِيجٍ} حسن، فهذا دليل آخر على البعث. ... {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحج: 6]. [6] {ذَلِكَ} أي: المذكور، مبتدأ، خبره: {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي: لتعلموا أن الله هو الحق {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ... {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: 7]. [7] {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف. ... {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} [الحج: 8]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 202). و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 167).

[8]

[8] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني: النضر بن الحارث، وكرر الآية ردعًا للجاهل وتوبيخًا؛ لأنه يجادل بظن من غير تحقيق. {وَلَا هُدًى} ليس معه من ربه رشاد ولا برهان. {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} واضح. ... {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)} [الحج: 9]. [9] {ثَانِيَ عِطْفِهِ} لاويًا جانبه متكبرًا {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (لِيَضلَّ) بفتح الياء على اللزوم، وقرأ الباقون: بالضم (¬1)، أي: ليُضل هو الناسَ. {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} عذاب وهوان، فقتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط ببدر صبرًا {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} وهو النار. ... {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)} [الحج: 10]. [10] ويقال له: {ذَلِكَ} أي: النازل بك. {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} من العمل. {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} إنما هو مُجازٍ لهم على أعمالهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 134)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 313)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 168).

[11]

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11]. [11] ونزل فيمن دخل في الإسلام من غير اعتقاد صحته: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (¬1) أي: شك واضطراب، وأصله من حرف الشيء، وهو طرفه، نحو حرف الجبل، فقيل للشاك في الدين إنه يعبد الله على حرف؛ لأنه على طرف وجانب في الدين، لم يدخل فيه على الثبات والتمكن؛ كالقائم على حرف الجبل، مضطرب غير مستقر يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف؛ لضعف قيامه. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} صحة وسلامة في نفسه وماله {اطْمَأَنَّ بِهِ} سكن إليه {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} اختبار بجدب وعسرة {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} رجع إلى الكفر {خَسِرَ الدُّنْيَا} بفوات ما كان يؤمله {وَالْآخِرَةَ} بخلوده في النار. قرأ روح، وزيد عن يعقوب: (خَاسِرَ) بإثبات الألف بعد الخاء على وزن فاعل، وخفض (الآخِرَةِ) (¬2). {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الضرر الظاهر. ¬

_ (¬1) روى البخاري (4465)، كتاب: التفسير، باب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلامًا، ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته، ولم تنتج خيله، قال: هذا دين سوء. (¬2) انظر: "المحتسب" لابن جني (2/ 75)، و"تفسير البغوي" (3/ 204)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 168)، وليست هذه القراءة هي المتواترة عن يعقوب.

[12]

{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} [الحج: 12]. [12] {يَدْعُو} يعبد {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ} إن لم يعبده. {وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} إن عبده. {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} عن الهداية الذاهب عن الحق. ... {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} [الحج: 13]. [13] {يَدْعُو} تكريرًا تأكيدًا لكفره {لَمَنْ ضَرُّهُ} بكونه معبودًا؛ لأنه يوجب القتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة {أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} الذي يتوقع بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى. و (اللامِ) في قول الكسائي مقدمة في غير موضعها، و (مَنْ) في موضع نصب، و (ضَرُّه) مبتدأ، و (أَقْرَبُ) خبره، والجملة صلة (مَنْ)، وخبر (مَنْ) محذوف، والتقدير: يقول لمن ضره أقرب من نفعه آلهة، والمعنى: أنه يضر ولا ينفع. {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} الناصر {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} الصاحب المعاشر. ... {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)} [الحج: 14]. [14] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من إثابة الموحد، وعقاب المشرك. ***

[15]

{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} [الحج: 15]. [15] ولما ظن الكفار أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لن يُنصر، نزل: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬1) المعنى: أن الله ينصر نبيه، فمن ظن خلافه. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} فليشدد حبلًا في سقف بيته {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ليختنق به فيموت. قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، وورش عن نافع، ورويس عن يعقوب: (لِيَقْطَعْ) بكسر اللام؛ لأنها لام أمر أصلها الكسر، كما لو ابتدأ بها، ولا اعتداد بحرف العطف، والباقون: بإسكانها تخفيفًا (¬2)، واعتدادًا بحرف العطف مبتدأ به. {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} تلخيصه: هل يذهب فعله غيظه؟! وهذا مبالغة في الزجر؛ كما يقال للعدو: إن لم ترض، فاختنق، ومت غيظًا، وإلا، فلا نظر بعد الموت. ... {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)} [الحج: 16]. [16] {وَكَذَلِكَ} أي: مثل ذلك؛ يعني: ما تقدم من آيات القرآن. {أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ} أي: وأنزلنا أن {اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} هدايته. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (17/ 128)، و"تفسير البغوي" (3/ 205). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 156)، و"تفسير البغوي" (1/ 206)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 326)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 169).

[17]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}. [17] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} على الحقيقة {وَالَّذِينَ هَادُوا} يعني: اليهود، سموا به؛ لقولهم: {إِنَّا هُدْنَا} [الأعراف: 156]، أي: ملنا إليك، وقيل: لأنهم هادوا؛ أي: تابوا عن عبادة العجل، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون؛ أي: يتحركون عند قراءة التوراة، ويقولون: إن السموات والأرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة. {وَالصَّابِئِينَ} جمع صابئ، أصله الخروج، يقال: صبأ فلان: إذا خرج من دين إلى دين آخر، وهم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية، وعبدوا الملائكة، ويستقبلون القبلة، ويوحدون الله تعالى، ويقرؤون الزبور. قرأ نافع، وأبو جعفر: (وَالصَّابِينَ) (وَالصَّابُونَ) بغير همز، والباقون: بالهمز (¬1). {وَالنَّصَارَى} سموا به لقولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] وقيل: لأنهم نزلوا قرية يقال لها: ناصرة، وقيل: لاعتزائهم إلى نصرة قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام. {وَالْمَجُوسَ} هم عبدة النار والشمس والقمر. {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} هم عبدة الأوثان، قال قتادة: الأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 317)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 170). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 16).

[18]

{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يحكم بين الفرق المذكورة، فيدخل الكافر النار، والمؤمن الجنة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} عالم به. ... {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}. [18] {أَلَمْ تَرَ} بقلبك {أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} قال مجاهد: سجود هذه الأشياء بظلالها (¬1)، وقيل: المراد بسجود من ليس من أهله: انقياده لما أريد منه. {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} يعني: المسلمين {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} بترك السجود، وهم الكفار، وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عز وجل. {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ} أي: يهنه الله بالشقاوة. {فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} يكرمه بالسعادة، المعنى: من يُذِلُّه الله تعالى، فلا مُعِزَّله. {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} من الإكرام والإهانة بإرادته ومشيئته، وهذا محل سجود بالاتفاق. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 206).

[19]

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)}. [19] ونزل في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث حين برزوا ببدر إلى عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة: {هَذَانِ خَصْمَانِ} (¬1) أي: طائفتان. قرأ ابن كثير: (هَذَانِّ) بالمد وتشديد النون، والباقون: بالتخفيف (¬2)، والخصم: مصدر يعم المفرد والجمع، والذكر والأنثى، فلذلك قال: {اخْتَصَمُوا} ردًّا إلى المعنى {فِي رَبِّهِمْ} في دينه. {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ} هيئت. {لَهُمْ ثِيَابٌ} يلبسونها {مِنْ نَارٍ} وسمي ما يتخذ من النار ثيابًا؛ لإحاطته باللابس كالثوب {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} الماء البالغ نهاية الحر. قال ابن عباس: لو سقطت قطرة منه على جبال الدنيا، لأذابتها (¬3). ... {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)}. [20] {يُصْهَرُ بِهِ} يذاب بالحميم المسكوب على رؤوسهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3748)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، ومسلم (3033)، كتاب: التفسير، باب: في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}، عن أبي ذر -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 435)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 171). (¬3) انظر: "تفسير أبي السعود" (6/ 101).

[21]

{مَا فِي بُطُونِهِمْ} من شحوم وغيرها، فيقطعها، وتخرج من أدبارهم {وَالْجُلُودُ} أيضًا تذاب. ... {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)}. [21] {وَلَهُمْ مَقَامِعُ} سِياط مختصة بهم، جمع مِقْمَعة. {مِنْ حَدِيدٍ} يُضربون بها. ... {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}. [22] {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} من النار. {مِنْ غَمٍّ} يلحقهم، فخرجوا. {أُعِيدُوا فِيهَا} وذلك أن النار تضربهم بلهبها، فتلقيهم إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد، فيهوون إلى قعرها سبعين خريفًا، فالمراد: إعادتهم إلى معظم النار، لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية، ثم يعودون إليها. {وَذُوقُوا} أي: ويقال لهم: ذوقوا {عَذَابَ الْحَرِيقِ} البالغ نهاية الإحراق، هؤلاء أحد الخصمين. ***

[23]

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)}. [23] وقال في الآخر، وهم المؤمنون: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا} يلبسون الحلي في الجنة. {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} جمع سوار. {وَلُؤْلُؤًا} اللؤلؤ: اسم جامع للحَبِّ يخرج من البحر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم، ويعقوب: (وَلُؤْلُؤ) بالنصب على معنى: ويحلون لؤلؤًا، ولأنها مكتوبة في المصاحف بالألف، فأبو جعفر يترك الهمزتين، فيسكن الواو الأولى، وينصب الثانية، وأبو بكر عن عاصم: يترك الأولى فقط، وقرأ الباقون: بالخفض عطفًا على (أساور)، وأبو عمرو يترك الهمزة الأولى، واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه، فقال أبو عمرو: أثبتوها كما أثبتوا في (قالوا)، و (كانوا)، وقال الكسائي: أثبتوها للهمزة؛ لأن الهمزة حرف من الحروف (¬1). {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا} في الجنة {حَرِيرٌ} هو الإبريسم المحرم لبسُه على الرجال، ولا خلاف بين الأئمة في تحريم لبس الحرير على الرجل إلا في ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 435)، و"الكشف" لمكي (2/ 117 - 118)، و"تفسير البغوي" (3/ 210)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 172).

[24]

الحرب المباح، أو لضرورة؛ كحكة، أو جرب في جسده، واختلفوا في الجلوس عليه، والاستناد إليه، فأجازه أبو حنيفة، ومنعه الثلاثة كلبسه، وحكم الصبي عند أحمد كالرجل. ... {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}. [24] {وَهُدُوا} أُرشدوا {إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} هو القرآن، وقيل: شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل غير ذلك {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} طريق الجنة، و (الحميد) هو الله المحمود في أفعاله. ... {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}. [25] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ} تقديره، وهم يصدون {سَبِيلِ اللَّهِ} وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي؛ لأن الصد بمعنى دوام الصفة لهم، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صُد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الحرام. {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: ويصدون عن المسجد الحرام. {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} قبلةً لصلاتهم، ومنسكًا ومتعبدًا، وقال ابن عباس وغيره: المراد منه جميع الحرم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (12/ 32).

{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} المقيم {وَالْبَادِ} أي: الآتي إليه من البادية. قرأ حفص عن عاصم: (سَوَاءً) نصب بإيقاع الجعل عليه؛ لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين، وقرأ الباقون: بالرفع على الابتداء، وما بعده خبره، وتمام الكلام عند قوله: (للناس) (¬1)، وأثبت أبو عمرو، وأبو جعفر، وورش: الياء في (البادي) وصلًا، وأثبتها ابن كثير ويعقوب وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين، وهي في الإمام بغير ياء (¬2)، المعنى: المقيم فيه، والوارد إليه سواء، لا يخص بعضًا دون بعض. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلف في مكة، فذهب عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومجاهد، وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دور مكة، وأن القادم له النزول حيث وجد فارغًا، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبي، وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- قُبضوا وما تُدعى دور مكة إلا السوائبَ، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن (¬3)، وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل بابًا، فأنكر عليه عمر ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 157)، و"تفسير البغوي" (3/ 211)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 174). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 158)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 175). (¬3) رواه ابن ماجه (3107)، كتاب: المناسك، باب: أجر بيوت مكة، والدارقطني في "سننه" (3/ 58)، وغيرهما عن علقمة بن نضلة -رضي الله عنه-.

وقال: أتغلق بابًا في وجه حج (¬1) بيت الله، فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه، فاتخذ الناس الأبواب. قال ابن عطية: وقال جمهور من الأمة، منهم الإمام مالك: ليست الدور كالمسجد، ولأهلها المتاع بها، والاستبداد، وعلى هذا العمل اليوم، وهذا الخلاف متركب على الاختلاف في مكة، هل هي عَنْوة أو صلح؟ فمن رآها صلحًا، فإن الاستواء عنده في المنازل بعيد، ومن رآها عنوة، أمكنه أن يقول: الاستواء فيها قرره (¬2) الأئمة الذين لم يُقطعوها أحدًا، وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه (¬3). واختلف الأئمة في فتحها، فذهب مالك وأصحابه: إلى أنها فتحت عنوة بالسيف، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: فتحت صلحًا. واختلفوا في جواز بيع دور مكة وإجارتها، فقال أحمد: لا يجوز بيع رَباع مكة والحرم، وهي المنازل، ولا إجارتها؛ لأنها فتحت عنوة، وقال مالك: يجوز إجارتها وبيعها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منَّ بمكة على أهلها، فلم تقسم، ولا سبي أهلها؛ لما عظم الله من حرمتها، ولكن الكراهة عنده في كراء دور مكة قوية؛ طلبًا للمواساة بها، وروي عنه أيضًا كراهة كرائها في أيام الموسم خاصة، وقال أبو حنيفة: لا بأس ببيع بناء بيوت مكة، ويكره بيع أرضها، وكذا الإجارة، وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن: ¬

_ (¬1) "حج" زيادة من "ت". (¬2) في "ش" "فيما قدره". (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 116).

[26]

لا بأس بالبيع في الأرض والبناء، وأما مذهب الشافعي، فلم يختلف في جواز البيع والإجارة؛ لأنها فتحت عنده صلحًا. {وَمَنْ يُرِدْ} أي: يفعل {فِيهِ} أي: في المسجد {بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} هو الميل عن الحق، والباء زائدة، معناه: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم، والمراد بالإلحاد هنا: الشرك وجميع المعاصي {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جواب لـ (مَنْ). ... {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}. [26] {وَإِذْ} أي: واذكر إذ {بَوَّأْنَا} هيأنا {لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} ليبنيه؛ لأن البيت كان رفع إلى السماء زمن الطوفان؛ وكان من ياقوتة حمراء، ثم لما أمر الله إبراهيم -عليه السلام- ببنائه، لم يدر أين يبني، فأعلم الله مكانه بريح أرسلها، فكنست ما حوله، فبناه على أُسِّه القديم {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أي: وقلنا له: لا تشرك بي شيئًا. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وهشام عن ابن عامر، وحفص عن عاصم: (بَيْتِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {لِلطَّائِفِينَ} بالبيت {وَالْقَائِمِينَ} أي: المقيمين به. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} المصلين. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 441)، و"التيسير" للداني (ص: 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 176).

[27]

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}. [27] {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} أي: نادِ فيهم {بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} مشاة. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} بعير مهزول {يَأْتِينَ} أي: النوق. {مِنْ كُلِّ فَجٍّ} طريق {عَمِيقٍ} بعيد، والضامر: هو كل ما اتصف بذلك من جمل وناقة وغير ذلك. روي أن إبراهيم -عليه السلام- لما أُمر بالأذان بالحج، قال: "يا رب! وإذا ناديتُ، فمن يسمعني؟ فقيل له: نادِ يا إبراهيم، فعليك النداء، وعلينا البلاغ، فصعد على أبي قبيس فقال: أيها الناس! ألا إن ربكم قد بنى بيتًا، وكتب عليكم الحج، فأجيبوا ربكم، والتفت بوجهه يمينًا وشمالًا، وشرقًا وغربًا، فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك". قال ابن عباس: "فأول من أجابه أهل اليمن (¬1)، فهم أكثر الناس حجًّا" (¬2). واتفق الأئمة على أن الحج فرض على كل مسلم بالغ عاقل صحيح مرة في العمر مع الاستطاعة، فعند الشافعي ومالك: يجب على التراخي، وقيد مالك بما إذا لم يخش الفوت، وعند أبي حنيفة وأحمد: على الفور. واختلفوا في العمرة، فقال أبو حنيفة ومالك: هي سنة، وقال الشافعي ¬

_ (¬1) في "ت": "اليمين". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (17/ 144)، و"تفسير البغوي" (3/ 213).

وأحمد: هي فرض كالحج، وتقدم الكلام على ذلك، وعلى أوجه الحج الثلاثة، وهي: الإفراد، والتمتع، والقران في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1) [الآية: 196]. ¬

_ (¬1) جاء في هامش الأصل: روي عن بعض .... قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى، إذ أقبلت طائفة من اليمن، فقالوا: فداك الأمهات والآباء، أخبرنا بفضائل الحج، قال: بلى، أي رجل خرج من منزله حاجًّا أو معتمرًا، فكلما رفع قدمًا، ووضع قدمًا تناثرت الذنوب من بدنه كما يتناثر الورق من الشجر، فإذا ورد المدينة .... بالسلام صافحته الملائكة بالسلام، فإذا ورد ذا الحليفة واغتسل، طهره الله من الذنوب، وإذا لبس ثوبين جديدين، جدد الله له الحسنات، وإذا قال: لبيك اللهم لبيك، أجابه الله -عز وجل- بلبيك وسعديك، أسمع كلامك، وأنظر إليك، فإذا دخل مكة، وطاف وسعى بين الصفا والمروة، وصل الله له الخيرات، فإذا وافى عرفات، وضجت الأصوات بالحاجات، باهى الله بهم ملائكته بسبع سموات، ويقول: ملائكتي وسكان سمواتي! أما ترون إلى عبادي، أتوني من كل فج عميق شعثًا غبرًا، قد أنفقوا الأموال، وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي وكرمي [لأجزين] منهم المحسن، [ولأطهرنهم] من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم، فإذا رموا الحجارة وحلقوا الرؤوس، وزاروا البيت، نادى مناد من بُطنان العرش: ارجعوا مغفورًا لكم، واستأنفوا العمل" (1). قال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا" (2) انتهى. ______ (1) لم أقف عليه. (2) رواه الترمذي (740)، باب: ما جاء في التغليظ في ترك الحجِّ، من حديث عليٍّ رضي الله عنه وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعَّف في الحديث. اهـ وذكر الحافظ ابن حجر ما ملخصه: أن هذا الحديث له طرق صحيحة إلا أنها موقوفة، وأن له أصلًا. وقد خطَّأ رحمه الله مَن ادَّعى أنه موضوع، ومَحمَلُ الحديث على مَن استحلَّ التَّرك. انظر: "التلخيص الحبير" (3/ 122).

[28]

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)}. [28] {لِيَشْهَدُوا} ليحضروا {مَنَافِعَ لَهُمْ} دينية ودنيوية. {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} عند التذكية {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} عندهم؛ لأنهم كانوا يحرصون على علمها وعدها لأجل الحج، وهي عشر ذي الحجة عند الأئمة الثلاثة، وأكثر أهل العلم، وعند مالك: هي أيام النحر الثلاثة. {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} هي الإبل والبقر والغنم، فلا تجوز الأضحية من غيرها. {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر إباحة ليس بواجب، وإنما قال ذلك؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئًا، وأما الأضحية، فإنها مشروعة بأصل الشرع بالاتفاق. واختلفوا في حكمها، فقال أبو حنيفة: هي واجبة على كل مسلم حر مقيم ملكَ نصابًا من أي الأموال كان، وقال الثلاثة: هي سنة غير مفروضة، واستثنى مالك الحاج الذي بمنى، فإن سنته عنده الهدي، ويجوز الأكل منها باتفاقهم، فقال أبو حنيفة: له أن يأكل منها، ويطعم الأغنياء والفقراء، ويدخر، ويستحب ألّا ينقص الصدقة من الثلث، وقال مالك: يأكل ويطعم، وليس لما يأكله ولا لما يطعمه حد، وقال الشافعي وأحمد: يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث، ولو أكل أكثر، جاز. واختلفوا في الأفضل مما يضحى به، فقال مالك: الأفضل الغنم، ثم

البقر، ثم الإبل، قال الثلاثة: أفضلها الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، والضأن أفضل من المعز بالاتفاق، ويجوز الذكر والأنثى والخصي، وشرطها سلامة من عيب ينقص اللحم، فلا تجزئ العجفاء، وهي الهزيلة، ولا ذات عرج وعور ومرض، وتجزئ الجماء، وهي التي خلقت بغير قرون، ولا يضر شق أذن وخرقها، بغير خلاف في ذلك، وتجزئ الشاة عن واحد باتفاقهم، وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة عند الثلاثة، وقال مالك: هما كالشاة لا تجزئ إلا عن واحد. واختلفوا فيما يجزئ في الأضحية والهدي، فقال أبو حنيفة وأحمد: يجزئ الجذع من الضأن، وهو ما له ستة أشهر، والثني مما سواه، فمن المعز ما له سنة، ومن البقر ما له سنتان، ومن الإبل ما له خمس سنين، وقال مالك: الجذع من الضأن ما له سنة، والثني مما سواه، فمن المعز ما له ثلاث سنين، ومن البقر ما دخل في الثالثة، ومن الإبل ما له ست سنين، وقال الشافعي: من الإبل ما طعن في السادسة، ومن البقر والمعز ما طعن في الثالثة، ومن الضأن ما طعن في الثانية، والسنة أن يذبحها بنفسه إن كان يحسن، وإلا يحضُرها. واختلفوا فيما إذا ذبحها كتابي، فقال مالك: لا يجوز، وقال الثلاثة: يجوز مع الكراهة. وله أن ينتفع بجلدها، ولا يعطى الجازر بأجرته شيئًا منها، ولا يبيعها ولا شيئًا منها بالاتفاق، وأما الهدي الواجب بأصل الشرع؛ كدم التمتع والقران، والواجب بإفساد الحج وفواته، وجزاء الصيد، وما أوجبه على نفسه بالنذر، فلا يجوز الأكل منها عند الشافعي، وقال مالك: يأكل من

[29]

هدي التمتع، ومن كل هدي وجب عليه، إلا من أربعة أشياء: فدية الأذى، وجزاء الصيد، ونذر المساكين، وهدي التطوع إذا عطب قبل محله، وقال أبو حنيفة وأحمد: يأكل من هدي التطوع، ودم التمتع والقران، ولا يأكل من واجب سواهما، وسيأتي ذكر وقت الذبح والكلام عليه في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى. {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} هو ذو البؤس؛ أي: الشدة. {الْفَقِيرَ} الذي لا شيء له. ... {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}. [29] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} يزيلوا أوساخهم، والمراد: الخروج عن الإحرام بالحلق، وقص الشارب، وقلم الأظافر، ولبس الثياب، وقال ابن عباس وابن عمر: قضاء التفث: مناسك الحج كلها (¬1). {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ما ينذرون من البر في حجهم {وَلْيَطَّوَّفُوا} ليدوروا طواف الإفاضة {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الكعبة؛ لأنه أول بيت وضع للناس. قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، وورش، ورويس، وقنبل: (ثمَّ لِيَقْضُوا) بكسر اللام، والباقون: بإسكانها (¬2)، وتقدم توجيه قراءتهم عند ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (17/ 149). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 156)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 326)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 177).

[30]

قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}، وهذا الحرف نظيره، وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: (وَلِيُوفُوا) (وَلِيَطَّوَّفُوا) بكسر اللام فيهما، والباقون: بإسكانها منهما (¬1)، وقرأ أبو بكر عن عاصم: (وَلْيُوَفُّوا) بفتح الواو وتشديد الفاء (¬2). وطواف الإفاضة ركن، وبه تمام الحج بالاتفاق، وأول وقته عند أبي حنيفة طلوع الفجر من يوم النحر، وآخره آخر اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن أخره إلى اليوم الثالث، لزمه شاة، وعند الشافعي وأحمد: أول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، والأفضل فعله يوم النحر، فإن أخره عن أيام منى، جاز، وعند مالك: يجوز تأخيره إلى آخر ذي الحجة؛ لأنه بكماله عنده من أشهر الحج، لكنه قال: لا بأس بتأخير الإفاضة إلى أيام التشريق، وتعجيلها أفضل، فإن أخرها إلى المحرم، فعليه دم. ... {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)}. [30] {ذَلِكَ} أي: المذكور من أعمال الحج {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 434)، و"التيسير" للداني (ص: 156 - 157)، و"تفسير البغوي" (3/ 215)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 178). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 314)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 296)، و"التيسير" للداني (ص: 157)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 326)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 178).

اللَّهِ} هي ما لا يحل انتهاكه، وتعظيمها: ترك ملابستها. {فَهُوَ} أي: التعظيم {خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} في الدار الآخرة. {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} أكلًا بعد الذبح {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تحريمه؛ أي: في سورة المائدة، وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [الآية: 3] استثناء منقطع؛ لأن المحرَّم ليس من جنس الأنعام. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ} القذر {مِنَ الْأَوْثَانِ} بيان للرجس؛ لأن الرجس: الأوثان وغيرها؛ أي: اجتنبوا الرجس من هذا القبيل. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الكذب والبهتان. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام خطيبًا فقال: "يا أيها الناس! عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ هذه الآية" (¬1). واختلف الأئمة في عقوبة شاهد الزور، فقال أبو حنيفة: لا يُعزر، بل يوقف في قومه، ويقال لهم: إنه شاهد زور، وقال الثلاثة: يعزر، ويوقف في قومه، ويعرفون أنه شاهد زور، وقال مالك: يشهر في الجوامع ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3599)، كتاب: الأقضية، باب ما جاء في شهادة الزور، والترمذي (300)، كتاب: الشهادات، باب: ما جاء في شهادة الزور، وابن ماجه (2372)، كتاب: الأحكام، باب: شهادة الزور، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 321)، وغيرهم عن خريم بن فاتك - رضي الله عنه -. وفي إسناده مجهول، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 190).

[31]

والأسواق والمجامع، وقال أحمد: يطاف به في المواضع التي يشتهر فيها، فيقال: إنا وجدنا هذا شاهد زور، فاجتنبوه. ... {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}. [31] {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} اجتنبوا معصية الله تعالى مخلصين {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} يعني: من أشرك لا يكون حنيفًا. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ} سقط {مِنَ السَّمَاءِ} إلى الأرض. {فَتَخْطَفُهُ} تستلبه {الطَّيْرُ} والخطف والاختطاف: تناول الشيء بسرعة. قرأ أبو جعفر، ونافع: (فَتَخَطَّفُهُ) بفتح الخاء وتشديد الطاء؛ أي: تتخطفه، فحذفت إحدى التاءين، وقرأ الباقون: بإسكان الخاء وتخفيف الطاء؛ من خطف يخطف (¬1). {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أي: تميل وتذهب به {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي: بعيد مهلك لا يرجى خلاصه منه، المعنى: ومن يشرك بالله، فقد هلكت نفسه هلاكًا يشبه أحد الهلاكين. قرأ أبو جعفر: (الرِّيَاحُ) بألف بعد الياء على الجمع، والباقون: بغير ألف على التوحيد (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 157)، و"تفسير البغوي" (3/ 218)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 326)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 178 - 179). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 179).

[32]

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}. [32] {ذَلِكَ} أي: المذكور من اجتناب الرجس وقول الزور. {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} وهي الهدي والبدن، وأصلها من الإشعار، وهو إعلامها ليعرف أنها هدي، وتعظيمها: استسمانها واستحسانها. {فَإِنَّهَا} أي: الفعلة، وهي اجتناب الرجس، وتعظيم الشعائر. {مِنْ} أفعال ذوي {تَقْوَى الْقُلُوبِ} وذكر القلوب؛ لأنها منشأ التقوى والفجور، والآمرة بهما. ... {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}. [33] {لَكُمْ فِيهَا} أي: في البدن {مَنَافِعُ} قبل تسميتها للهدي؛ من دَرِّها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو أن يسميها ويوجبها هديًا، فإذا فعل ذلك، لم يكن له شيء من منافعها. {ثُمَّ مَحِلُّهَا} أي: حيث يحل نحرها {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} والمراد: الحرم كله، فتنحر فيه، واتفق الأئمة على جواز ركوب الهدي للحاجة ما لم يضربه. ... {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)}. [34] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم.

[35]

{جَعَلْنَا مَنْسَكًا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (مَنْسِكًا) بكسر السين بمعنى: موضع القربان، وقرأ الباقون: بفتح السين، مصدر بمعنى النسك، وهو إهراقة الدماء (¬1). {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} عند النحر {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} وقيد بهيمة الأنعام؛ لأن من البهائم ما لا يجوز في القرابين؛ كالخيل والحمر. {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} أخلصوا وأطيعوا {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المطيعين المتواضعين، والخبت: المكان المطمئن من الأرض، روي أن قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} نزل في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم (¬2). ... {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}. [35] {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ} خافت واضطربت {قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} من المحن {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} في أوقاتها. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يتصدقون. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 436)، و"تفسير البغوي" (3/ 219)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 180). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 48 - 49).

[36]

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}. [36] {وَالْبُدْنَ} جمع بَدنَة، سميت بذلك؛ لعظم أبدانها، وهي الإبل خاصة. {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أعلام دينه، سميت شعائر؛ لأنها تُشْعَر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها، فيعلم أنها هَدْي، وتقدم الكلام على ذلك واختلاف الأئمة فيه في أول سورة المائدة. {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} النفع في الدنيا، والأجر في العقبى. {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} عند نحرها {صَوَافَّ} أي: قيامًا على ثلاث قوائم، قد صفت رجليها وإحدى يديها، ويدُها اليسرى معقولة عند الذبح، وهي جمع صافَّة. واختلف الأئمة في التسمية عند الذبح، فمذهب الشافعي: أن التسمية سنة، وتحل الذبيحة إذا تركها عامدًا أو ناسيًا، ومذهب الثلاثة: إن تركها عمدًا، لم تحل، وإن تركها ناسيًا، حلت. {فَإِذَا وَجَبَتْ} سقطت {جُنُوبُهَا} إلى الأرض {فَكُلُوا مِنْهَا} إن شئتم {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} هو ذو القناعة الذي لا يتعرض ولا يسأل. {وَالْمُعْتَرَّ} المتعرض بغير سؤال. {كَذَلِكَ} أي: مثل ذلك التسخير. {سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} مع عظمها وقوتها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إنعامنا عليكم.

[37]

{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}. [37] {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} لن ترفع إليه {لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} وذلك أن الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن، لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى، فنزلت الآية: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (¬1) يعني: النية والإخلاص، وما أريد به وجه الله. قرأ يعقوب: (لَنْ تنَالَ) (وَلَكِنْ تنَالُهُ) بالتاء على التأنيث فيهما؛ لتأنيث الجماعة، وتأنيث التقوى، وقرأهما الباقون: بالياء على التذكير (¬2). {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا} يعني: البدن {لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} لأعلام دينه، ومناسك حجه، وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا، وقيل: التسمية والتكبير. على الهدي والأضحية أن يقول الذابح: بسم الله والله أكبر {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} الموحدين، روي أن قوله: {الْمُحْسِنِينَ} نزل في الخلفاء الأربعة كما تقدم في المخبتين، فأما ظاهر اللفظ، فمقتض للعموم في كل محسن. ... {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 221)، و"تفسير البيضاوي" (4/ 128)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 27). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 221)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 326)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 183).

[38]

[38] {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ} يذهب غوائل المشركين وأذاهم. {عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بفتح الياء والفاء وإسكان الدال من غير ألف، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الدال وألف بعدها مع كسر الفاء (¬1). {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} خائن في أمانته. {كَفُورٍ} بالله تعالى؛ حيث أشرك. ... {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}. [39] ولما كان المشركون من أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج، ويشكون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أؤمر بقتال" حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} (¬2). قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وعاصم، وخلف باختلاف عنه: (أُذِنَ) بضم الهمزة مجهولًا، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 157)، و"تفسير البغوي" (3/ 221 - 222)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 326)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 184). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 176). قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 387 - 388) غريب جدًّا.

[40]

[والباقون: بفتحها؛ أي: أذن الله للذين يقاتلون (¬1)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: (يُقَاتَلُونَ) بفتح التاء مجهولًا] (¬2)؛ أي: يقاتلهم عدوهم، وقرأ الباقون: بكسرها معلومًا (¬3)؛ أي: يقاتلون هم عدوهم. {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} بسبب كونهم مظلومين باعتداء الكفار عليهم. {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ونسخت هذه الآية سبعين آية؛ لأنها أول آية نزلت في الإذن بالقتال، ونزلت بالمدينة (¬4). ... {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}. [40] {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} يعني: مكة، بدل من {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} {بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير ذنب {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا} المعنى: لم يخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 437)، و"تفسير البغوي" (3/ 222)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 326)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 184 - 185). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) المصادر السابقة. (¬4) في "ش": "في المدينة".

{رَبُّنَا اللَّهُ} وحده {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} بالجهاد وإقامة الحدود. قرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب: (دِفَاعُ) بكسر الدال وألف بعد الفاء، وقرأ الباقون: (دَفْعُ) بفتح الدال وإسكان الفاء من غير ألف (¬1). {لَهُدِّمَتْ} لخربت. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: بتخفيف (¬2) الدال، والباقون: بتشديدها، فالتخفيف يكون للقليل والكثير، والتشديد يختص بالكثير (¬3)، وقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب، وقالون، والأصبهاني عن ورش، وهشام عن ابن عامر: بإظهار التاء عند الصاد من (صَوَامِعُ)، والباقون: بإدغامها (¬4). {صَوَامِعُ} منابر الرهبان {وَبِيَعٌ} جمع بِيعة، وهي كنيسة النصارى. {وَصَلَوَاتٌ} أي: مواضع صلوات، وهي كنائس اليهود. {وَمَسَاجِدُ} هي للمسلمين. {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} المعنى: لولا دفع الله عن المتعبدين بالمجاهدين، لانقطعت العبادات، وخربت المتعبدات، وقدم مصليات الكافرين على مساجد المؤمنين؛ لأنها أقدم. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 230)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 185). (¬2) في "ش": "بفتح" وهو خطأ. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 437)، و"تفسير البغوي" (3/ 222)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 185 - 186). (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 157)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 186).

[41]

واتفق الأئمة على منع أهل الذمة من إحداث الكنائس والبيع في بلاد الإسلام فيما اختطه المسلمون من الأمصار، وما فتح عنوة، واتفقوا على جواز ذلك فيما شرطوه فيما فتح صلحًا على أنه لنا، واختلفوا في إعادة المنهدم منها، فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز إعادته، وقال مالك وأحمد: لا يجوز، قال أحمد: ولو هدم ظلمًا، وأما رم المتشعث منها، فيجوز عند الثلاثة، وعند مالك: إن اشترطوه جاز، وإلا فلا. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي: ينصر دينه، وقد نجز وعده بتسليط المهاجرين والأنصار على العرب والعجم، وأورثهم أرضهم وديارهم. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} على خلقه {عَزِيزٌ} ممتنع في سلطانه. ... {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}. [41] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} بنصرهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد، قال قتادة: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - {أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} أي (¬1): آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه. ... {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)}. [42] ثم سلى نبيه فقال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ}. ¬

_ (¬1) "أي" ساقطة من "ت".

[43]

{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)}. [43] {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ}. ... {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)}. [44] {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أمهلتهم. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري عليهم بإهلاكهم، يخوف به من يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذبه، وقوله: {وَكُذِّبَ مُوسَى} مجهولًا؛ لأن موسى لم يكذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه القبط. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (أَخَذْتُهُمْ) (أَخَذْتُهَا) (¬1) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (¬2)، وقرأ ورش عن نافع: (نَكِيرِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬3). ... ¬

_ (¬1) "أخذتها" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 297)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 188). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 158)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 188).

[45]

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}. [45] {فَكَأَيِّنْ} قرأ ابن كثير، وأبو جعفر: بألف ممدودة بعد الكاف، وبعدها همزة مكسورة، وأبو جعفر يسهل الهمزة، والباقون: بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبعدها ياء مكسورة مشددة، ووقف أبو عمرو ويعقوب (فَكَأَيْ) بغير نون حيث وقع، ووقف الباقون: (فَكَأَيِّنْ)، وهي كاف التشبيه ضمت إلى الاستفهام، فصار المعنى: وكم (¬1). {مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} يعني: أهلها. قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (أَهْلَكْتُهَا) بالتاء مضمومة من غير ألف على الإفراد، وقرأ الباقون: بالنون مفتوحة وألف بعدها جمعًا على التعظيم (¬2). {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: مشرِكٌ أهلُها {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطة. {عَلَى عُرُوشِهَا} سقوفها؛ بأن سقطت السقوف، ثم سقطت عليها الحيطان. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} أي: وكم من بئر متروكة مع وجود الماء وآلاتها فيها؛ لهلاك أربابها. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، وورش: (وَبِيرٍ) بغير همز، والباقون: بالهمز (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 242)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 188 - 189). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 157)، و"تفسير البغوي" (3/ 223)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 189). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 438)، و"النشر في القراءات العشر" لابن =

[46]

{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} مجصَّص من الشيد مرتفع محكم أخليته بإهلاك أربابه (¬1)، أفلم يعتبر كفار مكة بذلك؟ روي أن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها: حاصوراء، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح -عليه السلام- نجوا من العذاب، فأتوا حضرموت، ومعهم صالح، فلما حضروه، مات صالح، فسمي: حضرموت؛ لأن صالحًا لما حضره (¬2) مات، فبنوا حاصوراء، وقعدوا على (¬3) هذه البئر، وأمَّروا عليهم رجلًا، فأقاموا دهرًا، وتناسلوا حتى كثروا، ثم إنهم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله عز وجل إليهم نبيًّا يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان حمالًا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم، وخربت قصورهم (¬4). ... {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}. [46] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يعني: كفار مكة، فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي: يعلمون بها، فيه دليل على أن العقل محله القلب، وهو قول المالكية والشافعية ¬

_ = الجزري (1/ 390 - 391)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 189). (¬1) في "ت": "أربابها". (¬2) في "ت": "حضروه". (¬3) في "ش": "في". (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 224).

[47]

وأصحاب أحمد، والأطباء قالوا: وله اتصال بالدماغ، والمشهور عن أحمد أنه في الدماغ، وفاقًا للحنفية، والعقل ما يحصل به المَيْزُ، وهو نور في القلب كالعلم، وهو غريزة، ويختلف، فعقل بعض الناس أكثر، وهو مأخوذ من عقال البعير، يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل. {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية، فيعتبروا بها. {فَإِنَّهَا} أي: القصة. {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} المعنى: أعينهم صحيحة، وقلوبهم عُمي، والعمى الضار هو عمى القلب، فأما البصر، فليس بضار في أمر الدين. ... {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}. [47] ولما قال: النضر بن الحارث {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32]، نزل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} (¬1) بإهلاك الكفار وعذابهم، فأنجز الله ذلك يوم بدر. {وَإِنَّ يَوْمًا} من أيام العذاب الذي استعجلوه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

[48]

{عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} في الدنيا؛ في الشدة، فكيف تستعجلونه؟! قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: (يَعُدُّونَ) بالغيب؛ لقوله: (يَسْتَعْجِلُونَكَ)، وقرأ الباقون: بالخطاب؛ لأنه أعم؛ لأنه خطاب للمستعجلين والمؤمنين (¬1). ... {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}. [48] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} وكَمْ من أهل قرية، عطف الأولى بالفاء؛ لأنها بدل عن قوله {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} وهذه بالواو؛ لأنها في حكم ما تقدمها من الجملتين؛ لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة، وأن تأخيره لعادته تعالى. {أَمْلَيْتُ لَهَا} أمهلتها كما أمهلتكم {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مثلكم. {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} وإلي حكم الجميع. ... {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)}. [49] {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أوضحُ لكم ما أُنذركم به، ليس إلي أن أعجل عذابًا، ولا أن أؤخره. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 439)، و"التيسير" للداني (ص: 158)، و"تفسير البغوي" (3/ 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 190).

[50]

{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)}. [50] ثم قسم حالة المؤمنين والكافرين بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الجنة، ورزقهم فيها. ... {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}. [51] {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} بالطعن فيها {مُعَاجِزِينَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بتشديد الجيم من غير ألف؛ أي: مثبطين الناس عن الإيمان، وقرأ الباقون: بالتخفيف والألف (¬1)؛ أي: مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. ... {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} [52] ولما ألقى الشيطان بقراءة نفسه في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - محاكيًا نغمته - عليه السلام - لما قرأ في الصلاة: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20]: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى؛ بحيث يسمعها من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قوله عليه السلام، وأشاعوها، حزن لذلك - صلى الله عليه وسلم -، فنزل تسلية له: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 439)، و"التيسير" للداني (ص: 158)، و"تفسير البغوي" (3/ 225)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 191).

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} (¬1) هو الذي جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه {وَلَا نَبِيٍّ} هو الذي لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا. {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} أي: تلا وقرأ كتاب الله. {أَلْقَى الشَّيْطَانُ} بقراءة نفسه {فِي أُمْنِيَّتِهِ} في قراءته، المعنى: ما من رسول (¬2) ولا نبي قبلك إلا مكنا الشيطان أن يلقي في قراءتهم مثل ما ألقى في قراءتك، فلا تهتم لذلك. قرأ أبو جعفر: (أُمْنِيَتِهِ) بتخفيف الياء، والباقون: بتشديدها (¬3). {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي: يبطله. {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} أي: يثبتها. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال الناس {حَكِيمٌ} فيما يفعله بهم، وما نقل من أن الشيطان ألقاها على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أنه أصابته -عليه السلام- سِنَة، فقالها، أو حدَّثَ نفسه فسها، فهذا كله ضعيف واه لم يُرو بسند صحيح؛ لعصمته - صلى الله عليه وسلم -، ونزاهته عن مثل ذلك، وعن جريان الكفر على قلبه أو لسانه عمدًا أو سهوًا، أو يكون للشيطان عليه سبيل. ... ¬

_ (¬1) تقدم ذكر قصة الغرانيق والتعليق عليها، فيما ذكره الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 391 - 393). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 439). (¬2) "ما من رسول" ساقطة من "ش". (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (217)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 191).

[53]

{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)}. [53] {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} اختبارًا. {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هو الشك. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} عن قبول الحق، وهم المشركون، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نسخ ورفع، فازدادوا عتوًا، وظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله من عند نفسه، ثم يندم فيبطل. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} المشركين {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي: خلاف شديد. ... {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}. [54] {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} التوحيد والقرآن، وهم المؤمنون {أَنَّهُ} أي: القرآن {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وتعطف عليه (وليعلم). {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ} أي: تلين {لَهُ قُلُوبُهُمْ} وتطمئن {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} دين الإسلام. وقف يعقوب (لَهَادِي): بإثبات الياء (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 138 - 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 192).

[55]

{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}. [55] {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ} شك {مِنْهُ} من القرآن. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فجأة. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي: عقم فلا خير فيه للكفار، وهو يوم بدر في قول الأكثر؛ لأنه ذكر الساعة من قبل، والعقم في اللغة: المنع، يقال: رجل عقيم: إذا مُنع من الولد. ... {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)}. [56] {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} تقديره: الملك لله يوم يزول شك الكافرين، وهو يوم القيامة {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بين المؤمنين والكافرين. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. ... {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}. [57] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} يُهانون فيه. ***

[58]

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)}. [58] ونزل في الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما لنا إذا هاجرنا فقتلنا أو متنا؟ {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) فارقوا أوطانهم في طاعة الله تعالى. {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} قرأ ابن عامر: (قُتِّلُوا) بتشديد التاء، والباقون: بتخفيفها (¬2). {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} لا ينقطع أبدًا وهو رزق الجنة، وقيل حسنًا؛ أي: حلالًا. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فإنه يرزق بغير حساب. ... {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}. [59] {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} هو الجنة؛ لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. قرأ نافع، وأبو جعفر: (مَدْخَلًا) بفتح الميم، والباقون: بضمها (¬3). {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} فلا يعجل على المسيء بالعقوبة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير أبي السعود" (6/ 116). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 91)، و"تفسير البغوي" (3/ 229)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 192). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 439)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 249)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 192).

[60]

{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}. [60] ونزل في المسلمين الذين طلب المشركون قتالهم في الأشهر الحرم، فامتنعوا عليهم، ثم قاتلوهم {ذَلِكَ} (¬1) أي: الأمر ذلك. {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي: جازى الظالم بمثل ظلمه. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (عَاقَب بِّمِثْلِ) بإدغام الباء في الباء (¬2) {ثُمَّ بُغِيَ} تُعُدِّي (¬3) {عَلَيْهِ} بالمعاودة إلى العقوبة. {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} على ظالمه. {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} عن المؤمنين. {غَفُورٌ} لهم قتالهم في الأشهر الحرم. ... {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)}. [61] {ذَلِكَ} النصر {بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك بمغيب الشمس، وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (17/ 195)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 71). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 298)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 193). (¬3) "تعدي" زيادة من "ت".

[62]

{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيء. ... {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}. [62] {ذَلِكَ} الوصف بكمال القدرة والعلم {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} الذي لا يجوز أن يعبد إلا هو {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} من الآلهة {هُوَ الْبَاطِلُ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (يَدْعُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬1). {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} على كل شيء. {الْكَبِيرُ} عن أن يكون له شريك. ... {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}. [63] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} استفهام معنى الخبر. {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} بالنبات. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} محكم للأمور برفق {خَبِيرٌ} بما ظهر وبطن. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 158)، و"تفسير البغوي" (3/ 230)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 193).

[64]

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)}. [64] {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خلقًا وملكًا. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} في ذاته عن كل شيء. {الْحَمِيدُ} المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله. ... {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)}. [65] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} جعلها مذللة لكم. {وَالْفُلْكَ} أي: وسخر الفلك {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ} أي: لكيلا تسقط. {عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة. قرأ أبو عمرو، وقالون، والبزي: (السَّمَا أَنْ) بإسقاط الهمزة الأولى بلا عوض منها، ويهمزون الثانية، وقرأ ورش، وقنبل، وأبو جعفر، ورويس: بتسهيل الثانية، فيجعلونها بين الهمزة والألف، ويفتحونها شبه مَدَّة، وقرأ الباقون، [وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح: بتحقيق الهمزتين (¬1). {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 297)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 316)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 194).

[66]

وابن عامر، وحفص: (لَرَءُوفٌ) بالإشباع حيث وقع على وزن فَعول، وقرأ الباقون] (¬1): بالاختلاس على وزن فَعُل (¬2)، والرأفة: أشد الرحمة. ... {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)}. [66] {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} في الأرحام. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء الأجل. {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعث. {إِنَّ الْإِنْسَانَ} هو بديل بن ورقاء {لَكَفُورٌ} بالله تعالى وبأنعمه. ... {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)}. [67] {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} يعني: شريعة هم عاملون بها. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (مَنْسِكًا) بكسر السين، والباقون: بفتحها، وتقدم توجيه القراءتين في الحرف المتقدم [الآية: 34]. {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} أي: لا تنازعهم في الأمر. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 317)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 195).

[68]

{فِي الْأَمْرِ} أي: في الذبائح، وذلك أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله -يعني: الميتة-، فنزلت الآية: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (¬1) إلى دينه. {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} طريق إلى الحق سويٍّ. ... {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)}. [68] {وَإِنْ جَادَلُوكَ} وقد ظهر الحق. {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من المجادلة الباطلة. ... {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)}. [69] {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أيها المؤمنون والكافرون. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من الدين، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل. ... {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)}. [70] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فلا يخفى عليه شيء. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 231).

[71]

{إِنَّ ذَلِكَ} الموجود فيهما. {فِي كِتَابٍ} في اللوح المحفوظ. {إِنَّ ذَلِكَ} أي: الإحاطة به {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. ... {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)}. [71] ثم أومأ إلى جهالة الكفار بعبادتهم غير المستحق لها، فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة وبرهانًا على جواز عبادته {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} يعني: فعلوه عن جهل لا عن علم. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} المشركين {مِنْ نَصِيرٍ} يدفع عنهم العذاب. ... {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}. [72] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي: القرآن. {بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أثر الإنكار {الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يصولون ويبطشون. {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، وأصل السطو: القهر.

[73]

{قُلْ} يا محمد لهم: {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} أي: بأشد من سماع القرآن. {النَّارُ} أي: هي النار {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} النار. ... {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)}. [73] ولما كانت دعواهم بأن لله شريكًا جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال التي يسار بها، قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ} أي: جُعل {مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} استماع تدبر وتفكر، ثم جهلهم لذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} آلهة. قرأ يعقوب: (يَدْعُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬1) {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} لن يقدروا على خلقه مع صغره، والمراد: الذباب المعروف؛ لأنه مثل في الضعف والحقارة {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟ {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ} أي: يسلب {الذُّبَابُ شَيْئًا} من حلي الأصنام، مع ضعفه {لَا يَسْتَنْقِذُوهُ} يخلصوه {مِنْهُ} لعجزهم، وهذه صفة العاجز، فكيف تعبدونه؟! قال ابن عباس: "كانوا يُطْلون أصنامهم بالزعفران، فإذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 232)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 196).

[74]

جف، سلبه الذباب، فتعجز الأصنام وعابدوها عن أخذه منهم" (¬1) {ضَعُفَ الطَّالِبُ} العابد {وَالْمَطْلُوبُ} المعبود. ... {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}. [74] {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عظموه حق عظمته، ولا وصفوه حق وصفه {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} لا يغلبه شيء، وآلهتهم مقهورة عاجزة. ... {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)}. [75] ولما قال المشركون: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8]، نزل: {اللَّهُ يَصْطَفِي} (¬2) يختار {مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وغيرهم {وَمِنَ النَّاسِ} رسلًا، يدعون إلى الحق، ويبلغون ما نزل عليهم؛ مثل: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، فأخبر أن الاختيار إليه، يختار من شاء من خلقه. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولهم {بَصِيرٌ} بمن يختاره لرسالته. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 232). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 233)، و"تفسير القرطبي" (12/ 98).

[76]

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)}. [76] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما قَدَّموا {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما خَلَّفوا. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} في الآخرة. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1). ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}. [77] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} في صلاتكم {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} وحّدوه، والعبادة عبارة عن الخضوع والتذلل، وهو تعظيم الله [بأمره {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} من صلة الرحم ومكارم الأخلاق. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}] (¬2)؛ لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة، وهذا محل سجود عند الشافعي وأحمد؛ خلافًا لأبي حنيفة ومالك، وتقدم اختلاف الأئمة في سجود التلاوة وسجود الشكر ملخصًا عند سجدة مريم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 289)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208 - 209)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 197). (¬2) ما بين معكوفتين ساقطة من "ت".

[78]

{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}. [78] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} لله، ومن أجل إعلاء دينه {حَقَّ جِهَادِهِ} بنية صادقة خالصة لله عز وجل، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزوة تبوك قال: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" (¬1)، وأراد بالجهاد الأصغر: جهاد الكفار، وبالأكبر: جهاد النفس. {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} اختاركم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ضيق في شرعة الملة، والحرج: ما يتعذر عليه الخروج عما يقع فيه، وذلك أنها -أي: الملة- حنيفة سمحة، ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم، بل فيها التوبة والكفارات والرخص، ونحو هذا مما كثر عده. {مِلَّةَ} أي: كَمِلَّة {أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ونصب بنزع حرف الصفة، وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} خطاب للعرب؛ لأنهم كانوا من نسل إبراهيم. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} المعنى: الله سماكم المسلمين. {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل إنزال القرآن في الكتب المتقدمة. ¬

_ (¬1) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 395): غريب جدًّا، وذكره الثعلبي هكذا من غير سند. ورواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (13/ 523)، عن جابر -رضي الله عنه- بإسناده فيه ضعف. وانظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 196)، و"الفتح السماوي" للمناوي (2/ 851)، و"كشف الخفاء" للعجلوني (1/ 511).

{وَفِي هَذَا} الكتاب، وهو القرآن {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} يوم القيامة أن قد بلغكم {وَتَكُونُوا} أنتم {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أن رسلهم قد بلَّغتهم، واللام في (¬1) (لِيَكُونَ) متعلقة بقوله: (اجْتبَاكُمُ). {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} المفروضةَ بالمداومة عليها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أَدُّوها كما أنعم عليكم. {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} ثقوا به، وارفضوا التوكل على سواه. {هُوَ مَوْلَاكُمْ} الذي يليكم نصره وحفظه. {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} لا إله إلا هو إليه المصير، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "في": ساقطة من "ت".

سورة المؤمنون

سُوْرَةُ المؤمنُونَ مكية وآيها: مئة وثماني عشرة آية، وحروفها: أربعة آلاف وثماني مئة وحرفان، وكلمها: ألف وثماني مئة وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)}. [1] {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أي: سعد المصدقون ونالوا البقاء في الجنة، والفلاح: هو النجاح والبقاء، و (قَدْ) تُثبت المتوقع، كما أن (لما) تنفيه، ولما كان المؤمنون متوقعين ذلك، صدرت بها بشارتهم. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لقد أُنزل علي عشر آيات، من قام بهن، دخل الجنة، ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى عشر آيات" (¬1). قرأ ورش عن نافع: (قَدَ أَفْلَحَ) بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وهو الدال، وحذفها، وحمزة له النقل إذا وقف بخلاف عنه، والوجهان من ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3173)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المؤمنون، والنسائي في "السنن الكبرى" (1439)، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 34)، والحاكم في "المستدرك" (1961)، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وإسناده ضعيف، انظر: "الضعفاء" للعقيلي (4/ 460).

[2]

النقل والتحقيق عن حمزة صحيحان معمول بهما (¬1). وقرأ أبو عمرو، وورش، وأبو جعفر (¬2): (الْمُومِنُونَ) حيث وقع بواو ساكنة بغير همز، والباقون: يهمزونه (¬3). ... {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}. [2] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} مُخبتون أذلاء، ملزمون أبصارَهم مساجدَهم، وهو المسنون عند الأئمة الثلاثة، وقال مالك: ينظر أمام قبلته، وليس عليه أن ينظر إلى حيث يسجد، ولا إلى موضع معين، والخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع في البدن والبصر والصوت، قال الله تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108]، وأضيفت الصلاة إلى المؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بها. روي أن سبب نزولها: أن المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم (¬4) يمنة ويسرة، فنزلت الآية (¬5)، وأمروا أن يكون بصر المصلي حذاء قبلته، أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة. ... ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 317)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 201). (¬2) "أبو جعفر" زيادة من "ت". (¬3) سلفت في عند تفسير الآية (3) من سورة البقرة. (¬4) في "ش": "صلواتهم". (¬5) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 83).

[3]

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)}. [3] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ} وهو كل ما لا يجمل في الشرع من قول وفعل {مُعْرِضُونَ}. ... {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)}. [4] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ} المفروضة (¬1) {فَاعِلُونَ} أي: مؤدُّون. ... {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)}. [5] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} بالتعفف عن الحرام، والفرج: اسم يجمع سوءة الرجل والمرأة. ... {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)}. [6] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} أي: زوجاتهم، والآية في الرجال خاصة؛ بدليل قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من السراري. {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} على إتيانهن في المآتي. ... ¬

_ (¬1) "المفروضة" زيادة من "ت".

[7]

{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}. [7] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} أي: طلب سوى الزوجات والسراري. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} المعتدون، استدل بذلك بعض العلماء على أن الاستمناء باليد حرام، وهو مذهب الثلاثة، ومذهب أحمد: يُباح إذا لم يجد طَوْلًا لحرة، ولا ثمنَ أمة، وخاف الزنا، فإن فعله لغير حاجة، عُزر لفعله محرمًا، وحكم المرأة عنده كالرجل، فتستعمل شيئًا مثل الذكر عند الخوف من الزنا. ... {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)}. [8] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ} جمع أمانة، وهي كل ما يؤتمن عليه؛ كأموال وحرم وأسرار. قرأ ابن كثير: (لِأمَانَتِهِمْ) بغير ألف بعد النون على التوحيد؛ لقوله: (وَعَهْدِهِمْ)، وقرأ الباقون: بالألف على الجمع، لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬1) [النساء: 59]. {وَعَهْدِهِمْ} لمن عاهدهم أو عاهدوه {رَاعُونَ} حافظون. ... {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)}. [9] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 444)، و"تفسير البغوي" (3/ 240)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 202).

[10]

(صَلاَتِهِمْ) على التوحيد، والباقون: (صَلَوَاتِهِمْ) على الجمع (¬1) والتوحيد، اسم جنس، فهو في معنى الجمع. {يُحَافِظُونَ} يداومون، وكررت الصلاة؛ لأنها أعظم العبادات. {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)}. [10] {أُولَئِكَ} أهل هذه الصفة {هُمُ الْوَارِثُونَ} يوم القيامة منازلَ الكفار من الجنة؛ لأن لكل واحد منزلين: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمن يرث منزل الكافر من الجنة، والكافر يرث منزل المؤمن من النار. {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}. [11] {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} هو أعلى الجنة. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يموتون ولا يخرجون، وقد ورد "أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي وجلالي! لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث" (¬2). {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}. [12] {وَلَقَدْ} ابتداء كلام، والواو في أوله عاطفة جملة الكلام على ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) رواه أبو الشيخ في "العظمة" (5/ 1555)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 235)، عن عبد الله بن الحارث -رضي الله عنه-.

[13]

جملة وإن تباينت في المعاني {خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} هو آدم عليه السلام. {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} أي: من طينة مستلة، والسلالة: خلاصة الشيء، والعرب تسمي النطفة: سلالة، والولد: سليلًا؛ لأنهما مسلولان من الرجل. ... {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)}. [13] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} أي: ابن آدم {نُطْفَةً} من مني. {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} الرحم. ... {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}. [14] {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} وتقدم تفسيرها في سورة الحج، والنطفة تقع في اللغة على قليل الماء وعلى كثيره، وهي ها هنا مني ابن آدم. {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} و (خلقنا) في الثلاثة المواضع بمعنى: صيرنا. {فَكَسَوْنَا} أي: ألبسنا {الْعِظَامَ لَحْمًا} قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (عَظْمًا) (فَكَسَوْنَا الْعَظْمَ) بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف

على التوحيد فيهما، وقرأهما الباقون: بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع (¬1). {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} بنفخ الروح فيه، وقيل: هو تغير أحواله من ولادة إلى رضاع إلى قعود إلى قيام إلى مشي إلى أكل وشرب إلى تقلب في البلاد. {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} أي: تعالى وتقدس، وتبدل منه. {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المقدِّرين، والخلق في اللغة: التقدير. روي أن ابن أبي السرح كان يكتبها لدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اكتبها، فهكذا أنزلت"، فارتد وقال: إن كان محمد يوحى إليه، فأنا يوحى إلي، ثم أسلم يوم الفتح (¬2). قال (¬3) الكواشي: وليس لأحد بهذه الحكاية طعن في القرآن، ولا في إعجازه؛ لأن الكلمة والكلمتين قد تتفق لمن لم يتقدم له قدم في قرآن ولا كلام ولا شعر، ولا يحصل بالكلمة والكلمتين إعجاز، وأقل ما يحصل الإعجاز بالسورة الواحدة، قال ابن جريج: إنما جمع الخالقين؛ لأن عيسى كان يخلق. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 444)، و"تفسير البغوي" (3/ 241)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 318)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 203). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (7/ 273)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1347)، عن السدي. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 444). (¬3) في "ت": "فقال".

[15]

{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)}. [15] {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} بعد تمام خلقكم. {لَمَيِّتُونَ} عند انقضاء آجالكم، والميت: من مات، والمائت: من سيموت. ... {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}. [16] {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} للمحاسبة والمجازاة. ... {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}. [17] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} أي: سموات، جمع طريقة، سميت بذلك؛ لتطارق بعضها فوق بعض {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} فنسقط السماء عليهم. ... {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)}. [18] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} بمقدار ما علمنا من كفايتهم. {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} فجعلناه ثابتًا مستقرًا، ثم أخرجنا منه ينابيع، وكل ماء في الأرض من السماء، ثم امتن عليهم بإبقاء الماء فقال: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ} أي: على إزالته.

[19]

{لَقَادِرُونَ} فتموتون عطشًا، وتهلك مواشيكم، وتخرب أراضيكم. وفي الخبر: "أن الله تعالى أنزل أربعة أنهار من الجنة: سيحان، وجيحان، ودجلة، والفرات" (¬1). وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: "خمسة أنهار" فزاد بعد الأربعة: "والنيل" (¬2). ... {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)}. [19] {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} أي: بالماء {جَنَّاتٍ} بساتين (¬3). {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا} في الجنات {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} تتفكهون بها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} تغذيًا، وخص النخل والأعناب بالذكر؛ لأنها أكثر فواكه العرب بالحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما؛ ولأنهما أشرف الثمار، وذكرها مثالًا؛ تشريفًا لها، وتنبيهًا عليها. ... ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا عن ابن عطاف، كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 95). (¬2) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 315)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 34)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 57). وقد روى مسلم (2839)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ما في الدنيا من أنهار الجنة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سيحان وجيحان، والفرات والنيل، كلٌّ من أنهار الجنة". (¬3) "بساتين" زيادة من "ت".

[20]

{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)}. [20] {وَشَجَرَةً} عطف على {تَخْرُجُ} أي: وأنشأنا لكم شجرة هي الزيتون. {مِنْ طُورِ} أي: جبل {سَيْنَاءَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: بكسر السين، والباقون: بفتحها (¬1)، ومعناهما: البركة؛ أي: من جبل مبارك. {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (تُنْبِتُ) بضم التاء وكسر الباء؛ من أنبت، فالباء زائدة، وفائدة زيادتها دلالتها على ملازمة الإنبات للدهن؛ أي: تخرج الدهن، وقرأ الباقون: بفتح التاء وضم الباء؛ من نبت (¬2)؛ أي: تنبت بثمرة الدهن، وهو الزيتون، وقيل: تنبت ومعها الدهن؛ كما تقول: خرج زيد بسلاحه، فملخص الاختلاف بين القراء: أن قراءة ابن كثير، وأبي عمرو (سِينَاءَ) بكسر السين (تُنْبِتُ) بضم التاء وكسر الباء، وقراءة نافع، وأبي جعفر: بكسر السين، و (تَنْبُتُ) بفتح التاء وضم الباء، وقراءة الكوفيين، وابن عامر، وروح: بفتح السين، و (تَنْبُتُ) بفتح التاء وضم الباء، وقراءة رويس: بفتح السين وضم التاء وكسر الباء. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 159)، و"تفسير البغوي" (3/ 243)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 328)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 204). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 445)، و"تفسير البغوي" (3/ 244)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 328)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 205).

[21]

{وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} والصبغ: هو الإدام، معطوف على الدهن؛ أي: تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنًا يدهن به ويسرج منه، وكونه إدامًا يصبغ فيه الخبز؛ أي: يُغمس فنيه للائتدام. ... {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)}. [21] {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} آية تعتبرون بها. {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} من الألبان. قرأ أبو جعفر (تسقِيكُمْ) بالتاء مفتوحة؛ أي: تسقيكم الأنعامُ، وقرأ الباقون: بالنون؛ أي: نحن، وفتح النونَ: نافع، وابن عامر، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم، وضمها الباقون (¬1). {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} في ظهورها وأصوافها وشعورها. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فتنتفعون بأعيانها. ... {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}. [22] {وَعَلَيْهَا} أي: الإبل في البر. {وَعَلَى الْفُلْكِ} في البحر {تُحْمَلُونَ}. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 138)، و"تفسير البغوي" (3/ 244)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 206).

[23]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)}. [23] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحدوه {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} معبود سواه. قرأ أبو جعفر، والكسائي: (غَيْرِهِ) بكسر الراء على نعت الإله حيث وقع، والباقون: بالرفع على التقديم (¬1)؛ أي: ما لكم غيره من إله. {أَفَلَا تَتَّقُونَ} أفلا تخافون أن يهلككم إذا عبدتم غيره؟! ... {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)}. [24] {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} الملأ: الأشراف. {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي: يعلوكم؛ بأن يصير متبوعًا، وأنتم له تبع. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} ألَّا يعبد سواه {لأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} بإبلاغ الوحي. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي يدعونا إليه نوح. {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} وفي قول هؤلاء استبعاد بعثة البشر، وهم مقرون بالملائكة. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (صى: 110)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 207).

[25]

{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}. [25] {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي: جنون. {فَتَرَبَّصُوا بِهِ} فاحتملوه وانتظروا. {حَتَّى حِينٍ} أي: إلى أن يموت. ... {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)}. [26] {قَالَ} بعدما أيس من إيمانهم: {رَبِّ انْصُرْنِي} بإهلاكهم {بِمَا كَذَّبُونِ} أي: بسبب تكذيبهم إياي. قرأ يعقوب: (كَذَّبُوني) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬1). ... {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)}. [27] {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا؛ أي: محفوظة؛ لأنه كان يعمل السفينة، ولا يخطئ في عملها {وَوَحْيِنَا} أمرنا. {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} بالركوب. واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَمْرُنَا) كاختلافهم فيهما من {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} في سورة الحج [الآية: 65]. {وَفَارَ التَّنُّورُ} روي أنه قيل لنوح: إذا فار الماء من التنور، اركب ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 330)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 211).

[28]

أنت ومن معك، فلما نبع الماء منه، أخبرته امرأته، فركب، وهو تنور الخبز في قول الأكثر، ومحله الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وقيل: عين وردة من الشام، وقيل غير ذلك. {فَاسْلُكْ} فأدخل {فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} صنفين من الحيوان. {اثْنَيْنِ} ذكرًا وأنثى، وقيل لهما زوجان؛ لأن كل واحد منهما يقال له زوج؛ لأنه لا بد لأحدهما من الآخر. قرأ حفص: (مِنْ كُلٍّ) بالتنوين؛ أي: من كل صنف زوجين اثنين، ذكره تأكيدًا، والباقون: بغير التنوين على الإضافة (¬1)، على معنى: احمل اثنين من كل زوجين، والقراءتان ترجعان إلى معنًى واحد، وتقدم ذكر القصة مستوفًى في سورة هود. {وَأَهْلَكَ} أي: واحمل أهلك من النسب {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أي: سبق عليه الحكم بالهلاك، وهو كنعان، وامرأتك واعلة مستثنى من الأهل. {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: أشركوا؛ بالدعاء لهم بالإنجاء {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} لا محالة. ... {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)}. [28] {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} استقررت. {أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} راكبًا فيها عاليًا فوقها. {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 124)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 288)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 208).

[29]

{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)}. [29] {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} قرأ أبو بكر عن عاصم: (مَنْزِلًا) بفتح الميم وكسر الزاي؛ أي: مكانًا، والمراد: بطن السفينة، وقرأ الباقون: بضم الميم وفتح الزاي، مصدر بمعنى: الإنزال (¬1)، وبركة السفينة: النجاة فيها {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} ثناء مطابق لدعائه. ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}. [30] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فيما فعل بنوح وقومه {لَآيَاتٍ} دلالات على قدرتنا. {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} لمصيبين ببلاء، ومختبرين اختبارًا يؤدي إلى ذلك، و (إِنْ) عند سيبويه مخففة من الثقيلة، واللام لام تأكيد. ... {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)}. [31] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعد إهلاك قوم نوح. {قَرْنًا آخَرِينَ} يعني: قوم عاد. ... {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)}. [32] {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} يعني: هودًا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 445)، و"التيسير" للداني (ص: 159)، و"تفسير البغوي" (3/ 245)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 208).

[33]

{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} فتؤمنون. وقيل: إن القرن هم ثمود، ورسولهم صالح، قال البغوي: الأول أظهر (¬1). ... {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)}. [33] {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ} أي: بالمصير إليها {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} نعمناهم، ووسعنا عليهم. {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} منه. ... {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)}. [34] {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} لمغبونون؛ حيث أذللتم أنفسكم. ... {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)}. [35] {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف عن عاصم: (مِتُّمْ) بكسر الميم، والباقون: بضمها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 246). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 318)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 209).

[36]

{وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} من قبوركم، استفهام بمعنى التوقيف على جهة الاستبعاد، وبمعنى الهزء بهذا الوعد، و (أَنَّكمْ) الثانية بدل من الأولى، وفيها معنى تأكيد الأول، وكررت لطول الكلام. ... {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)}. [36] {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} كناية عن البعد، التقدير: بَعْدَ الوجود. {لِمَا تُوعَدُونَ} قرأ أبو جعفر: بكسر التاء منهما بغير تنوين، والباقون بفتحها فيهما، ووقف بالهاء: البزي، والكسائي، وروح، والباقون: يقفون عليهما بالتاء، وهو المختار (¬1). ... {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)}. [37] {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} أرادوا: أنه لا وجود غير هذا الوجود {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي: يموت بعض، ويولد بعض {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الموت كما تزعم. ... {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)}. [38] {إِنْ هُوَ} يعنون: الرسول. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 60)، و"الكشف" لمكي (1/ 131)، و"تفسير البغوي" (3/ 246)، و"النشر في القراءات العشر"لابن الجزري (2/ 131)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 209 - 211).

[39]

{إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين بالبعث. ... {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)}. [39] {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} بسبب تكذيبهم إياي. قرأ يعقوب: (كَذَّبُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬1). ... {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)}. [40] {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ} عن زمان قليل و (ما) صلة لتوكيد معنى القلة {لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} على تكذيبهم إذا عاينوا العذاب. ... {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}. [41] {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} بما استحقوا من أفعالهم، وبما حق منا في عقوبتهم، صاح عليهم جبريل عليه السلام، فدمرهم. {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} هلكى كغثاء السيل لا ينتفع به، وهو ما يحمله الماء على وجهه من الزبد والبالي من النبات. {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يحتمل الإخبار والدعاء. ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 330)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 211).

[42]

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)}. [42] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا} أقوامًا. {آخَرِينَ} كقوم صالح ولوط وشعيب. ... {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)}. [43] {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} المكتوبَ لها {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عنه. ... {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)}. [44] {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} مترادفين واحدًا بعد واحد. قرأ أبو عمرو: (رُسْلَنَا) بإسكان السين حيث وقع، والباقون: بضمها، وقرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (تَتْرًى) بالتنوين، ويقفون بالألف، وهي ألف إلحاق، وقرأ الباقون: بغير تنوين، ونصبها على القراءتين حال، وأمال فتحة الراء: ورش، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو عمرو في الوقف بخلاف عنه (¬1) {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} أضاف الرسول مع الإرسال إلى المرسِل، ومع المجيء إلى المرسَل إليهم؛ لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه، والمجيء الذي هو منتهاه إليهم. قرأ نافع، وأبو عمرو، ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 212).

[45]

وابن كثير، وأبو جعفر، ورويس: (جَاءَ أُمَّةً) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية (¬1)، وهي أن تجعل بين بين، وقرأ الباقون، وهم: الكوفيون، وابن عامر، وروح: بتحقيق الهمزتين، ولم يقع في القرآن همزة مضمومة بعد همزة مفتوحة من كلمتين سوى هذا الحرف فقط (¬2). {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أهلكنا بعضهم في إثر بعض. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} يُتمثل بهم في الشر {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} بالله. ... {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)}. [45] {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} حجة ظاهرة؛ كاليد والعصا وغيرهما. ... {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)}. [46] {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا} عن الإيمان. {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} متكبرين بالظلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 446)، و"تفسير البغوي" (3/ 247)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 212). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 213).

[47]

{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)}. [47] {فَقَالُوا} يعني: فرعون وقومه {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} يعنون: موسى وهارون {وَقَوْمُهُمَا} يعني: بني إسرائيل {لَنَا عَابِدُونَ} خاضعون متذللون كالعباد. ... {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)}. [48] {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} بالغرق في بحر قلزم، وتقدم ذكره في سورة البقرة. ... {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)}. [49] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة. {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} يعني: قوم موسى. ... {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}. [50] {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ} عيسى عليه السلام {وَأُمَّهُ آيَةً} ولم يقل: آيتين؛ لأن المراد جعلنا قصتهما آية، وهي آيات مع التفصيل {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} أي: مكان مرتفع، وهو بيت المقدس، وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلًا، وقيل: دمشق، وقيل: رملة فلسطين. قال ابن عطية: ويترجح أن الربوة هي بيت لحم من بيت المقدس؛ لأن

[51]

ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذ كان الإيواء، وقيل: الربوة بأرض مصر (¬1). قرأ ابن كثير، وعاصم: (رَبْوَةٍ) بفتح الراء، والباقون: بضمها (¬2) {ذَاتِ قَرَارٍ} مستوية يستقر عليها ساكنوها {وَمَعِينٍ} ماء جار ظاهر؛ من المعن: الإسراع والإبعاد. ... {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}. [51] {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ} هو خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به: أن الله تعالى أخبر أنه قد قال لجميع الرسل قبله: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الحلالات. {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} والصلاح: هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة. {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فأجازيكم عليه. ... {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}. [52] {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: ملتكم التي أنتم عليها {أُمَّةً} شريعة {وَاحِدَةً} وهي الإسلام. قرأ الكوفيون: (وَإِنَّ) بكسر الهمزة على الابتداء، والباقون: بفتحها، وانفرد ابن عامر بتخفيف النون، وجعل (أن) صلة، مجازه: وهذه أمتكم، والباقون: بتشديد [النون (¬3)؛ على معنى: وبأن هذه. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 145). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 446)، و"التيسير" للداني (ص: 83)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 213). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 319)، و"النشر في القراءات =

[53]

{وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} فاحذرون. قرأ يعقوب: (فَاتّقُونِي) بإثبات] (¬1) الياء. ... {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}. [53] {فَتَقَطَّعُوا} أي: الأتباع {أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} تفرقوا دينهم. {زُبُرًا} جمع زبور، وهو الفرقة والطائفة، فصاروا فرقًا يهودًا ونصارى ومجوسًا، وتحزبوا في دينهم أحزابًا. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} بما عندهم من الباطل. {فَرِحُونَ} بما ابتدعوه، معتقدون أن دينهم حق. ... {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)}. [54] ثم قال تهديدًا لهم وتسلية له - صلى الله عليه وسلم -: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} جهالتهم. {حَتَّى حِينٍ} إلى حين إتيان العذاب، ونُسخت بآية السيف. ... {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)}. [55] {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} أي: ما نعطيهم ونجعله مددًا لهم. {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} في الدنيا. ... ¬

_ = العشر" لابن الجزري (2/ 328)، و"معجم القراءات القرانية" (4/ 214 - 215). (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ش".

[56]

{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}. [56] {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: لا يتوهمون أن تعجيلنا (¬1) لرضانا عنهم. قرأ الدوري عن الكسائي: (نُسَارِعُ) و (يُسَارِعُونَ) بالإمالة (¬2). {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} أن ذلك استدراج لهم. ... {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)}. [57] ثم أخبر عن المسارعين إلى الخيرات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} خائفون من عقابه. ... {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)}. [58] {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} يصدقون. ... {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)}. [59] {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} شركًا جليًّا ولا خفيًّا. ... {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}. [60] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} يؤدون ما أدوا من زكاة وغيرها. ¬

_ (¬1) "أن تعجلينا" ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 216 - 217).

[61]

{وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خائفة ألَّا تقبل منهم {أَنَّهُمْ} أي: لأنهم {إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} فحذفت اللام؛ أي: لأنهم يوقنون أن مرجعهم إلى الله، فيكون قوله {أَنَّهُمْ} علة لقوله: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}. ... {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)}. [61] {أُولَئِكَ} الموصوفون بهذه الصفات {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} يبادرون إلى الأعمال الصالحة. {وَهُمْ لَهَا} أي: من أجلها {سَابِقُونَ} إلى رضوان الله تعالى. ... {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}. [62] {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} طاقتَها، فمن لم يستطع القيام، فليصلِّ قاعدًا، أو من لم يستطع الصوم، فليفطر. {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} وهو اللوح المحفوظ {يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} بما سُطر فيه. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لا يُنقص من حسناتهم، ولا يزاد على سيئاتهم. ... {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)}. [63] ثم ذكر الكفار فقال: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} في غفلة. {مِنْ هَذَا} القرآن.

[64]

{وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أي: دون الشرك، وهي سعايات فساد. {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} فيعذبون بها. ... {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)}. [64] {حَتَّى} هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية، وهي: {إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} أي: أغنياءهم {بِالْعَذَابِ} وهو قتلهم يوم بدر. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يرفعون أصواتهم بالدعاء. ... {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)}. [65] {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} لا تَضِجُّوا. {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} لا تُمنعون، المعنى: استغاثتكم لا تمنعكم من عذابنا. ... {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)}. [66] {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} ترجعون القهقرى عن الإيمان. ... {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}. [67] {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} متعظمين بالبيت الحرام، كانوا يقولون:

[68]

لا يظهر علينا أحد؛ لأنا أهل الحرم. {سَامِرًا} أي: سمَّارًا؛ أي: متحدثين، ونصبه على الحال. {تَهْجُرُونَ} قرأ نافع: بضم التاء وكسر الجيم؛ من الإهجار، وهو الإفحاش؛ أي: تفحشون، وقرأ الباقون: بفتح التاء وضم (¬1) الجيم؛ من هجر، وهو الهذيان؛ من قولهم: هجر الرجل في منامه: إذا هذى (¬2). ... {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)}. [68] {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} ألم يعتبر المشركون القرآن، فيعلموا حال من تقدمهم، فيؤمنوا {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} جاءتهم براءة من العذاب لم تأت آباءهم. ... {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)}. [69] {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} جاحدون، وهو استفهام توبيخ وإنكار عليهم؛ لإعراضهم عنه بعد معرفتهم إياه بالصدق والأمانة. ... ¬

_ (¬1) في "ت": "وكسر" وهو خطأ. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 159)، و"تفسير البغوي" (3/ 252)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 218).

[70]

{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)}. [70] {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جنون، وليس كذلك. {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} بالقرآن وما فيه من شرائع الإسلام. {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}؛ لأنه يخالف شهواتهم. ... {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)}. [71] {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} في جعل شريك له، والحق هو الله. {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} لما سبق تقريره في سورة الأنبياء في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الآية: 22]. {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} بما يذكرهم، وهو القرآن. {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} لا يلتفتون إليه. ... {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)}. [72] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} على ما جئتهم به. {خَرْجًا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (خَرَاجًا) بفتح الراء وألف بعدها، والباقون: بإسكان الراء من غير ألف، وتقدم تفسيره في سورة الكهف عند تفسير قوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} [الآية: 94].

[73]

{فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي: رزقه وثوابه. قرأ ابن عامر: (فَخَرْجُ رَبِّكَ) بإسكان الراء من غير ألف، والباقون: بفتح الراء وألف بعدها (¬1). {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أفضل المعطين. ... {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)}. [73] {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام. ... {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}. [74] {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} لعادلون عن الطريق. ... {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}. [75] ولما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء برفع القحط عن قريش، نزل: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} قحط وجوع. {لَلَجُّوا} لتمادَوْا {فِي طُغْيَانِهِمْ} وكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {يَعْمَهُونَ} عن الهدى. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 447)، و"التيسير" للداني (ص: 195 و 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 253)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 220).

[76]

روي أن أهل مكة قحطوا حتى أكلوا العِلْهَز، وهو وَبَر الجمال، وذلك حين دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اللهمَّ سَبْعًا كسني يوسف" الحديث، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنشدك الله والرحِمَ ألست تزعم أنك بُعثت رحمة للعالمين؟! فقال: "بلى"، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف، والأبناءَ بالجوع، فادع الله يكشف عنا هذا القحط، فنزلت الآية (¬1). قرأ الدوري عن الكسائي: (طُغْيَانِهِمْ) بالإمالة حيث وقع (¬2). ... {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)}. [76] {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} يعني: القتل والجوع. {فَمَا اسْتَكَانُوا} فما خضعوا. {لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي: لم يتضرعوا، بل مضوا على تمردهم. ... {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)}. [77] {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو القتل يوم بدر. {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (18/ 45)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (3/ 253)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 111)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 405)، و"لباب النقول" للسيوطي أيضًا (ص: 152). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 220).

[78]

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)}. [78] {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} القلوب. {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أي: لم تشكروا قليلًا ولا كثيرًا. ... {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)}. [79] {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم {فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تبعثون. ... {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)}. [80] {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: القدرة التي عنها ذلك، والاختلاف هنا: التعاقب. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فتستدلون بالصنعة على صانعها فتؤمنون؟! ... {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)}. [81] {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} وقوله: (بَلْ) إضراب، والجحد قبله مقدر؛ كأنه قال: ليس لهم نظر في هذه الآيات، أو نحو هذا، و (الأَوَّلُونِ) يشير به إلى الأمم الكافرة؛ كعاد وثمود. ... {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)}. [82] {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} محشورون،

قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب. واختلف القراء في (أَئِذَا) (أَئِنَّا) في الإخبار بالأول منهما، والاستفهام بالثاني، وعكسه، والاستفهام فيهما، وفي ضم الميم وكسرها من (متنا)، فقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: (إذا) بالإخبار، (مُتْنَا): بضم الميم، (أَئِنَّا): بالاستفهام، فابن عامر يحقق الهمزتين، وأبو جعفر يسهل الثانية، ويفصل بينهما بألف، واختلف عن هشام راوي ابن عامر في الفصل مع تحقيق الهمزتين، وقرأ نافع: (أَئِذَا): بالاستفهام وتسهيل الهمزة الثانية، (مِتْنَا): بكسر الميم و (إِنَّا): بالإخبار، ووافقه رويس عن يعقوب في حكم الهمزتين، وخالفه في الميم، فقرأها: بالضم، وقرأ الكسائي: (أَئِذَا): بالاستفهام، ويحقق الهمزتين، (مِتْنَا): بكسر الميم، و (إِنَّا): بالإخبار، ووافقه روح عن يعقوب في حكم الهمزتين، وقرأ: (مُتْنَا) بضم الميم؛ كرويس، وقرأ الباقون: (أَئِذَا) (أَئِنَّا): بالاستفهام فيهما، فابن كثير، وأبو عمرو يسهلان الهمزة الثانية منهما، وأبو عمرو يفصل بينهما بألف، واتفقا على ضم الميم من (مُتْنَا)، وعاصم، وحمزة، وخلف: يحققون الهمزتين منهما، ويكسر حمزة وخلف الميم، واختلف عن عاصم، فقرأ أبو بكر عنه: بالضم، وحفص: بالكسر، فمن قرأ بالاستفهامين، فذلك للتأكيد، ومن استفهم في الأول فقط، فإنما يقصد بالاستفهام الموضع الثاني (¬1)، تقديره: أنبعث ونحشر إذا، ومن استفهم في الثاني فقط، فمعناه: إذا كنا ترابًا، أنبعث؟ ... ¬

_ (¬1) سلفت عند تفسير الآية (5) من سورة رعد.

[83]

{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}. [83] {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ} هذا الوعد {وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} أي: وعدهُ آباءَنا قومٌ ذكروا أنهم رسل الله، فلم نر له حقيقة. {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أكاذيبهم التي كتبوها، جمع أسطورة. ... {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)}. [84] {قُلْ} يا محمد مجيبًا لأهل مكة: {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} من الخلق. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها؟ ... {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)}. [85] فإنهم {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} فثم. {قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} الأدلة الدالة على الصانع، فتؤمنون؟ ... {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)}. [86] {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. ***

[87]

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)}. [87] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} الله تعالى. ... {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)}. [88] {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الملكوت: الملك، والتاء فيه للمبالغة. {وَهُوَ يُجِيرُ} يمنع من (¬1) السوء {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} ولا يمنع (¬2) منه من أراده بسوء {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قيل: معناه: أجيبوا إن كنتم تعلمون. ... {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)}. [89] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} فكيف تخدعون عن طاعته؟ المعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلًا؟ اختلف القراء في (سَيَقُولُونَ لِلهِ) في الحرفين الأخيرين، فقرأ أبو عمرو، ويعقوب: بإثبات ألف الوصل قبل اللام فيهما، ورفع الهاء من الجلالتين جوابًا على اللفظ؛ لأنك تقول: من رب هذا؟ فالجواب: فلان؛ لأنه جواب (من) لفظًا، وكذلك رسمًا في المصاحف البصرية، وقرأ الباقون: (لِلهِ) بغير ألف فيهما، وخفض الهاء، ¬

_ (¬1) في "ش": "عن". (¬2) "ولا يمنع" ساقطة من "ش".

[90]

وكذلك رسمًا في مصاحف الحجاز والشام والعراق (¬1)، فجعلوا الجواب على المعنى؛ يقول القائل للرجل: من مولاك؟ فيقول: لفلان؛ أي: أنا لفلان، وهو مولاي، واتفقوا على الحرف الأول أنه (لِلهِ)؛ لأن قبله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا}، فجاء الجواب على لفظ السؤال، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَذْكُرُونَ) بتخفيف الذال، والباقون: بالتشديد (¬2)، وقرأ رويس عن يعقوب: (بِيَدِهِ) باختلاس كسرة الهاء، والباقون: بالإشباع (¬3). ... {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)}. [90] {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} بالصدق. {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في ادعائهم الشريك، وتكذيب الرسل. ... {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}. [91] ثم أكد تكذيبهم بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 160)، و"تفسير البغوي" (3/ 254 - 255)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 221). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 320)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 221). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 312)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 222).

[92]

{إِلَهٍ} أي: شريك، فالتقدير: ولو كان معه آلهة. {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} لانفرد به، ولم يرض بإضافة خلقه. إلى غيره {وَلَعَلَا} ارتفع {بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} مغالبة وتكبرًا؛ لأن كل إله يطلب انفراده بألوهيته وخلقه {سُبْحَانَ اللَّهِ} أي: تعظَّم {عَمَّا يَصِفُونَ} له من الشريك والولد. ... {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}. [92] {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (عَالِمُ) برفع الميم على الابتداء، واختلف عن رويس حالة الابتداء، وقرأ الباقون: بجرها على نعت الله في (سُبْحَانَ اللهِ) (¬1). {فَتَعَالَى} الله (¬2) {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به من الأصنام وغيرها. ... {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)}. [93] {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي} أي: إن أريتني. {مَا يُوعَدُونَ} من القتل والعذاب. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 447)، و"تفسير البغوي" (3/ 255)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 222). (¬2) لفظ الجلالة "الله" لم يرد في "ت".

[94]

{رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)}. [94] {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: فاجعلني خارجًا منهم إذا نزل بهم العذاب. ... {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)}. [95] ثم أومأ إلى حلول العذاب بهم فقال: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب {لَقَادِرُونَ} وقد أراه عذاب المشركين ببدر وغيرها. ... {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}. [96] ثم أمره بالعفو عنهم فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي} أي: بالخلة التي. {هِيَ أَحْسَنُ} وهي الصفح ومكارم الأخلاق {السَّيِّئَةَ} الصادرةَ منهم إليك (¬1)، ونسخت بآية السيف، ثم تهددهم بقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} من الشريك. ... {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)}. [97] {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} أمتنعُ وأعتصم بك {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} وساوسِهم ونزغاتهم، وأصل الهمزة: شدة الدفع. ... ¬

_ (¬1) "إليك" ساقطة من "ش".

[98]

{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}. [98] {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} عند الموت، ويحوموا حولي في شيء من الأحوال؛ لأن الشيطان إذا حضره يوسوسه. ... {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)}. [99] ثم أخبره أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت، فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} جمع الضمير تعظيمًا لله تعالى؛ أي: ردوني إلى الدنيا. قرأ يعقوب: (يَحْضُرُونِي) (ارْجِعُونِي) بإثبات الياء فيهما، وحذفها الباقون (¬1)، واختلافهم في الهمزتين من (جَاءَ أَحَدَهُمُ) كاختلافهم فيهما من: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ} في سورة الحج [الآية: 65]. ... {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}. [100] {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} بأن أقول: لا إله إلا الله. قرأ الكوفيون، ويعقوب: (لَعَلِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). {فِيمَا تَرَكْتُ} ضَيَّعْت من عمري. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 330)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 223). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 160)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 320)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 223).

[101]

{كَلَّا} ردع عن طلب الرجعة، واستبعاد لذلك {إِنَّهَا} يعني: سؤاله الرجعة {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ولا ينالها. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ} أي: أمامهم {بَرْزَخٌ} أي: حاجز، وهو القبر. {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فلا يرجعون أبدًا؛ لأنه لا رجوع بعد البعث. ... {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)}. [101] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} وهو القرن، وهذا عند النفخة الأولى، وقيل: عند النفخة الثانية إذا بعث الناس {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} يفتخرون بها {يَوْمَئِذٍ} في الآخرة؛ كما يفتخرون في الدنيا {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} كما يتساءلون في الدنيا؛ لاشتغال كلٍّ بنفسه. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (فَلاَ أَنْسَاب بَّيْنَهُمْ) بإدغام الباء الأولى في الثانية (¬1). ... {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)}. [102] {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} بالحسنات. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالنجاة والدرجات. ... {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)}. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 301)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 300)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 224).

[103]

[103] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} بالسيئات. {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} غبنوها، فهم. {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} وجمع الموازين من حيث الموزون جمع، وهي أعمال، ومعنى الوزن: إقامة الحجة على الناس بالمحسوس على عادتهم وعرفهم. ... {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)}. [104] {تَلْفَحُ} تحرق {وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عابسون، بادية أسنانهم؛ لتشمير شفاههم منها؛ لشدة ما يلقون. وفي الحديث: "إن النار لتشويه، وتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته" (¬1). ... {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}. [105] {أَلَمْ} أي: يقال لهم: ألم. {تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني: القرآن. {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} تذكيرًا لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله. ... ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2587)، كتاب: صفة جهنم، باب: ما جاء في صفة أهل النار، وقال: حسن صحيح غريب، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 88)، والحاكم في "المستدرك" (3490)، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

[106]

{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)}. [106] {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي: غلبنا الشقاء الذي كتب علينا فلم نهتد. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (شَقَاوَتنُا) بفتح الشين والقاف وألف بعدها، وقرأ الباقون: بكسر الشين وإسكان القاف من غير ألف، وهما لغتان (¬1). {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} عن الهداية. ... {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)}. [107] فعند دخولهم النار يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا} خالفناك. {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} لأنفسنا. ... {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)}. [108] {قَالَ} الله لهم مجيبًا بعد ألف سنة {اخْسَئُوا فِيهَا} ابعدوا في جهنم أذلاء؛ من خسأت الكلب: إذا زجرته. {وَلَا تُكَلِّمُونِ} في رفع العذاب عنكم، فلا سبيل إليه. قرأ يعقوب: (تُكَلِّمُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬2)، فعند ذلك أيس الكفار من ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 448)، و"تفسير البغوي" (3/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 224). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 330)، و"معجم القراءات =

[109]

الفرج، وهو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلمون بعده إلا بالشهيق والزفير، ويصير لهم عواء كعواء الكلب، لا يَفْهَمون ولا يُفْهَمون. ... {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)}. [109] {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} وهم المؤمنون. {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. ... {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)}. [110] {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (¬1)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (سُخْرِيًّا) بضم السين؛ من التسخير، وهو العمل بلا أجر، وقرأ الباقون: بالكسر؛ من الهزء والسخرية (¬2). ¬

_ = القرآنية" (4/ 225). (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 301)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 15 - 16)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 225). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 448)، و"تفسير البغوي" (3/ 259)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 129)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 226).

[111]

{حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} من فرط انشغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم. {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} نزلت في بلال وصهيب وعمار وسلمان، كان المشركون يسخرون بهم وبالإسلام، ويؤذونهم (¬1). ... {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)}. [111] {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ} النعيم المقيم. {بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} بمطلوبهم. قرأ حمزة، والكسائي: (إِنَّهُمْ) بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون: بفتحها (¬2)؛ أي: لأنهم. ... {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)}. [112] {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: في الدنيا أحياء. {عَدَدَ سِنِينَ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: (قُلْ كَمْ) بضم القاف بلا ألف بعدها، أمر لمالك أن يسألهم، وقرأ الباقون: بفتح القاف وألف بعدها (¬3)، إخبار عن الله تعالى أنه هو الذي (¬4) يسألهم، وقرأ نافع، وابن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 259). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 449)، و"تفسير البغوي" (3/ 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 226). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 449)، و"التيسير" للداني (ص: 160)، و"تفسير البغوي" (3/ 260)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 226 - 227). (¬4) "الذي" ساقطة من "ش".

[113]

كثير، وعاصم، ويعقوب، وخلف: (لَبِثْتُمْ) بإظهار الثاء عند التاء حيث وقع، والباقون: بالإدغام (¬1)، وقرأ أبو عمرو: (عَدَد سِّنِينَ) بإدغام الدال في السين في هذا الحرف لا غير (¬2). ... {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)}. [113] {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} استقصروا مدة لبثهم، وشَكُّوا فيها؛ لعلم ما هم بصدده من العذاب. {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} الحاسبين، وهم الملائكة الذين يحصون أعمال الخلق وأعمارهم. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلْ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬3). ... {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)}. [114] {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ} في الدنيا. {إِلَّا} لبثًا {قَلِيلًا} لأن أيام السرور قليلة. {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مدة لبثكم، لما أجبتم بهذا الجواب. قرأ ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف" لمكي (2/ 132)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 227). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 301)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 227). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 321)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 227).

[115]

حمزة، والكسائي: (قُلْ إَنْ) على الأمر، والباقون: (قال) (¬1) على الخبر، كما تقدم في {قَالَ كَمْ} [الآية: 112]. ... {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}. [115] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} لا لغرض صحيح، ونصبه على الحال، وهو توبيخ على تغافلهم. {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} في الآخرة، فنجازيكم. قرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬2). ... {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)}. [116] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} الذي يحق له الملك مطلقًا؛ أي: تنزه عن مقالتهم في جهته من الصاحبة والولد، ومن حسابهم أنهم لا يرجعون إليه، وغير ذلك. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} الحسن العظيم. ... ¬

_ (¬1) "قال" ساقطة من "ت" و"ش". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 160)، و"تفسير البغوي" (3/ 260)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208 - 209)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 228).

[117]

{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)}. [117] ثم توعد تعالى عبدة الأصنام بقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} يعبده. {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي: في برهان له به، أي: لا حجة له عليه، ولا فيما يفعل من عبادة غير الله. {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: مكافأته عند الله، فهو يجازيه بما يستحقه. {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لا يبلغون أمنياتهم، ولا ينجح سعيهم، وجعل فاتحة هذه السورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وخاتمتها {لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. ... {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}. [118] ثم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر للمؤمنين، ويسأل لهم الرحمة، فقال: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} لأن كل راحم يتصرف على إرادة الله تعالى وتوفيقه، وتقديره لمقدار هذه الرحمة، ورحمته تعالى لا مشاركة له فيها، والله أعلم.

سورة النور

سُوْرَةُ النُّورِ مدنية، وآيها: أربع وستون آية، وحروفها: خمسة آلاف وست مئة وثمانون حرفًا، وكلمها: ألف وثلاث مئة وست عشرة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}. [1] {سُورَةٌ} خبر ابتداء مضمر، تقديره: هذه السورة. {أَنْزَلْنَاهَا} صفتها. {وَفَرَضْنَاهَا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (وَفَرَّضنَاهَا) بتشديد الراء؛ أي: فصَّلنا وبَيَّنا ما فيها من الأحكام، والتشديد للتكثير، لكثرة ما فيها من الفرائض، وقرأ الباقون: بالتخفيف (¬1)؛ أي: أوجبنا ما فيها من الحدود والأحكام، وألزمناكم العملَ بها. {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ} بالأمر والنهي {بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون. قرأ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 161)، و"تفسير البغوي" (3/ 263)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 233).

[2]

حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَذَكَّرُونَ) بتخفيف الذال حيث وقع، والباقون: بالتشديد (¬1). ... {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}. [2] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} مبتدأ خبره {فَاجْلِدُوا} فاضربوا. {كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} يعني: إذا كانا حرَّين بالغين عاقلين بكرين غير محصنين، وأما إذا كانا ثيبِّين، فعليهما الرجم بغير جلد بالاتفاق، والرجم بالحجارة حتى يموت، وشرائط الإحصان الموجب للرجم إذا زنى بعد وجودها فيه أربعة: العقل، والحرية، والبلوغ، والوطء في نكاح صحيح عند الشافعي وأحمد، ولم يشترطا (¬2) الإسلام؛ خلافًا لأبي حنيفة ومالك؛ فإن الإسلام عندهما شرط، فتكون الشرائط عندهما خمسة، ولا يُحفر لرجم الرجل بالاتفاق، ولا للمرأة عند مالك وأحمد، ويحفر لها عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: إن ثبت عليها بالبينة، استحب أن يحفر لها، وإن ثبت بإقرارها، لم يحفر لها (¬3)، وتقدم في سورة النساء الكلام على حكم الزنا والجلد والتغريب في حق الحر والرقيق، وثبوته بالإقرار والبينة، ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 234). (¬2) في "ش": "يشترط". (¬3) "وإن ثبت بإقرارها لم يحفر لها" زيادة من "ت".

واختلاف الأئمة في ذلك مستوفًى عند تفسير قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [الآية: 15]، وعند قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [الآية؛ 25]، وقدم الزانية؛ لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل، وعرض نفسها عليه. {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} قرأ قنبل عن ابن كثير: (رَأَفَةٌ) بفتح الهمزة، واختلف عن البزي، وقرأ الباقون: بإسكانها (¬1)، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وورش: يبدلون الهمز بالألف على أصلهم، وأبو عمرو يدغم التاء في الجيم من قوله: (مِئَة جَّلْدَةٍ) (¬2)، والرأفة: أرق الرحمة؛ أي: لا تخففوا جلدهما رأفة بهما، ولكن تصلَّبوا {فِي دِينِ اللَّهِ} في حكمه، وأوجعوهما ضربًا، وأقيموا حدوده كما أمركم. {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قال: "والله لو سرقَتْ فاطمةُ بنتُ محمدٍ، لقطعتُ يدها" (¬3)، فتجب إقامة الحد على من لزمه بالاتفاق، ويُضرب الرجل قائمًا عند الثلاثة، وعند مالك: جالسًا، وأما المرأة، فتضرب جالسة باتفاقهم، وسوط الحد عند الشافعي ما بين قضيب وعصا رطب ويابس، وعند الثلاثة: يضرب بسوط لا جديد ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 452)، و"تفسير البغوي" (3/ 264)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 234). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 234). (¬3) رواه البخاري (3288)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (1688)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، عن عائشة -رضي الله عنها-.

ولا خَلَق، ويجرد الرجل من ثيابه عند أبي حنيفة ومالك، وأما المرأة عندهما: ينزع عنها من الثياب ما يقيها ألم الضرب؛ مثل الفراء ونحوها، وعند الشافعي: لا يجرد، وعند أحمد: يكون على الرجل القميص والقميصان، والمرأة تشد عليها ثيابها، وأما الضرب، فلا يبالَغ فيه بحيث يشق الجلد، ويُفرق على أعضائه، إلا الوجه والفرج وموضع المقتل بالاتفاق. واختلفوا في أشد الجلد، فقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، ثم الزنا، ثم الشرب، ثم القذف، وقال مالك والشافعي؛ الجلد في الحدود كلها سواء، وقال أحمد: أشده الزنا، ثم القذف، ثم الشرب، ثم التعزير. واختلفوا في الذمي إذا زنى وهو حر بالغ عاقل (¬1) قد كان تزوج ووطئ في التزويج الصحيح، فقال أبو حنيفة ومالك: لا يرجم؛ لأن عندهما لا يتصور الإحصان في حقه؛ لأن الإسلام من شروط الإحصان عندهما كما تقدم، ويجلد مئة عند أبي حنيفة، وعند مالك يعاقبه الإمام اجتهادًا، وعند الشافعي وأحمد هو محصن، وليس الإسلام من شروط الإحصان، وعليه الرجم عندهما، وأما إذا كان غير محصن، فإنه يحد للزنا عند الثلاثة، وقال مالك: لا يحد. {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} وليحضر حدّهما إذا أقيم عليهما. {طَائِفَةٌ} فرقة {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} زيادة في التنكيل بالتفضيح، قال مالك: ينبغي للإمام أن يُحضر في حد الزنا طائفة من المؤمنين الأحرار العدول، والطائفة أربعة فصاعدًا، وقال أحمد: يجب حضور إمام أو نائبه ¬

_ (¬1) في "ت": "بالغ عاقل حر".

[3]

وطائفة، ولو واحدًا، ويسن حضور شهوده، وبدأتهم بالرجم إن كان الحد رجمًا، وقال الشافعي: يستحب حضور الإمام وشهوده، وقال أبو حنيفة: للإمام أن يحضره، ويجوز أن يبعث بأمين، ويأمره بإقامة الحد، ويبدأ الشهود برجم المحصن، ثم الإمام، ثم الناس إن ثبت بالبينة، وإن ثبت بالإقرار، ابتدأه (¬1) الإمام، ثم الناس. وفي الحديث: "اتقوا الزنا؛ فإن فيه ستَّ خصال: ثلاث في الدنيا: يذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وثلاث في الآخرة: السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار" (¬2). ... {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}. [3] {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} نزلت في قوم فقراء من المهاجرين هموا أن يتزوجوا بغاياكُنَّ بالمدينة، فأنزل الله عز وجل تحريمه (¬3)؛ لأنهن كن زانيات ومشركات، وبين أنه لا يتزوج بهن إلا زان أو مشرك، وأن ذلك حرام على ¬

_ (¬1) في "ت": "ابتدأ". (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1183)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 317)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 98)، عن حذيفة -رضي الله عنه-. (¬3) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (8/ 2522)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 178 - 180).

[4]

المؤمنين، وإن كان ظاهر الآية خبر، فهو بمعنى النهي، وقيل غير ذلك. ... {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}. [4] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قرأ الكسائي: (الْمُحْصِنَاتِ) بكسر الصاد حيث وقع، والباقون: بالفتح (¬1)، المعنى: الذين يقذفون بالزنا المسلمات الحرائر العفائف. {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يشهدون على زناهن. {فَاجْلِدُوهُمْ} اضربوهم {ثَمَانِينَ جَلْدَةً} قرأ أبو عمرو: (بِأَرْبَعَة شُّهَدَاءَ) بإدغام التاء في الشين في هذا الحرف والذي بعده (¬2)، والقذف: هو الرمي بالزنا، أو لواطٍ، أو شهادةٍ عليه، ولم تكمل البينة، فكل من رمى محصنًا أو محصنة بالزنا، فقال: زنيت، أو يا زاني، فإن أقر المقذوف بالزنا، أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه، سقط الحد عن القاذف، وترتب الحكم على المقذوف، كما تقدم الكلام عليه مستوفًى في سورة النساء، وإن أنكر المقذوف، ولم يقم القاذف البينة، وجب عليه الحد، وهو ثمانون جلدة إن كان القاذف حرًّا، وأربعون إن كان عبدًا بالاتفاق، إن كان المقذوف محصنًا، فإن كان غير محصن، فعلى القاذف التعزير. والإحصان: أن يكون حرًّا مسلمًا عاقلًا عفيفًا عن الزنا بالاتفاق، وهل ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 95)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 235). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 236).

[5]

يشترط بلوغه؟ قال أحمد: لا يشترط إذا كان مثلُه يجامع، وقال الثلاثة: يشترط، ومالك يحد قاذف الصبية التي يوطأ مثلها، ولا يحد قاذف الصبي الذي يطأ مثلُه. وهل هو حق لله أو للآدمي؟ قال أبو حنيفة: هو حق لله، فلا يصح العفو عنه، لكن لو عفا المقذوف لا يحد القاذف، لا لصحة عفوه، بل لترك طلبه، حتى لو عاد فطلب، يحد، وقال مالك: لا بأس بعفو المقذوف عن قاذفه قبل بلوغ الإمام، ولا يجوز عفوه بعد ذلك، إلا أن يريد ستر نفسه، وقال الشافعي وأحمد: هو حق للآدمي يسقط بعفوه. {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} إذا شهدوا. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لأنهم فسقوا برمي المحصنة. ... {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}. [5] ثم استثنى منه {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} القذف. {وَأَصْلَحُوا} حالهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. واختلفوا في قبول شهادة القاذف بعد إقامة الحد عليه إذا تاب، فقال أبو حنيفة: لا تقبل شهادة المحدود فيه، وإن تاب عن جريمة القذف، لكن لا يرد شهادته بنفس القذف، وإنما يردها بإقامة الحد، ومالك والشافعي وأحمد يردون شهادته بنفس القذف، وقالوا: تقبل شهادته بعد التوبة، سواء كانت قبل الحد أو بعده، وصفتها عند الشافعي: أن يقول: قذفي باطل، وأنا نادم، ولا أعود إليه، وعند مالك وأحمد: توبته أن يكذِّب نفسه، إلا أن مالكًا اشترط مع التوبة بعد الحد ألَّا تقبل شهادته في مثل الحد الذي أقيم

[6]

عليه، ودليل أبي حنيفة على عدم قبول شهادته على التأبيد قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}، وذكره بالتأبيد يدل على أنها لا تقبل في كل حال، والاستثناء منصرف إلى ما يليه، وهو قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}، ومن قال بقبول شهادته إذا تاب، قال: لأن الله تعالى استثنى التائبين عقب النهي بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}. ... {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)}. [6] ولما نزلت هذه الآية في الذين يرمون المحصنات، تناول ظاهرها الأزواج وغيرهن، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله! إن وجدتُ مع امرأتي رجلًا، أُمهله حتى آتي بأربعة شهداء! واللهِ لأضربنه بالسيف غير مصفح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ مني" (¬1)، ثم جاء بعد ذلك هلال بن أمية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرمى زوجته خولة بشريك بن سمحاء، فعزم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ضربه حد القذف، فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬2) أي: يقذفون نساءهم {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} يشهدون على صحة ما قالوا {إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} أي: غيرُ أنفسهم. واختلاف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6454)، كتاب: المحاربين، باب: من رأى مع امرأته رجلًا فقتله، مسلم (1499)، كتاب: اللعان. (¬2) رواه البخاري (4471)، كتاب: التفسير، باب: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

[7]

القراء في الهمزتين من (شُهَدَاءُ إِلَّا) كاختلافهم فيهما من {نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} في سورة الحج. {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ليدرأ عنه الحد {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ) برفع العين على خبر الابتداء (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) التي تدرأ الحد (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ)، وقرأ الباقون: بالنصب؛ أي: فشهادة أحدهم أن يشهدَ أربعَ شهادات بالله (¬1). {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)}. [7] {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي: يلعن الزوج نفسه. {إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فيما قذف زوجته به من الزنا، قرأ نافع، ويعقوب: (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) بإسكان النون مخففة، ورفع (لَعْنَتُ)، وقرأ الباقون: بنصبها مشددة، ونصب (لَعْنَتَ)، و (لعنت) (¬2) رسمت بالتاء، ووقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (¬3). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 452)، و"تفسير البغوي" (3/ 267)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 236). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 161)، و"المحتسب" لابن جني (2/ 102)، و"تفسير البغوي" (3/ 267)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 237). (¬3) سلفت عند تفسير الآية (61) من سورة آل عمران.

[8]

{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)}. [8] {وَيَدْرَأُ} أي: يدفع {عَنْهَا الْعَذَابَ} أي: حد الزنا. {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} فيما قذفها به. ... {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)}. [9] {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما رماني به. قرأ حفص عن عاصم (وَالْخَامِسَةَ) بالنصب؛ أي: وتشهد الشهادة الخامسة، والباقون: بالرفع على الابتداء، وخبره في (أن) كالأولى (¬1)، وقرأ نافع، ويعقوب: بإسكان النون مخففة كالأولى، والباقون: بنصبها مشددة، واختص نافع بكسر الضاد وفتح الباء من (غَضِبَ) على الفعل الماضي، ورفع الجلالة بعده، واختص يعقوب برفع الباء من (غَضَبُ)، وقرأ الباقون: بنصب الضاد والباء على الاسم (¬2). ... {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}. [10] {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} وجوابه ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 453)، و"تفسير البغوي" (3/ 267)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 237). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 161)، و"تفسير البغوي" (3/ 267)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 330)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 238).

محذوف للتعظيم؛ أي: لعذبكم، ولكشف الزناة بأيسر من هذا. فلما نزلت الآية، جمعهما رسول الله في المسجد، وتلاعنا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت، وقيل لها: إنها موجبة، ثم قالت: لا أفضحُ قومي سائرَ اليوم، فمضت، وفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وولدت غلامًا أشبهَ خلقِ الله بشريك، ثم كان الغلام بعد ذلك أميرًا بمصر، وهو لا يعرف لنفسه أبًا. وأما حكم الآية، فإنه إذا قذف الرجل المكلف امرأته المحصنة؛ أي: البالغة العاقلة الحرة المسلمة العفيفة بالزنا، وجب عليه الحد إن طلبت، وله إسقاط الحد باللعان، وهو شرعًا: شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين، مقرونة باللعن والغضب، قائمة مقام حد قذف في جانبه، وحد زنا في جانبها، وصفته: أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنا، ويشير إليها، وإن لم تكن حاضرة، سماها، ونسبها حتى يكمل أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: و {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فيما رميتها به من الزنا، فيلزمها حينئذ الحد، ويدرأ عنها بأن تقول هي: أشهد بالله أنه من الكاذبين فيما رماني به من الزنا، أربع مرات، ثم تقول في الخامسة: و {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما رماني به من الزنا، فإن لاعنت المرأة قبل الزوج، اعتد به عند أبي حنيفة؛ لأن المقصود تلاعنهما، وقد وجد، وقال الثلاثة: لا يعتد به؛ لأنه على غير الترتيب المشروع. ويكون اللعان وهما قائمان بحضور الحاكم وجماعة في الأوقات والأماكن المعظمة، وإذا بلغ كل منهما الخامسة، وعظه الحاكم،

فيقول: اتق الله؛ فإنها الموجبة للعذاب، وعذابُ الدنيا أهون من عذاب الآخرة. ويصح اللعان بين الزوجين، ولو كانا ذميين أو رقيقين أو فاسقين عند الثلاثة، وقال أبو حنيفة: يشترط أن يكونا من أهل الشهادة؛ بأن يكونا حرين مسلمين (¬1) عاقلين بالغين غير محدودين في قذف، فإن لم يكن الزوج كذلك، فعليه الحد؛ لأن اللعان امتنع لمعنىً في جهته، فرجع إلى الموجب الأصلي. وإن نفى الولد في التعانه، انتفى بالاتفاق، ما لم يكن أقر به، ومالك يشترط استبراءها بحيضة وعدم وطئها بعد الاستبراء، فإن لاعن، ونكلت، حبست حتى تقر أربعًا، أو تلاعن عند أبي حنيفة وأحمد، وعند مالك والشافعي إذا امتنعت من اللعان، حدت للزنا، فجلدت إن كانت بكرًا، وكانت على نكاحه، إلا أن يطلقها، وإن كانت ثيبًا، رجمت، واستحق الميراث منها، فإذا تم اللعان بينهما، سقط عنه الحد، ووقعت الفرقة والتحريم بينهما أبدًا عند مالك وأحمد، ولا يفتقر إلى تفريق الحاكم عندهما، وعند الشافعي تقع الفرقة المؤبدة بمجرد لعانه، وعند أبي حنيفة يشترط تفريق الحاكم بينهما بعد التعانهما، والفرقة طلقة بائنة عند أبي حنيفة، فلو أكذب نفسه، حُدَّ، وله أن ينكحها، وعند الثلاثة وأبي يوسف هي فسخ، ولا تحل له، ولو أكذب نفسه، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "مسلمين" زيادة من "ت".

[11]

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)}. [11] ولما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع في سنة ست من الهجرة الشريفة، ومعه عائشة رضي الله عنها، وقعت قصة الإفك في تلك الغزوة، وهي قذف عائشة بصفوان بن المعطل، وكان صفوان حصورًا لا يأتي النساء. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله، فو الذي نفسي بيده! ما كشفت من كَنَفِ أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله"، والقصة مشهورة في الحديث الشريف، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} (¬1) هو سوء الكذب {عُصْبَةٌ} جماعة {مِنْكُمْ} يعني: عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، ومِسطح، وحسان بن ثابت، وحَمْنة بنتُ جحش، وغيرهم. {لَا تَحْسَبُوهُ} أي: الإفك، والخطاب لعائشة وأهلها وصفوان. {شَرًّا لَكُمْ} قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر: (تَحْسَبُوهُ) ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3910)، كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك، ومسلم (2770)، كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف، عن عائشة -رضي الله عنها-.

و (تَحْسَبُونَهُ) (يَحْسَبُهُ) (يَحْسَبُ) كيف أتى مستقبلًا بفتح السين، والباقون: بالكسر (¬1). {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} بأن تثابوا، وتظهر براءتكم {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} يعني: من العُصبة الكاذبة {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} جزاء ما اجترح من الذنب. {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} قرأ يعقوب: بضم الكاف، والباقون: بكسرها، وهما لغتان (¬2)، المعنى: والذي تحمل معظم الإفك من الأفاكين هو عبد الله بن أبيّ. {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أما ابن أُبي، فمات منافقًا، وأما حسان، فعمي بعد ذلك. وعن مسروق قال: "دخلنا على عائشة، وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرًا يشبب بأبيات له، وقال: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحْومِ الْغَوَافِلِ فقالت عائشة: لكنك ليس كذلك، قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فقالت: أي عذاب أشدُّ من العمى؟! وقالت: إنه كان ينافح ويُهاجي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 238). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 378)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 331)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 239). (¬3) رواه البخاري (3915)، كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك، ومسلم =

[12]

وروي عنها أنها قالت: "ما سمعت شعره إلا رجوت له الجنة" (¬1). وروي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالذين رموا عائشة، فجلدوا الحد جميعًا ثمانين ثمانين (¬2). ... {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}. [12] ثم وبخ الخائضين فقال: {لَوْلَا} أي: هَلَّا. {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} يعني: الإفك. {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} بأمهاتهم {خَيْرًا} المعنى: هلا ظننتم أيها المؤمنون بالذين هم كأنفسكم خيرًا، والمؤمنون كلهم كالنفس الواحدة، نظيره {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} كذب ظاهر، وسمي الإفك إفكًا؛ لكونه ¬

_ = (2488)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت -رضي الله عنه-. قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 273): "الأكثرون على أن المراد بذلك، يعني: الذي تولى كبر الإفك، إنما هو عبد الله بن أبي سلول قبَّحه الله ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث، وقال ذلك مجاهد وغير واحد. وقيل: المراد به حسان بن ثابت وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذبُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعره". (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (18/ 88). (¬2) انظر: "المعجم الكبير" للطبراني (23/ 116)، و"تفسير البغوي" (3/ 279).

[13]

مصروفًا عن الحق؛ من قولهم: أفكَ الشيءَ: إذا قلبه عن وجهه، وذلك أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف، فمن رماها بالسوء، قلب الأمر عن وجهه. وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت: "يا أبا أيوب! أسمعت ما قيل؟! فقال: نعم، وذلك كذب، أكنتِ أنتِ يا أم أيوب تفعلين ذلك؟! قالت: لا والله، قال: فعائشة واللهِ أفضلُ منك، قالت أم أيوب: نعم" (¬1)، فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله المؤمنين؛ إذ لم يفعله جميعهم. قرأ أبو عمرو، وهشام، والكسائي، وخلف (¬2): (إِذ سَّمِعْتُمُوهُ) بإدغام الذال في السين، والباقون: بالإظهار (¬3). ... {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)}. [13] ثم بين الحكم في القذف فقال: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي: على ما زعموا {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} على القذف. ¬

_ (¬1) رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (1698)، والطبراني في "تفسيره" (18/ 96)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2546)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 48). (¬2) في "ت": "خلاد". (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 239).

[14]

{فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وهذا في حق عائشة رضي الله عنها، ومعناه: فأولئك هم الكاذبون في غيبي وعلمي. ... {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)}. [14] {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أيها الخائضون بالحلم والإمهال لتتوبوا {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} جريتم {فِيهِ} من القذف {عَذَابٌ عَظِيمٌ} دائم في الآخرة. ... {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)}. [15] {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} أي: تأخذون حديث الإفك من الأفاكين. قرأ أبو عمرو، وهشام، وحمزة، والكسائي، وخلف: (إِذ تَّلَقَّوْنَهُ) بإدغام الذال في التاء، والباقون: بإظهارها، ومنهم البزي يشدد التاء على أصله، والتلاوة المتواترة (تَلَقَّوْنَهُ): بفتح اللام والقاف مع تشديدها؛ أي: تقبلونه، وقرئ بكسر اللام وضم القاف مخففة؛ من الولق، وهو الإسراع بالكذب (¬1) {بِأَلْسِنَتِكُمْ} بأن يرويه بعض عن بعض. {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} كلامًا بلا مساعدة من القلوب. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 453)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 220).

[16]

{مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} لأنه ليس تعبيرًا عن علم به في قلوبكم. {وَتَحْسَبُونَهُ} أي: خوضكم في عائشة {هَيِّنًا} صغيرةً. {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} كثير الوزر. ... {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}. [16] {وَلَوْلَا} أي: وهَلَّا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} يعني: الإفك. وتقدم اختلاف القراء في الإدغام والإظهار في (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ} أي: ما يجوز {لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} هذا اللفظ هنا بمعنى التعجب. {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} زور يبهت من يسمعه. ... {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)}. [17] {يَعِظُكُمُ} الله؛ أي: ينهاكم كراهة {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} أي: الخوض {أَبَدًا} ما دمتم أحياء. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإن الإيمان يمنع عنه. ... {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)}. [18] {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} في الأمر والنهي. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأمر عائشة وصفوان {حَكِيمٌ} حكم ببراءتهما. ***

[19]

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}. [19] ونزل في عبد الله بن أبيِّ وأصحابه المنافقين: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} (¬1) أي: يفشُوَ القذف بها. {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} بالجلد {وَالْآخِرَةِ} عذاب النار. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} براءةَ عائشة، وشرَّ ما خضتم فيه، وكذبَ الخائضين. {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك. ... {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}. [20] ونزل في مِسْطح وحسان وحَمنة: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، وجواب (لولا) محذوف؛ اي: لعاجلكم بالعقوبة، وتكرير {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} زيادة مبالغة في المنة عليهم والتوبيخ لهم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وابن كثير، وحفص عن عاصم: (رَءُوفٌ) بالإشباع على وزن فَعول، والباقون: بالاختلاس على وزن فَعُل (¬2)، والرأفة: أشد الرحمة. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 281). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 242).

[21]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}. [21] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} تزيينَه في قذف عائشة. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب، والكسائي، وقنبل، وحفص عن عاصم (¬1): (خُطُوَاتِ) بضم الطاء، والباقون: بإسكانها (¬2). {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} بالقبيح {وَالْمُنْكَرِ} هو ما أنكره الشرع. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لكم في الدارين {مَا زَكَى} أي: لم يكن زاكيًا {مِنْكُمْ} أي: ما طَهُر من دنسها {مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} آخر الدهر. قرأ روح عن يعقوب بخلاف عنه: (زَكَّى) بتشديد الكاف، والباقون: بالتخفيف (¬3). {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي} يطهِّر {مَنْ يَشَاءُ} من الذنب بالرحمة. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لمقالهم {عَلِيمٌ} بنياتهم. ... ¬

_ (¬1) "عن عاصم" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 242). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 323)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 243).

[22]

{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}. [22] ولما حلف أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ألَّا ينفق على مسطح، وكان ابن خالته، وكان من فقراء المهاجرين بدريًّا؛ لخوضه في عائشة -رضي الله عنها-، نزل قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ} (¬1) قرأ أبو جعفر: (يَتَأَلَّ) بهمزة مفتوحة بين التاء واللام مع تشديد اللام مفتوحة، وقرأ الباقون: بهمزة ساكنة بين الياء والتاء وكسر اللام خفيفة، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وورش: يبدلون الهمزة بألف ساكنة على أصولهم (¬2)، ومعنى القراءتين: لا يحلفْ {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} في الدين {وَالسَّعَةِ} في المال. {أَنْ يُؤْتُوا} على ألَّا يؤتوا {أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} صفات لموصوف واحد؛ أي: ناسًا جامعين لها. {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} عنهم خوضَهم في عائشة. {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} إذا عفوتم. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فلما قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر، قال: "بلى أحب أن يغفر الله لي" ورجع إلى مسطح نفقتَه التي كان ينفق عليه، وقال: "والله لا أنزعها منه أبدًا". ... ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الإفك. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 281)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 331)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 243).

[23]

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)}. [23] ونزل في شأن قذف (¬1) عبد الله بن أُبيِّ عائشةَ رضي الله عنها: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (¬2) العفيفات {الْغَافِلَاتِ} عن الفاحشة {الْمُؤْمِنَاتِ} بالله ورسوله. {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} عُذِّبوا في الدنيا بالحد (¬3)، وفي الآخرة بالنار. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وجمع المؤمنات، وإن أريدت عائشة وحدها؛ لأن من قذف واحدة من نسائه - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه قد قذفهن. قيل لابن جبير: من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة؟ قال: "ذلك لمن قذف عائشة خاصة" (¬4). وقال ابن عباس: "هذا فيمن قذف زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة، فقد جعل الله له توبة" (¬5). ... ¬

_ (¬1) "قذف" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 282). (¬3) في "ت": "بالجلد". (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 151). وقد روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2557)، والحاكم في "المستدرك" (6731) عن ابن عباس، مثله. (¬5) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 164).

[24]

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)}. [24] {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} العامل في قوله: (يَوْمَ) فعلٌ مضمر يقتضيه العذاب؛ أي: يعذبونه يومَ، ونحو هذا. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَشْهَدُ) بالياء على التذكير؛ لتقدم الفعل، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث (¬1)، وهذا قبل أن يختم على أفواههم، روي أنه يختم الأفواه، فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا. ... {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}. [25] {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} حسابَهم العدلَ. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} الذي لا شك فيه. ... {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}. [26] {الْخَبِيثَاتُ} من الكلمات والقول. {لِلْخَبِيثِينَ} من الناس {وَالْخَبِيثُونَ} من الناس {لِلْخَبِيثَاتِ} من القول. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 80)، و"تفسير البغوي" (3/ 282)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 244).

[27]

{وَالطَّيِّبَاتُ} من القول {لِلطَّيِّبِينَ} من الناس. {وَالطَّيِّبُونَ} من الناس {لِلطَّيِّبَاتِ} من القول، المعنى: أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس، والطيب لا يليق إلا بالطيب، فعائشة لا يليق بها الخبائث من القول؛ لأنها طيبة، فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها، وقيل: معناه: الخبيثات: الزواني للخبيثين: الزناة، وبالعكس، والطيبات: العفائف للطيبين: العفيفين، وبالعكس، والتكرير للتأكيد إيذانًا أن كل واحد منهما لا يصلح إلا لصاحبه. {أُولَئِكَ} يعني: عائشة وصفوان، ذكرهما الله بلفظ الجمع؛ كقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]؛ أي: أخوان، وقيل: {أُولَئِكَ} يعني الطيبين والطيبات. {مُبَرَّءُونَ} منزهون {مِمَّا يَقُولُونَ} الخبيثون والخبيثات فيهم من القذف. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} هي العفو عن ذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الجنة. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)}. [27] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وورش عن نافع، وحفص عن عاصم: (بُيُوتًا) (بُيُوتكُمْ) بضم الباء، والباقون: بكسرها (¬1) {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} تستأذنوا. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 80)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[28]

{وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} بأن تقولوا: السلام عليكم أأدخل؟ {ذَلِكُمْ} الاستئذان والتسليم {خَيْرٌ لَكُمْ} من تركه. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وتعملون بما هو أصلح لكم. وتقدم اختلاف القراء في (تَذَكَّرُونَ) أول السورة. ... {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}. [28] {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} له الإذن {فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ} عند الاستئذان للدخول: {ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} ولا تُلِحُّوا في الدخول {هُوَ} أي: الرجوع. {أَزْكَى لَكُمْ} أطهر لقلوبكم من الريبة والدخولِ بغير إذن. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيجازيكم (¬1) عليه. ... {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}. [29] فلما نزلت آية الاستئذان قالوا: كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام، وعلى ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله تعالى: ¬

_ = (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 245 - 246). (¬1) في "ت": "فمجازيكم".

[30]

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} (¬1)، كالرباط والخان {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي: منفعة. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيد لمن دخل مدخلًا لفساد، أو تطلع على عورات. ... {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)}. [30] {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ينقصوا من نظرهم، و (من) تبعيض؛ لأنهم إنما نُهوا عن النظرة إلى ما لا يحل لهم، فلا يجوز للرجل النظر إلى الأجنبية قصدًا لغير ضرورة عند الثلاثة، وعند أبي حنيفة؛ يجوز له النظر إلى الوجه والكفين مع أمن الشهوة، فين لم يأمن، لم يجز إلا لضرورة، فإن كانت عجوزًا (¬2) لا تُشتهى، جاز النظر إلى وجهها وكفيها عند أبي حنيفة ومالك، وعند أحمد: إلى وجهها فقط، واختلف في مذهب الشافعي، فألحقها الغزالي بالشابة، وجوز الروياني النظر إلى وجهها وكفيها. {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} عن الزنا، ولم يدخل (من) في حفظ الفروج؛ لأن الزنا لا رخصة فيه {ذَلِكَ} أي: غض البصر وحفظ الفرج {أَزْكَى لَهُمْ} أنفع لهم وأطهر. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 186). (¬2) في "ش": "عجوزة".

[31]

{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه شيء، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون. ... {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}. [31] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} عما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال، وهي العورة عند أبي حنيفة وأحمد، وعند مالك: ما عدا الوجه والأطراف، والأصح من مذهب الشافعي: أنها لا تنظر إليه كما لا ينظر هو إليها. {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} يعم الفواحش وستر العورة وما دون ذلك مما فيه حفظ. {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} المستترة؛ كالسوار والخلخال والقلائد لمن لا يحل له النظر إليها {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كالثياب والخاتم؛ فإن في سترها حرجًا، وقيل غير ذلك.

{وَلْيَضْرِبْنَ} ليسدلن {بِخُمُرِهِنَّ} جمع خمار، وهو غطاء الرأس. {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} صدورهن. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر: (جِيُوبِهِنَّ) بكسر الجيم، والباقون: بضمها (¬1). {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} التي أمرن بسترها {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} أي: أزواجهن. {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فيجوز لجميع المذكورين عند الشافعي النظر إلى الزينة الباطنة سوى ما بين السرة والركبة، إلا (¬2) الزوج، فيباح له ما بينهما، وعند مالك: ينظرون إلى الوجه والأطراف، وعند أبي حنيفة: ينظرون إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين، ولا ينظرون إلى ظهرها وبطنها وفخذها، وعند أحمد: ينظرون إلى ما يظهر غالبًا؛ كوجه ورقبة ويد وقدم ورأس وساق، وأبيح النظر لهؤلاء؛ لكثرة مداخلتهم عليهن، واحتياجهن إلى مداخلتهم. {أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي: نساء أهل دينهن، وهو قول الشافعي، فيحرم عنده نظر الذمية إلى المسلمة؛ لأنها لا تتحرج عن وصفها للرجال، وعند الثلاثة: يجوز نظرها إلى ما عدا ما بين السرة والركبة؛ لأنها من جملة النساء، ولأن النساء الكوافر من اليهوديات وغيرهن قد كن يدخلن على نساء النبي؛ فلم يكنَّ يحجبن، ولا أمرن بالحجاب، وأما المسلمة، فلا ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 161)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 248). (¬2) في "ت": "إلى".

خلاف في جواز نظرها إلى المسلمة سوى ما بين السرة والركبة، فأبو حنيفة يوجب ستر الركبة، والثلاثة لا يوجبونه. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} اختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هو عام، فيكون عبد المرأة محرمًا لها، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفًا، وأن ينظر إلى مولاته كالمحارم، وهو مذهب مالك والشافعي، وكل منهما على أصله في النظر كما تقدم، وقال آخرون: المراد: الإماء دون العبيد، فيكون العبد حكمه حكم الأجنبي معها، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، مع اتفاقهما على جواز رؤيته إليها، فأبو حنيفة يجوز رؤيته إلى وجهها وكفيها، وأحمد يجوز رؤيته إلى ما يجوز للمحرم النظر إليه منها كما تقدم، قال أحمد: ولا يلزم من النظر المحرمية، فلا يباح لها الحج ولا السفر معه، {أَوِ التَّابِعِينَ} الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم، لا همة لهم سوى ذلك. {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} المعنى: غير ذوي الحاجة إلى النساء، وهو من لا ينتشر عليه، ولا يطيق غشيانهن، ولا يشتهيهن ولا تشتهينه، فعند أبي حنيفة ومالك: ينظر الوجه والكفين، وعند الشافعي وأحمد: ينظر كالمحارم. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (غَيْرَ) بالنصب على الحال من الذكر الذي في (التَّابِعِينَ)، وقرأ الباقون: بالخفض على نعت (التابعين) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 455)، و"التيسير" للداني (ص: 290)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 142)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 248).

{أَوِ الطِّفْلِ} أي: الأطفال {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي: لم يعرفوها؛ لعدم التمييز، فلا حجاب منهم بالاتفاق. والعورة: من العوار: العيب، وتقدم ذكر عورة الرجل والمرأة والأمة، واختلاف الأئمة في ذلك مستوفًى في سورة الأعراف عند تفسير قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26]. {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} كانت المرأة إذا مشت، ضربت برجلها؛ ليسمع صوتُ خلخالها، فنزلت الآية نهيًا عن ذلك (¬1) {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} من التقصير الواقع في أمره ونهيه. {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} قرأ ابن عامر: (أَيُّهُ) بضم الهاء إتباعًا للضمة قبلها بعد حذف الألف للساكنين، ويقف بلا ألف على الخط، وقرأ الباقون: بفتحها؛ للدلالة على الألف المحذوفة وصلًا (¬2)، ويقف أبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (أَيُّهَا) بالألف على الأصل، والباقون: يقفون بلا ألف متابعة للمصحف (¬3). {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بسعادة الدارين. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 290). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 161 - 162)، و"تفسير البغوي" (3/ 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 249). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 455)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 241)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 249).

[32]

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)}. [32] {وَأَنْكِحُوا} أي: زَوِّجوا {الْأَيَامَى مِنْكُمْ} جمع أَيِّم، وهو من لا زوج له من الرجال والنساء، بكرًا كان أو ثيبًا. {وَالصَّالِحِينَ} أي: الخيرين {مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} اتفق الأئمة على أن النكاح سنة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحبَّ فطرتي، فليستنَّ بسنتي (¬1)، ومن سُنَّتي النكاحُ" (¬2)، فإن كان تائقًا يخاف العنت، وهو الزنا، وجب عليه عند أبي حنيفة وأحمد، وقال مالك والشافعي: وهو مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته، ومن لم تتق نفسه إليه، فقال أبو حنيفة وأحمد: النكاح أفضل له من نفل العبادة، وقال مالك والشافعي: بعكسه، وعند الشافعي: إن لم يتعبد، فالنكاح أفضل. واختلفوا في تزويج المرأة نفسَها، فأجازه أبو حنيفة؛ لقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] نهى الرجال عن منع النساء عن النكاح، فدل على أنهن يملكن النكاح، وقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، أضاف النكاح إلى المرأة أيضًا، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بنفسها من وليها، والبكرُ تُستأمر بنفسها، وإذنُها صُماتُها" (¬3)، ¬

_ (¬1) "بسنتي" ساقطة من "ش". (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10378)، وأبو يعلى في "مسنده" (2748)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 77)، عن عبيد بن سعد مرسلًا. (¬3) رواه مسلم (1421)، كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

والاستئمار طلب الأمر من قبلها، ومنعه الثلاثة وقالوا: إنما يزوجها وليها؛ بدليل هذه الآية؛ لأن الله خاطب الأولياء به؛ كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليها، فنكاحُها باطل، ثلاث مرات" (¬1). واختلفوا هل يجبر السيد على تزويج رقيقه إذا طلبوا ذلك؟ فقال أحمد: يلزمه ذلك إلا أمة يستمتع بها، فإن امتنع السيد من الواجب عليه، فطلب العبد البيع، لزمه بيعه، وخالفه الثلاثة. {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي: لا يمنعَنَّ فقرُ (¬2) الخاطب أو المخطوبة من المناكحة؛ فإن في فضل الله غنيةً عن المال. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} ذو سعة لا تنفد نعمته {عَلِيمٌ} يبسط الرزق ويقدر بحكمته. قرأ رويس عن يعقوب بخلاف عنه: (يُغْنِهُمُ اللَّهُ) بضم الهاء والميم، والباقون: بكسرهما (¬3). واختلف الأئمة في الزوج إذا أعسر بالصداق والنفقة والكسوة والمسكن، هل تملك المرأة فسخ نكاحها؟ فقال أبو حنيفة: لا تملك الفسخ بشيء من ذلك، وتؤمر بالاستدانة للنفقة لتحيل عليه، فإذا فرضها ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2083)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1102)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا نكاح إلا بولي، وقال: حسن، وابن ماجه (1879)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) "فقر" ساقطة من "ش". (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 250).

[33]

القاضي، وأمرها بالاستدانة، صارت دينًا عليه، فتتمكن من الإحالة عليه، والرجوع إلى تركته لو مات، وقال مالك: لها الفسخ بإعساره بالصداق قبل الدخول، فيؤمر بطلاقها، فإن امتنع، فرق الحاكم بينهما، ويتشطر صداقها عليه، ويبقى دينًا في ذمته تتبعه به إذا أيسر، ولم يفرق بإعساره به بعد الدخول، وإن أعسر بنفقتها، أُمر بفراقها، فإن امتنع، فرق الحاكم بينهما بطلقة رجعية، وله الرجعة إن أيسر في العدة، وقال الشافعي: إذا أعسر بالنفقة، فلها فسخ النكاح، وكذا بالكسوة والمسكن، ويمهل ثلاثة أيام، وتفسخ صبيحة الرابع، ولها الفسخ بالإعسار بالمهر قبل وطء لا بعده ويسقط به المهر، وقال أحمد: إن أعسر بنفقة أو ببعضها، أو بكسوة أو ببعضها، أو بسكنى، فلها الفسخ، وكذا إن أعسر بمهر حالٍّ قبل الدخول أو بعده، ما لم تكن عالمة بعسرته، فإن فسخت قبل الدخول، سقط المهر، وبعده، يستقر في ذمته، واتفق الشافعي وأحمد على أن الفسخ لا يصح إلا بحكم حاكم، فيفسخ بطلبها (¬1)، أو تفسخ بأمره. ... {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}. [33] {وَلْيَسْتَعْفِفِ} يطلب العفة عن الزنا {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي: ¬

_ (¬1) "بطلبها" زيادة من "ت".

قدرة على النكاح {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} يوسِّع عليهم {مِنْ فَضْلِهِ}. قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشرَ الشباب! من استطاع منكم الباءة، فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء" (¬1). {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} أي: يطلبون عقد الكتابة. {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عبدًا كان أو أمة {فَكَاتِبُوهُمْ} أمر ندب. وسبب نزول الآية: ما روي أن غلامًا لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله الآية، فكاتبه حويطب على مئة دينار، ووهب له منها عشرين، فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب (¬2)، والكتابة بيع سيد رقيقه بمال في ذمته مباح معلوم، وهي مستحبة بالاتفاق، فيقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا من المال، والعبدُ يقبل ذلك، فإذا أدى المالَ، عتق، ويصير العبد أحقَّ بمكاسبه بعد الكتابة، وسميت كتابة؛ لأن العبد كتب عليه الوفاء بالمال، والسيد كتب عليه العتق عند أدائه، وتصح عند أبي حنيفة ومالك بمال حالٍّ ومؤخل ومنجَّم، وعند الشافعي وأحمد تصح في نجمين فأكثر، ولا تجوز عندهما حالًّا، ولا في نجم واحد. {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} كسبًا وأمانة، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1806)، كتاب: الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، ومسلم (1400)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 186). و"تفسير القرطبي" (12/ 184).

مالك: الخير هو القوة على الأداء، وقال بعض الحنفية: المراد بالخير: إقامة الصلاة وأداء الفرائض، وقال بعضهم: المراد: ألَّا يضر بالمسلمين بعد العتق، فإن كان يَضُرُّ بهم، فالأفضل ألَّا يكاتبه، فلو فعل، صح. {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} خطاب للمسلمين، فعند أبي حنيفة ومالك: هو مستحب، وعند الشافعي وأحمد: هو واجب، فمذهب الشافعي ليس له حد، بل عليه أن يحط عنه ما شاء من المال، أو يدفعه إليه، والحط أولى، وفي النجم الأخير أليق، ومذهب أحمد: يجب على السيد أن يؤتيه ربع مال الكتابة إن شاء، ويضعه عنه، وإن شاء قبضه ثم دفعه إليه (¬1). قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم: المكاتب الذي (¬2) يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله" (¬3). واختلفوا فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم، فقال أبو حنيفة ومالك: إن ترك وفاء بما بقي عليه من المكتابة، كان حرًّا، وإن كان فيه فضل، فالزيادة لأولاده الأحرار، وقال الشافعي وأحمد: يموت رقيقًا، وترتفع الكاتبة، سواء ترك مالًا، أو لم يترك؛ كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع. ¬

_ (¬1) "ثم دفعه إليه" زيادة من "ت". (¬2) "الذي" زيادة من "ت". (¬3) رواه النسائي (3120)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب، وعون الله إياهم، وقال حسن، وابن ماجه (2518)، كتاب: العتق، باب: المكاتب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} إماكم {عَلَى الْبِغَاءِ} الزنا. {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} إن طلبن تعففًا وامتناعًا عن الزنا، [و (إِنْ) هنا بمعنى (إِذْ)؛ لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا] (¬1) إن لم يردن التحصن، نزلت في عبد الله بن أبيِّ بن سلول المنافق، كانت له ست جوار يكرههن على الزنا، وضرب عليهن الضرائب -جمع الضريبة، وهي الغلة المضروبة على العبد والجزية-، فشكا بعضهن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت (¬2). قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (الْبِغَاءِ إِنْ) بتحقيق الهمزتين، وأبو عمرو: بإسقاط الهمزة الأولى، وقرأ قالون، والبزي: بتسهيل الأولى بين بين، مع تحقيق الثانية، وأبو جعفر، ورويس: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، واختلف عن قنبل وورش، فروي عن الأول جعل الهمزة الثانية بين بين، وروي عنه إسقاط الهمزة الأولى، وهو الذي عليه الجمهور من أصحابه، وروي عن الثاني إبدال الهمزة الثانية ياء مكسورة، وروي عنه تسهيلها بين بين (¬3). {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ} أي: أموال {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بكسبهن وبيع أولادهن. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) رواه مسلم (3029)، كتاب: التفسير، باب: في قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}، عن جابر -رضي الله عنه- قال: كان عبد الله بن أبي سلول يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئًا، فأنزل الله -عز وجل-. وفي لفظ: أن جارية لعبد الله بن أبي سلول يقال لها مسيلة، وأخرى يقال لها أميمة، فكان يُكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله. وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 187 - 188). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 250 - 251).

[34]

{وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ} على الزنا. {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لهن، والوزرُ على المكرِه. قرأ ابن ذكوان بخلاف عنه: (إِكْرَاهِهِنَّ) بالإمالة. ... {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}. [34] {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} مفصَّلات بالحلال والحرام، والحدود والأحكام. قرأ، ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مُبيِّنَاتٍ) بكسر الياء، والباقون: بفتحها (¬1). {وَمَثَلًا مِنَ} أمثال {الَّذِينَ خَلَوْا} مضوا. {مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: ما ذكر من قصص القرون الماضية. {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} الشرك والكبائر، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحقَ مَنْ قبلهم من المكذبين. ... {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}. [35] {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: صاحب نورهما، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 162)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 251).

ونورُهما: الشمس والقمر، المعنى: هو هادٍ مَنْ فيهما بنوره. {مَثَلُ نُورِهِ} أي: صفة نور الله في قلب المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} [هي الكوة في الجدار غير نافذة، روي أن المراد بالنور الثاني هنا: محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: (مَثَلُ نُورِهِ)؛ أي: نور محمد إذ كان مستودعًا في الأصلاب، وقيل: إن المشكاة هندية معربة. قرأ الدوري عن الكسائي: (كَمِشْكَاةٍ)] (¬1) بالإمالة (¬2) {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراج ضخم، والمعنى: مثل مصباح في مشكاة {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} في قنديل، مثل بها؛ لأن النور فيها أشد، ثم شبه القنديل بالكوكب فقال: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} قرأ أبو عمرو، والكسائي: (دِرِّيءً) بكسر الدال مع المد والهمزة من الدَّرْء، وهو الدفع؛ لأن الكوكب يدفع الشيطان من السماء، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: بضم الدال والمد والهمز، بمعنى: أن الكوكب يدفع الظلام بضيائه، وقرأ الباقون: بضم الدال وتشديد الياء من غير مد ولا همز (¬3)؛ أي: شديد الإنارة، نُسب إلى الدُّر في صفائه وحسنه، وإن كان (¬4) الكوكب أكثر ضوءًا من الدر، لكنه يفضل الكواكب بصفائه؛ كما يفصّل الدرُّ سائرَ الحب. {يُوقَدُ} قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بتاء مفتوحة وفتح الواو والدال وتشديد القاف على الماضي؛ أي: توقد المصباح، وقرأ ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 455)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 252). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 456)، و"تفسير البغوي" (3/ 300)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 253 - 254). (¬4) "كان" ساقط من "ش".

نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بياء مضمومة وإسكان الواو وتخفيف القاف ورفع الدال على التذكير مجهول مستقبل؛ [أي: يوقد المصباح، وقرأ الباقون، وهم: حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: بضم التاء والدال مع التخفيف على التأنيث مجهول مستقبل] (¬1) (¬2)؛ أي: توقد الزجاجة؛ أي: نارها؛ لأن الزجاجة لا توقد. {مِنْ شَجَرَةٍ} أي: زيت شجرة {مُبَارَكَةٍ} كثيرة النفع؛ لأن دهنها الزيت، فهو إدام وفاكهة ومصحة من الباسور {زَيْتُونَةٍ}. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا الزيت وادَّهِنوا بالزيت؛ فإنه من شجرة مباركة" (¬3). {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} بل بينهما؛ كالشام وأجودُ الزيتون زيتونهُ. وقال ابن عباس وغيره: معناه أنها في منكشف من الأرض؛ لتصيبها عين (¬4) الشمس طول النهار، وتستدير عليها، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية، ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية وغربية، تأخذ حظها من الأمرين، فيكون زيتها أضوأ (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 456)، و"تفسير البغوي" (3/ 300)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 332)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 255 - 256). (¬3) رواه الترمذي (1851) كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل الزيت، وابن ماجه (3319)، كتاب: الأطعمة، باب: الزيت، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬4) "عين" ساقطة من "ت". (¬5) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 301)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 196).

[36]

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} لصفائه {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فكأنه لفرط ضيائه. {نُورٌ عَلَى نُورٍ} يعني: نور المصباح على نور الزجاجة. قرأ أبو عمرو (يَكَاد زَّيْتُهَا) بإدغام الدال في الزاي (¬1)، وفائدة جعل المصباح في زجاجة، والزجاجة في كوة غير نافذة، شدة الإضاءة؛ لأن المكان كما تضيق، كان أجمع للضوء، بخلاف الواسع، فالضوء ينتشر فيه، وخص الزجاج؛ لأنه أحكى الجواهر لما فيه، وهذا تمثيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح النبوة فيه، ومن شجرة مباركة شجرة النبوة، يكاد زيتها يضيء: يكاد أمر محمد يتبين للناس أنه نبي، ولو لم يتكلم؛ كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار. {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} لدين الإسلام {مَنْ يَشَاءُ} فإن الأسباب كلها بمشيئته. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} تقريبًا لأفهامهم. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ظاهرًا كان أو خفيًّا. ... {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)}. [36] {فِي بُيُوتٍ} متعلق بما قبله؛ أي: (كَمِشْكَاةٍ) في بيوت. {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي: تُعَظَّم. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 257).

قال ابن عباس: "المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض" (¬1). وقيل: هي أربعة بناها الأنبياء: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، والأقصى بناه داود وسليمان، [بل بناه يعقوب -عليه السلام- كما ورد في الحديث، فلا تغفل عنه] (¬2)، ومسجد المدينة، ومسجد قباء بناهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} يتلى فيها كتابه {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (يُسَبَّحُ) بفتح الباء مجهولًا القائم مقام الفاعل له، فيحسن الوقف على (وَالآصَالِ)؛ لأنك تضمر فعلًا؛ كأنه لما قيل (يُسَبَّحُ لَهُ)، قيل: من يسبحه؟ قيل: يسبحه رجال، ولا يجوز الوقف عليه، وقرأ الباقون بكسر الباء، جعلوا التسبيح فعلًا للرجال (يُسَبِّحُ) (¬3)؛ أي: يصلي له فيها بالغداة والعشي، والمراد: الصلوات المفروضات، فالتي تؤدى بالغداة: صلاة الفجر، والتي تؤدى بالآصال: صلاة الظهر والعصر والعشاءين؛ لأن اسم الأصيل يجمعها. ... ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (1068)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2948). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 162)، و"تفسير البغوي" (3/ 303)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 257).

[37]

{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}. [37] {رِجَالٌ} قيل: خص الرجال بالذكر في هذه المساجد؛ لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المساجد. {لَا تُلْهِيهِمْ} لا تشغلهم {تِجَارَةٌ} هي صنعة التاجر عن بيع وشراء. {وَلَا بَيْعٌ} قال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على يديه. {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} عن الصلاة المفروضة {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} لوقتها. {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} لمستحقيها عند وجوبها؛ لأن مؤخر الصلاة عن وقتها لا يكون مقيمًا لها. {يَخَافُونَ يَوْمًا} هو يوم القيامة {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} وتقلُّبُها تنقُّلُها (¬1) عن أماكنها؛ لهول ذلك اليوم، فتنقلب القلوب في الجوف، وترتفع إلى الحنجرة، ولا تنزل ولا تخرج، وتقلُّب البصر: شُخوصه. ... {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}. [38] {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} اللام في {لِيَجْزِيَهُمُ} متعلقة بـ {يُسَبِّحُ} المعنى: كان تسبيحهم وخوفهم ليثيبهم، وقوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} فيه حذف مضاف تقديره: ثواب أحسن ما عملوا. ¬

_ (¬1) "تنقلها" زيادة من "ت".

[39]

{وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ما لم يستحقوه بأعمالهم. {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة، تركوا كل شغل، وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة، فقال: "هؤلاء الذين أراد الله بقوله: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (¬1). ... {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)}. [39] ثم ضرب لأعمال الكافرين مثلًا فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} هو ما يُرى من ضوء الشمس نصفَ النهار كالماء على وجه الأرض. {بِقِيعَةٍ} جمع قاع، وهو المستوي من الأرض، وفيه يكون السراب. {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} يتوهمه العطشان. {مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} جاء ما غلب على ظنه أنه ماء. {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} مما ظنه، فيزداد عطشًا، فكذلك الكافر، يحسب أن عمله ينفعه، فعند الموت والبعث، لم يغن عنه شيئًا، فيزداد انقطاعًا. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 61)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2607).

[40]

{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} أي: بالمجازاة، والضمير في. {عِنْدَهُ} عائد على العمل. {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} جزاءَ كفره، فألقي في النار. {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لا يشغله حساب عن حساب. ... {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}. [40] {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} عطف على قوله: {كَسَرَابٍ}، وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار؛ أي: أعمالهم في فسادها وجهالتهم فيها كالظلمات. {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} عميق، منسوب إلى اللج؛ أي: ذو لُجًّ، وهو معظم الماء. {يَغْشَاهُ} يعلو البحرَ. {مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ} فوق الموج {مَوْجٌ} آخر؛ لأن الموج يركب بعضه بعضًا؛ لكثرته. {مِنْ فَوْقِهِ} فوق الموج {سَحَابٌ} قرأ البزي عن ابن كثير: (سَحَابُ) بغير تنوين (ظُلُمَاتٍ) بالخفض على الإضافة، وقرأ قنبل عنه: (سَحَابٌ) بالتنوين (ظُلُمَاتٍ) بالخفض على البدل من قوله: (أو كَظُلُمَاتٍ)، وقرأ

الباقون: (سَحَابٌ) (ظُلُمَاتٍ) كلاهما بالرفع والتنوين (¬1)، فيكون تمام الكلام عند قوله: (سَحَابٌ)، ثم ابتدأ. {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} فشبهت أعمال الكفار واغترارهم بها بسراب يغتر به من طلبه، ثم شبهت لسوادها لكفرهم بظلمات بعضها فوق بعض، والمراد؛ ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج على الموج، وظلمة السحاب على الموج، فشبه عمل الكافر بالظلمات، وقلبه بالبحر، وما يغشى قلبَه من الشرك بالموج، والختم على قلبه بالسحاب، فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، وقلبه وجميع أحواله ظلمة، ومصيره إلى جهنم. {إِذَا أَخْرَجَ} يعني الناظر (¬2) {يَدَهُ لَمْ يَكَدْ} لم يقرُبْ من أن {يَرَاهَا} فضلًا أن يراها؛ لشدة الظلمة. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} هداية وإيمانًا في الدنيا. {فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} هداية في الآخرة إلى الجنة. نزلت هذه الآية عامة في جميع الكفار، وقيل: إنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، تَعَبَّدَ في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام، كفر (¬3). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 162)، و"الكشف" لمكي (2/ 139)، و"تفسير البغوي" (3/ 305 - 306)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 359 - 260). (¬2) "يعني الناظر" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 306).

[41]

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)}. [41] {أَلَمْ تَرَ} تنبيه، والرؤية رؤية الفكر. {أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} باسطاتٍ أجنحتَها في الهواء يُصفقن بهن، قيل: خص الطير بالذكر من جملة الحيوان؛ لأنها تكون بين السماء والأرض، فتكون خارجة عن حكم من في السموات والأرض. {كُلٌّ} من المصلين والمسبحين {قَدْ عَلِمَ} اللهُ {صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} وقيل: المعنى: كل مكلف علم عبادته {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}. ... {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}. [42] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: تقديرها وتدبير أمورها وتصريف أحوالها كما يشاء. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} مرجعُ الجميع. ... {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)}. [43] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي} أي: يسوق {سَحَابًا} أي: غيمًا؛ لانسحابه في الهواء.

{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} بين أجزاء الغيم، فيجعله شيئًا وَاحدًا بعد أن كان قطعًا. قرأ أبو جعفر، وورش عن نافع: (يُوَلِّفُ) بفتح الواو من غير همز (¬1). {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} متراكمًا بعضُه فوق بعض. {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} فُتوقِه، جمع خَلَل. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} معناه: ينزل من جبال في السماء، تلك الجبالُ من برد. قال ابن عباس: "أخبر الله تعالى أن في السماء جبالًا من برد" (¬2)، ومفعول الإنزال محذوف تقديره: وينزل من السماء من جبال فيها بردًا، فاستغنى عن ذكر المفعول؛ للدلالة عليه. قال أهل النحو: ذكر الله تعالى (من) ثلاث مرات في هذه الآية، فقوله: (مِنَ السَّمَاءِ) لابتداء الغاية؛ لأن ابتداء الإنزال من السماء، وقوله: (مِنْ جِبَالٍ) للتبعيض؛ لأن ما ينزله الله بعضُ تلك الجبال، وقوله: (مِنْ بَرَدٍ) للتجنيس؛ لأن تلك الجبال جنس البرد (¬3). {فَيُصِيبُ بِهِ} أي: بالبرد {مَنْ يَشَاءُ} فيهلك زرعه وأمواله. {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} فلا يضره. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 457)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 261). (¬2) ذكره عنه البغوي في "تفسيره" (3/ 307)، وذكره القرطبي في "تفسيره" (12/ 289) دون نسبة. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" (18/ 154)، و"تفسير البغوي" (3/ 307).

[44]

{يَكَادُ سَنَا} أي: ضوء {بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} يختطفها من شدة ضوئه. قرأ أبو جعفر: (يُذْهِبُ) بضم الياء وكسر الهاء، فقيل: إن باء (بِالأَبْصَارِ) تكون زائدة؛ كما هي في: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195]، قال ابن الجزري: والظاهر أن تكون بمعنى (مِنْ)؛ كما جاءت في قول الشاعر: شُرْبَ النزيفِ ببردِ ماءِ الحَشْرَجِ (¬1) أي: من برد، ويكون المفعول محذوفًا؛ أي: يذهب النور من الأبصار، وقرأ الباقون: بفتح الياء والهاء (¬2)، وأبو عمرو يدغم الدال من (يَكَادُ) في السين من (سَنَا بَرْقِهِ) (¬3). ... {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}. [44] {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يذهب بأحدهما، ويجيء بالآخر، وينقص من أحدهما، ويزيد في الآخر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التقليب {لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} لأصحاب الاعتبار. ¬

_ (¬1) عجز بيت منسوب إلى الراعي النميري، وعروة بن أذينة، وعمر بن أبي ربيعة، وجميل بن معمر، وصدره: فلثمتُ فاها آخذًا بقرونها وانظر: "الكامل" للمبرد (1/ 381). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 307)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 332)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 262). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 304)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 261).

[45]

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}. [45] {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} أي: من نطفة، والمراد: كل حيوان يشاهد في الدنيا، ولا يدخل فيه الملائكة والجن؛ لأنا لا نشاهدهم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (خَالِقُ) بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وخفض (كُلِّ) بالإضافة، وقرأ الباقون: (خَلَقَ) بفتح اللام والقاف من غير ألف على الفعل، ونصب (كُلَّ) مفعولًا به (¬1). {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحيات، وسمي الزحف على البطن مشيًا؛ اتساعًا؛ لقيامه مقام المشي. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالأناسي والطير. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالبهائم، ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع مثل حشرات الأرض؛ لأنها في الصورة كالتي تمشي على أربع، وتذكير الضمير؛ لتغليب العقلاء، والتعبير بـ (من) عن الأصناف؛ ليوافق التفصيل الجملة، والترتيب؛ لتقديم ما هو أعرق في القدرة. {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} مما ذكر، ومما لم يذكر. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يفعل ما يشاء. واختلاف القراء في ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 457)، و"تفسير البغوي" (3/ 308)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 263).

[46]

الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَّ) كاختلافهم فيهما من {نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} في سورة الحج [الآية: 5]. ... {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}. [46] و {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تقدم تفسير (آيَاتٍ مُبيِّنَاتٍ)، واختلاف القراء فيها، واختلافهم في (يَشَاءُ إِلَى) كاختلافهم في (يَشَاءُ إِنَّ). ... {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)}. [47] ولما خاصم بشر المنافقُ يهوديًّا كان بينهما خصومة في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف؛ فإن محمدًا يحيف علينا، نزل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ} (¬1) يعني: المنافقين {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} لهما. {ثُمَّ يَتَوَلَّى} بالامتناع عن قبول حكمه. {فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} بعد قولهم هذا. {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي: ليسوا بالمخلصين في الإيمان. ... ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 188).

[48]

{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)}. [48] ثم قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} إلى كتابه. {وَرَسُولِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -. {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قرأ أبو جعفر: (لِيُحْكَمَ) بضم الياء وفتح الكاف (¬1)، وكذلك في الحرف الآتي مجهولًا، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الكاف؛ أي: ليحكم الرسولُ بينهم بحكم الله. {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} عن الإتيان إليه؛ خوفًا أن يحكم عليهم. ... {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)}. [49] {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} منقادين بسرعة؛ لثقتهم أنه كما يحكم عليهم بالحق، يحكم لهم أيضًا بالحق. ... {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)}. [50] {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} كفر {أَمِ ارْتَابُوا} شكوا في نبوته؟! هذا استفهام ذم وتوبيخ، أي: هم كذلك. {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي: يميل في الحكم. {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لإعراضهم عن الحق، وطلبهم ما ليس لهم. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 227)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 264).

[51]

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}. [51] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ} نصب خبر (كانَ) المعنى: إنما كان الواجبُ. {الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} أي: إلى كتاب الله {وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} قولك {وَأَطَعْنَا} أمرك، والطاعة: موافقة الأمر طوعًا، وهي تجوز لله ولغيره {وَأُولَئِكَ} أي: القائلون هذا القول {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} البالغون آمالهم في دنياهم وآخرتهم. ... {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)}. [52] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما يأمرانه و {وَيَخْشَ اللَّهَ} على ما صدر عنه من الذنوب {وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الناجون. قرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: (وَيَتَّقِهِ) بكسر القاف وإسكان الهاء على نية الوقف، وحفص: بإسكان القاف واختلاس كسرة الهاء تخفيفًا، وأبو جعفر، ويعقوب، وقالون، وهشام: بكسر القاف واختلاس كسرة الهاء، وأصله (يتقهي)، حذفت الياء التي بعد الهاء؛ لسكونها وسكون الياء قبل الهاء، ولم يعتد بالهاء حاجزًا لسكونها، وبقيت الكسرة تدل عليها، ثم حذفت الهاء الأولى للجزم، وقرأ الباقون: بكسر القاف وإشباع كسرة الهاء وصلتها بياء حالة الوصل (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 457)، و"تفسير البغوي" (3/ 309)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 306 - 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 265).

[53]

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)}. [53] {وَأَقْسَمُوا} يعني: المنافقين {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} والقسم جهد اليمين أبلغُ ما يمكن من الأقسام، فمن قال: أقسم بالله، فقد جهد يمينه. {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينما كنت، نكن معك، لئن خرجت، خرجنا، وإن أقمت، أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد، جاهدنا، فقال الله تعالى: {قُلْ} لهم: {لَا تُقْسِمُوا} لا تحلفوا، تم الكلام، ثم قال: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أي: أمثل من إقسامكم طاعة لا يُشك فيها؛ لأنكم لا تصدقون. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم. ... {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}. [54] {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به؛ مبالغةً في تبكيتهم. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: تتولوا. قرأ البزي: (فَإِن تَّوَلَّوْا) بتشديد التاء (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 326)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 266).

[55]

{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} على محمد - صلى الله عليه وسلم - {مَا حُمِّلَ} من التبليغ. {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} من الطاعة. {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} إلى الحق. {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أي: التبليغ البين، ونُسخت بآية السيف. ... {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)}. [55] ولما اشتد خوف الصحابة، واستبطؤوا النصر، نزل تسليةً لهم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} وهو جواب قسم مضمر تقديره: وعدهم، وأقسم ليستخلفنهم {فِي الْأَرْضِ} (¬1) بأن يجعلهم خلفاءها وساكنيها بعد الكفار متصرفين فيها. {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قرأ أبو بكر عن عاصم: (كَمَا اسْتُخْلِفَ) بضم التاء وكسر اللام مجهول الفاعل (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، ويبتدئ ألفه بالضم، وقرأ الباقون: بفتح التاء واللام معلومًا، ويبتدئون ¬

_ (¬1) روى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (7/ 217) عن أبي العالية، نحوًا منه. وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (8/ 2627) عند تفسيره لهذه الآية.

ألفه بالكسر (¬1)، ضميره يرجع إلى (الله)، المعنى: يستخلفكم استخلافًا كاستخلاف الله داود وسليمان وبني إسرائيل أرضَ الجبارين. {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وهو الإسلام؛ بأن يظهره على جميع الأديان. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قرأ ابن كثير، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: بإسكان الباء وتخفيف الدال؛ من أبدل، وقرأ الباقون: بفتح الباء وتشديد الدال؛ من بدَّل، وهما لغتان (¬2)، وقيل التبديل: تغيير حال إلى حال، والإبدال: رفعُ الشيء وجعلُ غيره مكانه. {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة، وكانوا يصبحون في السلاح، ويبيتون فيه، فأظهر الله دينهم، ونصرهم، وأبدلهم من بعد الخوف أمنًا. {يَعْبُدُونَنِي} فعل مستأنف؛ أي: هم يعبدونني. {لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} أي: يعبدونني موحدين. {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} هذه النعمَ. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} العاصون، وكان أول من كفر بهذه النعمة بعدما أنجز الله وعده الذين قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه فغير الله تعالى ما بهم، وأدخل عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 458 - 459)، و"تفسير البغوي" (3/ 310)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 266). (¬2) المصادر السابقة.

[56]

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)}. [56] {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فيما أمركم به. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوها على رجاء الرحمة. ... {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}. [57] {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ ابن عامر، وحمزة: (يَحْسَبَنَّ) بالغيب، ونصب السين؛ أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسَهم معجزين، وقرأ الباقون: بالخطاب وكسر السين (¬1)؛ أي: لا تحسبن يا محمد الذين كفروا. {مُعْجِزِينَ} أي: فائتين اللهَ {فِي الْأَرْضِ} بأن لا يقدر عليهم. {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} التقدير: الذين كفروا ليسوا معجزين، ومأواهم النار. {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المأوى الذي يصيرون إليه. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 163)، و"تفسير البغوي" (3/ 312)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 267).

[58]

بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)}. [58] قال ابن عباس: وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلامًا من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة؛ ليدعوه، فدخل ورأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} (¬1) هذه اللام لام الأمر. {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: العبيد والإماء، هم. {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} من الأحرار، وليس المراد منهم: الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل الذين عرفوا أمر النساء، ولكن لم يبلغوا. {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} أي: ليستأذنوا في ثلاثة أوقات. {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرحِ ما يُنام فيه من الثياب. {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ} للقيلولة. {مِنَ الظَّهِيرَةِ} إلى وقت الظهر؛ لأنه وقت القيلولة والتكشف. {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} لأنه وقت التجرد للنوم، فهذه الأوقات أوقات خلوة، فالاستئذان لهؤلاء مشروع فيها لهم، ولغيرهم في جميع الأوقات. {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن ¬

_ (¬1) انظر "أسباب النزول" للواحدي (ص: 189).

عاصم: (ثَلاَثَ) بنصب الثاء بدلًا عن قوله: (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) أي: أوقاتَ ثلاثِ عوراتٍ، وقرأ الباقون: بالرفع (¬1)؛ أي: هذه الأوقات ثلاثُ عورات لكم؛ لأن الإنسان يختل ستره فيها، واتفقوا على النصب في قوله: (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) المتقدم؛ لوقوعه ظرفًا، وقرأ أبو عمرو (بَعْد صَّلاَةِ الْعِشَاءِ) بإدغام الدال في الصاد (¬2). {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ} يعنى: العبيد والخدم والصبيان {جُنَاحٌ} إثم في الدخول بغير استئذان {بَعْدَهُنَّ} أي: بعد هذه الأوقات الثلاثة. {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} للخدمة {بَعْضُكُمْ} يطوف. {عَلَى بَعْضٍ} يعني: إن كان بكم وبهم حاجة إلى المخالطة. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الأحكامَ. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيما يشرع لكم. واختلف في حكم الآية، فقال قوم: هي منسوخة (¬3)، قال ابن عباس: "لم يكن للقوم ستور ولا حجاب، وكان الخدم والولائد يدخلون، فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأُمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق، فاتخذ الناس الستور" (¬4)، فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان، وذهب قوم إلى أنها ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 459)، و"تفسير البغوي" (3/ 313)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 268). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 305)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 268). (¬3) في "ت": "هو منسوخ". (¬4) رواه أبو داود (5192)، كتاب: الأدب، باب: الاستئذان في العورات الثلاث، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2632)، والبيهقي في "السنن الكبرى" =

[59]

غير منسوخة، قال سعيد بن جبير: "إن ناسًا يقولون: نسخت، واللهِ ما نُسخت، ولكنها مما تهاون به الناس" (¬1). {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}. [59] {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} أي: الأحرار إذا بلغوا {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} في جميع الأوقات في الدخول عليكم. {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأحرار البالغين. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كرر تأكيدًا ومبالغة في الأمر بالاستئذان. {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}. [60] {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} هي من قعدت عن الحيض والولد؛ لكبرها. ¬

_ = (7/ 97). قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 304) عن إسناد ابن أبي حاتم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. وقال القرطبي في "تفسيره" (12/ 303): هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد بن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنه كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحاري ونحوها. (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (18/ 163).

[61]

{اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي: لا يُردن الرجال؛ لكبرهن. {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} الظاهرة؛ كالملحفة والجلباب الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، فأما الخمار، فلا يجوز وضعه. {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} غير مظهِرات محاسنَهن. {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} عن وضع الثياب. {خَيْرٌ لَهُنَّ} لأنه أبعد من التهمة. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لمقالهن للرجال {عَلِيمٌ} بمقصودهن، وتقدم ذكر الخلاف في النظر إلى العجوز التي لا تشتهى في السورة. ... {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}. [61] {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} كان هؤلاء يتوقَّون مؤاكلة الناس ومجالستهم؛ لأن الأعمى ربما سبقت يده

إلى ما سبقت عين أكيله إليه، والأعرج يأخذ من المجلس أكثر من موضع، والمريض لا يخلو من رائحة يؤذي بها، أو شيء ينجس، فنزلت الآية مبيحة لهم. {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} فيه دلالة على أن يأكل في بيته من مال عياله وزوجته، فيدخل فيها بيوت الأولاد؛ لأن بيت الولد كبيته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتَ ومالُكَ لأبيك" (¬1)، ولذلك لم يذكر الأولاد في الآية. وتقدم استدلال الإمام أحمد بهذا الحديث على أن للرجل أن يأخذ من مال ولده ما شاء ويتملكه في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [الآية: 267]. {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} وهذا فيما ليس مُحرزًا. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وقالون عن نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (بِيُوتِ) و (بِيُوتًا) و (بِيُوتِكُمْ) و (بِيُوتِهِمْ) وما جاء منه بكسر الباء حيث وقع، والباقون: بالضم (¬2)، وقرأ حمزة: (إِمَّهَاتِكُمْ) بكسر الهمزة والميم، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3530)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، وابن ماجه (2292)، كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 204)، وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 80)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 245 - 246).

والكسائي بكسر الهمزة فقط، وذلك في الوصل، وقرأ الباقون: بضم الهمزة وفتح الميم، واتفقوا على الابتداء كذلك (¬1). {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} هو بيت موكله، فله أن يأكل من زرعه وضرعه إذا احتاج، ولا يدخر، والمفاتيح: الخزائن. {أَوْ صَدِيقِكُمْ} الصديق: الذي صدقك في المودة، قال ابن عباس: "نزلت في الحارث بن عمرو، خرج غازيًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلف مالك يزيد على أهله، فلما رجع، وجده مجهودًا، فسأله عن حاله، فقال: تحرَّجْتُ أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله الآية" (¬2). {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا} مجتمعين {أَوْ أَشْتَاتًا} متفرقين، نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده حتى يجد ضيفًا يأكل معه (¬3). {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} من هذه البيوت للأكل أو غيره {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: على أهل دينكم، وقال ابن عباس: "معناه إذا دخلت المسجد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" (¬4) {تَحِيَّةً} مصدر؛ أي: تحيون أنفسكم تحية. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وصفت بالبركة والطيب؛ لما فيها من ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 94)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 269). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 225). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" (18/ 170)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 190). (¬4) رواه الطبري في "تفسيره" (18/ 174)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2650)، والحاكم في "المستدرك" (3514)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (8863).

[62]

الأجر والثواب؛ لأن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} كرره ثالثًا؛ لمزيد التأكيد. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الحقَّ في الأمور. ... {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)}. [62] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} مبتدأ، خبره {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ثم أكد الحصر بقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ} أي: مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} نحو الجهاد والعيد والجمعة، والتشاور في أمر نزل {لَمْ يَذْهَبُوا} لم يتفرقوا {حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} في الانصراف، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد رجل الخروج، وقف حيث يراه، فيأذن له إن شاء، ثم أكد ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} فأفاد أن المستأذن مؤمن، وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ} في الانصراف {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} قصدهم. قرأ أبو عمرو: (لِبَعْض شَّأْنِهِمْ) بإدغام الضاد في الشين في هذا الحرف فقط (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 305)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 270).

[63]

{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} لا اعتراض عليك. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} إن خرجوا بإذنك لخروجهم عنك. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لفرطات العباد {رَحِيمٌ} بالتيسير عليهم. ... {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}. [63] {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا: يا محمد، ولكن فخموه، وقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، في لين وتواضع، وهذه الآية مخاطبة لجميع معاصري محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن عباس: "معناه: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه؛ فإن دعاءه موجب، ليس كدعاء غيره" (¬1). {قَدْ يَعْلَمُ} أي: قد علم {اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ} يخرجون واحدًا بعد واحد {لِوَاذًا} يلوذ بعضهم ببعض يتستر به. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ} أي: يميلون {عَنْ أَمْرِهِ} أي: عن أمر الله تعالى، أو أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: محنة وبلاء. {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 230).

[64]

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}. [64] {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلقًا وملكًا. {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} من الأحوال والأعمال، المعنى: عليه محيط بجميع الأشياء. {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} جميعًا، الخطاب للمنافقين على سبيل الالتفات. قرأ يعقوب: (يَرْجِعُونَ) بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون: بضم الياء وفتح الجيم (¬1). {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} بالمجازاة عليه. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْزِلوا النساءَ الغرفَ، ولا تعلموهنَّ الكتابة، وعلموهن الغزلَ وسورة النور" (¬2)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 459)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 270). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5713)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 302)، والحاكم في "المستدرك" (3494)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2453)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (14/ 224)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 93): فيه محمد بن إبراهيم الشامي، قال الدارقطني: كذاب.

فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيْرِ القُرآنِ تَأليف الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ المولود سنة (860 هـ) - والمتوفى سنة (927 هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى المُجَلَّد الخامس اعتَنَى بِهِ تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا نُوْرُ الدِّيْن طَالب إصدَارات وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ دولة قطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فَتْحُ الرَّحْمَنَ

حُقُوق الطَّبع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطَبعَة الأولى، 1430 هـ - 2009 م قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 518/ 14 هَاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

سورة الفرقان

سُوْرَةُ الفُرقَانِ مكية، وآيها: سبع وسبعون آية، وحروفها: ثلاتة آلاف، وسبع مئة وثلاثة وثمانون حرفًا، وكلمها: ثماني مئة واثنتان وتسعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}. [1] {تَبَارَكَ} وزنه تفاعَلَ، ومعناه: تَعَظَّم وتقدَّس، وقيل: معناه: جاء بالبركة، فعل مختص بالله تعالى، لم يستعمل في غيره {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} القرآن، سمي فرقانًا؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر. {عَلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -. {لِيَكُونَ} العبد، أو الفرقان {لِلْعَالَمِينَ} أي: الجن والإنس ممن عاصره، أو جاء بعده {نَذِيرًا} محذرًا. ... {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}. [2] {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بدل من {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ}. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} رَدٌّ على النصارى.

[3]

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} ردٌّ على قريش في قولهم: إن لله شريكًا. {وَخَلَقَ} أحدثَ {كُلَّ شَيْءٍ} من المخلوقات. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} هيأه لما أراد منه. ... {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)}. [3] {وَاتَّخَذُوا} يعني: عبدة الأوثان. {مِنْ دُونِهِ} تعالى {آلِهَةً} يعني: الأصنام. {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لأن عبدتهم ينحتونهم ويصورونهم. {وَلَا يَمْلِكُونَ} لا يستطيعون. {لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} أي: دفع ضر، ولا جلب نفع. {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً} أي: إماتة وإحياء {وَلَا نُشُورًا} بعثًا بعد الموت، ومن كان كذلك، فكيف يعبد؟! لأن الإله يجب أن يكون قادرًا على البعث والجزاء. ... {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)}. [4] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: النضر بن الحارث وأصحابه: {إِنْ هَذَا} ما هذا القرآن {إِلَّا إِفْكٌ} كذب {افْتَرَاهُ} اختلقه محمد. {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني: اليهود؛ فإنهم يلقون إليه أخبار

[5]

الأمم، وهو يعبر عنه بعبارته، وقال ابن عباس: "أشاروا إلى عبيد كانوا للعرب من الفرس، أحدهم أبو فكيهة مولى الحضرميين، وجبر ويسار وعداس وغيرهم، كانوا بمكة، زعم الكفار أن محمدًا اختلق القرآن، وأعانوه على اختلاقه" (¬1). {فَقَدْ جَاءُوا} يعني؛ قائلي هذه المقالة. {ظُلْمًا} كفرًا {وَزُورًا} كذبًا؛ لنسبتهم القرآن إلى غير قائله. ... {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}. [5] {وَقَالُوا} المشركون؛ القرآنُ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ما سطره المتقدمون {اكْتَتَبَهَا} انتسخها محمد؛ أي: طلب أن تُكتب له؛ لأنه كان لا يكتب. {فَهِيَ تُمْلَى} أي: تقرأ {عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} غدوةً وعشيًّا. ... {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)}. [6] فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ} الله (¬2). {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} الغيب. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 322)، و"تفسير القرطبي" (10/ 178). (¬2) لفظ الجلالة "الله" لم يرد في "ت".

[7]

{فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأنه أعجزكم بفصاحته. {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} فلذلك لم يعجِّل عقوبتكم مع كمال قدرته. ... {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)}. [7] {وَقَالُوا} أي: الكافرون إنكارًا وسخرية منهم به: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} بزعمه {يَأْكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} لطلب المعاش كما نمشي، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة. وتقدم اختلاف القراء في قوله: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ) في سورة الكهف عند قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49]، وكتبت اللام في المصحف مفردة من قوله: (مَالِ هَذَا) واتباعه سنة، أما أكله الطعام، فلأنه بشر، ومشيه في الأسواق، فلقضاء حوائجه تواضعًا، ولا ينافيان الرسالة، ثم جاؤوا بحرف التحضيض فقالوا: {لَوْلَا} هَلَّا {أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ} نصب جواب التحضيض. {مَعَهُ نَذِيرًا} يصدقه. ... {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)}. [8] {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ} أي: ينزل عليه {كَنْزٌ} من السماء ينفقه، فيستغني عن تحصيل المعاش.

[9]

{أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} بستان {يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (نَأْكُلُ) بالنون؛ أي: نأكل نحن منها، وقرأ الباقون: بالياء (¬1)؛ أي: يأكل هو، المعنى: ليس مَلَكًا ولا مَلِكًا ولا غنيًّا، فلا نتبعه؛ لأنه دوننا. {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} الذين أشير إليهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} قد سُحر، فغُلب على عقله. ... {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)}. [9] {انْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} يعني: الأشباه بالمسحور والكاهن والشاعر وغيره {فَضَلُّوا} عن الحق. {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} طريقًا إليه. ... {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)}. [10] {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ} في الدنيا. {خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} أي: مما قالوا، ثم بين ذلك الخير، فقال: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} بيوتًا مشيدة. قرأ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 462)، و"تفسير البغوي" (3/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 275).

[11]

ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (وَيَجْعَلُ) برفع اللام استئنافًا، وقرأ الباقون: بجزمها عطفًا على محل (جَعَلَ) لأنه جواب الشرط (¬1)؛ لأن التقدير: تبارك الذي إن يَشَأْ يجعلْ، وقرأ أبو عمرو: (لَك قُّصُورًا) و (رَبُّك قَّدِيرًا) بإدغام الكاف في القاف فيهما (¬2). قال - صلى الله عليه وسلم -: "عَرَضَ عليَّ ربي ليجعلَ لي بطحاءَ مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبعُ يومًا، وأجوع يومًا، أو قال: ثلاثًا فإذا جُعت، تضرعت إليك، وذكرتك، وإذا شبعتُ، حَمِدْتُك وشكرتك" (¬3). ... {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)}. [11] {بَلْ كَذَّبُوا} بل أتوا أعجب من ذلك كله، وهو تكذيب. {بِالسَّاعَةِ} بالقيامة، فكيف يصدقونك. {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} نارًا ملتهبة. قرأ أبو عمرو: (بِالسَّاعَة سَّعِيرًا) بإدغام التاء في السين (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 163)، و"تفسير البغوي" (3/ 323)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 376). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 306)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 376). (¬3) رواه الترمذي (2347)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الكفاف والصبر عليه، وقال: حديث حسن، وعلي بن يزيد ضعيف الحديث، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 254)، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-. (¬4) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 306)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 276).

[12]

{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)}. [12] {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي: إذا قابلتهم، وصاروا بإزائها. {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} هو الصوت الذي يهمهم به المغتاظ {وَزَفِيرًا} هو الصوت من الصدر، روي أن جهنم تزفر يوم القيامة، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه (¬1). ... {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)}. [13] {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} أي: تضيق عليهم إذا ألقوا فيها، فيكون أشدَّ لعذابهم؛ فإن الكربَ مع الضيق، والرَّوْحَ مع السَّعة، فلذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض. قرأ ابن كثير: (ضَيْقًا) بإسكان الياء مخففة، والباقون: بكسرها مشددة (¬2). {مُقَرَّنِينَ} مُصَفَّدين، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} ويلًا. ... {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)}. [14] في الحديث: "أول من يُكسى حُلَّةً من النار إبليسُ، فيضعها على ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 324)، وابن كثير في "تفسيره" (3/ 312)، عن عبيد بن عمير. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 462)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 276).

[15]

حاجبيه، ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه، وهو يقول: واثبوره، وهم ينادون ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فينادي: يا ثبوره، وينادون: يا ثبورهم" فيقال لهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا} (¬1) لأن عذابكم كثير لا يفنى. {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} كعذابكم. ... {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)}. [15] {قُلْ أَذَلِكَ} المذكور من الوعيد وصفة النار. {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ} أي: وُعِدَها {الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ} معدةً في علمه تعالى {جَزَاءً وَمَصِيرًا} ثوابًا ومقرًّا. ... {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)}. [16] {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} من النعيم. {خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} مطلوبًا يطلبه المؤمنون بقولهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194]. ... ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 152)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (34168)، والطبري في "تفسيره" (18/ 188)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 255 - 256)، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[17]

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)}. [17] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} أي: واذكر يوم نحشرهم. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (يَحْشُرُهُمْ) بالياء، والباقون: بالنون (¬1). {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الملائكة، وعيسى، وعزير، والجن، وقيل: الأصنام. {فَيَقُولُ} تعالى للمعبودين إثباتًا للحجة على العابدين. قرأ ابن عامر: (فَنَقُولُ) بالنون، والباقون: بالياء (¬2). {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} أخطؤوا الطريق. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَأَنْتُمْ) كاختلافهم فيهما من {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ}، واختلافهم في الهمزتين من {هَؤُلَاءِ أَمْ} كاختلافهم فيهما من {هَؤُلَاءِ أَمْ}، وكلاهما في سورة الأنبياء. ... {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)}. [18] {قَالُوا سُبْحَانَكَ} نزهوا الله من أن يكون معه آلهة {مَا كَانَ يَنْبَغِي} ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 463)، و"التيسير" للداني (ص: 153)، و"تفسير البغوي" (3/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 277). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 163)، و"تفسير البغوي" (3/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 278).

[19]

ما يجوز ولا يستقيم {لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} قرأ أبو جعفر: (نُتَّخَذَ) بضم النون وفتح الخاء، فيكون (مِنْ أَوْلِيَاءَ) حالًا، و (مِنْ) زائدة لمكان النفي المتقدم؛ كما تقول: ما اتخذتُ زيدًا من وكيل، والمعنى: ما كان لنا أن نُعبد من دونك، ولا نستحق الولاء ولا العبادة، وقرأ الباقون: بفتح النون وكسر الخاء (¬1)؛ أي: ما جاز أن نواليهم ليعبدونا. {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} في الدنيا بأنواع النعم. {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} تركوا ذكر الله {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} هَلْكى، وأصله من البور، وهو الفساد، ومنه: بوار السلعة، وهو كسادها. ... {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)}. [19] {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} خطاب للكفار {بِمَا تَقُولُونَ} بقولكم فيهم: إنهم آلهة، وروي عن قنبل (بِمَا يَقُولُونَ) بالغيب (¬2)؛ أي: بقولهم: (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا) إلى آخره {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} قرأ حفص عن عاصم: (تَسْتَطِيعُونَ) بالخطاب؛ يعني: للعابدين، وقرأ الباقون: بالغيب (¬3)؛ يعني: للمعبودين. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 326)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 333)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 279). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 326)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 333)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 279). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 334)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 279).

[20]

{صَرْفًا} دفعًا للعذاب، وقيل: حيلة {وَلَا نَصْرًا} فيعينكم عليه؛ أي: أنتم وهم عجزة عن جلب نفع، أو دفع ضر. {وَمَنْ يَظْلِمْ} يشرك {مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} هي النار. ... {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}. [20] {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} تقديره: وما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين إلا آكلين الطعام، وماشين في الأسواق، وجاز حذفه لدلالة (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عليه، وهو جواب لقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}. {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ابتلاء ومحنة، وهذا على العموم في جميع الناس، مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض؛ بأن يقول المريض: لو شاء الله، لجعلني مثل الصحيح، والغني فتنة للفقير، والفقيرُ الشاكر فتنة للغني، والرسولُ المخصوص بكرامة النبوة فتنةٌ لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك الحكماء وحكام العدل. {أَتَصْبِرُونَ} علة للجَعْل، والتوقيف بتاء (تَصْبِرُونَ) خاص للمؤمنين المحققين، فهو لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: جعلنا بعضكم لبعض فتنة؛ لنعلم أيكم يصبر على البلاء.

[21]

{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} فيجازي كلًّا بعمله، وهو وعد للصابرين، ووعيد للعاصين. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نظر أحدُكم إلى من فُضِّلَ عليه من المال والجسم، فلينظرْ إلى مَنْ هو دونَه في المال والجسم" (¬1). ... {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)}. [21] {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أي: لا يؤمنون بالبعث، فلا يخافون عذابنا. {لَوْلَا} هَلَّا {أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} فتخبرنا أن محمدًا صادق. {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فيخبرنا بذلك، وجواب القسم محذوف. {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} بالكفر. {وَعَتَوْا} طغوا، والعتو: أشدُّ الكفر، وأفحشُ الظلم. {عُتُوًّا كَبِيرًا} بالغًا أقصى مراتبه؛ لطلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به. ... ¬

_ (¬1) رواه هنَّاد بن السَّري في "الزهد" (1/ 47)، وأبو يعلى في "مسنده" (6261)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4574)، والبغوي في "تفسيره" (3/ 327)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بهذا اللفظ. ورواه البخاري (6125)، كتاب: الرقاق، باب: لينظر إلى من هو أسفل منه، ومسلم (2963)، في أول كتاب: الزهد والرقائق، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ: "المال والخلق" بدل "المال والجسم".

[22]

{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)}. [22] {يَوْمَ} أي: واذكر يوم. {يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} عند الموت {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} أي: الكافرين، المعنى: أن الملائكة تمتنع ثَمَّ من بشرى المجرمين بالجنة، وتخصها بالمؤمنين. {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} أي: تقول الملائكة لهم: حرامًا محرمًا عليكم دخول الجنة. ... {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}. [23] {وَقَدِمْنَا} قصدنا {إِلَى مَا عَمِلُوا} أي: الكفار. {مِنْ عَمَلٍ} من الخير؛ كصدقةٍ وصلةِ رحمٍ في الدنيا. {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً} هو ما يُرى من الغبار في شعاع الشمس الداخل من الكوة. {مَنْثُورًا} مفرقًا. ... {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}. [24] {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ} يوم يستقرون فيها. {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} من هؤلاء المشركين.

[25]

{وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} موضعَ القيلولة، وهو الاستكان نصفَ النهار في الحر، وإن لم يكن نوم؛ لأنه لا نوم في الجنة. روي أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة، قال ابن مسعود: "ولا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يَقيل أهلُ الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار" (¬1). ... {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}. [25] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي: عن الغمام، وهو الغيم الأبيض الرقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم. قرأ أبو عمرو، والكوفيون: (تَشَقَّقُ) بتخفيف الشين على حذف إحدى التاءين، وقرأ الباقون: بالتشديد؛ أي: تتشقق، فأدغم (¬2). {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} قرأ ابن كثير: (وَنُنْزِلُ) بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة، مع تخفيف الزاي ورفع اللام، ونصب (الملائكةَ) مفعولًا؛ من (أَنْزَلَ) إخبارًا عن الله تعالى، وهي كذلك في المصحف المكي، وقرأ الباقون: (وَنُزِّلَ) مجهولًا بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام، ورفع (الملائكةُ) فاعلًا؛ من (نَزَلَ)، وكذلك هي في مصاحفهم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: 463)، والحاكم في "المستدرك" (3516). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 464)، و"تفسير البغوي" (3/ 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 281). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 464)، و"التيسير" للداني (ص: 164)، =

[26]

{تَنْزِيلًا} في ذلك الغمام، روي أنه تنشق سماء سماء، وتنزل الملائكة بأيديهم صحائف أعمال العباد (¬1). ... {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)}. [26] {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} أي: الملك حقًّا يوم القيامة هو ملك الرحمن، لا مَلِكَ يقضي غيرُه. {وَكَانَ} ذلك اليوم {يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} صعبًا، وعلى المؤمنين يسيرًا. ... {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)}. [27] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} أي: الكافر {عَلَى يَدَيْهِ} ندمًا على تفريطه في جنب الله تعالى، والظالم هو عقبة بن أبي معيط، وذلك أنه كان أسلم، أو جنح إلى الإسلام، وكان أبي بن خلف خليلًا له، فنهاه عن الإسلام، فقبل نهيه، فنزلت الآية فيهما (¬2)، فقتل عُقبة يوم بدر صبرًا (¬3)، وأما أبي بن ¬

_ = و"تفسير البغوي" (3/ 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 281). (¬1) ذكره الزمخشري في "الكشاف" (4/ 450). (¬2) انظر: "أسباب نزول" للواحدي (ص: 192). (¬3) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (3989)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11986) عن ابن عباس، وفيه: فقام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقتله. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (5/ 269).

خلف، فقتله النبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بيده (¬1)، روي أنه يأكل يديه حتى تبلغ مرفقيه، ثم يأكل هكذا، كما نبتتا (¬2)، أكلهما تحسرًا. {يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} في الدنيا {مَعَ الرَّسُولِ} محمد {سَبِيلًا} طريقًا إلى الجنة، وهو الإيمان. قرأ أبو عمرو: (يَا لَيْتَنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3)، وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (اتَّخَذْتُ) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بإدغامها (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (3263)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/ 258) باب: شدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليأس، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، به، وعندهما: أن أبيًّا كان قد حلف وهو بمكة ليقتلنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حلفته قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل أنا أقتله إن شاء الله"، فأقبل أبي متقنعًا في الحديد وهو يقول: إن نجوت لا نجا محمد، فحمل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير، يقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترقوة أبي بن خلف من فُرجة بين سابغة الدرع والبيضةِ، فطعنه بحربته، فوقع أبيُّ عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور. فقالوا: ما أجزعك؟ إنما هو خدش، فذكرهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنا أقتل أبيًّا" ثم قال: والذي نفسي بيده، لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون. فمات إلى النار، فسحقًا لأصحاب السعير. (¬2) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 330)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 471) عن عطاء. وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (8/ 360) عن الضحاك. (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 165)، و"تفسير البغوي" (3/ 330)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 283). (¬4) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 283).

[28]

{يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)}. [28] {يَاوَيْلَتَى} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف (¬1): (يَا وَيْلَتَى) بالإمالة، بخلاف عن الأول (¬2) {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا} يعنى: أُبَيَّ بنَ خلف. {خَلِيلًا} والخلة: هي ألَّا تكون لطمع، ولا لخوف، بل في الدين. ... {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)}. [29] {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} الإيمان {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} مع الرسول، وهذا آخر كلام الظالم، وهذه الآية عامة في كل متحابِّين اجتمعا على معصية الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم -: "المرءُ على دينِ خليله، فلينظرْ أحدُكم من يُخالل" (¬3). {وَكَانَ الشَّيْطَانُ} وهو كل متمرد عاتٍ من الإنس والجن {لِلْإِنْسَانِ} المطيعِ له {خَذُولًا} والخذلان: تركُ النصرة، فيتبرأ منه عند نزول العذاب والبلاء. ¬

_ (¬1) "وخلف" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 464)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 283). (¬3) رواه أبو داود (4833)، كتاب: الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس، والترمذي (2378)، كتاب: الزهد، باب: (45)، وقال: حسن غريب، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 334)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[30]

{وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)}. [30] {وَقَالَ} أي: ويقول {الرَّسُولُ} محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم: {يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي} قريشًا {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} متروكًا. روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من عَلَّقَ مُصْحَفًا، ولم يتعاهَدْه، جاء يوم القيامة متعلِّقًا به يقول: يا رَبِّ! هذا اتخذني مهجورًا، اقض يا ربِّ بيني وبينه" (¬1). قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، والبزي عن ابن كثير، وروح عن يعقوب: (قَوْمِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). ... {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}. [31] ثم سلَّاه عن فعل قومه بأن أعلمه أن غيره من الرسل كذلك، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ} أي: وكما {جَعَلْنَا} لك يا محمد عدوًا من المشركين، جعلنا. {لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} أي: أعداء {مِنَ الْمُجْرِمِينَ} المشركين، فأنت كالأنبياء في البلاء، وأنا ناصركم. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} والباء في (بِرَبِّكَ) للتأكيد، المعنى: اكتف بربك؛ فإنه ناصرك وهاديك. ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي، كما ذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 459). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 464 - 465)، و"التيسير" للداني (ص: 165)، و"للنشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 335)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 284).

[32]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)}. [32] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ} أي: أُنزل {عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} كالتوراة والإنجيل والزبور، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ} أي: نزل (¬1) كما أردناه {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: أنزلناه مفرقًا؛ ليقوى بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه؛ لأن حاله يخالف حال موسى وعيسى وداود؛ حيث كان أميًّا، وكانوا يكتبون، فلو ألقي إليه جملة، تَعَيَّا بحفظه، ولأن نزوله بحسب الوقائع، ومنه الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه؛ ليكون أوعى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأيسر على العامل به. قرأ ورش عن نافع: (فُوَادَكَ) بفتح الواو بغير همز، والباقون: بالهمز (¬2). {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} أنزلنا بعضه في إثر بعض، وبيناه تبيينًا. ... {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}. [33] {وَلَا يَأْتُونَكَ} يا محمد هؤلاء الكفار {بِمَثَلٍ} يضربونه لك جدلًا {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} المبطل لما جاؤوا به {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} بيانًا، والتفسير: هو كشف ما قد غُطِّي. ¬

_ (¬1) "نزل" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 284).

[34]

{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}. [34] ثم ذكر ما لهؤلاء المشركين فقال: {الَّذِينَ} أي: هم الذين {يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} فيساقون ويجرون. {إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} منزلة {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أخطأ طريقًا. ... {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)}. [35] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}. معينًا، وهو من تحمل الوزر؛ أي: ثقل الحال. ... {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)}. [36] {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} هم القبط، وتقديره: فأَنْذَرا، فكذبوهما {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} أهلكناهم إهلاكًا. ... {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)}. [37] {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} أي: نوحًا، ومن كذب رسولًا

[38]

واحدًا، فقد كذب جميع الرسل، فلذلك ذكر بلفظ الجمع. {أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} عبرة يتعظون بها. {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} في الآخرة. {عَذَابًا أَلِيمًا} سوى ما حل بهم من عاجل العذاب. ... {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)}. [38] {وَعَادًا وَثَمُودَ} عطف على (هم) في {وَجَعَلْنَاهُمْ} قرأ حمزة، ويعقوب، وحفص عاصم: (وَثَمُودَ) بنصب الدال غير منون، والباقون: بالتنوين (¬1). {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} هو بئر لم تطو بالحجارة، وكان أصحابه قوم يعبدون الأصنام، فأرسل إليهم شعيب، فكذبوه، فخسف بهم وبمنازلهم وأموالهم، وانهارت بئرهم، وقيل: كان نبيهم حنظلة بن صفوان، فقتلوه، فأهلكوا، كما تقدم تفسيره (¬2) في سورة الحج عند قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الآية: 45] وقيل غير ذلك، وقيل: الرس: المعدن، وجمعه رساس. {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ} أي: أهلكنا بين عاد وأصحاب الرس. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 337)، و"التيسير" للداني (ص: 125)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 286). (¬2) "تفسيره" ساقطة في "ت".

[39]

{كَثِيرًا} لا يعلمهم (¬1) إلا الله. ... {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)}. [39] {وَكُلًّا} من المهلَكين {ضَرَبْنَا} بينا {لَهُ الْأَمْثَالَ} البراهين على الإيمان، ولم نهلكهم من غير إنذار. {وَكُلًّا} منهم بعد التكذيب {تَبَّرْنَا} دمرنا {تَتْبِيرًا} وكلُّ مكسَّرٍ كزجاج أو ذهب أو فضة تبرٌ. ... {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)}. [40] {وَلَقَدْ أَتَوْا} يعني قريشًا مروا في متاجرهم إلى الشام. {عَلَى الْقَرْيَةِ} يعني: سدوم، عظمى قرى قوم لوط. {الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} الرمي بالحجارة. {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} فيتفكرون فيؤمنون. واختلاف القراء في الهمزتين من (السَّوْءِ أَفَلَمْ) كاختلافهم فيهما من (هَؤُلاَءِ آلِهَةً) في سورة الأنبياء. {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} لا يخافون بعثًا، فلا يؤمنون. ... ¬

_ (¬1) في "ت": "يعلمها".

[41]

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)}. [41] {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} أي: ما يتخذونك {إِلَّا هُزُوًا} مهزوءًا به. قرأ حفص عن عاصم: (هُزُوًا) بفتح الواو منونًا من غير همز، والباقون: بالهمز، وحمزة وخلف يسكنان الزاي (¬1)، نزلت في أبي جهل، كان إذا مر بأصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا استهزاء به: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬2) ليثبت الحجة علينا. ... {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)}. [42] {إِنْ كَادَ} محمد {لَيُضِلُّنَا} أي: قد قارب أن يصرفنا. {عَنْ} عبادة {آلِهَتِنَا} لفرط جهاده في الدين. {لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} لصرفنا عن عبادتها، ثم تهددهم فقال: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} أخطأُ طريقًا هم أم المؤمنون. ... ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 286 - 287). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 334).

[43]

{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)}. [43] ثم وبخ كل من عبد غير الله تعالى فقال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى حجرًا أحسن منه، رمى به، وعبد الآخر. قرأ نافع، وأبو جعفر: (أَرَأَيْتَ) بتسهيل الهمزة الثانية بين بين، وقرأ الكسائي: بحذفها، وروي عن ورش: إبدالها ألفًا خالصة، وإذا أبدلها، مدّ؛ لالتقاء الساكنين مدًّا مشبعًا، وقرأ الباقون: بالهمز (¬1). {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} يحفظه من اتباع هواه. **** {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}. [44] {أَمْ تَحْسَبُ} بل أتحسب {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} ما تقول سماع طالب الإفهام {أَوْ يَعْقِلُونَ} ما يعاينون من الحجج. {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} بالجهل بالمنافع. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} أَخْطَأُ طريقًا؛ لأن الأنعام تهتدي لمراعيها، وهم على خلاف ذلك. ... {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)}. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 287).

[45]

[45] {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} ألم تنظر إلى صنعه، ومعناه: تنبيه، والرؤية هاهنا رؤية القلب. {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي: بسطه؛ يعني: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؛ لأنه لا شمس معه، وهو أطيب الأحوال، ولذلك وصف به الجنة فقال: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30]، وقيل: هو إلى الزوال، والفيء من الزوال إلى الغروب؛ لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب. {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} دائمًا لا شمس معه. {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} يبين معنى الظل ونفعه؛ لأنه لولا الشمس، لما عرف الظل، ولولا النور، لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها. ... {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)}. [46] {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} أي: نسخناه بها. {قَبْضًا يَسِيرًا} أي: على مهل، والقبض: جمعُ المنبسطِ من الشيء، معناه: أن الظل يعم جميع الأرض، فإذا طلعت الشمس، قبض الله الظل جزءًا فجزءًا. ... {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)}. [47] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} ساترًا بظلمته.

[48]

{وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} راحة لأبدانكم. {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} ينتشر فيه الخلق للمعاش. ... {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)}. [48] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} قرأ ابن كثير: (الرِّيحَ) على الإفراد، وقرأ الباقون: (الرِّيَاحَ) على الجمع (¬1) {بُشْرًا} ناشرات للسحاب، جمع نشور. قرأ ابن عامر: بالنون وضمها وإسكان الشين على التخفيف، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بالنون وفتحها وإسكان الشين على أنه مصدر وصف به، وقرأ عاصم: بالباء الموحدة وضمها وإسكان الشين تخفيف بشر جمع بشور بمعنى مبشر، وقرأ الباقون: بالنون وضمها وضم الشين على المعنى الأول (¬2). {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدامَ المطر. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} والطهور: هو الباقي على أصل خلقته من ماء المطر والبحر والعيون والآبار، على أي صفة كان؛ من عذوبة وملوحة، وحرارة وبرودة وغيرها. وما تغير بمكثه، أو بطاهر لا يمكن صونه عنه؛ كالتراب والطحلب ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 288). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 465)، و"التيسير" للداني (ص: 110)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 288 - 289).

وورق الشجر ونحوها، فهو طاهر [في نفسه، مطهر لغيره، يرفع الأحداث، ويزيل الأنجاس بالاتفاق، فإن تغير عن أصل خلقته بطاهر] (¬1) يغلب على أجزائه مما يستغني عنه الماء غالبًا، لم يجز التطهير به عند الثلاثة، وجوز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير بالزعفران ونحوه من الطاهرات، ما لم تزل رقته، وقال أيضًا: بجواز إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة؛ كالخل وماء الورد ونحوهما، وخالفه الثلاثة، ومحمد بن الحسن، وزفر، واتفقوا على أنه إذا تغير الماء بالنجاسة، نجس، قل أو كثر، والماء المستعمل: وهو ما أزيل به حدث، لا يطهر الأحداث عند الثلاثة، وقال مالك: يجوز الوضوء بماء توضيء به مرة مع الكراهة، وإذا بلغ الماء قلتين، وخالطته نجاسة، فقال الشافعي وأحمد (¬2): لا ينجس إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وقال أبو حنيفة: ينجس الماء بملاقاة النجاسة ما لم يكن عشرة أذرع في مثلها، وقال مالك: لا ينجس الماء بوقوع النجاسة فيه ولو كان قليلًا ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، وهو رواية عن أحمد، وقدر القلتين خمس مئة رطل عراقي تقريبًا، وأربع مئة وستة وأربعون رطلًا وثلاثة أسباع رطل مصري، ومئة وسبعة أرطال وسبع رطل دمشقي، وتسعة وثمانون رطلًا وسبعا رطل حلبي، وثمانون رطلًا وسبعا رطل ونصف سبع رطل قدسي، ومساحتهما مربعًا ذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا ومدورًا، وذراع طولًا وذراعان ونصف ذراع عمقًا، والمراد: ذراع اليد، والرطل مئة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وهو سبع القدسي وثمن ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) "وأحمد" زيادة من "ت".

[49]

سبعه، وسبع الحلبي وربع سبعه، وسبع الدمشقي ونصف سبعه، ونصف المصري وربعه وسبعه وتسعون مثقالًا. ... {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)}. [49] ثم بين الحكمة في إنزال الماء فقال: {لِنُحْيِيَ بِهِ} أي: بالمطر. {بَلْدَةً مَيْتًا} قفرًا، وتذكير (ميتًا) رجع به إلى الموضع والمكان. قرأ أبو جعفر: (مَيِّتًا) بكسر الياء مشددًا، والباقون: بإسكانها مخففًا (¬1). {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} أي: نسقي من ذلك الماء أنعامًا مما خلقنا. {وَأَنَاسِيَّ} أي: بشرًا {كَثِيرًا} والأناسي: جمع إنسي، وقدمت الأرض على الأنعام والأناسي؛ لأن حياتها سبب لحياتهما. ... {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)}. [50] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} أي: المطر في البلاد والأوقات المختلفة, قال ابن عباس: "ما عام بأمطرَ من عام، ولكن الله يصرفه في الأرض" (¬2). قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وهشام: (وَلَقَد صَّرَّفْنَاهُ) ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 270)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 289). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (19/ 22)، والحاكم في "المستدرك" (3520).

[51]

بإدغام الدال في الصاد، والباقون: بالإظهار (¬1). {لِيَذَّكَّرُوا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بإسكان الذال وضم الكاف مع تخفيفها، وقرأ الباقون: بفتح الذال والكاف مع تشديدهما، وهما لغتان (¬2)؛ أي: يتفكروا في نعم الله. {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} جحودًا، وهو قولهم: مُطرنا بنَوْء كذا وكذا. ... {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)}. [51] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} رسولًا، ولقسمنا النُّذرَ بينهم كما قسمنا المطر؛ لنخفف عليك أعباء النبوة، ولكنَّا حمَّلناك ثقلَ نِذارة جميع القرى؛ لتستوجب بذلك الدرجة الرفيعة، ويعظم أجرك. ... {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)}. [52] {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} فيما ندبوك إليه من عبادة آلهتهم ومداهنتهم. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي: بالقرآن {جِهَادًا كَبِيرًا} لا يخالطه فتور. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 289). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 465)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 290).

[53]

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)}. [53] {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلطهما، وأفاض أحدهما في الآخر في مرأى العيون، وبينهما حاجز من قدرة الله عز وجل. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} شديد العذوبة، قامع للعطش. {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة. {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} حاجزًا من قدرته. {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} منعًا ممنوعًا عن الإدراك؛ لئلا يختلط أحدهما بالآخر، وذلك كدجلة تدخل البحر وتشقه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها، أو المراد بالبحر العذب: النهر العظيم؛ مثل النيل، وبالبحر المالح: البحر الكبير، وبالبرزخ: ما يحول بينهما من الأرض. ... {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}. [54] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ} أي: المعني {بَشَرًا} إنسانًا. {فَجَعَلَهُ نَسَبًا} أي: ذكورًا ينسب إليهم. {وَصِهْرًا} أي: إناثًا يصاهر بهن. {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (وكان) هي التي للدوام قبل وبعد، لا أنها تعمل (¬1) ¬

_ (¬1) في "ت": "تعطي".

[55]

مضيًّا فقط. وتقدم في السورة مذهب أبي عمرو في إدغام الكاف في القاف من قوله (رَبُّك قَّدِيرًا). {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}. [55] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: هؤلاء المشركين. {مَا لَا يَنْفَعُهُمْ} إن عبدوا {وَلَا يَضُرُّهُمْ} إن تركوا عبادته. {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} معينًا للشيطان على ربه بالمعاصي. ... {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)}. [56] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا} للمؤمنين {وَنَذِيرًا} للكافرين. ... {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)}. [57] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على تبليغ الوحي. {مِنْ أَجْرٍ} فتقولوا: إنما يطلب محمد - صلى الله عليه وسلم - أموالنا بما يدعونا إليه، فلا نتبعه. {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} استثناء منقطع؛ أي: لا لطلب أموالكم جعلًا لنفسي، لكن من شاء إنفاقها لوجه الله تعالى، فلا أمنعه. واختلاف القراء في الهمزتين من (شَاءَ أَنْ) كاختلافهم فيهما من (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ) في سورة الحج.

[58]

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)}. [58] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} لأنه حقيق أن يتوكل عليه دون غيره. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} صلِّ له شكرًا، ونَزِّهه عن صفات النقصان، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قالَ في كل يوم: سبحانَ اللهِ وبحمدِه مئةَ مرةٍ، غُفرت ذنوبه، ولو كانت مثلَ زبدِ البحر" (¬1). {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظهر منها وما بطن. {خَبِيرًا} مطلعًا، وهذا توعُّد. ... {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)}. [59] {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي: في مدتهما؛ لأنه لم يكن ثَم شمس ولا قمر. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بلا كيف. وتقدم الكلام عليه في سورة طه. {الرَّحْمَنُ} مبتدأ، خبره {فَاسْأَلْ بِهِ} أي: عنه، والفاء زائدة {خَبِيرًا} مفعول (سَلْ)؛ أي: سل رجلًا خبيرًا به وبرحمته، يخبرك، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6042)، كتاب: الدعوات، باب: فضل التسبيح، ومسلم (2691)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[60]

والمراد: جبريل، والعلماء، وأهل الكتب المنزلة. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلْ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬1). ... {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}. [60] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ما نعرف الرحمن؛ لأن قريشًا كانت لا تعرف هذا في أسماء الله تعالى، وكان مسيلمة الكذاب تَسَمَّى برحمن اليمامة، فغالطت قريش بذلك وقالت: إن محمدًا يأمر بعبادة رحمن اليمامة (¬2). {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} قرأ حمزة، والكسائي: (يَأْمُرُنَا) بالغيب إخبارًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الباقون: بالخطاب له - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 291). (¬2) رواه أبن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 340) عن عطاء، وذكره الطبري في "تفسيره" (19/ 288)، و"البغوي" في "تفسيره" (3/ 340). ومعلوم أن الله سبحانه قد حمى اسمه (الله والرحمن) أن يتسمى به أحد غيره جلَّ جلاله وما ورد من مثل هذا (رحمن اليمامة) فهو غير وارد؛ لأنه مضاف إلى اليمامة، ولذلك عندما تجرَّأ الخبيث مسيلمة على التسمية به، كساه اللهُ جلباب الكذب وشهر به بين الأمم وعلى مدى الأزمان، فصار اسمه (مسيلمة الكذاب). انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 571)، و"تفسير ابن كثير" (1/ 22). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 164)، و"تفسير البغوي" (3/ 340)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 292).

[61]

{وَزَادَهُمْ} الأمر بالسجود {نُفُورًا} تباعدًا عن الإيمان، وهذا محل سجود بالاتفاق، وتقدم اختلاف الأئمة في حكم سجود التلاوة وسجود الشكر ملخصًا عند سجدة مريم، فمن جهل وجود الرب سبحانه، أو علم وجوده، وفعل فعلًا، أو قال قولًا (¬1) لا يصدر إلا من كافر، فكافر بالاتفاق، ونافي الإسلام مخطيء آثم كافر عند أئمة الإسلام بغير خلاف. ... {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}. [61] {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} يعني: البروج الاثني عشر، وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وهي منازل الكواكب السبعة، سميت بالبروج المقصور؛ لأنها لها كالقصور لسكانها، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع، فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة [هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة] (¬2) مائية. ¬

_ (¬1) "أو قال قولًا" زيادة من "ت". (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[62]

{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بضم السين وفتح الراء من غير ألف على الجمع؛ يعني: النجوم، وقرأ الباقون: بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على الإفراد؛ يعني: الشمس (¬1). {وَقَمَرًا مُنِيرًا} مضيئًا بالليل. ... {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}. [62] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي: يخلف هذا هذا، وما نقص من أحدهما زاد في الآخر. {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} قرأ حمزة وخلف: (يَذْكُرَ) بتخفيف الذال مسكنة وتخفيف الكاف مضمومة؛ من الذكر، وقرأ الباقون: بتشديدهما مفتوحتين؛ من التذكير (¬2). {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي: شكر نعمة ربه عليه فيهما. ... {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)}. [63] {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} مبتدأ، خبره: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 466)، و"التيسير" للداني (ص: 164)، و"تفسير البغوي" (3/ 341)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 292). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 164)، و"تفسير البغوي" (3/ 342)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 330)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 293).

[64]

{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} رويدًا بالسكينة والوقار. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} بما يكرهون. {قَالُوا سَلَامًا} أي: قولًا يسلمون فيه من الإثم. ... {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)}. [64] {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا} على وجوههم {وَقِيَامًا} على أقدامهم، يقال: بات لمن دخل عليه الليل وإن لم ينم، قال ابن عباس: "من صلى بعد العشاء الآخرة ركعتين، فقد بات لله ساجدًا وقائمًا" (¬1) وتخصيص البيتوتة؛ لأن العبادة بالليل أبعد من الرياء. ... {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)}. [65] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} دائمًا لازمًا كلزوم الغريم الغريم. ... {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}. [66] {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي: بئس موضع قرار وإقامة (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 342). (¬2) "وإقامة" زيادة من "ت".

[67]

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}. [67] {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} لم يجاوزوا الحد {وَلَمْ يَقْتُرُوا} يضيقوا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (يُقْتِرُوا) بضم الياء وكسر التاء؛ من (أقتر)، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (يَقْتِرُوا) (¬1) بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ الباقون، وهم الكوفيون: بفتح الياء وضم التاء مستقبل (قتر) مخففًا، وكلها لغات صحيحة (¬2)، وقال ابن عباس: "الإسراف: النفقة في المعصية، والإقتار: منع حق الله تعالى" (¬3). {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} عدلًا بين الشيئين، وفي معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا} الآية، من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: خيرُ الأمورِ أوسطُها (¬4). ¬

_ (¬1) "يقتروا" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 164)، و"تفسير البغوي" (3/ 343)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 334)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 294). (¬3) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 343) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. (¬4) وجاء في لفظ: "أوساطها" بدل: "أوسطها"، وقد رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (35128)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6601) عن مطرف، والخطابيُّ في "العزلة" (ص: 98) عن أكثم بن صيفي. قال السخاوي: وقد رواه ابن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" لكن بسند فيه مجهول، عن علي مرفوعًا، وللديلمي بلا سند عن ابن عباس مرفوعًا. انظر: "المقاصد الحسنة" (ص: 245 - 246).

[68]

{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)}. [68] {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادة الأوثان. {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} قتلها (¬1) {إِلَّا بِالْحَقِّ} لا يفعلون كالمشركين بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات. {وَلَا يَزْنُونَ} كالجاهلية الذين كان عندهم الزنا مباحًا. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: شيئًا من هذه الأفعال {يَلْقَ أَثَامًا} أي: جزاء إثم، وهي العقوبة. قرأ الليث عن الكسائي: (يَفْعَل ذَّلِكَ) بإدغام اللام في الذال حيث وقع، وأظهرها الباقون (¬2). ... {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)}. [69] {يُضَاعَفْ} أي: يتزايد {لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} أي: يهان دائمًا في العذاب. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، ويعقوب: (يُضَعَّفْ) بالتشديد مع حذف الألف، وجزم الفاء، والدال من (يَخْلُدْ) على جواب الشرط، وقرأ ابن عامر: بالتشديد مع حذف الألف كما تقدم، ورفع الفاء والدال على الابتداء، وقرأ أبو بكر عن عاصم: بإثبات الألف بعد ¬

_ (¬1) "قتلها" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 307)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 330)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 295).

[70]

الضاد والتخفيف ورفع الفاء والدال كابن عامر، وقرأ الباقون: بالإثبات والتخفيف وجزم الفاء والدال (¬1)، وقرأ ابن كثير وحفص: (فِيهِ مُهَانًا) بإشباع كسرة الهاء وصلتها بياء في الوصل (¬2). {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)}. [70] {إِلَّا مَنْ تَابَ} من ذنبه {وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} بعد توبته بينه وبين ربه {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فبدلوا بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمنين قتل الكافرين، وبالزنا عفة وإحصانًا. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} يعفو عن السيئات، ويثيب على الحسنات. {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}. [71] {وَمَنْ تَابَ} عن المعاصي {وَعَمِلَ صَالِحًا} يتلافى به ما فرط (¬3). {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ} يرجع إليه {مَتَابًا} مرضيًّا، أي: من أراد حقيقة التوبة، فليرد بها الله. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 467)، و"التيسير" للداني (ص: 146)، و"تفسير البغوي" (3/ 345)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 330)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 296). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 467)، و"التيسير" للداني (ص: 164)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 298). (¬3) "يتلافى به ما فرط" زيادة من "ت".

[72]

{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)}. [72] {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} لا يقيمون الشهادة الباطلة، ولا يحضرون محاضر الكذب، ومن أعظم الزور الشركُ بالله تعالى، وتقدم حكم تعزير شاهد الزور في سورة الحج {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} يشمل المعاصي كلها، وكلَّ سقط من فعل أو قول. {مَرُّوا كِرَامًا} أي: معرضين. ... {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)}. [73] {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} وُعظوا {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} القرآن. {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} لم يقيموا عليها غير واعين لها، بل أكبوا عليها حرصًا على استماعها. ... {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)}. [74] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (وَذُرِّيَّاتِنا) بالألف جمعًا؛ حملًا على المعنى؛ لأن لكل واحد منهم ذرية، وقرأ الباقون: بغير ألف على الإفراد إرادة الجنس (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 164)، و"تفسير البغوي" (3/ 347)، و"النشر في =

[75]

{قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أولادًا أبرارًا أتقياء، فتقر أعيننا بذلك، مأخوذ من القرور، وهو الماء البارد؛ لأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة. {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي: صالحين لاقتداء المتقين بنا. ... {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)}. [75] {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} وهي كل بناء مرتفع، والمراد: أعلى منازل الجنة. {بِمَا صَبَرُوا} بصبرهم على أذى المشركين، والمكروهات، وعن الشهوات. {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} يستقبلون في الغرفة. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: بفتح الياء وإسكان اللام وتخفيف القاف؛ من (لقَي)، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف (¬1). {تَحِيَّةً} ملكًا، وقيل: بقاءً دائمًا في الجنة. {وَسَلَامًا} سلامة من الآفات. ... ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 335)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 298). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 468)، و"تفسير البغوي" (3/ 348)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 299).

[76]

{خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)}. [76] {خَالِدِينَ فِيهَا} حال {حَسُنَتْ} أي: الغرفة. {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} موضعَ قرار وإقامة. ... {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}. [77] {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} ما يبالي بمغفرتكم. {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} معه آلهة، وقيل: معناه: ليس يثقل عليه عذابكم لولا دعاؤكم إياه بالتوحيد والطاعة. {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} يا أهل مكة بما أخبرتكم به؛ حيث خالفتموه. {فَسَوْفَ يَكُونُ} أي: العذاب {لِزَامًا} أي: لازمًا يحيط بكم لا محالة، وهذا تهديد لهم، واختلفوا فيه، فقال قوم منهم عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: هو يوم بدر، قتل منهم سبعون، وأسر سبعون، وقال آخرون: هو عذاب الآخرة، والله سبحانه أعلم. ***

سورة الشعراء

سُوْرَةُ الشُّعَراءِ مكية في قول الجمهور، وقال مجاهد: فيها مدني قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الآية: 197]، وقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} إلى آخرها. آيها: مئتان وسبع وعشرون آية، وحروفها: خمسة آلاف وخمس مئة واثنان وأربعون حرفًا، وكلمها: ألف ومئتان وسبع وتسعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طسم (1)}. [1] {طسم (1)} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: بإمالة الطاء هنا، والنمل، والقصص، وقرأ الباقون: بفتحها، وأظهر أبو جعفر، وحمزة (¬1) نون (سين) عند الميم هنا، وفي القصص؛ للتبيين والتمكين، وأدغم الباقون النون في الميم لمجاورتها حروف الفم، وأبو جعفر يقطع الحروف على أصله (¬2)، وتقدم الكلام في الخلاف في ¬

_ (¬1) "حمزة" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 470)، و "التيسير" للداني (ص: 165)، و"تفسير البغوي" (3/ 351)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[2]

حروف الهجاء أول سورة البقرة، ونُبِّه عليه أول سورة مريم. روي عن ابن عباس قال: "طسم عجزت العلماء عن تفسيرها" (¬1). وقيل: هو قسم معناه: أقسم بطَوْلي وسناي وملكي، وهو اسم من أسماء الله تعالى. ... {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}. [2] {تِلْكَ} أي: هذه. {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} يعني: القرآن الظاهرَ إعجازُه وصحته. ... {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}. [3] {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: قاتلُها غمًّا {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} إن لم يؤمنوا، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان فيه من القلق والحرص على إيمانهم، وخوطب بـ (لعل) على ما في نفس البشر من توقع الهلاك في مثل تلك الحال، ومعنى الآية: لا تهتم يا محمد بهم، وبلغ رسالتك، وما عليك من إيمانهم، فإن ذلك بيد الله، لو شاء لآمنوا. ... {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)}. [4] {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} دلالةً تُلجئهم إلى الإيمان. ¬

_ = (1/ 241 - 242)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 303 - 304). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 351)، و"تفسير أبي السعود" (1/ 21).

[5]

{فَظَلَّتْ} أي: فتظل {أَعْنَاقُهُمْ} رقابهم {لَهَا خَاضِعِينَ} يذلون بها، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله تعالى. واختلاف القراء في الهمزتين من قوله: (مِنَ السَّمَاءِ آيَةً) كاختلافهم فيهما من قوله (¬1): (هَؤُلاَءِ آلِهَةً) في سورة الأنبياء. وقوله: {خَاضِعِينَ} ولم يقل: خاضعة، وهي صفة الأعناق؛ لأنه لما وصفت الأعناق بالخضوع، وهي صفة من يعقل، أجريت مجرى العقلاء، وقيل: المراد بالأعناق: الرؤساء والكبراء، وقيل غير ذلك. ... {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)}. [5] {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} في الوحي والتنزيل، وهو القرآن، المعنى: ما يأتيهم من شيء من القرآن. {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ} وعن الإيمان به. {مُعْرِضِينَ} إصرارًا على ما كانوا عليه. ... {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)}. [6] {فَقَدْ كَذَّبُوا} محمدًا {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ} أخبار. {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وهو وعيد لهم. ... ¬

_ (¬1) "قوله": زيادة من "ت".

[7]

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)}. [7] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} صنف. {كَرِيمٍ} حسن نافع من النبات مما يأكل الناس والأنعام. ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}. [8] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكرت {لَآيَةً} على توحيدي وكمال قدرتي. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: سبق علمي فيهم أنهم لا يؤمنون. ... {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}. [9] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} بالانتقام من الكفرة {الرَّحِيمُ} للمؤمنين. ... {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}. [10] {وَإِذْ} أي: واذكر يا محمد إذ {نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} حين رأى الشجرة والنار {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وتعذيبهم. ... {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)}. [11] يعني: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} عقابَ الله بطاعته. ***

[12]

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)}. [12] {قَالَ} موسى: {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}. {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)}. [13] {وَيَضِيقُ صَدْرِي} من تكذيبهم إياي. {وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} للعقدة التي به. {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} ليؤازرني، ويظاهرني على تبليغ الرسالة. ... {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)}. [14] {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} أي: تَبِعة، وهو قتله القبطي {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} به. قرأ أبو عمرو: (قَال رَّبِّ) بإدغام اللام في الراء، وروي عن رويس، وروح، وغيرهما، وجميع رواة يعقوب: إدغام كل ما أدغمه أبو عمرو من حروف المعجم من المثلين والمتقاربين، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2)، وقرأ يعقوب: (وَيَضِيقَ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلِقَ) بنصب ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 308)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 306). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 474)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 307).

[15]

القاف فيهما على معنى: وأن يضيق، وقرأ الباقون: بالرفع فيهما ردًّا على قوله: (إِنِّي أَخَافُ) وأثبت يعقوب الياء من (¬1) (يُكَذِّبُوبي) و (يَقْتُلُونِي)، وحذفها الباقون (¬2). ولم يطلب موسى هارون توقفًا في امتثال الأمر، بل حرصًا على تبليغ الرسالة؛ لاحتمال عوارض تصد عنها. ... {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)}. [15] {قَالَ} الله تعالى: {كَلَّا} ردع عن الخوف {فَاذْهَبَا} أنت وهارون {بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} سامعون، فأنصركم عليه، وذكر (مَعَكُمْ) بلفظ الجمع، وهما اثنان أجراهما مجرى الجماعة، أو أراد: معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون. ... {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)}. [16] {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولم يقل: رسولا رب العالمين؛ لأن موسى كان الأصل، وهارون تابعه. ... {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)}. [17] {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى الشام، ولا تستعبدهم. ¬

_ (¬1) في "ش": "في". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 353)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 335 - 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 307).

[18]

{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)}. [18] وكان فرعون استعبدهم أربع مئة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ست مئة ألف وثلاثين ألفًا، فانطلق موسى إلى مصر، وهارونُ بها، فأخبره بذلك، وذهبا إلى باب فرعون ليلًا، ودقا الباب، ففزع البوابون وقالوا: من بالباب؟ فقال موسى: أنا رسول رب العالمين، فذهب البواب إلى فرعون، فقال (¬1): إن مجنونًا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين، فتركه حتى أصبح، ثم دعاهما فدخلا عليه، وأديا رسالة الله عز وجل، فعرف فرعون موسى؛ لأنه نشأ في بيته، فثم قال له: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} صبيًّا صغيرًا. {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} وهي ثلاثون سنة (¬2). قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف (¬3): (لَبِثتَّ) بإدغام الثاء في التاء، وكذلك (لَبثتُّمْ) كيف جاء، وأظهرها الباقون (¬4). ... {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)}. [19] {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} يعني: قتل القبطي. {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي: من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي. ¬

_ (¬1) في "ش": "وقال". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 354 - 355)، و"تفسير الطبري" (13/ 94). (¬3) "خلف" ساقطة من "ت". (¬4) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 331)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 308) دون ذكر خلف.

[20]

{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)}. [20] {قَالَ} موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا} أي: فعلت ما فعلت حينئذ. {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي: المخطئين؛ لأنه لم يتعمد قتله. ... {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)}. [21] {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} إلى مدين. {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} أي: نبوة. {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول، وتقدم الكلام على ذلك في سورة الحج. ... {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)}. [22] ثم حاجه -عليه السلام- في مَنِّه عليه بالتربية وترك القتل، فقال: {وَتِلْكَ} أي: التربية. {نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} يريد: كيف تمنُّ عليَّ بالتربية، وقد استعبدت قومي؟ فتعبيدُك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إلي. ... {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)}. [23] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أيُّ شيء الذي تزعم أنك رسوله؟

[24]

{قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)}. [24] {قَالَ} موسى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أنه خالقهما، فآمِنوا. ... {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)}. [25] فتحير فرعون في جوابه، فثم {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ} من أشراف قومه، وكانوا خمس مئة رجل؛ استبعادًا لقول موسى: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} جوابه، سألته عن حقيقته، وهو يذكر أفعاله. ... {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)}. [26] {قَالَ} موسى زيادة في البيان: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} فعلم فرعون أنه محجوج، فنسبه إلى الجنون. ... {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)}. [27] {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} يتكلم بكلام لا نعقله، ولا نعرف صحته، وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل. ***

[28]

{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)}. [28] فزاد موسى في البيان: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من النيرات والموجودات. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فتستدلون بما أقول، فتعرفون ربكم. ... {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)}. [29] فلما لزمت فرعونَ الحجةُ، وانقطع عن الجواب {قَالَ} تكبرًا عن الحق: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} عدولًا إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع، وهكذا دَيْدَنُ المعاند المحجوج. قرأ أبو عمرو: (قَال لَّئِنِ) بإدغام اللام في اللام، وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (اتَّخَذْتَ) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (¬1). ... {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)}. [30] {قَالَ} موسى: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} الواو للحال دخلت عليها همزة الإنكار؛ أي: أتفعل ذلك ولو جئتك {بِشَيْءٍ مُبِينٍ} برهان واضح يبين صدق دعواي. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 308)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 15 - 16)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 309).

[31]

{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)}. [31] {قَالَ} فرعون: {فَأْتِ بِهِ} فإنا لا نسجنك حينئذ. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في أن لك بينة. ... {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)}. [32] {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} حية عظيمة، روي أنها ارتفعت قدر ميل، ثم انحطت إلى فرعون وهي تقول: مرني يا موسى بما شئت، وفرعون يقول: بالذي أرسلَكَ إلا أخذْتَها فعادت عصا (¬1). ... {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}. [33] فقال فرعون: هل غيرها؟ قال: نعم {وَنَزَعَ يَدَهُ} من جيبه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} ذات نور {لِلنَّاظِرِينَ} لها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق. ... {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)}. [34] {قَالَ} فرعون {لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} فائق في علم السحر. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في "تفسيره" (13/ 15)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2759)، عن السدي.

[35]

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)}. [35] {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أغراهم به في قوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} ثم استشارهم في أمره. ... {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)}. [36] {قَالُوا} يعني: الملأ: {أَرْجِهْ} أخره {وَأَخَاهُ} المعنى: اترك التعرض له بالقتل. قرأ ابن كثير، وهشام عن ابن عامر: (أَرْجِئْهُو) بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو، وابن ذكوان عن ابن عامر: بالهمز، ويكسر الهاء ولا يصلها بياء، وأبو عمرو، ويعقوب: بالهمز والضم من غير صلة، والباقون: بغير همز، ثم نافع برواية ورش، والكسائي، وخلف: يشبعون الهاء كسرًا، ويسكنها عاصم وحمزة، ويختلسها أبو جعفر وقالون، وتقدم ذكر ذلك في حرف الأعراف [الآية: 111]. {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ} هي مدائن الصعيد من نواحي مصر. {حَاشِرِينَ} جماعة يحشرون الناس؛ أي: يجمعونهم، وهم الشُّرَط. ... {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)}. [37] {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} يفضلون عليه في هذا الفن. واتفق القراء على هذا الحرف أنه (سحَّار) على وزن فعَّال بتشديد الحاء وألف بعدها؛ لأنه جواب لقول فرعون فيما استشارهم فيه من أمر موسى بعد قوله: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، فأجابوه بما هو أبلغ من قوله؛ رعاية

[38]

لمراده؛ بخلاف التي في الأعراف؛ فإن ذلك جواب لقولهم، فتناسب اللفظان، وأما التي في يونس، فهي أيضًا جواب من فرعون لهم؛ حيث قالوا: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [الآية: 76] فرفع مقامه على المبالغة، والله أعلم. قرأ أبو عمرو، والكسائي من رواية الدوري: (سَحَّارٍ) بالإمالة أيضًا (¬1)، واختلف عن ابن ذكوان، وروي عن ورش وحمزة (¬2): الإمالة بين بين، وقرأ الباقون: بالفتح (¬3). ... {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)}. [38] {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وهو يوم الزينة، وهو عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة، قال ابن عباس: "وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة، وهو يوم النيروز" (¬4). ... {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)}. [39] {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} حث للناس على الاجتماع. ... ¬

_ (¬1) "أيضًا" ساقطة من "ت". (¬2) "حمزة" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 308)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 331)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 310). (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 357).

[40]

{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)}. [40] {لَعَلَّنَا} لكي {نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} لموسى. ... {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)}. [41] {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا} أي: تجعل لنا جعلًا. {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} لموسى. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (أَيِنَّ) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين بين؛ أي: بين الهمزة والياء، وفصل بين الهمزتين بألف: أبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون، واختلف عن هشام، وقرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق الهمزتين (¬1). ... {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)}. [42] {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وعدهم فرعون بالإحسان إليهم بشرط غلبة موسى. قرأ الكسائي: (نَعِمْ) بكسر العين، والباقون: بنصبها (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 331)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 310 - 311). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 110)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 311).

[43]

{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)}. [43] {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي: بعدما قالوا له: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115]. ... {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)}. [44] {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا} حالفين. {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} والقسم بغير الله من أقسام الجاهلية، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلفوا بآبائكم وأمهاتكم، ولا بالطواغيت، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون" (¬1). ... {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)}. [45] {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تتبع {مَا يَأْفِكُونَ} ما يزورون ويخيلون أن حبالهم وعصيهم حيات. قرأ حفص عن عاصم: (تَلْقَفُ) بإسكان اللام مع تخفيف القاف، وقرأ الباقون: بفتح اللام مع تشديد القاف، وقرأ البزي: بتشديد التاء وصلًا؛ كأنه أراد: تتلقَّفُ، فأدغم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3248)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والنسائي (3769)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الحلف بالأمهات، وابن حبان في "صحيحه" (4357)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- لكن بلفظ: "بالأنداد" بدل "بالطواغيت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 471)، و"التيسير" للداني (ص: 112)، =

[46]

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)}. [46] {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} وإنما يدل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله، ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أنفسهم، فكأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم. ... {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)}. [47] {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. ... {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)}. [48] {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} قال عكرمة: أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء (¬1)، فالمغرور من اعتمد على شيء من أعماله وأقواله وأحواله. ... {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)}. [49] {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} تقدم تفسير نظيرها، واختلاف القراء في الهمزتين في سورة طه. ¬

_ = و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 331)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 311). (¬1) انظر: "تفسير ابن كثير" (3/ 160)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 513).

[50]

{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)}. [50] {قَالُوا لَا ضَيْرَ} أي: لا ضرر علينا بما تصنع بنا. قرأ حمزة: (لاَ ضَيْرَ) بالمد؛ بحيث لا يبلغ الإشباع (¬1) {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} فيثيبنا. ... {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}. [51] {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا} أي: لأن كنا. {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} في زماننا. ... {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}. [52] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: (أَنِ اسْرِ) بوصل الألف ويكسرون النون من (أن) للساكنين وصلًا؛ كان سرى (¬2) يسري (¬3)، ويبتدئون بكسر الهمزة، وقرأ الباقون: بقطع الهمزة مفتوحة وحمزة يسكت على الساكن قبل الهمز؛ لبيان الهمز وتحقيقه (¬4) {بِعِبَادِي} قرأ نافع، وأبو جعفر: (بِعِبَادِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬5). ¬

_ (¬1) سلف كلام المصنف في اختلاف القرّاء عند تفسير الآية (2) من سورة البقرة. (¬2) في "ت": "سري". (¬3) "يسري" ساقطة من "ت". (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 125)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 312). (¬5) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 474)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، =

[53]

{إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي: يتبعكم فرعون وقومه؛ ليحولوا بينكم وبين الخروج من مصر، فسر بهم، حتى إذا اتبعكم مصبحين، كان لكم تقدم عليهم؛ بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم البحر، بل يكونون على إثركم حين تلجون البحر، فيدخلون مدخلكم، فأطبقه عليهم، فأغرقهم. ... {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)}. [53] {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ} حين أخبر بسراهم. {فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي: جامعين الناس. ... {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)}. [54] وقال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ} أي: طائفة. {قَلِيلُونَ} ومنه: ثوب شراذم؛ أي: بالٍ منقطع، وكانت الشرذمة ست مئة وسبعين ألفًا، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون. ... {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)}. [55] {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} مغضِبون، والغيظ: أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه. ... ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 313).

[56]

{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)}. [56] {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} قرأ الكوفيون، وابن ذكوان عن ابن عامر: (حَاذِرُونَ) بألف بعد الحاء؛ أي: تامُّو الأسلحة، وقرأ الباقون: بحذف الألف؛ أي: متيقظون (¬1). ... {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)}. [57] {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} بساتين كانت ممتدة على حافتي النيل. {وَعُيُونٍ} من الماء. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر (¬2)، وابن ذكوان: (وَعِيُونٍ) بكسر العين حيث وقع، والباقون: بضمها (¬3). ... {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)}. [58] {وَكُنُوزٍ} وهي أموالهم الظاهرة من الذهب والفضة، سميت كنوزًا؛ لأنها لم يُعط منها حقُّ الله تعالى. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي: المنازل الحسنة والمجالس البهية. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 471)، و"التيسير" للداني (ص: 156)، و"تفسير البغوي" (3/ 359)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 313). (¬2) "وأبو بكر" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 332 - 333)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 314).

[59]

{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}. [59] {كَذَلِكَ} كما وصفنا {وَأَوْرَثْنَاهَا} بهلاكهم. {بَنِي إِسْرَائِيلَ} وذلك أن الله تعالى ردهم إلى مصر بعد غرق فرعون وقومه، وخولهم في أموالهم ومساكنهم. ... {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)}. [60] {فَأَتْبَعُوهُمْ} أي: لحقوهم القبط. {مُشْرِقِينَ} عند شروق الشمس وإضاءتها. ... {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)}. [61] {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي: رأى كل الآخر. قرأ حمزة، وخلف: (تَرَاءَى) بإمالة فتحة الراء حالة الوصل، وأما إذا وقفا، أمالا الراء والهمزة جميعًا، ومعهما الكسائي في الهمزة فقط، وأما ورش: على أصله فيهما بين بين؛ بخلاف عنه (¬1). {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} سيدركنا قوم فرعون، ولا طاقة لنا بهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 471)، و"التيسير" للداني (ص: 165 - 166)، و"تفسير البغوي" (3/ 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 314 - 315).

[62]

{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)}. [62] {قَالَ} موسى ثقةً بوعد الله إياه: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} طريق النجاة. قرأ حفص عن عاصم: (مَعِيَ) بفتح الياء (¬1)، وقرأ يعقوب: (سَيَهْدِينِي) بإثبات الياء (¬2). ... {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)}. [63] {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} ولما وصل موسى إلى البحر، جاء بموج كالجبال، فقال يوشع: يا مكلم الله! أين أمرت؟ فقال: هاهنا، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه اللج، فارتسب في البحر، وأراد بقيتهم أن يفعلوا مثله فلم يقدروا (¬3) {فَانْفَلَقَ} ماء البحر بعد أن ضربه، فانشق اثني عشر طريقًا لاثني عشر سبطًا. {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} أي: كل جزء من البحر {كَالطَّوْدِ} أي: الجبل. {الْعَظِيمِ} وهو بحر القلزم، وتقدم ذكره ومحله في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [الآية: 50]، وروي (¬4) أن ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 474)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 316). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 316). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" (3/ 357). (¬4) في "ت": "روي".

[64]

موسى عليه السلام قال عند ذلك: يا من كان قبل كل شيء، والمكون لكل شيء، والكائن بعد كل شيء (¬1). ... {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)}. [64] {وَأَزْلَفْنَا} قَرَّبنا {ثَمَّ} حيث انفلق البحر. {الْآخَرِينَ} هم القبط، جمعناهم في البحر حتى غرقوا. ... {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)}. [65] {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} من الغرق. ... {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)}. [66] {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} يعني: فرعون وقومه. ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)}. [67] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: إهلاك القبط {لَآيَةً} عبرة للمعتبرين. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أي: المصريين {مُؤْمِنِينَ} قالوا: لم يكن فيهم ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2771)، عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام.

[68]

مؤمن إلا آسية امرأة فرعون، وحزبيل المؤمن، ومريم بنت ناموسا التي دلت على عظام يوسف عليه السلام. ... {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}. [68] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه من أعدائه. {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين حين أنجاهم. ... {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)}. [69] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} على مشركي العرب. {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ) بتحقيق الهمزتين، والباقون: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية (¬1). ... {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)}. [70] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} استفهام بمعنى التقرير. ... {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)}. [71] {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا} والصنم: ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 332)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 317).

[72]

{فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي: نقيم على عبادتها، ويظل: عرفُها: فعلُ الشيء نهارًا، وباتَ: عرفُها في فعله ليلًا، وطفق: غاية للوجهين، ولكن قد تجيء يظل بمعنى العموم، وهذا الموضع من ذلك، والعكوف: اللزوم، ومنه: المعتكف. ... {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)}. [72] {قَالَ} إبراهيم. {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أي: يسمعون دعاءكم {إِذْ تَدْعُونَ}. ... {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)}. [73] {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ} إن عبدتموهم {أَوْ يَضُرُّونَ} إن تركتم عبادتهم. ... {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)}. [74] فلما عجزوا عن الجواب {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فقلدناهم. ... {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)}. [75] {قَالَ} إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}. ***

[76]

{أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)}. [76] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ}. {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)}. [77] {فَإِنَّهُمْ} أي: أصنامكم {عَدُوٌّ لِي} أي: أعداء، ووحَّده على معنى: أن كل معبود لكم عدو لي، وقوله: (عَدُوٌّ لِي) دون (لكم) زيادة نصح وتأدب؛ ليكون أعطف لقلوبهم، وأسرع لها إلى إيمانهم. {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} استثناء منقطع؛ كأنه قال: فإنهم عدو لي، لكن رب العالمين وليي. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (عَدُوٌّ لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)}. [78] ثم وصف معبوده فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي} مبتدأ، خبره: {فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى إصلاح الدارين. ... {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)}. [79] {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} تعديد للنعمة في الرزق. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 474)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 318).

[80]

{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)}. [80] {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} من مرضي، وأسند إبراهيم المرض إلى نفسه، والشفاء إلى الله عز وجل، وهذا أحسن الأدب في العبارة، والكل من عند الله؛ كالخضر حين قال في العيب: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وفي الخير: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]. ... {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)}. [81] {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أدخل (ثم) هنا للتراخي؛ أي: يميتني في الدنيا، ثم يحييني في الآخرة. قرأ يعقوب: (يَهْدِينِي) (يَسْقِيني) (يَشْفِينِي) (يُحْيِينِي) بإثبات الياء في الأربعة في الحالين، والباقون: بحذفها فيهما (¬1). ... {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}. [82] {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} أي: خطاياي يوم الجزاء، وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنياء: 63]، وقوله لسارة: هذه أختي، وقوله للكوكب (¬2): {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]، وعلق المغفرة بيوم الدين، وإن ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 318). (¬2) في "ت": "للكواكب".

[83]

وجدت هنا؛ لأن فائدتها ثَمَّ تظهر، وأصل الطمع: نزوعُ النفس إلى الشيء شهوةً، وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه، وإخبار أنه لا يصلح للإلهية من لا يفعل هذه الأفعال. ... {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)}. [83] {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} نبوة. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} بآبائي المرسلين. ... {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)}. [84] {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} ثناء حسنًا {فِي الْآخِرِينَ} في الأمم بعدي، فأعطاه الله ذلك، فجعل كل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه. ... {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)}. [85] {وَاجْعَلْنِي} وارثًا {مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} في الآخرة، وتقدم معنى الوراثة فيها (¬1) في أول سورة المؤمنون. ... {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)}. [86] {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} وقال هذا قبل أن يتبين له أنه ¬

_ (¬1) "فيها" زيادة من "ت".

[87]

عدو لله؛ كما تقدم في سورة التوبة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (لِأَبِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)}. [87] {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} يعني: العباد. ... {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)}. [88] وتبدل منه {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} أي: لا ينفعان أحدًا. ... {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}. [89] {إِلَّا} استثناء منقطع؛ أي: لكن. {مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشرك. ... {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)}. [90] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} قُربت {لِلْمُتَّقِينَ} فنظروا إليها. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 474)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"تفسير البغوي" (3/ 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 319).

[91]

{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)}. [91] {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} أُظهرت. {لِلْغَاوِينَ} الكافرين، فيرونها مكشوفة، ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها. ... {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)}. [92] {وَقِيلَ لَهُمْ} يوم القيامة: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}. ... {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)}. [93] {مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الآلهة {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} بدفع العذاب عنكم. {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم؟ ... {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)}. [94] {فَكُبْكِبُوا} أُلقوا على رؤوسهم {فِيهَا} في النار. {هُمْ} أي: الآلهة {وَالْغَاوُونَ} الكفار. ... {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)}. [95] {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} أتباعه {أَجْمَعُونَ} ومن أطاعه من الجن والإنس. ***

[96]

{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)}. [96] {قَالُوا} أي: الداخلون فيها. {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} يخاصم بعض بعضًا. ... {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)}. [97] ويقول العابدون للمعبودين: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. ... {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)}. [98] {إِذْ نُسَوِّيكُمْ} نعدلكم في العبادة {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فنعبدكم. ... {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)}. [99] {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} أي: رؤساؤهم الذين اقتدوا بهم؛ كإبليس والشياطين وقابيل؛ لأنه أول من سن القتل، وعمل بالمعاصي. ... {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)}. [100] فثم تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون في أصدقائهم، فيقول المشركون تأسفًا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي: من يشفع لنا؟ ***

[101]

{وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)}. [101] {وَلَا صَدِيقٍ} هو من صدقك مودته {حَمِيمٍ} قريب خاص، وحامَةُ الرجل: خاصته، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل ليقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقُه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة" (¬1)، قال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين؛ فإن لهم شفاعة يوم القيامة (¬2). ... {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)}. [102] فلما أيسوا من الشفاعة قالوا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا. {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: فنؤمن؛ ليشفع لنا، و (لو) هنا بمعنى ليت. ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)}. [103] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: فيما ذكر من قصة إبراهيم. {لَآيَةً} عظة لمن يعتبر بها. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} يعني: قومه {مُؤْمِنِينَ} به. ... ¬

_ (¬1) رواه البغوي في "تفسيره" (3/ 364) عن جابر بن عبد الله مرفوعًا، وفيه جهالة، وذكره القرطبي "في تفسيره" (13/ 118). (¬2) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 364).

[104]

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)}. [104] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا يغلب {الرَّحِيمُ} بالإمهال. ... {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)}. [105] {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} القوم مؤنثة من حيث الـ (قوم): الأمة والجماعة، ولذلك تصغر على قويمة، وجمع (المرسلين)، وإن كانوا واحدًا؛ لأن من كذب رسولًا واحدًا، فقد كذب جميع المرسلين. ... {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)}. [106] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} في النسب، لا في الدين. {نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} الله، فتتركوا عبادة غيره؟! ... {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)}. [107] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} على الوحي. ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)}. [108] {فَاتَّقُوا اللَّهَ} بطاعته {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من الإيمان. ***

[109]

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)}. [109] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على الدعاء والنصح. {مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ} ثوابي {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} قرأ يعقوب: (وَأَطِيعُوني) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬1)، وكذلك في الأحرف السبعة بعد، وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب: (أَجْرِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2)، وكذلك في الأحرف الأربعة بعد. ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)}. [110] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} كرره تأكيدًا. ... {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)}. [111] {قَالُوا} إنكارًا عليه: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ} أي: وقد اتبعك {الْأَرْذَلُونَ} جمع الأرذل؛ يعني: السفلة، سموا بذلك؛ لاتضاع حِرفهم؛ كالحجامة والحياكة، وهذا لا يضر بالديانات، فكأنهم قالوا: إنما آمنوا لحقارتهم. قرأ يعقوب: (وَأَتْبَاعُكَ) بقطع الهمزة وإسكان التاء مخففة وضم ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 319). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 333)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 320).

[112]

العين وألف قبلها على الجمع، وقرأ الباقون: بوصل الهمزة وتشديد التاء مفتوحة وفتح العين من غير ألف (¬1). ... {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)}. [112] {قَالَ} نوح: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} المراد: انتفاء عليه بإخلاص أعمالهم، واطلاعه على سرائرهم. ... {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)}. [113] {إِنْ حِسَابُهُمْ} ما جزاؤهم. {إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} لما عبدتموهم. ... {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)}. [114] {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم، وتوقيف إيمانهم عليه. ... {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)}. [115] {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: وما أنا إلا رجل مبعوث لإنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي، سواء كانوا أعزاء أو أذلاء. قرأ قالون عن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 365)، و"المحتسب" لابن جني (2/ 131)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 320).

[116]

نافع، وأبو جعفر: (أَنَا إِلَّا) بالمد حيث وقع؛ بخلاف عن الأول (¬1). ... {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)}. [116] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ} عما تقول. {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي: المقتولين. ... {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)}. [117] {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} قرأ يعقوب: (كَذَّبُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬2). ... {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)}. [118] {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} فاحكم بيني وبينهم حكمًا. {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من قصدهم. قرأ ورش، وحفص: (مَعِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3). ... ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 333)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 320). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 321). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 474)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 333)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 321).

[119]

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)}. [119] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي: المملوء من الناس والطير والحيوان كلها. ... {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)}. [120] {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أي: أغرقنا بعد إنجاء نوح وأهله من بقي من قومه. ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)}. [121] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}. ... {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)}. [122] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسير نظيرها. ... {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)}. [123] {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}. ... {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)}. [124] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} يعني: في النسب، لا في الدين. {أَلَا تَتَّقُونَ}؟

[125]

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)}. [125] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} على الرسالة. ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)}. [126] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. ... {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)}. [127] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ... {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)}. [128] {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} هو المكان المرتفع {آيَةً} علامة. {تَعْبَثُونَ} بمن مر بكم؛ لأنهم كانوا يبنون الغرف في الأماكن العالية؛ ليشرفوا على المارة، فيسخرون منهم، ويعبثون بهم. ... {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)}. [129] {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} أي: حصونًا، وقيل: مصانع الماء تحت الأرض {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي: كأنكم تبقون فيها خالدين لا تموتون، وقال ابن زيد: (لعل) استفهامٌ بمعنى التوبيخ؛ أي: فهل تخلدون حتى تبنوها؟

[130]

{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)}. [130] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ} أَخذتم وسَطَوتم {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} قتلًا بالسيف، وضربًا بالسوط، والبطش: الأخذ بعنف، والجبار: الذي يضرب ويقتل على الغضب. قرأ ورش عن نافع، والدوري عن الكسائي: (جَبَّارِينَ) بالإمالة؛ بخلاف عن الأول (¬1). ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)}. [131] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. ... {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)}. [132] {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي: أعطاكم من الخير ما تعلمون. ... {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)}. [133] ثم ذكر ما أعطاهم فقال: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}. ... {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)}. [134] {وَجَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} أنهار. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 58)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 322).

[135]

{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)}. [135] {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن عصيتموني {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا والآخرة. ... {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)}. [136] {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} سووا بين وعظه وتركه، والوعظ: كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد. ... {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)}. [137] ثم قالوا: {إِنْ هَذَا} أي: ما هذا {إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو (¬1)، ويعقوب، والكسائي: بفتح الخاء وإسكان اللام؛ أي: اختلاق الأولين وكذبهم (¬2)، وقرأ الباقون: بضم الخاء واللام؛ أي: عادة الأولين من قبلنا (¬3). ... ¬

_ (¬1) "وأبو عمرو" زيادة من "ت". (¬2) "وكذبهم" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 472)، و"التيسير" للداني (ص: 166)، و"تفسير البغوي" (3/ 367)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 335)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 322).

[138]

{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)}. [138] وأمرهم أنهم يعيشون ما عاشوا، ثم يموتون، ولا بعث ولا حساب. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحن عليه. ... {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}. [139] {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} بريح صرصر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}. ... {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}. [140] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تلخيصه: أن هودًا أنذر قومه، ووعظهم، فلم يتعظوا، فأهلكوا. ... {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)}. [141] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ}. {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)}. [142] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}. ***

[143]

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)}. [143] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)}. [144] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. ... {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)}. [145] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ... {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)}. [146] {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} أي: في الدنيا. {آمِنِينَ} من الموت والعذاب. ... {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)}. [147] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}. ... {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)}. [148] {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ} عطفها على (جَنَّاتٍ) مع أن الجنة تعم النخل

[149]

وغيره؛ تفضيلًا لها {طَلْعُهَا} هو ما يطلع من النخلة في جوفه شماريخ القنو. {هَضِيمٌ} لطيف لين، ويوصف بهضيم ما دام في كُفَرَّاه، والكُفَرُّ -بضم الكاف وفتح الفاء وتشديد الراء-: كم النخل؛ لأنه يستر في جوفه. ... {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)}. [149] {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} قرأ الكوفيون، وابن عامر: (فَارِهِينَ) بألف بعد الفاء؛ أي: حاذقين، وقرأ الباقون: بغير ألف؛ أي: بَطرين. ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)}. [150] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فإن في طاعتي طاعةَ الله تعالى. ... {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)}. [151] {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} المشركين. ... {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)}. [152] {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} بالمعاصي والكفر (¬1). ¬

_ (¬1) في "ت": "بالكفر والمعاصي".

[153]

{وَلَا يُصْلِحُونَ} بطاعة الله فيما أمرهم به. ... {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)}. [153] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} المسحر: الذي سُحِر كثيرًا حتى غلب على عقله. ... {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)}. [154] {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} تأكل الطعام، وتشرب الشراب، ولست بملك. {فَأْتِ بِآيَةٍ} على صحة ما تقول. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنك رسول الله إلينا. ... {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)}. [155] {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} أي: بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها. {لَهَا شِرْبٌ} نصيب من الماء {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} فاقتصروا على شربكم، فكانت تشرب جميع الماء يومًا، ويشربون يومًا (¬1). فيه دليل على جواز قسمة المنافع بالمهايأة؛ لأن قوله: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ} من ¬

_ (¬1) "ويشربون يومًا" زيادة من "ت".

[156]

المهايأة، واختلفوا في حكم المهايأة، فقال أبو حنيفة: يجبر عليها الممتنع إذا لم يكن الطالب متعنتًا، وقال الثلاثة: هي جائزة بالتراضي، ولا إجبار فيها. ... {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)}. [156] {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} كضرب وعقر. {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} عظم اليوم لعظم ما يحل فيه. ... {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)}. [157] روي أن عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين، فاستؤذن صغارهم وكبارهم، فرضوا (¬1) {فَعَقَرُوهَا} أسند العقر إلى كلهم؛ لأنهم رضوا بذلك، فأُخذوا جميعًا {فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} على عقرها؛ خوفًا من نزول العذاب، لا ندمَ توبة. ... {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)}. [158] {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} الموعود {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (2/ 231)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1515)، عن قتادة. وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 492).

[159]

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)}. [159] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. ... {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)}. [160] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}. ... {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)}. [161] {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ}. ... {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)}. [162] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)}. [163] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. ... {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)}. [164] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ***

[165]

{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)}. [165] ثم استفهم منكرًا فقال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} من جميع الناس، عبر عن الفاحشة بالإتيان؛ كما عبر به عن الحلال في قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223]، المعنى: أتطؤون الذكور من الناس، مع كثرة إناثهم؟! ... {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)}. [166] {وَتَذَرُونَ} وتتركون {مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} لأجل استمتاعكم. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} متجاوزون الحلال إلى الحرام. ... {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)}. [167] {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ} عن إنكارك علينا. {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} من قريتنا. ... {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)}. [168] {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} المبغضين. ***

[169]

{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)}. [169] ثم دعا فقال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} من العمل الخبيث؛ أي: من شؤمه وعذابه. {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)}. [170] {فَنَجَّيْنَاهُ} فعصمناه {وَأَهْلَهُ} من العذاب {أَجْمَعِينَ}. {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)}. [171] {إِلَّا عَجُوزًا} هي امرأته {فِي الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب، تقديره: إلا عجوزًا مقدَّرًا غبورها أهلكناها؛ لأنها كانت معينة على الفاحشة، راضية بها، والاستثناء من الأهل؛ لأن الزوجة منهم. {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)}. [172] {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} أي: أهلكناهم. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)}. [173] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} على شُذَّاذهم ومسافريهم {مَطَرًا} حجارة. {فَسَاءَ} أي: فقبح {مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} مطرُهم. ***

[174]

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)}. [174] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}. ... {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)}. [175] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. ... {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)}. [176] {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر: (لَيْكَةَ) بلام مفتوحة من غير ألف وصل قبلها، ولا همزة بعدها، وبفتح تاء التأنيث في الوصل مثل طلحةَ، وكذلك رسم في جميع المصاحف، وقرأ الباقون: بألف الوصل مع إسكان اللام وهمزة مفتوحة بعدها وخفض تاء التأنيث، وحمزة: على أصله يقف على الساكن قبل الهمز، وورش: ينقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وحمزة: له النقل إذا وقف بخلاف عنه؛ فـ (أَيْكَة) اسم نكرة لشجر كثير ملتفّ، ثم دخله التعريف، و (لَيْكَة) أيضًا غير مصروف؛ لتعريفه وتأنيثه: اسم علم لبلد، أو شجر (¬1)، وتقدم ذكر الأيكة ومحلها في سورة الأعراف، فمن قرأ: (الأَيْكَةِ) أراد: الشجر، ومن قرأ: (لَيْكَة) أراد: البلد كما تقول فيمن صرف ثمود ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 473)، و"التيسير" للداني (ص: 166)، و"تفسير البغوي" (3/ 370)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 324).

[177]

أراد: الأب، ومن لم يصرفه أراد: القبيلة، وكذلك اختلافهم في سورة (ص)، وأجمعوا على الألف واللام وجر التاء في (الحجر)، و (ق) لإجماع المصاحف على ذلك. ... {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)}. [177] {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} وإنما لم يقل في شعيب: أخوهم؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، وإنما أُرسل إليهم بعد مدين، وكان من أصحاب مدين، فلما ذكر مدين، قال: أخاهم شعيبًا في سورتي الأعراف، وهود، وفي الحديث: "إن شعيبًا أخا مدين أُرسل إلى أصحاب مدينَ، وإلى أصحابِ الأيكةِ" (¬1). ... {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)}. [178] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)}. [179] {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (14/ 48)، عن قتادة من قوله.

[180]

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)}. [180] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} وإنما كانت دعوة الأنبياء كلهم فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة؛ لاتفاقهم على الأمر بالتقوى والطاعة، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة. ... {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)}. [181] وكان أصحاب الأيكة يطففون، فقال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ} أتموه. {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} الناقصين لحقوق الناس. ... {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)}. [182] {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} بميزان العدل. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (بِالْقِسْطَاسِ) بكسر القاف، والباقون: بضمها (¬1). ... {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)}. [183] {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} لا تنقصوا شيئًا من حقوقهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 380)، و"التيسير" للداني (ص: 140)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 334)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 325).

[184]

{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} بالقتل وقطع الطريق. ... {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)}. [184] {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} يعني: الأمم المتقدمين، والجبلة: الخلق، يقال: جُبل؛ أي: خُلق. ... {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)}. [185] {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}. ... {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)}. [186] {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} تقدم تفسير نظيره، وأتوا بالواو؛ للدلالة على أنه جامع بين وصفين منافيين للرسالة؛ مبالغةً في تكذيبه. {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} في دعواك. ... {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)}. [187] {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قرأ حفص عن عاصم: (كِسَفًا) بفتح السين؛ أي: قطعًا، وقرأ الباقون: بالإسكان؛ أي: قطعة (¬1)، واختلافهم في الهمزتين من (السَّمَاءِ إِنْ) ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 385)، و"التيسير" للداني (ص: 166)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 326).

[188]

كاختلافهم فيهما من قوله: (عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: 33]. ... {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)}. [188] {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فهو مجازيكم بأعمالكم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)}. [189] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} هو أنه أصابهم حر شديد، وكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرًّا، فخرجوا، فجاءتهم سحابة، فدخلوا تحتها يستظلون، فأمطرت عليهم نارًا، فاحترقوا {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. ... {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)}. [190] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 474)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 326).

[191]

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)}. [191] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} هذا آخر القصص السبع المذكورة؛ تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتهديدًا للمكذبين به، وكرر في هذه القصة ما كرره في غيرها تقريرًا لمعانيها في الصدور؛ ليكون أبلغ في الوعظ والزجر. ... {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)}. [192] {وَإِنَّهُ} أي: القرآن المنزل {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ... {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)}. [193] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} هو جبريل -عليه السلام-؛ لأنه أمين على الوحي. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (نَزَّلَ) بتشديد الزاي ونصب (الرُّوحَ الأمينَ) مفعولًا، الفاعل الله تعالى؛ أي: نزل الله به جبريل -عليه السلام-؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقرأ الباقون: بالتخفيف، ورفعهما الفاعل (الرُّوحُ الأَمِين) (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 473)، و"التيسير" للداني (ص: 166)، و"تفسير البغوي" (3/ 372)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 327).

[194]

{عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)}. [194] {عَلَى قَلْبِكَ} يا محمد حتى وعيته. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} المخوِّفين. ... {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}. [195] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} قال ابن عباس: "بلسان قريش؛ ليفهموا ما فيه" (¬1)، المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين. ... {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)}. [196] {وَإِنَّهُ} أي: ذكر إنزال (¬2) القرآن. {لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} لمثبتٌ في كتب الأنبياء قبلك. ... {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)}. [197] {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} على صحة القرآن، ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قرأ ابن عامر: (تَكُنْ) بالتاء ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 372). (¬2) "إنزال" زيادة من "ت".

[198]

على التأنيث (آيَةٌ) بالرفع، جعل الآية اسمًا، وخبره (أَنْ يَعْلَمَهُ)، وقرأ الباقون: (يَكُنْ) بالتذكير (آيَةً) بالنصب، جعلوا الآية خبرَ (يَكُنْ) (¬1)، معناه: أولم يكن لهؤلاء المتكبرين علماء بني إسرائيل آيةً؛ أي: علامة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم كانوا يخبرون بوجوده في كتبهم، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه، وهم: بنيامين، وثعلبة، وأسد، وأسيد، وكان إخبارهم آية على صدقه، قال ابن عباس: "بعثَ أهلُ مكة إلى اليهود، وهم بالمدينة، فسألوهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن هذا الزمان زمانه، وإنا نجد في التوراة نعتَهُ وصفته" (¬2). ... {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)}. [198] {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ} يعني: القرآن {عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} جمع أعجم، وهو الذي لا يُفصح، ولا يحسن العربية، وإن كان عربيًّا في النسب، والعجمي: المنسوب للعجم، وإن كان فصيحًا. ومعنى الآية: ولو نزلناه على رجل ليس بعربي اللسان. ... {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)}. [199] {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ} بغير لغة العرب {مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 473)، و"التيسير" للداني (ص: 166)، و"تفسير البغوي" (3/ 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 328). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 357).

[200]

{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)}. [200] وقالوا: ما نفقه قولك {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} أي: أدخلنا الشك والشرك {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}. ... {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)}. [201] {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالقرآن {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} عند الموت. ... {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)}. [202] {فَيَأْتِيَهُمْ} فيأخذهم {بَغْتَةً} فجأة. {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} به في الدنيا. ... {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)}. [203] {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} مؤخَّرون؛ لنؤمن ونصدق، يتمنون الرجعة. ... {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)}. [204] ولما أوعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب، قالوا: إلى متى توعدنا بالعذاب، ومتى هذا العذاب؟! فنزل قوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}

[205]

فيقولون: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال: 32]، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأحقاف: 22]. ... {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)}. [205] ثم خاطبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لإقامة الحجة عليهم في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء لا تغني مع نزول العذاب بعدها، ووقوع النقمة، وذلك في قوله: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} كثيرة في الدنيا؛ يعني: كفار مكة، ولم نهلكهم. تقدم اختلاف القراء في (أَرَأَيْتَ) في سورة الفرقان عند تفسير قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الآية: 43]. ... {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)}. [206] {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا} يعني: العذاب. ... {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)}. [207] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} لم يغن عنهم تمتُّعهم المتطاولُ بنعيم الدنيا في دفع العذاب عنهم. ... {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)}. [208] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} رسل ينذرونهم. ***

[209]

{ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)}. [209] {ذِكْرَى} محلها نصب؛ أي: ينذرونهم تذكرةً، وقيل: رفع؛ أي: تلك ذكرى {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} في تعذيبهم؛ حيث قدمنا الحجة عليهم، وأعذرنا إليهم. ... {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)}. [210] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} أي: بالقرآن {الشَّيَاطِينُ} وذلك أن المشركين كانوا يقولون: إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت الآية. ... {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)}. [211] {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} أن يتنزلوا بالقرآن {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ذلك. ... {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}. [212] {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ} أي: عن استراقه من السماء. {لَمَعْزُولُونَ} أي: محجوبون بالشهب مرجومون. ... {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)}. [213] {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} قال ابن عباس:

[214]

"يحذر به غيره، يقول: أنت أكرم الخلق علي، ولو اتخذت إلهًا غيري، لعذبتك" (¬1). ... {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [214] {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فجمع - صلى الله عليه وسلم - قومه، وقال: "إني نذيرٌ لكم بين يَدَي عذاب شديد" (¬2). ... {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)}. [215] {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} أَلِنْ جانبك، وتواضَعْ. {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من عشيرتك وغيرهم؛ فإن الفاسق والمنافق لا يُخفض له الجناح. ... {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)}. [216] أي: خالفوك. {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 374). (¬2) رواه البخاري (4492)، كتاب: التفسير، باب: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، ومسلم (208)، كتاب: الإيمان، باب: في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

[217]

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)}. [217] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ليكفيك كيدَ الأعداء. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (فَتَوَكَّلْ) بالفاء عطفًا على (فَقُلْ)، وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون: بالواو، وكذلك هو في مصاحفهم (¬1). ... {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)}. [218] {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} للتهجُّد. ... {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)}. [219] أي: ويرى تقلبك {فِي السَّاجِدِينَ} أي: تصفح أحوال المتهجدين من أصحابك، وعن ابن عباس قال: "من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبيًّا" (¬2). ... {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)}. [220] {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لما تقوله {الْعَلِيمُ} بما تنويه. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 473)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، و"تفسير البغوي" (3/ 377)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 330). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 24).

[221]

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)}. [221] ولما قال المشركون: إن الشيطان يلقي السمع (¬1) على محمد، نزل جواب قولهم: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}؟ ... {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)}. [222] ثم بين فقال: {تَنَزَّلُ} أي: تتنزل {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ} كذاب. {أَثِيمٍ} مبالغة من آثم، وهم الكهنة الذين كانت تسرق الجن السمع فتلقيه إليهم. قرأ البزي: (تَّنزَّلُ) بتشديد التاء في الحرفين حالة الوصل (¬2). ... {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}. [223] {يُلْقُونَ السَّمْعَ} أي: يلقون إلى الكهنة ما يسمعون من الملائكة عند استراق السمع {وَأَكْثَرُهُمْ} أي: الكهنة. {كَاذِبُونَ} لأنهم كانوا يخلطون مع ما يستمعون (¬3) كذبًا كثيرًا. جاء في الحديث: "الكلمةُ يخطَفُها الجني، فَيَقُرُّها في أذن وليه، فيزيد فيها أكثر من مئة كذبة" (¬4). ¬

_ (¬1) "السمع" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 232 - 234)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 310)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 330). (¬3) في "ش": "يسمعون". (¬4) رواه البخاري (5429)، كتاب: الطب، باب: الكهانة، ومسلم (2228) , كتاب: =

[224]

فإذا صدقت تلك الكلمة، كانت سبب ضلال من سمعها، وقال: (أَكْثَرُهُمْ)؛ لأن من الأفاك من قد يصدق. ... {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)}. [224] ونزل في جماعة من الكفار كانوا يقولون الشعر، ويقولون: نحن نقول كما يقول محمد، واتبعهم غواة على ذلك {وَالشُّعَرَاءُ} مبتدأ، خبره: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} السفهاء الذين يروون هجاء المسلمين. قرأ نافع: (يَتْبَعُهُمُ) بفتح الباء مخففًا، والباقون: بكسر الباء مشددًا (¬1). ... {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)}. [225] {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ} تمثيل لذهابهم في كل فن من القول. روي عن يعقوب وقنبل: الوقفُ بالياء على (وَادِي). {يَهِيمُونَ} يذهبون على غير قصد، كما يذهب الهائم على وجهه. ... ¬

_ = السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان، عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 474)، و"التيسير" للداني (ص: 115)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 331).

[226]

{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)}. [226] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ}: فعلنا {مَا لَا يَفْعَلُونَ}. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}. [227] ولما نزلت هذه الآية، جاء حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، ومن كان ينافح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان غالب شعرهم توحيدًا وذكرًا، فقالوا: يا رسول الله! قد نزل هذا، والله يعلم أنا شعراء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ يجاهدُ بسيفه ولسانه، وإن الذي ترمونهم به نَضْحُ النبل" (¬1)، ونزل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} استثناء لشعراء الإسلام {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله تعالى. {وَانْتَصَرُوا} أي: بالرد على المشركين {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي: هُجوا؛ لأن الكفار بدؤوهم بالهجاء، قال - صلى الله عليه وسلم - لحسان: "اهجُ المشركين؛ فإن جبريلَ معك" (¬2)، ثم أوعد شعراء المشركين فقال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أيَّ مرجعٍ يرجعون ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 387)، وعبد الرزاق في "المصنف" (20500)، وابن حبان في "صحيحه" (5786)، وغيرهم عن كعب بن مالك -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (3041)، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (2486)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت -رضي الله عنه- عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-.

إليه بعد مماتهم، قال ابن عباس: "إلى جهنم والسعير" (¬1)، و (أَيَّ) نعت لمصدر محذوف نُصب بـ: (ينقلبون)، لا بـ (يعلم)، لأنها استفهام، تقديره: ينقلبون انقلابًا أيَّ منقلب، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 381).

سورة النمل

سورة النمل مكية، وآيها: ثلاث وتسعون آية، وحروفها: أربعة آلاف وسبع مئة وتسعون حرفًا، وكلمها: ألف ومئة وتسع وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)}. [1] {طس} تقدم الكلام (¬1) عليه، ومذاهب القراء فيه أولَ سورة الشعراء، وهو اسم من أسماء الله تعالى، قاله ابن عباس (¬2)، قيل: معناه هنا: لطيف وسميع. {تِلْكَ} أي: هذه الآيات المذكورات {آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ؛ لأنه خط فيه ما هو كائن، فهو يبينه للناظرين. قرأ ابن كثير: (القُرَانِ) و (قُرَان) و (قُرَانًا) حيث وقع: بالنقل، والباقون: بالهمز (¬3). ¬

_ (¬1) في "ت": "القول". (¬2) تقدم ذكره عنه، وتخريجه. (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 335)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 335).

[2]

{هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}. [2] {هُدًى} أي: هو هدى من الضلالة. {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} للمصدقين به. ... {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)}. [3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} قرأ ورش: (الصَّلاَة) بتغليظ اللام. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} المعنى: المؤمنون الموصوفون بهذه الصفات يوقنون بالبعث. ... {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)}. [4] {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} بخلق الشهوة فيهم، فاعتقدوا أعمالهم القبيحة حسنة؛ لشهوتهم إياها، لا أنا حَسَّنَّا لهم الفواحشَ، وأمرناهم بها. قرأ أبو عمرو: (بِالآخِرَة زَّيَّنَّا) بإدغام التاء في الزاي (¬1). {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يترددون بتحير. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 335).

[5]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)}. [5] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} في الدنيا؛ بالقتل والأسر. {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أشد الناس خسرانًا؛ لفوت المثوبة، واستحقاق العقوبة. ... {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)}. [6] {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} لتؤتاه. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي: وحيًا من عند الله ذي الحكمة، وهذه الآية رد على كفار قريش في قولهم: إن القرآن من تلقاء محمد بن عبد الله. ... {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)}. [7] ثم قص تعالى خبر موسى عليه السلام، والتقدير: اذكر {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} في مسيره من مدين إلى مصر: {إِنِّي آنَسْتُ} أبصرت {نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أخبركم به عن حال الطريق؛ لأنه كان قد ضل عنها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 448 - 489)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 240)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 336).

[8]

{أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ} هي الشعلة المضيئة. قرأ الكوفيون، ويعقوب: (بِشِهَابٍ) بالتنوين، جعلوا القبس نعتًا للشهاب، وقرأ الباقون: بغير تنوين على الإضافة (¬1). {قَبَسٍ} هو العود الذي في أحد طرفيه نار، قال في (طه): {فَلَمَّا قَضَى} [الآية: 10] ترجِّيًا، وهنا (سَآتِيكُمْ) إخبارًا؛ لأن الراجي إذا قوي ترجيه، ربما حكم بوقوع الفعل، المعنى: أن موسى قال لزوجته لما ضربها الطلق، ورأى النار: اثبتوا مكانكم، سآتيكم بجزء منها. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} تستدفئون من البرد، وكان ذلك في شدة الشتاء. ... {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)}. [8] {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} أي: بورك على من في طلب النار، وهو موسى عليه السلام {وَمَنْ حَوْلَهَا} وهم الملائكة، والمراد بالنار: النور؛ لأن موسى حسبه نارًا، وهذا تحية من الله -عز وجل- لموسى -عليه السلام- بالبركة؛ كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، ثم نزه تعالى نفسه فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 478)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، و"تفسير البغوي" (3/ 384)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 337)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 336).

[9]

{وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} من تمام ما نودي به؛ لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهًا، وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر. ... {يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}. [9] ثم تعرف إلى موسى بصفاته فقال: {يَامُوسَى إِنَّهُ} والهاء في (إِنَّهُ) ضمير الشأن، والشأن {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} صفتان لله تعالى، وروي أن موسى لما سمع الخطاب، فلم ير أحدًا، قال: من الذي يكلمني؟ فقيل: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ} (¬1). ... {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)}. [10] ثم أرى موسى آية على قدرته تعالى {وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطف على {بُورِكَ} أي: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك. {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} تتحرك باضطراب. وتقدم اختلاف القراء في (رَآهَا) في سورة الأنبياء عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الآية:36]. {كَأَنَّهَا جَانٌّ} حية صغيرة. {وَلَّى مُدْبِرًا} وهرب من الخوف. {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يرجع بعد هربه. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "السُّنة" (1/ 305) وأبو نعيم عن أنس مطولًا، كما في "الدر المنثور". (3/ 539).

[11]

فقال الله تعالى: {يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي: من أمنته لا ينبغي أن يخاف من حية. ... {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)}. [11] {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} استثناء منقطع؛ أي: لكن من ظلم من المرسلين بذنب صدر منه؛ كآدم ويونس وداود وموسى (¬1) {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} توبة بعد ذنب. {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} أغفر له، وأزيل الخوف عنه. ... {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)}. [12] ثم أراه الله تعالى آية أخرى، فقال: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} أي: قميصك؛ لأنه يُجاب؛ أي يقطع، والجيب: الفتح في الثوب لرأس ¬

_ (¬1) وعن الفراء أن الاستثناء هنا متصل، لكل من جملة محذوفة، تقديره: وإنما يخاف غيرُهم إلا من ظلم. وردَّه النحاس. وقدره الزمخشري بـ: "لكن" وهي علامة على أنه منقطع. انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (7/ 55). وقد ذكر الطبري رحمه الله في "تفسيره" (19/ 432) أقوال النحويين واختلافهم، وذكر من جملة ذلك: في هذه الآية وجهان: أحدهما أن يقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة، ومن خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فهذا يخاف ويرجو. والآخر أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة؛ لأن المعنى: لا يخاف لدي المرسلون، إنما الخوف على من سواهم.

[13]

الإنسان، وكانت عليه مدرعة من صوف لا كُمَّ لها ولا أزرار، فأدخل يده في جيبه، وأخرجها، فإذا هي تبرق مثل البرق، فذلك قوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} حال {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} آفة برص. {فِي تِسْعِ} أي: آية في تسع {آيَاتٍ} و {إِلَى} متعلق بمحذوف؛ أي: مرسلًا إلى فرعون في تسع آيات، وهي: اليد، والعصا، والفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس، أنت مرسل بهن {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليل للإرسال. ... {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)}. [13] {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} حال يُبصر بها، ونسب البصر إليها مجازًا، وهو في الحقيقة لمتأمليها {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ظاهر. ... {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}. [14] {وَجَحَدُوا بِهَا} أنكروا الآيات، ولم يقروا أنها من عند الله. {وَاسْتَيْقَنَتْهَا} أي: وقد استيقنتها {أَنْفُسُهُمْ} واستيقن أبلغُ من أيقن، المعنى: لما جاءتهم آياتنا واضحات، واستيقنوا صدقها، جحدوا بها {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} شركًا وتكبرًا. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وسوء منقلبهم حين كذبوا موسى، وفي هذا تمثيل لكفار قريش؛ إذ كانوا مفسدين مستعلين.

[15]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)}. [15] ثم ابتدأ بقصص فيه غيوب وعبر، وليس بمثال لقريش، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} أي: علم القضاء، ومنطق الطير والدواب، وتسبيح الجبال. {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} بالنبوة، وتسخير الجن والإنس والشياطين {عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: من لم يؤت علمًا. ... {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)}. [16] {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} في النبوة والملك دون سائر أولاده، وكانوا تسعة عشر. قرأ أبو عمرو: (وَوَرِث سُّلَيْمَانُ) بإدغام الثاء في السين (¬1)، و (ورث) بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمي ميراثًا تجوزًا، وهذا نحو قولهم: "العلماء ورثة الأنبياء"، وحقيقة الميراث في المال، والأنبياءُ لا تورث أموالهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا، فهو صدقة" (¬2) فأعطي سليمان ما أعطي داود عليهما السلام من ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 339). (¬2) رواه البخاري (2962)، كتاب: أبواب الخمس، باب: فرض الخمس، ومسلم (1758)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"، عن عائشة -رضي الله عنها-.

الملك، وزيد له تسخير الجن والريح، وفهم منطق الطير، فثم اعترف بأنعم الله تعالى. {وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} أي: فَهْمَ أصواته، والمنطق: الكلام، روي أنه صاح ورشانُ، فقال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة، فقال: إنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا، والطاوس يقول: كما تدين تدان، والهدهد يقول: كل حي ميت، وكل جديد بال، والخطاف يقول: قدموا خيرًا تجدوه، والحمامة تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمواته وأرضه، والقطا يقول: من سكت سلم، والببغاء يقول: ويل لمن الدنيا همه، والدراج يقول: الرحمن على العرش استوى، والقُبر يقول: اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد، والنسر يقول: ابن آدم عش ما شئت آخره الموت، والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس، والحمار يقول: اللهم العن العشار، والفرس يقول إذا التقى الصفان: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، والزرزور يقول: اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق (¬1). {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يؤتاه الأنبياء والملوك من أمر الدنيا والآخرة. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا. ... ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 387 - 388)، عن كعب. ورواه الثعلبي في "تفسيره" (7/ 194)، عن كعب بإسناد واه جدًّا. انظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (2/ 183).

[17]

{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}. [17] {وَحُشِرَ} جُمع {لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ} في مسير كان له. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يُحبسون ثم يُساقون، وأصل الوزع: الكف، والوزَّاع: هو الحابس، وهو النقيب، وكان معسكره مئة فرسخ: في مئة فرسخ خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان يأمر الريح العاصف فترفعه، ويأمر الرخاء فتسير به، فأوحى الله إليه وهو بين السماء والأرض: أني قد زدت في ملكك: أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرتك، فبينا هو يسير، رآه وجندَه حَرَّاث، فقال: لقد أوتي آل داود ملكًا عظيمًا، فمشى إليه سليمان وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: والله لتسبيحة واحدة يتقبلها الله خير مما أوتي آل داود (¬1). ... ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (19/ 437)، والحاكم في "المستدرك" (4141) عن محمد بن كعب، وذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 389 - 390)، والقرطبي في "تفسيره" (13/ 176)، وذكر القرطبي عن ابن عطية قوله: واختُلف في معسكره ومقدار جنده اختلافًا شديدًا، غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيمًا مِلأَ الأرض، وانقادت له المعمورة كلُّها.

[18]

{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)}. [18] {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} وقف يعقوب، والكساني (وَادِي) بإثبات الياء (¬1). روي أن سليمان -عليه السلام- سار من اصطخر إلى اليمن حتى مر بواد النمل، وهو واد بالطائف، وقيل: بالشام، كثير النمل، والمشهور أنه النمل الصغير، وقيل: كان نمل ذلك المكان أمثال الذباب، وقيل كالبخاتي {قَالَتْ نَمْلَةٌ} وكانت ملكة النمل لما رأت جند سليمان: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} ولم يقل: ادخلن؛ لأنه لما جعل لها قولًا، خاطبها خطاب الآدميين {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} يكسرنكم {سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} قرأ رويس عن يعقوب: {يَحْطِمَنَّكُمْ} بإسكان النون مخففًا، والباقون: بفتحها مشددًا (¬2). {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بهلاككم إقامة لعذرهم. ... {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 478)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 138 - 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 339). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 479)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 341).

[19]

[19] وسمع سليمان كلام النمل من ثلاثة أميال، وقيل: كان اسمها طاخية. وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة -رضي الله عنه- حاضرًا وهو غلام حَدَث، فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكرًا أم أنثى؟ فسألوه، فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ فقال: من كتاب الله، وهو قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} ولو كان ذكرًا، لقال: قال نملة وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة؛ نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامة أنثى، وهو وهي (¬1). روي أنه لما أشرف على الوادي، حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم. وروي أنه قال لعظيم النمل: لِمَ قلت ادخلوا مساكنكم، أخفت عليهم مني ظلمًا؟ قال: لا، ولكن خشيت أن يفتنوا بما يرون من ملكك، فيشغلهم ذلك عن طاعة الله (¬2). {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} حال مؤكدة، والتبسم أول الضحك، وهو ما لا صوت له {مِنْ قَوْلِهَا} تعجبًا من حذرها وتحذيرها. {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني. قرأ ورش، والبزي: (أَوْزِعْنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3). ¬

_ (¬1) "الكشاف" للزمخشري (3/ 361)، و"تفسير الرازي" (24/ 161). (¬2) ذكره القرطبي في "تفسيره" (13/ 171) عن أبي إسحاق الثعلبي، قال: رأيت في بعض الكتب. . . فذكره. (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 170)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =

[20]

{أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي: في جملتهم، قال ابن عباس: "يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين" (¬1). ... {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}. [20] روي أن الهدهد كان دليل سليمان على الماء، وكان يعرف موضع الماء، ويراه تحت الأرض كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه وبعده، فينقر الأرض فتجيء الشياطين، فيسلخونه ويستخرجون الماء، فنزل سليمان منزلًا، فاحتاج إلى الماء وقت الصلاة، فطلب الهدهد فلم يجده (¬2). {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} ليرى الهدهد، فلم يره، والتفقد: طلبُ ما فُقد، ومعنى الآية: طلب ما فقد من الطير. {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} في جملة الطير. قرأ ابن كثير، وعاصم، والكسائي، وهشام عن ابن عامر: (مَا لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3)، ثم أدركه الشك في غيبته، فقال: ¬

_ = 335)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 342). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 391). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (19/ 442) عن ابن عباس. وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 392). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 479)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 340)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 342).

[21]

{أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} يعني: أكان من الغائبين؟ والميم صلة. ... {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}. [21] فلما تحقق غيبته، قال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا} أي: تعذيبًا. {شَدِيدًا} بنتف ريشه وذنبه، ورميه في الشمس، فلا يمتنع على الهوام. {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} لأقطعن حلقه، ورسمت (أَوْ لأَاذْبَحَنَّهُ) في بعض المصاحف بزيادة ألف بعد (لأَ). {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} برهان ظاهر على عذره. قرأ ابن كثير: (لَيَأْتِيَنَّنِي) بنونين: الأولى مفتوحة مشددة، والثانية مكسورة مخففة، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة، أصلها: لَيَأْتِينِي، ثم دخلت النون مشددة، وهي محسوبة بنونين تأكيدًا للقسم، وبعدها نون مكسورة للوقاية كنون ضربني، وبني الفعل على الفتح، ففتح الياء التي هي لام الفعل، وقرأ الباقون: بنون واحدة مكسورة مشددة، وكذلك هو في مصاحفهم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 379)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، و"تفسير البغوي" (3/ 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 343).

[22]

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)}. [22] وكان سبب غيبة الهدهد: أن سليمان -عليه السلام- لما فرغ من عمارة بيت المقدس، خرج للحج، فأقام في الحرم مدة طويلة، يقرب كلَّ يوم خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف بقرة، وعشرين ألف شاة، وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي، صفته كذا وكذا (¬1)، يعطى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم، يدين بدين الحنيفية، طوبى لمن أدركه وآمن به، ثم خرج من مكة يطلب صنعاء اليمن، فرأى مكانًا أعجبه، فنزل ليتغدى ويصلي الظهر، وكان الهدهد دليل الماء كما تقدم، واسمه يعفور، فقصد أن يرتفع لينظر في طول السماء وعرضها، فارتفع فرأى بستانًا لبلقيس، فمال إلى خضرته، فإذا بهدهد اسمه عنفير، فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت؟ قال: من الشام مع صاحبي سليمان ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال: من هذه البلاد، وملكتها بلقيس، وما أظن ملك سليمان بأعظم من ملكها، فهل أنت منطلق معي تنظر ملكها؟ فقال: أخاف أن يفقدني سليمان وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، فقال: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه، ونظر ملكها. {فَمَكَثَ} وقتًا {غَيْرَ بَعِيدٍ} ثم جاء. قرأ عاصم، وروح عن يعقوب: ¬

_ (¬1) "وكذا" ساقطة من "ت".

(فَمَكَثَ) بفتح الكاف، والباقون: بضمها، لغتان (¬1)، المعنى: أن الهدهد أبطأ في غيبته قدرًا يسيرًا، فسأل سليمان عريفَ الطير النسرَ عن الهدهد، فقال: أصلح الله الملك، ما أدري أين هو، ولا أرسلته إلى مكان، فغضب وقال لسيد الطير العقاب: عليَّ به، فارتفع في الهواء، فرأى الهدهد قد أقبل من نحو اليمن، فانقض عليه (¬2) فقال: بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء، فقال: ويلك إن نبي الله قد حلف ليعذبنك، فتلقته الطيور وقالت: ويلك إن نبي الله قد توعدك، وحلف ليهلكنك، قال: وما استثنى؟ قالوا: بلى، إن لم تأت بسلطان مبين، فقال: نجوت إذًا، فجاء العقابُ سليمانَ بالهدهد، وقال: قد أتيتك به، فلما قرب الهدهد، رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعًا لسليمان، فأخذ برأسه وجذبه إليه بشدة، وتهدده، فقال: يا نبي الله! اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد وعفا عنه، ولطف به؛ خوفًا من الله تعالى، ولئلا يلحقه العجب، وهو الداء العضال، ثم سأله عما لقي في غيبته. {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي: علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك (¬3)، والإحاطة: العلمُ بالشيء من جميع جهاته. {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} اسم أرض باليمن، أو رجل. قرأ أبو عمرو، والبزي عن ابن كثير: (سَبَأَ) بفتح الهمزة من غير تنوين، وروى قنبل عن ابن ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 167)، و"تفسير البغوي" (3/ 394)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 337)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 343). (¬2) "عليه" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 392 - 394).

[23]

كثير: بإسكان الهمزة، وقرأ الباقون: بالخفض والتنوين (¬1)، فمن قرأ منونًا مصروفًا، جعله اسم رجل، ومن قرأ غير مصروف، جعله اسم البلد، والقراءة بإسكان الهمزة تخفيفًا، والنسابون يقولون: هو سبأ بن يشجب بن قحطان، وقد جاء في الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن سبأ فقال: "كان رجلًا له عشرة من البنين، تيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة" (¬2). {بِنَبَإٍ} خبر {يَقِينٍ}. ... {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}. [23] قال سليمان: وما ذاك؟ قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} أي: تملك قومها، واسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وأمها جنية؛ لأنه ما كان يرى التزوج من الإنس، ولم يكن له ولد غيرها، فملكت ملكه. {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يليق بها من أسباب الدنيا. {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} سرير ضخم كان مضروبًا من الذهب، مكللًا بالدر ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 167)، و"الكشف" لمكي (2/ 155)، و"تفسير البغوي" (3/ 394)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 337)، قال مكي عن قراءة الإسكان في الوصل: غير مختار ولا قوي. (¬2) رواه ابن حبان في "المجروحين" (3/ 111 - 112)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 324)، عن فروة بن مسيك -رضي الله عنه-.

[24]

والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات، وعلى كل بيت باب مغلق. قال ابن عباس: "كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، وطوله في السماء ثلاثون ذراعًا" (¬1)، وقيل غير ذلك. ... {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)}. [24] {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا} وكانوا مجوسًا {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} القبيحة {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} سبيل الصواب. {فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} إليه، وخفي حالها على سليمان، مع قربها منه؛ لأنه كان نازلًا بصنعاء، وهي بمأرب، وبينهما ثلاثة أميال لحكم يعلمها الله تعالى؛ ليعلم الإنسان أنه لا يعلم إلا ما عُلِّم. ... {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)}. [25] {أَلَّا يَسْجُدُوا} قرأ أبو جعفر، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (أَلاَ) بتخفيف اللام، ويقفون: (أَلاَ يَا)، ويبتدئون: (اُسْجُدُوا) بهمزة مضمومة على الأمر على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا: وجعلوه أمرًا من الله ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 395).

تعالى مستأنفًا: فحذفت همزة الوصل بعد (يا) وقبل السين من الخط على مراد الوصل دون الفصل. قال الحافظ أبو عمرو الداني: كما حذفوها في قوله: (يَبْنَؤمَّ) في طه على مراد ذلك. قال ابن الجزري: أما (يا بنؤم). فقد رأيته في المصاحف الشامية من الجامع الأموي، ورأيته في المصحف (¬1) الكبير الذي يذكر أنه الإمام من الفاضلية بالديار المصرية. وفي المصحف المدني: بإثبات إحدى الألفين، ولعل الداني رآه في بعض المصاحف محذوف الألفين، فنقله كذلك. وقرأ الباقون: بتشديد اللام، و (يَسْجُدُوا) عندهم كلمة واحدة، مثل ألا يقولوا، فلا يجوز القطع على شيء منها (¬2)، المعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم؛ لئلا يسجدوا {لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} المستتر {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فخبء السماء: المطر، وخبء الأرض: النبات. {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وصف له بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود. قرأ الكسائي، وحفص عن عاصم: (تُخْفُونَ) و (تُعْلِنُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬3). ... ¬

_ (¬1) "المصحف" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 167)، و"تفسير البغوي" (3/ 396)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 337)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 346). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 168)، و"تفسير البغوي" (3/ 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 348).

[26]

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}. [26] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} هو المستحق للعبادة والسجود، لا غيره، وعرش ملكة سبأ وإن كان عظيمًا، فهو صغير حقير في جنب عرشه عز وجل، وهذا محل سجود بالاتفاق، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في حكم سجود التلاوة وسجود الشكر ملخصًا عند سجدة مريم. ... {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)}. [27] فلما فرغ الهدهد، من كلامه {قَالَ} له سليمان: {سَنَنْظُرُ} من نظر التأمل {أَصَدَقْتَ} فيما أخبرت. {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فيه (¬1). ... {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)}. [28] ثم دلهم الهدهد على الماء، فاستخرج، وارتووا وتوضؤوا وصلوا، ثم كتب سليمان كتابًا صورته: "من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي، وأتوني مسلمين"، ثم طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه، ثم قال له: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ} قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة: (فَأَلْقِهْ) بسكون الهاء تخفيفًا لغة صحيحة، وقرأ أبو جعفر، ¬

_ (¬1) "فيه" زيادة من "ت".

[29]

ويعقوب، وقالون، وهشام بخلاف عن الأول: (فَأَلْقِهِ) باختلاس كسرة الهاء لتدل الكسرة على الياء المحذوفة، وقرأ الباقون: بإشباع الكسرة، وصلتها بياء في الوصل (¬1)؛ لأن الهاء لما يتحرك ما قبلها، ثبت الحرف الذي بعدها؛ لعدم اجتماع الساكنين، المعنى: اقذفه {إِلَيْهِمْ} إلى بلقيس وقومها. {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} تنحَّ مستترًا {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يردُّون من الجواب. ... {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)}. [29] فأخذ الهدهد الكتاب، وأتى بلقيس وهي نائمة في قصرها، فألقاه على نحرها، فلما رأت الخاتم، أرعدت وخضعت خوفًا؛ لأن ملك سليمان كان فيه، وعرفت أن مُلكَ المرسل إليها أعظم من ملكها، ثم تأخر الهدهد يسيرًا، ثم جلست مع أشراف قومها، وكانوا اثني عشر ألفًا، ثم {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} مختوم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كرامةُ الكتابِ خَتْمُه" (¬2). واختلاف القراء في الهمزتين من (الْمَلأُ إِنِّي) كاختلافهم فيهما من (نَشَاءُ إِلَى ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 481)، و"التيسير" للداني (ص: 168)، و"تفسير البغوي" (3/ 397)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 305 - 306)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 349). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3872)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 99): فيه محمد بن مروان السدي الصغير، وهو متروك.

[30]

أَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة الحج، قرأ نافع، وأبو جعفر: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)}. [30] ثم قرأت عليهم ما في الكتاب، وهو: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. ... {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)}. [31] {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} لا تتكبروا {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} طائعين مؤمنين. ... {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)}. [32] ثم {قَالَتْ} اختبارًا لقومها وتطييبًا لقلوبهم: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي} أشيروا علي {فِي أَمْرِي} فيما عرض لي. {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً} منفذة {أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} تحضرون. قرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وابن كثير، ورويس عن يعقوب: (الْمَلأُ أَفْتُونِي) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية، وهي أن تبدل واوًا محضة، وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 170)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 340)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 350).

[33]

الهمزتين (¬1)، [وما ذكر من تسهيل إحدى الهمزتين] (¬2) إنما هو في حالة الوصل، فإذا وقفت على الكلمة الأولى، وبدأت بالثانية، حققت الهمز في ذلك لجميع القراء، وأثبت يعقوب الياء بعد النون في (تشهَدُوني)، وحذفها الباقون (¬3). ... {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)}. [33] {قَالُوا} مجيبين لها: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} الأجساد والآلات. {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} شجاعة ونجدة في الحرب، وهذا تعرض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك. {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} في القتال وتركه. {فَانْظُرِي} من الرأي {مَاذَا تَأْمُرِينَ} فنحن لك تبع. ... {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)}. [34] فأومأت إلى المسالمة، و {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} قهرًا {أَفْسَدُوهَا} بالتخريب. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 336)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 351). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 240)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 351).

[35]

{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} ليستقيم أمرهم، تحذرهم مسير سليمان إليهم، وتناهى الخبر عنها هاهنا، فصدق الله تعالى قولها. فقال: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي: كما قالت. ... {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}. [35] وكانت بلقيس امرأة لبيبة، قد سيست وساست، وعرفت تدبير الملك، فأرادت أن تداري عن بلدها، فقالت للملأ من قومها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} أختبر بذلك سليمان، إن كان ملكًا، أخذ الهدية وانصرف، وإن كان نبيًّا لم يأخذها، ولم نأمنه على بلادنا. {فَنَاظِرَةٌ بِمَ} أي: بأي شيء. {يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} من قبول الهدية أو ردها، وما يقال لهم. وقف يعقوب والبزي: (بمَهْ) بزيادة هاء بعد الميم بخلاف عنهما (¬1)، والهدية: اسم للشيء المعطى بملاطفة ورفق. ... {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)}. [36] فأهدت بلقيس لسليمان وُصَفاءَ ووصائفَ، وألبستهم لباسًا واحدًا لئلا يُعرفوا، وكان عددهم خمس مئة جارية، وخمس مئة غلام، وأربع ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 311)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 351) عن البزي.

لبنات، كل لبنة مئة رطل من ذهب، وتاجًا مكللًا بالجواهر، ومسكًا وعنبرًا، وحقة فيها درة ثمينة، وخرزة جزعية معوجة الثقب، وكتبت كتابًا فيه نسخة الهدايا، وقالت فيه: إن كنت نبيًّا، فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل فتحها، واثقب الدرة ثقبًا مستويًا من غير علاج إنس ولا جن، وأمرت الغلمان أن يكلموه بكلام فيه لين شبه كلام النساء، والجواري بكلام فيه غلظة شبه كلام الرجال، وأرسلت الهدية مع المنذر بن عمرو من قومها ذي لب ورأي، وضمت إليه رجالًا من قومها، وقالت له: انظر إليه، فإن نظر إليك نظر غضب، فاعلم أنه مَلِك، فلا يهولنك منظره، وإن رأيته هشًّا لطيفًا، فاعلم أنه نبي كريم، فتفهم قوله، ورد الجواب كما سمعت. فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد نحو سليمان مسرعًا يخبره الخبر، فأمر سليمان أن يضربوا لبنات الذهب والفضة، وأن يبسطوها من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانًا واحدًا، وأن يتركوا على طريقهم موضعًا على قدر اللبنات خاليًا، وأن يجعلوا حول الميدان حائطًا مشرفًا من الذهب والفضة، ثم أمر الجن فجاؤوا بأحسن دواب البحر، فجعلها مع أولاد الجن عن يمين الميدان وشماله، وجلس هو في الميدان، وحوله الجن والإنس والشياطين والطير والوحش، فجعل الرسل يمرون بكراديس الجن والإنس والشياطين، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليًا، وكل الأرض مفروشة، خافوا أن يُتهموا بذلك، فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، وتقاصرت نفوسهم لما رأوا ما لم تر أعينهم. {فَلَمَّا جَاءَ} رسلها {سُلَيْمَانَ} نظر إليهم بوجه حَسَنٍ طَلْق، وقال: ما وراءكم؟ فأخبر الخبر، وأعطي كتابها، فنظر فيه فقال: أين الحقة؟ فجيء بها، فقال: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة معوجة الثقب،

فأمر سليمان الأرضة، فأخذت شعرة ودخلت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر، ودخلت دودة أخرى بخيط في الخرزة المثقوبة حتى خرجت من الجانب الآخر، فجمع بين طرفيه، وختمه، ودفعها إليهم، وميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم بغسل وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها وتجعله على اليد الأخرى، والغلام يأخذ من الآنية يضرب به وجهه، فلما اعتبر الهدية. {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ} أتزيدونني {بِمَالٍ} وأكثر استعمال الإمداد في المحبوب، والمد في المكروه. {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} من النبوة والملك {خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} من الدنيا، ثم أضرب عن إنكاره عليهم مبينًا سبب حملهم على الإمداد. فقال: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} لفخركم بزخارف الدنيا (¬1)، المعنى: إن الله تعالى أعطاني نبوة وملكًا لا مزيد عليه، فلا حاجة بي إلى دنياكم، بل حاجتي إلى إيمان قومكم. قرأ حمزة، ويعقوب: (أَتُمِدُّونِّي) بنون واحدة مشددة وإثبات الياء، وقرأ الباقون: بنونين خفيفتين، وأثبت الياء وصلًا نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وفي الحالين: ابن كثير، ويعقوب، وحمزة (¬2)، إلا أن حمزة ويعقوب يدغمان النون كما تقدم، وقرأ نافع، ¬

_ (¬1) "الدنيا" ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (3/ 401)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 340)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 352).

[37]

وأبو جعفر، وأبو عمرو، وحفص، ورويس: (آتَانِيَ اللهُ) بفتح الياء وصلًا، وقف عليها بالياء يعقوب، وحذفها ورش وقفًا، واختلف في الوقف عن أبي عمرو، وقالون، وقنبل، وحفص، وحذفها الباقون في الحالين، وقرأ الكسائي: (آتَانِي اللَّهُ) بالإمالة (¬1). ... {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)}. [37] ثم قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي: لا طاقة لهم بهم. قرأ حمزة، ويعقوب: (إِلَيْهمْ) بضم الهاء حيث وقع (¬2)، وابن كثير، وأبو جعفر، وقالون بخلاف عنه: يصلون الميم بواو حيث وقع، وقرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (لاَ قِبَل لَّهُمْ) بإدغام اللام الأولى في الثانية (¬3). {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} من سبأ {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} إن لم يأتوا مسلمين. فلما رجع رسلها إليها، قالت: قد عرفت أنه ليس بملك، وما لنا به عن طاقة، وأرسلت إليه: أني قادمة عليك، وجحلت سرائرها داخل سبعة ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 482)، و"التيسير" للداني (ص: 170)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 37)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 353). (¬2) سلفت عند تفسير الآية (6) من سورة الفاتحة. (¬3) انظر: "الغيث" للصفافسي (ص: 312)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 354).

[38]

أبواب داخل قصرها، وقصرها داخل سبعة قصور، وأغلقت الأبواب، وجعلت عليه حرسًا، وارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف قَيْلٍ، مع (¬1) كل قَيْلٍ ألوف كثيرة. ... {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)}. [38] وكان سليمان رجلًا مَهِيبًا لا يبدأ بشيء حتى يسأل عنه، فجلس يومًا على سريره، فرأى رهجًا وجمعًا جمًّا على فرسخ عنه، فقال: ما هذا؟ قال: بلقيس بجنودها، فأقبل حينئذ سليمان على جنوده، و {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فيحرم علي أخذه منها (¬2). واختلاف القراء في الهمزتين من {الْمَلأُ أَيُّكُمْ} كاختلافهم فيهما من {الْمَلأُ أَفْتُونِي} [يوسف: 43 والنمل:32]. ... {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)}. [39] {قَالَ عِفْرِيتٌ} المارد القوي {مِنَ الْجِنِّ} والإنس، مأخوذ من العفر، وهو التراب، فكأنه يصرع قرنه عليه من الخبر، واسمه كوذي: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} أي: من مجلسك الذي تقضي فيه، وكان يجلس إلى القضاء إلى نصف النهار. ¬

_ (¬1) "مع" ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 399 - 401).

[40]

{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} على ما فيه من درر وجوهر. ... {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}. [40] فقال سليمان: أسرع من هذا {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} أي: من كتابها إليه، وهو آصف بن برخيا، وكان صِدّيقًا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وهو يا حي يا قيوم، وقيل غيره (¬1)، وكان بينه وبين عرشها مقدار شهرين: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أي: تحريك أجفانك إذا نظرت. قرأ حمزة، وخلف بخلاف عن خلاد: (آتِيكَ) بإمالة فتحة الهمزة في الحرفين (¬2). رُوي أن آصف قال لسليمان: أرسل طرفك، فنظر نحو اليمين، فدعا آصف، فسار الكرسي تحت الأرض، ونبع لدى سليمان قبل أن يرجع إليه طرفه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 403)، و"تفسير القرطبي" (15/ 202)، و"روح المعاني" للآلوسي، (19/ 203) وذكر الآلوسي رحمه الله الاختلاف في الذي قال ذلك وناقش مسألة طلب سليمان أن يأتوه بالعرش دون أن يحضره هو بنفسه. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 482)، و"التيسير" للداني (ص: 51)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 337)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 354). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 403)، ورواه الطبري في "تفسيره" (19/ 468) عن وهب بن منبه.

[41]

{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} ثابتًا لديه، وحُمل إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف {قَالَ هَذَا} أي: حصول مرادي {مِنْ فَضْلِ رَبِّي} عَلَيَّ. {لِيَبْلُوَنِي} ليختبرني {أَأَشْكُرُ} النعمة {أَمْ أَكْفُرُ} بكون غيري أعلم مني. {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن نفع شكره عائد عليه؛ لأن الشكر قيد النعمة الموجودة، وصيد النعمة المفقودة. {وَمَنْ كَفَرَ} بترك الشكر على النعمة {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكرهم {كَرِيمٌ} ذو فضل على الشاكر والكافر. وتقدم التنبيه على اختلاف القراء في (رَآهُ عِنْدَهُ) {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل: 10]، وقرأ نافع، وأبو جعفر: (لِيَبْلُوَنيَ) بفتح الياء الأخيرة، والباقون: بإسكانها (¬1)، واختلافهم في الهمزتين من (أَأَشْكُرُ) كاختلافهم فيهما من (أَأَنْتَ فَعَلْتَ) في سورة الأنبياء [الأنبياء: 62]. ... {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}. [41] ولما جاءت بلقيس، خاف الجن أن تفشي سرهم إلى سليمان؛ لأن أمها كانت جنية (¬2)، وأن يتزوجها سليمان، فتلد له ولدًا فلا ينفكون من ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 170)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 340)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 355). (¬2) قال الماوردي: وهذا مستنكر للعقول؛ لتباين الجنسين واختلاف الطبعين؛ إذ الآدمي جسماني والجني روحاني، وهذا من صلصال كالفخار، وذاك من مارج من نار، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع. ورده =

[42]

التسخير، فقالوا: إن في عقلها شيئًا، وإنها شَعْراء الساقين، وإن حافرها كحافر حمار، قال سليمان: {نَكِّرُوا} غيروا {لَهَا عَرْشَهَا} بأن تجعلوا أعلاه أسفله، ومكان الجوهر الأحمر أخضر، وبالعكس. {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} إلى معرفته. {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} فغير عرشها لاختبار عقلها. ... {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)}. [42] {فَلَمَّا جَاءَتْ} بلقيس {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} عرفته، لكن شبهت عليهم، لم تقل: نعم؛ خوفًا من أن تكذب، ولم تقل: لا؛ خوفًا من التكذيب، فعرف سليمان كمال عقلها؛ حيث لم تقر ولم تنكر. {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} من تتمة كلام بلقيس؛ أي: آمنا بالآيات المتقدمة من أمر الهداية والرسل من قبل هذه المعجزة في العرش. {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} طائعين له لما أخبرنا بما اقترحنا عليه من الدلالة على نبوته، وقيل: هو من كلام سليمان -عليه السلام- على جهة تعديد نعم الله ¬

_ = القرطبي كما في "تفسيره" (13/ 213). وفي حلِّ نكاح الإنس للجن خلاف، ففي "الفتاوى السراجية" للحنفية: لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء؛ لاختلاف الجنس، وفي "فتاوى البارزي" من الشافعية: لا يجوز التناكح بينهما، ورجَّح ابن العماد جوازه. كذا في "فيض القدير" للمناوي (1/ 186).

[43]

عليه وعلى آبائه؛ أي: وأوتينا العلم بالله تعالى وقدرته على ما يشاء من قبل هذه الآيات، وكنا مسلمين منقادين لحكمه، لم نزل على دينه. ... {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)}. [43] {وَصَدَّهَا} الله بتوفيقها للإسلام عن عبادة {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهي الشمس، وقيل: المعنى: وصدها منعَها من الإيمان قبل ذلك ما كانت تعبد من دون الله. {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} يعبدون الشمس، فنشأت فيهم، ولم تعرف إلا عبادتها. ... {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}. [44] ولما أراد سليمان أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفهم لما قيل له: إن رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين (¬1)، وليريها ملكًا أعظم من ملكها، أمر الشياطين فبنوا له صرحًا؛ أي: قصرًا من زجاج؛ كأنه الماء بياضًا، وجعل صحن الدار قوارير، وجعل تحته أمثال الحيات والضفادع، فإذا رئي، ظن ماء حقيقة، ووضع سريره في صدر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 404)، و"تفسير القرطبي" (13/ 207).

الصحن، وجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، ودعا بلقيس، فلما جاءت {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} القصر. {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} هي معظم الماء، {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} لتنجو منه إلى سليمان، فنظر سليمان، فإذا هي أحسن الناس ساقًا وقدمًا، إلا أنها كانت شَعراء الساقين. قرأ قنبل عن ابن كثير: (سَأْقَيْهَا) بالهمز الساكن؛ لجواز أن يكون من العرب من يهمز مفرد ساق وجمعه، والباقون: بغير همز (¬1)، فلما رأى سليمان ذلك، صرف بصره عنها. ثم {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} بنيان مملس {مِنْ قَوَارِيرَ} من زجاج، وليس بماء حقيقة، ثم دعاها إلى الإسلام، فأجابت، و {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بعبادتي غيرك. {وَأَسْلَمْتُ} أي: وقد أسلمت {مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أخلصت له التوحيد. وأراد سليمان تزوجها، فكره شعر ساقيها، فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، فقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن، فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين، فقالوا: نحتال لك حتى تصير كالفضة البيضاء، فأخذوا النورة والحمام، فكانت النورة والحمام من يومئذ، ويقال: إن الحمام الذي ببيت المقدس بباب الأسباط إنما بني لها، وإنه أول حمام بني على وجه الأرض، فلما تزوجها سليمان أحبها حبًّا شديدًا، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 483)، و"التيسير" للداني (ص: 168)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 337)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 357).

[45]

وأقرها على ملكها، وأمر الجن فابتنوا بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعًا وحسنًا، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها، ويقيم عندها ثلاثة أيام، وولدت له فيما ذكر، وتقدم ذكر سليمان وقدر عمره ومدة ملكه ومحل قبره وتاريخ وفاته في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [الآية: 102]. ... {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)}. [45] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ} أي: بأن. {اعْبُدُوا اللَّهَ} وحِّدوه. {فَإِذَا هُمْ} مبتدأ، وخبره {فَرِيقَانِ} مؤمن وكافر. {يَخْتَصِمُونَ} يقول كلٌّ: الحقُّ معي. ... {قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)}. [46] {قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} أي: العذاب الذي يوعدون به. {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قبل التوبة؛ لأئهم كانوا يعتقدون لجهلهم أن العذاب

[47]

إذا نزل بهم تنفعهم توبتهم، فيصرون على كفرهم، فأومأ صالح إلى بطلان اعتقادهم بقوله: {لَوْلَا} أي: هَلَّا {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} من كفركم قبل نزول العذاب بكم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فإن العذاب إذا نزل لا يرفع. ... {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)}. [47] {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} أصله: تطيرنا؛ أي: تشاءمنا {بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} من المؤمنين؛ أي: أصابنا بسببكم شؤم، وهو القحط، وتفريق كلمتنا، وأصل التطير: أن الرجل كان إذا سافر، مر بطائر، فزجره، فإن مر سانحًا، وهو الذي ولاه مياسره، فلا يتمكن من رميه، فيتشاءم به، ثم استعمل في كل ما يُتشاءم به. {قَالَ طَائِرُكُمْ} أي: السبب الذي يجيء منه خيركم وشركم. {عِنْدَ اللَّهِ} أي: لا يأتي به إلا هو تعالى، وسمي طائرًا؛ لسرعة نزوله، ولا شيء أسرع من قضاء محتوم. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بالخير والشر. ... {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)}. [48] {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} وهي الحِجْر {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي: أنفس،

[49]

والرهط: ما دون العشرة، وليس فيهم امرأة، وتقدم الكلام عليه في سورة هود (¬1)، وأسماؤهم: رأب، وغلم، والهذيل، ومصدع، وشحيط، ولحيط، وسالف، وقدار، وسمعان رأس الماكرين. {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي {وَلَا يُصْلِحُونَ} وهم الذين اتفقوا على عقر الناقة، وهم غواة قوم صالح، ورأسهم قدار بن سالف، وهو الذي تولى عقرها، كانوا يعملون بالمعاصي. ... {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)}. [49] {قَالُوا تَقَاسَمُوا} تحالفوا {بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ} لنقتلنه {وَأَهْلَهُ} أي: قومه الذين أسلموا معه، البيات: مباغتة العدو ليلًا. {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي: ولي دمه: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي: إهلاكهم. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في قولنا، ووجه دعواهم الصدق، وقد جحدوا ما فعلوا بهم: أنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (لَتُبَيِّتُنَّهُ) (ثُمَّ لَتَقُولُنَّ) بالتاء فيهما، وضم التاء الثانية في الأول، وضم اللام الثانية في الثاني؛ أي: يأمر بعضهم بعضًا بالتحالف على إهلاك صالح وأهله ليلًا؛ من البيات، وقرأ الباقون: بالنون في الفعلين وفتح التاء واللام إخبارًا عن أنفسهم (¬2)، وقرأ أبو بكر عن عاصم: (مَهْلَكَ) بفتح الميم ¬

_ (¬1) عند تفسير الآية (92). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 483)، و"التيسير" للداني (ص: 168)، =

[50]

واللام؛ أي: هلاك أهله، وقرأ حفص: بفتح الميم وكسر اللام، والباقون: بضم الميم وفتح اللام (¬1)، وتقدم معناه. ... {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)}. [50] {وَمَكَرُوا مَكْرًا} أي: غدروا غدرًا حين قصدوا تبييتَ صالح والفتكَ به. {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} أي: جازيناهم جزاء مكرهم {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} مرادنا منهم. ... {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)}. [51] {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} قرأ الكوفيون، ويعقوب: (أَنَّا) بفتح الهمزة ردًّا على العاقبة؛ أي: كانت العاقبة أنا دمرناهم، وقرأ الباقون: بالكسر على الاستئناف (¬2)، المعنى: أن أولئك التسعة أرادوا الفتك بصالح وأهله، فأهلكناهم. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (3/ 408)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 358). (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 144)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 337)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 358). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 168)، و"تفسير البغوي" (3/ 408)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 338)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 359).

[52]

قال ابن عباس: "أرسل الله الملائكة تلك الليلة (¬1) إلى دار صالح يحرسونه، فأتى التسعةُ دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة، فقتلتهم" (¬2) {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أهلكهم الله بالصيحة. ... {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)}. [52] {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} نصب على الحال؛ أي: خالية. {بِمَا ظَلَمُوا} بسبب ظلمهم وكفرهم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قدرتنا. ... {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)}. [53] {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الكفر والمعاصي، وهم صالح ومن نجا معه من العذاب، وكانوا أربعة آلاف. ... {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)}. [54] {وَلُوطًا} أي: واذكر لوطًا. ¬

_ (¬1) "الليلة" ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 408).

[55]

{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهي إتيان الرجال في الأدبار. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} بقلوبكم أنها خطيئة وفاحشة. ... {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)}. [55] {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} عاقبة فعلكم. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَئِنَّكُمْ) كاختلافهم فيهما من (أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا) في سورة الشعراء [الآية: 41]. ... {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)}. [56] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهون عن إتيان الذكور. ... {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)}. [57] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا} بتخفيف الدال؛ أي: جعلناها، وقرأ الباقون: بتشديد الدال (¬1)؛ أي: قدرنا عليها؛ من القدر والقضاء. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 485)، و"التيسير" للداني (ص: 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 360).

[58]

{مِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب، وغَبَر بمعنى: بقي، وقد يجيء أحيانًا في بعض كلام العرب يوهم أنه بمعنى مضى. ... {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}. [58] {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} وهي حجارة السجيل، أهلكت جميعهم. قال ابن عطية: وهذه الآية أصلًا لمن جعل من الفقهاء الرجم في اللوطية، وبها تأنس؛ لأن الله عذبهم على كفرهم به، وأرسل عليهم الحجارة لمعصيتهم، ولم يقس هذا القول على الزنا، فيعتبر الإحصان (¬1). وتقدم الكلام على ذلك مستوفىً في سورة النساء، وملخصه: أن مذهب مالك -رحمه الله- رجم الفاعل والمفعول به، أحصنا أو لم يحصنا، ومذهب الشافعي وأحمد حكمه كالزنا، فيه الرجم مع الإحصان، والجلد مع عدمه، ومذهب أبي حنيفة: يعزر، ولا حد عليه؛ خلافًا لصاحبيه، وعن أحمد رواية أن من تلوط بغلام، قُتل، بكرًا كان أو ثيبًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من وجدتموه يعملُ عملَ قومِ لوط، فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به" (¬2)، ولكن ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 265). (¬2) رواه أبو داود (4462)، كتاب: الحدود، باب: فيمن عمل عمل قوم لوط، والترمذي (1456)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في حد اللوطي، وابن ماجه (2561)، كتاب: الحدود، باب: من عمل عمل قوم لوط، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 300)، وغيرهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

[59]

الصحيح من مذهبه الأول {فَسَاءَ} فبئس {مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}. [59] ثم أمر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بحمده، ثم بالسلام على خير خلقه، فقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على هلاك كفار الأمم الخالية. {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} هم الرسل. {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} أجمع القراء على مد (آللَّهُ)؛ لأنها همزة استفهام دخلت على همزة الوصل؛ لتفرق بين الاستفهام والخبر، وأجمعوا على عدم تحقيقها؛ لكونها همزة وصل، وهمزة الوصل لا تثبت بالابتداء، وأجمعوا على تليينها، واختلفوا في كيفيته، فقال كثير منهم: تبدل ألفًا خالصة، وقال آخرون: تسهل بين بين (¬1)، وقرأ أبو عمرو، وعاصم، ويعقوب: (يُشْرِكُونَ) بالغيب إخبارًا عن الكفار، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬2)، المعنى: آلله أنفع لعابديه، أم الأصنام لعابديها؟ وهذا إلزام لهم، وتبكيت، لا أن في أصنامهم خيرًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 377)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 338)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 361). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 168)، و "تفسير البغوي" (3/ 409)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 338)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 361).

[60]

{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}. [60] {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: عبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السموات والأرض؟ فهو رد مردود على ما قبله من المعنى المتقدم، وفيه معنى التوبيخ لهم، والتنبيه على قدرة الله تعالى، وعجز آلهتهم. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني المطر. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (وَأَنْزَل لَّكُمْ) بإدغام اللام الأولى في الثانية (¬1). {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} بساتين {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي: حُسن، تبهج من رآها. وقف الكسائي (ذَاهْ) بالهاء (¬2). {مَا كَانَ} أي: ما ينبغي {لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} لأنكم لا تقدرون عليها. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} استفهام على طريق الإنكار؛ أي: هل معه معبود سواه أعانه على صنعه؟ {بَلْ} ليس معه إله {هُمْ قَوْمٌ} يعني: كفار مكة {يَعْدِلُونَ} يشركون. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَإِلَهٌ) كاختلافهم ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 362). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 338)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 362).

[61]

فيهما من (أَإِنَّكُمْ) حيث وقع، وتقدم التنبيه عليه قريبًا. ... {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}. [61] {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} يُستقر عليها. {وَجَعَلَ خِلَالَهَا} أي: وسطها {أَنْهَارًا} تطرد بالمياه. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} جبالًا ثوابت. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} العذب والمالح. {حَاجِزًا} مانعًا لا يختلط أحدهما بالآخر. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} توحيدَ الله، فلا يؤمنون. ... {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}. [62] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} المجهود الذي مسه الضر. {إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الضر. {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ} أي: سكان. {الْأَرْضِ أَإِلَهٌ} بعد هلاك المتقدمين. {مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا} الذي خلقكم بهذه النعمة؟! {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} والمراد نفي التذكر؛ لأن القلة تستعمل بمعنى

[63]

النفي. قرأ أبو عمرو، وهشام عن ابن عامر، وروح عن يعقوب: (يَذَّكَّرُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬1)، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: على أصلهم في تخفيف الذال. ... {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)}. [63] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ} بالنجوم. {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ليلًا، وبعلامات الأرض نهارًا. {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: (الرِّيحَ) على الإفراد، وقرأ الباقون: (الرِّيَاحَ) على الجمع (¬2). {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدام المطر، وتقدم الكلام على (نُشْرًا)، واختلاف القراء فيها، وتوجيه قراءتهم في سورة الفرقان عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} [الآية: 48]. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يقدر على فعل ذلك {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} به. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 168)، و"تفسير البغوي" (3/ 410)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 338 - 339)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 363). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 363).

[64]

{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)}. [64] {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} للبعث. {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} المطر {وَالْأَرْضِ} النبات. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يفعل ذلك. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} حجتكم على دعواكم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في إشراككم، والاستفهام في جميع هذه الآيات توبيخ لا استرشاد. ... {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)}. [65] ولما سأل المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت قيام الساعة، نزل قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬1) رفع بدل من (مَنْ)؛ لأنه فاعل (يَعْلَمُ) تقديره: لا يعلم إلا اللهُ الغيبَ في السموات، فأعلم الله تعالى أنه لا يعلم وقت الساعة سواه، وجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها. {وَمَا يَشْعُرُونَ} يعني: البشر {أَيَّانَ} متى {يُبْعَثُونَ}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 411).

[66]

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "من زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب، فقد أعظم على الله الفِرْية" (¬1). ... {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)}. [66] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} (بل) بمعنى: هل. قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (أَدْرَكَ) بقطع الهمزة مفتوحة وإسكان الدال من غير ألف مفتوحة وألف بعدها (¬2) وأصله: تدارك، أدغمت التاء في الدال؛ أي: تتابع واجتمع علمهم بحدوث الآخر، فليس من اختص بشيء من علمها فهم جهالة بها. {بَلْ هُمْ} اليوم في الدنيا {فِي شَكٍّ مِنْهَا} من الساعة. {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} جمع عمي؛ أي: عنها عمون بقلوبهم. ... {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)}. [67] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: مشركي مكة {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} من قبورنا؟ قرأ نافع، وأبو جعفر: (إِذَا) بكسر الألف على ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6945)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}، ومسلم (177)، كتاب: الإيمان، باب: معنى قول الله -عز وجل-: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 168)، و"تفسير البغوي" (3/ 411)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص ت 339)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 365).

[68]

الخبر (أَئِنَّا) على الاستفهام، ويحققان الهمزة الأولى، ويسهلان الثانية، وأبو جعفر وقالون: يفصلان بينهما بألف، وابن عامر، والكسائي: (أئذا) بالاستفهام في الأول مع تحقيق الهمزتين وبالإخبار في الثانية مع زيادة نون فيه فيقولان (إنّا لمخرجون)، وهشام راوي ابن عامر يفصل بألف في الاستفهام مع تحقيق الهمزتين، وقرأ الباقون: بالاستفهام فيهما، فابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب يحققون الأولى، ويسهلون الثانية، ويفصل بينهما أبو عمرو بألف، وعاصم، وحمزة، وخلف، وروح عن يعقوب: يحققون الهمزتين (¬1). ... {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)}. [68] {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا} أي: البعث الذي تَعِدُنا به {نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذلك بشيء {إِنْ هَذَا} أي: ما هذا. {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها. ... {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)}. [69] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} تهديد لهم بأن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين من قبلهم. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (3/ 412)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 339)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 367).

[70]

{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)}. [70] {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} في تكذيبهم وإعراضهم. {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} أي: لا تهتم بتدبيرهم الحيل في إهلاكك، فأنا كافيك وناصرك عليهم. قرأ ابن كثير: (ضِيْقٍ) بكسر الضاد؛ أي: شدة، والباقون: بالفتح؛ أي: غمّ (¬1). ... {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)}. [71] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} العذاب الموعود. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن العذاب ينزل بالتكذيب. ... {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)}. [72] {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} اللام زائدة؛ أي: ردفكم، المعنى: دنا وقرب منكم. {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب، فحل بهم عذاب يوم بدر. ... {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)}. [73] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} حيث إنه لم يعجل عقوبتهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 285)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 368).

[74]

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} النعمة. ... {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)}. [74] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} تُخفي. {صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} من الكفر. ... {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)}. [75] {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الغائبة: اسم لكل مستتر، المعنى: ليس شيء في الوجود. {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، أثبته تعالى ويعلمه. ... {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)}. [76] ولما اختلف أهل الكتاب في دينهم، وفي عيسى عليه السلام، نزل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} (¬1) المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. {يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} الذين هم في زمان محمد - صلى الله عليه وسلم - {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} لأنه مذكور فيه. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 413).

[77]

{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}. [77] {وَإِنَّهُ} أي: القرآن {لَهُدًى} لمن اتبعه. {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فإنهم المنتفعون به. ... {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)}. [78] {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي} يفصل {بَيْنَهُمْ} أي: بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة {بِحُكْمِهِ} بعدله. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يرد حكمه. {الْعَلِيمُ} بأحوالهم وبحقيقة ما يقضي فيه. ... {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)}. [79] {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فإنه ناصرك عليهم. {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} الدين الواضح، وهو الإسلام. ... {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}. [80] {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} يعني: الكفار. {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} معرضين، لما كانوا لا يعون ما يسمعون، ولا ينتفعون به، سماهم موتى صمًّا وعميًا. قرأ ابن كثير: (وَلاَ يَسْمَعُ) بالياء وفتح الميم (الصُّمُّ) بالرفع فاعلًا، ونصب (الدُّعَاءَ)

[81]

مفعولًا، وقرأ الباقون: بالتاء وضمها وكسر الميم ونصب (الصُّمَّ) و (الدُّعَاءَ) مفعولين، والفاعل مضمر (¬1)، المعنى: لا تقدر يا محمد على هدايتهم. واختلاف القراء في الهمزتين من (الدُّعَاءَ إِذَا) كاختلافهم فيهما من (أَوْلِيَاءَ إِنَّا) في سورة الكهف [الآية: 102]. ... {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)}. [81] {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} قرأ حمزة: (تَهْدِي) بالتاء وفتحها وإسكان الهاء من غير ألف (¬2)، ونصب (العُمْيَ) مفعولًا، وقرأ الباقون: بالباء وكسرها وفتح الهاء وألف بعدها، وجر (العُمْيِ) (¬3)، ووقف يعقوب (بِهَادِي) بإثبات الياء (¬4)، تلخيصه: لا سبيل إلى هداية هؤلاء عن ضلالتهم؛ حيث الهداية لا تحصل إلا بالبصر. {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} القرآن {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} مخلصون. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (3/ 413)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 369). (¬2) "ألف" ساقطة من: "ش". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (3/ 414)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 370). (¬4) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 339)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 339)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 370).

[82]

{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)}. [82] {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ} أي: وجب العذاب. {عَلَيْهِمْ} من ظهور أشراط الساعة. {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} قيل: هي رجل، وأكثرهم: هي دابة، وظهورُها من أشراط الساعة. قال ابن عباس: "هي ذات زغب وريش، لها أربع قوائم" (¬1). روي أن لها رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، ولون نمر، وصدر أسد، وخاصرة هر، وقرن إيل، وقوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعًا (¬2). في الحديث: أن طولها ستون ذراعًا. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "أنها تخرج من الصفا أول ما يبدو رأسها ذات وبر وريش، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب" (¬3)، وروي غير ذلك. {تُكَلِّمُهُمْ} قال ابن عباس: "تكلم المؤمن والكافر" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 84)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2925). (¬2) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (3066)، عن حذيفة -رضي الله عنه-. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (3/ 19)، و "الفتح السماوي" للمناوي (2/ 891). (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" (20/ 14)، عن حذيفة -رضي الله عنه-. (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2926)، بلفظ: "تكُلِّم المؤمنَ، وتُكَلِّم الكافرَ".

[83]

{أَنَّ النَّاسَ} قرأ الكوفيون، ويعقوب: (أَنَّ النَّاسَ) بفتح الألف؛ أي: تخبر الدابة من رآها أن أهل مكة {كَانُوا بِآيَاتِنَا} بمحمد والقرآن {لَا يُوقِنُونَ} وقرأ الباقون: بالكسر على الاستئناف (¬1)؛ أي: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون: لا يصدقون. ... {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)}. [83] {وَيَوْمَ} أي: واذكر يوم {نَحْشُرُ} نجمع. {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} أي: من كل قرن من الناس متقدم؛ لأن كل عصر لم يَخْلُ من كَفَرة بالله، من لدن تفرق بني آدم، (مِنْ) للتبعيض، والمراد: الرؤساء. {فَوْجًا} جماعة {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} القرآن، و (مِنْ) للتعيين؛ لأن جميع الكفار مكذبون. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يُحبس أولهم على آخرهم، فيحشر رؤساء الأمم بين يدي أممهم إلى الموقف حتى يجتمعوا، ثم يساقون إلى النار. ... {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)}. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 169)، و "تفسير البغوي" (3/ 414)، و"معجم القراءات القرآنية" (1/ 371).

[84]

[84] {حَتَّى إِذَا جَاءُوا} مكان الحساب {قَالَ} تعالى تهديدًا لهم: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} أي: كذبتم بها غير عالمين بها، ولم تتفكروا في صحتها، بل كذبتم جاهلين، ونصب (عِلْمًا) على التمييز. {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أم أي شيء كنتم تعملون بعد ذلك؟ وهو للتبكيت؛ إذ لم يفعلوا غير التكذيب. ... {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)}. [85] {وَوَقَعَ الْقَوْلُ} وجب العذاب. {عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} بتكذيبهم بآيات الله. {فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} باعتذار لختم أفواههم. ... {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)}. [86] {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ} أي: خلقناه. {لِيَسْكُنُوا فِيهِ} بالنوم والقرار. {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} مضيئًا، تُبْصَر فيه الأشياء. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون فيعتبرون. ***

[87]

{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)}. [87] {وَيَوْمَ} أي: واذكر يوم. {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} هو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي: يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا. روي أن النفخات ثلاث: الأولى نفخة الصور للفزع، والثانية نفخة الصعق للموت، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين للبعث، وهذه النفخة الأولى، المعنى: إذا نفخ في الصور، مات من شدة النفخة جميع الخلائق. {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} من ثبت عليه من الملائكة، ثم يموتون بعد ذلك، وقيل الاستثناء: فيمن قضى الله من ملائكته وأنبيائه وشهداء عبيده أن ينالهم نوع الفزع في الصور، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من رفع رأسه، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان ممن استثنى الله، أم رفع رأسه قبلي؟ ومن قال: أنا خير من يونس بن متَّى، فقد كذب" (¬1). {وَكُلٌّ} أي: جميع الخلائق {أَتَوْهُ} قرأ حمزة، وخلف، وحفص عن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3233)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، ومسلم (2377)، كتاب: الفضائل، باب: في ذكر يونس -عليه السلام- , عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وهذا سياق رواية البغوي في "تفسيره" (3/ 419).

[88]

عاصم: (أَتَوْهُ) بفتح التاء وقصر الهمزة على صيغة الفعل الماضي؛ أي: جاؤوا لأمر الله؛ أي: أجابوه، وقرأ الباقون: بمد الهمز وضم التاء على وزن فاعِلُوه: (¬1) اسم فاعل من المجيء. {دَاخِرِينَ} صاغرين. ... {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)}. [88] {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} واقفة؛ من جمدَ مكانَه. {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} المعنى: إذا رأيت الجبال وقت النفخة الأولى، ظننتها ثابتة في مكان واحد؛ لعظمتها؛ لأن النظر لا يحيط بها، وهي في الحقيقة تسير سيرًا سريعًا كالسحاب إذا ضربته الريح. {صُنْعَ اللَّهِ} أي: فعلَه {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أحكمَه. {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} من الأفعال الباطنة والظاهرة، فيجازيهم عليها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وهشام: (يَفْعَلُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 169)، و"تفسير البغوي" (3/ 420)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 339 - 340)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 372 - 373). (¬2) المصادر السابقة.

[89]

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)}. [89] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} وهي قول: لا إله إلا الله {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قال ابن عباس: "فمنها يصير الخير إليه" (¬1)؛ يعني: له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان، فلا؛ فإنه ليس شيء خيرًا من قول: لا إله إلا الله. {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} قرأ الكوفيون: (فَزَعٍ) بالتنوين (يَوْمَئِذٍ) بفتح الميم؛ أي: فزع شديد، وقرأ الباقون: بغير تنوين على إضافة (فَزَعِ) إلى (يَوْمِئِذٍ)؛ لأنه أعم؛ فإنه يقتضي الأمن من فزع ذلك اليوم، ويفتح نافع وأبو جعفر ميم (يَوْمَئِذٍ)، ويكسرها الباقون (¬2). ... {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}. [90] {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} الشرك {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ} أي: ألقوا رؤوسهم. {فِي النَّارِ} ويقال لهم تبكيتًا: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من المعاصي والشرك؟! ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2935)، وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 387). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 487)، و"التيسير" للداني (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (3/ 420)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 340)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 373 - 374).

[91]

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)}. [91] {إِنَّمَا أُمِرْتُ} أي: قل يا محمد لقومك: إنما أمرت. {أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} يعني: مكة {الَّذِي حَرَّمَهَا} أي: جعلَها حرمًا آمنًا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم أحد، ولا يصاد صيد {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} بالملك والعبودية. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: عابدًا لله. ... {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)}. [92] {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} واتل معناه: تابعْ بقراءتك بين آياته، واسرُدْ. {فَمَنِ اهْتَدَى} إلى الإسلام {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي: فلنفسه ثوابه. {وَمَنْ ضَلَّ} عن الإيمان، وأخطأ طريق الهدى. {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} المخوِّفين، فليس علي إلا التبليغ للرسالة، وهذا نُسخ بآية السيف. ... {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}. [93] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على نعمه {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} وعدٌ بعذاب الدنيا؛ كبدر والفتح ونحوهما، وبعذاب الآخرة.

{فَتَعْرِفُونَهَا} أنها آيات الله حين (¬1) لا تنفع المعرفة. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب للكفار، وقرأ الباقون: بالغيب إخبارًا عنهم (¬2)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) "حين" ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 263)، و "معجم القراءات القرآنية" (4/ 375).

سورة القصص

سورة القصص مكية، إلا قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى قوله: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [الآية: 52 إلى 55]، وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة بالجحفة وقت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [الآية: 85]، وآيها: ثمان وثمانون آية، وحروفها: خمسة آلاف وثماني مئة حرف، وكلمها: ألف وأربع مئة وإحدى وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طسم (1)}. [1] {طسم} تقدم الكلام عليه ومذاهب القراء فيه أول الشعراء. ... {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}. [2] {تِلْكَ} أي: هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} يعني: القرَآنُ مبينٌ للأحكام. ... {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)}. [3] {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} نقص عليك شيئًا من خبرهما.

[4]

{بِالْحَقِّ} بالصدق الذي لا شك فيه. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون بأن ما تأتيهم به صدق. ... {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}. [4] {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا} استكبر وتجبر {فِي الْأَرْضِ} أرضِ مصر. {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} فرقًا مختلفة في خدمته. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} هم بنو إسرائيل، ثم فسر الاستضعاف فقال: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} والسبب في ذلك: أن كاهنًا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكُك على يده، فطمع بجهله أن يرد القدر، وسُمي: هذا استضعافًا؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فكذلك اجترأ على خلق كثير من أولاد الأنبياء كما تقدم في سورة البقرة لتخيل فاسد. ... {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)}. [5] {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} يعني: بني إسرائيل، يستضعفهم فرعون، ونحن نريد أن ننعم ونعظم المن عليهم، ولما كانت إرادة الله تعالى بالمنة عليهم بالنجاة وغيرها كائنة لا محالة،

[6]

جعلت الإرادة كأنها مقارنة استضعافهم. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قادةً يقتدى بهم في الخير. وتقدم اختلاف القراء في (أَئِمَّةً) في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} [الآية: 73]. {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} أملاكَ فرعونَ والقبط. ... {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)}. [6] {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} نوطِّنَ لهم في أرض مصر والشام، ونجعلها لهم مستقرًا. {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} من بني إسرائيل. {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} يَتَوَقَّون مما أخبرهم به الكاهن؛ أي: سيظهر للقبط ما كانوا يخافونه. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وَيَرَى) بالياء وفتحها، وإمالة فتحة الراء بعدها، ورفع الأسماء الثلاثة فاعلين، وقرأ الباقون: بالنون وضمها وكسر الراء، ونصب الأسماء الثلاثة مفعولًا (¬1). ... {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}. [7] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} يوخابد بنت لاوا، وحيَ إلهام لا نبوة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 492)، و"التيسير" للداني (ص: 170)، و "تفسير البغوي" (3/ 424)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 6).

[8]

{أَنْ أَرْضِعِيهِ} ما أمكنك إخفاؤه، ولما وضعت موسى أمه، وخرجت القابلة من عندها، رآها بعض العيون، فقالت أخته: هذا الحرسي بالباب، فألقته أمه في التنور وهو يُسْجَر، فدخلوا فقالوا: ما شأن هذه القابلة عندك؟ قالت: هي مصافية لي فأرضعته ثمانية أشهر، وقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} القتلَ {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} البحر، والمراد هنا: النيل. {وَلَا تَخَافِي} عليه الغرق ولا الضيعة {وَلَا تَحْزَنِي} على فراقه. {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} لتربيه {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فجمع في (¬1) هذه الآية بين أمرين ونهيين، وخبرين وبشارتين، والفرق بين الخوف والحزن: أن الخوف غم يلحق لمتوقع، والحزن خوف يلحق لواقع، فخافت عليه، فوضعته في تابوت مطبق، ثم ألقته في النيل ليلًا (¬2). ... {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)}. [8] وكان لفرعون إبنة يحبها، وبها برص، فوصفوا لها ريق حيوان شبه الإنسان يخرج من النيل يوم كذا عند طلوع الشمس، تلطخ به وجهها، فتبرأ، فأقبل التابوت على وجه الماء، فقال فرعون: عليَّ به. ¬

_ (¬1) "في" ساقطة من "ش". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 426).

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} أي: أخذوه، والالتقاط: هو وجود الشيء من غير طلب، وتقدم حكم اللقطة واللقيط في سورة يوسف (¬1). {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} يقتل رجالهم. {وَحَزَنًا} يسبي (¬2) نساءهم، واللام في (لِيَكُونَ) تشبه لام (كي)، وتسمى لام العاقبة، ولام الصيرورة؛ لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا، ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وحُزْنًا) بضم الحاء وسكون الزاي، والباقون: بفتحهما، لغتان (¬3) بمعنى. {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} في كل شيء؛ لأنهم قتلوا ألوفًا لأجله، ثم أخذوا موسى ليكبر وليفعل بهم ما كانوا يحذرون، ففتح التابوت، فوجدوا فيه طفلًا (¬4) صغيرًا في مهده بين عينيه نور، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يرضع منه لبنًا، ولعابه يسيل، وأقبلت بنت فرعون، فلما أخرجوه من التابوت، عمدت إلى مكان يسيل من ريقه، فلطخت به برصها، فبرأت، فقبلته وضمته إلى صدرها. ... ¬

_ (¬1) عند تفسير الآية (10). (¬2) في "ش": "يستعبد". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 492)، و"التيسير" للداني (ص: 171)، و"تفسير البغوي" (3/ 427)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 7). (¬4) "طفلًا" ساقطة من "ش".

[9]

{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)}. [9] وأحبه فرعون وزوجته آسية بنت مزاحم وابنته حبًّا شديدًا، فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك! إن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر فرقًا، فاقتله، فهم فرعون بقتله، فثبطته عنه آسية، وكانت من خيار النساء من بنات الأنبياء من بني إسرائيل، وكانت أمًّا للمساكين، ترحمهم وتتصدق عليهم. {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ} أي: هو قرة {عَيْنٍ لِي وَلَكَ} وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (امْرَأَهْ) (قُرَّهْ) بالهاء فيهما (¬1). {لَا تَقْتُلُوهُ} قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو قالت يومئذ: قرةُ عين لي كما هو لك، لهداه الله كما هداها" (¬2)، فاستوهبت آسية موسى من فرعون، فوهبها إياه، فتوسمت فيه النجابة. فقالت: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} في مهامنا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} نتبناه. {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أن هلاكهم على يده، وسمته آسية موسى؛ لأن تابوته وجد بين الماء والشجر، والماء في لغتهم (مو)، والشجر (شا). قال ابن عباس: "لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية: {عَسَى ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 341)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 7). (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (11326)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2944).

[10]

أَنْ يَنْفَعَنَا}، لنفعه الله، ولكنه أبي؛ للشقاء الذي كتبه الله عليه" (¬1). ... {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)}. [10] {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه؛ لأنها دهشت لما علمت أن فرعون قد التقطه، وكانت قد نسيت وعدَ الله بسلامته. {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي: بأمر موسى، وتبوح بسرها. {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي: شددنا عليه بالصبر والعصمة. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المصدقين بوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7]. ... {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)}. [11] {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ} مريم: {قُصِّيهِ} اتبعي أثره، وانظري فيه. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي: بعد. روي أنها كانت تمشي جانبًا، وتنظر إليه مزورة اختلاسًا، تُري أنها لا تنظره. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (4097).

[12]

{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أنها أخته، وأنها ترقبه. ... {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)}. [12] وكان هَمُّ امرأةِ فرعون من الدنيا أن تجد له مرضعة، فكلما أتوه بمرضعة، لم يأخذ ثديها، فذلك قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} جمع مرضعة؛ أي: منعناه عن شرب لبن غير أمه {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل قَصِّها أثرَه. {فَقَالَتْ} أخته حين رأت ذلك: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} يضمونه {لَكُمْ}، ويرضعونه، وهي امرأة قد قُتل ولدها، فأحبُّ شيء إليها أن تجد صغيرًا ترضعه. {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} والنصح: ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، فقال لها هامان: قد عرفت أهله؟ قالت: إنما قلت: هم للملك ناصحون، قالوا: نعم. ... {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}. [13] فجاءت بأمها وهو يصيح بعد أن مكث ثماني ليال لا يقبل ثديًا، وهم في طلب مرضعة له، فلما شم ريحها، قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت حتى قبل ثديك؟ قالت: إني طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أوتى بصبي

[14]

إلا قبل ثديي، فدفعه إليها، وأجرى أجرتها عليها، فكانوا يعطونها كل يوم دينار (¬1) , وأخذتها؛ لأنها مال حربي، لا أنها أجرة حقيقة على إرضاعها ولدَها، فذهبت به إلى بيتها، فذلك قوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} برد موسى إليها {وَلَا تَحْزَنَ} بفراقه. {وَلِتَعْلَمَ} علمَ مشاهدة. {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} الذي وعدها به {حَقٌّ} برده إليها. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} صحةَ ذلك، فمكث عندها إلى أن فطمته، وردَّته، فتبناه فرعون وآسية. ... {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}. [14] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} منتهى قوته، وهو ما فوق الثلاثين {وَاسْتَوَى} اعتدلت قوته، وبلغ أربعين سنة، وهو سن بعث الأنبياء. {آتَيْنَاهُ} قبل نبوته {حُكْمًا} حكمة وفقهًا {وَعِلْمًا} بمصالح الدارين، فكان يتكلم بالحق، وينكر عليهم قبل النبوة. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 428)، و"تفسير ابن كثير" (6/ 223).

[15]

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)}. [15] {وَدَخَلَ} موسى {الْمَدِينَةَ} هي مدينة مَنْف من أرض مصر، وتقدم ذكرها في سورة يوسف، وهي مدينة فرعون موسى التي كان ينزلها، وفيها كانت الأنهار تجري تحت سريره. روي أن فرعون خاف من موسى، فأخرجه من مدينته، فغاب عنها سنتين، حتى كبر واشتد، فدخلها مستخفيًا {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} وقت غرة {مِنْ أَهْلِهَا} يوم عيد لهم، وهم مشغولون بلهوهم. {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ} إسرائيليًّا وقبطيًّا {يَقْتَتِلَانِ} يختصمان. {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} أتباعه، روي أنه السامري {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} من القبط الذين هم على دين فرعون. {فَاسْتَغَاثَهُ} طلب منه الغوث {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} وهو الإسرائيلي. {عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وهو القبطي، وكان موسى قد أعطي شدة عظيمة. {فَوَكَزَهُ مُوسَى} بالعصا، ولم يتعمد قتله، بل أراد دفع ظلمه. {فَقَضَى عَلَيْهِ} فقتله، فندم، فدفنه في الرمل. و {قَالَ هَذَا} القتل {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي: بسببه؛ لأنه هيج غضبي. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} ظاهر العداوة، وهذا كان قبل النبوة، وهو مقتضى التلاوة، والسورة تدل عليه.

[16]

{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)}. [16] {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقتل القبطي من غير أمر. {فَاغْفِرْ لِي} ذنبي {فَغَفَرَ لَهُ} لاستغفاره. {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ} لذنوب عباده {الرَّحِيمُ} بهم. ... {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}. [17] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ} أي: بإنعامك {عَلَيَّ} بالمغفرة والقوة والحكم، قسم محذوف الجواب، تقديره: أقسم بما أنعمت لأتوبنَّ، وتفسير الجواب. {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} عونًا {لِلْمُجْرِمِينَ} للكافرين , وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرًا، قال ابن عباس: "لم يستثنِ، فابتُلي من الغد" (¬1). ... {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)}. [18] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا} على نفسه، ونصبُه على الحال. {يَتَرَقَّبُ} ينتظر المكروه بأن يستعاد. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 431).

[19]

{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيثه، ويصيح به من بعد على قبطي آخر، قال ابن عباس: أُتي فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا منا واحدًا، فخذ لنا حقنا، فقال: ابغوا لي قاتله، ومن يشهد عليه، فلا نستقيم أن نقضي بغير بينة، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيًّا، فاستغاثه على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي (¬1). {قَالَ لَهُ مُوسَى} أي: قال للإسرائيلي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ظاهر الغواية؛ لأنك تسببت لقتل رجل، وتقاتل آخر. ... {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}. [19] وكان موسى قد غضب غضبًا شديدًا {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} قرأ أبو جعفر: (يَبْطُشَ) بضم الطاء، والباقون: بكسرها (¬2)، وذلك أن موسى أدركته الرقة على الإسرائيلي، فمد يده ليبطش بالفرعوني، فظن الإسرائيلي أنه يقصد قتله؛ لمكان غضبه، وسمع قوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}. ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى في "مسنده" (2618) في حديث طويل. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 274)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 12).

[20]

فثم {قَالَ} الإسرائيلي: {يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ} أي: ما تريد {إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} بالقتل ظلمًا. {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} فلما قال ذلك، علموا حينئذ من قاتلُ الأول، فوصل ذلك إلى فرعون، فهمُّوا بقتل موسى. ... {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}. [20] قلما أرسل فرعون الذباحين لقتله، أخذوا الطريق الأعظم. {وَجَاءَ رَجُلٌ} مؤمن، وكان ابنَ عم فرعون، واسمه خربيل، وقيل غيره، وهو مؤمن آل فرعون. {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} آخرها. {يَسْعَى} أي: يسرع في مشيه، فأخذ طريقا قريبًا حتى يسبق إلى موسى، فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقًا آخر. {قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يعني: أشراف قوم فرعون {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي: يتشاورون بسببك. {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} من المدينة {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} في الأمر بالخروج. ... {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)}. [21] {فَخَرَجَ} موسى {مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} التعرُّضَ له في الطريق.

[22]

{قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين، فلما أخبر فرعون بهربه، بعت في طلبه، فقال: اركبوا بنيان الطريق؛ فإنه لا يعرف الطريق. ... {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)}. [22] وخرج موسى هاربًا بلا زاد ولا ظهر، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل حتى ترى خضرته في بطنه، وما وصل إلى مدين حتى وقع خفُّ قدميه. {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} قصدها ماضيًا إليها، وهي قرية شعيب، سميت بمدين بن إبراهيم، وهي على بحر القلزم، وتقدم ذكرها في سورة الأعراف (¬1) وطه، وهي على مسيرة اثني عشر يومًا من مصر، وكان موسى لا يعرف طريقها، فلذلك. {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} قصدَ الطريق ووسطَه إليها، فبُعث إليه ملك، فدله على الطريق. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). ... ¬

_ (¬1) عند تفسير الآية (85). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 496)، و"التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 12).

[23]

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}. [23] {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} أي: وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} جماعة {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} مواشيهم. {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} من مكان أسفل منهم {امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} تَكُفَّان غنمَهما عن الماء؛ لئلا تختلط بغنم القوم؛ لضعفها عن السقي معهم. {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ {قَالَتَا لَا نَسْقِي} غنمنا معهم؛ لعجزنا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء؛ لأنا لا نستطيع أن نزاحم الرجال. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وأبو عمرو: (يَصْدُرَ) بفتح الياء وضم الدال على اللزوم؛ أي: يذهب الرعاء بمواشيهم عن الماء، والباقون: بضم الياء وكسر الدال (¬1)، فالمفعول محذوف؛ أي: يصدر الرعاء مواشيهم من الماء، وأشمَّ الصاد الزاي حمزة، والكسائي، وخلف، ورويس، والرعاء جمع راع؛ كتاجر وتجار. {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقدر على رعي الغنم، وهو شعيب، وهو نبي القوم، وكلهم يحسدونه على ما آتاه الله، قال لهما موسى: وهذا الماء لهم ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 492)، و"التيسير" للداني (ص: 171)، و"تفسير البغوي" (3/ 433)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 341)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 13).

[24]

خاصة؟ قالتا: لا، بل لجميع الخلق، وكانوا إذا فرغوا، عمدوا إلى حجر عظيم لا يرفعه إلا عشرة نفر يطبقونه على رأس البئر؛ لئلا يقدر على تنحيته. ... {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}. [24] فسكت موسى -عليه السلام- حتى فرع الناس من سقي أغنامهم، فأطبقوا الحجر، وانصرفوا، فقام موسى، وقال للمرأتين: قرِّبا أغنامكما من الحوض، ثم إنه تقدم إلى البئر، وضرب الصخرة برجله، فدحاها أربعين ذراعًا على ضعفه من الجوع وسقوط خُفِّ قدمه. {فَسَقَى لَهُمَا} أغنامهما. {ثُمَّ} بعد فراغه {تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} كان ظل شجرة، فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع. {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طعام قليل أو كثير. {فَقِيرٌ} محتاج. ... {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}. [25] فانصرفت المرأتان إلى أبيهما شعيب، فأخبرتاه بما كان، فقال

لإحداهما: اذهبي فأتيني به {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} واضعة كم درعها على وجهها حياء منه، فأومأت إليه. {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أجرَ سقيك، فقام موسى، ومرت المرأة بين يديه، فكشفت الريح عن ساقيها، فقال لها موسى: تأخري ورائي، ودليني على الطريق، فتأخرت، وكانت تقول: عن يمينك، وشمالك، وقدامك، حتى وقف على باب شعيب (¬1)، فلما ردت المرأة لأبيها، وأخبرته، فأذن له بالدخول، وشعيب يومئذ شيخ كبير، وقد كُفَّ بصره، فسلم موسى عليه، فرد عليه السلام، وعانقه، ثم أجلسه بين يديه، وكان قد هُيئ العشاء، فقال: اجلس يا شاب فتعش، فقال: معاذ الله، فقال شعيب: ألست جائعًا؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون عوضًا عما سقيت لهما، وإنا أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضًا من الدنيا، فقال شعيب: لا والله يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نَقْري الضيف، ونطعم الطعام، فأكل على اسم الله، فلما فرغ من أكله، حمد الله، وأثنى عليه بالجميل، ثم سأله شعيب عن حاله وقصته. {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} من حين مولده إلى حين جاءه. {قَالَ} له شعيب: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني: فرعون وقومه؛ لأنه لم يكن له سلطان على مدين. ... ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (19/ 560). عن السدي، وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 435).

[26]

{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)}. [26] {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} اتخذه أجيرًا يرعى غنمنا. {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ} على العمل {الْأَمِينُ} فقال لها أبوها: وما علمُك بقوته وأمانته؟ قالت: أما قوته، فإنه رفع الحجر من رأس البئر، لا يرفعه إلا عشرة، وأما أمانته، فإنه قال لي: امش خلفي حتى لا تصف الريح بدنك. قرأ أبو جعفر، وابن عامر: (يَا أَبَتَ) بفتح التاء حيث وقع على تقدير: يا أبتاه، ووقفوا (يَا أَبَهْ) بالهاء الساكنة، ووافقهما على الوقف ابن كثير، ويعقوب، وقرأ الباقون، ومنهم ابن كثير، ويعقوب: بكسر التاء لأن. . . . به، والجزم يحرك إلى الكسر (¬1). ... {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)}. [27] فرغب شعيب في تزويجه. و {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} واسمها صافوراء، وهي التي ذهبت إليه وطلبت استئجاره. قرأ ابن كثير: (هَاتينِّ) بالمد وتشديد النون (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 60 و 127)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 131)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 15). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 493)، و"التيسير" للداني (ص: 95)، =

[28]

{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} تكون أجيرًا {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي: سنين، منصوب على الظرف، واحدتها حجة. {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} أي: خدمة عشر سنين {فَمِنْ عِنْدِكَ} تبرُّع لا إلزام مني. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزام أتم الأجلين. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} في حسن الصحبة والوفاء بما قلت. قرأ نافع، وأبو جعفر: (إِنِّيَ أُرِيدُ) (سَتَجِدُنِيَ) بفتح الياء فيهما، وقرأ الباقون: بإسكانهما فيهما (¬1). ... {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}. [28] {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ} أي: هذا الشرط. {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} لا تخرج عنه. {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} أي: أيَّ الأجلين، و (ما) صلة {قَضَيْتُ} أتممت، الثمانَ أو العشرَ {فَلَا عُدْوَانَ} فلا يُعتدى {عَلَيَّ} بطلب الزيادة على أحدهما. ¬

_ = و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 15 - 16). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 496)، و"التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 15 - 16).

{وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} حفيظ، فجمع شعيب المؤمنين من أهل مدين، وزَوَّجه ابنته صافوراء، ودخل موسى البيت، وأقام يرعى غنم شعيب عشرَ سنين. والإجارة: بيعُ المنفعة بعِوَض، وهي -بكسر الهمزة-: مصدر أَجَره يأجُره أجرًا، وإجارة، فهو مأجور، واشتقاقها من الأجر، وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرًا، ومن شرط صحتها أن تكون المنفعة والعوض معلومين بالاتفاق، فإذا استأجر رجل رجلًا لعمل معين؛ كخياطة ثوب، أو بناء حائط، أو رعي غنم، ونحو ذلك بأجرة معلومة، صح بغير خلاف. وتقدم ذكر الخلاف في منافع الحر، هل يجوز أن تكون صداقًا؟ في سورة النساء، وأما إجارة الملك في العقار ونحوه، فتصح مدة معلومة، وإن طالت، بالاتفاق، واختلفوا في إجارة الوقف، فقال أبو حنيفة: لا تزاد على ثلاث سنين، وقال مالك: تجوز سنتين، ولمن مرجعها له عشر سنين، وقال الشافعي وأحمد: تجوز مدة يمكن فيها بقاء العين غالبًا، وهي عند أبي حنيفة عقد جائز تنفسخ بموت أحد المتعاقدين إن عقدها لنفسه، وإن عقدها لغيره لا تنفسخ؛ كالوكيل والوصي ومتولي الوقف لبقاء المستحق عليه والمستحق، حتى لو مات المعقود له صارت عند مالك والشافعي وأحمد عقدًا لازمًا لا تنفسخ بالموت، والوارث قائم مقامه، وإذا كانت الأجرة مؤجلة، فمات المستأجر، فمذهب أحمد أن الأجرة على حكمها في التأجيل، وتقدم بها وارثه مؤجلة، وعند مالك والشافعي تحل الأجرة بالموت.

[29]

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)}. [29] {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} المشروطَ بينهما؛ أي: أتمه، مكث بعد ذلك عند صهره عشرًا أخرى، فأقام عنده عشرين سنة، ثم قصد المسير إلى أهله، فبكى شعيب، وقال: يا موسى! كيف تخرج عني وقد ضعفتُ وكبرتُ؟! فقال له: قد طالت غيبتي عن أمي وخالتي وهارون أخي وأختي، فإنهم في مملكة فرعون، فقام شعيب، وبسط يديه، وقال: يا رب إبراهيمَ الخليل، وإسماعيلَ الصفي، وإسحاقَ الذبيح، ويعقوبَ الكظيم، ويوسفَ الصديق! رُدَّ قوتي وبصري، فأَمَّنَ موسى على دعائه، فرد الله عليه بصره وقوته، ثم أوصاه بابنته. {وَسَارَ} موسى {بِأَهْلِهِ} نحو مصر {آنَسَ} أبصر. {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} أي: من جهته {نَارًا} وكان في البرية في ليلة مظلمة، فضرب خيمته على الوادي، وأدخل أهله فيها، وهطلت السماء بالمطر والثلج، وكانت امرأته حاملًا، فأخذها الطلق، فأراد أن يقدح، فلم يظهر له نار، فاغتمَّ لذلك، فلما رأى النار من بعيد. {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} قرأ أبو جعفر: (لِأَهْلِهُ امْكُثُوا) بضم الهاء في الوصل (¬1). ¬

_ (¬1) لم أقف عليها من قراءة أبي جعفر، وسلفت عند تفسير الآية (10) من سورة طه: أن ضمَّ الهاء في الوصل هي قراءة حمزة.

[30]

{إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} عن الطريق؛ لأنه كان قد أخطأ الطريق. قرأ الكوفيون، ويعقوب: (إِنِّي آنَسْتُ) (لَعَلِّي آتِيكُمْ) بإسكان الياء فيهما، وافقهم ابن عامر في (إِنِّي آنَسْتُ)، وقرأ الباقون: بالفتح فيهما (¬1). {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} قرأ عاصم: (جَذْوَةٍ) بفتح الجيم، وحمزة وخلف: بضمها، والباقون: بكسرها، وكلها لغات صحيحة (¬2)، معناها: قطعة غليظة من حطب فيها نار لا لهبَ لها. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} تستدفئون. ... {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)}. [30] {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ} من جانب. {الْوَادِ الْأَيْمَنِ} عن يمين موسى. قرأ يعقوب: (الْوَادِي) بإثبات الياء حالة الوقف. {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} وهي القطعة من الأرض بلا شجر، وبركتها؛ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 496)، و"التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 17). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 493)، و"التيسير" للداني (ص: 171 - 172)، و"تفسير البغوي" (3/ 439)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 17 - 18).

[31]

لأن الله كلم موسى فيها، وبعثه نبيًّا {مِنَ الشَّجَرَةِ} أي: من ناحيتها، وهي شجرة عُنَّاب. {أَنْ} يحتمل أن تكون مفسرة؛ لأن النداء قول، أو مخففة من الثقيلة؛ أي: نودي بأن. {يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)}. [31] {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فألقاها {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} تتحرك. {كَأَنَّهَا جَانٌّ} وهي الحية الصغيرة من سرعة حركتها، وتقدم اختلاف القراء في (رَآهَا) في سورة الأنبياء. {وَلَّى مُدْبِرًا} هاربًا منها {وَلَمْ يُعَقِّبْ} ولم يلتفت، فنودي: {يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} عن المخاوف. ... {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)}. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 19).

[32]

[32] {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} هو القميص، وتقدم الكلام عليه في سورة النمل. {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} بَرَص، فخرجت لها شعاع كضوء الشمس. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي: يدَك {مِنَ الرَّهْبِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن كثير: (الرَّهَبِ) بفتح الراء والهاء، ورواه حفص عن عاصم: بفتح الراء وإسكان الهاء، وقرأ الباقون: بضم الراء وإسكان الهاء، وكلها لغات بمعنى الخوف (¬1)، ومعنى الآية: إذا هالَكَ أمرُ يدك، وما تَرى من شعاعها، فأدخلْها في جيبك، تَعُدْ إلى حالتها الأولى. {فَذَانِكَ} إشارة إلى العصا واليد البيضاء. قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ورويس: بتشديد النون والمد، وهي لغة قريش، والباقون: بالتخفيف (¬2) {بُرْهَانَانِ} حجتان ومعجزتان. {مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} وكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 493)، و"التيسير" للداني (ص: 171)، و"تفسير البغوي" (3/ 439)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 341)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 20). (¬2) المصادر السابقة، إلا "تفسير البغوي".

[33]

{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)}. [33] {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} بها. قرأ يعقوب: (يَقتُلُوني) بإثبات الياء (¬1). {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)}. [34] {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} فإنما قال ذلك؛ للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه. {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} معينًا. {يُصَدِّقُنِي} بتلخيص الحق، وتقرير الحجة، لا أن يقول له: صدقت، أو للجماعة: صدقوه، يؤيد ذلك قوله قبل: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} لأن ذلك يقدر عليه الفصيح وغيره. {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} يعني: فرعون وقومه. قرأ حفص: (مَعِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2)، وقرأ نافع (رِدًا) منون غير مهموز بوزن سِوًى طلبًا للخفة، وقرأ أبو جعفر: (رِدَا) بالألف من غير تنوين في الحالين، وقرأ ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 21). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 21).

[35]

الباقون: بإسكان الدال وبالهمز والتنوين (¬1)، وقرأ عاصم وحمزة: (يُصَدِّقُنِي) برفع القاف على الحال؛ أي: رِدْءًا مصدقًا، وقرأ الباقون: بالجزم جوابًا لـ (أرسلْه) (¬2)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3)، وقرأ ورش عن نافع: (يُكَذِّبُوني) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها في الحالين، والباقون: بحذفها فيهما (¬4). {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)}. [35] {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} سنقويك بأخيك، والعضد: قوام اليد، وبشدتها تشتد، وهو ما بين المرفق والكتف، ويقال للضعيف: هو يد بلا عضد، وكان هارون يومئذ بمصر. {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} قوة بالعصا، وحجة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 494)، و"التيسير" للداني (ص: 170)، و"تفسير البغوي" (3/ 440)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 22). (¬2) المصادر السابقة. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 496)، و"التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 22). (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 22 - 23).

[36]

{فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} أي: تمتنعان منهم بآياتنا، فلا يصلون إليكما بسوء. {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} أي: لكما ولأتباعكما الغلبةُ على فرعون وقومه. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)}. [36] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} واضحات. {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} مختلق {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي تدعونا إليه {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} كائنًا في أيامهم. {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)}. [37] {وَقَالَ مُوسَى} قرأ ابن كثير: (قَالَ مُوسَى) بغير واو؛ كما هي في مصحف أهل مكة على الاستئناف، وقرأ الباقون: بالواو، وكذلك هي في مصاحفهم (¬1)؛ لأنه عطف جملة على جملة. {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} بالحق من المبطل. {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: العقبى المحمودة في الدار الآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 494)، و"تفسير البغوي" (3/ 441)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 24).

[38]

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي: الكافرون لا ينجح سعيهم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (رَبِّيَ أَعْلَمُ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَكُونُ لَهُ) بالياء على التذكير، والباقون: بالتاء؛ لتأنيث العاقبة (¬2). {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)}. [38] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} نفى علمه بإله غيره دون وجوده؛ إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم، ولذلك أمر ببناء الصرح؛ ليصعد إليه، ويطلع على الحال بقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} اجعله آجرًا، وهو أول من عمله. {فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} قصرًا عاليًا. {لَعَلِّي أَطَّلِعُ} أصعد {إِلَى إِلَهِ مُوسَى} فأقتله. {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ} أي: موسى في ادعائه إلهًا غيري. {مِنَ الْكَاذِبِينَ} يقول هذا جهلًا وتمويهًا على قومه. قرأ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 24). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 494)، و"التيسير" للداني (ص: 107)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 263)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 24).

[39]

الكوفيون، ويعقوب: (لَعَلِّي) بإسكان الياء، والباقون بفتحها (¬1). وكان من قصة الصرح: أن هامان جمع خمسين ألف بنَّاء وصانع، وأخذوا في ذلك، وأسسوا حتى بنوا الصرح، وارتفع في الهواء ارتفاعًا لم يبلغه أحد من الخلق، أراد الله أن يفتنهم فيه، واشتد ذلك على موسى وهارون؛ لأن بني إسرائيل كانوا معذبين في بنائه، فلما فرغوا منه، ارتقى فرعون فوقه، وأخذ سهمًا، فرمى به نحو السماء، فرد إليه وهو ملطخ دمًا، قال: قد قتلت إله موسى، ثم أمر الله جبريل -عليه السلام- أن يهدم الصرح، فجعل عاليه سافله، وهلك تحته ألف ألف رجل من عسكر فرعون، ولم يبق أحد ممن عمل فيه إلا هلك؛ ممن كان على دين فرعون (¬2). ... {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)}. [39] {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} بغير استحقاق. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 496)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 343)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 25). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (19/ 581) عن السدي، وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 441).

[40]

ويعقوب، وخلف: (يَرْجِعُونَ) بفتح الياء، وكسر الجيم، والباقون: بضم الياء وفتح الجيم (¬1). {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)}. [40] {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} البحر. {فَانْظُرْ} يا محمد. {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} وحذِّرْ قومك من مثلها. قال - صلى الله عليه وسلم - حكاية عن الله تعالى: "الكبرياءُ ردائي، والعَظَمَةُ إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما، ألقيته في النار" (¬2). {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)}. [41] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قدوة للضلال، ورؤساء {يَدْعُونَ إِلَى} عمل ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 494)، و"التيسير" للداني (ص: 171)، و"تفسير البغوي" (3/ 442)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 209)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 25). (¬2) رواه مسلم (2620)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكبر، وابن ماجه (4175)، كتاب: الزهد، باب: البراءة من الكبر والتواضع، وغيرهما، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وهذا لفظ ابن ماجه.

[42]

أهل {النَّارِ} وتقدم التنبيه على اختلاف القراء في (أَئِمَّةً) أول السورة. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} لا يُمنعون من العذاب. ... {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}. [42] {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} خزيًا وعذابًا. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} المشوَّهين بسواد الوجه وزرقة العيون. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}. [43] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة. {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} يعني: قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. {بَصَائِرَ} جمع بصيرة، وهي نور القلب؛ كالبصر نور العين {لِلنَّاسِ} فقط، ليبصروا ذلك الكتاب، ويهتدوا به {وَهُدًى} من الضلالة {وَرَحْمَةً} لمن آمن به. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} بما فيه من المواعظ. ***

[44]

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}. [44] {وَمَا كُنْتَ} يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي: بجانب غروب الشمس من الطور، وهو الذي كان فيه الميقات؛ حيث ناجى موسى ربه. {إِذْ قَضَيْنَا} أي: عهدنا {إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} بالرسالة إلى فرعون. {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الحاضرين ذلك المقام، فتذكرَه من ذات نفسك. {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)}. [45] {وَلَكِنَّا} أوحينا إليك ذلك، وأوحينا إليك أَنَّا. {أَنْشَأْنَا} بعد عهد الوحي إليه إلى عهدك {قُرُونًا} كثيرة. {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ} أي: على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيه. {الْعُمُرُ} أي: أمد انقطاع الوحي، فجددنا بك العهد. {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا} مقيمًا {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} كمقام موسى وشعيب. {تَتْلُو عَلَيْهِمْ} على أهل مكة {آيَاتِنَا} أي: لم تشاهد ما تقدمك، فتخبر به أهل مكة. {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إليك بأخبار المتقدمين، فتتلوها عليهم. ***

[46]

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)}. [46] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ناحية الجبل. {إِذْ نَادَيْنَا} ليلة المناجاة، والمعنى: لو لم نوح إليك هذا كله، ما علمت. {وَلَكِنْ} أعلمناك {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا} هم أهل مكة. {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} لأن أهل مكة لم يجئهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا في فترة بينه وبين عيسى عليه السلام، وهي مدة تقرب من ست مئة سنة. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون. {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)}. [47] {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} عقوبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي، وجواب (لولا) محذوف يقتضيه الكلام، تقديره: لعاجلناهم بما يستحقونه من العقوبة. {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا} هَلَّا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} ينذرنا. {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المصدقين، فأرسلناك؛ لتزول حجتهم، وينقطع عذرهم {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

[48]

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)}. [48] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} يعني: القرآن، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. {قَالُوا} كفار مكة: {لَوْلَا أُوتِيَ} هَلَّا أُعطي محمد. {مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من التوراة وغيرها من الآيات. قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد - صلى الله عليه وسلم -. {قَالُوا سِحْرَانِ} أي: موسى ومحمد {تَظَاهَرَا} تعاونا، وهذا قول العرب، وقيل المراد: موسى وهارون، وهو قول من لم يؤمن بهما في زمانهما. قرأ الكوفيون: (سِحْرَانِ) بكسر السين وإسكان الحاء من غير ألف قبلها؛ أي: التوراة والقرآن، يعني: كل سحر يقوي الآخر، نسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع، وقرأ الباقون: بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، على المعنى الأول (¬1). {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ} منهم من كتبهم {كَافِرُونَ} وكان العرب قد بَعثوا إلى رؤساء اليهود بالمدينة، فسألوهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروهم أنه صادق، وأن نعته وصفته عندهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 495)، و"التيسير" للداني (ص: 172)، و"تفسير البغوي" (3/ 445)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 26).

[49]

{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)}. [49] {قُلْ} لهم يا محمد: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} يعني: التوراة والقرآن {أَتَّبِعْهُ} جواب {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم. {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)}. [50] ولما كان (فأتوا) أمرًا، والأمر يقتضي الإجابة، قال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} دعاءك إلى الإتيان بكتاب. {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} في كفرهم. {وَمَنْ} استفهام نفي. {أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}؟ المعنى: لا أحد أضل ممن اتبع هواه. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أنفسَهم باتباع الهوى. ... {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)}. [51] {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} أي: أنزل عليهم القرآن متواصلًا. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} الأدلة، فيؤمنون.

[52]

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)}. [52] ونزل في علماء المؤمنين من أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، مبتدأً {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} (¬1) الضمير للقرآن، وخبر (الذين): {هُمْ بِهِ} بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {يُؤْمِنُونَ} لأنه مذكر في كتبهم. ... {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)}. [53] {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} القرآن {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل وجوده ونزوله {مُسْلِمِينَ} مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)}. [54] {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} أي: يضعف لهم أجرهم ضعفين؛ لإيمانهم بالكتابين {بِمَا صَبَرُوا} على العمل بالشريعتين {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ويدفعون بالطاعة المعصية المتقدمة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في الطاعة. ... ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2988 - 2989).

[55]

{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}. [55] {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} القبيحَ من القول، واللغو من الكلام: ما هو ساقط العبرة، وهو الذي لا معنى له {أَعْرَضُوا عَنْهُ} وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب، ويقولون: تبًّا لكم، تركتم دينكم، فيعرضون عنهم، ولا يردون عليهم. {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فكلٌّ مطالب بعمله. {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} سلام توديع ومتاركة، وليس هو سلام التحية؛ أي: لا نعارضكم في شيء ما؛ لأنا. {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} لا نطلب صحبتهم؛ لئلا نكون مثلهم، والجهل نقيصة، وهو معرفة الشيء على خلاف ما هو عليه، وهذا منسوخ بآية السيف. {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}. [56] ولما حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - في إيمان أبي طالب، نزل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (¬1) هدايتَه {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فيدخله في الإسلام. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3671)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قصة أبي طالب، ومسلم (24)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره =

[57]

{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بالمستعدين لذلك. ... {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)}. [57] {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي: يأخذْنا العرب لقتلنا، والقائلون قريش، وسبب نزولها: أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكنا إن اتبعناك على دينك، خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة، والاختطاف: الانتزاع بسرعة، فنزل توبيخًا لهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ} (¬1) نسكنهم {حَرَمًا آمِنًا} يأمنون فيه العدو والخسف مع كفرهم، فكيف لو أسلموا؟! إن العرب كانت تغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمِنون؛ حيث كانوا لحرمة الحرم. {يُجْبَى} يجمع، ويحمل {إِلَيْهِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (تُجْبَى) بالتاء على التأنيث؛ لأجل الثمرات، وقرأ الباقون: بالياء ¬

_ = الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة، عن سعيد المسيب، عن أبيه -رضي الله عنه-. (¬1) انظر: "السنن الكبرى" للنسائي (11385)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص:195).

[58]

على التذكير؛ للحائل بين الاسم المؤنث والفعل (¬1) {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} مما به صلاح حالهم وقوام أمرهم. {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} ونصبه حال من (ثمرات). {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أن ما تقوله حق؛ لأنهم جهلة لا يتفطنون له. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)}. [58] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ} أهل {قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} والبطر: الطغيان في النعمة. قال -صلى الله عليه وسلم-: " [فاضوا] في البطر، فأكلوا رزق الله، وعبدوا الأصنام" (¬2). {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} أي: يسكنها المارة والمسافرون ساعة أو يومًا. {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} جميعَ المخلوقات. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 157)، و"تفسير البغوي" (3/ 448)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 28). (¬2) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 448)، عن عطاء من قوله.

[59]

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}. [59] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} في كل زمان. {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} أي: في أعظمها {رَسُولًا} ينذرهم؛ لأن الرسل إنما تبعث غالبًا إلى الأشراف، وهم غالبًا يسكنون المدن، وقيل: المراد بأم القرى هاهنا: مكة، وبالرسول: محمد - صلى الله عليه وسلم -. قرأ حمزة، والكسائي: (إِمِّهَا) بكسر الهمزة حالة الوصل إتباعًا، وإذا ابتدأا، ضماها، وبه قرأ الباقون في الحالين (¬1). {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ترغيبًا وترهيبًا. {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أي: مشركون؛ أي: أهلكتهم بظلمهم. {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)}. [60] {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} من أسباب الدنيا {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} تتمتعون بها أيام حياتكم، ثم أنتم وهي إلى فناء. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب {خَيْرٌ وَأَبْقَى} لأنه مستمر. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 94)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 343)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 29).

[61]

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أن الباقي خير من الفاني. قرأ أبو عمرو: (يَعْقِلُونَ) بالغيب، وهو أبلغ في الموعظة، وقرأ الباقون: بالخطاب، وهو وجه من أبي عمرو، إلا أن الأشهر عنه الغيب (¬1). ... {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)}. [61] فبعد ذكر الحياة الدنيا، وما عند الله، وتفاوتهما، عَقَّبه بالفاء مدخلًا عليها همزة الاستفهام، فقال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} هو الجنة. {فَهُوَ لَاقِيهِ} صائر إليه. {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويزول عن قريب. {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في النار؟! روي أنها نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل، وقيل: نزلت في حمزة وعلي وأبي جهل، وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة، وقيل: في المؤمن والكافر (¬2). قرأ الكسائي، وقالون، وأبو جعفر بخلاف عنه: (ثُمَّ هْوَ) بإسكان الهاء تخفيفًا، والباقون: بضمها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 172)، و"تفسير البغوي" (3/ 448)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 29). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (20/ 97)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: 195). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 72)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[62]

في الحديث: "من كانت الدنيا همّه، جعل الله فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن كانت الآخرة همّه، جعل الله الغناء في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" (¬1). {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)}. [62] {وَيَوْمَ}: واذكر يوم. {يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أين هم شركائي في الدنيا؟ {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)}. [63] {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ثبت عليهم مقتضاه، وهو: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وهم رؤوس الكفر: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي: أضللناهم كما ضللنا، لم نُكرههم على الغي، إنما غووا باختيارهم، مع تسويلنا لهم. {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم ومن كفرهم، فصرنا أعداء، وكذبوا علينا. {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} إنما عبدوا أهواءهم. ... ¬

_ = (2/ 209)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 30). (¬1) رواه ابن ماجه (4105)، كتاب: الزهد، باب: الهم بالدنيا، وابن حبان في "صحيحه" (680)، وغيرهما، عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-.

[64]

{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)}. [64] {وَقِيلَ} لمن عبد غير الله توبيخًا وتهديدًا: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} استعينوا بآلهتكم؛ لتخلصكم من العذاب. {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} لم يجيبوهم بنفع؛ لعجزهم. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} لأربابهم {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} جوابه محذوف؛ أي: لما اتبعوهم في الدنيا، ولما رأوا العذاب في الأخرى. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)}. [65] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي: يسأل الله الكفارَ. {فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} الذين دعوهم إلى الله، وهذا النداء كالأول، ويحتمل أن يكون كل منهما بواسطة من الملائكة، ويحتمل غير ذلك. {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)}. [66] {فَعَمِيَتْ} خفيت {عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} الأخبار. {يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} لا يسأل بعضهم بعضًا عن خبر. ***

[67]

{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)}. [67] {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} الناجين، و (عَسَى) حرف تَرَجٍّ، وهو من الله واجب. ... {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [68] ولما قال المشركون: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعني: الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي، نزل جوابًا لهم: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (¬1) لا مانع له. {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي: ليس لهم الاختيار في شيء، ثم نزه نفسه تعالى فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} به. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)}. [69] {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} تخفي. {صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} يُظْهِرون. ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب نزول" للواحدي (ص: 195).

[70]

{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}. [70] {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ} أي: هو مستحقُّه. {فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} يحمده أولياؤه في الدارين. {وَلَهُ الْحُكْمُ} فصلُ القضاء بين الخلائق. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالنشور. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1). {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)}. [71] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أخبروني يا أهل مكة. {إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} دائمًا. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لا نهار معه. {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} بنهار تطلبون فيه المعيشة. {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} سماعَ فهم وقبول، وقرن بالضياء السمع؛ لأن السمع [يدرك] للأبصار البصر. قرأ قنبل عن ابن كثير: (بِضِئَاءٍ) بهمزتين، والباقون: بفتح الياء والهمز بعدها (¬2)، واختلاف القراء في (أَرَأَيْتُمْ) ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 343)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 31). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 130)، و"الغيث" للصفاقسي =

[72]

كاختلافهم في {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)}. [72] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لا ليل فيه. {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} استراحةً عن متاعب الأشغال. {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} قدرةَ الله، فتوحدون؟! وقرن بسكون الليل البصر؛ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما لا تبصر أنت من السكون. {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}. [73] {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي: في الليل. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بالنهار. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمَ الله سبحانه. ¬

_ = (ص: 317)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 31).

[74]

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)}. [74] {وَيَوْمَ} أي: واذكر يومَ. {يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وكرر هذا المعنى إبلاغًا وتحذيرًا، وهذا النداء هو ظهور كل ما وعد الرحمن على ألسنة المرسلين؛ من وجوب الرحمة لقوم، والعذاب لآخرين، ومن خضوع كل جبار، وذلة الكل لعزة رب العالمين، فيتوجه حينئذ توبيخ الكفار، فيقول الله لهم على معنى التوبيخ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ}؟! {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)}. [75] {وَنَزَعْنَا} أخرجنا في ذلك اليوم {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: شاهدًا، وهو رسولها، وفي هذا الموضع حذف يدل عليه الظاهر، تقديره: ليشهد الشهيد على الأمة بخيرها وشرها. {فَقُلْنَا} للأمم على جهة استبراء الحجة والإعذار في المحاورة: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} حجتكم بأن لله شريكًا، فيسقط حينئذ في أيديهم. {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ} في الإلهية، لا شريك له. قال ابن عطية: ومن هذه الآية انتزع قول القاضي عند إرادة الحكم: أبقيَتْ لك حجة؟ (¬1) ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 297).

[76]

{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من الباطل في الدنيا. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)}. [76] {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} هو اسم أعجمي؛ كهارون، فلذلك لم ينصرف، وهو ابن عم موسى على الأشهر؛ لأنه يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب، وموسى بن عمران بن فاهث، وفد من بني إسرائيل بإجماع، وآمن بموسى، واتبعه، وكان يلقب: المنور؛ لحسن صوته، وكان يقرأ التوراة من قلبه، وكان عاملًا لفرعون. {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ترفع وجاوز الحد على بني إسرائيل، بظلمه وكفره وكثرة ماله، وخالف موسى، وكَذَّبه. {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} الأموالَ المدخرة {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} (ما) موصولة، و (مفاتحه) جمع مفتاح -بالكسر-، وهو الذي يُفتح به الباب. {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أي: تُثقلهم، وتميل بهم إذا حملوها، وكان فقرًا جدًّا، فتعلم صنعة الكيمياء من كلثوم أخت موسى، وكانت تعرف ذلك، فرزق مالًا عظيما يُضرب به المثل على طول الدهر، وكان مفاتيح كنوزه تحمل على أربعين بغلًا، وقيل غير ذلك. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} متعلق بقوله {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} والمراد بقومه: المؤمنون منهم {لَا تَفْرَحْ} بحطام الدنيا.

[77]

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} البَطِرين بالمال، ولم يشكروا على ما أُعطوا. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)}. [77] {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} اطلبْ فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة الجنةَ، وهو أن تشكره على نعمه، وتنفقَ المال في رضاه. {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} هو أن تأخذ ما يكفيك. {وَأَحْسِنْ} إلى عباد الله {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} فيما أنعم عليك {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} لا تعصِ؛ لأن من عصى الله، فقد طلب الفساد في الأرض. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لسوء أفعالهم. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)}. [78] {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} أي المال. {عَلَى عِلْمٍ} من {عِنْدِي} أي: علم الله فيَّ خيرًا، فرآني أهلًا لذلك، ففضلني بالمال عليكم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (عِنْدِيَ) بفتح

[79]

الياء، والباقون: بإسكانها، واختلف عن ابن كثير (¬1)، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} الكافرة. {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للمال، وهذا توبيخ له؛ لأنه كان قد علم حال من تقدمه وهلاكه، فلم ينزجر. {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} لعلمه بهم، بل يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)}. [79] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} في زينته على بغلة شهباء عليها سرج ذهب، ومعه أربعة آلاف فارس (¬2) {فِي زِينَتِهِ} عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاث مئة غلام، وعن يساره ثلاث مئة جارية، عليهم الحلي والديباج (¬3) {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} من المال {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} جَدٌّ وبَخْتٌ عظيم من الدنيا. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 32). (¬2) "فارس" ساقطة من "ش". (¬3) انظر: "الكشاف" للزمخشري (3/ 436)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (7/ 129).

[80]

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)}. [80] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم أحبار بني إسرائيل الزاهدون في الدنيا لغابطي قارون: {وَيْلَكُمْ} وأصل وَيْل: الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر. {ثَوَابُ اللَّهِ} في الآخرة {خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} صَدَّق بتوحيد الله. {وَعَمِلَ صَالِحًا} مما أُوتي قارون في الدنيا. {وَلَا يُلَقَّاهَا} أي: يوفق هذه الكلمة التي قالها العلماء، وقيل: لا يرزق الأعمال الصالحة. {إِلَّا الصَّابِرُونَ} على طاعة الله. {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)}. [81] وسبب هلاك قارون: أنه بغى على موسى، وكان أول طغيانه: أن أوحي إلى موسى: أنْ مُرْ بني إسرائيل أن يعلقوا أرديتهم خيوطًا أربعة خضرًا على لون السماء يذكرون إذا رأوها أن كلامي نزل منها، قال موسى: ألا نأمرهم بجعلها كلها خضرًا؛ فإنهم يحقرون هذه الخيوط؟ فقال: يا موسى! إن من أمري ليس بصغير وإن هم لم يطيعوني في الصغير، لم يطيعوني في الكبير، فأمرهم، ففعلوا، وامتنع قارون، ولما عبروا البحر، جعل موسى الجودة والقربان في هارون، فقال: يا موسى! تذهب بالرسالة، وهارون

بالقربان والجودة، فما يبقى لي، وأنا أقرأ بني إسرائيل للتوراة؟! ليس لي على هذا صبر، فقال موسى: من الله، فقال: لا أصدقك حتى تأتي على ذلك بآية، فأمر موسى أشراف قومه بوضع عصيهم في بيت، ففعلوا، وباتوا يحرسونها، فأصبحت عصا هارون مورقة خضراء، فقال قارون: ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، واعتزل موسى، وجعل موسى يداريه؛ لما بينهما من القرابة، وهو لا يلتفت إليه، وبنى دارًا، وصَفَّحها بالذهب، وجعل أبوابها ذهبًا، وتكبر بسبب كثرة ماله على موسى، ولما نزلت الزكاة، صالحه موسى على أن يعطيه عن كل ألف دينار دينارًا، وعن كل ألف درهم درهمًا، وعن كل ألف شاةٍ شاة، ثم رجع موسى إلى بيته، فجمعها، فرآها جملة عظيمة، فلم تسمح بذلك نفسه، فمنعها، وخرج عن طاعة موسى، وأحضر امرأة بَغِيًّا، وأمرها بقذف موسى بنفسها، فلما كان يوم العيد، قام موسى خطيبًا، فقال: من سرقَ قطعناه، ومن زنى غيرَ محصَنٍ جلدناه، ومن زنى محصنًا رجمناه، فقال قارون: ولو كنت أنت؟! قال: وإن كنت أنا، فقال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأُحضرت، فأنشدها موسى بالله أن تصدق، فقالت: جعل لي قارون جُعلًا على أن أرميكَ بنفسي، فخرَّ موسى ساجدًا يبكي، وقال: يا رب! إن قارون قد بغى علي، فأقبل موسى حتى دخل قارون، وقال: يا عدو الله! تبعث إلي المرأة على رؤوس بني إسرائيل تريد فضيحتي؟! يا أرض خذيه، فساخت داره في الأرض ذراعًا، وسقط قارون عن سريره، فأخذته الأرض إلى ركبتيه، فقال: يا موسى! أغثني، فقال: يا عدو الله تبني مثل هذه الدار، وتشرب في آنية الذهب والفضة، وأنا أدعوك إلى [حظك] فلا تقبله، وتقول: إنما أوتيته على علم عندي؟! يا أرض خذيه، فأخذته، روي أنه ناشده سبعين مرة،

[82]

وهو لا يلتفت إليه؛ لشدة غضبه، ثم قال: يا أرض خذيه، فانطبقت عليه، فذلك قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1) من دون عذابه، فأوحى الله إلى موسى: ما أغلظَ قلبَكَ، استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه؟! فوعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة واحدة، لأغثته. {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} الممتنعين مما حل به. روي أنه خُسف به إلى الأرض السفلى، ولما خسفت به، قال بنو إسرائيل: إنما دعا عليه ليستبد بأمواله، فدعا موسى، فخسف بجميع أمواله (¬2). {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)}. [82] {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ} أي: صار أولئك الذين تمنوا ما رزق من المال والزينة. {بِالْأَمْسِ} أي: بالوقت القريب منهم، استعاره هنا؛ لأن أمس عبارة عن اليوم الذي قبل يومك، يتندمون. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 455 - 456). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 456 - 457).

و {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} يضيق. {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} فلم يعطنا ما تمنينا. {لَخَسَفَ بِنَا} لتوليده فينا ما ولده فيه، فخسف به لأجله. {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لنعمة الله؛ كقارون. (وَيْكَأَنَّ) كتبت موصولة كلمة واحدة في جميع المصاحف، وكذلك (وَيْكَأَنَّهُ) لكثرة الاستعمال، لأن أصلها: (وَيْ) تعجب و (ما) متصلة بـ (أن) عند البصريين، ولذلك فتحت الهمزة، فصار معناها الندامة، والتنبيه على الخطأ، وعند الكوفيين أن (وَيْكَ) ويلك، ومعناها: ألم تر، واختلف في الوقف عليهما، فوقف أبو عمرو: (وَيْك) على الكاف مقطوعة من الهمزة، وإذا ابتدأ، ابتدأ بالهمزة (أَنَّ)، و (أَنَّهُ)، ووقف الكسائي (وَيْ) على الياء مقطوعة من الكاف، وإذا ابتدأ، ابتدأ بالكاف (كَأَنَّ) و (كَأَنَّهُ)، ووقف الباقون (وَيْكَأَنَّ) (وَيْكَأَنَّهُ) موصولة اتباعًا للمصحف، وهذا هو الأولى والمختار في مذاهب الجميع؛ اقتداء بالجمهور، وأخذًا بالقياس الصحيح (¬1)، وقرأ يعقوب، وحفص عن عاصم: (لَخَسَفَ) بفتح الخاء والسين، الفاعل الله تعالى، وقرأ الباقون: بضم الخاء وكسر السين مجهولًا (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 61)، و"الكشف" لمكي (2/ 176)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 33 - 34). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 495)، و"تفسير البغوي" (3/ 457)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 34).

[83]

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83]. [83] {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} أي: الجنة. {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا} بَغْيًا. {فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} عَمَلًا بالمعاصي {وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة {لِلْمُتَّقِينَ}. عن علي رضي الله عنه: أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل القدوة (¬1). {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)}. [84] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} أي: بعمل صالح. {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي: من ثوابها الموازي لهما. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أخبر تعالى أن السيئة لا يُضاعف جزاؤها؛ فضلًا منه ورحمة. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)}. [85] ولما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغار مهاجرًا إلى المدينة، سار في ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 444).

[86]

غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن، رجع إلى الطريق، ونزل الجحفة بين مكة والمدينة، فاشتاق إلى مكة، فنزل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} (¬1) أنزله شيئًا بعد شيء {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إلى مكة، ولما وُعد - صلى الله عليه وسلم - بالعَوْد إلى مكة بعد قول المشركين له: إنَّكَ لفي ضلال مبين، نزل: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: هو أعلم بالفريقين، فيجازي كلًّا بعمله. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)}. [86] {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي: يوحى إليك القرآن. {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} نصب على أنه استثناء منقطع؛ أي: لكن رحمة من ربك، فأعطاك القرآن. {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا} مُعينًا {لِلْكَافِرِينَ} عبادتهم. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 3026)، عن الضحاك. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 24).

[87]

{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)}. [87] {وَلَا يَصُدُّنَّكَ} لا يصرفُنَّكَ. {عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} عن قراءتها، والعمل بها. {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} أي: بعد وقت إنزالها إليك، و (إذ) تضاف إلى الزمان؛ كحينئذ. قرأ يعقوب: (يَصُدُّنْكَ) مجزوم النون، والباقون: بفتحها مشددة (¬1). {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} إلى توحيده {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الخطاب الظاهر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد: أهل دينه، وجميع الآية يتضمن المهادنة والموادعة، وهذا كله منسوخ بآية السيف، وسبب هذه الآية: ما كانت قريش تدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تعظيم أوثانهم، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أمرَ الغرانيق كما تقدم في سورة الحج. ... {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}. [88] {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} نهي عما هم بسبيله، فهم المراد، وإن عري اللفظ عن ذكرهم. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إلا هو. ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (7/ 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 35)، والقراءة المشهورة على يعقوب كقراءة الجمهور.

{الْحُكْمُ} فصلُ القضاء، وإنفاذُ القدرة في الدارين. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إخبار بالحشر والعودة من القبور. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم حيث وقع؛ من رجوع الآخرة، وقرأ الباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1)، قال ابن عطية: وقرأ أبو عمرو بالوجهين (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 244)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 35). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 304).

سورة العنكبوت

سُوْرَةُ العَنْكَبُوتِ مكية، إلا الصدر منها العشر الآيات، فإنها مدنية، نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة، وآيها: تسع وستون آية، وحروفها: أربعة آلاف ومئة وخمسة وتسعون حرفًا، وكلمها: تسع مئة وثمانون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1)}. [1] {الم} تقدم الكلام عليه أول سورة البقرة، وملخصه: أن معناه: أنا الله أعلم، وتقدم الخلاف في الحروف التي في أوائل السور أول سورة مريم. قرأ أبو جعفر: بتقطيع الحروف، يسكت على كل حرف سكتة يسيرة كما تقدم التنبيه عليه غير مرة. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}. [2] {أَحَسِبَ النَّاسُ} قرأ ورش: (المَ احَسِبَ النَّاسُ) بفتح الميم وحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الميم تخفيفًا، ويجوز بالمد والقصر في (ميم) كما تقدم عن الجمهور حالة الوصل في أول سورة آل عمران،

[3]

لكن الوصل هنا مختص بمذهب ورش، وقرأ الباقون: بإسكان الميم وفتح الهمزة (¬1). {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} استفهام تقريع وتوبيخ، والمعنى: أظنوا تركهم غيرَ مفتونين؛ لقولهم: آمنا؟! والفتنة: الامتحان بالشدائد، تلخيصه: لا بد من امتحانهم، وإذا أحب الله عبدًا، جعله للبلاء غرضًا. نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك (¬2)، فنزلت الآية تسلية ومعلمة أن هذه سيرة الله في عباده اختبارًا للمؤمنين؛ ليعلم الصادق، ويرى ثواب الله له، ويعلم الكاذب، ويرى عقاب الله إياه. قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب في هذه الجماعة، فهي في معناها باقية في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - موجود حكمها بقية الدهر (¬3). {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}. [3] {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كالأنبياء والأولياء، فمنهم من نُشر ¬

_ (¬1) انظر: "المحتسب" لابن جني (2/ 158)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 344)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 39). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 195 - 196). (¬3) "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 305).

[4]

بالمنشار، وعذب بأنواع العذاب، فلم ينصرف عن دينه. {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} بالامتحان {الَّذِينَ صَدَقُوا} في الإيمان. {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أي: فليظهرن الصادق من الكاذب. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)}. [4] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} (أم) معادلة للألف في قوله: (أَحَسِبَ)، المعنى: أظن المسيئون، وهم الكفار. {أَنْ يَسْبِقُونَا أي: يفوتونا، فلا نقدر على الانتقام منهم؟! {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} بئس حكمًا يحكمون لأنفسهم بهذا الظن. {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)}. [5] {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} يأمل ثوابه، ويخشى البعث والحساب. {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} هو الأمد المضروب للثواب والعقاب {لَآتٍ} لكائن. روي عن يعقوب، وقنبل: الوقف بالياء على (لآتِي). {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فلا يفوته شيء. {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)}. [6] {وَمَنْ جَاهَدَ} جهاد حرب، أو جهاد نفس، بالصبر على مضض الطاعة.

[7]

{فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} لأن ثوابه لها. {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فلا حاجة به إلى جهادهم. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)}. [7] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} لنبطلنها بسترها وترك العقوبة عليها. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: نضاعف لهم الحسنات. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}. [8] ونزل في سعد بن أبي وقاص، وهو من السابقين الأولين لما أسلم، فحلفت أمه ألَّا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بمحمد، فقال: والله! لو كان لك مئة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما كفرت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (¬1) نصب بـ (وصينا)؛ أي: وصيناه أن يفعل بهما ما يحسن. {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أنه لي شريك. {فَلَا تُطِعْهُمَا} في ذلك، وجاء في الحديث: "لا طاعة للمخلوق في ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح مسلم" (4/ 1877)، و"أسباب نزول" للواحدي (ص: 196)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 521).

[9]

معصية الخالق" (¬1)، ثم أوعد بالمصير إليه، فقال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من صالح أعمالكم وسيئها، وأجازيكم عليها. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)}. [9] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي} زمرة. {الصَّالِحِينَ} وهم الأنبياء والأولياء، وهي الجنة. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)}. [10] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أي: طاعته والإسلام. {جَعَلَ فِتْنَةَ} أي: عذاب {النَّاسِ} إياه هنا {كَعَذَابِ اللَّهِ} فساوى بين العذابين، فخاف العاجل، وأهمل الآجل، وهم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا مسهم أذى من الكفار، صرفهم عن الإيمان. {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} دولة للمؤمنين {لَيَقُولُنَّ} أي: المرتدون. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 66)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (602)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (873)، وغيرهم عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-.

[11]

{إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} على دينكم، ولكنا أُكرهنا على الكفر، فقال تعالى: تكذيبًا لهم: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} من الإيمان والكفر؟! {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}. [11] {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} حقيقةَّ، فثبتوا على الإيمان عند البلاء. {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} في إيمانهم؛ بترك الإسلام عند البلاء. وهذه الآيات العشر من أول السورة إلى هنا مدنية، وباقي السورة مكية. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)}. [12] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} الطريق الذي نسلكه في ديننا {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أوزاركم؛ أي. إن كان فيها إثم، فنحتمله، فأخبر الله عز وجل أن ذلك باطل، وأنهم لو فعلوه، لم يتحمل عن أحد من هؤلاء المغترين بهم شيء من خطاياهم التي تختص بهم بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما يزعمون؛ لأنهم لو يعلمون أنهم لا يقدرون على ذلك، وهذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم.

[13]

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)}. [13] {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} أوزار أعمالهم التي عملوها. {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} هي أثقال الذين أضلوهم. {وَلَيُسْأَلُنَّ} سؤال توبيخ. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} على الله من الكذب. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)}. [14] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ} بقي {فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} ينذرهم فلا يلتفتون إليه، وفسر العدد بسنة، ثم بعام؛ استثقالًا لتكرير لفظ واحد بلا فائدة، ولما جاء بقصة نوح تهويلًا لما جرى عليه من قومه، ذكر الألف أولًا؛ ليكون أفخم في أذن السامع، ثم أخرج منها الخمسين؛ إيضاحًا لمجموع العدد. وقد وقع في كلام المؤرخين أن نوحًا عاش العدد المذكور فقط، وظاهر الآية الشريفة يخالفه؛ لأنه يدل على أنه لبث العدد المذكور في قومه بعد إرساله إليهم ينذرهم، وأن الطوفان وقع بعد ذلك، وقد روي أنه عاش ألفًا وأربع مئة وخمسين سنة، وهو يوافق الآية الشريفة؛ لأن ظاهرها يدل على أنه عاش أكثر مما ذكره المؤرخون، وتقدم ذكر نسبه وتاريخ مولده ومحل قبره في سورة آل عمران عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا}

[15]

[الآية: 33]، وتقدم ذكر الاختلاف عمره حين بعثه الله إلى قومه في سورة الأعراف عند تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف: 59] وتقدم ذكر تاريخ ركوبه في السفينة، وخروجه منها، وما بين الطوفان والهجرة الشريفة النبوية المحمدية في سورة هود عند آخر القصة. فلما أنذرهم هذه المدة، وهي تسع مئة وخمسون سنة، فلم يؤمنوا، أذن له في الدعاء، فدعا عليهم. {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} ما أطاف وأحاط بغلبة؛ كالسيل، فغرقوا. {وَهُمْ ظَالِمُونَ} مشركون. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)}. [15] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} من الغرق. {وَجَعَلْنَاهَا} أي: السفينة، أو العقوبة. {آيَةً} علامة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه {لِلْعَالَمِينَ} وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} يقتضي أنه أخذ قومه فقط، وقد اختلف في ذلك، فقالت فرقة: إنما غرق في الطوفان طائفة من الأرض، وهي المختصة بقوم نوح، وقالت فرقة هي الجمهور: وإنما غرقت المعمورة كلها، وهذا هو ظاهر الأمر؛ لاتخاذه السفينة، وغير ذلك من الدلائل. فإن قيل: كيف غرق الجميع، والرسالة إلى البعض؟ فالوجه في ذلك أن يقال: إن اختصت شيء بأمة ليس هو بألَّا يهدي غيرها ولا يدعوها إلى توحيد الله تعالى، وإنما هو بألَّا تؤخذ بفعال غيرها، ولا يبث العبادات

[16]

فيهم، لكن إذا كانت نبوة قائمة هذه المدة الطويلة، والناس حولها يعبدون الأوثان فلا محال أن دعاءه إلى توحيد الله قد كان بلغ الكل، فنالهم الغرق؛ لإعراضهم وتماديهم. {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)}. [16] {وَإِبْرَاهِيمَ} عطف على نوح؛ أي: وأرسلنا إبراهيم. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أطيعوا الله وخافوه، وهذه القصة تمثيل لقريش، وكان نمرود وأهل مدينته عَبَدَةَ أصنام، فدعاهم إبراهيم -عليه السلام- إلى عبادة الله، ثم فرد لهم ما هم عليه من الضلال. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} من الكفر {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الخير والشر. {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}. [17] {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} (¬1) أصنامًا. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} تخلقون كذبًا. ¬

_ (¬1) من قوله: "بخيط في الخرزة ... " (ص: 136) من سورة النمل الآية (36) إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} من سورة العنكبوت سقط من "ت" وذلك بمقدار إحدى عشرة لوحة من النسخ الخطية.

[18]

{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} لا يستطيعون أن يرزقوكم. {فَابْتَغُوا} فاطلبوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} فإنه المالك له. {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} على نعمه. {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالمعاد والحشر. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1). {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}. [18] {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} رسلَهم، فأهلكوا. {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وكل أحد بعد ذلك مأخوذ بعمله. {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)}. [19] {أَوَلَمْ يَرَوْا} بالدلائل والنظر. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (تَرَوْا) بالخطاب، والباقون: بالغيب على الحكاية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 209)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 41). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 498)، و"التيسير" للداني (ص: 173)، =

[20]

{كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} يخلقه ابتداءً نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم شخصًا سويًّا، ثم يميته {ثُمَّ يُعِيدُهُ} حيًّا وقتَ البعث. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لا يفتقر في فعله إلى شيء. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}. [20] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} إلى ديارهم وآثارهم. {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} أي: خلقه ابتداء على غير مثال. {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} وهي نشأة القيام من القبور، المعنى: إذا قَدَر على بدء الخلق أولًا، فهو على إنشائه وإحيائه بعد الموت أقدرُ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (النَّشَاءَةَ) بفتح الشين والمد حيث وقع، والباقون: بسكون الشين مقصورة، وهما لغتان (¬1)؛ كالرأفة والرآفة، ووقف حمزة على وجهين في ذلك: أحدهما: أن يلقي حركة الهمزة على الشين، ثم يسقطها طردًا للقياس، والثاني: أن يفتح الشين، ويبدل الهمزة ألفًا إتباعًا للخط، ومثله قد سمع من العرب (¬2). ¬

_ = و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 42). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 498)، و"التيسير" للداني (ص: 173)، و"تفسير البغوي" (3/ 466)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 43). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 173)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 345)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 43).

[21]

{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على الأولى. {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)}. [21] {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} بتيسيره لأعمال من حق عليه العذاب. {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} بتيسيره لأعمال من سبقت عليه (¬1) الرحمة، لا معترض عليه. {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} ترجعون. {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)}. [22] {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} الله، وإن هربتم. {فِي الْأَرْضِ وَلَا} تعجزونه. {فِي السَّمَاءِ} لو كنتم فيها، المعنى: لا مخلَصَ لكم من الله. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} يمنعكم منه (¬2). {وَلَا نَصِيرٍ} ينصركم من عذابه، والوليُّ أخصُّ من النصير. ¬

_ (¬1) في "ت": "له". (¬2) في "ت": "فيه".

[23]

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}. [23] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} بدلائل وحدانيته {وَلِقَائِهِ} بالبعث {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أي: ييئسون منها يوم القيامة، فعبر عنها بالماضي؛ للتحقيق والمبالغة. {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بكفرهم، فهذه الآيات في تذكير أهل مكة، وتحذيرهم، وهي معترضة في قصة إبراهيم عليه السلام. {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)}. [24] ثم عاد إلى قصة إبراهيم، فقال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} حين دعاهم إلى الإيمان. {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} وجعلها عليه بردًا وسلامًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون. {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}. [25] {وَقَالَ} إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ

[26]

بَيْنِكُمْ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس: (مَوَدَّةُ) رفعًا بلا تنوين (بَيْنِكُمْ) خفضًا بالإضافة على معنى: إن الذين اتخذوا من دون الله هي مودة بينكم في الحياة الدنيا، ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة، وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم، وروح عن يعقوب: (مَوَدَّةَ) نصبًا من غير تنوين على الإضافة بوقوع الاتخاذ عليها، وقرأ الباقون: (مَوَدَّةً) بالنصب والتنوين (بَيْنَكُمْ) بالنصب (¬1)، معناه: إنما اتخذتم هذه الأوثان مودةً بينكم. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تتوادُّون على عبادتها، وتتواصلوْن عليها في الدنيا. {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} أي: يتبرأ القادة من الأتباع. {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} المعنى: يلعن الأتباعُ القادةَ. {وَمَأْوَاكُمُ} جميعًا، العابدون والمعبودون، والتابعون والمتبعون. {النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يُخلصونكم منها. {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)}. [26] {فَآمَنَ لَهُ} أي: لإبراهيم {لُوطٌ} لما رأى النار لا تحرقه، وهو أول من آمن به. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 499)، و"التيسير" للداني (ص: 173)، و"تفسير البغوي" (3/ 467)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 343)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 44 - 45).

[27]

{وَقَالَ} إبراهيم {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى} حيث أمرني. {رَبِّي} بالهجرة إليه، فهاجر من كوثا سواد الكوفة إلى حران، ثم إلى فلسطين، وهو أول من هاجر، ومعه لوط وسارة، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل غير ذلك، ومنه قيل: لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} الذي يمنعني من أعدائي. {الْحَكِيمُ} الذي يأمرني بما فيه صلاحي. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}. [27] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ} فلم يبعث الله نبيًّا بعد إبراهيم إلا من نسله {وَالْكِتَابَ} يريد به: الجنس؛ ليتناول التوراة والزبور والإنجيل والقرآن {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} هو الثناء الحسن. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: في زمرتهم، وهم الأنبياء وأتباعهم صلوات الله عليهم أجمعين. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 503)، و"التيسير" للداني (ص: 173)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 344)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 46).

[28]

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)}. [28] {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهي إتيان الرجال. {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (إِنَّكُمْ) بالإخبار، وقرأ الباقون، وهم: أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (أَئِنَّكمْ) بالاستفهام، فأبو عمرو يحقق الهمزة الأولى، ويسهل الثانية، وهو على أصله في إدخال ألف بينهما، والباقون: يحققون الهمزتين (¬1). * * * {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)}. [29] {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} طريق المارة، كانوا يجلسون عليها، فمن مر بهم، أخذوه، فأخبثوا به. اتفق القراء على الاستفهام في هذا الحرف، وهم على أصولهم، فنافع، وابن كثير، ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 500 و 503)، و"التيسير" للداني (ص: 172 - 173)، و"تفسير البغوي" (3/ 468)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 372 - 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 46 - 47).

وأبو جعفر، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب: يحققون الهمزة الأولى، ويسهلون الثانية بين الهمزة والياء، ويفصل بين الهمزتين بألف: أبو جعفر، وأبو عمرو، وقالون، واختلف عن هشام، والباقون، وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: يحققون الهمزتين (¬1). {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ} أي: مجلسكم ومتحدَّثكم، والنادي والندِيُّ: مجلس القوم ما داموا فيه، فإذا خرجوا منه، فليس بنادي {الْمُنْكَرَ} هو إتيان الرجالِ بعضهم بعضًا في المجالس، روي أنهم كانوا يجلسون على الطريق، وعند كل واحد منهم (¬2) قصعة فيها حصًا، فمن مر بهم، حذفوه، فمن أصابه منهم، فهو أحق به، فيأخذ ما معه، وينكحه، ويغرمه ثلاثة دراهم، ولهم قاض يقضي بينهم بذلك، ومنه: هو أجورُ من قاضي سدوم، وكان من أخلاقهم مضغ العلك، وتطريف الأصابع بالحناء، وفرقعتها، وحل الأزرار، والسباب والفحش، ورمي البندق، واللعب بالحمام. {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} لما أنكر عليهم. {إِلَّا أَنْ قَالُوا} له استهزاءً: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما تعدنا من نزول العذاب. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 499)، و"التيسير" للداني (ص: 132)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 363 و 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 47). (¬2) "منهم" ساقطة في "ت".

[30]

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)}. [30] فعند ذلك {قَالَ} لوط: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} بتصديق قولي. {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} لحملهم الناس على ما لا يجوز. * * * {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)}. [31] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} من الله بإسحاق ويعقوب. قرأ هشام: (أَبْرَاهَامَ) بالألف. {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} هي سدوم. {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} بالكفر والمعاصي. * * * {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)}. [32] {قَالَ} إبراهيم للرسل؛ إشفاقًا على المؤمنين، ومجادلة عنهم: أرأيتم إن كان فيهم مئة بيت من المؤمنين، أتتركونهم؟ قالوا: ليس فيهم ذلك، فجعل يتحدر حتى انتهى إلى عشرة أبيات، فقالت الملائكة: ليس فيها عشرة، ولا خمسة، ولا ثلاثة، ولا اثنان، فحينئذ قال إبراهيم: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} سُمِّيَ بذلك؛ لأن حبه لِيطَ بقلب عمّه إبراهيم؛ أي: تعلق ولصق، وكان إبراهيم يحبه حبًّا شديدًا، فراجعوه حينئذ، و {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} لا تخف أن يقع حَيْف على مؤمن.

[33]

{لَنُنَجِّيَنَّهُ} قرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: بإسكان النون الثانية، وتخفيف الجيم، والباقون: بفتح النون وتشديد الجيم (¬1). {وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين في العذاب. * * * {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)}. [33] {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} ظن أنهم من الإنس. {سِيءَ بِهِمْ} فأجأته المساءة والغم خيفة عليهم من قومه. قرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (سِيءَ) بإشمام السين الضم (¬2). {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أصله أن الرجل إذا طالت ذراعه، أدرك ما لم يدرك القصير، فجعل ضيق الذراع عبارة عن تحمل ما لا يطاق، والمعنى: اغتم غمًّا شديدًا؛ خوفًا أن يخبث قومه بهم. {وَقَالُوا} يعني: الملائكة {لَا تَخَف} علينا {وَلَا تَحْزَنْ} بإهلاكنا إياهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 500)، و"التيسير" للداني (ص: 173)، و"تفسير البغوي" (3/ 470)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 48). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 125)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 49).

[34]

{إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (مُنْجُوكَ) بإسكان النون وتخفيف الجيم، والباقون: بفتح النون وتشديد الجيم (¬1). * * * {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)}. [34] {إِنَّا مُنْزِلُونَ} قرأ ابن عامر: بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون: بإسكان النون (¬2) وتخفيف الزاي. {عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا} عذابًا. {مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} بسبب فسقهم. * * * {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}. [35] {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا} أي: من القرية (¬3). {آيَةً بَيِّنَةً} آثار منازلهم الخربة. {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يتدبرون الآيات تدبُّرَ ذوي العقول. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 500)، و"التيسير" للداني (ص: 173)، و "تفسير البغوي" (3/ 470)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 49). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 500)، و"التيسير" للداني (ص: 90)، و"تفسير البغوي" (3/ 470)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 50). (¬3) "أي: من القرية" زيادة من "ت".

[36]

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)}. [36] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} نصب بأرسلنا مقدرة. {فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} افعلوا ما ترجون به العاقبة. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. * * * {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)}. [37] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة. {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} باركين على الركب ميتين. * * * {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)}. [38] {وَعَادًا وَثَمُودَ} نصب بمضمر؛ أي: أهلكناهما. قرأ حمزة، ويعقوب، وحفص: (وَثَمُودَ) بغير تنوين على تأويل القبيلة، والباقون: بالتنوين، فمن نون، وقف بالألف، ومن لم ينون، وقف بغير ألف، وإن كانت مرسومة، فبذلك جاءت الرواية عنهم منصوصة (¬1). {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ} يا أهل مكة. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 125)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 289 - 290)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 50).

[39]

{مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} أي: منازلهم بالحِجْر واليمن ما وصف من إهلاكهم. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} من الكفر والمعاصي. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الطريق السوي. {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} عقلاء متمكنين من النظر. * * * {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)}. [39] {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} أي: وأهلكناهم. {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} والدلالات. {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} فائتين عذابنا. * * * {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}. [40] {فَكُلًّا} منهم {أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} عاقبناه به. {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} وهم قوم لوط، والحاصب: الريح التي تحمل الحصباء، وهي الحصا الصغار. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} يعني: ثمود.

[41]

{وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} يعني: قارون وأصحابه. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} يعني: قوم نوح، وفرعون وقومه. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} فيعاقبهم بغير جرم. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالتعريض للعذاب. * * * {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)}. [41] ولما كانت العنكبوت أضعف الحيوان، وبيته أضعف البيوت، ضرب مثلًا للأصنام وعابديها، فقيل: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: الأصنام، يرجون نفعها ونصرها. {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} تأوي إليه، وهو في غاية الضعف، لا يدفع عنها حرًّا ولا بردًا، وكذلك الأوثان لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًّا. {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أن نفعهم بمعبوديهم كنفع العنكبوت ببيتها، لما عبدوهم. وروي عن علي -رضي الله عنه-: أنه قال: "طهروا بيوتكم من نسيج العنكبوت؛ فإن تركه يورث الفقر" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" (7/ 280).

[42]

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)}. [42] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} أي: قل للكفرة: إن الله يعلم {مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} قرأ أبو عمرو: (يَعْلَم مَّا) بإدغام الميم في الميم، والباقون: بالفك (¬1)، وقرأ أبو عمرو، وعاصم، ويعقوب: (يَدْعُونَ) بالغيب؛ لذكر الأمم، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬2)، فأما موضع (ما) من الإعراب، فقيل: معناه: أن الله يعلم الذين تدعون من دون الله من جميع الأشياء: أن حالهم هذه، وأنهم أمر لا قدرة له، و (من) تبيين، المعنى: الله مطلع عليكم وعلى أعمالكم، فيجازيكم. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} القاهر على كل شيء {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل شيئًا إلا بحكمة وتدبير. * * * {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}. [43] وكان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون: إن ربَّ محمد يضرب ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 318)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 51). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 501)، و"التيسير" للداني (ص: 174)، و "تفسير البغوي" (3/ 472)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (4/ 343)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 51).

[44]

المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فنزل: {وَتِلْكَ} أي: وهذه. {الْأَمْثَالُ} الأشباه، والمثل: كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول، يريد: أمثال القرآن التي شبه ما أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة. {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} لكفار مكة. {وَمَا يَعْقِلُهَا} يعلم (¬1) فائدة ضربها. {إِلَّا الْعَالِمُونَ} الذين يعقلون عن الله، فيعملون بطاعته، ويجتنبون سخطه. * * * {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)}. [44] {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي: بالغرض الصحيح الذي هو حق لا باطل، وهو أن تكون مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين منهم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} لدلالة {لِلْمُؤْمِنِينَ} على عظم قدرته وتوحيده. * * * {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}. [45] {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يعني: القرآن. ¬

_ (¬1) في "ت": "يفهم".

[46]

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ} المعروفة. {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} ما قَبُحَ من الأعمال {وَالْمُنْكَرِ} ما لا يُعرف في الشرع، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من لم تَنْهَهُ صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعدًا" (¬1). {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: أفضل الطاعات؛ لأن ثواب الذكر الذكر، قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وسئل - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "أن تفارقَ الدنيا ولسانُك رَطْبٌ من ذكر الله" (¬2). {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه شيء. * * * {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)}. [46] {وَلَا تُجَادِلُوا} تخاصموا {أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: باللين إذا بذلوا الجزية {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} بالمعاندة، استثناء من الجنس؛ أي: إلا الذين أبوا أن يعطوا الجزية، ونصبوا الحرب، فأولئك ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11025)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (509)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 3066)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 44). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (818)، والطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 93)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (516)، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-.

[47]

انتصِرُوا منهم، وجادلوهم بالسيف حتى يؤمنوا (¬1)، أو يُقِرُّوا بالجزية. {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} المعنى: أخبروهم أنكم مؤمنون بالله، وجميع كتبه. روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل من اليهود، ومُرَّ بجنازة، فقال: يا محمد! هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أعلم"، فقال اليهودي: إنها تتكلم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما حدثكم أهلُ الكتاب، فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلًا، لم تصدِّقوه، وإن كان حقًّا، لم تكذِّبوه" (¬2). * * * {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)}. [47] {وَكَذَلِكَ} أي: وكإنزالنا التوراة {أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} التوراة؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه. {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ} وهم من أسلم من كفار مكة {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} وذلك أن اليهود عرفوا أن محمدًا نبي، والقرآن حق، فجحدوا. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "يسلموا". (¬2) رواه أبو داود (3644)، كتاب: العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2121)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5206)، عن ابن أبي نملة الأنصاري، عن أبيه.

[48]

{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}. [48] {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} من قبل القرآن. {مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ} تكتبه {بِيَمِينِكَ} وقوله: بيمينك؛ لأن الكتابة غالبًا تكون باليمين، المعنى: لم تكن قارئًا ولا كاتبًا، ولو كنت تعرف شيئًا من ذلك. {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} في نبوتك، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ، وإنما أخذه من كتب من تقدمه. * * * {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}. [49] {بَلْ هُوَ} أي: محمد - صلى الله عليه وسلم - {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أي: ذو آيات واضحات. {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} لأنهم يجدونه في كتبهم كذلك لا يكتب ولا يقرأ، وقيل: المعنى: بل القرآن آيات بينات في صدور المؤمنين الذين حفظوه؛ لأن من خصائص القرآن كونه معجزًا، وهو محفوظ في الصدور، بخلاف سائر الكتب؛ لأن من تقدم كانوا لا يقرؤون كتبهم إلا نظرًا، فإذا أطبقوه، لم يعرفوا منه شيئًا، سوى الأنبياء، وما نقل عن قارون. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} اليهود. * * *

[50]

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}. [50] {وَقَالُوا لَوْلَا} أي: هَلَّا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (آيَةٌ) على التوحيد إرادة الجنس، وقرأ الباقون: (آيَاتٌ) على الجمع؛ كالناقة، والعصا، والمائدة (¬1). {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} في قدرته، ينزلها إذا شاء، وليس إلي من ذلك شيء. {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} كُلِّفت الإنذارَ وإبانتَه بالدلائل الواضحة. * * * {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}. [51] {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن. {يُتْلَى عَلَيْهِمْ} بصدقك، وهو أعظم الآيات، لأنه ثابت على مرور الأيام؛ بخلاف سائر الآيات، فإنها انعدمت. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} القرآن الذي هو آية مستمرة. {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى} تذكيرًا {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 501)، و"التيسير" للداني (ص: 174)، و"تفسير البغوي" (3/ 478)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 52).

[52]

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}. [52] ولما لم يصدقوا بالقرآن، نزل: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} لي بالبلاغ، وعليكم بالتكذيب؛ لأنه {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلا يخفى عليه حالي وحالكم. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} أي: بغير الله. {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} والمغبونون؛ لاشترائهم الكفر بالإيمان. * * * {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)}. [53] ونزل فيمن استعجل العذاب استهزاءً: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} بقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32]. {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى} في اللوح المحفوظ؛ أنهم يعذبون فيه، وهو يوم القيامة. {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} عاجلًا. {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} فجأة في الدنيا، كيوم بدر، والآخرة عند نزول الموت بهم. {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بإتيانه.

[54]

{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)}. [54] {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أعاده تأكيدًا. {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} جامعة لهم. * * * {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}. [55] {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} يُصيبهم {الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي: من جميع جوانبهم، المعنى: إذا غشيهم العذاب، أحاطت بهم جهنم. {وَيَقُولُ ذُوقُوا} جزاء {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من المعاصي. قرأ نافع، والكوفيون: (وَيَقُولُ) بالياء؛ أي: ويقول لهم الموكَّلُ بعذابهم، وقرأ الباقون: بالنون (¬1)، وهي إما نون العظمة، أو نون جماعة الملائكة. * * * {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)}. [56] ونزل فيمن كان يؤذى بمكة من ضعفاء المسلمين، ويخشى الجوع إن خرج {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فاخرجوا، فأنا رازقكم حيث كنتم. {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} والفاء في (فَإِيَّايَ) جواب شرط محذوف، تقديره: إن ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 501)، و"التيسير" للداني (ص: 174)، و"تفسير البغوي" (3/ 479)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 53).

[57]

لم تتمكنوا من العبادة بأرض؛ لكثرة المعاصي، فاعبدون بغيرها، في الحديث: "من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرًا من الأرض، استوجبَ الجنةَ، وكان رفيقَ إبراهيمَ ومحمدٍ" (¬1). قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم: (يَا عِبَادِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2)، وقرأ ابن عامر: (أَرْضِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3)، وقرأ يعقوب: (فَاعْبُدُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬4). * * * {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)}. [57] ثم شجَّع المهاجرين بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي: مرارته؛ كما يجد الذائق طعم المذوق، المعنى: كل أحد ميت أينما كان، فلا تقيموا بدار الشرك خوفًا من الموت. {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجازيكم بأعمالكم. قرأ أبو بكر عن عاصم: ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" (7/ 288) عن الحسن مرسلًا، وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 351). (¬2) انظر "السبعة" لابن مجاهد (ص: 502)، و"التيسير" للداني (ص: 174)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 344)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 54). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 502 - 503)، و"التيسير" للداني (ص: 174)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 54). (¬4) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 344)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 54).

[58]

(يُرْجَعُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب، ويعقوب: على أصله في فتح التاء وكسر الجيم (¬1). * * * {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)}. [58] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (لَنُثْوِيَنَّهُمْ) بالثاء المثلثة ساكنة بعد النون، وإبدال الهمزة ياء؛ من الثواء، وهي الإقامة، يقال: ثوى الرجل: إذا أقام، وأثويته: إذا أنزلته منزلًا يقيم فيه، وقرأ الباقون: بالباء الموحدة وفتحها وتشديد الواو وهمز بعدها (¬2)، وأبو جعفر: على أصله في إبدال الهمزة ياء مفتوحة (¬3)؛ من التبوء وهو المنزل، أي: لننزلنهم. {مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} علالي {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 502)، و"التيسير" للداني (ص: 174)، و"تفسير البغوي" (3/ 480)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (3/ 343)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 54 - 55). (¬2) المصادر السابقة. (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 55).

[59]

{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)}. [59] {الَّذِينَ صَبَرُوا} على الشدائد ومفارقة الأوطان وأذى المشركين. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يعتمدون. * * * {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)}. [60] ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين الذين كانوا بمكة، وقد آذاهم المشركون: "هاجروا إلى المدينة"، فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة، وليس لنا فيها دار ولا مال، فمن يطعمنا ما ويسقينا؟! فأنزل الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ} (¬1) أي: وكم. {مِنْ دَابَّةٍ} هي كل نفس تدب على الأرض من الحيوان. وتقدم اختلاف القراء في (وَكَأَيِّنْ) في سورة الحج عند تفسير قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الآية: 45]. {لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} لا تطيق حمله؛ ضعفًا عن حمله وكسبه. {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} حيث كنتم. {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم: لا نجد ما ننفق في المدينة. {الْعَلِيمُ} بما في ضمائركم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 221).

[61]

قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا، وتروح بطانًا" (¬1). * * * {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)}. [61] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يعني: كفارَ مكة. {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لما تقرر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود، وإن اعترفوا بذلك. فقل: {فَأَنَّى} أي: فكيف {يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن طاعته وتوحيده، مع اعترافهم أنه خالق الأشياء العظام التي هي دلائل القدرة؟! والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع. * * * {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)}. [62] {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي: يُضَيِّق {لَهُ} والضمير في قوله: (يَقْدِرُ لَهُ) لمن يشاء، فكأن بسط الرزق وقدره جُعلا لواحد، ويحتمل أن يكون تقديره: ويبسط لمن يشاء، ويقدر لمن يشاء، فحذف من يشاء، ووضع الضمير موضعه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

[63]

{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ما يصلح العباد، وما يفسدهم. * * * {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}. [63] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على ثبوت الحجة عليكم. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ما يقولون؛ لأنهم مع إقرارهم بذلك يشركون. * * * {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)}. [64] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ} واللهو: هو الاستمتاع بملذات الدنيا. {وَلَعِبٌ} أي: عبث، وسميت بذلك؛ لتشاغلهم بها، وسرعة فنائها. {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: حياتها {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: حياة لا موت فيها، وسميت بالحيوان؛ لأن في الحيوان زيادة مبالغة على الحياة، وهو مصدر حَيِيَ، وقياسه حَيْيَان، قلبت الياء واوًا؛ لئلا تحذف إحدى الألفات، والحياة حركة، والموت سكون، والحيوان مقر الحياة، وهو ضربان: ماله الحاسة، والآخر ماله البقاء الدائم، تلخيصه: لهم البقاء السرمدي.

[65]

{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ذلك، لم يؤثروا الدنيا على الآخرة. * * * {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)}. [65] {فَإِذَا رَكِبُوا} أي: الكفار ومعهم أصنامهم. {فِي الْفُلْكِ} في البحر، وخافوا الغرق. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: لم يشركوا أحدًا معه في الدعاء. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} عنادًا. * * * {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)}. [66] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} من النعم، لفظه أمر، ومعناه التهديد. {وَلِيَتَمَتَّعُوا} بما بأيديهم من النعم. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، وقالون: (وَلْيَتَمَتَّعُوا) بإسكان اللام أمرًا تهديدًا، وقرأ الباقون: بكسرها (¬1)، جعلوها لام كي، تلخيصه: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبةَ ذلك حين يُعاقبون. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 502)، و"التيسير" للداني (ص: 174)، و"تفسير البغوي" (3/ 483)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 344)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 58).

[67]

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًاءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ (67)}. [67] {أَوَلَمْ يَرَوْا} أهلُ مكة. {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًاءَامِنًا} يأمنون فيه. {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون. {أَفَبِالْبَاطِلِ} الأصنام والشياطين {يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله} محمد والإسلام {يَكْفُرُونَ} وهذا تذكير لأهل مكة. * * * {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)}. [68] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بزعمه الشريكَ والولدَ لله تعالى. {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} محمدٍ والقرآن {لَمَّا جَاءَهُ} من غير توقف عنادًا. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} مقام للكافرين؟ استفهام بمعنى التقرير؛ لأن همزة الإنكار إذا أدخلت على النفي، صار إيجابًا، أي: ألا يستوجبون الثواء فيها، وقد افتروا هذا الكذب الشنيع؟! * * * {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}. [69] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} أي: من أجلنا؛ لنصرة ديننا.

{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير. قرأ أبو عمرو: (سُبْلَنَا) بإسكان الباء، والباقون: بضمها (¬1)، وكذلك اختلافهم في (رسلنا) و (رسلهم) و (رسلكم) حيث وقع. {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالنصر والمعونة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 319)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 59).

سورة الروم

سُورَةُ الرُّومِ مكية، إلا قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ}، آيها: ستون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وخمس مئة وأربعة وثلاثون حرفًا، وكلمها: ثمان مئة وتسع عشرة كلمة. بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ * * * {الم (1)}. [1] نقل المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم؛ لأنهم أصحاب كتاب مثلهم، والمشركون يحبون ظهور فارس؛ لأنهم كانوا مجوسًا لا كتاب لهم كالمشركين، فبعث كسرى ملك فارس جيشًا، وبعث قيصر ملك الروم جيشًا، فالتقيا فغلب فارس الروم، فبلغ ذلك المسلمين بمكة، فشق عليهم، وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، وإنكم إن قاتلتمونا، لنظهرن عليكم، فأنزل الله -عز وجل-: {الم} (¬1) تقدم التنبيه على ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 198)، و"تفسير البغوي" (3/ 485)، و"تفسير ابن كثير" (3/ 425)، و "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 54)، =

[2]

معناه، ومذهب أبي جعفر في تقطيع الحروف أول سورة العنكبوت. * * * {غُلِبَتِ الرُّومُ (2)}. [2] {غُلِبَتِ الرُّومُ} حين قاتلهم الفرس. * * * {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)}. [3] {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} أقربها، وهي أذرعات وبصرى، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} الفرسَ. * * * {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)}. [4] {فِي بِضْعِ سِنِينَ} هو ما بين ثلاث إلى عشر، فلما نزلت الآيات، قال أبو بكر: "لا يقر الله أعينكم، ستكون لهم الغلبة عليكم" فَنَاحَبَهُ؛ أي: راهنه أُبي بن خلف على عشر قلص إلى ثلاث سنين، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: "إنما البضع من الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر، وماده في الأجل"، وذلك قبل تحريم القمار، فجعلا المناحبة على مئة قلوص إلى تسع سنين، فمات أُبي بن خلف من طعنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه، ثم نصرت الروم بعد سبع سنين، وكان يوم الحديبية أو بدر، فأخذ أبو بكر الرهن من ¬

_ = و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 478).

ورثة أُبي، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: "تصدق به" (¬1). وقرأ عبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وعيسى بن عمر: (غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتح الغين واللام، و (سَيُغْلَبُونَ) بضم الياء وفتح اللام (¬2)، وقالوا: نزلت حين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبة الروم فارس، ومعنى الآية: غلبت الروم فارس في أدنى الأرض إليكم، وهم من بعد غلبهم سيغلبهم المسلمون في بضع سنين، وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم، قال البغوي: والأول أصح، وهو قول أكثر المفسرين (¬3). وقد حكى بعض المؤرخين في معنى ذلك: أن بيت المقدس لما فتح على يد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في سنة خمس عشرة، أو ست عشرة من الهجرة الشريفة، واستمر بأيدي المسلمين أربع مئة وسبعًا وسبعين سنة، ثم تغلب عليه الفرنج، واستولوا عليه في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة من الهجرة الشريفة، واستمر بأيديهم إحدى وتسعين سنة، إلى أن فتحه الله على يد الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب -رحمه الله- في يوم الجمعة سابع عشري رجب سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة، ووقع من الاتفاقات العجيبة أن الناصر صلاح الدين كان قبل ذلك استولى على مدينة حلب في صفر سنة تسع وسبعين وخمس مئة فامتدحه القاضي محي الدين بن الزكي قاضي دمشق بقصيدة منها: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (21/ 17 - 18). (¬2) انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 116)، و"تفسير البغوي" (3/ 221)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 63). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 487).

وَفَتْحُكُمْ حَلَبًا بِالسَّيْفِ في صَفَرٍ ... مبشرٌ بفتوحِ القدسِ في رَجَبِ فكان كما قال، وفتح القدس في رجب كما تقدم، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: أخذته من تفسير ابن مرجان (¬1) في قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ}، وكان الإمام أبو الحكم بن مرجان الأندلسي قد صنف تفسيره المذكور في سنة عشرين وخمس مئة، وبيت المقدس يومئذ بيد الفرنج لعنهم الله. قال ابن خلكان في "تاريخه" في ترجمة ابن الزكي: ولما وقفت أنا على هذا البيت وهذه الحكاية، لم أزل أتطلب تفسير ابن مرجان حتى وجدته على هذه الصورة، ولكن رأيت هذا الفصل مكتوبًا في الحاشية بخط الأصل، ولا أدري هل كان من أصل الكتاب، أم هو ملحق، قال وذكر له حسابًا طويلًا وطريقًا في استخراج ذلك حين حزره من قوله تعالى: {بِضْعِ سِنِينَ}، انتهى (¬2)، وقد صحيح البغوي الأول كما تقدم. {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} من قبل قتالهم وبعده، فأي الفريقين كان له الغلبة، فهو بأمر الله وقضائه. {وَيَوْمَئِذٍ} أي: يوم يغلب الروم فارس. {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}. * * * ¬

_ (¬1) "برجان" في: "ت". (¬2) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 229 - 230).

[5]

{بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)}. [5] {بِنَصْرِ اللَّهِ} من له كتاب على من لا كتاب له. {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} فينصر هؤلاء تارة، وهؤلاء أخرى. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب. {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين. * * * {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)}. [6] {وَعْدَ اللَّهِ} نصب على المصدر؛ أي: وعد الله وعدًا بظهور الروم على فارس. {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} صحة وعده؛ لجهلهم. * * * {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}. [7] {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من أمر معاشهم، ولا فرق بين عدم العلم وبين العلم المقصور على الدنيا. {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ساهون لا يتفكرون فيها، وكرر الضمير تأكيدًا. * * * {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)}. [8] ثم وبخهم على ترك النظر فيما يدلهم على المطلوب منهم فقال:

[9]

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: ألم يحدثوا الفكرة الصالحة في قلوبهم. فيقولوا: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أي: لم يخلقهما عبثًا، بل لحكم ظاهرة {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} آتٍ (¬1) لوقت معلوم، إذا انتهت إليه، فنيت، وهو يوم القيامة. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} بالبعث والجزاء. {لَكَافِرُونَ} جاحدون، يظنون بقاء الدنيا، وعبر عنه بلقاء الله؛ لأنه عظم الأمر، وفيه النجاة والهلكة. * * * {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)}. [9] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} أهل مكة. {فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} المعنى: ألم يسافروا، فيعترفوا (¬2) مصارع المهلكين؛ كعاد وثمود بعد أن. {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} حرثوها وقلبوها للزراعة، وسمي الثور ثورًا؛ لإثارته الأرض؛ كما سميت بقرة لبقرها الأرض. ¬

_ (¬1) "آتٍ" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "فيعتبروا".

[10]

{وَعَمَرُوهَا} أي: المدمَّرين {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أكثر من عمارة أهل مكة، فأُهلكوا، فما الظن بأهل مكة، وهم دونهم في العدد والعُدَد وقوة الجسد. {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فلم يؤمنوا، فأهلكهم الله. {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} فيدمرهم من غير جرم. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بكفرهم. * * * {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)}. [10] {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ} أي: آخر أمر {الَّذِينَ أَسَاءُوا} العمل بكفرهم. {السُّوأَى} تأنيث الأسوأ، وهو الأقبح، يعني: الخلة التي تسوْؤهم، وهي جهنم. {أَنْ كَذَّبُوا} أي: لأجل أن كذبوا (¬1). {بِآيَاتِ اللَّهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن. {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (عَاقِبَةُ) بالرفع اسم كان، وخبرها (السُّوءَى)، وقرأ الباقون: بالنصب على خبر كان (¬2)، وتقديره: ثم كان السوءى عاقبة الذين أساؤوا. ¬

_ (¬1) "أى: لأجل أن كذبوا" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 506)، و"التيسير" للداني (ص: 174)، و"تفسير البغوي" (3/ 489)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[11]

{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)}. [11] {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} ينشئهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بالبعث بعد الموت. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيهم بأعمالهم. قرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: (يُرْجَعُونَ) بالغيب مع ضم حرف المضارعة، واختلف عن يعقوب، فقرأ رويس: بالخطاب، وروح: بالغيب، وكل منهما يفتح حرف المضارعة على أصل يعقوب، وقرأ الباقون: بالخطاب مع الضم (¬1). * * * {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)}. [12] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ} أي: ييئس. {الْمُجْرِمُونَ} المشركون من كل خير. * * * {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)}. [13] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} الذين عبدوهم دون الله. {شُفَعَاءُ} يجيرونهم من عذاب الله. {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ} أي: بآلهتهم {كَافِرِينَ} جاحدين، يتبرأ كل ¬

_ = (2/ 244)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 65). (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (3/ 489)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208 و 344)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 67).

[14]

واحد منهم من الآخر، وكتب (شُفَعَؤُاْ) بواو قبل الألف؛ كما كتب (عُلَمَؤُاْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) في الشعراء [الآية: 197]، و (السُّوأَى) بألف قبل الياء إثباتًا للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها. * * * {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)}. [14] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} بعد الحساب إلى الجنة والنار، فلا يجتمعون أبدًا. * * * {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)}. [15] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ} بستان مخضر في الجنة. {يُحْبَرُونَ} يُسرون، وكل أرض ذات نبات وماء روضة، ونكرت إرادةً الجنس، وتفخيمًا لها. * * * {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}. [16] {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} بالبعث يوم القيامة. {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} لا يغيبون عنه. * * *

[17]

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)}. [17] سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن المواقيت الخمس، هل هي في كتاب الله تعالى؟ قال: "نعم"، ثم تلا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} (¬1) أي: نزهوا الله. {حِينَ تُمْسُونَ} تدخلون في المساء، والمراد: صلاتا المغرب والعشاء. {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أي: تدخلون في الصباح، وهو صلاة الفجر. * * * {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)}. [18] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس: "يحمده أهل السموات والأرض ويصلون" (¬2)، {وَعَشِيًّا} هي صلاة العصر. {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} تدخلون في الظهيرة، وهي صلاة الظهر. واتفق الأئمة على أن الصلوات المفروضات في اليوم والليلة خمس، وعلى أنها سبع عشرة ركعة، الظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع، والفجر ركعتان، وتجب الصلاة بأول الوقت لغير معذور، وعليه بآخره بالاتفاق. فأول وقت الظهر: إذا زالت الشمس، وهو ابتداء طول الظل بعد تناهي ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 103)، والطبري في "تفسيره" (21/ 29)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10596)، والحاكم في "المستدرك" (3541). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 221).

قصره بالاتفاق، وآخر وقتها: إذا صار ظل الشيء مثله بعد الذي زالت فيه الشمس عند الشافعي وأحمد، وقال مالك: هو آخر وقت الظهر، وهو بعينه أول وقت العصر المختار يكون وقتًا لهما ممتزجًا بينهما، فإذا زاد زيادة بينة، خرج وقت الظهر المختار، واختص الوقت بالعصر، وعند أبي حنيفة آخر وقت الظهر مصير ظل الشيء مثليه، وخالفه صاحباه، فوافقا الشافعي وأحمد. ثم العصر، ووقتها من خروج وقت الظهر على الاختلاف بينهم، وآخر وقتها المختار مصير ظل كل شيء مثليه عند مالك والشافعي وأحمد، ووقت الضرورة عند الشافعي وأحمد إلى غروب الشمس، وهو آخر الوقت عند أبي حنيفة، وقال مالك: وقت الضرورة ببقاء خمس ركعات من النهار يدرك ما الظهر والعصر، وما دون ذلك يدرك ما العصر دون الظهر. ثم المغرب، ووقتها من مغيب الشمس بالاتفاق، قال مالك: وقت المغرب في الأخبار مغيب الشمس، وهو وقت واحد مضيق غير ممتد، لا يؤخر عنه، مقدر آخره بالفراغ منها في حق كل مكلف، وآخر وقتها عند الشافعي وأحمد مغيب الشفق الأحمر بالأفق، وهو من بقايا شعاع الشمس، وعند أبي حنيفة هو البياض الذي يبقى بعد الحمرة؛ خلافًا لصاحبيه. ثم العشاء، ووقتها من مغيب الشفق على الاختلاف بينهم، وآخر وقتها المختار عند مالك والشافعي وأحمد ثلث الليل الأول، ووقت الضرورة عند مالك بقاء أربع ركعات من الليل قبل طلوع الفجر يدرك ما المغرب والعشاء، وما دون ذلك يدرك بها العشاء وحدها، وعند الشافعي وأحمد وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني، وهو البياض الذي يبدو من قبل

[19]

المشرق معترضًا بالأفق ولا ظلمة بعده، وهو آخر الوقت عند أبي حنيفة. ثم الفجر، ووقتها من طلوع الفجر الثاني وهو الصادق إلى طلوع الشمس بالاتفاق، وتعجيلها أفضل عند الثلاثة، وعند أبي حنيفة يستحب الإسفار، فمن أدرك قبل الشمس ركعة، فقد أدرك الصلاة عند الشافعي، وعند مالك مع الطمأنينة، وعند أحمد يدرك الوقت بتكبيرة الإحرام، وكذا الحكم عندهم في جميع الصلوات، وعند أبي حنيفة إذا طلعت الشمس وهو في صلاة الفجر بطلت صلاته، وليس كذلك إذا خرج الوقت في بقية الصلوات، والزائد على قدر واجب في الصلاة في قيام ونحوه نفل بالاتفاق. * * * {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}. [19] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة. {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} عكسه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (الْمَيِّت) بالتشديد في الحرفين، والباقون: بالتخفيف (¬1). {وَيُحْيِ الْأَرْضَ} بالمطر وإخراج النبات {بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها. {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي: كذلك نحييكم عند البعث. قرأ حمزة، ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 224 - 225)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 68).

[20]

والكسائي، وخلف: (تَخْرُجُونَ) بفتح التاء وضم الراء، والباقون: بضم التاء وفتح الراء، واختلف عن ابن ذكوان (¬1). * * * {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)}. [20] {وَمِنْ آيَاتِهِ} دلائله الدالة على قدرته ووحدانيته. {أَنْ خَلَقَكُمْ} أي: خلق أصلكم، وهو آدم {مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} تنبسطون في الأرض، و (إِذَا) للمفاجأة؛ أي: فاجأتم وقت كونكم بشرًا منتشرين. * * * {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}. [21] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} حواء من ضلع آدم، والنساء بعدها من أصلاب الرجال {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} لتأووا إلى أزواجكم. {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً} الجماع {وَرَحْمَةً} الولد، فبرحمة الله يتعاطفون، ويرزق بعض بعضًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عظمة الله وقدرته. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 507)، و"التيسير" للداني (3/ 492)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 69).

[22]

{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)}. [22] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} باللغات. {وَأَلْوَانِكُمْ} أبيض وأسود وغيرهما. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} ظاهرة {لِلْعَالِمِينَ} قرأ حفص عن عاصم: بكسر اللام الثالثة، جمع عالم، وهو ذو العلم، وخص العلماء؛ لأنهم أهل النظر والاستدلال، دون الجهال المشغولين بحطام الدنيا وزخارفها، وقرأ الباقون: بفتح اللام (¬1)، جمع العالم، وهم الخلق، معناه: الآيات حجة على كل مخلوق. * * * {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}. [23] {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ} أي: نومكم {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}. {وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي: جعل الليل للسكنى، والنهار للتصرف في طلب المعاش. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر واعتبار. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 507)، و"التيسير" للداني (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (3/ 492)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 69).

[24]

{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)}. [24] {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} من الصواعق. {وَطَمَعًا} في الغيث. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ} بالنبات {بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (وَيُنْزِلُ) بالتخفيف، والباقون: بالتشديد (¬1). * * * {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}. [25] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} أي تدوما قائمتين إلى أجلهما. {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ} أي: من القبور {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} المعنى: من دلائله على ألوهيته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتى حين يقال: يا أهل القبور اخرجوا، فيخرجون بلا توقف ولا إباء. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 320)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 69).

[26]

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)}. [26] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} مطيعون لا يمتنعون عليه، والمراد: طاعة الإرادة، لا طاعة العبادة. * * * {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}. [27] {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ} ينشئه من العدم أولًا. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموت للبعث. {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي هو هين عليه، وما شيء عليه بعزيز. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: الوصف الذي ليس لغيره مثله. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} صفتان موافقتان لمعنى الآية؛ لأنه وصف الوحدانية. * * * {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)}. [28] ثم عقبه بصفات التشريك فقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: بين لكم شبهًا من حالكم، و (مِنْ) هذه ابتدائية؛ أي: أخذ مثلًا وانتزعه من أقرب شيء منكم، وهي أنفسكم، ثم بين المثل فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا

[29]

{مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: من عبيدكم وإمائكم، و (مِنْ) هنا تبعيض. {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} من المال، و (مِنْ) هنا زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي {فَأَنْتُمْ} وهم {فِيهِ} في المال. {سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ} أي: تخافون مواليكم خيفة {كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي: أمثالكم من الأحرار، المعنى: هل ترضون أن يشارككم مَنْ ملكت أيمانكم فيما رزقناكم، فتكونوا سواء، فتخافونهم أن ينفردوا بأمر دونكم، كما تخافون الشركاء الأحرار؟ فإذا لم ترضوا ذاك، فكيف ترضون لله بشريك فيما يملكه؟ {كَذَلِكَ} أي: كهذا التفصيل {نُفَصِّلُ} نبين {الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم. * * * {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}. [29] فلما لم ينزجروا، أضرب عنهم فقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسَهم بالكفر {أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} بل تقليدًا للجهالة {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ} أي: أضلَّه. {اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} مانعين من العذاب. * * * {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}. [30] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أخلصْ دينك لله، وذكر الوجه؛ لأنه جامع

[31]

حواس الإنسان وأشرفه {حَنِيفًا} مائلًا إليه عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة. {فِطْرَتَ اللَّهِ} خلقة الله. وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي (¬1)، ويعقوب: (فِطْرَهْ) بالهاء (¬2)، وهو نصب على الإغراء؛ أي: الزم فطرة الله. {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وهي الإسلام. {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} خبر بمعنى النهي؛ أي: لا تبدلوا دين الله. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} استقامته؛ لعدم تدبرهم. * * * {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)}. [31] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي: فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين؛ أي: راجعين إليه بالتوبة، لأن مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - تدخل معه فيها الأمة. {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. * * * {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}. [32] وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} بدل من المشركين؛ أي: ¬

_ (¬1) "والكسائي" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 348)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 70).

[33]

جعلوه فرقًا مختلفة فيما يعبدونه على اختلاف (¬1) أهوائهم. قرأ حمزة، والكسائي: (فَارَقُوا) بألف بعد الفاء وتخفيف الراء؛ أي: خرجوا من دينهم وتركوه، وقرأ الباقون: بغير ألف مشددًا على المعنى الأول (¬2). {وَكَانُوا شِيَعًا} أي: صاروا فرقًا مختلفة. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدين. {فَرِحُونَ} مسرورون؛ ظنًّا منهم أنه الحق. * * * {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)}. [33] {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} قحط وشدة {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ} منقلبين. {إِلَيْهِ} بالدعاء. {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} خصبًا ونعمة. {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} فأجاء فريق منهم بالإشراك. * * * {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)}. [34] ثم أمرهم إيعادًا وتهديدًا فقال: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي: بسبب ما أتيناهم، ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد. فقال: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} حالكم في الآخرة. ¬

_ (¬1) "اختلاف" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 108)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 71).

[35]

{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)}. [35] {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} أي: حجة. {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} أي: يبين عذرهم عن شركهم. * * * {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)}. [36] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} نعمة من مطر ونحوه. {فَرِحُوا بِهَا} فرح البطر. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قحط ونحوه. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من أعمالهم الخبيثة. {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فأجاؤا القنوط، وهو الإياس من رحمته تعالى. قرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي، وخلف: (يَقْنِطُونَ) بكسر النون، والباقون: بفتحها (¬1). * * * {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}. [37] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يوسِّعه {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يضيق. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 136)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 348)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 72).

[38]

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلون بها على قدرته وحكمته. * * * {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)}. [38] {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} بأن تبره وتصله {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} من الزكاة، وتقدم الكلام عليهما في سورة التوبة، واختلاف الأئمة فيهما، وفي بقية الأصناف الثمانية {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} يطلبون ثوابه. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حيث حصلوا بما بسط لهم من (¬1) النعيم المقيم. * * * {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}. [39] {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} قرأ ابن كثير: (أَتيتُمْ) بقصر الهمزة، وقرأ الباقون: بالمد (¬2)؛ أي: أعطيتم، ومن قصر، فمعناه: ما جئتم من ربا ذلك على وجه الإعلام (¬3)؛ كما تقول: أتيت خطأً، وأتيت صوابًا، فهو يؤول في المعنى إلى قول من مد {لِيَرْبُوَا} أي: يزيد {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قرأ ¬

_ (¬1) "من" ساقطة في "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 507)، و"التيسير" للداني (ص: 81)، و"تفسير البغوي" (3/ 497)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 72). (¬3) في "ت": "ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء".

[40]

نافع، وأبو جعفر، ويعقوب: (لِتُرْبُوا) بالتاء المضمومة وسكون الواو على الخطاب؛ أي: لتربوا أنتم، وتصيروا ذوي زيادة من أموال الناس، وقرأ الباقون: بالغيب وفتح الياء والواو، وجعلوا الفعل للربا (¬1)؛ لقوله: {فَلَا يَرْبُو} أي: لا ينمو {عِنْدَ اللَّهِ} ولا يبارك فيه. {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ} تبتغون {وَجْهَ اللَّهِ} اتفق القراء على مد (مَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ) من أجل قوله: (وَإِيَتاءِ الزَّكَاةِ)، ثم رجع من الخطاب إلى الغيبة. فقال: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} تُضاعَف حسناتهم. * * * {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)}. [40] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} المعنى: هو المختص بهذهِ الأشياء {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} فلم يجيبوا عجزًا. فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} به من المعبودين. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (تُشْرِكُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (3/ 497)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 348)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 72). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 121)، و"الكشف" لمكي (1/ 515)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 73).

[41]

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}. [41] {ظَهَرَ الْفَسَادُ} الجدب وقلة البركة {فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} السواحل والمدن التي على ظهر البحر والأنهار، وقال الحسن بن أبي الحسن: البر والبحر هما المعروفان المشهوران في اللغة، قال ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح، وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات، ونزول رزايا وحدوث فتن، وتغلب عدو، وهذه الثلاثة توجد في البر (¬1) والبحر (¬2). {بِمَا كَسَبَتْ} أي: جزاءً بما كسبت. {أَيْدِي النَّاسِ} من الذنوب. {لِيُذِيقَهُمْ} قرأ روح عن يعقوب، وقنبل بخلاف عنه: (لِنُذِيقَهُمْ) بالنون، والباقون: بالياء (¬3) أي عقوبة {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} من الذنوب {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن معاصيهم بالتوبة. * * * {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)}. [42] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} ليروا ¬

_ (¬1) "البر" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 340). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 507)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 345)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 74).

[43]

منازلهم ومساكنهم خاوية {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} فأهلكوا بكفرهم. * * * {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)}. [43] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} تقدم تفسيره. {لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} المستقيم، وهو دين الإسلام. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} يوم القيامة {لَا مَرَدَّ لَهُ} لا يقدر أحد على رده {مِنَ اللَّهِ}. قرأ حمزة: (لاَ مَرَدَّ لَهُ) بالمد بحيث لا يبلغ الإشباع (¬1). {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} يتفرقون: فريق إلى الجنة، وفريق إلى النار. * * * {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)}. [44] {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: وَبالُ كفره. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} يوطِّئون منزلًا في الجنة. * * * {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)}. [45] {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} من عطائه. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} لا يُظهر عليهم أمارات الرحمة، ولا يرضاه لهم دينًا. ¬

_ (¬1) سلفت عند تفسير الآية (2) من سورة البقرة.

[46]

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)}. [46] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} الشمال والصبا والجنوب؛ فإنها رياح الرحمة، وأما الدبور، فريح العذاب {مُبَشِّرَاتٍ} بالمطر. {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} المنافع التابعة لها. {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} في البحر بالرياح. {بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} لتطلبوا من رزقه بتجارة البحر. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمة الله. * * * {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}. [47] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات على صدقهم. {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} عذبنا الذين كذبوهم. {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} بإنجائهم من العذاب لإيمانهم. * * * {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)}. [48] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (الرِّيحَ)

[49]

بغير ألف على التوحيد إرادة الجنس، والباقون: بألف على الجمع (¬1)، ولا خلاف في الحرف المتقدم قبل هذا أنه على الجمع. {فَتُثِيرُ سَحَابًا} أي: تنشره {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ} أي: نحوها. {كَيْفَ يَشَاءُ} من قلة وكثرة. {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} قرأ ابن عامر، وأبو جعفر: بإسكان السين على التوحيد، وقرأ الباقون: بفتح السين جمع كسفة؛ أي: قطعًا، واختلف عن هشام (¬2) {فَتَرَى الْوَدْقَ} أي: المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} وسطه. {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} أي: بالودق. {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بالمطر. * * * {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)}. [49] {وَإِنْ كَانُوا} أي: الخلق {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} المطر. {مِنْ قَبْلِهِ} من قبل السحاب {لَمُبْلِسِينَ} آيسين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 348)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 74). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 508)، و"التيسير" للداني (ص: 175)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 309)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 74 - 75).

[50]

{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)}. [50] {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: (أَثَرِ) بقصر الهمزة وحذف الألف بعد الثاء على التوحيد، وقرأ الباقون: بمد الهمزة وألف بعد الثاء على الجمع (¬1)، وأمال الدوري عن الكسائي فتحة الثاء (¬2)، و (رَحْمَتِ) رسمت بالتاء في سبعة مواضع، ووقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (¬3)، المعنى: انظر إلى تأثير المطر. {كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} بالنبات والأشجار وأنواع الثمار. {إِنَّ ذَلِكَ} أي: محييها بعد الموت. {لَمُحْيِ الْمَوْتَى} وهو الله تعالى. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من البعث وغيره. * * * {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)}. [51] {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} مضرة على زرعهم، فأفسدته {فَرَأَوْهُ} أي: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 508)، و"التيسير" للداني (ص: 175)، و"تفسير البغوي" (3/ 501)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 75). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 349)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 54 - 55)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 76). (¬3) سلفت عند تفسير الآية (218) من سورة البقرة.

[52]

النبات {مُصْفَرًّا} بعد خضرته {لَظَلُّوا} أي: ليظلُّنَّ {مِنْ بَعْدِهِ} بعد اصفراره {يَكْفُرُونَ} يجحدون ما سلف من النعم. * * * {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)}. [52] {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}. * * * {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}. [53] {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} تقدم تفسير نظير هاتين الآيتين. واختلاف القراء فيهما مستوفًى في سورة النمل [الآية: 81]، وكذا الحكم في التفسير والاختلاف هنا. * * * {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)}. [54] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} أي: من النطف {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} أي: من بعد ضعف الطفولة قوة الشباب. قرأ أبو عمرو: (خَلَقكُّمْ) بإدغام القاف في الكاف، وقرأ: (مِنْ بَعْد ضَعْفٍ) بإدغام الدال في الضاد (¬1)، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} أي: قوة الشباب {ضَعْفًا وَشَيْبَةً} ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 322)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 77 - 78).

[55]

ضعف الشيخوخة وشيبها. قرأ حمزة، وعاصم بخلاف عن رواية حفص: بفتح الضاد في الأحرف الثلاثة، والباقون: بضم الضاد فيهما، فالضم لغة قريش، والفتح لغة تميم (¬1). {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من ضعف وقوة وشبيبة وشيبة. {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بتدبير خلقه {الْقَدِيرُ} على ما يشاء. * * * {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)}. [55] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} التي فيها القيامة. {يُقْسِمُ} يحلف {الْمُجْرِمُونَ} المشركون {مَا لَبِثُوا} في القبور {غَيْرَ سَاعَةٍ} استقلوا ذلك لما استقبلوا من هول يوم القيامة، ويكذبون ثَمَّ، فيفتضحون. {كَذَلِكَ} مثلَ ذلك الصرف عن الصدق {كَانُوا يُؤْفَكُونَ} يُصرفون إلى الكذب في الدنيا. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: {كَذَلِك كَّانُوا} بإدغام الكاف الأولى في الثانية (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 508)، و"التيسير" للداني (ص: 175 - 176)، و"تفسير البغوي" (3/ 502)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 77). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 78).

[56]

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)}. [56] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} من الملائكة والإنس مُنْكِرين عليهم كذبَهم: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي: فيما كتبه الله لكم في سابق علمه من اللبث في القبور. {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} والفاء بعد جواب شرط محذوف يدل عليه الكلام، تقديره: إن شككتم في يوم البعث. {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} الذي كنتم تنكرونه في الدنيا. {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أنه حق. قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب، وخلف: (لَبِثْتُمْ) و (لَبِثْتَ) حيث وقع بإظهار الثاء عند التاء، والباقون: بالإدغام (¬1). * * * {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}. [57] {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} اعتذارهم {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا تُطلب منهم العتبى؛ أي: لا يقال لهم: أَرضوا ربكم ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 349)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 78).

[58]

بالتوبة والطاعة (¬1) كما دُعوا إليه في الدنيا؛ من قولهم: استعتبني فلان، فأعتبته؛ أي: استرضاني، فأرضيته، وحقيقة أعتبته: أزلت عَتْبه، والعتب في معنى الغضب. قرأ الكوفيون: (يَنْفَع) بالياء على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (¬2). * * * {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)}. [58] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} وصفناهم فيه بأنواع الصفات التي هي في الغرابة كالأمثال. قرأ ابن كثير: (القُرَانِ) حيث وقع بالنقل، والباقون: بالهمز (¬3). {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} عنادًا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} أي: أصحاب باطل. * * * {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)}. [59] {كَذَلِكَ} أي: مثلَ ذلك الطبع، وهو الختم. {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ} الجهلَة {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} توحيد الله. ¬

_ (¬1) "الطاعة" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 509)، و"التيسير" للداني (ص: 176)، و"تفسير البغوي" (3/ 503)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 78). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 321)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 78).

[60]

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}. [60] {فَاصْبِرْ} على أذاهم {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} بنصرك، وإظهار دينك، لا بد من إنجازه {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} لا يحملنك على الخفة والطيش {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} بالبعث، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد: أمته. قرأ رويس عن يعقوب: (يَسْتَخِفَّنْكَ) بتخفيف النون، والباقون: بالتشديد (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 79).

سورة لقمان

سُوْرَةُ لُقمَان مكية غير ثلاث آيات، أولهن: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ}، آيها: أربع وثلاثون آية، وحروفها: ألفان ومئة وعشرة أحرف، وكلمها: خمس مئة وثمان وأربعون كلمة. بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)}. [1] {الم}. [2] {تِلْكَ} إشارة إلى الكتب المتقدمة أنها في القرآن معنى. {آيَاتُ الْكِتَابِ} القرآن {الْحَكِيمِ} أي: ذي الحكمة. * * * {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)}. [3] {هُدًى وَرَحْمَةً} قرأ حمزة: (وَرَحْمَةٌ) بالرفع على الابتداء؛ أي:

[4]

هو هدى ورحمة، وقرأ الباقون: بالنصب على الحال من الآيات (¬1) {لِلْمُحْسِنِينَ}. * * * {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}. [4] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} بيان لإحسانهم. * * * {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}. [5] {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الظافرون بطلبتهم. * * * {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)}. [6] وكان النضر بن الحارث بن كلدة يَتَّجِر، فيأتي الحيرة، فيشتري أخبار الأعاجم، ويحدث بها قريشًا، ويقول: إن محمدًا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون سماع القرآن، فأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 512)، و"التيسير" للداني (ص: 176)، و"تفسير البغوي" (3/ 505)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 83).

مَنْ يَشْتَرِي} (¬1) يستبدل {لَهْوَ الْحَدِيثِ} باطله، وقيل: نزلت فيمن يشتري المغنيات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل شراء المغنيات، ولا بيعهن، وأثمانهن حرام" (¬2)؛ لأن في مثل هذا نزلت هذه الآية. {لِيُضِلَّ} ليصير آخر أمره إلى الضلال. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} طريق الإسلام {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بل بجهل. {وَيَتَّخِذَهَا} أي: السبيل {هُزُوًا} سخرية. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (لِيَضِلِّ) بفتح الياء (وَيَتَّخِذُهَا) برفع الذال عطفًا على (يشتري)، و (هُزُؤًا) بضم الزاي والهمز، وقرأ حفص عن عاصم: (لِيُضِلَّ) بضم الياء، (وَيَتَّخِذَهَا) بنصب الذال عطفًا على (لِيُضِلَّ)، و (هُزُوًا) بضم الزاي وفتح الواو منونة بغير همز، وقرأ حمزة، وخلف: (لِيُضِلَّ) بضم الياء (وَيَتَّخِذَهَا) بفتح الذال (هُزْءًا) بإسكان الزاي مع الهمز، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (لِيُضِلَّ) بضم الياء (وَيَتَّخِذَهَا) بفتح الذال (هُزُؤًا) بضم الزاي والهمز (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب نزول" للواحدي (ص: 198). (¬2) رواه الترمذي (3195)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة لقمان، وقال: حديث غريب، وعلي بن يزيد يضعَّف في الحديث، وابن ماجه (2168)، كتاب: التجارات، باب: ما لا يحل بيعه، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 257)، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-. (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 134 و 176)، و"تفسير البغوي" (3/ 507)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 215 و 346)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 83 - 84).

[7]

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}. [7] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} لا يعبأ بها. {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} وهو الثقل الذي يغير إدراك المسموعات. قرأ نافع: (أُذْنَيْهِ) بإسكان الذال، والباقون: بضمها (¬1). {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وذكر البشارة على التهكم. * * * {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)}. [8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} لما ذكر الكفرة وتوعدهم بالنار، عقب بذكر المؤمنين، ووعدهم بجنات النعيم؛ ليبين الفرق. * * * {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}. [9] {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من ضمير (لَهُمْ) {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} مصدران مؤكِّدان، الأول مؤكد لنفسه؛ لأن معنى {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} وعدهم بها، فأكد معنى الوعد بالوعد، {وَهُوَ} دال على معنى الثبات، أكد به معنى الوعد، وأكدا جميعًا {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}. {الْعَزِيزُ} الذي لا يغلبه شيء {الْحَكِيمُ} في أفعاله. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 99)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 350)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 85).

[10]

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)}. [10] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} جمع أعمدة، وهي جمع عمود البيت؛ يعني: السواري {تَرَوْنَهَا} استشهاد برؤيتهم لها كذلك، والمراد: نفي العمد أصلًا، وهو الأصح، فهي واقفة كالقبة، والقدرة أعظم من ذلك. {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} جبالًا رست؛ أي: ثبتت في الأرض. {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} لئلا تضطرب بكم. {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} ثم رجع من الغيبة إلى الحضور. فقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} والزوج في اللغة: النوع والصنف، وليس بالذي هو ضد الفرد، وقوله: {كَرِيمٍ} أي: كثير المنفعة. * * * {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}. [11] {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} يعني: الذي ذكرتُ مما تعاينون مخلوقُ الله. {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} من آلهتكم التي تعبدونها. {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: بل هذا الذي قريش فيه ضلال مبين، فذكرهم بالصفة التي تعم معهم سواهم ممن فعل فعلهم من الأمم.

[12]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)}. [12] {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ} وهو ابن ناعور ابن أخت أيوب عليه السلام، وقيل غير ذلك {الْحِكْمَةَ} العقل والعلم، ولم يكن نبيًّا، وكان قاضيًا في بني إسرائيل في زمن داود عليه السلام، روي أنه خيره الله بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة. وروي عن ابن عمر: أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حقًّا أقوله، لم يكن لقمان نبيًّا، ولكن كان عبدًا كثيرَ التفكر، حسنَ اليقين، أحب الله تعالى، فأحبه، فمنَّ عليه بالحكمة" (¬1) انتهى، وكان يؤازر داود؛ لحكمته، وعاش ألف سنة، وقبرُ لقمان بقرية صرفند ظاهر مدينة رملة فلسطين، وعليه مشهد، وهو مقصود للزيارة، وقال قتادة: قبره بالرملة ما بين مسجدها وسوقها، وهناك قبور سبعين نبيًّا ماتوا بعد لقمان جوعًا في يوم واحد، أخرجهم بنو إسرائيل من القدس، فألجؤوهم إلى الرملة، ثم أحاطوا بهم هناك، فتلك قبورهم. {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أي: وقلنا له: أن اشكر لله على ما أعطاك من الحكمة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وخلف: (أَنُ اشْكُرْ) بضم النون في الوصل، والباقون: بالكسر (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الديملي في "مسند الفردوس" (5384)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (17/ 85). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 322)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 85).

[13]

{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن ثوابه له. {وَمَنْ كَفَرَ} نعمةَ ربه {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} عن خلقه {حَمِيدٌ} محمود على صنعه. * * * {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}. [13] {وَإِذْ} أي: واذكر إذ {قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ} واسمه أنعم، وقيل: أشكم. {وَهُوَ يَعِظُهُ} يذكره بالآخرة {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. قرأ ابن كثير: (يَا بُنَيْ) بإسكان الياء مخففة [في هذا الحرف، وقرأ حفص عن عاصم: (يَا بُنَيَّ) بفتح الياء مشددة في الأحرف الثلاثة على قولك: يَا بُنَيَّا، ووافقه البزي في: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ)، وقرأ قنبل: (يَا بُنَيْ أَقِمِ الصَّلاَةَ) بإسكان الياء مخففة] (¬1)، وقرأ الباقون: بكسر الياء مشددة في الثلاثة على إدغام إحدى الياءين في الأخرى (¬2). * * * {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)}. [14] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي: توالى ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 512)، و"التيسير" للداني (ص: 176)، و"تفسير البغوي" (3/ 509)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 86).

[15]

عليها ضعف على ضعف؛ لأن الحمل ضعف، والطلق ضعف، والوضع ضعف {وَفِصَالُهُ} أي: مدة فطامه {فِي عَامَيْنِ} وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان. {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} أي: وصيناه بشكرنا، وشكر والديه. قرأ أبو عمرو: (أَنِ اشْكُر لِّي) بإدغام الراء في اللام، ورُوي عنه الإظهار، والوجهان صحيحان عنه (¬1). {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} المرجع، قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس، فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس، فقد شكر والديه (¬2). * * * {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}. [15] {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} باستحقاقه الإشراك. {فَلَا تُطِعْهُمَا} في الشرك. {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي: صِحابًا معروفًا، وهو البر والصلة. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 86). (¬2) انظر: "تفسير النسفي" (3/ 282).

[16]

{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ} أي: دينَ {مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} أقبلَ على طاعتي، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وجيء بهاتين الآيتين اعتراضًا في قصة لقمان؛ لمناسبة بينهما؛ لأن فيهما نهيًا عن الشرك كما في القصة. * * * {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)}. [16] ثم قال لقمان مخاطبًا ابنه: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} أي: زِنَةَ حبةٍ من حب الخردل. قرأ نافع، وأبو جعفر: (مِثْقَالُ) برفع اللام؛ أي: إن وقع زنة حبة، وقرأ الباقون: بالنصب (¬1) على معنى: إن كان العملُ مثقالَ حبة، وتقدم نظيره في سورة الأنبياء. {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} قال ابن عباس: "هي صخرة تحت الأرضين السبع، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة السماء منها" (¬2). {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} للجزاء. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} باستخراجها {خَبِيرٌ} بمكانها، لا يفوته شيء، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 155)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 87). (¬2) انظر: "تفسير الصنعاني" (3/ 106)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (9/ 3064)، و"تفسير ابن كثير" (3/ 447) وقال: كأنه من متلقى الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.

[17]

ويجازي به، روي أن آخر كلمة تكلمها هذه، ثم انشقت مرارته؛ لهيبتها، فمات. * * * {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)}. [17] {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وابدأ بنفسك، وتقدم تفسير المعروف والمنكر والحكم فيه في سورة التوبة. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} من الأذى بسبب ذلك؛ فإنه يورث المحن. {إِنَّ ذَلِكَ} المذكور {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} مما عزمه الله؛ أي: قطعه قطعَ إيجاب. * * * {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}. [18] {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} لا تُعرض بوجهك عن الناس تكبرًا واحتقارًا لهم. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: (تُصَعِّرْ) بتشديد العين من غير ألف، والباقون: بتخفيفها وألف قبلها (¬1)، ومعناهما واحد؛ من الصَّعَر: داء يأخذ الإبل، فتميل أعناقها منه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 513)، و"التيسير" للداني (ص: 176)، و"تفسير البغوي" (3/ 514)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 346)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 88).

[19]

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} بطرًا. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} متبختر في مشيته. {فَخُورٍ} على الناس صاحبُ خيلاء. * * * {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}. [19] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} اعدل، فلا تَدب، ولا تَثب. {وَاغْضُضْ} انقص. {مِنْ صَوْتِكَ} واخفضه في محل الخطاب دون الإرهاب للعدو. {إِنَّ أَنْكَرَ} أقبح {الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} لأن أوله زفير، وآخره شهيق؛ كصوت أهل النار. * * * {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)}. [20] {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} بأن جعله سببًا لمنافعكم {وَمَا فِي الْأَرْضِ} بأن مكنكم من الانتفاع به. {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} أكملَ عليكم {نِعَمَهُ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: (نِعَمَهُ) بفتح العين وضم الهاء على الجمع

[21]

والتذكير؛ لأن أنعمه كثيرة، وقرأ الباقون: بإسكان العين وتاء منونة منصوبة على التأنيث والتوحيد (¬1)؛ إرادة الجنس. {ظَاهِرَةً} هي حسن الصورة وتسوية الأعضاء {وَبَاطِنَةً} هي المعرفة، ولما كان النضر بن الحارث، وأُبي بن خلف، وأمية بن خلف، وأشباههم يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الله وفي صفاته. نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬2) مستفادٍ من دليل. {وَلَا هُدًى} راجعٍ إلى الرسول. {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أنزله الله، بل بالتقليد. * * * {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}. [21] كما قال {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}. قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} وجواب (أَوَ لَوْ) محذوف، تقديره: أتتبعون الشيطان، وإن كان يدعوهم إلى عذاب السعير؟ والتقليد لغة: وضع الشيء في العنق محيطًا به، ومنه القلادة، ثم ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 177)، و"تفسير البغوي" (3/ 512)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 347)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 89)، والقراءة جاءت بخلاف عن أبي عمرو وابن كثير وعاصم. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 512).

[22]

استعمل في تفويض الأمر إلى الغير؛ كأنه ربطه في عنقه، واصطلاحًا: قبول قول الغير بلا حجة، فيخرج الأخذ بقوله عليه السلام؛ لأنه حجة في نفسه. * * * {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)}. [22] {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي: يخلص دينه لله. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله (¬1). {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي: اعتصم بالعهد الأوثق، وهو: لا إله إلا الله. {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فيعطي كلًّا جزاءه. * * * {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)}. [23] {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} فإنه لا يضرك. قرأ نافع: (يُحْزِنْكَ) بضم الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي (¬2) {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} في الدارين. ¬

_ (¬1) في "ت": "علمه". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 350)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 90).

[24]

{فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} بالإهلاك والتعذيب. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فمُجازٍ عليه. * * * {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}. [24] {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا} نمهلهم مدة آجالهم {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} نلجئهم. {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} شديد. ... {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)}. [25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذعانه. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فيه التوحيدَ ووجوبَه عليهم. ... {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)}. [26] {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا يستحق العبادةَ فيهما غيرُه. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} الذي لا حاجة له في وجوده وكماله إلى شيء. {الْحَمِيدُ} المحمود؛ أي: كذلك هو بصفته وذاته. ***

[27]

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)}. [27] ولما نزل بمكة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، أتاه أحبار اليهود، وقالوا: يا محمد ما تريد بقولك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إيانا أم قومك؟ فقال؛ كُلًّا، فقالوا: أليست التوراة فينا؟ قال: هي في علم الله قليل. فنزل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} (¬1) أي: شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بُريت أقلامًا. {وَالْبَحْرُ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (وَالْبَحْرَ) بالنصب عطفًا على (ما) التي هي اسم (أن)، وقرأ الباقون: بالرفع على أنه ابتداء، وخبره في الجملة التي بعده (¬2). {يَمُدُّهُ} يزيده، وينصبُّ فيه {مِنْ بَعْدِهِ} (¬3)؛ أي: من خلفه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ}. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (21/ 81). وانظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 199). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 177)، و"تفسير البغوي" (3/ 514)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 347)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 90 - 91). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 177)، و"تفسير البغوي" (3/ 514)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 347)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 90 - 91).

[28]

{مَا نَفِدَتْ} المعنى: لو أن جميع أشجار الأرض أقلام، وتنصبُّ في البحر سبعة أبحر، ومياهها مداد، فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد، لنفدت الأقلام والمداد، ولم تنفد {كَلِمَاتُ اللَّهِ}؛ يعني: علمه {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. * * * {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}. [28] ونزل ردًّا على منكري البعث: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ} مع كثرتكم. {إِلَّا كَنَفْسٍ} أي: إلا كخلق نفس {وَاحِدَةٍ} وبعثِها. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} فلا يفوته شيء. * * * {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)}. [29] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} يُدخل أحدَهما في الآخر. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى منتهى معلوم: الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر، وقيل: الأجل المسمى: القيامة التي تنقضي فيها هذه البنية.

[30]

{وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عالم بكنهه. * * * {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)}. [30] {ذَلِكَ} الذي ذكرت {بِأَنَّ اللَّهَ} أي: لتعلموا أن الله {هُوَ الْحَقُّ} أي: صفة الألوهية حق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} من الأصنام {الْبَاطِلُ} المعدوم. قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (يَدْعُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬1). {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} على كل شيء {الْكَبِيرُ} عن أن يكون له شريك. * * * {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)}. [31] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} أي: إن ذلك من نعمة الله عليكم، و (نِعْمَتِ) رُسمت بالتاء في أحد عشر موضعًا، وقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 158)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 92). (¬2) سلفت عند تفسير الآية (231) من سورة البقرة.

[32]

{لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} من عجائبه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} صبور على أمر الله. {شَكُورٍ} لنعمه. * * * {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}. [32] {وَإِذَا غَشِيَهُمْ} يعني: الكفار، وهم في البحر {مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} لأن موج البحر يرتفع ويتراكب كالظلل، وهي السحب. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} لا يذكرون معه (¬1) سواه. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} عدل، موف في البر بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له، قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل، هرب عام الفتح إلى البحر، فجاءهم ريح عاصف، فقال عكرمة: لئن أنجاني الله من هذا، لأرجعن إلى محمد، ولأضعن يدي في يده، فسكنت الرياح، فرجع عكرمة إلى مكة، فأسلم وحسن إسلامه (¬2). {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} الدالةِ على قدرتنا {إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ} غدَّار. {كَفُورٍ} للإحسان إليه. * * * ¬

_ (¬1) "معه" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 515).

[33]

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)}. [33] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا} أي: عذابَ يوم. {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا} أي: لا يقضي عنه، و (يُجزي) -بالضم-: يغني، والتلاوة بالأول. {مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} ما روي عن يعقوب وقنبل: الوقف بالياء على (جَازِي) (¬1). {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالثواب والعقاب {حَقٌّ} لا خُلْفَ فيه. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان، والغرور: التطميع بما لا يحصل، ومعنى الآية: أن تعمل بالمعصية، وتتمنى المغفرة. * * * {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}. [34] ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، وعن نزول الغيث، وعن وضع الحمل، والكسب، والموت، نزل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬2) وقتُ ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 221). (¬2) انظر: "أسباب نزول" للواحدي (ص: 199 - 200).

قيامها {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في محله المعين له فيعلمه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وعاصم: (وَيُنَزِّلُ) بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون: بإسكان النون وتخفيف الزاي (¬1) {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} من ذكر وأنثى، وأسود وأبيض، وغير ذلك. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} من خير وشر {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} من بَرٍّ وبحر، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مفاتحُ الغيبِ خمسة" وتلا هذه الآية (¬2). {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بالأشياء كلها {خَبِيرٌ} يعلم بواطنَها وظواهرَها، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 177)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 218)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 94). (¬2) رواه البخاري (4351)، كتاب: التفسير: باب: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

سورة السجدة

سُوْرَةُ السَّجدَة وتسمى: سورة المضاجع، مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} إلى تمام ثلاث آيات، وآيها: ثلاثون آية، وحروفها: ألف وخمس مئة وثمانية عشرة حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وثمانون كلمة. بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1)}. [1] {الم} اختلفوا في إعراب أوائل السور على ثلاثة أقوال: قيل: محلها رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه ألف لام ميم، أو مبتدأ وما بعده خبر، وقيل: محلها نصب على إضمار فعل؛ أي: اقرأ ألف لام ميم، وقيل: في محل جر على إضمار جر بالقسم؛ أي: وألفٍ لام ميم، وتقدم تفسيره واختلاف القراء فيه غيرَ مرة. * * * {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}. [2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك في الكتاب أنه تنزيل.

[3]

{مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لأنه معجز، وإذا تُؤُمِّل، وُجد كذلك. * * * {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}. [3] {أَمْ يَقُولُونَ} أي: بل أيقولون: {افْتَرَاهُ} أي: اختلقَ محمدٌ القرآنَ. {بَلْ هُوَ} أي: القرآنُ {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا} هم العرب. {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} لأن العرب لم يُبعث إليهم أحد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} بإنذارك إياهم. * * * {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)}. [4] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم الكلام فيه في سورة طه {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ} من دون عذابه. {مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} المعنى: إذا خالفتموه، فلا ناصر يذب عنكم، ولا شافع يشفع لكم. {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} بمواعظ الله؟! * * *

[5]

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)}. [5] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يقضي القضاء وينزله {مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} واختلاف القراء في الهمزتين من قوله: (مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ) كاختلافهم فيهما من قوله: (عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: 33]. {ثُمَّ يَعْرُجُ} يصعد {إِلَيْهِ} المعنى: ينزل الملك بالوحي من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إلى مقره منها. {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} من أيامكم؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة سنة (¬1)، فيكون هبوط الملك وصعوده في قدر يوم واحد، وأما قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج: 4] فهو مدة المسافة بين سدرة المنتهى والأرض، ثم عوده إلى السدرة، فالملك يسيره في قدر يوم واحد من أيام الدنيا. * * * {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)}. [6] {ذَلِكَ} المدَبِّرُ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: يعلم الظاهر والباطن {الْعَزِيزُ} الغالبُ {الرَّحِيمُ} بعباده. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "عام".

[7]

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)}. [7] {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قرأ نافع، والكوفيون: (خَلَقَهُ) بفتح اللام؛ أي: كل شيء (¬1) خلقه حسن، وقرأ الباقون: بإسكانها (¬2)، أي: أحسنَ كمل (¬3) خلقَ كلِّ شيء؛ أي: أتقنه وأحكمه. {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ} أي: آدم {مِنْ طِينٍ}. * * * {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)}. [8] {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} ذريته. {مِنْ سُلَالَةٍ} من نطفة؛ لأنها تُسل من الإنسان. {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ضعيف. * * * {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)}. [9] {ثُمَّ سَوَّاهُ} قَوَّمه وسَوَّى خلقَه {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} أي: جعل فيه الشيء الذي اختص تعالى به، ولذلك أضافه إليه، فصار بذلك حيًّا حساسًا بعد أن كان جمادًا، لا أن ثَمَّ حقيقة نفخ، ئم عاد إلى ذريته فقال: ¬

_ (¬1) "شيء" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 156)، و "التيسير" للداني (ص: 177)، و "تفسير البغوي" (3/ 519)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 98). (¬3) "كمل" ساقطة في "ت".

[10]

{وَجَعَلَ لَكُمُ} بعد أن كنتم نُطفًا. {السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} يعني: لا تشكرون إلا شكرًا قليلًا. * * * {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)}. [10] {وَقَالُوا} منكرو البعث: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} ذهبنا وصرنا ترابًا، و (صَلَلْنَا) بالصاد المهملة: تغيرنا، والتلاوة بالأول {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} المعنى: أنبعث بعد موتنا وانعدامنا؟ واختلف القراء في (أَئِذَا) (أَئِنَّا) في الإخبار بالأول منهما، والاستفهام بالثاني، وعكسه، والاستفهام فيهما، فقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: (إِذَا) بالإخبار (أَئِنَّا) بالاستفهام، وابن عامر: يحقق الهمزتين، وأبو جعفر: يسهل الثانية ويفصل بينهما بألف، واختلف عن هشام راوي ابن عامر في الفصل مع تحقيق الهمزتين، وقرأ نافع، والكسائي، ويعقوب: (أَئِذَا) بالاستفهام (أَئِنَّا) بالإخبار، فنافع يسهل الهمزة الثانية، ورواية قالون: يفصل بينهما بألف، ووافقه رويس عن يعقوب في التسهيل، والكسائي: يحقق الهمزتين، وافقه روح عن يعقوب، وقرأ الباقون: (أَئِذَا) (أَئِنَّا) بالاستفهام فيهما، فابن كثير وأبو عمرو: يسهلان الهمزة الثانية منهما، وأبو عمرو: يفصل بينهما بألف، وعاصم وحمزة وخلف: يحققون الهمزتين (¬1)، فمن قرأ بالاستفهامين، فذلك ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 516)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 362 - 364 و 372 - 374)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 99).

[11]

للتأكيد، ومن استفهم في الأول فقط، فإنما يقصد بالاستفهام الموضع الثاني، تقديره: أنبعث ونحشر إذا، ومن استفهم في الثاني فقط، فمعناه: إذا كنا ترابًا، أنبعث؟ قال الله عز وجل: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي: بالبعث بعد الموت. * * * {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}. [11] {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ} يقبض أرواحكم {مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} أي: وكل بقبض أرواحكم، وهو عزرائيل -عليه السلام-، والتوفي: هو استيفاء العدد، معناه: أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليهم الموت. روي أن الدنيا لملك الموت كراحة اليد، يأخذ منها صاحبها ما أحب بلا تعب، فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، روي أن أعوانه ينزعون الروح، فإذا بلغت ثغرة النحر، نزعها هو (¬1). {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} بعد الموت أحياءً، فيجزيكم بأعمالكم. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُون) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (21/ 541). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 520)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 100).

[12]

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)}. [12] {وَلَوْ تَرَى} أي: وليتك يا محمد ترى {إِذِ الْمُجْرِمُونَ} المشركون {نَاكِسُو} مطأطِئو {رُءُوسِهِمْ} خجلًا وندمًا {عِنْدَ رَبِّهِمْ} يوم القيامة، فتمنى تعالى أن يراهم نبيُّه -عليه السلام- على الحالة الرديئة؛ لأنهم آذوه. {رَبَّنَا} أي: ويقولون: ربَّنا {أَبْصَرْنَا} صدقَ وعدِك. {وَسَمِعْنَا} منك تصديقَ رسلك، تقديره: لو رأيت حالهم، لرأيت العجب. {فَارْجِعْنَا} إلى الدنيا {نَعْمَلْ صَالِحًا} فيها. {إِنَّا مُوقِنُونَ} هنا بما أنكرنا ثَمَّ. * * * {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}. [13] {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} رشدَها إلى الإيمان، وأجبرناها عليه. {وَلَكِنْ حَقَّ} أي: ثبت {الْقَوْلُ مِنِّي} بالوعيد، وهو: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ} أي: الشياطين {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وهو قوله لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]. * * *

[14]

{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}. [14] ثم يقال: {فَذُوقُوا} هذا الذي أنتم فيه؛ من التنكيس والخزي. {بِمَا نَسِيتُمْ} بسبب نسيانكم {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وهو يوم القيامة، واشتغالكم بملذاتكم عن الاعتداد له {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} تركناكم. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} الدائم في جهنم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي. * * * {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)}. [15] ثم أثنى -عز وجل- على المؤمنين فقال: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} وعظوا {بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} سقطوا على وجوههم ساجدين خوفًا منه. {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} نزهوا الله عما لا يليق به، حامدين له على ما وفقهم. {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} على الإيمان به، والسجود له، وهذا محل سجود بالاتفاق، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في حكم سجود التلاوة وسجود الشكر ملخصًا عند سجدة مريم، ويُسن عند الشافعي وأحمد أن يقرأ في فجر الجمعة في الركعة الأولى: {الم} السجدة، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان] وكره أحمد المداومة عليهما؛ لئلا يُظن أنها مفضلة

[16]

بسجدة، وعند أبي حنيفة ومالك: لا يسن، بل كره أبو حنيفة تعيين سورة غير الفاتحة بشيء من الصلوات؛ لما فيه من هجران الباقي، وكره مالك قراءة السجدة في صلاة الفرض جهرًا أو سرًّا، فإن قرأ، هل يسجد؟ فيه قولان. * * * {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)}. [16] {تَتَجَافَى} ترتفع {جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} جمع مضجع، وهو الفِراش، وهم المتهجدون بالليل الذين يقومون للصلاة. وقال ابن رواحة يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: وَفِينا رسولُ الله يَتْلو كتابَهُ ... إذا انشقَّ معروفٌ من الفجرِ ساطعُ أرانا الهدى بعدَ العمى فقلوبُنا ... به موقِناتٌ أَنَّ ما قالَ واقعُ يبيتُ يُجافي جَنْبَهُ عن فِراشِهِ ... إذا استثقلَتْ بالكافرينَ المضاجِعُ (¬1) {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} من النار {وَطَمَعًا} في الجنة. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يتصدقون تطوعًا. * * * {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}. [17] {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} لا مَلَكٌ مقرَّب، ولا نبي مرسَل. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5799)، كتاب: الأدب، باب: هجاء المشركين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[18]

{مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} هو ما تقر به أعينهم. قرأ حمزة، ويعقوب: (أُخْفِي) بسكون الياء معلومًا مستقبلًا؛ أي: أخفي أنا، وقرأ الباقون: بفتحها مجهولًا على بناء الفعل للمفعول (¬1). {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الخير. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تبارك وتعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بَلْهَ ما اطلعتم عليه" (¬2)، و (بَلْهَ)؛ أي: غيرَ. * * * {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)}. [18] ولما وقع تنازع بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبين الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه، فقال الوليد: لعلي: اسكت، فإنك صبي، فقال له علي: "اسكت؛ فإنك فاسق"، نزل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (¬3) عند الله، أفرد مؤمنًا وفاسقًا حملًا على لفظ (مَنْ) وجمع (لا يَسْتَوُونَ) حملًا على معناها؛ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 516)، و"التيسير" للداني (ص: 177)، و"تفسير البغوي" (3/ 524)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 347)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 101). (¬2) رواه البخاري (4502)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، ومسلم (2824)، في أول كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها. (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" (21/ 107)، عن عطاء، ورواه الواحدي في "أسباب النزول" (ص: 201 - 202)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[19]

لأنها للعموم؛ لأنه لم يرد مؤمنًا واحدًا وفاسقًا واحدًا، بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين. * * * {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)}. [19] ثم بين التفاوتَ بينهما فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ} استحقاقًا تكرمًا منه تعالى {جَنَّاتُ الْمَأْوَى} التي يأوي إليها المؤمنون. {نُزُلًا} جزاءً وثوابًا {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بسبب أعمالهم. * * * {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}. [20] {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} عبارة عن خلودهم فيها {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} إهانة لهم، وزيادة في غيظهم، قال هنا: (الَّذِي) أراد: العذاب، وفي سبأ (الَّتِي) أراد: النار. * * * {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}. [21] {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} أي: الأقرب عذاب الدنيا من

[22]

القتل والأسر والمحن {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} عذاب الآخرة؛ أي: نذيقهم العذاب هنا قبل العذاب. ثم {لَعَلَّهُمْ} أي: من بقي منهم {يَرْجِعُونَ} يتوبون. * * * {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}. [22] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} فلم يتفكروا فيها، و (ثُمَّ) لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها. {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أجمعين {مُنْتَقِمُونَ} وظاهر الإجرام هنا: أنه الكفر، وروى معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقدَ لواءً في غير حق، ومن عَقَّ والديه، ومن نصر ظالمًا" (¬1). * * * {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)}. [23] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} أي: شك {مِنْ لِقَائِهِ} أي: من لقاء موسى ليلة الإسراء، قاله ابن عباس وغيره {وَجَعَلْنَاهُ} أي: المنزَل على موسى، وهو التوراة {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} روي أن ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 61). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 555).

[24]

التوراة إنما جعلت هدى لبني إسرائيل خاصة دون بني إسماعيل. * * * {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)}. [24] {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ} من بني إسرائيل {أَئِمَّةً} قادة في الخير يُقتدى بهم؛ يعني: الأنبياء الذين كانوا فيهم. واختلاف القراء في (أَئِمَّةً) كاختلافهم فيه في الحرف المتقدم في سورة الأنبياء [الآية: 73] {يَهْدُونَ} يدعون إلى الطاعة {بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قرأ حمزة، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (لِمَا) بكسر اللام وتخفيف الميم؛ أي: بصبرهم، وقرأ الباقون: بفتح اللام وتشديد الميم (¬1)؛ أي: حين صبروا على دينهم، وعلى البلاء من عدوهم. {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} إمعانهم فيها النظر. * * * {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)}. [25] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} يقضي بين الأنبياء وأممهم. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 77)، و"تفسير البغوي" (3/ 526)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 347)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 104).

[26]

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)}. [26] {أَوَلَمْ يَهْدِ} يُبيِّنْ {لَهُمْ} أي: لأهل مكة. قرأ زيد عن يعقوب: (نَهْدِ) بالنون، والباقون: بالياء (¬1)، فالفاعل على القراءتين مضمر؛ أي: الله. {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي: الأمم؛ كعاد وثمود {يَمْشُونَ} أهل مكة {فِي مَسَاكِنِهِمْ} يمرون على ديارهم في متاجرهم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} المواعظَ فيتعظون؟! * * * {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)}. [27] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} أي: اليابسة المعدومة النبات. واختلاف القراء في الهمزتين من قوله: (الْمَاءَ إِلَى) كاختلافهم فيهما من قوله: (أَوْلِيَاءَ إِنَّا) في سورة الكهف [الآية: 102]، المعنى: ألم يستدلوا على قدرتنا بسوقنا المطر إلى الأرض التي لا نبات فيها؟! قال ابن عباس: "هي أرض باليمن" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 118)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 105). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 527).

[28]

{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ} كالتبن {وَأَنْفُسُهُمْ} كالحبوب والفواكه. {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} ذلك فيؤمنون؟! * * * {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)}. [28] ولما قال الكافرون للمؤمنين استهزاء: متى الساعة فيقضى بيننا وبينكم؟! نزل: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} (¬1) أي: القضاء والحكم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في الوعد. * * * {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)}. [29] {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} وهو يوم القيامة. {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: يُمْهَلون، فإنه يوم نصر للمسلمين على الكفرة، والفصل بينهم. * * * {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}. [30] {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} يا محمد، وهو منسوخ بآية السيف. {وَانْتَظِرْ} وعدي بنصرك {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} هلاكك. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (21/ 116)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 557).

عن جابر -رضي الله عنه-، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ: {تَبَارَكَ}، و {الم (1) تَنْزِيلُ} (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الترمذي في (2892)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل سورة الملك، والنسائي في "السنن الكبرى" (10542)، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 340)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1207)، وغيرهم.

سورة الأحزاب

سُوْرَةُ الأحْزَابِ مدنية، وآيها: ثلاث وسبعون آية، وحروفها: خمسة آلاف وسبع مئة وستة وتسعون حرفًا، وكلمها ألف ومئتان وثمانون كلمة. بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيِمِ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)}. [1] رُوي أن أبا سفيان بن حرب، وعِكْرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور بنَ سفيان السلمي قدموا المدينة، فنزلوا على عبد الله بن أُبي رأس المنافقين بعد قتال أُحد، وقد أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمان على أن يكلموه، فقام عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وطُعمة بن أُبيرق، ومعتب بن قُشير، وجَدُّ بن قيس، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربَّكَ، فشق على النبي - صلى الله عليه وسلم - قولُهم، فقال عمر: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم، فقال: "إني قد أعطيتُهم الأمانَ"، فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرَ أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله

تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} (¬1)، ولم يقل: يا محمد؛ كـ: يا آدم، ويا موسى، ويا عيسى؛ تشريفًا له، وأما تصريحه باسمه في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] فللإعلام أنه كذلك، وللتنبيه على اتباعه. قرأ نافع: (النَّبِيء) و (النَّبِيئُونَ) و (النَّبِيئَينَ) و (نَبِيئُهُمْ) و (الأَنْبِئاء) و (النُّبُوءة) بالمد والهمز حيث وقع، فيكون معناه: المخبر؛ من أنبأ ينبئ؛ لأنه إنباء عن الله، وخالفه قالون في حرفين من هذه السورة يأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى، وقرأ الباقون: بترك الهمزة وتشديد الياء (¬2)، وله وجهان: أحدهما: هو أيضًا من الإنباء، تركت الهمزة فيه تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، والثاني: هو بمعنى الرفع، مأخوذ من النبوَة، وهو المكان المرتفع. {اتَّقِ اللَّهَ} دُمْ على التقوى. {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} من أهل مكة؛ يعني: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور. {وَالْمُنَافِقِينَ} من أهل المدينة: عبد الله بن أُبي، وعبد الله بن سعد، وطعمة، فيما يخالف شريعتك، ويعود بوهن في الدين. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بما يكون قبل كونه {حَكِيمًا} فيما يخلق، وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: لا عليك منهم، ولا من إيمانهم، فالله عليم بما ينبغي لك، حكيم في هدى من يشاء، وإضلال من يشاء. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 202). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 352 - 356)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 109).

[2]

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)}. [2] {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} من القرآن {مِنْ رَبِّكَ} واعمل به. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُون) بالغيب، يعني: الكفرة والمنافقين؛ أي: إن الله خبير بمكائدهم، فيدفعها عنك، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬1)، وقوله: (كان) في هاتين الآيتين هي التي تقتضي الدوام (¬2)؛ أي: كان ويكون (¬3)، وليست الدالة على زمان مخصوص للمضي. * * * {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}. [3] {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ثِقْ به {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} حافظًا ورازقًا لك، والوكيل: القائم بالأمر، المغني فيه عن كل شيء. * * * {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)}. [4] ولما قال الكفار: إن لمحمد قلبين: قلب معنا، وقلب مع أصحابه، نزل: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 518 - 519)، و"التيسير" للداني (ص: 177)، و"تفسير البغوي" (3/ 530)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 109). (¬2) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 202). (¬3) "أي: كان ويكون" زيادة من "ت".

{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وقيل: نزلت في أبي معمر جميل بن معمر الفهري، وكان لبيبًا حافظًا، وكان يقول: إن لي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فانهزم مع المشركين ببدر، وإحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقيل له في ذلك، فقال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان، ما نسي نعله في يده (¬1). {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي} جمع التي. قرأ أبو عمرو، والبزي عن ابن كثير: (اللَّايْ) بياء ساكنة بدلًا من الهمزة في الحالين، وروي عنهما تسهيل الهمزة بين بين، والوجهان صحيحان، وقرأ أبو جعفر، وورش عن نافع: بتسهيل الهمزة كذلك، وقرأ قالون عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، ويعقوب: بتحقيق الهمزة، وحذف الياء بعدها؛ لأن الهمزة المكسورة بدل الياء، وقرأ الكوفيون، وابن عامر: بإثبات الياء ساكنة بعد الهمزة، وكلها لغات معروفة (¬2)، وكذلك التعليل والاختلاف في (المجادلة)، وموضعَي (الطلاق). {تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} قرأ عاصم: (تُظَاهِرُونَ) بضم التاء وتخفيف الظاء، وألف بعدها، وكسر الهاء مع تخفيفها؛ كـ (تقاتلون)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: كذلك، إلا أنهم بفتح الياء والهاء، أصله: ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 202). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 177 - 178)، و"تفسير البغوي" (3/ 530)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 404)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 109 - 110).

تتظاهرون، حذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن عامر: كذلك، إلا أنه بتشديد الظاء على إدغام إحدى التاءين في الظاء، وقرأ الباقون، وهم: نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو (¬1)، ويعقوب: (تَظَّهَّرُونَ) بفتح التاء وتشديد الظاء والهاء وفتحها من غير ألف بينهما، أصله: تتظهرون، وأدغمت التاء في الظاء، فشددت (¬2). وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي؛ أي: حرام كبطن أمي؛ لقربه من الفرج، وكنِّي عنه بالظهر، لأنه قوام البنية، المعنى: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم، ولكنه منكر وزور، وفيه كفارة، وسيأتي الكلام على ذلك، وعلى الكفارة فيه، واختلاف الأئمة في حكمه في (سورة المجادلة) إن شاء الله تعالى. وكان الرجل في الجاهلية يتبنى ولد غيره، فينسب إليه، ويتوارثان، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك. فأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ} (¬3) من تبنيتموه {أَبْنَاءَكُمْ} حقيقة ¬

_ (¬1) "وأبو عمرو" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 519)، و "التيسير" للداني (ص: 178)، و "تفسير البغوي" (3/ 530)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 347)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 110 - 111). (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 202).

[5]

في الحكم والحرمة والنسب، ونُسخ التبني بهذا، والأدعياء: جمع دَعِيّ، وهو من دُعي إلى غير أبيه، تلخيصه: ممتنع أن يكون لرجل قلبان، وأن تكون زوجة الرجل أمه، وأن يكون شخص واحد ابن رجلين، إنما. {ذَلِكُمْ} النسب {قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} لا حقيقة له. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} وهو أن غير الابن لا يكون ابنًا. {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} الطريق المستقيم. * * * {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}. [5] وكان زيد يدعى بابن محمد - صلى الله عليه وسلم -، فنزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬1) الذين ولدوهم. {هُوَ} أي: دعاؤهم بآبائهم {أَقْسَطُ} أعدل {عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ} فتنسبوهم إليهم، {فَإِخْوَانُكُمْ} أي: فهم إخوانكم {فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} أولياؤكم، المعنى: إذا جهل نسبه، يقول: يا أخي! يا مولاي! يريد: الأخوة في الدين، والولاية فيه. {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} والخطأ هنا بمعنى: النسيان. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4504)، كتاب: التفسير، باب: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}، ومسلم (2425)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

[6]

{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم: يا بني! سهوًا، وقيل: خطؤهم: التسمية قبل النهي، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لا يوصف ذلك بخطأ إلا بعد النهي، وإنما الخطأ هنا بمعنى النسيان، وما يكون مقابل العمد، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "رُفع عن أمتي الخطأُ والنسيان وما أُكرهوا عليه" (¬1). {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} يريد: لما مضى من فعلهم في ذلك، ثم هي صفتان لله تعالى تَطَّرِد في كل شيء. * * * {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)}. [6] {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} في كل شيء من أمر الدين والدنيا، فيحكم فيهم بما يشاء. قرأ نافع: (النَّبِيءُ أَوْلَى) بالمد والهمز في (النَّبِيء)، وإبدال الهمز الثاني واوًا محضة مفتوحة (¬2). {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: كأمهاتكم في وجوب تعظيمهن، وتحريم ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2045)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، وابن حبان في "صحيحه" (7219)، والحاكم في "المستدرك" (2801)، وغيرهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 369). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 353)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 112).

نكاحهن، لا في النظر إليهن، والخلوة بهن؛ فإنه حرام في حقهن؛ كما في حق الأجانب، ولا يقال لبناتهن: أخوات المؤمنين، ولا لإخوانهن وأخواتهن: هم أخوال المؤمنين وخالاتهم، قالت عائشة: "لستُ بأم نسائِكم، وإنما أنا أم رجالكم" (¬1)، فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} وذوو القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في التوارث. {فِي كِتَابِ اللَّهِ} في اللوح المحفوظ. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} يعني: ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة، وكان في صدر الإسلام يتوارثون بالهجرة والمؤاخاة، فنسخ بهذه الآية، وصارت بالقرابة، وتقدم حكم ميراث ذوي الأرحام واختلاف الأئمة فيه آخر سورة الأنفال. {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا} استثناء منقطع؛ أي: لكن فعلكم {إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ} الذين يتولونكم من المعاقدين {مَعْرُوفًا} بالوصية جائزٌ. {كَانَ ذَلِكَ} يعني: نسخ الميراث بالهجرة، ورده إلى ذوي الأرحام. {فِي الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ {مَسْطُورًا} مكتوبًا. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 200)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 70).

[7]

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)}. [7] {وَإِذْ} أي: واذكر إذ {أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ} حين استُلُّوا من نسل (¬1) آدم مثل الذر {مِيثَاقَهُمْ} عهودهم بتبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضًا، وخُصَّ محمد مع جماعة منهم بالذكر (¬2)؛ لأنهم أصل الشرائع صلوات الله عليهم أجمعين، وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث، فلذلك قدم هنا تشريفًا له، فقال: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فهؤلاء هم أولو العزم من الرسل. {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} عظيم الشأن على الوفاء بما حملوا. * * * {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}. [8] {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} أي: فعلنا ذلك ليسأل الله الأنبياء الذين صدقوا عن الوفاء بميثاقهم في إبلاع الرسالة، والحكمة في سؤالهم، مع علمه أنهم صادقون، تبكيتُ من أُرسلوا إليهم، وإثبات الحجة عليهم، ويعطف على {أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ}. {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} بالرسل {عَذَابًا أَلِيمًا} المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه؛ لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابًا أليمًا. ¬

_ (¬1) في "ت": "ظهر". (¬2) "بالذكر" زيادة من "ت".

[9]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}. [9] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق. {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} هم الأحزاب، وكان ذلك في شوال من السنة الخامسة من الهجرة، وسببها أن نفرًا من اليهود حَزَّبوا الأحزابَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدموا على قريش بمكة يدعونهم إلى حربه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجلى بني النضير من ديارهم، فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك (¬1)، أمر بحفر الخندق حول المدينة برأي سلمان الفارسي يحول بين المؤمنين (¬2) والكفار، وعمل فيه بنفسه، وفرغ من الخندق، وأقبلت قريش ومن تبعهم من بني قريظة، مقدَّمُهم أبو سفيان، وكانوا عشرة آلاف نزلوا قريبًا من الغابة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة آلاف، واشتد البلاء حتى ظن المؤمنون كل الظن، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركون بضعًا وعشرين ليلة، لم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالحصا والنبال. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} ليلًا، وهي الصبا، فأطفأت النيران، وأكفأت القدور، قال - صلى الله عليه وسلم -: "نُصِرْت بالصَّبا، وأُهلكت عاد بالدَّبور" (¬3). ¬

_ (¬1) في "ت": "فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك". (¬2) في "ت": "المسلمين". (¬3) رواه البخاري (988)، كتاب: الاستسقاء، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصبا"، ومسلم (900)، كتاب: صلاة العيدين، باب: في ريح الصبا والدبور، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

[10]

{وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} هم ألف ملك، فكبرت في جوانب العسكر، وقلعت الأوتاد وأطناب الفساطيط، ولم تقاتل يومئذ، وماجت الخيل بعض في بعض، وقذف الرعب في قلوبهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدي: النجاءَ النجاءَ من سحر محمد، فارتحلوا ليلًا منهزمين بغير قتال، وانقلبوا خاسرين، فبلغ ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "الآن نغزوهم ولا يغزونا" (¬1)، فكان ذلك حتى فتح مكة. {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُونَ) بالغيب؛ أي: بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬2)؛ أي: بما تعملون من حفر الخندق. * * * {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)}. [10] {إِذْ جَاءُوكُمْ} بدل من (إِذْ جَاءَتكمْ) {مِنْ فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} من بطن الوادي من قبل المغرب: قريش. {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} مالت حيرة وشخوصًا من الرعب. {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3883)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، عن سليمان بن صرد -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 177)، و"تفسر البغوي" (3/ 544)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 109).

[11]

{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} أي: اختلف الظنون، فظن المؤمنون النصر لهم، وظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (الظُّنُونَا هُنَالِكَ)، و (الرَّسُولاَ وَقَالُوا)، و (السَّبِيلاَ رَبَّنَا) بألف في الثلاثة وصلًا ووقفًا؛ لأنها مثبتة في المصاحف، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، ويعقوب: بغير ألف في الحالين على الأصل، وقرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: بألف في الوقف دون الوصل، واتفقت المصاحف على رسم الألف في الثلاثة دون سائر الفواصل (¬1). * * * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}. [11] {هُنَالِكَ} أي: ثَمَّ {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} اختُبروا بالحصر والقتال؛ ليتبين المخلص من المنافق {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} حُرِّكوا حركة شديدة من شدة الفزع. * * * {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)}. [12] {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} معتب بن قشير وأصحابه. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 178)، و"تفسير البغوي" (3/ 544)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 348 - 347)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 113 - 114).

[13]

{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك وضعف اعتقاد: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} وعدًا باطلًا، وهو قول أهل النفاق: يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس، وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله، هذا والله الغرور. * * * {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)}. [13] {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} أي: من المنافقين، وهم أوس بن قيطي وأصحابه: {يَاأَهْلَ يَثْرِبَ} اسم أرض، والمدينةُ في ناحية منها. {لَا مُقَامَ لَكُمْ} قرأ حفص عن عاصم: (مُقَامَ) بضم الميم؛ أي: لا إقامة لكم. وقرأ الباقون: بالفتح (¬1)؛ أي: لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه. {فَارْجِعُوا} أمروهم بالهروب من عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} هم بنو سلمة وبنو حارثة. {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي: خالية ضائعة غير حصينة، وهي مما تلي العدو، ويخشى عليها السراق، فكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} بل هي حصينة. {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} من القتال. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 178)، و"تفسير البغوي" (3/ 545)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 114).

[14]

{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)}. [14] {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} أي: المدينة {مِنْ أَقْطَارِهَا} نواحيها، المعنى: لو دخل الأحزاب المدينة من جوانبها. {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} الردة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين. {لَآتَوْهَا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: (لأَتَوْهَا) بقصر الهمزة؛ أي: لجاؤوها وقبلوها، وقرأ الباقون: بالمد (¬1)؛ أي: لأعطوها السائلين. {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا} أي: ما احتبسوا عن الفتنة {إِلَّا يَسِيرًا} ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبةً به أنفسُهم، وقيل: وما لبثوا بالمدينة بعد الارتداد إلا قليلًا حتى هلكوا. وحَدُّ حرم المدينة: ما بين ثَوْر إلى عَيْر، وهما جبلان، فثور جبل صغير إلى الحمرة بتدوير خلف أُحد من جهة الشمال، وغير مشهور بها، وقدر الحرم: بريد ببريد، وقد ورد في الحديث: "اللهم إني أُحَرِّمُ ما بين لابَتَيْها" (¬2)، وفي رواية: "ما بينَ جَبَلَيها" (¬3)، وفي رواية: "ما بين ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 178)، و"تفسير البغوي" (3/ 545)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 348)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 116). (¬2) رواه البخاري (5109)، كتاب: الأطعمة، باب: الحيس، ومسلم (1365) (2/ 993)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬3) رواه مسلم (1374)، كتاب: الحج، باب: الترغيب في سكنى المدينة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

[15]

مَأْزِمَيْها" (¬1)، ولابتا المدينة: هما الحرَتَّان الشرقية والغربية، والحرة هي: الأرض ذات الحجارة السود، ورواية "ما بين لابتيها" أرجح؛ لتوارد الرواة عليها، ورواية "جبليها" لا تنافيها، فيكون عند كل لابة جبل، فما بين لابتيها بيان لحد حرمها من جهتي المشرق والمغرب، وما بين جبليها بيان لحده من جهتي الجنوب والشمال، وأما رواية "مَأْزِميها"، فالمأزم: المضيق بين الجبلين، وقد يطلق على الجبل نفسه، وهذا يدل على أن صيدها وشجرها محرم، وهو قول الثلاثة؛ خلافًا لأبي حنيفة، ولا جزاء فيه بالاتفاق، والله أعلم، وتقدم ذكر حدود الأرض المقدسة في المائدة، وحرم مكة في التوبة. * * * {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)}. [15] {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} هم بنو حارثة، هموا يوم أُحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل، عاهدوا الله من قبل حفر الخندق. {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} منهزمين، فوقع يوم الخندق من بني حارثة هذا الاستئذان. {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} عنه، وهذا توعُّد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2732)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو، ومسلم (1365) (2/ 993)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[16]

{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)}. [16] {قُلْ} لهم: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} لأي من حضر أجلُه، مات أو قتل {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ} بعد هذا الفرار. {إِلَّا قَلِيلًا} أي: إلا مدة آجالكم، وهي قليل. * * * {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}. [17] {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: يمنعكم منه. {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} هزيمة {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} نصرة. {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} قريبًا ينفعهم. {وَلَا نَصِيرًا} ناصرًا يمنعهم. * * * {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)}. [18] {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أي: المثبطين الناسَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي: أقبلوا إلينا، ودعوا محمدًا وأصحابه، نزلت في أخوين كان أحدهما مؤمنًا، والآخر منافقًا {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} لا يحضرون الحرب {إِلَّا قَلِيلًا} رياء من غير احتساب.

[19]

{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)}. [19] {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} بُخلاءَ بالنفقة في سبيل الله {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} في تلك الحالة. {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} في الرؤوس؛ من الخوف والجبن. {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} لأن من قرب من الموت، وغشيه أسبابه، يذهب عقله، ويشخص بصره فلا يَطْرِف. {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ} آذوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} سليطة. {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي: عند الغنيمة يشاحون المؤمنين، ويقولون: أعطونا؛ فإنا شهدنا معكم القتال، فلستم أحقَّ بالغنيمة منا، وعند البأس هم أجبن قوم. {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} صدقًا {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} أبطل جهادهم؛ لنفاقهم. {وَكَانَ ذَلِكَ} أي: الإحباط {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} هينًا. * * * {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)}. [20] {يَحْسَبُونَ} أي: المنافقون {الْأَحْزَابَ} الطوائفَ المختلفة.

[21]

{لَمْ يَذْهَبُوا} عن قتالهم جبنًا وفرقًا. {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ} كرة ثانية {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} يتمنوا لو كانوا في بادية مع الأعراب؛ من الخوف والجبن. {يَسْأَلُونَ} قرأ رويس عن يعقوب: (يَسَّاءَلُونَ) بتشديد السين وفتحها وألف بعدها؛ أي: يتساءلون، وقرأ الباقون: بإسكانها من غير ألف (¬1) {عَنْ أَنْبَائِكُمْ} يتعرفون أحوالكم. {وَلَوْ كَانُوا} يعني: هؤلاء المنافقين {فِيكُمْ} في الخندق. {مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} رياءً؛ رميًا بالحجارة والنبال يقيمون به عذرهم. * * * {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)}. [21] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ} أيها المخلفون {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} قدوة صالحة؛ لأنه يقتدى به. قرأ عاصم: (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة، والباقون: بكسرها، وهما لغتان (¬2). {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} أي: ثوابه {وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ونعيم الآخرة. {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} في جميع أوقاته وأحواله. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 548)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 118). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 521)، و"التيسير" للداني (ص: 178)، و"تفسير البغوي" (3/ 548)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 118).

[22]

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}. [22] {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} واجتماعهم عليهم، ثم رأوا زلزلتهم وخوفهم ورحيلهم منهزمين. واختلاف القراء في (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ) كاختلافهم في (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) في سورة (الكهف) [الآية: 53] {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من النصر، وهو قوله تعالى في البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [الآية: 214]، فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثلُ ذلك البلاء، فلما رأوا ما أصاب الأحزابَ من الشدة، قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله. {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ} الخوف عند مجيء الأحزاب. {إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} لأمر الله. * * * {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)}. [23] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} من الثبات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} نَذْرَه (¬1)؛ بأن قاتل حتى استُشهد؛ كحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر، والنحب: النذر، واستعير للموت، ¬

_ (¬1) "نذره" زيادة من "ت".

[24]

وهو من النفس، قيل: ومنه النحيب؛ لما فيه من التنفس. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الشهادةَ؛ كعثمان وطلحة، قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - "من أحبَّ أن ينظرَ إلى رجل يمشي على وجه الأرض قد قضى نحبَهُ، فلينظُرْ إلى هذا" يشير إلى طلحة (¬1)؛ لأنه وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده، فصارت شلاء. {وَمَا بَدَّلُوا} عهدهم (¬2) {تَبْدِيلًا} شيئًا من التبديل. * * * {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)}. [24] ثم ذكر تعالى جزاء الفريقين فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} بجزاء وفائهم بالعهد، واللام في (لِيَجْزِيَ) لام الصيرورة والعاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} بأن يدعهم على النفاق {إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فيهديهم إلى الإيمان. واختلاف القراء في الهمزتين من (إِنْ شَاءَ أَوْ) كاختلافهم فيهما من قوله {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ} في سورة الحج [الآية: 65]. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى في "مسنده" (4898)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (9382)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (4/ 69)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 88)، وغيرهم عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) "عهدهم" زيادة من "ت".

[25]

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)}. [25] {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من قريش وغطفان {بِغَيْظِهِمْ} لم تُشف صدورُهم بنيل ما أرادوا {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} ظَفَرًا {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالملائكة والريح. {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} يقهر أعداءه {عَزِيزًا} ينصر أولياءه. * * * {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)}. [26] ثم بعد ذهاب الأحزاب إلى بلادهم، رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بأصحابه، فجاءه جبريل -عليه السلام-، وقال: "وضعتم السلاح؟ إن الملائكة لم تضع أسلحتها منذ أربعين ليلة، إن الله يأمرك بالمسير إلى قريظة، وإني مزلزلٌ حصونَهم"، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديًا، فأذن: "أن من كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلينَّ العصرَ إلا في بني قريظة"، وأعطى رايته عليًّا، فسار بالناس حتى دنا من الحصن، فحاصرهم - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، فقالوا لأبي لبابة: أننزل على حكم محمد؟ فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، وتقدم خبر أبي لبابة في سورة الأنفال، فطلب بنو قريظة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبه، فجاء راكبَ حمارٍ، وكان رجلًا جسيمًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا إلى سيدكم"، فأنزلوه، فنزل، فقالوا: يا أبا عمرو! إن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك مواليك لتحكم فيهم، فقال لمواليه: "عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت؟ " قالوا: نعم، قال: "وعلى من هاهنا؟ " في الناحية التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معرض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالًا له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، فقال: "أحكمُ فيهم أن يُقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء"، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "لقد حكمتَ بحكم الله من فوق سبعةِ أرقعةٍ"، فاسْتُنْزِلوا، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وحبسهم في دار بنت الحارث: امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة، فحفر به خندقًا، وضُربت أعناقُهم فيه، وكانوا ستَّ مئة، أو سبع مئة، وقيل: كانوا بين الثمان مئة إلى التسع مئة، ثم قسم الأموال والسبايا، واصطفى لنفسه - صلى الله عليه وسلم - ريحانة بنت شمعون، فكانت في ملكه حتى مات، ولم يستشهد في هذه الغزوة سوى خلاد بن زيد بن ثعلبة، دلت عليه امرأةٌ من بني قريظة رحًى شدخت رأسه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "له أجرُ شهيدين"، وقتلها به (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لا إله إلا الله وحدَه، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزابَ وحده، ولا شيء بعده" (¬2)، وكانت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة الشريفة، فأنزل الله تعالى في قصة بني قريظة: ¬

_ (¬1) هذا السياق كله في "سيرة ابن هشام" (4/ 199) وما بعدها. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 103). (¬2) رواه البخاري (3888)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، ومسلم (2724)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.

[27]

{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي: أعانوهم؛ يعني: الأحزاب {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} حصونهم، وكل ما يُمتنع به أو فيه صيصية. قرأ يعقوب: (صَيَاصِيهُمْ) بضم الهاء، وابن كثير، وأبو جعفر: يضمان الميم، ويصلانها بواو في اللفظ حالة الوصل، واختلف عن قالون (¬1). {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ} يعني: بني قريظة {الرُّعْبَ} قرأ ابن عامر، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب: (الرُّعُبَ) بضم العين، والباقون: بإسكانها (¬2). {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} منهم، وهم الرجال. {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} منهم، وهم النساء والذراري. * * * {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}. [27] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} هي كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. قرأ أبو جعفر: (تَطَوْها) بإسكان الواو بغير همز، والباقون: بالهمز (¬3). {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}. ¬

_ (¬1) سلفت عند تفسير الآية (6) من سورة البقرة. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 120). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 121).

[28]

{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)}. [28] كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - تسع نسوة، فآذينه، وسألنه زيادة نفقة، وتغايرن، فغمَّه ذلك، فصعد إلى غرفة له، فمكث فيها ولم يخرج إلى أصحابه، فنزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} (¬1) أمر وجوب في تخييرهن، وهو من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} أي: أجبن إلى ما أعرضُ عليكن، ولم يرد حقيقة الإقبال والمجيء {أُمَتِّعْكُنَّ} أعطيكنَّ متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ} أصل التسريح: الإرسال؛ كالطلاق. وتقدم اختلاف الأئمة فيه في سورة البقرة، وملخصه: أن صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية عند مالك والشافعي ثلاثة: الطلاق، والفراق، والسَّراح، وعند أبي حنيفة وأحمد: هو لفظ الطلاق {سَرَاحًا جَمِيلًا} طلاقًا للسنة. واتفق الأئمة على أن السنة في الطلاق أن يطلقها واحدة في طُهر لم يصبها فيه، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وإن طلق المدخول بها في حيضها أو طهر أصابها فيها، وهي ممن تحبل، فهو طلاق بدعة محرم، ويقع بالاتفاق، وجَمْعُ الثلاث بدعة عند أبي حنيفة ومالك، وقال أحمد: هو محرم؛ خلافًا للشافعي، ويقع بلا خلاف بينهم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1478)، كتاب: الطلاق، باب: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالبينة، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.

[29]

{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)}. [29] {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} و (مِنْ) للتبيين (¬1)؛ لأنهن كلهن كنَّ محسنات، فأخبر بذلك عائشة -رضي الله عنها-، فاختارت رسول الله، ثم اختارت الباقياتُ الصالحاتُ اختيارها. واختلف الأئمة فيما إذا قال الزوج لامرأته: اختاري نفسك، فاختارت، فقال أبو حنيفة: تطلق واحدة بائنة، وقال مالك: إذا أطلق التخيير، ولم يقيده بعدد مخصوص، فإنها تطلق ثلاثًا، وقال الشافعي وأحمد: تطلق واحدة يملك فيها الرجعة، وإذا قامت من مجلسها قبل أن تختار نفسها، انقطع التخيير باتفاقهم. واختلفوا فيما إذا قال: أمرُك بيدك، فقال أبو حنيفة: إذا قال: أمرك بيدك في تطليقة، فاختارت نفسها، يقع طلقة رجعية، وإن نوى الثلاث، صح، فلو قالت: اخترت واحدة، فهي ثلاث، وهو كالتخيير يتوقف على المجلس، قال مالك: إن طلقت نفسها ثلاثًا، فناكرها، وذكر أنه قصد بالتمليك طلقة واحدة، فقوله مع يمينه، وإن لم يكن له نية، فلها أن توقع ما شاءت من عدد الطلاق، ولا مناكرة له عليها، فإن مكنته من نفسها، فوطئها أو باشرها، سقط تمليكها، ولها أن تمنع نفسها لتنظر في أمرها، فإذا أبطأت على زوجها، ومنعته نفسها، ولم توقع طلاقًا، كان له ¬

_ (¬1) "للتبيين" زيادة من "ت".

[30]

مخاصمتها إلى الحاكم، فيوقفها الحاكم ويأمرها أن توقع الطلاق، أو تسقط التمليك، فإن أبت الأمرين، أسقط الحاكم تمليكها، وقال الشافعي: له تفويض طلاقها إليها، وهو تمليك في الجديد، فيشترط لوقوعه تطليقها على الفور، وفي قول عنه: توكيل، فلا يشترط الفور، وعلى القولين له الرجوع قبل تطليقها، ولو قال: طلقي، ونوى ثلاثًا، فقالت: طلقت، ونوتهن، فثلاث، ولم لا، فواحدة، ولو قال: ثلاثًا، فوحدت، أو عكسه، فواحدة، وقال أحمد: إذا قال: أمرك بيدك، فلها أن تطلق ثلاثًا، وإن نوى واحدة، وهو في يدها أبدًا ما لم يقل: فسختُ، أو يطأها، فيبطل بذلك، والله أعلم. * * * {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}. [30] {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} معصيةٍ ظاهرةٍ؛ من نشوز، وسوء خلق. قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: (مُبَيَّنَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها (¬1). {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} قرأ ابن كثير، وابن عامر: (نُضَعِّفْ) بالنون وتشديد العين وكسرها من غير ألف قبلها، ونصب (العذابَ)، وقرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (يُضعَّفْ) بالياء وتشديد العين وفتحها ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 95)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 354)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 121).

[31]

من غير ألف قبلها، ورفع (العذابُ)، وقرأ الباقون: كذلك، إلا أنهم بتخفيف العين وألف قبلها، وهما لغتان مثل: بَعَّدَ وباعَدَ (¬1). {ضِعْفَيْنِ} مثلين {وَكَانَ ذَلِكَ} أي: عذابُها {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} هينًا، وتضعيف عقوبتهن على المعصية؛ لشرفهن؛ كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة، وتضعيف ثوابهن؛ لترفع منزلتهن، وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين. * * * {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)}. [31] {وَمَنْ يَقْنُتْ} يطع {مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ يعقوب: (مَنْ تَأتِ مِنْكُنَّ) (وَمَنْ تَقْنُتْ) بالتاء على التأنيث فيهما، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير (¬2)؛ لأن (مَنْ) أداة تقوم مقام الاسم، يعبر به عن الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث. {وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا} نعطِها {أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي: مثلَي أجر غيرها. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وَيَعْمَلْ) (يُؤْتهَا) بالياء فيهما نسقًا على ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 179)، و "تفسير البغوي" (3/ 559)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 121 - 122). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 560)، و"المحتسب" لابن جني (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 121 - 122)، والقراءة المشهورة عن يعقوب كقراءة الجمهور.

[32]

قوله: (مَنْ يَأْتِ) و (يَقْنُتْ)، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث في الأول، وبالنون في الثاني (¬1). {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} واسعًا في الجنة. * * * {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)}. [32] {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} أي: ليس قدرُكن عندي مثلَ قدرِ غيرِكن من النساء الصالحات، أنتن أكرمُ عليَّ، وثوابكن أعظمُ لديَّ، ولم يقل: كواحدة؛ لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين، والجمع، والمذكر والمؤنث {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} أي: إن أردتن أن تكنَّ متقيات. {فَلَا تَخْضَعْنَ} تَلِنَّ {بِالْقَوْلِ} للرجال، ولا تُرققن الكلام. واختلاف القراء في الهمزتين من (النِّسَاءِ إِنِ) كاختلافهم فيهما من (الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: 33]. {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ريبة، والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب؛ لقطع الأطماع. {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} أي: بعيدًا من طمع المريب. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 521)، و"التيسير" للداني (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (3/ 560)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 123).

[33]

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)}. [33] {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم: (وَقَرْنَ) بفتح القاف من القرار؛ أي: الزمْنَ بيوتَكن، وقرأ الباقون: بالكسر؛ من الوقار؛ أي: كُنَّ أهلَ وقار وسكون، قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وورش، وحفص بُيُوتَكُنَّ: بضم الباء، والباقون: بكسرها (¬1). {وَلَا تَبَرَّجْنَ} تُبْرِزْنَ محاسنكن للرجال {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الذين كانوا بين آدم ونوح، والأخرى: بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل غير ذلك. قرأ البزي عن ابن كثير: (وَلاَ تَّبَرَّجْنَ) بتشديد التاء (¬2). {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أمره ونهيه. {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} الإثم {أَهْلَ الْبَيْتِ} نصب نداء، والمراد: زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: (عَنْكُمْ)، ولم يقل: عنكن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان بينهن، فغُلِّبَ. {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} من الرجس. وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "في بيتي أُنزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 179)، و "تفسير البغوي" (3/ 560)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 348)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 124). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 355)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 124).

[34]

اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت: فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجلل فاطمة وحسنًا وحسينًا بكسائه، وعلي خلف ظهره، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم هؤلاء أهلُ بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا"، قالت أم سلمة: فقلت: يا رسول الله! أما أنا من أهل البيت؟ قال: "بلى إن شاء الله" (¬1). * * * {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}. [34] {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} القرآن. {وَالْحِكْمَةِ} السنة. تقدم اختلاف القراء في كسر الباء وضمها من (بيوتكن). {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا} بأوليائه {خَبِيرًا} بجميع خلقه. * * * {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)}. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 292)، والحاكم في "المستدرك" (4705)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 150)، وغيرهم.

[35]

[35] روي أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن: يا رسول الله! ذكر الله الرجال في القرآن، ولم يذكر النساء بخير، فما نهينا خير نذكر به؟ إنا نخاف ألَّا يقبل منا طاعة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} (¬1) المنقادين لحكم الله {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وهم من آمن حقيقة. {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} العابدين المطيعين لله في الفرض، وللرسول في السنة {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} فيما عوهدوا عليه أن يفوا به ويكملوه {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} عن الشهوات، وعلى الطاعات والرزايا {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} الخائفين لله، المستكينين لربوبيته الوقورين {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} بالفرض والنفل، وهما الزكاة وصدقة التطوع {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} كذلك في الفرض والنفل. {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} من الزنا وشبهه. {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} بقلوبهم وألسنتهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من استيقظَ من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا جميعًا ركعتين، كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات" (¬2). {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} لجميع المؤمنين {مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} على طاعتهم. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "تفسيره" (22/ 10)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12614)، عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه أبو داود (1451)، كتاب: الصلاة، باب: الحث على قيام الليل، والنسائي في "السنن الكبرى" (1310)، وابن ماجه (1335)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، وابن حبان في "صحيحه" (2568)، والحاكم في "المستدرك" (1189)، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما-.

[36]

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)}. [36] ونزل في امتناع زينب وأخيها من تزويج زيد بن حارثة بعد أن خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} (¬1) لعبد الله بن جحش. {وَلَا مُؤْمِنَةٍ} زينب. {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} هو خطبتها لزيد {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي: الاختيار {مِنْ أَمْرِهِمْ} المعنى: لا يجوز لأحد أن يريد إلا ما أراد الله ورسوله. قرأ الكوفيون، وهشام عن ابن عامر: (أَنْ يَكُونَ) بالياء على التذكير؛ للحائل بين التأنيث والفعل، وقرأ الباقون: بالتاء؛ لتأنيث الخيرة (¬2). {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} أخطأ خطأً ظاهرًا. * * * {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)}. [37] فرضيت زينب وأخوها، وتزوجت بزيد، وبقيت معه مدة، ثم ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 11). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 522)، و"التيسير" للداني (ص: 179)، و "تفسير البغوي" (3/ 565)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 125).

أُلقي في نفس زيد كراهتها، فجاء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أريد طلاق صاحبتي، فقال: "أرابك منها شيء؟ "، قال: لا والله ولكنها تترفع علي، فقال له: "أمسكْ عليكَ زوجَك"، فنزل قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} (¬1) بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعتق: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} لا تفارقها، نهي تنزيه. قرأ أبو عمرو، وهشام، وحمزة، والكسائي، وخلف: (وَإِذ تَّقُولُ) بإدغام الذال في التاء، والباقون: بالإظهار (¬2). {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} ما علمته، وهو {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي: مظهره، وهو أنه تعالى كان قد أعلمه - صلى الله عليه وسلم - أن زينب ستصير زوجة له. {وَتَخْشَى النَّاسَ} أي: اليهود أن يقولوا: تزوجَ امرأةَ ابنه. {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} فلا تفعلْ مثل ذلك، وهذا عتاب شديد، قال عمر، وابن مسعود، وعائشة: "ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية هي أشدُّ عليه من هذه الآية" (¬3)، وعن عائشة: "لو كتم نبيُّ الله شيئًا مما أنزل عليه، لكتم هذه الآية" (¬4)، فطلقها زيد، فلما انقضت عدتها، قال لزيد: "اذهبْ ¬

_ (¬1) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (3/ 111): غريب بهذا اللفظ، ورواه مسلم في "صحيحه" (1428) في النكاح مختصرًا من حديث أنس. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 126). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (19/ 119). (¬4) رواه مسلم (177)، كتاب: الإيمان، باب: معنى قوله الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}. ورواه البخاري (6984)، كتاب: التوحيد، باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، لكن عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

[38]

فاذكرْها عليَّ" فقال زيد: "يا زينب! إن نبي الله أرسلني إليك يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أوامر به ربي"، وقامت إلى مسجدها. فنزل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} (¬1) أربًا، ولم يذكر أحد من الصحابة في القرآن باسمه سوى زيد في هذا المحل -رضي الله عنه- {زَوَّجْنَاكَهَا} فدخل - صلى الله عليه وسلم - عليها بغير إذن، ولا عقد نكاح، ولا صَداق، ولا شهود، وأطعم الناس خبزًا ولحمًا، المعنى: فعلنا ذلك. {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} إثم {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} وهم الذين تبنوهم {إِذَا قَضَوْا} أي: الأدعياء {مِنْهُنَّ وَطَرًا} تلخيصه: فعل ذلك ليعلم أن نكاح زوجة المتبنَّى حلال؛ بخلاف زوجة الابن. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} مكونًا لا محالة، قال أنس: "كانت زينب تفتخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات" (¬2). * * * {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)}. [38] {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي: أحله له {سُنَّةَ اللَّهِ} نصب مصدر {فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} هم الأنبياء عليهم السلام، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش -رضي الله عنها- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (3430)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، عن أبي بكرة -رضي الله عنه-.

[39]

المعنى: لا تؤاخذ بكثرة النساء كالأنبياء قبلك؛ فإنهم كانوا أكثر نساءً؛ كداود وسليمان عليهما السلام. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} قضاءً مقضيًّا. * * * {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)}. [39] {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ} هم الأنبياء، أثنى الله عليهم؛ يعني: سنة الله في الأنبياء الذين يبلغون رسالات الله {وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} أي: يفعلون ما يؤمرون، ولا يخافون لائمة أحد. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} كافيًا للمخاوف. * * * {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)}. [40] ولما قيل: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه، نزل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الذين لم يلدهم، فلا يحرم عليه زوجة من تبناه بعد فراقها وانقضاء عدتها، و (محمد) معناه: المستغرق لجميع المحامد، وهو الذي كثر حمدُ الحامدين له مرة بعد أخرى، وتقدم تفسير (محمد) في سورة آل عمران بأتم من هذا، وكذلك تفسير (أحمد)، وذكر نسبه الشريف، ولا يجري فيه القول الضعيف أنه لا يجوز أن يقال له: أبو المؤمنين [ولا عبرة من منع ذلك في الحسنين من الأمويين؛ للخبر الصحيح الآتي في الحسن:

[41]

"إن ابني هذا سيد" (¬1)، ومعاوية، وإن نقل عنه ذلك، ولكن نقل عنه ما أنه رجع عن ذلك، وغير معاوية من بقية الأمويين المانع بذلك لا يعتد به، وعلى الأصح، فقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} إنما سيق لانقطاع حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع من الإطلاق المراد به: أنه أبو المؤمنين في الاحترام والإكرام من هو أحق] (¬2). {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} نصب اللام والميم عطفًا على خبر (كَانَ). قرأ عاصم: (وَخَاتَمَ) بفتح التاء على الاسم؛ أي: آخرهم، وقرأ الباقون: بكسرها على الفاعل (¬3)؛ لأنه ختم النبيين، فهو خاتمهم؛ أي: لا يُنَبَّأُ نبي بعده أبدًا، وإن نزل عيسى بعده، فهو ممن نبئ قبله، ولأنه ينزل بشريعته، ويصلي إلى قبلته، فكأنه من أمته. {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} عموم، والمقصد به هنا: علمه تعالى بما رآه الأصلحَ لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما قدره في الأمر كله. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)}. [41] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} بما هو أهله من التهليل والتكبير ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3430)، كتاب: المناقب، باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}. (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 522)، و"التيسير" للداني (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (3/ 570)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 128).

[42]

والتحميد والتقديس {ذِكْرًا كَثِيرًا} قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبكم، وعلى كل حال. * * * {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}. [42] {وَسَبِّحُوهُ} أي: صلوا له {بُكْرَةً} وهي صلاة الصبح {وَأَصِيلًا} هي صلاة العصر، وقيل: المراد: التسبيح باللسان، فيقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسميت هذه الكلمات ذكرًا كثيرًا؛ لأنه يقولها الطاهر والجنب والمحدث. * * * {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)}. [43] {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} صلوات الله: رحمتُه ومغفرته، وصلاةُ الملائكة: الدعاءُ والاستغفار للمؤمنين، المعنى: يفعل الله بكم ذلك. {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر {إِلَى النُّورِ} الإيمان، تلخيصه: برحمته وبسبب دعاء الملائكة فزتم. {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} حتى اعتنى بصلاح أمرهم. * * * {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)}. [44] {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} تعالى {سَلَامٌ} أي: يسلم الله عليهم، ويسلمهم من الآفات.

[45]

{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} هو الجنة. * * * {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)}. [45] {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} قرأ نافع: (النَّبِيءُ) بالمد والهمز (إِنَّا): بتسهيل الهمزة، واختلف في كيفية تسهيلها، فذهب جمهور القراء المتقدمين إلى أنها تبدل واوًا خالصة مكسورة، وذهب بعضهم إلى أنها تجعل بين الهمزة والياء، وهو مذهب أئمة النحو والمتأخرين من القراء، وهو الأوجه في القياس، وقرأ الباقون: بتشديد الياء، وتحقيق الهمزة من (إِنَّا) (¬1) {شَاهِدًا} على أمتك، والرسلِ بالبلاغ، ونصبه على الحال، وكذلك جميع المنصوبات بعد {وَمُبَشِّرًا} لأهل طاعته بالجنة {وَنَذِيرًا} لأهل معصيته بالنار. * * * {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)}. [46] {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} إلى توحيده {بِإِذْنِهِ} بتسهيله وأمره، وتقديرِه ذلك في وقته وأوانه {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} أي: [يهتدى بك في الدين كما يهتدى] (¬2) بالسراج المنير في الظلام، فجعله شاهدًا على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة، وهي من خصائصه عليه السلام. * * * ¬

_ (¬1) انظرها في تفسير الآية (1) من هذه السورة. (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[47]

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)}. [47] {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} تفضلًا جزيلًا، قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، دعا رسول الله عليًّا ومعاذًا، فبعثهما إلى اليمن، وقال: "اذهبا، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، فإنه قد نزل عليَّ، وقرأ الآية" (¬1). * * * {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}. [48] {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} في فسخ عهد، لا فيما لا يحل. {وَدَعْ أَذَاهُمْ} اصبر عليه، ولا تجازهم، ونُسخ بآية السيف. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فهو كافيك {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} مفوضًا إليه. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)}. [49] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي: عقدتم عليهن. {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي: تطؤوهن. قرأ حمزة، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2712)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11841).

والكسائي، وخلف: (تُمَاسُّوهُنَّ) بضم التاء وألف بعد الميم، والباقون: بفتح التاء من غير ألف (¬1). {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} تحسبونها بالأقراء والأشهر. {فَمَتِّعُوهُنَّ} إذا لم يكن لهن صَداق، وإن كان لهن صداق، فنصفه بلا متعة، وتقدم الحكم في ذلك، واختلاف الأئمة فيه، وفي حكم العدة بالخلوة في سورة البقرة. {وَسَرِّحُوهُنَّ} خَلُّوا سبيلهن {سَرَاحًا جَمِيلًا} بلا إضرار بهن، وقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح، فلو قال: متى تزوجتُ فلانة، أو كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، لم يقع عليه طلاق إذا تزوج عند الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقع طلاقًا، وقال مالك: إن عين امرأة بعينها، أو من قبيلة، أو بلد، فتزوجها، وقع الطلاق، وإن عَمَّ فقال: كل امرأة أتزوجها من الناس كلهم، فهي طالق، لم يلزمه شيء، والله أعلم. * * * {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 522)، و "التيسير" للداني (ص: 81)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 356)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 129).

[50]

أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)}. [50] {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن، وتقدم قريبًا مذهب نافع في الهمزتين من (النَّبِيءُ إِنَّا) {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} من الإماء. {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي: غَنَّمَكَ من الكفار؛ كصفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه، فولدت له إبراهيم {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} نساء قريش. {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} نساء بني زهرة {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} إلى المدينة، فمن لم تهاجر معه منهن، لم يجز له نكاحها. عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: "خطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة، فأنزل الله هذه الآية، فلم أحل له؛ لأني لم أكن من المهاجرات، وكنت من الطلقاء" (¬1)، ثم نسخ شرط الهجرة بقوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} [فلا يحل له غير المؤمنة، المعنى: أبحنا لك جميع المذكورات، وأبحنا لك امرأة مؤمنة] (¬2) {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ يَسْتَنْكِحَهَا} بطلب نكاحها من غير صداق. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3214)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، وقال: حسن صحيح، والطبراني في "المعجم الكبير" (1007)، والحاكم في "المستدرك" (3574)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 54). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} المعنى: إذا وهبتك مؤمنة نفسها، حلت لك خاصة بلفظ الهبة بلا صداق، كالزيادة على الأربع، وكان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بلا ولي ولا شهود، وإذا خطب امرأة، يحرم على غيره خطبتها حتى يتركها (¬1)، والواهبةُ نفسَها هي أم شريك بنتُ جابر من بني أسد، وقيل: ميمونة بنت الحارث، وقيل: خولة بنت حكيم من بني سليم، وقيل: زينب بنت خزيمة الأنصارية (¬2). قرأ نافع (لِلنَّبِيءِ إِنْ) بالهمز والمد في (النَّبِيءِ)، وتسهيل الهمز الثاني بين بين، وقرأ: (أَرَادَ النَّبِيءُ أَنْ) بالهمز والمد في (النَّبِيءُ)، وإبدال الهمز الثاني واوًا محضة مفتوحة، وخالفه قالون في الحرف الأول، وهو (لِلنَّبِيِّ إِنْ)، فقرأ بتشديد الياء، وتحقيق الهمز بعدها؛ كبقية القراء (¬3). واختلف الأئمة في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة، فقال أبو حنيفة: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والتمليك والبيع والشراء، وعنه في لفظ الإجارة خلاف، وقال مالك: ينعقد بلفظ يدل على التأبيد مدة الحياة؛ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 128). (¬2) انظر: "التلخيص الحبير" (3/ 138)، و"فتح الباري" (8/ 525 - 526) قال ابن حجر في "الفتح" بعد أن ذكر من خَرَّج الآثار في اللواتي وهبن أنفسهن له صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ذكر الحكم الحديثي لكلٍّ، قال: عن عكرمة عن ابن عباس: "لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له" أخرجه الطبري وإسناده حسن. والمراد أنه لم يدخل بواحدةٍ ممَّن وهبت نفسها له وإن كان مباحًا له؛ لأنه راجع إلى إرادته؛ لقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا}. (¬3) سلفت هذه القراءة في تفسير الآية (1) من هذه السورة.

كأنكحت، وزوجت، وملكت، وبعت، وكذا وهبت بتسمية صداق، وقال الشافعي وأحمد: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج. واختلفوا في اشتراط الشهادة لصحة النكاح، فقال مالك: يصح بلا إشهاد بشرط الإعلان، وتركِ التواصي بالكتمان، وقال الثلاثة: تشترط، فعند أبي حنيفة: ينعقد بحضور رجلين، ورجل وامرأتين، ولا تشترط العدالة، وعند الشافعي وأحمد: تشترط الذكورة، والشافعي يشترط العدالة، والصحيح عنه: أنه ينعقد بمستوري العدالة، فلو بان فسق الشاهد عند العقد، فباطل، وأحمد يشترط العدالة في شاهديه ظاهرًا فقط، فلو بانا بعده فاسقين، فالعقد صحيح. {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي: أوجبنا على المؤمنين. {فِي أَزْوَاجِهِمْ} من الأحكام ألَّا يتزوجوا أكثر من أربع. {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من الإماء مباح لهم فوق أربع زوجات. {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} ضيق، وهذا يرجع إلى أول الآية؛ أي: أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لئلا يضيق عليك. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لما يعسر التحرز عنه. {رَحِيمًا} بالتوسعة في مظان الحرج. * * * {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)}.

[51]

[51] {تُرْجِي} تؤخِّر {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} عنك بطلاق أو غيره {وَتُؤْوِي} تضم. {إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} منهن. قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تُرْجِي) بإسكان الياء بغير همز، وقرأ أبو جعفر: (وَتُووِي) بواوين بغير همز، والباقون: بالهمز فيهما (¬1)، واختلف المفسرون في معنى الآية، فأشهر الأقاويل أنه في القَسْم بينهن، وذلك أن التسوية بينهن في القَسْم كان واجبًا عليه، فلما نزلت هذه الآية، سقط عنه، وصار الاختيار إليه فيهن. {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} أي: طلبت أن تؤوي إليك امرأة. {مِمَّنْ عَزَلْتَ} فصلته بالإرجاء. {فَلَا جُنَاحَ} أي: لا إثم {عَلَيْكَ} في فعلك بنسائك، فأباح الله له ترك القسم لهن، حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها، ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها، ويرد إلى فراشه من عزلها؛ تفضيلًا له على سائر الرجال، فرضين بذلك، واخترنه على هذا الشرط. {ذَلِكَ} التخيير {أَدْنَى} أقرب إلى رضاهن. {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} بتخييرهن. {وَلَا يَحْزَنَّ} بترك القسم لهن {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} من ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 523)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 406)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 131)، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وشعبة ويعقوب: (ترجى).

[52]

تقريب وتبعيد، وعزل وإيواء؛ لعلمهن أن ذلك بوحي من الله. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من الميل إلى بعض النساء. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} لا يعاجل بالعقوبة. * * * {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)}. [52] {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (تَحِلُّ) بالتاء على التأنيث على معنى جماعة النساء، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير على معنى جمع النساء (¬1)، وهما جنسان؛ لأن تأنيث لفظ النساء ليسس بحقيقي {مِنْ بَعْدُ} أي: من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن واخترنك، ورضين بمرادك {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} غيرهن {مِنْ أَزْوَاجٍ} قرأ البزي: (وَلاَ أَنْ تَّبَدَّلَ) بتشديد التاء على أصله (¬2)، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خيرهن، فاخترن الله ورسوله، شكر الله لهن، وحرم عليه النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن، وعن الاستبدال بهن، وهن: خمس من قريش: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان، وأم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية، وسودة بنت أبي زمعة، وغير القرشيات: زينب ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (3/ 577)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 349)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 132). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 356)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 132).

بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. واختلف في أنه هل أبيح له النساء من بعد؟ قالت عائشة: "ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل له النساء" (¬1)، وقال أنس: "مات على التحريم" (¬2)، وممن قال بحل النساء له: أبي بن كعب، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} حسن الأزواج المستبدلة، قال ابن عباس: "يعني: أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، فلما استشهد جعفر -رضي الله عنه- أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخطبها، فنهي عن ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) رواه النسائي (3204)، كتاب: النكاح، باب: ما افترض الله عز وجل على رسوله -عليه السلام- وحرَّمه على خلقه، والترمذي (3216)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، وقال: حسن. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 577). (¬3) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 578)، وابن عطية في "المحرر الوجيز" (4/ 394)، والقرطبي في "تفسيره" (14/ 221)، قال ابن العربي كما ذكره عنه القرطبيُّ-: وهذا حديث ضعيف 1 هـ. وقال ابن عادل: وقال بعض المفسرين: ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه الصلاة والسلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعًا كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها ... ففي أول الأمر أحلَّ الله من وقع في قلبه؛ تفريغًا لقلبه وتوسعًا لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله، ثم لما استأنس بالوحي نُسخ ذلك.

[53]

{إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} قال ابن عباس: "ملك بعد هؤلاء مارية" (¬1). {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} حافظًا. وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلًا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انظر إليها؛ فإن في أعين نساء الأنصار شيئًا" (¬2)، قال الحميدي: يعني: الصغر، فإذا خطب الرجل امرأة، أبيح له النظر إليها بالاتفاق، فعند أحمد: ينظر إلى ما يظهر غالبًا، كوجه ورقبة ويد وقدم، وعند الثلاثة: لا ينظر غير الوجه والكفين. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)}. [53] ونزل تأديبًا لناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، فيأكلون ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 578). (¬2) رواه مسلم (1424)، كتاب: النكاح، باب: ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها، والحميدي في "مسنده" (1172).

ولا يخرجون، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأذى منهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ} (¬1) أي: إلا وقت الإذن {لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} فيؤذن لكم فتأكلون. قرأ نافع: (بُيُوتَ النَّبِيءِ إِلَّا) بالمد والهمز وتسهيل الهمزة من (إلَّا)، وخالفه قالون في هذا الحرف أيضًا، فقرأه بتشديد الياء كبقية القراء كما تقدم في قوله: (لِلنَّبِيءِ إِنْ) وهذان الحرفان اللذان تقدم التنبيه عليهما أول السورة، ونبه عليهما في سورة البقرة. {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي: منتظرين نضجه. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه: (إِنَاهُ) بإمالة فتحة النون (¬2). {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ} للأكل {فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ} فرغتم منه {فَانْتَشِرُوا} اخرجوا من منزله {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ} جر عطف على (نَاظِرِينَ) {لِحَدِيثٍ} تديرونه بينكم بعد الأكل. {إِنَّ ذَلِكُمْ} الاستئناسَ بعدَ الأكل {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} فلا يأمركم بالخروج، وكان - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياءً (¬3)، وأكثرهم عن العورات غضاءً، والحياء: رقة تعتري وجه الانسان عند فعل ما يتوقع ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 580)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 395)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (5/ 136)، و "تفسير القرطبي" (14/ 224)، و "البحر المحيط" لأبي حيان (9/ 169). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 523)، و"التيسير" للداني (ص: 48 - 49)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 133). (¬3) روى البخاري (3369) كتاب المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2320)، كتاب: الفضائل، باب: كثرة حيائه - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها.

كراهته، أو ما يكون تركه خيرًا من فعله، والإغضاء: التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته. {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أي: لا يمتنع من تعريفكم الحق والصواب حياء منكم. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} أي: نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يذكرن؛ لأن الحال تدل عليهن. {مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي: من وراء ستر، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متنقبة كانت أو غير متنقبة. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلُوهُنَّ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬1). {ذَلِكُمْ} السؤال {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} من الريبة. وقد صح في سبب نزول الحجاب ما روي عن عائشة -رضي الله عنها-: أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر -رضي الله عنه- يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: احجب نساءك، فلم يكن يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي عشيًّا، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة! حرصًا على أن ينزل آية الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 356)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 134). (¬2) رواه البخاري (146)، كتاب: الوضوء، باب: خروج النساء إلى البَراز، ومسلم =

وعن أنس قال: قال عمر: "وافقني ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وقلت: يا رسول الله! يدخل عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني بعض ما آذين به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه، قال: فدخلت عليهن، فجعلت أستفزُّ بهن واحدة واحدة، قلت: والله لتنتهُنَّ، أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن، حتى أتيت على زينب، فقالت: يا عمر! أما كان في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟! قال: فخرجت، فأنزل الله عز وجل: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} إلى آخر الآية [التحريم: 5] " (¬1). واستدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، وهو مذهب مالك وأحمد، ولم يجزها أبو حنيفة، وقال الشافعي: يجوز فيما رآه قبل ذهاب بصره، أو يقر في أذنه، فيتعلق به حتى يشهد عند قاض به. ¬

_ = (2170)، كتاب: السلام، باب: إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان. (¬1) رواه البخاري (4213)، كتاب: التفسير، باب: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. قال ابن حجر في "الفتح" (1/ 505) وليس في تخصصيه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها؛ لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه، ومن مشهورها قصة أسارى بدر وقصة الصلاة على المنافقين، وهما في "الصحيح".

[54]

ولما قال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل: هو طلحة بن عبيد الله: "لئن قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنكحن عائشة"، نزل احترامًا له - صلى الله عليه وسلم -، وتطييبًا لقلبه: {وَمَا كَانَ} (¬1) أي: ما يجوز {لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} بشيء من الأشياء. {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} إذا مات، أو فارقهن. {إِنَّ ذَلِكُمْ} يعني: إيذاءه، ونكاحَ نسائه {كَانَ عِنْدَ اللَّهِ} ذنبًا. {عَظِيمًا} فنكاحُ أزواجه محرم على غيره بالإجماع. * * * {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)}. [54] وبالغ في الوعيد عليه فقال: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا} لنكاحهن على ألسنتكم. {أَوْ تُخْفُوهُ} في صدوركم. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فيعلم ذلك فيجازيكم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 201) عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3150)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 69) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- نحوه.

[55]

{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)}. [55] ولما نزلت آية الحجاب، قال ذوو المحارم: ونحن أيضًا لا نكلمهن إلا من وراء حجاب؟ فنزل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ} وإنما لم يذكر العم والخال؛ لأنهما بمنزلة الوالدين، والعرب تسمي العم أبًا، والخالة أمًّا. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ) كاختلافهم فيهما (مِنَ الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور، واختلافهم فيهما من (أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ) كاختلافهم فيهما من (هَؤُلاَءِ آلِهَةً) في سورة الأنبياء [الآية: 99] {وَلَا نِسَائِهِنَّ} أي: المسلمات، وتقدم ذكر الخلاف بين الأئمة في الكتابيات في سورة النور. {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من الإماء، فلا يكون العبد محرمًا لمولاته، وقيل: هو عام، فيكون العبد محرمًا لمولاته، وتقدم ذكر الحكم في ذلك، واختلاف الأئمة فيه في سورة النور؛ أي: لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب عن هؤلاء، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب فقال: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} فيما أُمِرْتُنَّ به. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} لا يخفى عليه خافية. * * * {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)}. [56] {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} صلاةُ الله: رحمة، وصلاة الملائكة: الدعاء، وصلاة المؤمنين: سؤال الصلاة عليه.

[57]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} ادعوا له. {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} حيوه بتحية الإسلام. سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: "قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (¬1). واختلف المفسرون وأصحاب المعاني في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} هل (يصلون) راجعة على الله والملائكة، أم لا؟ فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون؛ لعلة التشريك، وخصوا الضمير بالملائكة، وقدروا الآية: إن الله يصلي وملائكته، والملائكة يصلون، واختلف الأئمة في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير في الصلاة، فقال أبو حنيفة: هي سنة، وتجب في العمر مرة، والمختار في مذهبه أنها مستحبة كلما ذكر، وعليه الفتوى، وقال مالك: هي سنة في الصلاة، ولكنها واجبة في الجملة، وقال الشافعي: هي فرض، وقال أحمد: هي ركن، فتبطل الصلاة عندهما بتركها، عمدًا كان أو سهوًا. * * * {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)}. [57] {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} أي: يخالفون أمره ويعصونه بنسبة الولد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4519) كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}، من حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه.

والشريك إليه سبحانه، هم اليهود، قالوا: عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. {وَرَسُولَهُ} بتكذيبه، وقولهم: شاعر ومجنون. {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا} بالقتل {وَالْآخِرَةِ} بالنار. {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} فيحرم أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل بالاتفاق. واختلفوا في حكم من سبه والعياذ بالله تعالى من المسلمين، فقال أبو حنيفة والشافعي: هو كفر كالردة يقتل ما لم يتب، وقال مالك وأحمد: يقتل ولا تقبل توبته، [وقتله حدًّا لا كفرًا إن أظهر التوبة منه، ولهذا لا تقبل توبته] (¬1). وأما الكافر إذا سبه صريحًا بغير ما كفر به؛ من تكذيبه ونحوه، فقال أبو حنيفة: لا يقتل؛ لأن ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر، وقال الشافعي: ينتقض عهده، فيخير الإمام فيه بين القتل والاسترقاق، والمن والفداء، ولا يبلغ المأمن؛ لأنه كافر لا أمان له، ولو لم يشرط عليه الكف عن ذلك، بخلاف ما إذا ذكره بسوء يعتقده ويتدين به؛ كتكذيب ونحوه، فإنه لا ينتقض عهده بذلك إلا باشتراطه، وتقدم التنبيه على ذلك في سورة التوبة، وقال مالك وأحمد: يقتل ما لم يسلم، واختار جماعة من أئمة مذهب أحمد أن سابه -عليه السلام- يقتل بكل حال، منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقال: هو الصحيح من المذهب، وأما حكم قذفه - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

فعند أبي حنيفة حكمه كالسب من مسلم وكافر كما تقدم، وظاهر كلام أصحاب مالك فيما اطلعت عليه من كتبهم، ومنهم القاضي عياض في "الشفا" (¬1): أنه كالسب، يقتل به المسلم، ويسقط القتل عن الكافر بإسلامه، وحكى القاضي عياض عن ابن سحنون أنه أوجب على الذمي إذا قذف النبي - صلى الله عليه وسلم - حد القذف، ثم قال: ولكن انظر ماذا يجب عليه، هل حد القذف في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القتل؛ لزيادة حرمته - صلى الله عليه وسلم - على غيره، أم هل يسقط القتل بإسلامه، ويحد ثمانين جلدة؟ فتأمله، انتهى. وفي مذهب الشافعي ثلاثة أقوال حكاها النووي رحمه الله في "الروضة": أحدها: أنه كالمرتد، والثاني: أنه يقتل حدًّا، والثالث: أنه يجلد ثمانين جلدة (¬2). ومذهب أحمد -رضي الله عنه-: أن من قذفه - صلى الله عليه وسلم -، أو قذف أمه، قتل، مسلمًا كان أو كافرًا، فلا تقبل من المسلم توبة، ولا من الكافر إسلامه. وحكم من سب سائر أنبياء الله وملائكته حكمُ من سب نبينا عليهم السلام، وأما من سب الله سبحانه وتعالى والعياذ بالله من المسلمين بغير الارتداد عن الإسلام، ومن الكفار بغير ما كفروا به من معتقدهم في عزير والمسيح ونحو ذلك، فحكمه حكم من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل من الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم- على أصله كما قدمته، والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: (2/ 266) وما بعد. (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 332).

[58]

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}. [58] ونزل في عائشة وصفوان رضي الله عنهما: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} بغير ذنب. {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} ظاهرًا. * * * {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)}. [59] كان زي الحرائر والإماء واحدًا، فربما تعرض ببعض الحرائر، فنزل نهيًا للحرائر عن التشبه بالإماء: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ} يُرْخين. {عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} جمع جلباب، وهي الملاءة تشتمل ما المرأة فوق الدرع والخمار (¬1) {ذَلِكَ} الفعل {أَدْنَى} أقربُ إلى. {أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} بأن يتعرض لهن ذو ريبة. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لما سلف مع التوبة {رَحِيمًا} بعباده. * * * {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)}. [60] ونزل فيمن كان يظهر خلاف ما يضمر، وفيمن كان يرعب قلوب ¬

_ (¬1) "والخمار" زيادة من "ت".

[61]

المسلمين: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} عن نفاقهم وكذبهم. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} فجور؛ يعني: الزناة {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} بالكذب بما يضعون من الأخبار الكاذبة عن سرايا المسلمين؛ بأنهم قتلوا وكسروا وأخذوا، فترعب قلوب المؤمنين. {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنسلطنك عليهم. {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} إلا زمانًا قليلًا حتى يخرجوا منها. * * * {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)}. [61] {مَلْعُونِينَ} مطرودين، نصب على الحال من (لاَ يُجَاوِرُونَك) {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} وجدوا. {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} أي: الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به. * * * {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}. [62] {سُنَّةَ اللَّهِ} أي: كسنة الله. {فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} من المنافقين؛ أي: هذا الحكم فيهم. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} لأنه لا يبدلها. * * * {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)}. [63] وكان اليهود والمشركون يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة امتحانًا

[64]

واستهزاءً، فنزل: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ} أي: أي شيء يعلمك أمر الساعة؟ ثم أومأ إلى قربها فقال: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ} شيئًا {قَرِيبًا} وانتصابه على الظرف، وفيه تهديد لهم. * * * {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64)}. [64] {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ} أي: عذب {الْكَافِرِينَ} المكيين بالقتل ببدر. {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} نارًا في الاخرة. * * * {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)}. [65] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يحفظهم. {وَلَا نَصِيرًا} يدفع عنهم. * * * {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)}. [66] {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} ظهرًا لبطن حين يُسحبون عليها {يَقُولُونَ} المعنى: اذكر يوم يقول التابع والمتبوع: {يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} في الدنيا. * * * {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)}. [67] {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} أي: مقدمينا في الكفر.

[68]

{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} أخطؤوا بنا طريق الهداية. قرأ ابن عامر، ويعقوب: (سَادَاتِنَا) بكسر التاء وألف قبلها على جمع (¬1) الجمع، وقرأ الباقون: [بفتح التاء بلا ألف قبلها (¬2)، وتقدم اختلافهم في (الرَّسُولاَ) و (السَّبِيلاَ) عند (الظُّنُونَا) [الآية: 10]. {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}. [68] {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} أي: عذبهم مثل عذاب غيرهم {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} قرأ عاصم: (كَبِيرًا) بالباء الموحدة من تحت، وقرأ الباقون] (¬3): بالثاء المثلثة، واختلف عن هشام راوي ابن عامر (¬4). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)}. [69] ونزل نهيًا عن أذى النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} بأن رموه بالأُدرة، وهو مرض الأنثيين، فوضع ثوبه على الحجر ¬

_ (¬1) "جمع" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (3/ 578)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 348)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 136). (¬3) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 523 - 524)، و"التيسير" للداني (ص: 179)، و"تفسير البغوي" (3/ 588)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 136).

[70]

ليتوضأ، فهرب الحجر بثوبه حتى وقف به بين ملأ بني إسرائيل، فأدركه فضربه ثنتي عشرة ضربة، فرأوه أحسنَ الناس جسدًا (¬1)، واتهموه بقتل هارون في التيه، فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل، فعرفوا أنه لم يقتله، وقذفوه بالبغي أنه فجر بها، وجعلوه ساحرًا مجنونًا. {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} بأن أوضح ما نسب إليه، فظهرت براءته منهم. {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} ذا جاه. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)}. [70] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} أي: صوابًا. {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}. [71] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} يتقبل حسناتكم، ويثيبكم عليها. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} نال غاية مطلوبه، والطاعة: موافقة الأمر، والمعصية: مخالفته. ¬

_ (¬1) انظر ما رواه البخاري في (274)، كتاب: الغُسل، باب: من اغتسل عُريانًا وحده في الخلوة، ومسلم (339)، كتاب: الحيض، باب: جواز الاغتسال عريانًا في الخلوة، من حديث أبي هريرة.

[72]

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}. [72] {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} هي كل ما افترض على العباد؛ كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار، فعرضت الأمانة بما فيها. {عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} عرضَ تخيير، فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن. {فَأَبَيْنَ} امتنعن {أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} خِفْن منها خشية ألَّا يؤدينها، فيلحقهن العقاب. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} مع ضعفه، وهو آدم -عليه السلام-، روي أنه قال: أحمل الأمانة بقوتي أم بالحق؟ فقيل: من يحملها يحملها بنا، فإن ما هو منا لا يحمل إلا بنا، فحملها. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} لنفسه بمعصية ربه. {جَهُولًا} بأمر الله، وما احتمل من الأمانة. {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}. [73] {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} بما خانوا الأمانة، ونقضوا الميثاق، واللام تعليل.

{وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة، ونصبه عطف على (لِيُعَذِّبَ)، واللام في قوله (لِيُعَذِّبَ) متعلقة بحمل؛ أي: حملها؛ ليعذب العاصي، ويثيب المطيع. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} حيث تاب على فرطاتهم، وأثاب بالفوز على طاعاتهم. وقد تقدم في تفسير هذه السورة (¬1) أن من خصائص رسول الله وجوب تخيير نسائه بين فراقه والإقامة معه، وأن يتزوج بأي عدد شاء، وأن يتزوج بلا ولي ولا شهود، وإذا خطب امرأة يحرم على غيره خطبتها حتى يتركها، وله خصائص غير ذلك، منها: أن له أن يتزوج في زمن الإحرام، وكان واجبًا عليه السواك والأضحية والوتر، ووجب عليه قيام الليل ولم ينسخ، وفرض عليه إنكار المنكر إذا رآه على كل حال. ومُنِع من الرمز بالعين، والإشارة بها، وإذا لبس لأْمَة الحرب أن ينزعها حتى يلقى العدو، ومنع أيضًا من الشِّعر والخط وتعليمهما، ومنع من نكاح الكتابية كالأَمَةِ مطلقًا، ومنع من الأخذ من صدقة التطوع. وأبيح له الوصال في الصيام، وهو ألَّا يفطر بين يومين فأكثر، وأبيح له خمس خمس الغنيمة وإن لم يحضره، وأبيح له الصفا من المغنم، وهو ما كان يختاره قبل القسمة؛ كجارية وعبد وثوب وسيف ونحوه، ودخول مكة محلًا ساعة، وإذا ادعي عليه أو ادعى هو فقوله بلا يمين، وجعلت تركته صدقة، وله أخذ الماء من العطشان، ويلزم كلَّ أحد أن يقيه بنفسه وماله، فله طلب ذلك، وحرم على غيره نكاح زوجاته فقط، وتقدم في ¬

_ (¬1) عند تفسير الآية (50).

التفسير، وهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وهن أمهات المؤمنين بمعنى: في حكم الأمهات في تحريم النكاح، وتقدم في التفسير، والنجس منا طاهر منه، ولم يكن له فيء في شمس ولا قمر، لأنه يوارى، والظل نوع ظلمة، وكانت تجتذب الأرض أثقاله، وساوى الأنبياء في معجزاتهم، وانفرد بالقرآن والغنائم، وجُعلت له الأرض مسجدًا وترابها طهورًا، ونُصر بالرعب مسيرة شهر، وبُعث إلى الناس كافة، وكل نبي إلى قومه، ومعجزاته باقية إلى يوم القيامة، وانقطعت معجزات الأنبياء بموتهم، وتنام عينه ولا ينام قلبه، فلا ينقض وضوءه بنومه مضطجعًا، ويرى من خلفه كما يرى أمامه، قال الإمام أحمد وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية بالعين حقيقة، والدفن في البنيان مختص به، قالت عائشة: "لئلا يتخذ قبره مسجدًا"، وقال جماعة: لوجهين: أحدهما: قوله: "تدفن الأنبياء حيث يموتون" رواه الإمام أحمد (¬1)، والثاني: لئلا تمسه أيدي المنافقين، وزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - مستحبة للرجال والنساء، ومنها: أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم، فقال: (يا آدمُ) (يا نوحُ) (يا إبراهيمُ) (يا داودُ) (يا زكريا) (يا يحيى)، ولم يخاطَب هو إلا (يا أيها الرسولُ) (يا أيها النبيُّ) (¬2) (يا أيها المزملُ) (يا أيها المدثرُ)، وتقدم في التفسير، قال الإمام أحمد رضي الله عنه: خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بواجبات ومحظورات ومباحات وكرامات، والله أعلم. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه هكذا. وقد روى ابن ماجه (1628)، كتاب: الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم -، من حديث ابن عباس في حديث طويل وفيه: "ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض" وإسناده ضعيف كما ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 529). (¬2) "يا أيها النبي" سقط من "ت".

سورة سبإ

سُوْرَةُ سَبَإٍ مكية، واختلف في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ} [سبأ: 6]، فقالت فرقة: هي مكية، والمراد: المؤمنون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت فرقة: هي مدنية، والمراد: من أسلم بالمدينة من أهل الكتاب؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه (¬1) وأشباههم، آيها: أربع وخمسون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وخمس مئة واثنا عشر حرفًا، وكلمها: ثماني مئة وثلاث وثمانون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}. [1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: الثناء له، والألف واللام لاستغراق الجنس؛ أي: الحمدُ على تنوعه هو لله تعالى {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ملكًا وخلقًا. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} كما هو في الدنيا؛ لأن أهل الحمد يحمدونه في ¬

_ (¬1) "وأصحابه" ساقطة من "ت".

[2]

الآخرة كما يحمدونه في الدنيا؛ لأن النعم في الدارين منه، وحذفت إحداهما لدلالة الأخرى عليها. {وَهُوَ الْحَكِيمُ} المحكِم لأمور الدارين {الْخَبِيرُ} بالأشياء؛ لأن وجودها إنما هو به جلَّت قدرتُه. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}. [2] {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي: يدخل فيها من الأموات والكنوز والدفائن وغيرها {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات والأموات عند الحشر، وماء العيون وسائر المخرَجات. {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من الوحي والرسل والكتب والأقدار والأمطار والصواعق والشهب. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: يصعد فيها (¬1) من الملائكة والأعمال. {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} للمفرِّطين في شكر نعمته. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)}. [3] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} استهزاءً واستبطاء للبعث: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ¬

_ (¬1) "فيها" ساقطة من: "ت".

قُلْ} لهم يا محمد: {بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} الساعة. قرأ أبو بكر عن عاصم: (بَلَى) بالإمالة (¬1). {عَالِمِ الْغَيْبِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ورويس عن يعقوب: (عَالِمُ) برفع الميم على الاستئناف؛ أي: هو عالم الغيب، وقرأ الباقون: بخفضها من نعت قوله تعالى: (وَرَبِّي)، وقرأ منهم حمزة، والكسائي: (عَلَّامِ) بتشديد اللام على وزن فَعّال وجر الميم على المبالغة (¬2)، روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب، قال: واللات والعزى ما ثَمَّ ساعة تأتي، ولا قيام ولا حشر، فأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يُقسم بربه مقابلة (¬3) لقسم أبي سفيان؛ ردًّا وتكذيبًا وإيجابًا لما نفاه. {لَا يَعْزُبُ} قرأ الكسائي: بكسر الزاي، والباقون: بضمها؛ أي: لا يغيب. {عَنْهُ مِثْقَالُ} أي: وزن {ذَرَّةٍ} أي: نملة {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ} أي: المثقال {وَلَا أَكْبَرُ} ورفعُهما عطف على (مِثْقَالُ). {إِلَّا} وهو مثبت. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 357)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 141). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 179 - 180)، و"تفسير البغوي" (3/ 593)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 349)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 141 - 142). (¬3) "بربه مقابلة" زيادة من "ت".

[4]

{فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}. [4] {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} اللام في (لِيَجْزِيَ) متعلقة بقوله: (لاَ يَعْزُبُ) أي: لا يغيب عنه شيء ليجزي المحسنَ والمسيء. {أُولَئِكَ} أي: المؤمنون {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وهي تغمد الذنوب. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هو الجنة. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}. [5] {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} في إبطال أدلتنا {مُعَاجِزِينَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بتشديد الجيم من غير ألف؛ أي: مُثَبِّطين الناس عن الإيمان، والباقون: بالتخفيف وألف بعد العين (¬1)؛ أي: مسابقين، يحسبون أنهم يفوتوننا. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ} من سيئ العذاب. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 158)، و"الكشف" لمكي (2/ 122)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 143).

[6]

{أَلِيمٌ} مؤلم. قرأ ابن كثير، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (أَلِيمٌ) بالرفع صفة (عَذَابٌ)، والباقون: بالجر صفة (رِجْزٍ) (¬1). {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}. [6] {وَيَرَى} أي: ويعلم {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هم الصحابة، أو من آمن من أهل الكتاب {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} يعني: القرآن {هُوَ الْحَقَّ} أي: يرون المنزل حقًّا. {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} يعني: الإسلام، وليس بمعطوف على ما تقدم؛ لأن الله تعالى لم يُحصِ أعمال الخلق ليهتدوا كلهم إلى صراط مستقيم، لكنه مستأنف على تقدير: وهو يهدي، وقيل: هو معطوف على (الحق) أي: يرون المنزل حقًّا وهاديًا. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)}. [7] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} سخرية بنبيهم. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 180)، و "تفسير البغوي" (3/ 594)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 349)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 143).

[8]

{هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. قرأ الكسائي: (هَل نَّدُلُكُمْ) وشبهه بإدغام اللام في النون، والباقون: بالإظهار (¬1). {يُنَبِّئُكُمْ} يخبركم، ويقول لكم: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} قُطِّعتم كل تقطيع؛ أي: في القبور {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: تنشؤون خلقًا جديدًا بعد تمزيق أجسادكم. {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)}. [8] {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} الألف للاستفهام؛ أي: هو مفتر، أم به جنون؟ فرد الله تعالى ذلك بقوله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي: البعث. {فِي الْعَذَابِ} ثم {وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} عن الهدى. {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}. [9] ثم أومأ تعالى إلى وحدانيته وعظيم قدرته بقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 229)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 357)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 144).

[10]

أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} المعنى: ألم يروا أنهم تحت سمائي وفوق أرضي، فيخافوا عذابي فيؤمنوا؟! {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} تدل على قدرتنا على البعث. {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} تائب مقبل على ربه، راجع إليه بقلبه. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَشَأْ) (يَخْسِفْ) (أَوْ يُسْقِطْ) بالياء في الثلاثة خبر عن الله تعالى، وأدغم الكسائي الفاء بالباء، وقرأهن الباقون: بالنون إخبارًا عن الله تعالى تعظيمًا (¬1)، وقرأ حفص عن عاصم: (كِسَفًا) بفتح السين جمع كِسْفة؛ أي: قطعًا، وقرأ الباقون: بالإسكان على التوحيد (¬2)؛ أي: قطعه، وجمعه (¬3) أكساف وكسوف، واختلافهم في الهمزتين من (السَّمَاءِ إِنْ) كاختلافهم فيهما من (الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: 33]. {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)}. [10] ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان؛ احتجاجًا على ما منح (1) ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 527)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 326)، و"تفسير البغوي" (3/ 595)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 357)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 145). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 180)، و"الكشف" لمكي (2/ 51)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 145). (¬3) "وجمعه" زيادة من "ت".

[11]

محمدًا؛ أي: لا تستبعدوا هذا، فقد تفضلنا على عبيدنا قديمًا بكذا وكذا، فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} أي: النبوة والملك، وقلنا: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي} رَجِّعي {مَعَهُ} التسبيح، فكان داود إذا سبح، سمع تسبيح الجبال، ويعقل معناه؛ معجزة له؛ كما سمع الخطاب من الشجرة، وعقل معناه {وَالطَّيْرَ} أي: وسخرنا له الطير بأصواتها، فكان داود يقول للجبال: سبحي، وللطير: أجيبي، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بصوته الحسن، فلا يُرى شيء أحسن من ذلك فمن سمع صدى الجبال. قراءة العامة: (وَالطَّيْرَ) بالنصب بإضمار فعل تقديره: وسخرنا الطير، وألنا له الحديد، وقرأ يعقوب: بالرفع ردًّا على (الجبال)؛ أي: أوبي أنت والطير، ووردت عن عاصم، وأبي عمرو (¬1). {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أي: جعلناه له لينًا كالشمع، فلا يفتقر إلى نار ولا مطرقة. {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}. [11] {أَنِ اعْمَلْ} أمرناه أن اعمل، و (أن) مفسرة لا موضع لها من الإعراب {سَابِغَاتٍ} دروعًا تامة تعم البدن. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 595)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 358)، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 121)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 146).

[12]

{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي: اجعل المسامير على قدر الحَلَق، والسرد: هو نسج الدروع، وأصل السرد: الوصل، ومنه: سرد كلامه: وصل بعضه ببعض، فكان يعمل كل يوم درعًا، ويبيعها بستة آلاف درهم، ينفق عليه وعلى عياله ألفين، ويتصدق على فقراء بني إسرائيل بأربعة آلاف، وعمل الدروع لأنه كان من عادته أن يَخْرج إلى الناس مُنَكَّرًا، ويسأل عن داود وما يقال فيه، فخرج يومًا، فلقيه ملك في صورة آدمي، فسأله عن داود، فقال: نعم العبد هو، إلا أنه يأكل هو وعياله من بيت المال، فتنبه داود، وسأل ربه أن يرزقه سببًا يقوم به، فرزقه صنعة الدروع، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان داودُ لا يأكل إلا من كسبِ يدِه" (¬1) ثم خاطب داود أهله فقال: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فأجازيكم عليه. {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)}. [12] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي: وسخرنا له. قرأ أبو بكر عن عاصم: (الرِّيحُ) بالرفع؛ أي: له تسخرت الريح، والباقون: بالنصب، ومنهم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3235)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال ابن حجر في "الفتح" (6/ 455): فكان ينسج الدروع ويبيعها، ولا يأكل إلا من ثمن ذلك، مع كونه كان من كبار الملوك، قال الله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ (20)}.

أبو جعفر، قرأ: (الرِّياح) بفتح الياء وألف بعدها على الجمع (¬1). {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} جريُها بالغداة مسيرة شهر، وبالعشي كذلك، فكانت تغدو بسليمان وجنوده على البساط من دمشق، فيقيل بإصطخر، وبينهما شهر للراكب المسرع، ويروح من إصطخر، فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع. {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أذبنا له معدن النحاس، أساله الله حتى صار كالماء، فكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام، وكان بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان. {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: بأمره، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "سخر الله الجن لسليمان، وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به" (¬2). {وَمَنْ يَزِغْ} يعدل {مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} الذي أمرنا به من طاعة سليمان. {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} في الآخرة، وقيل: في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم ملكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان، ضربه ضربة أحرقته. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 180)، و"تفسير البغوي" (3/ 596)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 349)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 146 - 147). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 597).

[13]

{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}. [13] {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} أي: مساجد {وَتَمَاثِيلَ} صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد؛ لينشطوا إلى العبادة والاقتداء بهم، وعملوا له في أسفل كرسيه أسدين، وفي أعلاه نسرين، فإذا صعد، بسط له الأسدان ذراعيهما فارتقى عليهما، فإذا جلس أظله النسران بجناحيهما، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرمًا، وكان مما عملوا له بيت المقدس، ابتدأه داود، ورفعه قامة رجل، فأوحى الله إليه أني لم أقض ذلك على يدك، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي إتمامه على يده، فلما توفاه الله تعالى، استخلف سليمان -عليه السلام-، وكان مولده بغزة، وملك بعد أبيه وله اثنتا عشرة سنة، ولما كان في السنة الرابعة من ملكه في شهر أيار سنة تسع وثلاثين وخمس مئة لوفاة موسى -عليه السلام-، ابتدأ سليمان في عمارة بيت المقدس حسبما تقدم به وصية أبيه إليه، وجمع حكماء الإنس والجن، وعفاريت الأرض، وعظماء الشياطين، وجعل منهم فريقًا يبنون، وفريقًا يقطعون الصخور والعمد من معادن الرخام، وفريقًا يغوصون في البحر فيخرجون منه الدر والمرجان، وكان في الدر ما هو مثل بيضة النعامة، وبيضة الدجاجة، وبنى مدينة بيت المقدس، وجعلها اثني عشر ربضًا، وأنزل كل رَبَض منها سِبْطًا من أسباط بني إسرائيل، وكانوا اثني عشر سبطًا، ثم بنى المسجد بالرخام الملون، وسقفه بألوان الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت، وأنبت الله شجرتين عند باب الرحمة، إحداهما تنبت الذهب، والأخرى تنبت الفضة، فكان في

كل يوم ينزع من كل واحدة مئتي رطل ذهبًا وفضة، وفرش المسجد بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة، وبألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر، وفرغ منه في السنة الحادية عشرة من ملكه، وكان ذلك بعد هبوط آدم بأربعة آلاف وأربع مئة وأربع عشرة سنة، وبين عمارة سليمان لمسجد بيت المقدس والهجرة الشريفة النبوية المحمدية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- ألف وثماني مئة وقريب سنتين، وتقدم ذكر ذلك ملخصًا في سورة الإسراء. ولما فرغ من بناء المسجد (¬1)، سأل الله ثلاثًا: سأله حكمًا يوافق حكمه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وسأله ألَّا يأتي هذا المسجدَ أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ سُليمانَ بنَ داود -عليهما السلام- سأل ربَّه ثلاثًا، فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن يكون قد أعطاه الثالثةَ: سأله حُكمًا يصادف حُكمه فأعطاه، وسأله مُلْكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده فأعطاه، وسأله: أيُّما رجُلٍ يخرج من بيته لا يُريد إِلا الصلاةَ في هذا المسجد، أن يخرج من خطيئته كيومَ ولدته أمُّه، فنحن نرجو أن يكون قد أعطاه إيَّاه" (¬2). ولما رفع سليمان يده من البناء بعد الفراغ منه، جمع الناس وأخبرهم أنه ¬

_ (¬1) في "ت": "مسجد بيت المقدس". (¬2) رواه النسائي في "سننه" (693)، كتاب: المساجد، باب: فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه، وابن ماجه (1408)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس، وأحمد في "المسند" (2/ 176) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

مسجد لله تعالى، وهو أمره ببنائه، وأن كل شيء فيه لله تعالى، من انتقصه، أو شيئًا منه، فقد خان الله تعالى، وأن داود عهد إليه ببنائه، ثم اتخذ طعامًا، وجمع الناس جمعًا لم ير مثله، ولا طعام أكثر منه، وقرب القرابين لله تعالى، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدًا (¬1). واستمر بيت المقدس على ما بناه سليمان أربع مئة سنة وثلاثًا وخمسين سنة حتى غزاه بُخت نصَّر، فخرب المدينة، وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ جميع ما كان فيه من الذهب والفضة والجواهر، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق، واستمر خرابًا (¬2) بيت المقدس سبعين سنة كما تقدم ذكره في سورة البقرة [الآية: 259] وسورة الإسراء [الآية: 6] (¬3). وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصونًا كثيرة عجيبة من الصخر {وَجِفَانٍ} قصاع كبار {كَالْجَوَابِ} جمع جابية، وهو الحوض الكبير. قرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: (كَالْجَوَابِي) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ ابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬4) {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنهن؛ لعظمهن، ¬

_ (¬1) رواه بنحوه الطبراني في "المعجم الكبير" (4477) من حديث رافع بن عمير. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 8): وفيه محمد بن أيوب بن سويد الرملي، وهو متهم بالوضع. (¬2) "خرابًا" زيادة من "ت". (¬3) وسلف نحو هذا الخبر عند تفسير الآية (97) و (114) من سورة البقرة. (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 527)، و"التيسير" للداني (ص: 182)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 147 - 148).

[14]

وكان يُصعد عليها بالسلاليم، وكانت باليمن. {اعْمَلُوا} أي: وقلنا: اعملوا {آلَ دَاوُودَ} نصبه على النداء؛ أي: اعملوا يا آل داود بطاعة الله {شُكْرًا} له على نعمه. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي: العامل بطاعتي شكرًا لنعمتي. قرأ حمزة: (عِبَادِي الشَّكُورُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1). {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}. [14] روي أن سليمان -عليه السلام- كان يتحنث في بيت المقدس الشهر والشهرين، والسنة والسنتين، وأقل وأكثر، وينقطع عن الناس، ويدخل إليه طعامه وشرابه، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء، ويعلمون ما في غد، فدخل بيت المقدس يومًا، وقال: اللهم عَمِّ موتي على الجن حتى تعلمَ الإنسُ أن الجنَّ لا تعلم الغيب، ثم قام يصلي متكئًا على عصاه، فمات قائمًا، وكان لمحرابه كوى بين يديه وخلفه (¬2)، فكان الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس؛ لطول صلاته قبل ذلك، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولًا ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 182)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 148). (¬2) "وخلفه" زيادة من "ت".

كاملًا (¬1) {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} أي: لما مات. {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} هي الأرضة. {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} عصاه؛ لأنها ينسأ بها؛ أي: يؤخر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (مِنْسَاتَهُ) بألف ساكنة بعد السين من غير همز، وهذه الألف بدل من الهمزة لغة مسموعة صحيحة، قال أبو عمرو بن العلاء: هو لغة قريش، وأصلها الهمز؛ من نسأت الغنم: سقتها بها، وقرأ ابن ذكوان: بإسكان الهمزة، لغة غريبة صحيحة ورد به القرآن، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة على الأصل، وحمزة إذا وقف جعلها بين بين على أصله (¬2). {فَلَمَّا خَرَّ} سقط على وجهه {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} قرأ يعقوب (تُبُيّنَتِ) بضم التاء والباء وكسر الياء؛ أي: أعلمت الإنس الجن، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون: بفتح التاء والباء والياء (¬3)؛ أي: علمت الجن وأيقنت {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} أي: في التعب والشقاء المُذِلَّ مسخَّرين لسليمان وهو ميت يظنون حياته، أراد الله بذلك أن يعلم ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12281)، والحاكم في "المستدرك" (8222) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 304)، عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 180)، و"تفسير البغوي" (3/ 599)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 350)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 149 - 150). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 600)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 350)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 150).

[15]

الجن أنهم لا يعلمون الغيب؛ لأنهم كانوا يظنون ذلك؛ لغلبة الجهل، وقيل: معنى تبينت الجن: أي: ظهرت وانكشفت للإنس، وتبين أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب؛ لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، فلما خر ميتًا، وعلموا بموته، شكرت الجنُّ الأرضة، فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب. وتوفي سليمان وله اثنتان وخمسون سنة، فكان مدة ملكه أربعين سنة، فتكون وفاته في أواخر سنة خمس وسبعين وخمس مئة لوفاة موسى -عليه السلام-، وذلك بعد فراغ بناء بيت المقدس بتسع وعشرين سنة، وبين وفاته والهجرة الشريفة النبوية المحمدية ألف وسبع مئة وثلاث وسبعون سنة، والله أعلم. {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}. [15] فلما فرغ التمثيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بسليمان -عليه السلام-، رجع التمثيل للكفار بسبأ، وما كان من إهلاكهم بالكفر والعتو، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} اسم أرض باليمن، أو رجل. قرأ أبو عمرو، والبزي: بفتح الهمزة من غير تنوين، وروى قنبل: بإسكان الهمزة، وقرأ الباقون: بالخفض والتنوين (¬1)، فمن قرأ منونًا مصروفًا، جعله اسم رجل، ومن قرأ غير مصروف، جعله اسم البلد {فِي مَسْكَنِهِمْ} قرأ حمزة، وحفص: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 480 و 528)، و"التيسير" للداني (ص: 167)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 150 - 151).

(مَسْكَنِهِمْ) بإسكان السين وفتح الكاف بغير ألف على التوحيد، وهو اسم جنس يراد به الجمع، والكسائي، وخلف: كذلك، غير أنهما يكسران الكاف؛ أي: في موضع سكناهم، والباقون: بفتح السين وألف بعدها وكسر الكاف على الجمع (¬1)؛ لأن كل واحد له مسكن، وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن. {آيَةٌ} اسم كان؛ أي: علامة دالة على قدرة الله تعالى {جَنَّتَانِ} بدل من آية؛ أي: بستانان {عَنْ يَمِينٍ} من بلدهم {وَشِمَالٍ} منه، والمراد: جماعتان من البساتين بها أشجار كثيرة، وثمار طيبة، فقيل لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} الذي رزقكم {وَاشْكُرُوا لَهُ} على ما رزقكم من النعمة؛ أي: اعملوا بطاعته. {بَلْدَةٌ} استئناف للدلالة على موجب الشكر؛ أي: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة {طَيِّبَةٌ} وطيبتها أنها لم يكن بها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وكان يمر بها الغريب فيموت قمله؛ لطيب الهواء. {وَرَبٌّ} أي: وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربٌّ {غَفُورٌ} للذنوب مع الإيمان به، وهذا من قول الأنبياء لهم. وقرأ رويس عن يعقوب: (بَلْدَةً طَيِّبَة وَرَبًّا غَفُورًا) بالنصب في الكل على المدح (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 180)، و"تفسير البغوي" (3/ 600)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 359)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 151 - 152). (¬2) انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 121)، و"إملاء ما كان به الرحمن" للعكبري (2/ 106)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 152).

[16]

{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}. [16] وبعث إليهم ثلاثة عشر نبيًّا، فذكروهم نعم الله، وخوفوهم عقابه {فَأَعْرَضُوا} وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة، فقولوا لربكم أن يحبس عنا هذه النعمة إن استطاع. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} أي: على سدهم، وهو سد بنته بلقيس بين الجبلين، فحقنت به الشجر، وتركت فيه ثقبًا على مقدار ما يحتاجون إليه من الماء {سَيْلَ الْعَرِمِ} وهو السيل الذي لا يُطاق، وأصله من العرامة، وهي الشدة والقوة، فخرب السد، وملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنات وكثيرًا من الناس ممن لم يمكنه الفرار، وأغرق أموالهم، فتفرقوا في البلاد، فصاروا مثلًا، وكان ذلك بين عيسى ومحمد عليهما السلام. {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ} المذكورتين {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} ثمر {خَمْطٍ} وهو شجر الأراك وثمره، وقيل: هو كل شجر مر الثمر. قرأ يعقوب: (بِجَنَّتَيهُم) بضم الهاء، وابن كثير وأبو جعفر: يضمان الميم ويصلانها بواو في اللفظ وصلًا، واختلف عن قالون، وقرأ أبو عمرو ويعقوب (أُكْلِ) بالإضافة من غير تنوين، وقرأ الباقون: بالتنوين، ومنهم نافع وابن كثير يسكنان الكاف، والباقون: يضمونها (¬1) {وَأَثْلٍ} هو الطرفاء، ولا ثمر له، أو شجر يشبه الطرفاء، عطف على (أُكُلٍ). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 528)، و"تفسير البغوي" (3/ 602)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 152 - 153).

[17]

{وَ} كذلك {شَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} شجر معروف، وهو النبق، ووصف بالقلة؛ فإن جناه مما يطيب أكلُه، ولذلك يغرس في البساتين، وما بدلوا من السدر لم يكن من ذاك، بل كان سدرًا بريًّا لا ينتفع به، فكان شجرهم من خير الشجر، فصيره الله من شر الشجر، وتسمية البدل جنتين للمشاكلة والتهكم. {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)}. [17] {ذَلِكَ} الجزاء {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} النعمة {وَهَلْ نُجَازِي} يعاقَب؛ أي: وهل يجازى مثلَ هذا الجزاء {إِلَّا الْكَفُورَ} البليغ في الكفران. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (نُجَازِي) بالنون مع كسر الزاي (الْكَفُورَ) بالنصب مفعولًا إخبارًا منه تعالى عن نفسه؛ لقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ) والكسائي على أصله في إدغام اللام من (هل) في النون، وقرأ الباقون: (يُجَازِى) بضم الياء وفتح الزاي، ورفع (الْكَفُورُ) (¬1). {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)}. [18] ولما هلك مالهم (¬2)، قالوا: نحن نتوب، ويرد علينا خيرنا، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 181)، و"تفسير البغوي" (3/ 602)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 350)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 153 - 154). (¬2) "مالهم" زيادة من "ت".

[19]

فرد عليهم خير أكثر من ذلك {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} وهم باليمن {وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالماء والشجر، وهي قرى الشام {قُرًى ظَاهِرَةً} متقاربة، تظهر الثانية من الأولى؛ لقربها منها، وكان متجرهم من اليمن إلى الشام، فكانوا يبيتون بقرية، ويَقيلون بأخرى، وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ إلى الشام. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} للمبيت والمقيل، فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم، وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، وقلنا لهم: {سِيرُوا فِيهَا} لمصالحكم {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} أي: ليلًا ونهارًا {آمِنِينَ} من العدو والجوع والعطش. {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}. [19] فبطروا النعمة، وسئموا الراحة، {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فاجعل بيننا وبين الشام فلواتٍ ومفاوزَ؛ ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل، وتزود الأزواد، فعجل الله لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسطة. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وهشام: (بَعِّدْ) بنصب الباء وكسر العين مشددة من غير ألف مع إسكان الدال، وقرأ الباقون سوى يعقوب كذلك، إلا أنهم بالألف بعد الباء وتخفيف العين (¬1)، وكلٌّ على وجه الدعاء ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 529)، و"التيسير" للداني (ص: 181)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 350)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 154 - 155).

[20]

والسؤال، وقرأ يعقوب: (رَبُّنا) برفع الباء (باعَدَ) بفتح العين والدال وألف قبل العين على الخبر (¬1)، كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بعدم شكر مولاهم. {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} لمن بعدهم يتحدثون بأخبارهم. {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فرقناهم في البلاد كل التفريق. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} على الوحدانية والقدرة. {لِكُلِّ صَبَّارٍ} عن معاصي الله {شَكُورٍ} لأنعمه. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}. [20] {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} قرأ الكوفيون: (صَدَّقَ) بتشديد الدال؛ أي: إبليسُ صدق ظنه الذي ظنَّ فيهم، وهو كفرُهم حيث قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)} [ص: 82] {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]، فصدق ظنه، وحققه بفعله ذلك بهم، واتباعهم إياه، وقرأ الباقون: بتخفيف الدال (¬2)؛ أي: صدق عليهم في ظنه بهم، واختلف القراء في إدغام الدال من (قَدْ) وإظهارها عند الصاد من (صَدَّقَ)، فأدغمها أبو عمرو، وحمزة، ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 350)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 155). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 529)، و"التيسير" للداني (ص: 181)، و"تفسير البغوي" (3/ 604)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 157).

[21]

والكسائي، وخلف، وهشام، وأظهرها الباقون (¬1). {فَاتَّبَعُوهُ} الكفار {إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: إلا فريقًا هم المؤمنون لم يتبعوه. {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}. [21] {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي: ما كان تسليطنا إياه عليهم. {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي: ليظهر {مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} فيتميز المؤمن من الكافر. {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} رقيب. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)}. [22] {قُلِ} يا محمد لكفار مكة: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم آلهة {مِنْ دُونِ اللَّهِ} قرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب: (قُلِ ادْعُوا) بكسر اللام في الوصل، والباقون: بالضم (¬2)، وفي الآية حذف؛ أي: ادعوهم لينعموا ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 157). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 359)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 158).

[23]

عليكم بجلب نفع أو دفع ضر، لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعارًا بتعيين الجواب فقال: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} في خير أو شر. {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} في أمر ما. {وَمَا لَهُمْ} لآلهتهم {فِيهِمَا} في السموات والأرض. {مِنْ شِرْكٍ} أي: شركة مع الله. {وَمَا لَهُ} تعالى {مِنْهُمْ} أي: الآلهة. {مِنْ ظَهِيرٍ} معين، فهو تعالى غني عن خلقه، وآلهتهم عجزة عن كل شيء. {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}. [23] {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} تعالى {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} في الشفاعة لغيره. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: (أُذِنَ) بضم الهمزة مجهولًا أقيم (لَهُ) مقام الفاعل، وقرأ الباقون: بفتحها معلومًا (¬1)، الفاعلُ اللهُ تعالى. {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا} أزيل عنها الفزع. قرأ ابن عامر، ويعقوب: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 529)، و"تفسير البغوي" (3/ 605)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 359)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 158).

[24]

(فَزَّعَ) بفتح الفاء والزاي، الفاعلُ الله تعالى؛ أي: حتى إذا كشف تعالى الفزعَ عن قلب الشافع والمشفوع له بالإذن في الشفاعة، وقرأ الباقون: بضم الفاء وكسر الزاي (¬1) مجهولًا (¬2)؛ كدُفِع إلى زيد: إذا علم المدفوع، المعنى: إذا أذن في الشفاعة، فرحوا، وسأل بعضهم بعضًا استبشارًا، ثم {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} في الشفاعة؟ {قَالُوا الْحَقَّ} نصب مفعول؛ أي: قال القول الحق، وهو الإذن في الشفاعة. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ذو العلو والكبرياء. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}. [24] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالرزق من السموات المطر، ومن الأرض النبات {قُلِ اللَّهُ} يعني: إن لم يقولوا: رازقنا الله، فقل أنت: إن رازقكم الله. {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل أحد الفريقين مهتد، والآخر ضال، المعنى: إنا على الهداية يقينًا؛ لأنا موحدون، وأنتم على الضلالة يقينًا؛ لأنكم مشركون، ولم ¬

_ (¬1) "وكسر الزاي" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 181)، و"تفسير البغوي" (3/ 605)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 158 - 159).

[25]

يصرحوا بذلك تأدبًا؛ لأنه أدعى إلى الإيمان، وهذا غاية الإنصاف، وقريبًا من هذا قولهم: أخزى الله الكاذب. {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)}. [25] ثم أوضح ذلك فقال: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} اكتسبنا من الذنب. {وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بل كل مطالب بعمله. {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)}. [26] {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يوم القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} أى: يقضي. {بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ} الحاكم في القضايا المنغلقة. {الْعَلِيمُ} بما ينبغي أن يقضى به. {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}. [27] {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} أي: أشركتموهم مع الله تعالى في العبادة، المراد بذلك: إظهار خطأ الكفار بعبادة العاجز، ثم ردهم عن اعتقادهم، فقال: {كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ} وحده {الْعَزِيزُ} الغالب على أمره. {الْحَكِيمُ} في تدبيره، فأنى يكون له شريك في ملكه؟!

[28]

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}. [28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً} نصب على الحال {لِلنَّاسِ} أي: عامة لهم {بَشِيرًا} بالجنة {وَنَذِيرًا} بالنار، حالان. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} فيحملهم الجهل على مخالفتك، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كان النبي يُبعث إلى قومِه خاصةً، وبُعثت إلى الناس عامةً" (¬1)، وقيل: (كَافَّةً)؛ أي: لتكف الناس عن المعاصي، والهاء للمبالغة. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)}. [29] {وَيَقُولُونَ} أي: الكافرون استهزاءً: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} الذي تعدوننا به. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يخاطبون به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين. {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}. [30] {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} هو يوم البعث. {لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} إذا فاجأكم، وهو جواب تهديد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (328)، كتاب: التيمم، ومسلم (521)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

[31]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)}. [31] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} ولا بما دل عليه من البعث وغيره {وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة والإنجيل. {وَلَوْ تَرَى} يا محمد {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} محبوسون. {عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ} أي: يرد {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} في الجدال. {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} استُحقروا، وهم الأتباع. {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم القادة والأشراف: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} لأنكم منعتمونا عن الإيمان. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)}. [32] {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} إنكارًا عليهم. {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} مشركين باختياركم.

[33]

{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}. [33] {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} إبطالًا لإضرابهم بإضرابهم عن مجادلتهم: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: مكركم بنا دائمًا ليلًا ونهارًا، فأجرى الظرف مجرى المفعول به، وأضيف المكر إليهما اتساعًا، تلخيصه: إنما أشركنا بسببكم. {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} والند: المثيل والشبيه. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} اعتقدوها في نفوسهم؛ أي: كل من المستكبرين والمستضعفين {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} في النار من الأتباع والمتبوعين، وقيل استهزاءً بهم وإيجابًا لعذابهم: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي في الدنيا؟! {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)}. [34] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أغنياؤها. {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} هذه الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يا محمد! هذه سيرة الأمم، فلا يهمك أمر قومك.

[35]

{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)}. [35] {وَقَالُوا} أي: الكفار المترفون للفقراء المؤمنين؛ فخرًا بزخارف الدنيا. {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لأنه أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد، فلا يعذبنا. {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)}. [36] {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} امتحانًا {وَيَقْدِرُ} يضيق ابتلاء، وليس في شيء من ذلك دليل على رضا الله تعالى والقرب منه؛ لأنه قد يعطي ذلك (¬1) إملاء واستدراجًا. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك؛ كأنتم أيها الكفرة. {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)}. [37] {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} أي: جماعة أموالكم وجماعة أولادكم {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} أي: تقريبًا، نصب مصدر، كـ {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]. ¬

_ (¬1) "ذلك" زيادة من "ت".

[38]

{إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} استثناء منقطع. {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} أن تضاعف حسناتهم الواحدة بعشر إلى سبع مئة {بِمَا عَمِلُوا} قرأ رويس عن يعقوب: (جَزَاءً) بالنصب على الحال مع التنوين وكسره وصلًا، ورفع (الضِّعْفُ) بالابتداء؛ كقولك: في الدار زيدٌ قائمًا، تقديره: فأولئك لهم الضعف جزاءً، وقرأ الباقون: (جَزَاءُ) بالرفع من غير تنوين، وخفض (الضَّعْفِ) بالإضافة (¬1). {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} المنازل الرفيعة {آمِنُونَ} من المكاره. قرأ حمزة: (في الْغُرْفَةِ) بإسكان الراء من غير ألف على التوحيد على اسم الجنس، والمراد به: الجمع، وقرأ الباقون: بضم الراء مع الألف على الجمع (¬2)؛ لقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا (58)} [العنكبوت: 58]. {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)}. [38] {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} تقدم تفسيره واختلاف القراء فيه. {أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} من الإحضار. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 609)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 163). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 530)، و"التيسير" للداني (ص: 181)، و"تفسير البغوي" (3/ 609)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 164).

[39]

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}. [39] {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} كرر القول بذلك تأكيدًا وتبيينًا، وقصد به هنا رزق المؤمنين، وليس عليه (¬1) سوقه على المعنى الأول الذي قيل للكافرين، بل هذا هاهنا على جهة الوعظ والتزهيد في الدنيا، والحض على النفقة في الطاعات، ثم وعد بالخلف في ذلك بقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: فالله يعوضه هنا بالمال، أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى، وفي الآخرة بالثواب. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} خير مَنْ يعطي ويرزق، وقوله: {خَيْرُ الرَّازِقِينَ} من حيث يقال في الإنسان إنه يرزق عياله، والأمير جنده، ولكن ذلك من مال يملك عليهم، والله تعالى من خزائن لا تفنى. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله في: أَنفِق أُنْفِق عليك" (¬2). وفي "البخاري": "إن الملك ينادي كل يوم: اللهمَّ أعطِ منفقًا (¬3) خَلَفًا، ويقول مَلَكٌ آخَرُ: اللهم أعطِ ممسِكًا تلَفًا" (¬4). ¬

_ (¬1) "عليه" ساقطة من: "ت". (¬2) رواه البخاري (4407) كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، ومسلم (993)، كتاب: الزكاة، باب: الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف. (¬3) في "ت": "كل منفق". (¬4) رواه البخاري (1374)، كتاب: الزكاة، باب قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}، =

[40]

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)}. [40] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} يعني: المستكبرين والمستضعَفين. {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ} إثباتًا للحجة على الكفار: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} في الدنيا؟ وهو استفهام تقرير؛ كقوله لعيسى -عليه السلام-: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. قرأ يعقوب، وحفص عن عاصم: (يَحْشُرُهُمْ) (ثُمَّ يَقُولُ) بالياء فيهما، والباقون: بالنون (¬1)، واختلافهم في الهمزتين من (هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ) كاختلافهم فيهما من (الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: 33]. {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}. [41] فتتبرأ منهم الملائكة {قَالُوا سُبْحَانَكَ} تنزيهًا لك {أَنْتَ وَلِيُّنَا} الذي نتولاه، ونلتجئ إليه من دونهم، لا موالاة بيننا وبينهم. {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} يطيعون {الْجِنَّ} أي: الشياطين؛ لأنهم زينوا لهم عبادة الملائكة، فكانوا يطيعونهم. ¬

_ = ومسلم (1010)، كتاب الزكاة، باب: في المنفق والممسك، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 107)، و "تفسير البغوي" (3/ 610)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 257)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 165).

[42]

{أَكْثَرُهُمْ} أي: الكفار {بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} بالجن وبما يقولون من الكذب، والملائكة بنات الله. {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}. [42] ثم يقول الله تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا} بالشفاعة. {وَلَا ضَرًّا} بالعذاب؛ لأن الأمر كله لله. {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} قال هنا: (الَّتِي) أراد: النار، وفي السجدة: (الَّذِي) أراد: العذاب. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)} [43] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا} يعنون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} فيستتبعكم بما يستبدعه. {وَقَالُوا مَا هَذَا} أي: القرآن {إِلَّا إِفْكٌ} لعدم مطابقة ما فيه الواقع. {مُفْتَرًى} بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} والمراد: محمد، والقرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ظاهر سحريته.

[44]

{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}. [44] {وَمَا آتَيْنَاهُمْ} يعني: العرب {مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يقرؤونها، فيعلمون ذلك. {وَمَا أَرْسَلْنَا} إلى العرب الذين بعثت {إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} وليس المراد: من تقدمه من العرب؛ لأن إسماعيل كان مبعوثًا قبله إلى العرب. {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}. [45] {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم رسلَنا، وهم عاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وغيرهم. {وَمَا بَلَغُوا} كفارُ مكة {مِعْشَارَ} أي عشرَ؛ كالمرباع الربع. {مَا آتَيْنَاهُمْ} أي: الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر. {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} عنادًا. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: إنكاري عليهم، يحذرهم عذاب من تقدم. قرأ ورش عن نافع: (نَكِيرِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون بحذفها في الحالين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 182)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 166).

[46]

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}. [46] {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي: بخصلة واحدة، وهي: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} أي: لأجله تعالى، وليس المراد: حقيقة القيام، بل الاهتمام بالمطلوب. {مَثْنَى} اثنين اثنين {وَفُرَادَى} واحدًا واحدًا في تجريد العناية في البحث عن شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يظهر لكم شأنه. {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} جميعًا في حاله، فتعلموا. {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي: جنون. قرأ رويس عن يعقوب: (ثُمَّ تَفَكَّرُوا) بتاء واحدة مشددة حيث وصل، ومع الابتداء يظهر التاءين كبقية القراء (¬1). {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قدامه (¬2)؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به، وفائدة التقييد بالاثنين والفرادى: أن الاثنين إذا التجأا إلى الله تعالى، وبحثا طلبًا للحق مع الإنصاف، هدوا إليه، وكذلك الواحد إذا فكر في نفسه مجردًا عن الهوى؛ لأن كثرة الجمع مما يقل فيه الإنصاف غالبًا، ويكثر فيها الخلاف. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 300)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 167). (¬2) "قدامه" زيادة من "ت".

[47]

{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)}. [47] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي: جُعْلٍ على إنذاري وتبليغي الرسالة. {فَهُوَ لَكُمْ} لا أسألكم شيئًا، نحو: ما لي في هذا، فهو لك؛ أي: ليس لي فيه شيء. {إِنْ أَجْرِيَ} ما ثوابي {إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} مُطَّلع. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: (أَجْرِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1). {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)}. [48] {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} يلقيه على الباطل، فيزهقه، والمراد: الوحي، وآيات القرآن، واستعار له القذف من حيث كان الكفار يرمون بآياته وحكمه {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} رفع بخبر (إِنَّ)؛ أي: وهو علام الغيوب. قرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: (الْغِيُوبِ) بكسر الغين، والباقون: بضمها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 182)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 167). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 167).

[49]

{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}. [49] {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} الإسلام وما فيه من الأحكام. {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي: ذهب فلم يبق منه بقية تُبدئ شيئًا أو تعيد. {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}. [50] ولما قال كفار مكة له - صلى الله عليه وسلم -: إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} (¬1) أي: إثمُ ضلالي على نفسي. {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} من القرآن، وهدايتي بفضله، فلا منة عليَّ لغيره. {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} لا يفوته شيء. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 612)، والقرطبي في "تفسيره" (14/ 313). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 182)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 168).

[51]

{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)}. [51] {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} حين البعث، وجواب (وَلَوْ) محذوف؛ أي: لرأيت أمرًا عظيمًا. {فَلَا فَوْتَ} لهم من العذاب {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} من الموقف إلى النار. {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)}. [52] {وَقَالُوا} عند معاينة العذاب: {آمَنَّا بِهِ} أي: بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَأَنَّى لَهُمُ} أي: ومن أين لهم {التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (التَّنَاؤُشُ) بالمد والهمز، معناه: الطلب؛ أي: وأنى لهم (¬1) طلب مرادهم وقَد بَعُد؟ وقرأ الباقون: بضم الواو دون همز (¬2)، معناه: التناول؛ أي: كيف لهم تناول ما بَعُدَ عنهم، وهو الإيمان والتوبة؟ {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)}. [53] {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ} أي: بالقرآن، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - {مِنْ قَبْلُ} في الدنيا. ¬

_ (¬1) "لهم" زيادة من: "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 530)، و"التيسير" للداني (ص: 181)، و"تفسير البغوي" (3/ 613)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 169).

[54]

{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} يعني: وكانوا يتكلمون بالشيء الغائب، وهو قولهم في رسول الله ما ليس فيه {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} من حيث لا يعلمون أنهم غير محققين صدق ما يقولون. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}. [54] {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} من نفع الإيمان حينئذ. قرأ ابن عامر، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (وَحِيلَ) بإشمام الحاء الضمَّ (¬1) {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} أي: بأشباههم {مِنْ قَبْلُ} من كَفَرة الأمم الماضية. {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} مُوقِعٍ لهم في الريبة والتهمة، وهو أقوى ما يكون من الشك، وأشد إطلاقًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 181)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 170).

سورة فاطر

سُوْرَةُ فَاطِر وتسمى: سورة الملائكة، مكية، وآيها: خمس وأربعون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف ومئة وثلاثون حرفًا، وكلمها: سبع مئة وسبع وسبعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}. [1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ} تقدم الكلام فيه أول سورة سبأ وقبلها {فَاطِرِ} أي: خالق {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والمراد: الانفراد بالابتداء؛ لخلقها على غير مثال سبق. {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} وسائطَ بينه وبين أنبيائه في تبليغ رسالاته بالوحي. {أُولِي} أي: أصحاب {أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} لبعضهم جناحان، ولبعضهم ثلاثة، ولبعضهم أربعة، وروي أن لجبريل عليه السلام ستَّ مئة جناح، منها اثنان تبلغ من المشرق إلى المغرب (¬1). ¬

_ (¬1) روى البخاري (3060)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم آمين =

[2]

{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ} من الملائكة وغيرها {مَا يَشَاءُ} تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عند الخبر بالملائكة أولي الأجنحة؛ أي: ليس هذا ببدع في قدرته؛ فإنه يزيد في خلقه ما يشاء، قال الجوهري: التواضع في الأشراف، والسخاء في الأغنياء، والتعفف في الفقراء. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من الزيادة والنقصان. واختلاف القراء في الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَّ) كاختلافهم فيهما من (نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى) في سورة الحج [الآية: 33]. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}. [2] {مَا يَفْتَحِ} أي: ما يرسل {اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} نعمة، ونُكِّرت؛ لتشيع في جميع النعم {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} لا يستطيع أحد حبسها، وأنث الضمير؛ ردًّا إلى لفظ الرحمة {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعد إمساكه تعالى له، وذكر الضمير؛ ردًّا إلى معناها؛ لأن الرحمة بمعنى الخير {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فيما أمسك. {الْحَكِيمُ} فيما أرسل. ¬

_ = والملائكة في السماء، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، ومسلم (174) كتاب: الإيمان، باب: في ذكر سدرة المنتهى، عن زر بن حُبيش قال: حدثنا عبد الله بن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ست مئة جناح.

[3]

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)}. [3] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا} احفظوا {نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بشكرها، ولا تنسوها بكفرها، والخطاب لقريش، وهو متجه لكل كافر، ولا سيما لعبَّادِ غيرِ الله، و (نِعْمَت) رسمت بالتاء في أحد عشر موضعًا، وقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب. {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} قرأ أبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (غَيْرِ اللهِ) بخفض الراء نعتًا لـ: (خَالِقٍ) على اللفظ، وخبرُ الابتداء: {يَرْزُقُكُمْ} وقرأ الباقون: برفعها نعتًا لـ (خَالِقٍ) محلًا (¬1)؛ لأن (خالق) مبتدأ محذوف الخبر، و (مِنْ) زائدة، تقديره: هل خالقٌ غيرُ الله يرزقكم {مِنَ السَّمَاءِ} المطر {وَالْأَرْضِ} النبات والاستفهام على طريق التقرير؛ أي: لا خالقَ غيرُ الله يرزقكم. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تُصرفون عن الإيمان؟! {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}. [4] ثم سلَّى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما سلف من حال الرسل مع الأمم، فقال تعالى: ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (3/ 616)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 174).

[5]

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} فتأَسَّ بهم في الصبر على تكذيبهم. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} وتنكير الرسل يؤذن بكثرة من كُذِّب منهم. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1). {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)}. [5] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث وغيره {حَقٌّ} لا خُلْفَ فيه. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان بتزيينه، وقوله: إن الله يغفر الذنوب جميعًا، اعملوا ما شئتم. {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}. [6] {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} قديمًا {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} فاحذروه. {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} أتباعه {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} يسوقهم إلى النار. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 361)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 175).

[7]

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}. [7] ثم بين حال موافقته ومخالفته، فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}. ونزل في أبي جهل ومشركي مكة، وقيل: في أصحاب الأهواء والبدع: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}. [8] {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ} (¬1) أي: لُبس عليه ومُوِّه {سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} جميلًا؛ بوسوسة الشيطان. واختلاف القراء في قوله: (فَرَآهُ) كاختلافهم في قوله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} في سورة الأنبياء [الآية: 36]، والاستحسان لغة: هو اعتقاد الشيء حسنًا، وعرفًا: العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي، وقال به الحنفية، والإمام أحمد في مواضع، وكتب أصحاب مالك مملوءة منه، ولم ينص عليه، وأنكره الشافعي. {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} تلخيصه: أفمن ضل، كمن هُدي؟! {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} والحسرة: شدة الحزن على ما فات من الأمر؛ أي: لا تغتمَّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا. قرأ أبو جعفر: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 617)، و"تفسير القرطبي" (14/ 325).

[9]

(تُذْهِبْ) بضم التاء وكسر الهاء (نَفْسَكَ) بنصب السين، وقرأ الباقون: بفتح التاء والهاء ورفع السين (¬1). {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فيجازيهم عليه. {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)}. [9] {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: (الرِّيحَ) بغير ألف على الإفراد، والباقون: بألف على الجمع (¬2). {فَتُثِيرُ سَحَابًا} هذه آية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث من القبور، فدلهم تعالى على المثال الذي يعاينونه، وهذا سواء مع إحياء الموتى. {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} هو الذي لا نبت فيه قد اغبرَّ من القحط. قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مَيِّتٍ) بتشديد الياء، والباقون: بتخفيفها (¬3) {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها. {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي: مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من القبور. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 617)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 176). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و"الكشف" لمكي (1/ 270)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 176). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 361)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 177).

[10]

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}. [10] ولما تعزز الكفار بأصنامهم، نزل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} المعنى: عزةُ الدارين مختصة بالله سبحانه وتعالى، فلا تُطلب إِلَّا منه بتقواه، ومن أراد التعزز، فليتعزز بطاعته تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو: لا إله إِلَّا الله، ونحوها. {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} اختلف في الضمير في (يَرْفَعُهُ) على من يعود؟ فقيل: يرجع إلى الكَلِم، فيكون المعنى: أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح؛ بأن يُتقبل منه بسببه؛ لأنّ الطّاعة إنّما تقبل مع التوحيد؛ لأنّ طاعة الكافر مردودة، وقيل: يرجع إلى (العمل)، فيكون المعنى: أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فكأن التّوحيد إنّما قُبل بسبب الطّاعة؛ لأنّ التّوحيد مع المعصية لا ينفع؛ لأنّه يعاقب على المعصية، وقال بعضهم: الفعل مسند إلى الله تعالى؛ أي: والعمل الصالح يرفعه الله تعالى، بأن يتقبله، قال ابن عطية -رحمه الله-: وهذا أرجح الأقوال (¬1). {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ} أي: مكروا المكرات {السَّيِّئَاتِ} والمراد: مكر المشركين به - صلى الله عليه وسلم - حين اجتمعوا في دار الندوة، وتقدم ذكر القصة في الأنفال، المعنى: المحتالون في هلاكك. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (4/ 431).

[11]

{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بما يمكرون {وَمَكْرُ أُولَئِكَ} الكفار {هُوَ يَبُورُ} يكسد ويبطل. * * * {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}. [11] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يعني (¬1): آدم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: بالتناسل من مَنِيِّ (¬2) الرجال {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} أنواعًا، وقيل: ذكرانًا وإناثًا. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} إِلَّا معلومة له. {وَمَا يُعَمَّرُ} أي: ما يطول عمر {مِنْ مُعَمَّرٍ} أي: طويل العمر، سمي بما يؤول إليه {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي: من عمر معمر آخر. قرأ يعقوب: (يَنْقُصُ) بفتح الياء وضم القاف، والباقون: بضم الياء وفتح القاف (¬3). {إِلَّا فِي كِتَابٍ} هو اللوح المحفوظ. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ} إشارة إلى تحصيل هذه الأعمار، وإحصاء دقائقها وساعاتها. ¬

_ (¬1) "يعني" زيادة من "ت". (¬2) "مني" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 352)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 178).

[12]

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}. [12] ثمّ ضرب مثلًا للمؤمن والكافر فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} يعني: العذب والمالح، ثمّ ذكرهما. فقال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} طيب يكسر العطش. {سَائِغٌ شَرَابُهُ} لذيذ سلس الدخول في الحلق. {وَهَذَا} أحدُهما {مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة. {وَمِنْ كُلٍّ} منهما {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} هو السمك، وصف بالطراة؛ لتسارع الفساد إليه، فيسارع إلى أكله طريًّا. {وَتَسْتَخْرِجُونَ} من الملح خاصّة. {حِلْيَةً} زينة {تَلْبَسُونَهَا} وهي اللؤلؤ والمرجان، فدل على أنّهما من الحلي، ولم يقل هنا: منه؛ لأنّه معلوم، وقد ذكر في سورة النحل. {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} تمخر الماء؛ أي: تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة. {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} تعالى بالتجارة، وكلِّ سفر له وجهٌ شرعي. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اللهَ على نعمه، استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم، والمعنى: كما أنّهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء، فإنّه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته، وكذلك لا يتساوى

[13]

المؤمن والكافر، وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات؛ كالشجاعة والسخاوة؛ لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى، وبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية، وهي التّوحيد، دون الآخر. * * * {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)}. [13] {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} معنى يولج: يُدْخِل، وهذه عبارة عن أن ما نقص من اللّيل زاد في النهار، فكأنّه دخل فيه، وكذلك كلّ ما نقص من اللهار يدخل في اللّيل. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} هي مدة دوره. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} الإشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء. {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} تعالى من الأصنام. {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} هي القشرة الرّقيقة الملتفة على النواة، وتقدم تفسير الفتيل والنقير في سورة النِّساء [الآية: 53 و 71]. * * * {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}. [14] {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} لأنّهم جماد.

[15]

{وَلَوْ سَمِعُوا} على سبيل الفرض والتمثيل {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} لعجزهم. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي: بإشراككم لهم، وعبادتكم إياهم، ويتبرؤون منكم. {وَلَا يُنَبِّئُكَ} بأحوال الدارين {مِثْلُ خَبِيرٍ} عالمٍ به، وهو الله تعالى. * * * {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)}. [15] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} بكل حال. {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} عن جميع خلقه {الْحَمِيدُ} المحمود على صنعه. واختلاف القراء في الهمزتين من (الْفُقَرَاءُ إِلَى) كاختلافهم فيهما من (نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة الحجِّ [الآية: 5]. * * * {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)}. [16] {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بإهلاككم. {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} بدلَكم. * * * {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)}. [17] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} بمتعذر. * * *

[18]

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}. [18] {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا يحمل أحد ذنب غيره، وأمّا قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، فالمراد: الضالون والمضلون، وإضلال تابعيهم من جملة ذنوبهم، فلذلك حملوه. {وَإِنْ تَدْعُ} نفس {مُثْقَلَةٌ} وبالذنوب {إِلَى حِمْلِهَا} الّذي عليها من الذنوب. {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ} من حملها {شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ} المدعو {ذَا قُرْبَى} ذا قرابة؛ كأم وأب وأخ. {إِنَّمَا تُنْذِرُ} إنّما ينتفع بإنذارك {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: يخافونه، ولم يروهُ، وخص الخاشون بالإنذار. لأنّهم هم المنتفعون به {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} خص من الأعمال إقامة الصّلاة؛ تنبيهًا عليها، وتشريفًا لها، ثمّ أومأ تعالى إلى غناه عن خلقه بقوله: {وَمَنْ تَزَكَّى} تَطهَّر عن دنس المعاصي، وأصلح العمل. {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} فصلاحُه مختصٌّ به. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فيجازيهم على تزكيتهم. * * * {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)}. [19] {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} المؤمن والكافر، وقيل: الجاهل والعالم.

[20]

{وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)}. [20] {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} أي: الشرك والإيمان؛ أي: لا تساوي بينهما، وقوله: (وَلَا النُّورُ) دخول (لَا) فيها وفيما بعدها إنّما هو على نيّة التكرار؛ كأنّه قال: ولا الظلمات والنور، ولا النور والظلمات، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني، ودل مذكور الكلام على متروكه. * * * {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)}. [21] {وَلَا الظِّلُّ} الجنَّة. {وَلَا الْحَرُورُ} النّار، وقال ابن عبّاس: الحرور: الريح الحارة ليلًا، والسموم نهارًا (¬1). * * * {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}. [22] {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ} المؤمنون {وَلَا الْأَمْوَاتُ} الكفار، وقيل: العلماء والجهال، كلها أمثال ضُربت للمؤمن والكافر. {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ} الإنذارَ سماعَ هداية (¬2) {مَنْ يَشَاءُ} إيمانَه. {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} يعني: الكفار، شبههم في عدم الانتفاع بالمقبور. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 621). (¬2) "الإنذار سماع هداية" زيادة من "ت".

[23]

{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)}. [23] {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} ما أنت إِلَّا منذر تخوفهم بالنار، ونُسخ معناها بآية السيف. * * * {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}. [24] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} محققين (¬1) {بَشِيرًا} بالوعد {وَنَذِيرًا} بالوعيد. {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ} من الأمم الماضية {إِلَّا خَلَا} مضى {فِيهَا نَذِيرٌ} نبي يُنذر من عذاب الله، واكتفى بنذير هنا عن ذكر بشير؛ لدلالته عليه؛ لأنّ النذارة قرينة البشارة، وهما مذكوران قبل، وأمّا فترة عيسى، فلم يزل فيها من هو على دينه، وداعٍ إلى الإيمان. * * * {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25)}. [25] {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقد. {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات. {وَبِالزُّبُرِ} كصحف إبراهيم {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} الواضح، وهو التوراة والإنجيل، والبينات والزبر والكتاب المنير شيء واحد، لكنه أكد ¬

_ (¬1) في "ت": "محقين".

[26]

أوصافه بعضها ببعض، وذكره بجهاته، والزبور من زبرت الكتاب: إذا كتبته. * * * {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}. [26] ثمّ توعد قريشًا بذكر الأمم الكافرة فقال: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: إنكاري بالعقوبة، وتقدم اختلاف القراء في (نَكِيرِ) في آخر سبأ [الآية: 45]. * * * {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)}. [27] {أَلَمْ تَرَ} المراد: رؤية القلب {أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة؛ لأنّه أهيبُ في العبارة. فقال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالماء {ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} كالخضرة والصفرة والحمرة والبياض والسواد، وغير ذلك، وقيل: المراد: أجناسها وأصنافها، قدم النعت على الاسم، فلذلك نصب. {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ}؛ أي: طرق تكون في الجبال {بِيضٌ وَحُمْرٌ} واحدتها جُدَّة. {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} بالشدة والضعف.

[28]

{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي: وطرق سود كالغرابيب؛ تشبيهًا بالغراب، يقال: أسود غِرْبيب؛ أي: شديد السواد. * * * {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}. [28] {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي: كاختلاف الثمرات والجبال، وتم الكلام هاهنا، ثمّ ابتدأ. فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قال ابن عبّاس: "يريد: إنّما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني (¬1) "، وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يؤذن بأنّه لا يخشى اللهَ تعالى إِلَّا العلّماءُ، ولو عكس، لكان المعنى: أن العلماءَ لا يخشون الله (¬2) نحو {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} في ملكه {غَفُورٌ} لذنوب عباده. واختلاف القراء في الهمزتين من (العُلَمَاءُ إِنَّ) كاختلافهم فيهما من {الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} (¬3) [فاطر: 15]. * * * ¬

_ (¬1) "وسلطاني" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "لا يخشون أحدًا إِلَّا الله". (¬3) انظر "تفسير البغوي" (3/ 622).

[29]

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)}. [29] {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} يداومون على قراءة القرآن، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} بجميع شروطها. {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} في الصدقات ووجوه البرّ، فالسر من ذلك هو التطوع، والعلانيّة هو المفروض، وخبر (إِنَّ): {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي: تكسد ويتعذر ربحها. * * * {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}. [30] {لِيُوَفِّيَهُمْ} بالإنفاق {أُجُورَهُمْ} أي: ثواب التلاوة وإقامة الصّلاة وإنفاقهم. {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} سوى الثّواب ما لم تر عين، ولم تسمع أذن. {إِنَّهُ غَفُورٌ} لهم ذنوبهم {شَكُورٌ} مثيب لأعمالهم. * * * {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}. [31] {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يعني: القرآن، و (مِن) للتببين. {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} حال مؤكدة. {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدمه من الكتب المنزلة.

[32]

{إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} عالم بالبواطن والظواهر. * * * {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}. [32] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} أي: أعطيناه {الْكِتَابَ} القرآن، و (ثُمَّ) للترتيب، تقديره: والذي أوحينا إليك، ثمّ أورثناه {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} هم أمتك يا محمّد، ثمّ قسمهم. فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} هو الّذي رجحت سيئاته {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} هو الّذي ساوت حسناته سيئاته {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ} إلى الجنَّة {بِالْخَيْرَاتِ} بالأعمال الصالحة، وهو الّذي رجحت حسناته {بِإِذْنِ اللَّهِ} بتوفيقه، والأصناف الثّلاثة في الجنَّة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "سابقُنا سابق، ومقتصدُنا ناجٍ، وظالمنا مغفورٌ له" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 443)، والثعلبي في "تفسيره" (8/ 111)، والبغوي في "تفسيره" (3/ 624)، من طريق الفضل بن عميرة، عن ميمون بن سياه الكردي، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر، به. قال العقيلي: الفضل بن عميرة لا يتابع على حديثه، ويروى من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. قلت: وهو ما رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2/ 151 - 152) من طريق فرج ابن فضالة، عن الأزهر بن عبد الله الحرازي، عن عمر، به. وبإسناده ليس بالقوي، كما ذكر البيهقي في "البعث والنشور". وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 152 - 153). قال الزمخشري في "الكشاف" (3/ 622) =

[33]

{ذَلِكَ} أي: إيراثهم الجنَّة {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. * * * {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)}. [33] ومما يدلُّ على دخولهم جميعهم الجنَّة قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} مبتدأ، خبره {يَدْخُلُونَهَا} قرأ أبو عمرو: بضم الياء وفتح الخاء مجهولًا، فالواو قام مقام الفاعل، والباقون: بنصب الياء وضم الخاء معلومًا (¬1)، فالواو الفاعل. {يُحَلَّوْنَ} نساءً ورجالًا {فِيهَا} أي: في الجنَّة {مِنْ أَسَاوِرَ} جمع أسورة، و (مِنْ) تبعيض {مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} روي أن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ (¬2)، هذه حليتهم. {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر: (وَلُؤْلُؤًا) بالنصب على معنى: ويحلَّون لؤلؤًا، فأبو جعفر يترك الهمزتين، فيسكن الواو الأولى، وينصب الثّانية، وأبو بكر عن عاصم يترك الأولى فقط، وقرأ ¬

_ = عند إيراده لهذا الحديث: فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرًا، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله، ولا يغترا بما رواه عمر رضي الله عنه، فإن شرط ذلك صحة التوبة. (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 534)، و"التيسير" للداني (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (3/ 626)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 185). (¬2) انظر: "الكشاف" للزمخشري (3/ 623).

[34]

الباقون: بالخفض عطفًا على (أَسَاوِرَ)، وأبو عمرو يترك الهمزة الأولى (¬1)، وتقدم في سورة الحجِّ اختلاف الأئمة في حكم الحرير والجلوس عليه عند تفسير نظير هذه الآية. * * * {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}. [34] {وَقَالُوا} أي: ويقولون إذا دخلوا الجنَّة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أي: أزال عنا كلّ شيء يوجب الحزن. {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ} للمذنبين {شَكُورٌ} مثيب للمطيعين. * * * {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}. [35] {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} بمعنى: الإقامة. {مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} تعب. {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} إعياء ومشقة، فاللغوب: نصب وزيادة؛ لأنّه نتيجة النصب. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 534 - 535)، و"التيسير" للداني (ص: 156)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 326)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 185 - 186).

[36]

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)}. [36] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى} لا يحكم {عَلَيْهِمْ} بالموت. {فَيَمُوتُوا} نصب جواب النَّفْي. {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ} مثلَ ذلك الجزاء. {نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} مبالغ في الكفر والكفران. قرأ أبو عمرو: (يُجْزَى) بالياء وضمها وفتح الزاي مجهولًا، ورفع (كُلُّ) مفعول المجهول، وقرأ الباقون: بالنون وفتحها وكسر الزاي، ونصب (كُلَّ) مفعولًا صريحًا (¬1)، المعنى: الكفار معذبون أبدًا. * * * {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}. [37] {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أي: يستغيثون في جهنم بشدة وعويل، يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} منها {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} لأنّهم كانوا يعتقدون صلاح عملهم في الدنيا، فأجيبوا توبيخًا: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 535)، و"التيسير" للداني (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (3/ 627)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 187).

[38]

{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} المعنى: ألم نطل أعماركم وقتًا يتذكر فيه التوبة من تذكر، وتعطف على معنى (¬1) {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} ما بعد؛ لأنّ لفظه استخبار، ومعناه إخبار، تقديره: عمرناكم. {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: القرآن، وقيل: الشيب، ويجوز أن يراد: كُلُّ ما يؤذن بالانتقال. {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} يدفع عنهم العذاب. * * * {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)}. [38] {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والغيب: ما غاب عن البشر؛ أي: لا يخفى عليه خافية. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: ما فيها من المعتقدات، تعليل لهم؛ لأنّه إذا علم مضمرات الصدور، وهي أخفى ما يكون، علم كلّ غيب، و (ذَاتُ) تأنيث (ذو). * * * {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)}. [39] {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} جمع خليف؛ أي: يخلف بعضكم بعضًا. ¬

_ (¬1) "معنى" ساقطة من "ت".

[40]

{فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: وبَالُ كفره. {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} بغضًا (¬1) واحتقارًا. {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} أي: خسروا آخرتهم ومعادهم. * * * {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)}. [40] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا} أيَّ شيء. {خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} أي: شركة مع الله تعالى. {فِي السَّمَاوَاتِ} أي: في خلقها، المعنى: أخبروني عن هؤلاء الشركاء بزعمكم، أَستبدوا بخلق شيء، أم شاركوه تعالى في شيء من خلقه. {أَمْ آتَيْنَاهُمْ} هل أعطينا كفار مكّة أو الأصنام. {كِتَابًا} ينطق بأنّهم شركاؤه. {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} أي: على حجة وبرهان من ذلك الكتاب. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وخلف، وحفص عن عاصم: (بَيِّنَةٍ) بغير ألف على التّوحيد إرادة الجنس، وقرأ الباقون: (بَيِّنَاتٍ) بالألف على الجمع (¬2)؛ ¬

_ (¬1) "بغضًا" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 182)، و"تفسير البغوي" (3/ 328)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 352)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 188).

[41]

لكثرة ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، ورسمها بالتاء، تلخيصه: هل لمعبوديكم ما يستحقون أن يعبدوا بسببه؟ {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ} الرؤساء {بَعْضًا} الأتباع. {إِلَّا غُرُورًا} باطلًا، وهو ما يغر الإنسان. * * * {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}. [41] {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ} يَضْبِط {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: كي لا {تَزُولَا} رُوي أنّه لما قالت النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله، كادت السموات والأرض أن تزولا وتعدما، فأمسكهما الله تعالى (¬1). {وَلَئِنْ زَالَتَا} أي: ما {أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ} من بعد إمساكه. {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} حيث أمسكهما عن الزَّوال بحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقوبة. * * * * {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)}. [42] ولما بلغ قريشًا أن أهل الكتاب كذبوا رسلَهم، حلفوا إنَّ جاءهم ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي في "تفسيره" (14/ 357) عن الكلبي، وقال: وهو كقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 89، 90].

[43]

رسول، اتبعوه، فنزل: {وَأَقسَمُوا} أي: كفار مكّة. {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} منصوب على المصدر؛ أي: بغاية اجتهادهم. {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} يعني: من اليهود والنصارى؛ لأنّ كلّ واحدة منهما أمم، وليس المراد: إحدى الأمتين دون الأخرى، بل هما جميعًا؛ لأنّ (إحدى) شائعة فيهما تصلح لكل واحدة منهما، ولم يقل: الأمتين، [ولا الأمم بلا إحدى؛ ليعم جميع أفراد الأمتين] (¬1)؛ لأنّ (إحدى) تأنيث (أحد)؛ كأنّه قال: ليكونن أهدى من كلّ واحدة من الأمم، ولو حذف إحدى، لجاز أن يراد: بعض الأمم. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} هو محمد - صلى الله عليه وسلم - {مَا زَادَهُمْ} مجيء النذير من الإيمان. {إِلَّا نُفُورًا} أي: تباعدًا عن الهدى. * * * {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}. [43] {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} بدل من (نُفُورًا)، ثمّ تعطف على (نُفُورًا)، أو (استكبارًا)، {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} العمل القبيح، وأضيف المكر إلى السيئ وهو صفته كما قيل: دار الآخرة، ومسجد الجامع، وجانب الغربي. قرأ حمزة: (السَّيِّءْ) بإسكان الهمزة في الوصل؛ لتوالي الحركات تخفيفًا، كما ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

أسكنها أبو عمرو في (بَارِئْكُمْ) لذلك، قال الكواشي: وزعم بعضهم لجهله بكلام العرب أنّه لحن، وهو اللاحن، ونصر العلّامة ابن الجزري في "النشر" صحتها، وقرأ الباقون: بكسرها، وإذا وقف حمزة، أبدلها ياء خالصة، وكذلك هشام إذا خفف من طريق الحلواني، إِلَّا أنّه يزيد على حمزة بالروم بين بين (¬1). {وَلَا يَحِيقُ} يحيط (¬2) {الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} أي: وَبالُ الشرك مختص بمن أشرك. واختلاف القراء في الهمزتين من (السَّيِّئُ إِلَّا) كاختلافهم فيهما من (نشاءُ إِلَى) في سورة الحجِّ. {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} أي: هل ينتظرون هؤلاء إِلَّا نزول العقاب بهم كما نزل بمن تقدمهم. {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ} في نزول العذاب بالكفار. {تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} للعذاب إلى غير مستحقه، ورسمت (لِسُنَّتِ) في الموضعين بالتاء، ووقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 535)، و"التيسير" للداني (ص: 182 - 183)، و"تفسير البغوي" (3/ 629)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 352)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 189 - 190). (¬2) "يحيط" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 363)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 191).

[44]

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)}. [44] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} أي: المشركون {فِي الْأَرْضِ} إلى متاجرهم. {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ} هلكوا. {مِنْ قَبْلِهِمْ} لما كذبوا الرسل. {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} فأُهلكوا مع ذلك. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا} بالأشياء كلها {قَدِيرًا} عليها. * * * {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}. [45] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} أي: لو جازى على الذنوب في الدنيا {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} أي: على ظهر الأرض {مِنْ دَابَّةٍ} يعني: لأهلك الجميع، وقوله: {مِنْ دَابَّةٍ} مبالغة، والمراد: بنو آدم؛ لأنّهم المجازون. {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وقتٍ معلوم، وهو القيامة.

{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} توعد، وفيه للمتقين وعد. واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَجَلُهُمْ) كاختلافهم فيهما من {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ} في سورة الحج [الآية: 65]، والله أعلم. * * *

سورة يس - عليه السلام -

سُوْرَة يس - عليه السّلام - مكية، وآيها: ثلاث وثمانون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وعشرون حرفًا، وكلمها: سبع مئة وسبع وعشرون كلمة. روى أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ لكل شيء قلبًا، وإن قلبَ القرآن يس" (¬1)، وروي: "من قرأ يس، كتب الله له بقراءتها قراءةَ القرآن عشرَ مرات" (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يس (1)}. [1] {يس} أمال الياء: حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب، وفتحها الباقون، وأبو جعفر يقطع الحروف ¬

_ (¬1) رواه التّرمذيّ (2887)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل يس، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال التّرمذيّ: هذا حديث غريب، لا نعرفه إِلَّا من هذا الوجه، وفيه هارون أبو محمّد شيخ مجهول، وفي الباب عن أبي بكر الصديق، ولا يصح من قِبل إسناده وإسناده ضعيف، وفي الباب عن أبي هريرة. (¬2) هو قطعة من حديث أنس السابق.

[2]

على أصله، وأدغم نون السين في الواو بغنة: الكسائي، ويعقوب، وخلف، وهشام راوي ابن عامر، واختلف عن نافع، وعاصم، والبزي راوي ابن كثير (¬1) وابن ذكوان راوي ابن عامر، وقرأ الباقون: بالإظهار وجهًا واحدًا، وهم أبو عمرو، وحمزة، وأبو جعفر، وقنبل راوي ابن كثير، والخلاف في معنى (يس) كما تقدّم في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتختص هذه بأقوال، منها: أن سعيد بن جبير قال: "إنّه من أسماء محمّد - صلى الله عليه وسلم - (¬2) دليله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وعن ابن عبّاس: "معناه: يا إنسان! بلغة طيء"، وقال أبو بكر الورَّاق: معناه: يا سيد البشر. * * * {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)}. [2] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} أي: المحكم. قرأ ابن كثير: (وَالْقُرَانِ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 538)، و"التيسير" للداني (ص: 183)، و"تفسير البغوي" (3/ 631)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 17 - 18 و 70)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 195 - 196). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 631)، و"تفسير القرطبي" (15/ 4). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 363)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 196).

[3]

{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)}. [3] {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} المعنى: أنّه تعالى أقسم بالقرآن أن محمدًا من المرسلين، وهو رد على الكفار حيث قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43]. * * * {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)}. [4] {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: طريق هدى، ومهيع: رشاد لا اعوجاج فيه، ولا عدول عن الحق، ولم يقسم الله - تبارك وتعالى - لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إِلَّا له - صلى الله عليه وسلم -، وهو خبر بعد خبر إنّه من المرسلين، وإنه على صراط مستقيم. قرأ قنبل عن ابن كثير، ورويس عن يعقوب: (السِّرَاط) بالسين، وأشم الصاد الزاي: حمزة، والباقون: بالصاد (¬1)، وكلها لغات صحيحة. * * * {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)}. [5] {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَنْزِيلَ) بنصب اللام بإضمار أعني، أو فعله؛ أي: نزله تنزيلَ، وقرأ الباقون: بالرفع (¬2)؛ أي: هو تنزيلُ. * * * ¬

_ (¬1) سلف عند تفسير الآية (5) من سورة الفاتحة. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 539)، و "التيسير" للداني (ص: 183)، و"تفسير البغوي" (3/ 631)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 197).

[6]

{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)}. [6] {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ} نفي؛ أي: لم تنذَرْ {آبَاؤُهُمْ} لأنّ قريشًا لم يأتهم نبي قبل محمّد - صلى الله عليه وسلم - {فَهُمْ غَافِلُونَ} عن الإيمان والرشد. * * * {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)}. [7] {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} وجب العذاب {عَلَى أَكْثَرِهِمْ} أي: أهل مكّة بالكفر. {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لما سبق في علمه تعالى من عدم إيمانهم. * * * {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}. [8] ولما حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بحجر إنَّ رآه يصلّي، فرآه ساجدًا، فأراد أن يلقي عليه حجرًا، فلزق في يده، وتشبثت يده في عنقه، نزل قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} (¬1) أراد: في أعناقهم وأيديهم؛ لأن الغُلَّ لا يكون في العنق دون اليد. {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين؛ أي: فأيديهم مجموعة إلى أذقانهم. ¬

_ (¬1) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (20/ 495) عن عكرمة. وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 632).

[9]

{فَهُمْ مُقْمَحُونَ} رافعو رؤوسهم مع غض الأبصار لا يستطيعون الإطراق؛ لأنّ من غُلَّت يده إلى ذقنه، ارتفع رأسه. * * * {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}. [9] فلما عاد أبو جهل إلى أصحابه، وأخبرهم بما رأى، وسقط الحجر من يده بعد أن فكوه عنها بجهد، قال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلّي ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتّى نادوه، وأخبرهم بالحال فنزل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (سَدًّا) بفتح السين فيهما، وقرأ الباقون: بالضم (¬1)، وهما لغتان، والسدُّ: ما سدَّ وحال. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} أعميناهم؛ من التغشية. {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} طريقَ الهدى، أو محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حيث أرادوه بالسوء. * * * {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)}. [10] {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} أي: مستوٍ عندهم. {أَأَنْذَرْتَهُمْ} أعلمتهم محذِّرًا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 539)، و"التيسير" للداني (ص: 183)، و"تفسير البغوي" (3/ 633)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 198).

[11]

{أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} هذه مخاطبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وضمنها تسلية له عنهم؛ أي: إنهم قد ختم عليهم بالكفر، فسواء إنذارك وتركه، والألف في قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ألفُ التسوية؛ لأنّها ليست كالاستفهام، بل المستفهم والمستفهم مستويان في علم ذلك. قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر، وقالون عن نافع، ورويس عن يعقوب: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثّانية بين الهمزة والألف، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون: يفصلون بين الهمزتين بألف، وورش: يبدلها ألفًا خالصة، وروي عنه التسهيل بين بين، وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابن ذكوان راوي ابن عامر، وروح راوي يعقوب: بتحقيق الهمزتين من غير فصل بينهما، واختلف عن هشام راوي ابن عامر في الفصل بألف مع تحقيق الهمزتين، واختلف عنه أيضًا في تسهيل الثّانية بين بين وتحقيقها. * * * {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}. [11] {إِنَّمَا تُنْذِرُ} أي: إنّما ينفع إنذارك {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} القرآنَ، وعمل به {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أي: بالخلوات عند (¬1) مغيب الإنسان من عيون البشر. {فَبَشِّرْهُ} وحد الضمير مراعاة للفظ. {بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} هو الجنَّة. ¬

_ (¬1) في "ت": "عن".

[12]

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}. [12] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} عند البعث {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أسلفوا من الأعمال من خير وشر؛ ليجازوا عليه {وَآثَارَهُمْ} ما سَنُّوا من حسنة وسيئة. * * * {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} حفظناه وبيناه. {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} هو اللوح المحفوظ. قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً يُعمل بها من بعده، كان له أجرُها ومثلُ أجر من عمل بها من غير أن ينقصَ من أجورهم شيئًا، ومن سنَّ في الإسلام سُنَّةً سَيِّئة يُعمل بها مِنْ بعده، كان عليه وِزْرُها ووزرُ من عمل بها مِن غير أن يَنْقُصَ من أوزارهم شيئًا" (¬1). * * * {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}. [13] {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي: مَثِّل للمشركين مثلًا من قصة أصحاب القرية، وهي أنطاكية. {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} رسلُ عيسى -عليه السّلام-. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1017) كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (16/ 227): وسواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الّذي ابتدأه، أم كان مسبوقًا إليه.

[14]

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)}. [14] {إِذْ أَرْسَلْنَا} أي: أَرسل عيسى بأمرنا {إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} هما يوحنا ويونس؛ ليدعواهم إلى الإسلام، فقربا منها، فرأيا شيخًا، وهو حبيب النجار، فأخبراه خبرهما، فقال: هل من آية؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص والمريض، فأبرأا خلقًا كثيرًا، فدعاهما الملك، واسمه أنطيخس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، فقال: لم جئتما؟ قالا: ندعوك إلى عبادة الرّحمن، فقال: أَلَنا رَبٌّ سوى آلهتنا؟ قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك، فقال: قُوما حتّى أنظر في أمركما، فذهبا عنه. {فَكَذَّبُوهُمَا} وضربوهما وحبسوهما. {فَعَزَّزْنَا} قرأ أبو بكر عن عاصم: بتخفيف الزاي؛ من عزه: غلبه، فالمفعول محذوف؛ أي: غلبنا أهل المدينة {بِثَالِثٍ} وقرأ الباقون: بتشديدها (¬1)؛ من القوة، والمفعول محذوف أيضًا؛ أي: قوينا المرسلين برسول ثالث، وهو شمعون الصفا رأس الحواريين؛ لأنّ عيسى بعثه بعد الرسولين تقويةً لهما، فتوصل إلى أن أَنِسَ به الملك، فقال له يومًا: سمعتُ إنك حبست رجلين، فهل سمعت ما يقولان؟ قال: لا، فأحضرهما، فقال لهما شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله، قال: صِفاه وأوجزا، قالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فدعا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة، فدعوا الله، فانشق له بصره، فقال شمعون للملك: ادع إلهك ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 539)، و"التيسير" للداني (ص: 183)، و"تفسير البغوي" (3/ 636)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 199).

[15]

حتّى يصنع كذلك، فيكون لك وله الشرف، فقال له: ليس لي دونك سر، إنَّ إلهي لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضر، ثمّ قال لهما شمعون: إنَّ قدر إلهكما على إحياء ميت، آمنا به، فجيء بميت من سبعة أيّام، فدعوا علانية، وشمعون سرًّا، فحيي الغلام فقال: دخلت في سبعة أودية من نار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه، فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السَّماء، فرأيت شابًا يشفع لهؤلاء الثّلاثة، قال الملك: ومن هم؟ قال: شمعون، وهذان، فآمن الملكُ وبعض أصحابه بعد أن أخبره شمعون بالحال، وكفر آخرون. {فَقَالُوا} أي: رسل عيسى. {إِنَّا إِلَيْكُمْ} أي: أهل أنطاكية {مُرْسَلُونَ} (¬1). * * * {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)}. [15] {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} لا مزيةَ لكم علينا. {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} وحوي ورسالة. {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} في دعواكم. * * * {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)}. [16] {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وقوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} جرى مجرى القسم في التوكيد، وكذلك: شهد الله، وعلم الله، ولم يأت باللام ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 634)، و"تفسير القرطبي" (15/ 14).

[17]

في (مرسلين) الأوّل، وأتى بها في الثّاني؛ لأنّ الأوّل ابتداء إخبار، والثّاني جواب إنكار. * * * {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)}. [17] {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} التبليغ الظّاهر الأدلة الواضحة؛ لأنّه لو ادعى إنسان شيئًا، وقال: والله إنِّي لصادق بلا بينة، استُقبح ذلك، ولم يُسمع قولُه. * * * {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)}. [18] فثم {قَالُوا} للرسل: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا} تشاءمنا {بِكُمْ} وذلك أن المطر حُبس عنهم، ثمّ قالوا للرسل: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} عن مقالتكم {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} لنقتلنكم بالحجارة. {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}. * * * {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}. [19] {قَالُوا طَائِرُكُمْ} شؤمكم {مَعَكُمْ} بكفركم، ثمّ أدخل همزة الاستفهام على الشرط توبيخًا لهم، فقال: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} وُعظتم، وجواب الشرط محذوف؛ أي: أئن ذُكِّرتم تطيرتم بنا وكفرتم؟! قرأ أبو جعفر: (أَأَنْ) بفتح الهمزة الثّانية وتسهيلها بين

[20]

بين، ويفصل بين الهمزتين بالف، وقرأ (ذُكِرْتُمْ) بتخفيف الكاف، وقرأ الباقون: بكسرها، وهم في التسهيل والتحقيق والفصل وعدمه على أصولهم كما تقدّم في (أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا) في سورة الشعراء [الآية: 41]، وقرؤوا (ذُكِّرْتُمْ): بتشديد الكاف (¬1). {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} مشركون مجاوزون الحدَّ. * * * {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)}. [20] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} وهو حبيب النجار، وكان قد آمن بالرسل، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة. {يَسْعَى} يشتد عَدْوًا؛ ليعلِمَ الرسلَ بذلك. ثمّ {قَالَ} لقومه: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}. * * * {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)}. [21] {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} على تبليغ الرسالة. {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} إلى خير الدارين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 637)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 369 - 370 و 2/ 353)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 200 - 202).

[22]

{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}. [22] فقالوا: أنت على دينهم، وكان يكتم إيمانه، فقال عاتبًا على نفسه؛ تنبيهًا لهم، وإثباتًا للحجة عليهم: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الموت فيجازيكم. قرأ حمزة، ويعقوب، وخلف: (وَمَا لِي) بإسكان إلياء، والباقون: بفتحها (¬1)، أضاف الفطرة إلى نفسه، والرجوع إليهم؛ لأنّ الفطرة أثر النعمة، وكان عليه أظهر، وفي الرجوع معنى الزجر، وكان بهم أليق. وقرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم. * * * {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)}. [23] {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} استفهام بمعنى الإنكار؛ أي: لا أتخذ من دونه آلهة. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَأَتَّخِذُ) كاختلافهم فيهما من (أَأَنْذَرْتَهُمْ). {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} بسوء {لَا تُغْنِ} لا تدفِع {عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ} أي: شفاعة الأصنام {شَيْئًا} أي: لا شفاعة لها فتغني {وَلَا يُنْقِذُونِ} من مكروه ما. قرأ أبو جعفر: (يُرِدْنِي) بإثبات الياء ساكنة وقفًا، مفتوحة ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 185)، و"تفسير البغوي" (3/ 637)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 356)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 202).

[24]

وصلًا، وافقه يعقوب وقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬1)، وقرأ ورش: (يُنْقِذُونِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬2). * * * {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}. [24] {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} إن عبدت غيره. * * * {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)}. [25] ثمّ أظهر إيمانه بقوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي: أطيعون. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنِّي إِذًا) (إِنِّي آمَنْتُ) بإسكان الياء فيهما، وافقهما ابن كثير في الأوّل، وقرأ يعقوب: (فَاسْمَعُوني) بإثبات الياء (¬3). * * * {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)}. [26] فلما قال ذلك، وثب إليه القوم وثبة رجل واحد، فقتلوه، فمات ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 356)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 202 - 203). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 185)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 356 - 357)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 203). (¬3) المصادر السابقة.

[27]

وهو يقول (¬1): اللَّهُمَّ اهدِ قومي، وقبره بأنطاكية، فلما قتله قومه {قِيلَ} له: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فلما أفضى إلى الجنَّة {قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}. * * * {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}. [27] {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} أي: بالذي غفر لي من الذنوب. {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} ليؤمنوا، أراد بذلك الإشفاق والنصح لهم؛ أي: لو علموا ذلك، لآمنوا بالله تعالى، وفي ذلك قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "نصحَ قومَه حيًّا وميتًا" (¬2)، وقال قتادة: نفعهم على حالة الغضب والرضا، وكذلك المؤمّن لا يكون إِلَّا ناصحًا للناس. * * * {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)}. [28] فلما قُتل حبيب، غضب الله له، وعجل لهم النقمة، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فهلكوا عن آخرهم، فذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} أي: قوم حبيب {مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعد إهلاكهم {مِنْ ¬

_ (¬1) "يقول" ساقطة من "ت". (¬2) ذكره القرطبي في "تفسيره" (15/ 20) عن ابن عبّاس، ورواه ابن مردويه كما قال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" من حديث المغيرة بن شعبة، في قصة عروة بن مسعود.

[29]

جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [أي: إنَّ الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم ينزل لإهلاكهم جند من السَّماء] (¬1). {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} ملائكةً بعد إهلاك هؤلاء لتعذيب أحد، و (ما) في هذين الحرفين نافية. * * * {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)}. [29] ثمّ بين عقوبتهم فقال: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} رُوي أن جبريل أخذ بعضادتي باب المدينة، ثمّ صاح بهم صيحة واحدة {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ميتون، شبهوا بالرماد الّذي خمدت ناره وطفئت. قرأ أبو جعفر: (صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) بالرفع فيهما على أن (كان) تامة، و (صيحةً) فاعل؛ أي: ما وقعت إِلَّا صيحة واحدة، وقرأ الباقون: بالنصب على أن (كان) ناقصة (¬2)؛ أي: ما كانت هي؛ أي: الأخذة، إِلَّا صيحةً واحدة. * * * {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)}. [30] {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} والحسرة: أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرًا، ونصب (حَسْرَةً) منادى، ومعنى النِّداء: احضري، فهذا ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 639)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 353)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 204).

[31]

موضع حضورك، المعنى: يا حسرة من العباد على أنفسهم، وتندمًا وتلهفًا في استهزائهم برسل الله، وعدم إيمانهم بهم، ثمّ بين سبب الحسرة والندامة. فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} تمثيل لفعل قريش. * * * {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)}. [31] {أَلَمْ يَرَوْا} أهل مكّة رؤيةَ البصر {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} وهم أهل كلّ عصر، سُموا بذلك؛ لاقترانهم بالوجود، و (كَمْ) هنا خبرية {أَنَّهُمْ} أي: الماضين {إِلَيْهِمْ} إلى المكبين {لَا يَرْجِعُونَ} أي: من مات لا يعود إلى الدنيا، أفلا يعتبرون؟! * * * {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)}. [32] {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر بخلاف عنه: (لمَّا) بالتشديد، جعلوا (إِنْ) بمعنى الجحد، و (لَمَّا) بمعنى إِلَّا، تقديره: وما كلٌّ إِلَّا جميع، وقرأ الباقون: بالتخفيف (¬1)، جعلوا (إِنْ) للتحقيق، و (ما) صلة، مجازه: وكلٌّ لَجميع لدينا، المعنى: كلّ الخلائق يجتمعون لدينا في الموقف للحساب. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 126)، و"تفسير البغوي" (3/ 639)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 291)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 206).

[33]

{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)}. [33] {وَآيَةٌ لَهُمُ} مبتدأ، وخبره {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} اليابسة. قرأ نافع، وأبو جعفر: (الْمَيِّتَةُ) بتشديد الياء، والباقون: بتخفيفها {أَحْيَيْنَاهَا} بالماء. {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} جنسَ الحب؛ كالحنطة والشعير وما أشبههما. {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} وخص الحب بالذكر؛ لأنّه أكثر المطلوب. * * * {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)}. [34] {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} بساتين {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا} أي: في الأرض {مِنَ الْعُيُونِ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر: (الْعِيُونِ) بكسر العين، والباقون: بضمها (¬1). * * * {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)}. [35] ثمّ علل تفجير العيون فقال: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ثُمُرِهِ) بضم الثاء والميم؛ أي: الأموال الكثيرة ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 364 - 365)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (5/ 206).

[36]

المثمرة من كلّ صنف، جمع ثمار، وقرأ الباقون: بفتحها (¬1)؛ أي: ليأكلوا من الثمر الحاصل بالماء ممّا يخرجه الشجر (¬2). {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (عَمِلَتْ) بغير هاء ضمير، حذفت من صلة الاسم، وهي مرادة، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك، وقرأ الباقون: بالهاء، ووصلها ابن كثير على أصله، وهي في مصاحفهم كذلك (¬3)؛ أي: يأكلون من الّذي عملته أيديهم من الزّرع والغرس، والهاء عائدة إلى (ما) الّتي هي بمعنى الّذي. {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} نِعَمَ الله عليهم؟ * * * {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)}. [36] {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ} الأصناف {كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} من الحبوب والثمار {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} من الذكور والإناث {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} من دوابِّ البرّ البحر. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 105)، و"الكشف" لمكي (1/ 443)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 207). (¬2) في "ت": "الثمر". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 540)، و"التيسير" للداني (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (3/ 640)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 207).

[37]

{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)}. [37] {وَآيَةٌ لَهُمُ} تدلُّ على قدرتنا {اللَّيْلُ نَسْلَخُ} نُزيل ضوءه، ونخرج {مِنْهُ النَّهَارَ} فنجيء بالظلمة؛ لأنّ الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها، فإذا غربت الشّمس، سلخ النهار من اللّيل. {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} داخلون في الظلام. * * * {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}. [38] {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي: موضع تستقر فيه، وهو مغربها لا تجاوزه، ومستقرها تحت العرش، ورد به الحديث عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قرأ أبو جعفر بخلاف عنه: (لِمُسْتَقِرٍّ) بكسر القاف، وقرأ الجمهور: بالفتح (¬2). {ذَلِكَ} السيرُ {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} المحيطِ علمُه بكل معلوم. * * * {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}. [39] {وَالْقَمَرَ} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وروح عن ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (4525) كتاب: التفسير، باب: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}، ومسلم (159)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الّذي لا يقبل فيه الإيمان من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: "مستقرها تحت العرش". (¬2) انظر: "المحتسب" لابن جني (2/ 212)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 208).

[40]

يعقوب: برفع الراء على الابتداء، والباقون: بنصبها (¬1) بفعل يفسره {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} حال؛ أي: قدرنا القمر ذا منازل، وهي ثمانية وعشرون منزلًا، وهي السرطان إلى الرشاء، وهو بطن الحوت، وهي مقسومة على اثني عشر برجًا، وهي الحمل إلى الحوت، فينزل القمر كلّ ليلة منزلًا من منازله، ويسير سيرًا غير متفاوت، ويستسر ليلتين إنَّ كان الشهر ثلاثين، وليلة إنَّ كان تسعًا وعشرين، فإذا قطع منازله، دَقَّ في رأي العين وتقوس {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ} كعذق النخلة {الْقَدِيمِ} لأنّ العذق إذا عتق، دَقَّ وتقوَّسَ واصفرَّ، فشبه القمر به، وتقدم في سورة يونس ذكرُ منازل القمر، والكلام عليه بأتمَّ من هذا. * * * {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}. [40] {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا} أي: لا يصح لها ولا يستقيم. {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أن تجتمع معه فتطمسَ نوره؛ لأنّ فلكها غيرُ فلكه، ولأنّها تقطع فلكها كلّ سنة مرّة، والقمر كلّ شهر مرّة. {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} وإن كان سير القمر أسرعَ من سيرها، فهما يتعاقبان بحساب معلوم، لا يجيء أحدهما قبل وقته، ولا يجتمعان حتّى يبطل الله سبحانه هذا التأليف، ويطلع الشّمس من مغربها، ويجمع بين ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 540)، و"تفسير البغوي" (3/ 641)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 353)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 218).

[41]

الشّمس والقمر، وهو من أشراط السّاعة. {وَكُلٌّ} تنوين عوض من المضاف إليه؛ أي: كلّ واحد من النيرين والنجوم. {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} لأنّ كلّ واحد يجري في فلكه. * * * {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)}. [41] {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: ذرية قوم نوح، والمراد بالذرية: الآباء والأجداد، واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بالألف على الجمع مع كسر التاء؛ لكثرة من حمل معه في السفينة، وقرأ الباقون: (ذُرِّيَّتَهُمْ) بغير ألف على التّوحيد مع فتح التاء إرادة الجنس (¬1). {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} المملوء، والمراد: سفينة نوح -عليه السّلام-، وهؤلاء من نسل من حُمل معه، وكانوا في أصلابهم. * * * {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)}. [42] {وَخَلَقْنَا لَهُمْ} للذرية {مِنْ مِثْلِهِ} أي: في الفلك {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل، وهي سفن البرّ. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (3/ 642)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 273)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 209).

[43]

{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)}. [43] {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} مع إيجاد السفن. {فَلَا صَرِيخَ} لا مُغيثَ {لَهُمْ} إذا وقعوا في الغرق. {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} يخلصون من الغرق. * * * {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)}. [44] {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} نصب على الاستثناء؛ كأنّه قال: إِلَّا أن نرحمهم، وقيل: نصب على المفعول من أجله؛ كأنّه قال: إِلَّا لأجل رحمتنا إياهم. {وَمَتَاعًا} عطف على (رحمةً) وقوله: {إِلَى حِينٍ} يريد: إلى آجالهم المضروبة لهم. * * * {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)}. [45] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أمر الآخرة، فاعملوا لها. {وَمَا خَلْفَكُمْ} من الدنيا، فلا تغتروا بها {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لتكونوا راجين رحمة الله، وجواب (إذا) محذوف، تقديره: إذا قيل لهم، أعرضوا، يدلُّ عليه (مُعْرِضِينَ) بعدُ. * * * {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)}. [46] {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} والآيات: العلامات والدلائل.

[47]

{إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لأنّهم اعتادوا الإعراض، وتمرنوا عليه. * * * {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}. [47] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: لكفار مكّة: {أَنْفِقُوا} على المساكين. {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من الأموال. {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ} أنرزُق {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا ممّا يتمسك به البخلاء، ويقولون: لا نعطي من حرمه الله، وذلك أنّهم كانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأشياء بمشيئة الله، فأخرجوا هذا الجواب مخرجَ الاستهزاء بالمؤمنين، لا اعتقادًا، يوضح ذلك قولهم للمؤمنين: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قولكم لنا: أنفقوا من مالكم. * * * {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)}. [48] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} يوم البعث {إِنْ كُنْتُمْ} خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه {صَادِقِينَ} فيما تقولون. * * *

[49]

{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)}. [49] قال الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ} ما ينتظرون. {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} يعني: النفخة الأولى. اتفق القراء على نصب (صيْحَةً وَاحِدَةً)؛ إذ هو مفعول (يَنْظُرُونَ). {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} قرأ حمزة: (يَخْصِمُونَ) بإسكان الخاء وتخفيف الصاد، كيضربون؛ أي: يخصم بعضُهم بعضًا، وقرأ حفص عن عاصم، والكسائي، ويعقوب، وخلف، وابن ذكوان عن ابن عامر: بكسر الخاء وتشديد الصاد (¬1)، أصله يختصمون، أدغمت التاء في الصاد، فاجتمع ساكنان، فكسرت الخاء لهما، وقرأ أبو بكر عن عاصم بخلاف عنه: بكسر الياء إتباعًا للخاء، وقرأ أبو جعفر: بسكون الخاء وتشديد الصاد، فيجمع بين ساكنين، وقرأ ابن كثير، وورش عن نافع، وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه: بفتح الخاء وكسر الصاد مشددة، أصله: يختصمون أيضًا، نقلت حركة التاء إلى الخاء، ثمّ أدغمت التاء في الصاد؛ لقربها منه، وقرأ أبو عمرو، وقالون عن نافع: باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد، أصله: يختصمون، حذفت فتحة التاء، فاجتمع ساكنان، فحركت الخاء حركة مختلسة؛ لتدل على أن أصل الخاء السكون، ثمّ أدغمت التاء في الصاد، المعنى: يُصاح بهم في النفخة الأولى وهم مشغولون يتبايعون ويتجادلون، فتأخذهم الصيحة وهم غادون. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 541)، و"التيسير" للداني (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (3/ 643)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 354)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 210 - 211).

[50]

{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)}. [50] {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} وصية {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} ينقلبون؛ أي: عجلوا عن الوصيَّة وعن الرجوع إلى أهليهم (¬1). * * * {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)}. [51] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هو قرن، وهي النفخة الأخيرة، وبينهما أربعون سنة، وتقدم ذكر النفخات الثلاث في سورة النمل. {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} القبور {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} يسرعون، وبين النفختين لا يعذبون. * * * {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)}. [52] فإذا رأوا ما ثمّ {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا} تحسرًا على رقدتهم (¬2) بين الرقدتين: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا} أيقظنا (¬3) {مِنْ مَرْقَدِنَا} منامنا الّذي كنا فيه؟ حفص عن عاصم: يسكت يسيرًا على (مَرْقَدِنَا) (¬4). ¬

_ (¬1) في "ت": "إليهم". (¬2) في "ت": "قدرتهم". (¬3) "أيقظنا" زيادة من "ت". (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 142)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 213).

[53]

ثمّ يقول: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} أي: الّذي وعده، وهو من كلام الكفار. {وَصَدَقَ} أي: والذي صدق فيه. {الْمُرْسَلُونَ} وهو الإنذار، أقروا حين لا ينفع الإقرار. * * * {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)}. [53] {إِنْ كَانَتْ} النفخةُ الأخيرة {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} قرأ أبو جعفر: (صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) بالرفع فيهما، والباقون: بالنصب، وتقدم توجيه القراءات في الحرف المتقدم، وهو {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}. {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} للحساب. * * * {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)}. [54] {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} حكاية لما يقال لهم حينئذ. * * * {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)}. [55] {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} عن النّار وأهلها. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: بإسكان الغين، والباقون: بضمها (¬1)، وهما لغتان، مثل: السُّحْت، والسُّحُت. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 541)، و"التيسير" للداني (ص: 184)، =

[56]

{فَاكِهُونَ} منعَّمون. قرأ أبو جعفر: (فَكِهُونَ) بغير ألف بعد الفاء، والباقون: بالألف (¬1)، وهما لغتان؛ مثل: الحاذر، والحذر. * * * {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)}. [56] {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ظُلَلٍ) بضم الظاء من غير ألف، جمع ظلة، وقرأ الباقون: بكسر الظاء وألف، جمع ظِلّ (¬2). {عَلَى الْأَرَائِكِ} جمع أريكة، وهي السرير في الحجلة، وهي ستر كالبيت، ولا تكون أريكة إِلَّا إذا اجتمعا، المعنى: لا تصيبهم الشّمس، وهم في الجنَّة على السرر المرخاة عليها الستور. {مُتَّكِئُونَ} قرأ أبو جعفر: (مُتَّكُونَ) بضم الكاف وسكون الواو بغير همز، والباقون: بكسر الكاف والهمز (¬3). * * * ¬

_ = و"تفسير البغوي" (3/ 644)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 213). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 644)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 354 - 355)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 214). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 184)، و"تفسير البغوي" (3/ 645)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 215). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 366)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 215).

[57]

{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)}. [57] {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} يشتهون. * * * {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}. [58] {سَلَامٌ} أي: ولهم سلام {قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} أي: يقوله الله قولًا، وهو مبالغة في تعظيمهم أن السّلام وقع منه بغير واسطة. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنَا أهلُ الجَنَّة في نعيمهم، إذ سَطَع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ - عز وجل- قد أَشْرَف عليهم من فوقهم، فقال: السَّلامُ عليكم يا أهلَ الجنَّة، فذلك قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا ينقلبون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجبَ عنهم، فيبقى نورُه وبركتُه عليهم في ديارهم" (¬1). * * * {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}. [59] {وَامْتَازُوا} فيه حذف، تقديره: ونقول للكفرة: امتازوا؛ أي: اعتزلوا من أهل الجنَّة {الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} لأنّ العالم في الموقف مختلطون، وهذه معادلة لقوله لأصحاب الجنَّة: {سَلَامٌ}. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (184) باب: فيما أنكرت الجهمية. وإسناده ضعيف، انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (6/ 13).

[60]

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)}. [60] {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} أي: ألم أُوصِكم على لسان رسلي. {يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} إبليس؛ أي: لا تطيعوه في معصية الله. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ظاهرُ العداوة. {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}. [61] {وَأَنِ اعْبُدُونِي} وَحِّدوني {هَذَا} أي: العهد المعهود إليكم. {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} طريق بليغ في الاستقامة. {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}. [62] {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا} خَلْقًا {كَثِيرًا}: قرأ أبو عمرو، وابن عامر: (جُبْلًا) بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام، جمع جبيل، وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، ورويس عن يعقوب: بضم الجيم والباء جميعًا، وتخفيف اللام، وروى روح عن يعقوب كذلك، إلا أنه بتشديد اللام، وقرأ الباقون، وهم نافع، وأبو جعفر، وعاصم: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام (¬1)، جمع جبلة، وكلها لغات معناها واحد. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 542)، و"التيسير" للداني (ص: 184)، =

[63]

{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ما حل بهم فتؤمنون. ... {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)}. [63] فثَمَّ يقال لهم: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} بها. ... {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)}. [64] {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} ذوقوا حرها {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} في الدنيا. ... {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)}. [65] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} نُخرسهم {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} بعملها. {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بما صدر منهم، والمراد: جميع الجوارح؛ لأن كل عضو يعترف بما صدر منه، وفائدة نطق الأعضاء؛ ليعلم أن ما كان عونًا على المعاصي صار شاهدًا، فلا ينبغي لأحد أن يصحب أحدًا إلا لله تعالى؛ لئلا يُفتضح ثَمَّ بسبب صحبته. ¬

_ = و "تفسير البغوي" (3/ 646)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 355)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 217).

[66]

{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)}. [66] {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} محونا آثار عيونهم؛ يعني: قريشًا. {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} فتبادروا إلى الطريق {فَأَنَّى} أي: فكيف {يُبْصِرُونَ} الطريق إلى مقاصدهم؟ أي: لا يبصرون، وكيف إنكار هنا، فيفيد النفي، المعنى: لو شئنا، لختمنا عليهم بالكفر، فلم يهتد منهم أحد أبدًا. {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)}. [67] {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ} قردة وخنازير. {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: مسخًا يثبتهم على مكانهم بحيث يجمدون فيه. قرأ أبو بكر عن عاصم: (مَكَانَاتِهِمْ) بألف بعد النون على الجمع، وقرأ الباقون: بغير ألف على التوحيد (¬1). {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} إلى الدنيا {وَلَا يَرْجِعُونَ} إليها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 542)، و "التيسير" للداني (ص: 107)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 219).

[68]

{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68}. [68] {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} نطيل عمره {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} قرأ عاصم، وحمزة: (نُنَكِّسْهُ) بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددًا، وقرأ الباقون: بفتح النون الأولى وإسكان الثانية، وضم الكاف مخففًا (¬1)، لغتان بمعنى: جعل أعلى الشيء أسفله، المعنى: من يُطل عمره، يرده بعد كمال خلقه وخلقه وعلمه إلى مثل حال صغره. {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} أن القادر على ذلك قادرٌ على البعث، فيؤمنون؟! قرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر: (تَعْقِلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬2). ... {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)}. [69] ولما قال كفار مكة: إن محمدًا شاعر، وما يقوله شعر، أنزل الله تكذيبًا لهم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي: ما يتسهل له عمله، ولا إنشاده موزونًا؛ لنفي الطعن فيه، فأما نحو: "أنا النبيُّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عبدِ المطَّلِبْ" (¬3)، فليس بشعر عند أرباب هذا الشأن، ثم بين الذي علَّمه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 543)، و"التيسير" للداني (ص: 185)، و"تفسير البغوي" (3/ 648)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 220). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 185)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 257)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 221). (¬3) رواه البخاري (2709)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره في الحرب، ومسلم (1776)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في غزوة حنين، =

[70]

{إِنْ هُوَ} أي: المعلَّم، وهو الموحى إليه - صلى الله عليه وسلم -. {إِلَّا ذِكْرٌ} موعظة {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} الأحكام، المعنى: إنما منعناه من عمل الشعر وتعليمه؛ لئلا يتهم. ... {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)}. [70] {لِيُنْذِرَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (لِتُنْذِرَ) بالخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الباقون: بالغيب إخبارًا عن القرآن (¬1) {مَنْ كَانَ حَيًّا} عاقلًا. ¬

_ = من حديث البراء بن عازب. قال ابن حجر -رحمه الله-: قال ابن التين: كان بعض أهل العلم يقوله بفتح الباء من قوله: "لا كَذِبَ" ليخرجه عن الوزن. وقد أجيب عن مقالته صلى الله عليه وسلم هذا الرجزَ بأجوبة أحدها: أنه نظم غيره، وأنه كان فيه: أنت النبي لا كذب .. أنت ابن عبد المطلب، فذكره بلفظ "أنا" ... وذكر رحمه الله أجوبة أقربها للصواب والله أعلم: أنه دلَّ على جواز وقوع الكلام منه صلى الله عليه وسلم منظومًا من غير قصدٍ إلى ذلك، ولا يسمى ذلك شعرًا، وكان قد وقع الكثير من ذلك في القرآن العظيم، منها: {الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} ... {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} {وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} ... إلخ ما ذكر رحمه الله. انظر "الفتح" (8/ 31) و (10/ 542). (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 185)، و "تفسير البغوي" (3/ 649)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 221).

[71]

{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} ويجب العذاب {عَلَى الْكَافِرِينَ} المصِرِّين على الكفر. ... {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)}. [71] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} تولَّينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} متصرفون، لم تُخلق وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها. ... {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)}. [72] {وَذَلَّلْنَاهَا} سخرناها {لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي: ما يركبون. {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} اللحم والوَدَك. ... {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)}. [73] {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} كأصوافها وأوبارها وأشعارها. {وَمَشَارِبُ} من اللبن، جمع مَشْرَب، وهو الشرب. قرأ هشام، وابن ذكوان بخلاف عنهما: (وَمَشَارِبُ) بإمالة فتحة الشين (¬1). {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} المنعمَ عليهم؟! ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 52)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 367)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 222).

[74]

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)}. [74] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} يعبدونها. {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} أي: لعلهم يمنعون من العذاب بشفاعة آلهتهم. ... {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)}. [75] {لَا يَسْتَطِيعُونَ} الآلهةُ {نَصْرَهُمْ} أي: نصر عابديهم. {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} أي: الكفارُ جندٌ للأصنام، يحضرونها في الدنيا، ويغضبون لها، وهي لا تنفعهم. ... {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}. [76] {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} يعني: كفار مكة في تكذيبك. قرأ نافع: {يُحْزِنْكَ} بضم الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي (¬1). {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} من الكفر وتكذيبِك، فنجازيهم عليه. ... {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)}. [77] ونزل في أُبي بن خلف لما أنكر البعث، وأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعظم ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 367)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 222).

[78]

رميم، ففتَّه وقال: يا محمد! أترى يحيي اللهُ هذا بعدما بَلِيَ ورَمَّ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، ويدخلك النار". {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} أي: منيٍّ. {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} شديد الخصومة {مُبِينٌ} بَيِّنُها بعدما كان ماء مهينًا، المعنى: ألم يستدل بخلقه على إمكان البعث؟! ... {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)}. [78] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} بفتِّه العظام. {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} من المني، فهو أغرب من إحياء العظم. {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} بالية، ولم يؤنث (رَمِيم)؛ لأنه معدول من فاعله، وكل ما كان معدولًا عن وجهه ووزنه، كان مصروفًا عن إعرابه؛ كقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] أسقط الهاء لأنها مصروفة عن باغية. وفي الآية حجة في إثبات الحياة في العظم، ونجاسته بالموت، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا تحل الحياة بالعظم، فلا ينجس بالموت، له أن المعنى أنها ترد كما كانت رطبة في بدن حساس. واختلفوا في الآدمي هل ينجس بالموت؟ فقال أبو حنيفة: ينجس، إلا أن المسلم يطهر بالغسل، وتكره الصلاة عليه في المسجد، وعن مالك خلاف، والذي اختاره ابن رشد: الطهارة، وهو الأظهر عند صاحب "المختصر" (¬1)، وأما الصلاة في المسجد، فالمشهور من مذهبه كراهتها ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر خليل" (ص: 10) قال: والنجس ما استثني ما ذكر =

[79]

كقول أبي حنيفة، وعند الشافعي وأحمد: لا ينجس بالموت، ولا تكره الصلاة عليه في المسجد. ... {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}. [79] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يعلم تفاصيل المخلوقات قبل خلقها وبعده. ... {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)}. [80] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ، وللأخرى: العفار، يقطع منهما قضيبان وهما خضراوان، فيسحق المرخ وهو ذكر، على العفار وهو أنثى، فتنقدح النار بإذن الله تعالى. {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} تقدحون، وهذا دليل على القدرة على البعث؛ لأنه تعالى جمع بين الماء والنار والخشب، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تحرق الخشب. ¬

_ = ولو قملة أو آدميًّا، والأظهر طهارته.

[81]

{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)}. [81] ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} مع عظمها على غير مثال سابق {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي: مثل الأناسي في الصغر؛ أي: لا يعجزه شيء. قرأ رويس عن يعقوب: (يَقْدِرُ) بياء مفتوحة وإسكان القاف من غير ألف، وضم الراء على أنه فعل مستقبل مثل يَصْرِف، وقرأ الباقون: بالباء وفتح القاف وألف بعدها وخفض الراء منونة على وزن فاعل (¬1). {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ} الكثير الخلق {الْعَلِيمُ} بجميع ما خلق. ... {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}. [82] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قرأ ابن عامر، والكسائي: (فَيَكُونَ) بالنصب عطفًا على (يَقُولَ)، وقرأ الباقون: بالرفع (¬2)؛ أي: فهو يكونُ، وهذا إشارة إلى سرعة تكوُّن الشيء، وأنه تعالى لا يلحقه نَصَب في إيجاد المعدوم وإعدام الموجود. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 651)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 355)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 222). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 544)، و "التيسير" للداني (ص: 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 223).

[83]

{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}. [83] ثم نزه تعالى نفسه تنزيهًا عامًّا مطلقًا فقال: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ} قرأ رويس عن يعقوب: (بِيَدِهِ) باختلاس كسرة الهاء، والباقون: بإشباعها (¬1) {مَلَكُوتُ} أي: مُلْكُ {كُلِّ شَيْءٍ} وزيدت الواو والتاء للمبالغة، ومعناه: ضبطُ كل شيء، والقدرةُ عليه. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬2)، وهو وعد ووعيد للمقرين والمنكرين. قال - صلى الله عليه وسلم -: "اقرؤوا على موتاكم يس" (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 312)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 223). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 224). (¬3) رواه أبو داود (3121)، كتاب: الجنائز، باب: القراءة عند الميت، والنسائي في "السنن الكبرى" (10913)، وابن ماجه (1488)، باب: ما جاء فيما يقال عند المريض إذا، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 27)، وابن حبان في "صحيحه" (3002). من حديث معقل بن يسار. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 104): أعلَّه ابن القطان بالاضطراب وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث. وقال أحمد في "مسنده": كانت المشيخة يقولون: "إذا قُرئت" يعني "يس" عند الميت خُفِّف عنه بها. اهـ.

سورة الصافات

سُوْرَةُ الصَّافَّاتِ مكية، وآيها: مئة وثمانون وآيتان، وحروفها: ثلاثة آلاف وثماني مئة وستة وعشرون حرفًا، وكلمها ثماني مئة وستون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)}. [1] {وَالصَّافَّاتِ} جمع صافَّة {صَفًّا} مصدر، وكذلك {زَجْرًا} و {ذِكْرًا} بعد؛ يعني: الملائكة صفوفًا في السماء كصفوف الصلاة. ... {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)}. [2] {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} الملائكة تزجر السحاب وتسوقه. ... {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)}. [3] {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} هم الملائكة يتلون ذكر الله، وهذا كله قسم، أقسم الله بها، وليس لغيره ذلك.

[4]

{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)}. [4] وجواب القسم: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} في معناه وذاته وصفاته، وجيء بالفاء لتدل أن القسم مجموع المذكورات، والواو لا تفيده. قرأ أبو عمرو، وحمزة: (وَالصَّافَّات صَّفًا. فَالزَّاجِرَات زَّجْرًا. فَالتَّالِيَات ذِّكْرًا) بإدغام التاء فيما بعدها من غير إشارة، والباقون: بكسر التاء من غير إدغام (¬1). ... {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)}. [5] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} مشارق الشمس ومغاربها، وحذفها لدلالة (مشارق) عليها، وقد قال في سورة المزمل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الآية: 9] أراد به: الجهة، فالمشرق جهة، والمغرب جهة، وقال في سورة الرحمن: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الآية: 17] يعني: مشرقي الصيف والشتاء، ومغربيهما، وقال في سورة المعارج: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [الآية: 40] مشرق كل يوم من السنة، ومغربه. روي أن الله تعالى خلق للشمس ثلاث مئة وستين كوة في المشرق، ومثلها في المغرب، على عدد أيام السنة، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها، وتغرب في كوة منها، لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل، فهي المشارق والمغارب (¬2)، المعنى: هو ربُّ جميع الموجودات. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 546)، و"التيسير" للداني (ص: 185)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 227). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 654)، وذكره القرطبي في "تفسيره" (15/ 63)، =

[6]

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)}. [6] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} قرأ أبو بكر عن عاصم: (بِزِينَةٍ) منونة (الْكَواكِبَ) نصب؛ أي: بتزييننا الكواكبَ، وقرأ حمزة، وخلف (¬1)، وحفص عن عاصم: (بِزِينَةٍ) منونة (الْكَوَاكِبِ) خفضًا بدلًا من (زينةٍ)، وقرأ الباقون: (بِزِينَةٍ) بغير تنوين، وجرّ (الْكَوَاكِبِ) إضافة، المعنى: زينا السماء القريبة إليكم بالكواكب. ... {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)}. [7] {وَحِفْظًا} نصب بمحذوف؛ أي: وحفظناها حفظًا بالشهب. {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} متمرد يُرمون بها. ... {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)}. [8] {لَا يَسَّمَّعُونَ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (يَسَّمَّعُونَ) بتشديد السين والميم؛ أي: لا يستمعون، فأدغمت التاء في السين، وقرأ الباقون: بتخفيفها (¬2)؛ أي: لا يستطيعون الاستماع. {إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} الملائكة؛ لأنهم في السماء. ¬

_ = ورواه أبو الشيخ في "العظمة" (4/ 1163)، عن عكرمة، عن ابن عباس. (¬1) "وخلف" ساقطة من "ت". (¬2) المصادر السابقة.

[9]

{وَيُقْذَفُونَ} يُرمون {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} بالشهب. ... {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)}. [9] {دُحُورًا} إبعادًا، وأصل الدحر: الطرد. {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ وَاصِبٌ} دائم لا ينقطع. ... {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)}. [10] {إِلَّا} استثناء من الجنس، وتقدم حكم الاستثناء من غير الجنس، واستثناء الكل، وغير ذلك من أحكام الاستثناء في سورة الكهف. {مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} اختلس الكلمة من كلام الملائكة مُسارقةً. {فَأَتْبَعَهُ} لحقه {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} كوكب مضيء لا يخطئه، يثقب الجني فيقتله أو يحرقه أو يخبله، وإنما يعودون لاستراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه؛ طمعًا في السلامة ونيل المراد؛ كراكب البحر. ... {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)}. [11] {فَاسْتَفْتِهِمْ} فاستخبرْ كفار مكة توبيخًا، وسلهم سؤال مُحاجَّة. قرأ رويس عن يعقوب: بضم الهاء، والباقون: بكسرها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 272)، "ومعجم القراءات القرآنية" (5/ 230).

[12]

{أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} من الملائكة والسموات والأرضين وما فيهما، وجيء (بمن) تغليبًا للعقلاء، وقيل: أم من خلقنا من الأمم قبلهم، ثم أومأ إلى ضعفهم؛ لأن من خُلق من ضعف فهو ضعيف. فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} لاصق يعلق باليد. ... {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}. [12] {بَلْ عَجِبْتَ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بضم التاء خبرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: قل يا محمد: بل عجبتُ، وقيل: هو خبر عن الله تعالى، والتعجب من الله ليس كالتعجب من الآدميين؛ لأنه من الناس إنكار وتعظيم، ومن الله قد يكون بمعنى الإنكار والذم، وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث: "عجبَ ربُّكم من شابٍّ ليست له صَبْوةٌ" (¬1)، وهي عبارة عما يظهره الله تعالى في جانب المتعجَّب منه من التعظيم أو التحقير، حتى يصير الناس متعجبين منه، وقرأ الباقون: بالفتح خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، المعنى: تعجبت يا محمد من تركهم الإيمان بعد قيام البرهان. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "المسند" (4/ 151) وأبو يعلى في "مسنده" (1749)، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 309) من حديث عقبة بن عامر، وفيه ابن لهيعة. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 270): وإسناده حسن. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 547)، و "التيسير" للداني (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (3/ 655)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 231).

[13]

{وَيَسْخَرُونَ} أي: وهم يسخرون منك ومن تعجبك. ... {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)}. [13] {وَإِذَا ذُكِّرُوا} وُعظوا بالقرآن {لَا يَذْكُرُونَ} لا يتعظون. ... {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)}. [14] {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} تدل على صدقك. {يَسْتَسْخِرُونَ} يبالغون في السخرية والاستهزاء بك. ... {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)}. [15] {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} بَيِّن. ... {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)}. [16] {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي: أنبعث إذا متنا؟ واختلاف القراء في الهمزتين من (أَئِذَا) (أَئِنَّا)، وفي ضم الميم وكسرها من (مِتْنَا) كاختلافهم في ذلك في سورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). ... {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)}. [17] {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} الأقدمون. قرأ أبو جعفر، وابن عامر،

[18]

وقالون: بإسكان الواو، وهي (أو) التي هي للقسمة والتخيير، وقرأ الباقون: بفتح الواو، وهي واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام، واختلف عن ورش، فروي عنه كالأول، إلا أنه ينقل حركة الهمزة بعدها إليها كسائر السواكن، وروي عنه الفتح كالجمهور (¬1)، تلخيصه: ويقولون: أنبعث نحن ويُبعث آباؤنا أيضًا؟! استبعادًا لذلك؛ لأن آباءهم أقدم، فبعثُهم أغرب. ... {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)}. [18] {قُلْ} لهم يا محمد: {نَعَمْ} تُبعثون {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون. قرأ الكسائي: (نَعِمْ) بكسر العين، والباقون: بفتحها (¬2). ... {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)}. [19] وجواب الشرط المقدر {فَإِنَّمَا هِيَ} أي: إذا وجد ذلك، فما نفخة البعث إلا {زَجْرَةٌ} صيحة {وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ} أي: الخلائق أحياء. {يَنْظُرُونَ} ما يُفعل بهم. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 186)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 357)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 232). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص:110)، و"الكشف" لمكي (1/ 462)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 232).

[20]

{وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)}. [20] {وَقَالُوا} يعني: الكافرين ثَمَّ: {يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي: الحساب والجزاء. ... {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)}. [21] ثم تقول الملائكة: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} القضاء بين الخلائق. {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. ... {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)}. [22] ثم يقال للملائكة: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} هم المشركون. {وَأَزْوَاجَهُمْ} أي: أشباههم، فيحشر صاحب الربا والزنا والخمر وغيرهم، كلٌّ مع صاحبه. {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ}. ... {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)}. [23] {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهم الأوثان {فَاهْدُوهُمْ} دلوهم وسوقوهم. {إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} طريق النار.

[24]

{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)}. [24] {وَقِفُوهُمْ} احبسوهم {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} عن جميع أقوالهم وأفعالهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزولُ قدمُ ابنِ آدمَ يومَ القيامة حتى يُسأل عن أربعة: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به" (¬1). ... {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)}. [25] فثَمَّ يقال لهم توبيخًا: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} لا ينصر بعضكم بعضًا كحالكم في الدنيا. قرأ أبو جعفر، والبزي: (لاَ تَّنَاصَرُونَ) بتشديد التاء (¬2). ... {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)}. [26] {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} منقادون أذلاء لا حيلة لهم. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2417)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص، وقال: حسن صحيح، من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 233 - 234)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 369)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 233).

[27]

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)}. [27] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: الأتباع على الرؤساء. {يَتَسَاءَلُونَ} يتخاصمون. ... {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)}. [28] {قَالُوا} أي: الأتباع للرؤساء. {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} عن الجهة التي كنا نأمنكم منها؛ لحلفكم إنكم على الحق، فصدقناكم، فأنتم أضللتمونا. ... {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)}. [29] {قَالُوا} أي: الرؤساء للأتباع: {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} بل لم تكونوا على الحق فنضلكم عنه، إنما الكفر من قِبَلِكم. ... {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)}. [30] {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} من قوة فنقهركم على الكفر. {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} ضالين. **** {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)}. [31] {فَحَقَّ} وجب {عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} بالعذاب، وهو: {لأَمْلأَنَّ

[32]

جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. {إِنَّا لَذَائِقُونَ} جميعًا العذاب. ... {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)}. [32] {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} أضللناكم عن الهدى {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} ضالين. ... {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)}. [33] قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ} أي: التابعون والمتبوعون. {يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} لاشتراكهم في الغواية. ... {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)}. [34] {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} الذين جعلوا لله شركاء. ... {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}. [35] {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} يتكبرون عن كلمة التوحيد. ... {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)}. [36] {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} واختلاف القراء في الهمزتين من (أَئِنَّا) كاختلافهم فيهما من (أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا) في سورة

[37]

الشعراء [الآية: 41]، وكذلك (أَئِنَّكَ) (أَئِفْكًا)، المعنى: أنترك عبادة الأصنام لقول محمد؛ لأنهم وصفوه بالشعر والجنون. ... {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)}. [37] فرد الله تعالى عليهم بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أي: أتى بما أتى به المرسلون قبله. ... {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)}. [38] {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} الوجيع بإشراككم. ... {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}. [39] {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الشرك. ... {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)}. [40] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ} أي: لكن عباد الله {الْمُخْلَصِينَ} على الاستثناء المنقطع. قرأ الكوفيون، ونافع، وأبو جعفر: (الْمُخْلَصينَ) حيث وقع بفتح اللام؛ أي: المختارين، وقرأ الباقون: بكسرها (¬1)؛ أي: المخلِصين لله الطاعة. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 128)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 295)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 234).

[41]

{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)}. [41] {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} هو طعامهم في الجنة بكرة وعشيًّا. ... {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)}. [42] {فَوَاكِهُ} جمع فاكهة، وهي ما يؤكل تلذذًا، لا للقوت؛ لأن أهل الجنة مستغنون عن حفظ الصحة بالغذاء؛ لأن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد، وكانت أرزاقهم فواكه خالصة {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} بثواب الله. ... {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)}. [43] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي: في جنات ليس فيها إلا النعيم. ... {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)}. [44] {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض؛ لدوران الأسِرَّة بهم. ... {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)}. [45] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ} هو الإناء بشرابه، فإن لم يكن فيه شراب، فهو إناء. {مِنْ مَعِينٍ} أي: من خمر يجري كالماء.

[46]

{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)}. [46] {بَيْضَاءَ} أي: اللون {لَذَّةٍ} عذبة طيبة {لِلشَّارِبِينَ} قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (لِلشَّارِبِينَ) بالإمالة (¬1). ... {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)}. [47] {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أي: لا تُذهب عقولهم {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بكسر الزاي؛ أي: لا تفنى خمورهم، وقرأ الباقون: بالفتح (¬2)؛ أي: لا تزال عقولهم. ... {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)}. [48] {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} لا ينظرن إلى غير أزواجهن؛ لحسنهم عندهن {عِينٌ} حِسان الأعين. ... {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)}. [49] {كَأَنَّهُنَّ} أي: القاصرات {بَيْضٌ} للنعام. {مَكْنُونٌ} مصون يستره النعام بريشه، فلا يصل إليه غبار. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 547)، و"التيسير" للداني (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (3/ 659)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 235). (¬2) المصادر السابقة.

[50]

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)}. [50] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} يعني: أهل الجنة فيها عما كانوا عليه، وما وصلوا إليه. ... {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)}. [51] {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} صاحب في الدنيا ينكر البعث. ... {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)}. [52] {يَقُولُ} أي: في الدنيا هزؤًا: {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بالبعث؟ وتقدم التنبيه على اختلاف القراء في الهمزتين من (أَئِنَّكَ). ... {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)}. [53] {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} محاسَبون مجزيون، وتقدم التنبيه أيضًا على اختلاف القراء في (أَئِذَا مِتْنَا أَئِنَّا) في الآية السابقة، وهذا استفهام إنكار. ... {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)}. [54] {قَالَ} الله -عز وجل- لأهل الجنة: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} إلى النار؟ فإن في الجنة كوًى تنظر إلى النار، المعنى: أتحبون الاطلاع في النار، فتنظروا أهلكم ومنازلكم فيها لو لم تؤمنوا؟

[55]

{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)}. [55] {فَاطَّلَعَ} فنظر هذا المؤمن {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} أي: رأى قرينه في وسط النار، وسُمي وسطُ الشيء سواء؛ لاستواء الجوانب منه. وتقدم اختلاف القراء في الفتح والإمالة من (رَآهُ) في سورة الأنبياء عند تفسير قوله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الآية: 36]. ... {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)}. [56] فلما رأى قرينه فيها {قَالَ} متشمتًا به: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} أي: والله لقد قاربت أن تهلكني. قرأ ورش عن نافع: (لَتُرْدِينِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (¬1). ... {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}. [57] {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} علي بالإيمان. {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معك في النار. ... {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)}. [58] وعند ذبح الموت استفهمَ أهل الجنة استفهام تحدث بنعم الله ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 187)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 361)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 237 - 238).

[59]

تعالى وتلذذ، لا استفهام شك، فقالوا: {أَفَمَا} الفاء عاطفة على محذوف تقديره: أنحن منعمون مخلدون، فما {نَحْنُ بِمَيِّتِينَ}. ... {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)}. [59] {إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} في الدنيا، نصب استثناء منقطع. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالكفار. ... {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)}. [60] {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وهذا من كلامهم على جهة الحديث بنعمة الله عليهم أنهم لا يموتون ولا يعذبون. ... {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)}. [61] فثم يقول الله تعالى لأهل الجنة تطييبًا لقلوبهم: {لِمِثْلِ هَذَا} الخلود والتنعيم {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} أي: لمثلِ (¬1) هذا يجب أن يعمل العاملون، لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام. ... {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}. [62] {أَذَلِكَ} الذي ذكر لأهل الجنة {خَيْرٌ نُزُلًا} نصب تمييز، ¬

_ (¬1) في "ت": "لنيل مثل".

[63]

والنزل: ما يعد للنازل كضيف وغيره، ومنه أنزال الأجناد لأرزاقهم. {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} المعدة لأهل النار، والألف من قوله: {أَذَلِكَ} للتقرير، والمراد: تقرير قريش والكفار، وجاء بلفظ التفضيل بين شيئين؛ لاشتراك بينهما من حيث كان الكلام تقريرًا، والاحتجاج يقتضي أن يوقف المتكلم خصمه على قسمين، أحدهما فاسد، ويحمله بالتقرير على اختيار أحدهما، ولو كان الكلام خبرًا، لم يجز، ولا أفاد أن يقال: الجنة خير من شجرة الزقوم، والزقوم ثمرةُ شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم يُكره أهلُ النار على تناوله، فهم يتزقمونه على أشد كراهية، ومنه قولهم: تزقَّمَ الطعامَ: إذا تناوله على كره ومشقة. قال ابن عطية: وفي بعض البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرة مرة مسمومة لها لبن إن مس جسم أحد، تورم ومات منه في أغلب الأمر، تسمى: شجرة الزقوم (¬1). ... {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)}. [63] {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً} محنة. {لِلظَّالِمِينَ} لأن الكفار لما ذكر أن الزقوم ينبت في النار، افتتنوا وكذبوا، وقالوا: النار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟! ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (4/ 475).

[64]

{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)}. [64] وروي أن ابنَ الزِّبَعرى قال: إن محمدًا يخوفكم الزقوم، وهو بلغة بربر: الزُّبْد والتمر، فأطعمهم ذلك أبو جهل، وقال: هذا ما يتوعدكم به محمد (¬1)، فقال تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} نابتة، فأصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها، من النار خلقت، وبها عذبت. ... {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)}. [65] {طَلْعُهَا} ثمرها {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} الحيات. ... {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)}. [66] {فَإِنَّهُمْ} أي: الكفار {لَآكِلُونَ مِنْهَا} مع قبحها؛ لشدة جوعهم. {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} بحيث لا يحتمل الزيادة عليه. ... {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)}. [67] {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} لخلطًا. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 374)، وأبو يعلى في "مسنده" (2720)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه، وانظر "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 96).

[68]

{مِنْ حَمِيمٍ} من ماء حار، قد بلغ نهاية الحر، المعنى: أنهم يشربون الماء الحار على الزقوم مختلطًا في أجوافهم، فيصير شوبًا لهم. ... {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)}. [68] {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} فالحميم خارج الجحيم، فإذا أكلوا الزقوم، سيقوا إلى الحميم فشربوه مع نكارته، ثم يردون إلى الجحيم. ... {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)}. [69] {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا} وجدوا {آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ}. ... {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)}. [70] {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ} متبعين بسنتهم {يُهْرَعُونَ} يسرعون. ... {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)}. [71] {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} من الأمم الخالية. ... {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)}. [72] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} أنبياء أنذروهم.

[73]

{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}. [73] {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} من الشدة والفظاعة. ... {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}. [74] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الموحدين نجوا من العذاب. وتقدم اختلاف القراء في (الْمُخْلَصِينَ) [الآية: 40]، وتوجبه قراءاتهم في الحرف السابق، والخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمقصود: خطاب قومه؛ فإنهم أيضًا سمعوا أخبارهم، ورأوا آثارهم. ... {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)}. [75] {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} دعانا مستنصِرًا على قومه، واللام بعد جواب قسم محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: والله لقد نادانا نوح. {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} أي: فأجبناه أحسن الإجابة، فو اللهِ نعم المجيبون نحن، أهلكنا قومه. ... {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}. [76] {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} الذي لحق قومه، وهو الغرق.

[77]

{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)}. [77] {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} مدة الدنيا؛ لأن الناس كلهم من نسله، وكان له ثلاثة أولاد: حام وسام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج. ... {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)}. [78] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي: أبقينا عليه ثناءً حسنًا فيمن بعده من الأنبياء. ... {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)}. [79] {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} أي: جعلنا هذا اللفظ يقال بعده. {فِي الْعَالَمِينَ} إلى يوم القيامة من الأنبياء (¬1)؛ لكرامته علينا. ... {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)}. [80] {إِنَّا كَذَلِكَ} أي: جزاءً كفعلنا بنوح. {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم. ¬

_ (¬1) "من الأنبياء" ساقطة من "ت".

[81]

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)}. [81] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تعليل لإحسانه بالإيمان. ... {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)}. [82] {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} من الكافرين. ... {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)}. [83] {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} أهل سنته وأتباعه على أصل الدين، وإن اختلفت الشرائع {لَإِبْرَاهِيمَ} وإن طال الزمان بينهما، وروي أن بينهما ألفين وست مئة وأربعين سنة (¬1)، وقيل غير ذلك، بما في شيعته من معنى المشايعة. ... {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)}. [84] {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشرك، والمجيء هنا بمعنى: الإخلاص والإقبال على الطاعة. ... {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)}. [85] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} موبخًا {مَاذَا تَعْبُدُونَ}؟! ¬

_ (¬1) ذكره الزمخشري في "الكشاف" (4/ 50)، والقرطبي في "تفسيره" (15/ 91).

[86]

{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)}. [86] {أَئِفْكًا} استفهام بمعنى التقرير، وتبدل منه. {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} أي: أتأفكون إفكًا وهو أسوأ الكذب، وتعبدون آلهة سوى الله؟! وتقدم التنبيه على اختلاف القراء في الهمزتين من قوله: (أَئِفْكًا). ... {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)}. [87] {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إذا لقيتموه أن يصنع بكم؟ ... {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)}. [88] وكان قومه نجَّامين، فخرجوا إلى عيدٍ لهم، وتركوا طعامهم عند أصنامهم زعموا التبرك عليه، فإذا رجعوا أكلوه، وقالوا له: اخرج معنا. {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} في ذاتها، أراهم بأنه استدل بها على أنه مشارف للسقم؛ لئلا يخرجوه معهم. ... {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}. [89] {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} أي: مطعون، وكانوا يفرون من الطاعون.

[90]

{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)}. [90] {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} إلى عيدهم. ... {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)}. [91] {فَرَاغَ} أي: مال في خفاء {إِلَى آلِهَتِهِمْ} بزعمهم، وهي الأصنام، وبين أيديهم الطعام {فَقَالَ} استهزاءً بهم: {أَلَا تَأْكُلُونَ} فلم ينطقوا. ... {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)}. [92] فقال: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} فلم تجب. ... {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)}. [93] {فَرَاغَ} مال {عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} أي: كان يضربهم بيده اليمنى؛ لأنها أقوى على العمل من الشمال، فتسمعوا ذلك. ... {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)}. [94] {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} يسرعون في المشي مع تقارب الخطا. قرأ حمزة: (يُزِفُّونَ) بضم الياء؛ أي: يحملون غيرهم على الإسراع، وقرأ

[95]

الباقون: بنصب الياء (¬1)؛ أي: يسرعون هم. ... {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)}. [95] وكان بعض قد رآه يكسرها، وبعض لم يره، فأقبل من رآه مسرعًا نحوه، ثم جاء من لم يره يكسرها (¬2)، فقال لمن رآه: من فعل هذا بآلهتنا؟ ثم قالوا له أجمعون: نحن نعبدها، وأنت تكسرها؟! فثم {قَالَ} موبخًا على وجه الحِجاج: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} من الحجارة وغيرها أصنامًا؟ ... {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}. [96] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} من نحتكم ومنحوتكم، فاعبدوه وحده، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. ... {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)}. [97] فثم {قَالُوا} بينهم: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} فاملؤوه حطبًا، وأضرموه بالنار، فإذا التهب {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} النار الشديدة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 548)، و"التيسير" للداني (ص: 186)، و"تفسير البغوي" (3/ 664)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 240 - 241). (¬2) "يكسرها" زيادة من "ت".

[98]

{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}. [98] {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} شرًّا؛ بإلقائه (¬1) في النار. {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} المقهورين، وتقدم ذكر القصة في سورة الأنبياء. ... {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)}. [99] {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [أي: حيث أمرني، فهاجر إلى الشام] (¬2) {سَيَهْدِينِ} إلى ما فيه صلاح ديني. قرأ يعقوب: (سَيَهْدِينِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬3). ... {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)}. [100] فلما قدم الأرض المقدسة، سأل ربه الولد، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} بعض الصالحين يُعينني على الدعوة والطاعة، ويؤنسني في الغربة. ... {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)}. [101] {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} في كبره، عليم في صغره، ففيه بشارة ¬

_ (¬1) في "ت": "في إلقائه". (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 361)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 441).

[102]

أنه ابن، وأنه يعيش وينتهي في السن حتى يوصف بالحلم. ... {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}. [102] {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} يعني: المشي معه في الجبل، وكان له ثلاث عشرة سنة، أو سبع {قَالَ يَابُنَيَّ} قرأ حفص عن عاصم: (يَا بُنَيَّ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها (¬1). {إِنِّي أَرَى} أي: رأيت {فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} من الرأي. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ أَرَى) (أنِّيَ أَذْبَحُكَ) بنصب الياء فيهما، والباقون: بإسكانها (¬2)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (مَاذَا تُرِي) بضم التاء وكسر الراء كسرة خالصة بعدها ياء؛ أي: ماذا تُريناه من رأيك، أتجزع أم تصبر؟ وقرأ الباقون: بفتح التاء والراء، وأبو عمرو: يميل فتحة الراء، وورش: بين بين على أصلهما، والباقون: بإخلاص فتحها (¬3)، وليس كرأي العين على القراءتين، وإنما ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 127)، و "الكشف" لمكي (1/ 529)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 241). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 550)، و"التيسير" للداني (ص: 187)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 242). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 548)، و"التيسير" للداني (ص: 186 - 187)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 369 - 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 242).

شاور ولده؛ ليعلم صبره، لا ليصبره، وشاوره ليأنس بالذبح؛ فإن صدور العظيم بغتة عظيم، وليحصل له الأجر بانقياده لطاعة الله وطاعة والده. {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} به {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} على ذلك، ومن أسند المشيئة إلى الله تعالى، والتجأ إليه، لم يعطب. قرأ أبو جعفر، وابن عامر: (يَا أَبَتَ) بفتح التاء، ووقفا: (يَا أَبَهْ) بالهاء، وافقهما في الوقف ابن كثير، ويعقوب (¬1)، وقرأ نافع، وأبو جعفر: (سَتَجِدُنِيَ) بفتح الياء: والباقون: بإسكانه (¬2). والذبيح (¬3) هو إسماعيل -عليه السلام- على قول الجمهور، وهو الراجح؛ بدليل أن ذكر البشارة بإسحاق -عليه السلام- بعد الفراغ من قصة المذبوح، فقال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} فدل على أن المذبوح غيره، وأيضًا فإن الله تعالى قال في سورة هود: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [الآية: 71] فلما بشره بإسحاق، بشره بابنه يعقوب، فكيف يأمره بذبح إسحاق، وقد وعد له بنافلة منه، وهو قول العباس بن ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 127)، و"الكشف" لمكي (2/ 3)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: "37)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 243). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 550)، و"التيسير" للداني (ص: 187)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 243). (¬3) جاء على هامش "ت": "والقصة بحذافيرها تذكر في أكثر التفاسير والسير والقصص والتواريخ وشبهها، مع ما فيه من الكلام، وقد ذكرنا بعضها بتوفيق العزيز العلام".

عبد المطلب، وابنه، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، والشعبي, والحسن البصري، ومجاهد، وغيرهم (¬1). وروي عن معاوية أنه ذكر عنده: هل الذبيح إسماعيل أو إسحاق؟ قال: على الخبير سقطتم، كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل فقال له: يا ابن الذبيحين! فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لمعاوية: يا أمير المؤمنين! وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما حفر زمزم، نذر لئن سهل الله له أمرها، ليذبحن أحد أولاده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، فقالوا له: افد ابنك بمئة من الإبل، ففداه، والثاني إسماعيل عليه السلام (¬2). وعن بعض علماء اليهود ممن أسلم وحسن إسلامه: أن علماء اليهود يعلمون أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدون العرب أن يكون أبًا لهم (¬3). وعند أهل الكتابين (¬4) أن الذبيح إسحاق، وهو قول عمر، وعلي، ¬

_ (¬1) "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 108) وما بعد. (¬2) ابن جرير الطبري في "تفسيره" (21/ 85)، والحاكم في "المستدرك" (4036). قال الذهبي في "مختصره": وإسناده واه. وانظر: "تخريج أحاديث الكاشف للزيلعي" (3/ 178). (¬3) البغوي في "تفسيره" (3/ 666)، والزمخشري في الكشاف (5/ 480)، ورواه ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن كعب، كما في "الدر المنثور" (8/ 344). (¬4) جاء على هامش "ت": "حكاه القرطبي وغيره عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله".

وابن مسعود، وكعب، ومقاتل، وقتادة، وعكرمة، والسدي، وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا} أمر بذبح مَنْ بُشر به، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحق، وهو قوله تعالى في سورة هود: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [الآية: 71]، وكلا القولين يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي أنه لما بُشر بالولد، قال: هو بإذن الله ذبيح. {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} قيل له: أوف بنذرك، فقال لولده: انطلق نقربْ قربانًا لله - عز وجل -، وأخذ سكينًا وحبلًا، فانطلق معه حتى ذهب بين الجبال، فقال: يا أبت! أين قربانك؟ {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، فمن قال: إن الذبيح إسماعيل، فيقول: إن الذبح كان بمكة، ومن الدليل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج. قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ متى كان إسحق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه (¬1). وعن ابن عباس قال: "الذبيح إنه إسماعيل، وتزعم اليهود أنه إسحق، وكذبت اليهود" (¬2). ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" (3/ 666). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (21/ 83)، والحاكم في "المستدرك" (4037).

ومن زعم أن إسحق هو الذبيح، فيقول: كان موضع الذبح بالشام على ميلين من إيلياء، وهي بيت المقدس، وزعمت اليهود أنه كان على صخرة بيت المقدس، فأراد الشيطان فتنتهم، فجاء أم الغلام على صورة رجل، فقال: تدرين أين ذهب بابنك؟ قالت: ذهب به يحتطب، قال: لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت: كلا، هو أرحم به، وأشد حبًّا له من ذلك، قال: زعم أن الله أمره بذلك، قالت: فإن أمره بذلك، فقد أحسن أن يطيع ربه، فأتى الابنَ فقال: تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: يحتطب، قال: لا والله ما يريد إلا ذبحك، قال: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قال: فليفعل ما أمره به، فسمعًا وطاعة، ثم جاء الأبَ فقال: أين تريد؟ فقال: هذا الشعب لحاجة، قال: أرى الشيطان قد جاءك منامًا، فأمرك بذبح ابنك هذا، فعرفه، فقال: إليك عني يا عدو الله، فوالله لأمضين لأمر ربي، فرجع إبليس بغيظه، لم يصب من إبراهيم وأهله شيئًا مما أراد. وروي أن إبليس عرض لإبراهيم بهذا المشعر، فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم -عليه السلام- لأمر الله تعالى، ومنه شُرع رمي الجمار في الحج، وهو من واجبات الحج، يجب بتركه الفدية باتفاق الأئمة. ولما عزما على الذبح، قال: يا أبتاه! اشدد وثاقي لئلا أضطرب، واجمع عليك ثيابك لئلا يصيبها دمي، واستحد شفرتك، وأسرع مَرَّها على حلقي، فهو أهون علي، وسلم على أمي، واردد عليها قميصي؛ فهو أسلى لها، فقال:

[103]

نعم العون أنت يا بني على أمر الله تعالى، ففعل ما أمر به ابنه، وقبله بين عينيه وقد ربطه وهو يبكي. ... {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)}. [103] {فَلَمَّا أَسْلَمَا} استسلما وانقادا لأمر الله {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعه على جانب الجبهة، وكان ذلك بمنى عند الصخرة، ثم أوثقه، ووضع السكين على حلقه، فانقلبت السكين مرارًا، ولم تعمل شيئًا بقدرة الله سبحانه، فقال: أكبني لوجهي لئلا ترحمني إذا نظرته، ولئلا أجزع من الشفرة، ففعل ووضع الشفرة على قفاه، فانقلبت، فقال: اطعن بها طعنًا، فطعنه فانثنت (¬1)، وجواب (فلما) محذوف؛ أي: فلما أسلما وتله. ... {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104)}. [104] {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ}. ... {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)}. [105] {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أي: عملت بما أُمرت أجزل أجرهما، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 667 - 668)، ورواه الطبري في "تفسيره" (21/ 78) عن ابن عباس.

[106]

ونحو هذا مما يقتضيه المعنى، قرأ الكسائي, وخلف: (الرُّؤْيَا) بالإمالة (¬1). {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليل لإفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما. ... {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)}. [106] {إِنَّ هَذَا} الذبح {لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} الاختبار الظاهر. ... {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}. [107] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} هو كبش رعى في الجنة أربعين خريفًا (¬2)، روي أنه الذي قربه قابيل ابن آدم، فنظر إبراهيم، فإذا هو بجبريل -عليه السلام- معه كبش أملح أقرن، فقال: هذا فداء ابنك فاذبحه دونه، فكبر جبريل -عليه السلام-، وكبر الكبش، وكبر إبراهيم، وكبر ابنه -عليهما السلام- (¬3)، فأخذ إبراهيم الكبش، وأتى به المنحر من منى، فلما ذبحه، قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 244). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 669)، ورواه الطبري في "تفسيره" (21/ 88) عن سعيد بن جبير. وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 113). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 669).

[108]

إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقي سنة، وتقدم في سورة البقرة [الآية: 185] وقت التكبير للعيدين، واختلاف الأئمة في صفته. ... {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)}. [108] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ثناء حسنًا. ... {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)}. [109] {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}. ... {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)}. [110] {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. ... {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)}. [111] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تقدم تفسيره في قصة نوح. قال البيضاوى: لعله طرح عنه (إنا) اكتفاء بذكره مرة في هذه القصة (¬1). ... {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)}. [112] {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} حال مقدرة من إسحاق؛ أي: يوجد نبيًّا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البيضاوي" (5/ 23).

[113]

{مِنَ الصَّالِحِينَ} فمن جعل الذبيح إسماعيل، قال: بشر بعد هذه القصة بإسحاق نبيًّا جزاء الطاعة، ومن جعل الذبيح إسحاق، قال: بشر بنبوة إسحاق، رواه عكرمة عن ابن عباس قال: "بشر به مرتين: حين ولد، وحين نبئ" (¬1). ... {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}. [113] {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} يعني: إبراهيم في أولاده {وَعَلَى إِسْحَاقَ} بكون أكثر الأنبياء من نسله. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} مؤمن {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} كافر {مُبِينٌ} ظاهر. ... {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)}. [114] {وَلَقَدْ مَنَنَّا} أنعمنا {عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} بالنبوة. ... {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)}. [115] {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} بني إسرائيل. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3224)، والحاكم في "المستدرك" (4044). وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 670).

[116]

{مِنَ الْكَرْبِ} أي: من الغم {الْعَظِيمِ} وهو استرقاق فرعون. ... {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)}. [116] {وَنَصَرْنَاهُمْ} يعني: موسى وهارون وقومهما. {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} على القبط. ... {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)}. [117] {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} البليغ في بيان الحدود والأحكام، وهو التوراة. {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)}. [118] {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الطريق الموصل إلى الحق. ... {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119)}. [119] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ}. ... {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)}. [120] {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}.

[121]

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)}. [121] {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. ... {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)}. [122] {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تقدم تفسير نظيره. ... {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)}. [123] {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. ... {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)}. [124] {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (وَإِنَّ الْيَاسَ) بوصل همزة (الْيَاسَ)، وقرأ الباقون: بقطع الهمزة مكسورة (¬1). وإلياس من أنبياء بني إسرائيل، قال ابن عباس: "هو ابن عم اليسع"، وقال محمد بن إسحاق: هو ابن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 548)، و"التيسير" للداني (ص: 187)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 359 - 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 245). (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" (8/ 158).

[125]

روي أن سبطًا من أسباط بني إسرائيل كانوا ببعلبك ونواحيها، وعليهم ملك اسمه آجب قد أضل قومه، وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنمًا من ذهب يقال له: بعل، طوله عشرون ذراعًا، فبعث الله إليهم إلياس نبيًّا، فدعاهم إلى الله -عز وجل-، فلم يسمعوا منه شيئًا، إلا الملك؛ فإنه آمن، وبعلبك مدينة معروفة بالشام، وكان اسمها بك، وبعل هو اسم الصنم، وهو بلغة اليمن الرب، فنسبت المدينة إليه، وسميت بعلبك، وكانت امرأة الملك غير محصنة، قتالة للأنبياء والصالحين، واسمها أزبيل، فقتلت جارها، وكان رجلًا صالحًا اسمه مزدكي، وأخذت بستانه، فغضب الله تعالى له، فبعث إليه إلياس، وقال: قل له لتردن بستانه على ورثته، وإلا لتهلكن، فقال إلياس لقومه: ألا تتقون الله، وتردون البستان، وتذرون عبادة الأوثان! ... {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)}. [125] ثم وبخهم على ذلك فقال: {أَتَدْعُونَ} تعبدون. {بَعْلًا} اسم الصنم {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} وتتركون عبادته. ... {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)}. [126] {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} قرأ يعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ) بنصب الأسماء الثلاثة، فنصب اسم (الله) بدل من (أَحْسَنَ) (رَبَّكُمْ) نعته، وتعطف

[127]

عليه (وَرَبَّ آبَائِكُم)، وقرأ الباقون: برفع الأسماء الثلاثة (اللَّهُ) مبتدأ، (ربَّكُمْ) خبره، (وَرَبُّ آبَائِكُمْ) عطف عليه (¬1). {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)}. [127] {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} مجموعون للعذاب. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)}. [128] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} فإنهم نجوا من العذاب، وتقدم اختلاف القراء في (الْمُخْلَصِين) [الآية: 40]، فلما سمع الملك كلامه، غضب غضبًا شديدًا، وعاد إلى الكفر وعبادة بعل، وهمَّ بقتل إلياس، فلحق بالجبال متعبدًا، ثم دعا الله تعالى أن يريحه منهم، فأهلك الله الملك وقومه وزوجته، ورفع الله إلياسَ إلى السماء، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش، فكان إنسيًّا ملكيًّا، أرضيًّا سماويًّا. وروي أن إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، ويوافيان الموسم كل عام. وروي أن إلياس موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 549)، و"التيسير" للداني (ص: 187)، و"تفسير البغوي" (3/ 677)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 246). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (9/ 210) عن الحسن. وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 676). وهذا الخبر هو من أخبار بني إسرائيل، ومرجعه إلى =

[129]

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)}. [129] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}. ... {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)}. [130] {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} قرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب: (آلِ يَاسِينَ) بفتح الهمزة والمد، وقطع اللام من الياء وحدها مع كسرها؛ مثل: (آلِ يَعْقُوبَ)، وكذا رسمت في جميع (¬1) المصاحف، المعنى: أنه سلم على آل هذا النبي، فتكون على هذه القراءة كلمتين، فيجوز قطعها وقفًا، وقيل: المراد: آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال البغوي (¬2): وهذا القول بعيد؛ لأنه لم يُسْبَق له ذكر، قال البيضاوي: لا يناسب نظم سائر القصص (¬3)؛ فإن المذكور في سائر القصص هو السلام على الأنبياء؛ نحو: سلام على موسى وهارون، وسلام على نوح، فأضيف الآل إليه، وقرأ الباقون: بكسر الهمزة وقصرها، وإسكان اللام بعدها، ووصلها بالياء كلمة واحدة في ¬

_ = مسلمة أهل الكتاب، ومن تتبع الروايات التي تذكر الخضر وإلياس، يجد اضطرابًا شديدًا وتضاربًا وتناقضًا عجيبًا، فمثلًا يرى رواية تقول: "إن الله أوحى إلى إلياس: إني قد جعلت أرزاقهم بيدك" وفي هذه الرواية "موكل بالبحار"!!، وهكذا الباطل يكون مضطربًا لجلجًا، وأما الحق فهو ثابت أبلج. انظر: "الإسرائيليات" للشيخ أبي شهبة (ص: 261 - 264). (¬1) في "ت": "بعض". (¬2) في "تفسيره" (3/ 677). (¬3) انظر: "تفسير البيضاوي" (5/ 26).

[131]

الحالين (¬1)، وإن انفصلت رسمًا، فعلى قراءة هؤلاء [لا يجوز قطعها والوقف على اللام؛ لكونها من نفس الكلمة اتفاقًا، وتكون هذه الكلمة على قراءة هؤلاء] (¬2) قطعت رسمًا، واتصلت لفظًا، ولا يجوز اتباع الرسم فيها وقفًا إجماعًا، ولم يقع لهذه الكلمة نظير في القراءة، [والمعنى على هذه القراءة: السلام على هذا النبي، وعلى من وسم باسمه، أو عليه وعلى] (¬3) أهل دينه، وجمعوا معه؛ كقولهم للمهلب وقومه: المهلبون، وكان إلياس قبل زكريا عليه السلام. ... {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)}. [131] {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. ... {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}. [132] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تقدم تفسيره. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 187)، و"تفسير البغوي" (3/ 677)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 246 - 247). (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬3) ما بين معكوفتين سقط من "ت".

[133]

{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)}. [133] {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} هو لوط ابن أخي إبراهيم عليهما السلام. ... {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)}. [134] {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}. ... {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)}. [135] {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب، وهي امرأته، وكانت كافرة، وكان نكاح الوثنيات والإقامة عليهن جائزًا، والغابرون: الباقون، ومعناه هنا: بقيت في الهلاك. ... {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)}. [136] {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} والتدمير: الإهلاك، وتقدم ذكر قصته في هود، والحجر. ... {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)}. [137] ثم خاطب تعالى قريشًا، وهو على معنى: قل لهم يا محمد: {وَإِنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} أي: آثار قوم لوط إذا سافرتم {مُصْبِحِينَ} وقت الصباح.

[138]

{وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)}. [138] {وَبِاللَّيْلِ} أي: وبالنهار. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بما حل بمن تقدمكم، فتعتبرون بهم؟! ... {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)}. [139] {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} من جملة من أرسله الله عز وجل. ... {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)}. [140] {إِذْ أَبَقَ} هرب، وعبر عن هروبه بالإباق؛ من حيث هو عبد الله فَرَّ عن غير إذن من مولاه، فهذا حقيقة الإباق، روي أنه كان في سيرتهم أن يقتلوا الكذاب إذا لم تقم له بينة، فخاف يونس، وغضب مع ذلك، فأبق {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} السفينة المملوءة؛ لأن يونس لما لم ينزل العذاب بقومه، خرج كالمتسور منهم، فجاء إلى البحر ومعه امرأته وابنان له، فأركب امرأته في مركب، فحال بينهما الموج، جاءت موجة فأخذت أحد ابنيه، وأخذ الذئب الآخر، فبقي وحيدًا، فركب سفينة، فلما لججوا في البحر، وقفت، فقال الملاحون: هنا عبد آبق (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 678).

[141]

{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)}. [141] {فَسَاهَمَ} قارعَ أهل السفينة من الآبق. {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} المقروعين المغلوبين. ... {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)}. [142] فألقوه في البحر {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} داخل في الملامة. ... {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)}. [143] {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} الذاكرين الله قبل ذلك، وكان كثير الذكر. ... {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)}. [144] {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} لصار بطن الحوت له قبرًا إلى يوم القيامة. روي أنه أُوحي إلى الحوت: إنا جعلنا بطنك له سجنًا، ولم نجعله لك طعامًا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 486).

[145]

{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)}. [145] {فَنَبَذْنَاهُ} طرحناه {بِالْعَرَاءِ} وجه الأرض {وَهُوَ سَقِيمٌ} عليل كالفرخ الممعط، قد بلي لحمه، ودق عظمه، ولم يبق له قوة (¬1). ... {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)}. [146] {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} هي القرع؛ ليستظل بظلها، ولئلا يقربه ذباب، وجاءته وعلة يشرب لبنها صباحًا ومساء، فاشتد لحمه، ونبت شعره. ... {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)}. [147] {وَأَرْسَلْنَاهُ} هو ما سبق من إرساله، وقيل: إرسال ثان. {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وهم أهل نينوى بأرض الموصل، أُرسل إليهم قبل الحوت، وأرسل إلى غيرهم بعد الحوت، وكانت الزيادة عشرين، وقيل: ثلاثين، وقيل: سبعين ألفًا. ... {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)}. [148] {فَآمَنُوا} عند نزول العذاب بهم {فَمَتَّعْنَاهُمْ} أبقيناهم ممتعين. {إِلَى حِينٍ} تنقضي آجالهم فيه، وتقدم ذكر قصته في سورة يونس (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم ذكره. (¬2) في "ت": "الأنبياء".

[149]

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)}. [149] ولما زعم جهينة وبنو سلمة بن عبد الدار أن الملائكة بنات الله، نزل ردًّا عليهم: {فَاسْتَفْتِهِمْ} فسل يا محمد أهل مكة سؤالَ توبيخ. {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} المعنى: كيف يخصكم بالأسنى، ويختص بالأردأ، مع قدرته؟ هذا لا يقبله عقل. ... {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)}. [150] ثم زادهم توبيخًا فقال: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} حاضرون ذلك، فيقدمون على ما يقولون. ... {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)}. [151] ثم صرح بتكذيبهم فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ} من كذبهم {لَيَقُولُونَ}. ... {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)}. [152] {وَلَدَ اللَّهُ} بقولهم: الملائكة بنات الله، والولد يعم الذكر والأنثى، والقليل والكثير، تلخيصه: قالوا: لله ولد {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم.

[153]

{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)}. [153] {أَصْطَفَى} المعنى: أَختارَ تعالى {الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}. ... {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)}. [154] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الفاسد. قرأ أبو جعفر: (لَكَاذِبُونَ اصْطَفَى) بوصل الهمزة على لفظ الخبر، فيبتدئ بهمزة مكسورة حذف حرف الاستفهام، وهو مراد، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة وقطعها مما قبلها وصلًا (¬1)؛ لأنها همزة استفهام دخلت على همزة الوصل، فحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام، وبقيت همزة الاستفهام مفتوحة. ... {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)}. [155] {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} تتعظون. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَذْكُرُونَ) بتخفيف الذال، والباقون: بتشديدها (¬2). {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)}. [156] {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} حجة واضحة أن لله ولدًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 680)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 248). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 249).

[157]

{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)}. [157] {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} الذي لكم فيه حجة. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم. ... {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)}. [158] {وَجَعَلُوا} أي: الملائكة المشركون {بَيْنَهُ} تعالى. {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} أي: الملائكة {نَسَبًا} بقولهم: الملائكة بنات الله. {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ} يعني: قائلي هذه المقالة. {لَمُحْضَرُونَ} في النار، والملائكة سميت بذلك؛ لأنها مستجنة؛ أي: مستترة من الأبصار. ... {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)}. [159] ثم نزه الله تعالى نفسه عما يصفه الناس ولا يليق به، فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} بأن له ولدًا. ... {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)}. [160] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء من (يَصِفُونَ)؛ لأن المخلصين يصفونه بصفاته العلا.

[161]

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)}. [161] {فَإِنَّكُمْ} يعني: المشركين {وَمَا تَعْبُدُونَ} من الأصنام. ... {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)}. [162] {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الضمير في (عليه) لله سبحانه. {بِفَاتِنِينَ} مضلين على الله بالإغواء. ... {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)}. [163] {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} إلا الذين سبق في علمه تعالى أنهم يصلونها. وقف يعقوب (صالي) بإثبات الياء (¬1). ... {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)}. [164] ثم أخبر جبريل -عليه السلام- أن لكل واحد منهم مقامًا مختصًا به، وأنهم عبيد مربوبون مسبحون، فقال: {وَمَا مِنَّا} أحد. {إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} في السموات يَعبد فيه، ولا يتجاوزه إلا بإذن. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 138)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 249).

[165]

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)}. [165] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} أقدامَنا للصلاة. ... {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)}. [166] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} المنزهون الله تعالى عما لا يليق به. ... {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)}. [167] ولما قال الكفار: لو كان لنا كتاب كالتوراة والإنجيل، لآمنا وخضعنا، فلما جاءهم -عليه السلام- بالقرآن، كفروا به، نزل: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} (¬1). ... {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)}. [168] {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا} كتابًا {مِنَ} كتب {الْأَوَّلِينَ} التي نزلت عليهم. ... {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)}. [169] {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} له، ولم نخالف مثلَهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 69).

[170]

{فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}. [170] {فَكَفَرُوا بِهِ} أي: فلما أتاهم ذلك الكتاب، وهو القرآن، كفروا به. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة كفرهم. ... {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)}. [171] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} عِدَتنُا بالنصر {لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} وهي: {لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، وسميت جماعة الحروف كلمة؛ لأنها في معنى واحد. ... {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)}. [172] {إِنَّهُمْ} أي: الرسل {لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} على من ناوأهم. ... {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}. [173] {وَإِنَّ جُنْدَنَا} المؤمنين {لَهُمُ الْغَالِبُونَ} المظفرون بإرادتهم، المستوجبون الفلاحَ في الدارين. ... {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)}. [174] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أعرضْ عن كفار مكة وعن أذاهم.

[175]

{حَتَّى حِينٍ} أي: حين نأمرك بقتالهم، فالآية محكمة. ... {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)}. [175] {وَأَبْصِرْهُمْ} إذا نزل بهم العذاب {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما ينكرون. ... {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)}. [176] فثَمَّ قالوا استهزاء واستعجالًا: متى نزول العذاب؟ فنزل: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} (¬1)؟ ... {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)}. [177] {فَإِذَا نَزَلَ} العذاب {بِسَاحَتِهِمْ} هي الرحبة التي يديرون أخبيتهم حولها {فَسَاءَ} فبئس {صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} الذين أنذروا فلم يؤمنوا، والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب. ولما كثرت فيهم الهجوم والغارة في الصباح، سموا الغارة: صباحًا، وإن وقعت في وقت آخر. ... {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)}. [178] وكرر: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ}. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (7/ 181).

[179]

{وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)}. [179] {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما يُفعل بهم؛ تهديدًا لهم، وتسلية له - صلى الله عليه وسلم -. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)}. [180] ثم نزه نفسه تعالى فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} الغلبةِ والقدرةِ؛ أي: مالكها {عَمَّا يَصِفُونَ} من اتخاذ الأزواج والأولاد. ... {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)}. [181] {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} الذين بلَّغوا عن الله الشرائع والتوحيد، تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم. ... {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}. [182] {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على نصر أنبيائه، وإهلاك أعدائه، وعلى كل حال. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا سَلَّمتم عليَّ، فسلموا على المرسلين؛ فإنما أنا أحدُهم" (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (21/ 134)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3234) عن قتادة مرسلًا، ورواه ابن أبي حاتم أيضًا في "تفسيره" (10/ 3234) عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة مرفوعًا. وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 490)، و"تفسير ابن كثير" (4/ 26).

فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيْرِ القُرآنِ تَأليف الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ المولود سنة (860 هـ) - والمتوفى سنة (927 هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى المُجَلَّد السادس اعتَنَى بِهِ تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا نُوْرُ الدِّيْن طَالب إصدَارات وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ دولة قطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فَتْحُ الرَّحْمَن

حُقُوق الطَّبع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطَبعَة الأولى، 1430 هـ - 2009 م قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 518/ 14 هَاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

سورة ص

سُورَةُ ص مكية بإجماع من المفسرين، وآيها: ثمان وثمانون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وتسعة وستون حرفًا، وكلمها: سبع مئة وائنتان وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)}. [1] {ص} أبو جعفر على أصله في السكت، فيقف على ص، والقراء العشرة متفقون على أن قراءة (صَادْ) بسكون الدال (¬1)؛ لأنها لا تستحق حركة بناء؛ لأن سكونها عارض؛ لأنها لفظ محكي (¬2) كألفاظ الأعداد، ولا إعراب؛ لعدم مقتضيها، والجمهور على أنه حرف المعجم المعروف، ويدخله ما يدخل سائر السور من الأقوال. واختلف في معناه على وجوه، منها: أنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صمد، وصادق الوعد، ومنها: أن معناه صدق الله، ومنها: أنه إشارة ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 414)، و "معجم القراءات القرآنية" (5/ 253). (¬2) "لأنها لفظ محكي" زيادة من "ت".

[2]

إلى صدود الكفار عن القرآن، وعن ابن عباس: معناه: "صدق محمد" (¬1)، وقيل غير ذلك. {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر} أي: ذكر البيان، وهو قسم جوابه محذوف، تقديره: إنه لكلام معجز. قرأ ابن كثير: (وَالْقُرَانِ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬2). ... {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)}. [2] ثم قال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة. {فِي عِزَّةٍ} تكبر عن الإيمان {وَشِقَاقٍ} عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ... {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)}. [3] {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} من الماضين {فَنَادَوْا} استغاثة عند حلول النقمة، {وَلَاتَ} بمعنى ليس، واسمها تقديره: ولاتَ الحينُ. {حِينَ مَنَاصٍ} والمناص: المفر، ناص ينوص: إذا فات، المعنى: ليس وقت فرار. ووقف الكسائي: (وَلاَهْ) بالهاء (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 685)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 491). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 254). (¬3) انظر: "الكشف" لمكي (2/ 230)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 254).

[4]

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)}. [4] ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار: إن إلهكم إله واحد، نفروا {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} فيما يقوله على الله. ... {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)}. [5] {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} كيف يسعُ الخلقَ كلَّهم إلهٌ واحد. {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} بليغ في العجب. ... {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)}. [6] {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} وهم أشراف قريش بعد اجتماعهم في مجلس أبي طالب، وشكواهم إليه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسب آلهتهم، فبكَّتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم بالتوحيد، فنفروا من ذلك، وانطلقوا من ذلك (¬1) الجمع قائلين بعضهم لبعض: {أَنِ امْشُوا} سيروا على طريقتكم {وَاصْبِرُوا عَلَى} عبادة {آلِهَتِكُمْ} ولا تلتفتوا إلى قول محمد. {إِنَّ هَذَا} الذي نراه من زيادة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "وانطلقوا من ذلك" زيادة من "ت".

[7]

{لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي: لأمر يريده الله، وقيل: يريدون: ظهورَ محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلوه بالنبوة؛ أي: يراد الانقياد منا إليه، وذلك أن عمر -رضي الله عنه- لما أسلم، وحصل للمسلمين قوة بمكانه، قالوا ذلك. ... {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}. [7] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} التوحيد {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أي: دين قريش. {إِنْ هَذَا} القولُ بالتوحيد والبعث {إِلَّا اخْتِلَاقٌ} كذب، اختلقه محمد من تلقاء نفسه. ... {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)}. [8] {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أَخُصَّ بالقرآن من دوننا؟ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (أَانْزِلَ) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية، وفصل بينهما بألف: أبو جعفر، واختلف عن أبي عمرو وقالون، وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق الهمزتين، واختلف عن هشام راوي ابن عامر في الفصل مع تحقيق الهمزتين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 552)، و"الكشف" لمكي (1/ 74)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 256).

[9]

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} من القرآن، فلم يؤمنوا {بَلْ لَمَّا} أي: بل (¬1) لم. {يَذُوقُوا عَذَابِ} فلذلك شكوا، فإذا عذبوا، زال شكهم، وآمنوا, فلا ينفعهم إيمانهم. قرأ يعقوب: (عَذَابِي) بإثبات الياء (¬2). ... {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)}. [9] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} المعنى: أيملكون مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا؟! ... {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)}. [10] {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فإن زعموا ذلك. {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} أي: ليصعدوا في الطرق التي توصلهم إلى السماء، وليأتوا منها بالوحي لمن يختارون. ... {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)}. [11] {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} (ما) زائده بمعنى النفي، و (هُنَالِكَ) إشارة إلى حيث وضعوا أنفسهم من الكفر ومعاداة ¬

_ (¬1) "أي: بل" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 256).

[12]

رسول الله - صلى الله عليه وسلم، المعنى: ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكسورٌ عن قريب، فمن أين لهم التدابير الإلهية؟! فلا يضيق صدرك، فإني ناصرك. ... {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)}. [12] ثم ذكر المتحزبين قبلهم فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} أي: البناء المحكم، وكان أيضًا يعذب الناس بالأوتاد. ... {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)}. [13] {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} وهم قوم شعيب، وتقدم تفسير (الأيكة)، واختلاف القراء فيها في سورة الشعراء. {أُولَئِكَ} المذكورون {الْأَحْزَابُ} الذين تحزبوا على الأنبياء. ... {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)}. [14] {إِنْ كُلٌّ} أي: ما كل واحد من الأحزاب {إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} لأنهم إذا كذبوا واحدهم، فقد كذبوا جميعَهم؛ لأن دعوتهم واحدة. {فَحَقَّ عِقَابِ} وجب عليهم عذاب. قرأ يعقوب: (عِقَابِي) بإثبات الياء (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 257).

[15]

{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)}. [15] {وَمَا يَنْظُرُ} أي: ينتظر {هَؤُلَاءِ} أي: كفار مكة {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} تحل بهم العذاب سريعًا، وهي النفخة الأولى. واختلاف القراء في الهمزتين من (هَؤُلاَءِ إِلَّا) كاختلافهم فيهما من (عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: 33] {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} أي: ليس بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (فُوَاقٍ) بضم الفاء، والباقون: بفتحها (¬1)، وهما لغتان، فالفتح لغة قريش، والضم لغة تميم. ... {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)}. [16] ولما نزل في الحاقة: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الآية: 25]، استهزأ المشركون {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} كتابنا (¬2) في الدنيا. {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} والقِطُّ: الصحيفة التي أحصت كل شيء. ... {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)}. [17] قال الله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يا محمد فيك مما يؤذيك، فإني ناصرك، ولما أُمر بالصبر، أُمر بذكر داود -عليه السلام-، وما جرى ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 187)، و"تفسير البغوي" (3/ 689)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 257 - 258). (¬2) "كتابنا" زيادة من "ت".

[18]

له؛ ليعلم الكفار أن داود وإن كان عظيمًا عند الله تعالى، لما صدرت عنه المعصية (¬1)، لم يزل مستغفرًا إلى أن فارق الدنيا، فلعلهم يؤمنون؛ لأن كفرهم أعظم من ذنب داود، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} ذا القوة في الدين والعبادة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَحَبَّ الصيام إلى الله صيامُ داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاةُ داود، وكان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، وكان ينام نصف الليل الأول، ويقوم ثلثَه، وينام سدسَه" (¬2) مع سياسته الملك، وكان قد قسم الدهر ثلاثة أيام يومًا: يقضي فيه بين الناس، ويومًا يخلو في عبادة ربه، ويومًا لنسائه وأشغاله {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رَجَّاع إلى الله. ... {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)}. [18] {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} بتسبيحه {بِالْعَشِيِّ} وقت العشاء. {وَالْإِشْرَاقِ} حين تشرق الشمس. ¬

_ (¬1) انظر ما سيأتي من التعليق (ص 17 - 18) لتعلم أن الأخبار الواردة في شأن سيدنا داود -عليه السلام- غير ثابتة، وليس لها من الصحة أدنى نصيب، ومعلوم أن من أسباب وضعها واختلاقها أن يبرِّر واضعوها -وهم بعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى- لأنفسهم المعاصي والآثام، وأما الذي نصَّ عليه القرآن في قصته: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}. (¬2) رواه البخاري (3238)، كتاب: الأنبياء، باب: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، ومسلم (1159)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.

[19]

{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)}. [19] {وَالطَّيْرَ} عطف على الجبال. {مَحْشُورَةً} حال؛ أي: مجموعةً إليه. {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} مطيع رجَّاع بصوته، فكان إذا سبح، سبحت الجبال، وجمعت له الطير، فسبحت معه. ... {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)}. [20] {وَشَدَدْنَا} قَوَّينا {مُلْكَهُ} بالعدل والتأييد. {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} النبوة {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} علم القضاء، والخطاب: قول يفهم منه من سمعه شيئًا مفيدًا. ... {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)}. [21] روي أن داود لما صار له ثمان وخمسون سنة، وهي السنة الثانية والعشرون من ملكه، كانت قصته مع أوريا وزوجته، وملخصها: أنه رأى في الكتب ما أُعطي إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء - صلوات الله عليهم -، فقال: يا رب! أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأوحى الله إليه أنهم ابتلوا فصبروا، فقال: يا رب! لو ابتليتني، لصبرت، فأوحي إليه أنك تبتلى في شهر كذا في يوم كذا، فاحترس، فلما جاء الموعد، دخل محرابه، وأغلق عليه بابه، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فوقعت بين رجليه، فأراد أخذها

ليري بني إسرائيل قدرة الله تعالى، فذهبت إلى كوة هناك، فأراد أخذها، فذهبت، فنظر في الكوة، فإذا بامرأة من أجمل النساء تغتسل، فعجب داود من حسنها، فالتفتت فأبصرت ظله، فنقضت شعرها، فغطى جميع بدنها، فزاد عجبًا، فسأل عنها، فقيل: هي تيشارع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غَزاة في البلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، فكتب داود إلى ابن أخته أيوب أن ابعث أوريا إلى موضع كذا، وقدمه قبل التابوت (¬1)، وكان من قدم على التابوت، لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه، أو يستشهد، فبعثه وقدمه، ففتح عليه [ثم أرسل إليه أن قدمه إلى جيش كذا، أعظم من الأول، فقدمه، ففتح عليه] (¬2)، فأمره أن يقدمه ثالثة إلى جيش أعظم من الأولين، ففعل، فقتل، وانقضت عدتها، فتزوجها داود، وهي أم سليمان -عليه السلام-، فلما دخل بها، لم يلبث إلا يسيرًا حتى بعث الله إليه ملكين في صورة رجلين في يوم عبادته، وهما جبريل وميكائيل، فطلبا أن يدخلا عليه، فمنعهما الحرس، فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلا بهما بين يديه جالسين، فذلك قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} مفرد يعم الذكر والأنثى، والقليل والكثير، والمراد: الملكان {إِذْ تَسَوَّرُوا} تصعدوا سور {الْمِحْرَابَ} صدر المسجد. قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (الْمِحْرَابَ) بالإمالة (¬3)، والاستفهامُ هنا بمعنى الإخبار، المعنى: قد وصل إليك خبرهما. ¬

_ (¬1) "التابوت" ساقطة من "ت". (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:372)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 259).

[22]

{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)}. [22] {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ} بغتة من غير الباب. {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} حين هجما عليه بغير إذنه، فقال: ما أدخلكما علي؟ {قَالُوا لَا تَخَفْ} نحن. {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} جئناك لتقضي بيننا، فرضا ذلك فرضًا. {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} لا تَجُرْ في حكمك. {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أرشدنا إلى طريق الصواب. ... {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)}. [23] فقال داود: تكلما، فقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي} أي: في الدين. {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} تمييز، يعني: امرأة {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} والعرب تكني بالنعجة عن المرأة. قرأ حفص عن عاصم (وَلِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} ضُمَّها إلي (¬2)؛ أي: طلقها لأتزوجها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 553)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 261). (¬2) "ضمها إلي" زيادة من "ت".

[24]

{وَعَزَّنِي} غلبني {فِي الْخِطَابِ} أي: في القول، المعنى: له الغلبة علي بكل حال، وإن كان الحق لي؛ لضعفي، وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود؛ حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة، ولأوريا امرأة واحدة، فضمَّها إلى نسائه. ... {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)}. [24] فبعد اعتراف المدعى عليه {قَالَ} داود: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} قرأ أبو عمرو، وورش، وحمزة، والكسائي، وخلف: (لَقَد ظَّلَمَكَ) بإدغام الدال في الظاء، واختلف عن هشام في هذا الحرف، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1). {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} أي: بسؤاله إياها ليضيفها. {إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} الشركاء. {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يظلم بعضهم بعضًا (¬2). {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} استثناء من (بَعْضُهُمْ)؛ أي: لا يظلمون أحدًا. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 337)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 262). (¬2) "يظلم بعضهم بعضًا" زيادة من "ت".

{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} يعني: الصالحين الذين لا يظلمون قليلٌ، و (ما) زائدة، فلما قضى بينهما داود، تحولا في صورتيهما، وصعدا إلى السماء وهو ينظر، ويقولان: مضى الرجل على نفسه. {وَظَنَّ} أي: أيقن. {دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أنا ابتليناه بالذنب، ونبهناه على خطئه بتلك الحكومة. {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} لذنبه {وَخَرَّ رَاكِعًا} [حال؛ أي: ساجدًا، على تسمية السجود ركوعًا، لأنه مبدؤه؛ لأنه لا يكون ساجدًا حتى يركع] (¬1). {وَأَنَابَ} رجع عن جميع المخالفات، ثم مكث أربعين يومًا ساجدًا لا يرفع رأسه إلا لحاجة ضرورية، أو لصلاة مكتوبة، لا يأكل ولا يشرب، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه، وهو يجهد نفسه بالبكاء الدائم، والتضرع والاستغفار حتى كاد يهلك (¬2)، وهذه السجدة من عزائم السجود ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (21/ 185 - 186)، وانظر: "تفسير البغوي" (3/ 696 - 698)، وحيثما وقعت هذه القصص وأمثالها، فعقيدة أهل السنة والجماعة تنزيه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - عمَّا يخلُّ بعصمتهم. قال العلامة الآلوسي في "روح المعاني" (23/ 185): وللقصاص كلام مشهور، لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه -عليه السلام-، وقال أبو حيان: "الذي نذهب إليه ما دلَّ عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب، كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم؛ ظانًّا أنهم يغتالونه إذ كان منفردًا، فلما اتضح له أنهم جاؤوا في حكومة ... فاستغفر من ذلك الظن وخرَّ ساجدًا ورجع إلى الله، وأنه =

[25]

عند أبي حنيفة ومالك، وكل منهما على أصله، فأبو حنيفة يقول: هي واجبة، ومالك يقول: هي فضيلة؛ كما تقدم ذكره عند سجدة مريم، وعند الشافعي وأحمد: هي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة، فلو سجد بها في الصلاة، بطلت عندهما. ... {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)}. [25] فلما مكث داود أربعين يومًا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه، نودي: يا داود! أجائع فتطعم، أو ظمآن فتسقى، أو عار فتكسى؟ فأجيب في غير ما طلب، فنحب نحبة هاج العود فاحترق من حر جوفه، ثم أنزل الله التوبة والمغفرة، وأتاه نداء: إني قد غفرت لك، قال: يا رب! كيف وأنت (¬1) لا تظلم أحدًا؟ قال: اذهب إلى قبر أوريا، فناده، وأنا أُسمعه نداءك، فتحللْ منه، فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره، ثم نادى أوريا، فقال: لبيك، من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني؟ قال: أنا داود، قال: ما حاجتك يا نبي الله؟ قال: أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك، قال: وما كان منك إلي؟ قال: عَرَّضتك للقتل، قال: عرضتني للجنة، فأنت في حل، فأوحى الله إليه: يا داود! ألم تعلم أني حكم عدل، لا أقضي بالتعنت؟ ألا أعلمته أنك قد ¬

_ = سبحانه غفر له ذلك الظن، فإنه -عز وجل- قال: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} ولم يتقدم سوى قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}، انظر: "البحر المحيط" (7/ 377). وانظر: ما سيذكره المصنف قريبًا بعد ذكره لهذه القصص المكذوبة. (¬1) "وأنت" ساقطة من "ت".

تزوجت امرأته؟ فرجع إليه فناداه، فأجابه، فقال: من هذا الذي قطع علي لذتي؟ قال: أنا داود، قال: يا نبي الله! أليس قد عفوت عنك؟ قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك لمكان امرأتك، وتزوجتها، فسكت فلم يجبه، ودعاه فلم يجبه، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه، ثم نادى: الويل لداود إذا نصبت الموازين بالقسط، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور، فأتاه نداء من السماء: يا داود! قد غفرت لك ذنبك، ورحمت بكاءك، واستجبت دعاءك، وأقلت عثرتك، قال: يا رب! كيف وصاحبي لم يعف عني؟ قال: يا داود! أُعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه، وما لم تسمع أذناه، فأقول له: رضي عبدي؟ فيقول: يا رب! أنى لهذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول: هذا عوض من عبدي داود، فأستوهبك منه، فيهبك لي، قال: يا رب! الآن عرفت أنك قد غفرت لي، فذلك قوله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} الذنب. {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا} بعد المغفرة يوم القيامة {لَزُلْفَى} لقربى ومكانة. {وَحُسْنَ مَآبٍ} حسن مرجع ومنقلب يوم القيامة. ولما تاب الله على داود، قال: يا رب! قد غفرت لي، فكيف لي ألَّا أنسى خطيئتي، فأستغفر منها لي وللخاطئين إلى يوم القيامة؟ فوسم الله خطيئته في يده اليمنى، فما رفع طعامًا ولا شرابًا إلا بكى إذا رآها، وما قام خطيبًا في الناس إلا بسط راحته، فاستقبلَ الناسَ ليروا وسم خطيئته، واستغفر للخطائين قبل نفسه، وكان إذا ذكر عقاب الله، تخلعت أوصاله، وإذا ذكر رحمة الله، تراجعت.

[26]

وقد أنكر القاضي عياض - رحمه الله - ما نقله المؤرخون والمفسرون في هذه القصة، ووهَّى قولهم فيها، ونقل عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: "ما زاد داود على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأكفلنيها"، فعاتبه الله على ذلك (¬1)، ونبهه عليه، وأنكر عليه شغله بالدنيا، قال: وهذا الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره، وحكى قولًا أنه خطبها على خطبته، وقيل: بل أحب بقلبه أن يستشهد، ونقل عن الداودي أنه ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم، انتهى (¬2). ... {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)}. [26] {يَادَاوُودُ} في الكلام حذف يدل عليه ظاهر الكلام، تقديره: وقلنا له: يا داود {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} تدبر أمر العباد بأمرنا، والخليفة: من استُخلف مكان من كان قبله، مأخوذ من أنه خلف لغيره، ¬

_ (¬1) "ذلك" ساقطة من "ت". (¬2) قال الشيخ محمد أبو شهبة بعد ذكره لهذه الأقوال من أنه -عليه السلام- "خطبها أو أحب بقلبه أن يستشهد ... ": وهذه الأقوال ونحوها لست منها على ثلج ولا اطمئنان؛ فإنها وإن كانت لا تخل بالعصمة، لكنها تخدشها، ثم هي لا تليق بالصفوة المختارة من الخلق وهم الأنبياء ... ، وقال الشيخ الساعاتي: بل لا يصح وقوعها من المتسمين بالصلاح فضلًا عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-: انظر: "الإسرائيليات" (ص: 269 - 270)، و"الأحاديث الصحيحة في أخبار الأنبياء" لإبراهيم العلي (ص: 180).

[27]

يقوم مقامه في الأمر الذي أُسند إليه فيه؛ كما قيل: أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما الإمام، فمأخوذ من التقدم على غيره في سائر الأمور الشرعية، وعلى الرعية كلها أن يطيعوه في أمره، ويتدبروا بتدبيره، فهو المقدم عليهم إذا انعقد له ذلك بالحجة التي يجب على الجماعة التسليم لها، والانقياد لمن دعا إليها. {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} بالعدل، والحكم لغةً: الفصل، وشرعًا: أمر ونهي يتضمن إلزامًا {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} هوى النفس {فَيُضِلَّكَ} نصب جواب، أو جزم جواب النهي، وفتحت اللام للساكنين {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن الدلائل الدالة على الوحدانية. {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أي: بتركهم الإيمان به، والإعداد له. ... {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)}. [27] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} خلقًا. {بَاطِلًا} إلا لغرض صحيح. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني أهل مكة، ظنوا أنهما خلقا لغير شيء، وأنه لا بعث ولا حساب. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}.

[28]

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}. [28] ولما قال الكفار (¬1) للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة مثلَ أجركم، نزل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أي: لا نجعل الصالحين كالطالحين، ولا المتقين كالكافرين. ... {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}. [29] {كِتَابٌ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا كتاب. {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} لينظروا في معانيها فيؤمنون. قرأ أبو جعفر: (لِتَدَبَّرُوا) بالخطاب بتاء واحدة مع تخفيف الدال، وقرأ الباقون: بالغيب وتشديد الدال؛ أي: ليتدبروا، فأدغمت التاء (¬2). {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ويتعظ ذوو العقول السليمة. ... {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)}. [30] {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} سليمانُ؛ لأنه المخصوص بالمدح. ¬

_ (¬1) في "ت": "ولما قال كفار قريش". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 702)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 361) , و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 264).

[31]

{إِنَّهُ أَوَّابٌ} رَجَّاع عن المخالفات. ... {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)}. [31] ولفظة (أَوَّاب) هي العامل في: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} وهو ما بعد الزوال، وكان لسليمان ألف فرس، فصلى الظهر، وكان يريد جهادًا، فجلس على سريره، فأمر أن تُعرض عليه {الصَّافِنَاتُ} جمع صافن من الخيل، وهو القائم على ثلاثة قوائم، ويثني الرابعة، والصفون يختص به عِتاقُ الخيل. {الْجِيَادُ} جمع جواد، وهو الخيار، إن استوقفت سكنت، وإن ركضت سبقت. ... {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)}. [32] فعرضت عليه تسع مئة، فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غربت، ولم يُعلم بذلك هيبةً له، فندم {فَقَالَ} اعترافًا بذنبه: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أي: آثرت حبَّ الخيل، والعرب تعاقب بين الراء واللام، وسميت بذلك؛ لأن الخير معقود بنواصيها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1)، المعنى اشتغلت بنظري إلى الخيل. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 557)، و"التيسير" للداني (ص: 188)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 264).

[33]

{عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} عن صلاة العصر {حَتَّى تَوَارَتْ} الشمس. {بِالْحِجَابِ} ظلمة الليل. ... {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)}. [33] ثم قال: {رُدُّوهَا} أي: الخيل {عَلَيَّ} فرَدُّوها. {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} فجعل يقطع سوقها وأعناقها بالسيف، وكان الذبح على ذلك الوجه مباحًا في شريعته، فذبحها وتصدق بلحومها، فأبدله الله خيرًا منها الريح. روي أنه قتلها إلا مئة، فجميع خيل الدنيا من تلك المئة. قرأ قنبل عن ابن كثير: (بِالسُّؤُقِ) بهمز الواو مضمومًا، وعنه وجه ثان بالهمز مجزومًا، وقرأ الباقون: بإسكان الواو بغير همز (¬1). ... {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)}. [34] {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه (¬2)، وسببه أنه ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 553)، و"التيسير" للداني (ص: 168)، و"الكشف" لمكي (2/ 160 - 161)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 264). (¬2) قال أبو حيان في "البحر المحيط" (7/ 381): نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالًا يجب براءة الأنبياء منها، وهي ممَّا لا يحل نقلها؛ وهي من أوضاع اليهود والزنادقة، ولم يبين اللهُ الفتنةَ ما هي، ولا الجسد الذي ألقاه على =

غزا مدينة حصينة في البحر يقال لها: صيدون، فقتل ملكها، وأخذ ابنته جرادة، فاصطفاها لنفسه لحسنها، فعملت تمثال أبيها في بيتها بإذن سليمان لتأنس به، فجعلت هي وجواريها يسجدون له بكرة وعشيًّا أربعين يومًا، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك، وبلغ ذلك آصفَ بنَ برخيا، وكان صِدِّيقًا، وكان مقرَّبًا عند سليمان، فقال: يا نبي الله! كبرت سني، ورق عظمي، ونفد عمرى، ولقد حان مني ذهابه، وقد أحببت أن أقوم مقامًا قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأُثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبًا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه (¬1)، فذكر ما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأفضلك في صغرك (¬2)، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما تكره في صغرك! ثم انصرف، فوجد سليمانُ في نفسه من ذلك حتى ملأه غيظًا، فلما دخل سليمان داره، أرسل إليه، فقال: يا آصف! ذكرت من مضى من أنبياء الله، فأثنيت عليهم خيرًا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني، جعلت تثني علي بخير ¬

_ = كرسي سليمان، وأقرب ما قيل فيه أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن بالحديث الذي قال: "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة .. فلم تحمل إلا امرأة واحدة وجائته بشق رجل"، فالفتنة هو هذا، والجسد الملقى هو المولود شقَّ رجل اهـ، ولتمام الفائدة انظر التعليق في نهاية هذه القصة المختلقة. (¬1) "بما فيه" زيادة من "ت". (¬2) "وأفضلك في صغرك" ساقطة من "ت".

في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ فقال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحًا في هوى امرأة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهدم التمثال، وعاقب النساء، ثم أتى الخلاء ووضع خاتمه عند امرأته الأمينة، وكان ملكه في خاتمه، وكان لا يمسه إلا وهو طاهر، فأتاها الشيطان صاحب البحر، واسمه صخر، على صورة سليمان، فأعطته الخاتم، فلبسه، وجلس على كرسي سليمان يحكم بين الناس، وعكفت عليه الطير والوحش والإنس والجن، فخرج سليمان فأتى الأمينة, وقد غيرت حاله وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة! خاتمي، قالت: من أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، قالت: كذبت، فقد جاء سليمان فأخذ خاتمه، وهو جالس على سرير ملكه، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج، فكان يقول لمن مر به: أنا سليمان بن دواد، فيهزؤون منه، ويحثون التراب في وجهه، فعمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان (¬1) لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى، باع إحدى سمكتيه بأرغفة، وشوى الأخرى فأكلها، فمكث كذلك أربعين صباحًا عِدَّةَ ما كان عُبد الوثنُ في داره، فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حكم (¬2) عدو الله الشيطان في تلك الأربعين، ثم استخبر آصف نساء سليمان، فأخبرنه بأمور قبيحة يعتمدها ذلك الشيطان، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم خرج على بني إسرائيل، وأخبرهم بالحال، فاجتمع القراء والعلماء، وأقبلوا حتى أحدقوا به ونشروا التوراة ¬

_ (¬1) في "ت": "الحيات". (¬2) "حكم" ساقطة من "ت".

فقرؤوها، فطار من بين أيديهم، وألقى الخاتم في البحر، فابتلعه حوت، فأخذه بعض الصيادين، وقد عمل له سليمانُ صدرَ يومه ذلك، حتى إذا كان العشي، أعطاه سمكتيه، فباع إحداهما بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها، فوجد الخاتم في جوفها، فلبسه، وخر ساجدًا شكرًا لله تعالى، وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس، وعاد إلى حسنه وبهائه وملكه كحاله الأول، ثم جلس على كرسيه، وطلب صخرًا، فجيء به، فجعله في صخرة، وأطبق عليه أخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، وختم عليها بخاتمه، وألقاه في البحر، وكانت فتنته بعد عشرين سنة من ملكه، وملك بعدها عشرين سنة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (21/ 197 - 198)، و"تفسير البغوي" (3/ 704 - 706)، و"تفسير ابن كثير" (4/ 37). قال الإمام ابن كثير: إسناده إلى ابن عباس قوي، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس إن صح عنه من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان -عليه السلام-؛ فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء ... وقد رويت القصة مطولة عن جماعة من السلف ... وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب. اهـ يقول الشيخ محمد أبو شهبة - رحمه الله - ما ملخصُّه: قوة السند لا تنافي كونها مما أخذه ابن عباس وغيره عن كعب الأحبار وأمثاله من مُسلمة أهل الكتاب؛ فثبوتها في نفسها لا ينافي كونها من إسرائيليات بني إسرائيل وخرافاتهم وافتراءاتهم على الأنبياء ... والحق أن نسج القصة مهلهل، عليه أثر الصنعة والاختلاق، ويصادم العقل السليم والنقل الصحيح في هذا، وإذا جاز للشيطان أن يتمثل برسول الله (سليمان)، فأيّ ثقة بالشرائع تبقى بعد هذا؟ وكيف يسلِّطُ اللهُ الشيطان على نساء نبيه سليمان، وهو أكرم على الله من ذلك؟! وأيُّ ملك ونبوة يتوقف أمرهما على (خاتم) يدومان بدوامه ويزولان بزواله!!؟ وإذا =

وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن عفريتًا من الجن تفلَّت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فرددتُه خاسئًا" (¬1). ولما رد الله على سليمان ملكه وبهاءه، وحامت عليه الطير، وعرف الناس أنه سليمان، قاموا يعتذرون إليه مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، هذا أمر كان لا بد منه. وأطاعَ سليمانَ جميعُ ملوك الأرض، وحملوا إليه نفائس أموالهم، واستمر على ذلك حتى توفي، وتقدم ذكر وفاته في سورة سبأ، ومحل قبره في سورة البقرة، ومعنى الآية: اختبرنا سليمان بن داود بزوال ملكه. {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} يعني: العفريت الذي أخذ خاتمه، وجلس على كرسيه، وهو صخر صاحب البحر على أشهر الأقاويل، وسمي جسدًا؛ لأنه قد تمثل في جسد سليمان، وليس به. ¬

_ = كان (خاتم سليمان) -عليه السلام- بهذه المثابة، فكيف يُغفِلُ اللهُ شأنه في كتابه، فلم يذكره بكلمة! وهل غيَّر اللهُ خِلْقَةَ سليمان في لحظة، حتى أنكرته أعرف الناس به وهي زوجته؟! إذن آثار الكذب والاختلاق بادية على نسج القصة. انظر: "الإسرائيليات" (270 - 274). (¬1) رواه البخاري (3241)، كتاب: الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}، ومسلم (541)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة.

[35]

وقد أنكر (¬1) القاضي عياض - رحمه الله - هذه القصة، وقال: إن معنى {فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} ابتليناه، وابتلاؤه ما حكي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه قال: لأطوفنَّ الليلة على مئة امرأة، أو تسع وتسعين امرأة، كلُّهن يأتينَ بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحملْ منهن إلا امرأة واحدة جاءت بِشِقِّ رَجُل"، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده! لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله" (¬2)، قال أصحاب المعاني: والشقُّ: هو الجسد الذي أُلقي على كرسيه حين عرض عليه، وهي عقوبته ومحنته، قال القاضي عياض (¬3) - رحمه الله -: وإن سئل: لِمَ لَمْ يقلْ سليمانُ في القصة المذكورة: إن شاء الله؟ فعنه أجوبة، أَسَدُّها ما روي في الحديث الصحيح: أنه نسي أن يقولها، وذلك لينفذ مراد الله، والثاني: أنه لم يسمع صاحبه، وشغل عنه. {ثُمَّ أَنَابَ} رجع إلى ملكه بعد أربعين يومًا. ... {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)}. [35] فلما رجع {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي} لا يكون. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "وقد ذكر الزمخشري عن صاحب "المدارك" أنه من الأباطيل كما ذكرنا، وأنها مما لا يصح نقلها كما في "النهر". (¬2) رواه البخاري (3242)، كتاب: الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}، ومسلم (1645)، كتاب الأيمان، باب: الاستثناء، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) انظر: "الشفا" للقاضي عياض (2/ 166 - 167).

[36]

{لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} المراد: أراد أن يفرده في البشر؛ ليكون خاصة له وكرامة، ولم يفعل هذا غيرةً على الدنيا، ولا نفاسةً بها. قال ابن عطية: وهذا هو الظاهر من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته، وقيل: أراد: لا ينبغي لأحد من بعدي مدة حياتي؛ أي: لا أُسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني (¬1). قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (مِن بَعْدِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} المعطي ما تشاء لمن تشاء. ... {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)}. [36] {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} فذللناها لطاعته إجابةً لدعوته. قرأ أبو جعفر: (الرِّيَاحَ) بألف بعد الياء على الجمع، وقرأ الباقون: بغير ألف على التوحيد (¬3). {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} حال من ضمير (تجري)؛ أي: رخوة لينة. {حَيْثُ أَصَابَ} أي: قصد. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 505). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 557)، و"التيسير" للداني (ص: 188)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 265). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 265).

[37]

{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)}. [37] {وَالشَّيَاطِينَ} عطف على {بَنَّاءٍ} وتبدل من الشياطين. {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} فكانوا يبنون له الأبنية العجيبة، ويغوصون في البحر يستخرجون له اللؤلؤ. ... {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)}. [38] وتعطف على {وَغَوَّاصٍ}: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ} مشدودين {فِي الْأَصْفَادِ} بالقيود، فكان يأخذ مَرَدَةَ الشياطين، فيجمع أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع، ويتركهم كذلك. ... {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)}. [39] {هَذَا عَطَاؤُنَا} الذي لا يقدر عليه غيرنا. {فَامْنُنْ} فأعطِ منه مَنْ شئت. {أَوْ أَمْسِكْ} امنع عن الإعطاء من شئت {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: غيرَ محاسَبْ على الإعطاء والمنع، وكان إذا أعطى أُجر، وإن منع لم يأثم، بخلاف غيره. ... {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)}. [40] {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} لقربى في الآخرة {وَحُسْنَ مَآبٍ} وهو الجنة.

[41]

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)}. [41] ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - بذكر - أيوب عليه السلام - وما ابتلي به؛ ليأتم به (¬1) الصابرون، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي} أي: بأني (¬2) {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} مشقة {وَعَذَابٍ} ألم المرض. قرأ حمزة: (مَسَّنِي الشَّيْطَانُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها، وقرأ أبو جعفر: (بِنُصُبٍ) بضم النون والصاد، وقرأ يعقوب: بفتحهما (¬3)، وقرأ الباقون: بضم النون وإسكان الصاد (¬4)، وكلها لغات بمعنى البلاء والشدة، والمراد: ما قاساه في مرضه قال: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} تأدبًا مع الله تعالى، وإن كانت الأشياء كلها منه تعالى، ونسب ذلك إلى الشيطان؛ لأنه كان بسببه ووسوسته، وتقدم ذكر القصة في سورة الأنبياء. ... {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)}. [42] فعوفي، وقيل له: {ارْكُضْ} اضرب الأرض {بِرِجْلِكَ} فركض، فنبعت عين ماء، فقيل: {هَذَا مُغْتَسَلٌ} أي: موضع غسل. {بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي: ماء تغتسل به، وتشرب منه فتبرأ. ¬

_ (¬1) "ليأتم به" ساقطة من "ت". (¬2) "أي: بأني" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 557)، و"التيسير" للداني (ص: 188)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 266). (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 709)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 361)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 266 - 267).

[43]

روي أنه ركض باليمنى (¬1)، فخرجت عين حارة، وركض باليسرى، فخرجت عين باردة، فاغتسل من الحارة، وشرب من الباردة، فزال عنه كل ألم كان بظاهره وباطنه (¬2). وروي أن سبب بلاء أيوب أنه دخل مع أهل قريته على مَلِكهم، فكلَّموه في ظلمه، وأغلظوا له، إلا أيوب؛ فإنه رفق به مخافة على زرعه، فعاقبه الله على ذلك ببلائه (¬3). ... {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)}. [43] {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} روي أن الله سبحانه وهب له أهله وماله في الدنيا، فأحيا الله (¬4) مَنْ مات منهم، وما هلك من ماشيته وماله (¬5). {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} بارك في جميع ذلك، وولد له الأولاد حتى تضاعف الحال. ¬

_ (¬1) في "ت": "باليمين". (¬2) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 99)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (7/ 384)، وظاهر نظم القرآن الكريم عدم تعدد الضرب والنبع، كما ورد في "روح المعاني" للألوسي (23/ 207)، و"الإسرائيليات" لأبي شهبة (ص: 281). (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ 61)، عن الليث بن سعد. (¬4) لفظة الجلالة لم ترد في "ش". (¬5) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 508).

[44]

{رَحْمَةً مِنَّا} أي: لرحمتنا عليه. {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أي: وتذكيرًا لذوي العقول. ... {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)}. [44] روي أن أيوب -عليه السلام- كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه، فيتلقاها الشيطان في صورة طبيب، ومرة في هيئة ناصح، فيقول لها: لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني، لبرئ، ولو ذبح عناقًا للصنم الفلاني، لبرئ، ويعرض عليها وجوهًا من الكفر، فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب، فيقول لها: أَلَقيتِ عدوَّ الله في طريقك؟ فلما أغضبته ونحوه (¬1)، حلف إن عوفي ليجلدنها مئة جلدة (¬2)، فلما عوفي، لطف الله تعالى بها؛ لخدمتها أيوب، فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} هو قبضة من الشجر فيها مئة قضيب. {فَاضْرِبْ بِهِ} زوجتك لتبرَّ بيمينك {وَلَا تَحْنَثْ} أي: لا تدع الضرب فتحنث، فأخذ مئة عود، وضربها ضربة واحدة، فحلل الله يمينه، وهي رخصة في الحدود. واختلف الأئمة فيها، فمذهب الشافعي إذا وجب الحد على مريض، وكان جلدًا، أُخِّر للمرض، فإن لم يرج برؤه، جُلد بعثكال عليه مئة غضن، ¬

_ (¬1) "ونحوه" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (15/ 212).

فإن كان خمسون، ضرب به مرتين، وتمسه الأغصان، أو ينكس بعضها على بعض ليناله بعض الألم، فإن برئ، أجزأه، ومذهب أبي حنيفة: يؤخر فلا يجلد حتى يبرأ؛ كمذهب الشافعي، فإن كان ضعيف الخلقة يخاف عليه الهلاك لو ضرب ضربًا (¬1) شديدًا، يضرب مقدار ما يتحمله من الضرب، ومذهب مالك: لا يضرب إلا بالسوط، ويفرق الضرب، وعدد (¬2) الضربات مستحق لا يجوز تركه، فإن كان مريضًا، أخر إلى أن يبرأ؛ كمذهب الشافعي وأبي حنيفة، ومذهب أحمد: يقام الحد في الحال، ولا يؤخر للمرض، ولو رجي زواله، ويضرب بسوط يؤمن معه التلف؛ كالقضيب الصغير، فإن خشي عليه من السوط، أقيم بأطراف الثياب، وعثكول النخل، فإن خيف عليه من ذلك، جمع ضغث فيه مئة شمراخ، فضرب به ضربة واحدة؛ كقول الشافعي. وأما إذا كان الحد رجمًا، فلا يؤخر بالاتفاق، ولا يقام الحد على حامل حتى تضع بغير خلاف، فأبو حنيفة إن كان حدها (¬3) الجلد، فحتى تتعالى؛ أي: تخرج من نفاسها، وإن كان الرجم، فعقيب الولادة، وإن لم يكن للصغير من يربيه، فحتى يستغني عنها، والشافعي: حتى ترضعه اللبأ ويستغني بغيرها، أو فطام لحولين، ومالك وأحمد: بمجرد الوضع. {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} على البلاء، وقول أيوب: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} لم يكن جزعًا؛ لأنها شكاية إلى المحبوب، فدل على أنه في غاية الصبر. ¬

_ (¬1) "ضربًا" ساقطة من "ت" و"ش". (¬2) "الضرب وعدد "زيادة من "ت". (¬3) "حدها" ساقطة من "ت".

[45]

{نِعْمَ الْعَبْدُ} أيوبُ {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجاع إلى الله تعالى. {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)}. [45] {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} قرأ ابن كثير: (عَبْدَنَا) بفتح العين وإسكان الباء بغير ألف على الإفراد، فيجعل (إِبْرَاهِيمَ) عطفَ بيان، ويعطف عليه (وَإِسْحَاق وَيَعْقُوبَ)، وقرأ الباقون: (عِبَادَنَا) بكسر العين وفتح الباء وألف بعدها على الجمع (¬1)، جعلوا الأسماء الثلاثة بعده عطفَ بيان، ولم يذكر إسماعيل معهم؛ لأنه لم يُبتل كهؤلاء، تلخيصه: أخبر يا محمد عن هؤلاء. {أُولِي الْأَيْدِي} القوة على العبادة والأفعال الجميلة، وعبر باليد عنها؛ لأنها غالبًا تفعل باليد {وَالْأَبْصَارِ} البصائر في الدين والعلم. {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)}. [46] {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ} اصطفيناهم {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه: (بِخَالِصَةِ) بغير تنوين على الإضافة؛ أي: أخلصناهم بذكر الدار الآخرة؛ أي: يعملون لها، والذكرى بمعنى الذكر، وقرأ الباقون: بالتنوين (¬2)؛ أي: بخالصةٍ هي ذكرى الدار، فتكون (ذِكْرَى الدَّارِ) بدلًا عن (الْخَالِصَةِ). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 554)، و"التيسير" للداني (ص:188)، و"تفسير البغوي" (3/ 710)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 268). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 554)، و"تفسير البغوي" (3/ 710)، =

[47]

{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)}. [47] {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ} المختارين، جمع مصطفى. {الْأَخْيَارِ} جمع خَيِّر. {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)}. [48] {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ} هو ابن إبراهيم عليهما السلام. {وَالْيَسَعَ} هو ابن أخطوب بن العجوز [استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثم استنبئ، وتقدم ذكره في سورة الأنعام، وكان هو وإلياس قبل زكريا عليهم السلام] (¬1). قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وَاللَّيْسَعَ) بتشديد اللام وإسكان الياء، والباقون: بإسكان اللام مخففة وفتح الياء (¬2)، وهما لغتان، فمن قرأ بلامين، فأصل الاسم لَيْسَع، ثم أدخلت الألف واللام [للتعريف، ومن قرأ بلام واحدة، فالاسم يَسَعُ، ودخلت الألف واللام] (¬3) زائدتين؛ كزيادتهما في نحو الخمسة عشر. {وَذَا الْكِفْلِ} تقدم ذكره (¬4) في سورة الأنبياء. ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 361)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 269). (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 104)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 270). (¬3) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬4) في "ت": "تفسيره".

[49]

{وَكُلٌّ} تنوينُه عوض من محذوف؛ أي: كلهم {مِنَ الْأَخْيَارِ}. {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)}. [49] {هَذَا} أي: الذي يتلى عليكم {ذِكْرٌ} شرف وثناء جميل للأنبياء. {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} مَرْجِع. {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)}. [50] {جَنَّاتِ عَدْنٍ} عطف بيان لحسن مآب. {مُفَتَّحَةً} نعمت للجنات {لَهُمُ الْأَبْوَابُ} رفع، بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي الأبواب. {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)}. [51] {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} على الأرائك {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} والاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن مطاعمهم لمحض التلذذ. {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)}. [52] {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} لا ينظرن إلى غير أزواجهن.

[53]

{أَتْرَابٌ} جمع تِرْب، وهم الأصفياء على سن واحد، فكأن التراب (¬1) قد مسهم في وقت واحد عند الولادة، وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة، لا يتباغضن ولا يتغايرن. {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)}. [53] {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (يُوعَدُونَ) بالغيب؛ أي: المتقون، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬2)؛ أي: قيل لهم ثَمَّ: هذا ما توعدون. {لِيَوْمِ} أي: لأجل يوم (¬3) {الْحِسَابِ} كادخر هذا ليوم كذا. {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)}. [54] {إِنَّ هَذَا} المذكور {لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي: انقطاع. {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)}. [55] {هَذَا} أي: الأمر هذا. {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} للكافرين {لَشَرَّ مَآبٍ} مرجع. ¬

_ (¬1) "التراب" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 555)، و"التيسير" للداني (ص: 188)، و"تفسير البغوي" (3/ 711)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 271). (¬3) "يوم" زيادة من "ت".

[56]

{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)}. [56] {جَهَنَّمَ} بدل من (لَشَرَّ) {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها. {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش. {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)}. [57] {هَذَا} أي: العذاب {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ} وهو الماء الحار الذي انتهى حره {وَغَسَّاقٌ} الزمهرير، وقيل: هو ما يسيل من صديد أهل النار وفروج الزناة. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (وَغَسَّاقٌ) بتشديد السين، والباقون: بتخفيفها (¬1)، ومعناهما واحد. {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)}. [58] {وَآخَرُ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب: بضم الألف من غير مد على الجمع؛ أي: مذوقات أخر، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة مشبعة على التوحيد (¬2)؛ أي: وعذاب آخر {مِنْ شَكْلِهِ} أي: مثله. {أَزْوَاجٌ} أجناس تماثل العذاب؛ أي: يعذبون بأنواع مختلفة. ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 188)، و"تفسير البغوي" (3/ 711)، و"النشر في القراءت العشر" لابن الجزري (2/ 361)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 271 - 272).

[59]

{هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)}. [59] فإذا دخل القادة النار، ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة إشارة إلى الأتباع: {هَذَا فَوْجٌ} جمع. {مُقْتَحِمٌ} داخل {مَعَكُمْ} النار، والاقتحام: الدخول بشدة. روي أن الزبانية تضربهم بالمقامع في النار، فثم يقول القادة دعاءً منهم على أتباعهم: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي: لا سعة عليهم في عيشهم، والمرحبة والرحبة: السعة، تقول العرب: مرحبًا، وأهلًا وسهلًا؛ أي: أتيت رحبًا وسعة، وتقول: لا مرحبًا بك؛ أي: لا رحبت عليك الأرض. {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} داخلوها مثلنا. {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)}. [60] {قَالُوا} أي: الأتباع للقادة: {بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} بل أنتم أحق بما قلتم. {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ} أي: الكفر، وشرعتموه. {لَنَا} فلنا ولكم النار {فَبِئْسَ} الدارُ {الْقَرَارُ} جهنم. {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)}. [61] {قَالُوا} أي: الأتباع: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} أي: هذا الدين، وهو الكفر {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا} أي: مضاعفًا {فِي النَّارِ}.

[62]

{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)}. [62] ولما دخل الكفار من صناديد قريش النار، تحيروا {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى} هنا {رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ} في الدنيا {مِنَ الْأَشْرَارِ}؟ يعنون: فقراء المسلمين، وهم عمار، وخباب، وصهيب، وبلال، وسلمان رضي الله عنهم (¬1). {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)}. [63] ثم ذكروا أنهم كانوا يسخرون من هؤلاء، فقالوا: {أَتَّخَذْنَاهُمْ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف: (مِنَ الأَشْرَارِ اتَّخَذْنَاهُمْ) بوصل همزة (اتَّخذْنَاهُمْ) على الخبر؛ أي: إنا اتخذناهم، ويبتدئون بكسر الهمزة، وقرأ الباقون: بقطع الهمزة مفتوحة على استفهام توبيخ أنفسهم (¬2). {سِخْرِيًّا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: بضم السين؛ من التسخير، وهو العمل بلا أجر، وقرأ الباقون: بكسرها؛ من الهزء (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (21/ 232)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (24/ 226). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 201). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 188)، و"تفسير البغوي" (3/ 712)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 261 - 262)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 273). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 556)، و"التيسير" للداني (ص: 260)، =

[64]

{أَمْ زَاغَتْ} مالت {عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} أي: هم معنا ولا نراهم. {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}. [64] {إِنَّ ذَلِكَ} الذي وصفنا {لَحَقٌّ} لصدق. {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} سمي تخاصمًا؛ لتقاولهم. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)}. [65] {قُلْ} يا محمد لمشركي مكة: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} مخوِّف. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ} الذي لا شريك له {الْقَهَّارُ} لكل شيء. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)}. [66] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فهو مالك جميع العالم. {الْعَزِيزُ} الغالب {الْغَفَّارُ} لمن تاب. {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)}. [67] {قُلْ} يا محمد: {هُوَ} أي: القرآن. ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 273).

[68]

{نَبَأٌ عَظِيمٌ} يتضمن وعظُه: أن التصديق فيه نجاة، والتكذيب فيه هلكة. {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)}. [68] {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} لتمادي غفلتكم، هو توبيخ لهم. {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)}. [69] {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} هم الملائكة {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في شأن آدم حين قال اللهُ لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]. قرأ حفص عن عاصم: (مَا كَانَ لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)}. [70] {إِنْ يُوحَى} أي: ما يوحى {إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} قرأ أبو جعفر: (إِنَّمَا) بكسر الهمزة على الحكاية، كأنه قيل له: إنما أنت نذير مبين، فحكى هو المعنى، وهذا كما يقول إنسان: أنا عالم، فيقال له: لم قلت: إِنك عالم؟ فيحكي المعنى، وقرأ الباقون: بالفتح (¬2)؛ كأنه ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 556)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 374)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 273). (¬2) انظر "تفسير البغوي" (3/ 713)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[71]

يقول: إلا الإنذار، والمعنى: ما علمت هذا إلا بوحي. {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)}. [71] {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} بدل من قوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ}: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} يعني: آدم. {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)}. [72] {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أتممت خلقه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وأحييته بنفخ الروح فيه {فَقَعُوا} خروا {لَهُ سَاجِدِينَ} تكرمةً وتبجيلًا، لا عبادة، ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، وإنما كان الانحناء، فلما جاء الإسلام، أبطله. {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)}. [73] {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}. {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)}. [74] {إِلَّا إِبْلِيسَ} استثناء من الساجدين. {اسْتَكْبَرَ} عن السجود {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} باستكباره. ¬

_ = (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 274).

[75]

{قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)}. [75] {قَالَ} الله: {يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} بنفسي من غير توسيط كأب وأم؟ واليدان صفة من صفات الله تعالى -عز وجل- نؤمن بها كما جاءت، ونكل العلم فيها إلى الله، ثم أدخلت همزة استفهام التوبيخ على همزة الوصل، فحذفت وبقيت مفتوحة، فقيل: {أَسْتَكْبَرْتَ} عن السجود لآدم {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} المتكبرين من غير استحقاق؟ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)}. [76] {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} تقدم الكلام عليه في سورة الأعراف، والحجر، والإسراء. {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)}. [77] {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} من الجنة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرود. {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)}. [78] {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} قرأ نافع، وأبو جعفر: (لَعْنَتِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 188)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[79]

{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)}. [79] {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)}. [80] {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}. {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)}. [81] {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} هي النفخة الأولى. {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)}. [82] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} فبسلطانك وقهرك {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)}. [83] {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع. وتقدم اختلاف القراء في (الْمُخْلَصِينَ)، وتوجيه قراءاتهم في سورة الصافات [الآية: 40]. ¬

_ = (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 275).

[84]

{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)}. [84] {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}. {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}. [85] {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} يا إبليس وذريتك {وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي: من ذرية آدم {أَجْمَعِينَ} تأكيد للضمير في (مِنْهُمْ). قرأ عاصم، وحمزة، وخلف: (فَالْحَقُّ) بالرفع في الأول، معناه: أنا الحقُّ، وأقول الحقَّ، والباقون: بالنصب فيهما (¬1)، فنصب الأول على الإغراء؛ كأنه ألزم الحق، والثاني بإيقاع الفعل عليه؛ أي: أقول الحقَّ، ومن رفعهما على القراءة الشاذة، فمعناه: أنا الحقُّ، والحقُّ أقوله، والمراد بالحق: اسمه تعالى في قوله: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]. {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)}. [86] {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على تبليغ الرسالة {مِنْ أَجْرٍ} جُعل. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} المتقوِّلين القرآنَ من تلقاء نفسي. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 557)، و"التيسير" للداني (ص: 188)، و"تفسير البغوي" (3/ 715)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 276).

[87]

{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)}. [87] {إِنْ هُوَ} أي: القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ} موعظة. {لِلْعَالَمِينَ} للخلق أجمعين. {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}. [88] {وَلَتَعْلَمُنَّ} أيها المشركون {نَبَأَهُ} صدقَ ما أخبرتُكم به في القرآن من الوعيد {بَعْدَ حِينٍ} بعد مدة، وهو يوم القيامة، والله أعلم.

سورة الزمر

سُوْرَةُ الزُّمَرِ مكية إلا ثلاث آيات، نزلت في شأن وَحْشي قاتلِ حمزة بن عبد المطلب، وهي: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآيات الثلاث (¬1)، وقالت فرقة: بل إلى آخر السورة مدني، وقيل: فيها مدني سبع آيات، وآيها: خمس وسبعون آية، وحروفها: أربعة آلاف وسبع مئة وثمانية أحرف، وكلمها: ألف ومئة واثنتان وسبعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}. [1] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا تنزيل الكتاب، وإن شئت جعلته مبتدأ، وخبره {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} في قدرته {الْحَكِيمِ} في إرادته (¬2)، والإشارة إلى القرآن أنه تنزيل من الله لا من غيره. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (21/ 307)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2731)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11480)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7139). (¬2) في "ت" و"ش": "إبداعه".

[2]

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)}. [2] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {بِالْحَقِّ} فيه، وفي أحكامه وأخباره. {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} حالٌ من العابد {لَهُ الدِّينَ} نصب به؛ أي: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)}. [3] {أَلَا لِلَّهِ} أي: من حقه، ومن واجباته. {الدِّينُ الْخَالِصُ} من الشرك، لا يقبل غيره. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} أي: من دون الله {أَوْلِيَاءَ} والعائد إلى (الَّذِينَ) محذوف؛ أي: والذين اتخذهم الكفار آلهة من دون الله؛ كالأصنام، وعيسى، والعزير، والملائكة، قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} تقريبًا، مصدر. {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بين العابد والمعبود، والمسلم والكافر. {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدين، فيدخل المؤمن الجنة، والكافر النار. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} إلى الإسلام {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ} في أن الآلهة تشفع

[4]

له، أو تقربه {كَفَّارٌ} وهذه المبالغة إشارة إلى المتوغل في الكفر، العاتي فيه. {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)}. [4] {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} كما زعموا {لَاصْطَفَى} لاختار. {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ولم يخص (¬1) مريم ولا عيسى بذلك، ولخلق أشرف منه، واتخذه ولدًا (¬2) ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ} تنزيهًا له. {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ} المنفرد عن الصاحبة والولد {الْقَهَّارُ} اتصاف على الإطلاق؛ لأن أحدًا من البشر إن اتصف بالقهر، فمقيد في أشياء قليلة، وهو في حيز قهره لغيره مقهور لله تعالى على أشياء كثيرة. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)}. [5] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} بالواجبِ الواقعِ موقعَه، الجامعِ للمصالح. {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} يذهب أحدهما، ¬

_ (¬1) في "ت": "يختص". (¬2) "ولدًا" زيادة من "ت".

[6]

ويغشي مكانه الآخر، فيكون كأنه قد غشيه، ولف عليه، وأصل التكوير: اللفُّ والجمع، ومنه كور العمامة التي تلوى بعضها على بعض. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} وتسخيرهما: دوامهما على الجري لمصالح العباد. {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} مدة الدنيا {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ} القادر على كل ممكن {الْغَفَّارُ} لذنوب التائبين. {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)}. [6] {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: نفس آدم {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني: حواء خلقت من ضلعه القصيرى، و (ثم) لترتيب الأخبار، لا لترتيب المعاني؛ لأنه لما كان خلق حواء من آدم غريبًا عادة، عطفت (ثم) ما بعدها على ما قبلها لفظًا، فكأنه قال: ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها. {وَأَنْزَلَ} أحدث {لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} هي المذكورة في سورة الأنعام. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (وَأَنْزَل لَّكُمْ) بإدغام اللام الأولى في الثانية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 338)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 9).

[7]

{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا} مصدر {مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي: نطفًا، ثم علقًا، ثم مضغًا، ثم عظامًا، ثم خلقًا سويًّا. قرأ حمزة: (إِمِّهَاتِكُمْ) بكسر الهمزة والميم، وقرأ الكسائي: بكسر الهمزة فقط، وكل منهما بشرط الوصل، وقرأ الباقون: بضم الهمزة وفتح الميم، واتفقوا على الابتداء كذلك (¬1). {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} هي ظلمة البطن، والرحم، والمشيمة. {ذَلِكُمُ اللَّهُ} الذي خلق هذه الأشياء {رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فكيف تعدلون عن طريق الحق، وبأي سبب تضلون؟! {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}. [7] ثم بين أن لا حاجة به إليهم، فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى} مع ذلك. {لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} رحمة لهم إذا وقعوا فيه {وَإِنْ تَشْكُرُوا} لله تعالى، فتؤمنوا {يَرْضَهُ} أي: يرضى الشكر {لَكُمْ} لأنه سبب فلاحكم. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (يَرْضهُ) بإشباع ضمة الهاء، وقرأ السوسي عن أبي عمرو: بإسكان الهاء، وقرأ نافع، وحمزة، ويعقوب، وحفص عن ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 94)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 375)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 9).

[8]

عاصم: باختلاس ضمة الهاء، وروي عن كل من الدوري راوي أبي عمرو، وابن جماز راوي أبي جعفر: وجهان: الإسكان، والإشباع، وروي عن كل من هشام راوي ابن عامر، وأبي بكر راوي عاصم: وجهان: الإسكان، والاختلاس، وروي عن كل من ابن ذكوان راوي ابن عامر، وابن وردان راوي أبي جعفر: وجهان: الاختلاس والإشباع (¬1). {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا يحمل أحد ذنب غيره. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمحاسبة والمجازاة. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم. {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}. [8] {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} راجعًا إليه مستغيثًا. {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} أعطاه {نِعْمَةً مِنْهُ} من الله. {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي: نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 560)، و"التيسير" للداني (ص: 189)، و"تفسير البغوي" (4/ 7)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 307 - 309)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 9 - 10).

[9]

{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} يعني: الأوثان {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} ليصد عن دين الإسلام. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس بخلاف عنه: (لِيَضِلَّ) بفتح لياء، والباقون: بضمها (¬1). {قُلْ} لهذا الكافر: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} في الدنيا إلى انقضاء أجلك. {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}. {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)}. [9] ونزل في كل مؤمن: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} مصلّ ساعاتِه. قرأ نافع، وابن كثير، وحمزة: (أَمَنْ) بتخفيف الميم دخلت همزة الاستفهام على (مَنْ)، تقديره: أمن هو قانت كغيره؟ وقرأ الباقون: بتشديدها (¬2)، دخلت (أَمْ) على (مَنْ)، فأدغمت فيها الميم، فـ (أم) منقطعة، تقديره: الكافر خير أم المطيع؟ فمن خفف، اتبع المصحف؛ لأنها فيه بميم واحدة، ومن شدد، فعلى الأصل. {سَاجِدًا وَقَائِمًا} يعني: في الصلاة، ونصبهما حال من ضمير (قَانِتٌ) {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} يخاف عذابها {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} هي المغفرة، ثم بين أَنْ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 134)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 375)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 10 - 11). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 561)، و"التيسير" للداني (ص: 189)، و"تفسير البغوي" (4/ 8)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 11).

[10]

لا مساواة بين من نزلت فيه هذه الآية، وبين من نزلت فيه الآية التي قبل بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} التوحيدَ، ويعملون بمقتضاه، وهم المؤمنون. {وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك، وهم الكفار؟ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} بأمثال هذه البيانات. {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)}. [10] {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} بطاعته. أجمع القراء على الوقف على (يَا عِبَادِ) بالحذف، إلا ما انفرد به الحافظ أبو العلاء عن رويس. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} أي: للمحسنين بالطاعات في الدنيا مثوبة {حَسَنَةٌ} في الآخرة. {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} قال ابن عباس: "يعني: ارتحلوا من مكة" (¬1)، وفيه حث على الهجرة من البلد الذي تظهر فيه المعاصي. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} الذين صبروا على دينهم، فلم يتركوه للأذى. {أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: مكيال، قيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 9).

[11]

وأصحابه؛ حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء، وصبروا (¬1). {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)}. [11] {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} التوحيدَ، لا أشرك به شيئًا. قرأ نافع، وأبو جعفر: (إِنِّيَ) بفتح الياء (¬2)، والباقون: بإسكانها (¬3). {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)}. [12] {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من أمتي، و (أُمِرْتُ) الثاني معطوف على (أُمِرْتُ) الأول، وإن كان لفظهما واحدًا؛ لأن الأول أمر بالعبادة مع الإخلاص، والثاني بالسبق، فلاختلاف جهتيهما تنزَّلا منزلةَ المختلفين، وصح عطف أحدهما على الآخر. {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)}. [13] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} عبدتُ غيره {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا حين دُعي إلى دين آبائه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 9)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 523)، و"تفسير القرطبي" (15/ 240). (¬2) "الياء" ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 190)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 364)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 12).

[14]

وأبو عمرو (¬1): (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)}. [14] {قُلِ اللَّهَ} نصب بقوله: {أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أُمر بالإخبار عن إخلاصه، وأن يكون مخلصًا له دينه بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورًا بالعبادة والإخلاص، خائفًا على المخالفة من العقاب. {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)}. [15] {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أمر توبيخ وتهديد، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} المبالغين في الخسران {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بدخول النار {وَأَهْلِيهِمْ} المعدين لهم في الجنة من الحور والولدان لو آمنوا؛ بعدم وصولهم إليهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} حين يدخلون النار بدل الجنة. {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} مبالغة في خسرانهم. ¬

_ (¬1) "وأبو عمرو" زيادة من "ت". (¬2) المصادر السابقة.

[16]

{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)}. [16] {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} أطباق وسرادقات من النار (¬1) ودخانها. {وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} لمن تحتهم، وهي فرش لهم {ذَلِكَ} المذكور {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} المؤمنين؛ ليتقوه، يوضحه: {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} قرأ رويس عن يعقوب: (يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِي) بإثبات الياء فيهما، وافقه روح في الثاني (¬2). {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)}. [17] ونزل في أبي ذر، وسلمان، وزيد بن عمرو بن نفيل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} (¬3) أي: الأوثان، وتذكر وتؤنث، وهو من الطغيان، وزيدت التاء فيه مبالغة؛ كالرحموت. ¬

_ (¬1) "أطباق وسرادقات من النار" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 364)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 13). (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 525)، و"تفسير البغوي" (4/ 10)، و"تفسير القرطبي" (15/ 244). قال ابن عطية: وهي على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها.

[18]

{أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} رجعوا إلى عبادته {لَهُمُ الْبُشْرَى} في الحياة الدنيا بالثواب، وفي الآخرة بحسن المآب على ألسنة الرسل {فَبَشِّرْ عِبَادِ}. {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)}. [18] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} أي: قول الله. قرأ السوسي عن أبي عمرو: (عِبَادِي) بإثبات الياء ساكنة وقفًا، مفتوحة وصلًا، وافقه يعقوب وقفًا (¬1) {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي: أفضله، وهو ما في القرآن من عفو وصفح، واحتمال على صبر، ونحو ذلك. {أُولَئِكَ} المذكورون مبتدأ، خبره {الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} لأنهم كانوا يأخذون بعزائم القرآن، وهو أحسنه بالنسبة إلى أخذه؛ لأنه كله حسن، لا أن فيه حسنًا وأحسن. {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} العقول السليمة. {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}. [19] {أَفَمَنْ حَقَّ} أي: ثبت {عَلَيْهِ} من الكفار {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} وهي: هَؤُلاَءِ لِلنَّارِ وَلا أُبَالي {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} هذه الآية جملة ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 561)، و"التيسير" للداني (ص: 67 و 189)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 138 و 364)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 13).

[20]

واحدة من شرط وجزاء، فالشرط (مَنْ)، وجيء بالفاء قبله للعطف على محذوف، والهمزة قبلها للإنكار، والفاء في (أَفَأَنْتَ) جزاء الشرط، والهمزة قبلها زيادة في الإنكار، تقديره: أأنت المتصرفُ، فمن وجب عليه العذاب، فأنت منقذه؟ أي: لا تقدر على هداية الكافرين، والمراد: أبو لهب وولده، قاله ابن عباس (¬1). {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}. [20] {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} قرأ أبو جعفر: (لَكِنَّ) بتشديد النون، والباقون: بتخفيفها (¬2). {لَهُمْ غُرَفٌ} علالي {مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} كبناء المنازل في الأرض، بعضُها فوق بعض. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: من تحت المنخفضة والمرتفعة من غير تفاوت بين العلو والسفل. {وَعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد. {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} لأن الخلف نقص، وهو تعالى منزه عنه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 11)، و"تفسير القرطبي" (15/ 244). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 247)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 14).

[21]

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)}. [21] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هو المطر {فَسَلَكَهُ} أدخله {يَنَابِيعَ} عيونًا وركايا {فِي الْأَرْضِ} فكل ما في الأرض من السماء ينزل منها إلى صخرة بيت المقدس، ثم يقسمه الله تعالى في الأرض كالعروق في الأجساد. وروي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "المياه العذبةُ، والرياح اللواقحُ من تحتِ صخرةِ بيتِ المقدس" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأنهار الأربعةُ سيحانُ وجيحانُ والنيلُ والفراتُ"، فأما سيحان، فنهر بلخ، وأما جيحان، فدجلة، وأما النيل، فنيل مصر، وأما الفرات، ففرات الكوفة، فكل ما يشرب ابن آدم، فهو من هذه الأربعة، وتخرج من تحت الصخرة (¬2). {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} بالماء {زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} من أخضر وأحمر وغيرهما. ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 73)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 220)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: وهو حديث منكر كما قال ابن عدي. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (24/ 135 - 136)، وروى مسلم في "صحيحه" (2839)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ما في الدنيا من أنهار الجنة، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "سَيحان وجيحان، والفرات والنيل، كلٌّ من أنهار الجنة".

[22]

{ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يتم جفافه {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعد خضرته وحسنه. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} فتاتًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} إذ لا يتذكر به غيرهم، وهذا مثل الدنيا. {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)}. [22] {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} أي: وسعه {لِلْإِسْلَامِ} فقبله، وأقبل عليه. {فَهُوَ عَلَى نُورٍ} هدى {مِنْ رَبِّهِ} وجواب (مَنْ) محذوف، تقديره: أفمن شرح صدره، فاهتدى، كمن طبع على قلبه فضل؟ يدل عليه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} المعنى: إذا ذكر عندهم، ازدادت قلوبهم قسوة. {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} والآية نزلت في حمزة وعلي -رضي الله عنهما-، وأبي لهب وولده، قال مالك بن دينار: "ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 12)، و"تفسير القرطبي" (15/ 248).

[23]

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}. [23] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} أي: القرآن، وتبدل من (أَحْسَن) {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} يشبه بعضه بعضًا حسنًا ونظمًا {مَثَانِيَ} أي: مردَّد ومكرَّر في أحكامه {تَقْشَعِرُّ} تضطرب وتشمئز {مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} خوفًا وإجلالًا لله تعالى، والقشعريرة: تغير في جسد الإنسان عند الوجد والخوف. {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فهي تقشعر عند الوعيد، وتلين عند الوعد. عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اقشعر جلدُ العبد من خشية الله، تَحاتَّتْ عنه ذنوبُه كما تتحاتُّ عن الشجرة اليابسة وُرقها" (¬1). {ذَلِكَ} أي: الكتاب {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} بخذلانه. {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ينقذه من الضلال. قرأ ابن كثير: (هَادِي) بإثبات الياء ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (1322)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 56)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (803)، من حديث العباس رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 310): فيه أم كلثوم بنت العباس ولم أعرفها، وبقية رجاله ثقات.

[24]

حالة الوقف، وروي ذلك عن قنبل، ويعقوب (¬1). {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)}. [24] {أَفَمَنْ يَتَّقِي} معناه: أفمن يدخل النارَ فيتقي {بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} أشدَّه، كمن هو آمن منه {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} المعنى: أن الإنسان إذا عرض له ما يخافه، اتقاه بيده، وطلب أن يتقي بها وجهه؛ لأنه أعز أعضائه، والذي يلقى في النار مغلولةً يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه {وَقِيلَ} أي: ويقول الخزنة. {لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا} جزاء. {مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} من الكفر والمعاصي. {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)}. [25] ثم حذر كفار مكة بعذاب من تقدمهم، فقال: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} رسلَهم. {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} من جهة لا يخطر ببالهم أن العذاب يأتيهم منها. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 136 - 137)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 375)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 15).

[26]

{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)}. [26] {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} الذلَّ والهوان، والمسخ والقتل والسبي، وغيرها. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ} المعَدُّ لهم {أَكْبَرُ} لشدته ودوامه. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ذلك، لاعتبروا به. {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)}. [27] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} يحتاج إليه. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون. {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)}. [28] {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حال مؤكدة؛ كقولك: جاءني زيد رجلًا صالحًا، وإنسانًا عاقلًا، ويجوز أن ينتصب على المدح. {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} بريئًا من التناقض. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الكفر.

[29]

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)}. [29] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا} بدل من (مَثَلًا) {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} متنازعون، سيئة أخلاقُهم. {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (سَالِمًا) بألف بعد السين وكسر اللام؛ أي: خالصًا، لا مشاركَ له فيه، وقرأ الباقون: (سَلَمًا) بغير ألف وفتح اللام (¬1)؛ أي: لا تنازع فيه، وهذا مثل ضربه الله لأهل التوحيد، ومثَّل الذي عبد الآلهة كمثل الشركاء. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} في الصفة {مَثَلًا} نصب على التمييز، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد أجابوا، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم، ثم قال تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ما يصيرون إليه، فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى، تقديره: الحمد لله على ظهور الحجة، وأن الأمر ليس كما يقولون، بل أكثرهم لا يعلمون. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 562)، و"التيسير" للداني (ص: 189)، و"تفسير البغوي" (4/ 15)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 16).

[30]

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)}. [30] ولما استبطؤوا موته - صلى الله عليه وسلم -، نزل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (¬1) أي: ستموت، ويموتون، فلا شماتة بالموت. {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}. [31] {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} بعدَ البعث. {تَخْتَصِمُونَ} تتحاكمون؛ يعني: المحق والمبطل، والظالم والمظلوم. عن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال: "كنا نقول: ربُّنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟! فلما كان يوم صفين، وشدَّ بعضُنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم، هو هذا" (¬2). {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)}. [32] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} بإضافة الولد والشريك إليه. {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} القرآنِ {إِذْ جَاءَهُ} من غير تفكر في أمره. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 15). (¬2) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 130)، و"تفسير البغوي" (4/ 16)، و"تفسير القرطبي" (15/ 255)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 204).

[33]

{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} منزلٌ {لِلْكَافِرِينَ} استفهام بمعنى التقرير. {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)}. [33] {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَصَدَّقَ بِهِ} هو أبو بكر رضي الله عنه، وقيل: (الذي) هاهنا للجنس؛ ليتناول الرسل والمؤمنين؛ لقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} قال ابن عطية: وهو أصوب الأقوال (¬1). {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)}. [34] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الجنة. {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم. {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [35] {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} يسترها عليهم بالمغفرة. {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: يجزيهم بمحاسن أعمالهم، ولا يجزيهم بمساوئها. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (4/ 531).

[36]

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)}. [36] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} استفهام إنكار للنفي؛ مبالغة في الإثبات. قرأ أبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (عِبَادَهُ) بألف على الجمع؛ يعني: الأنبياء -عليهم السلام-، قصدهم قومهم بالسوء، فكفاهم الله شر من عاداهم، وقرأ الباقون: (عَبْدَهُ) بغير ألف على التوحيد (¬1)؛ يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء (¬2) على (بِكَافِي). {وَيُخَوِّفُونَكَ} الكفارُ يا محمد {بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} بالمعبودين من دون الله تعالى، وهي الأصنام؛ لأنهم قالوا له: نخشى عليك أن تقتلك، أو تخبلك. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه. وقف ابن كثير (هَادِي): بإثبات الياء، وروي ذلك عن يعقوب (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 189)، و"تفسير البغوي" (4/ 17)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 362)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 18). (¬2) "بالياء" ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 136 - 137)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 19).

[37]

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}. [37] {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} إذ لا راد لفعله. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} غالب {ذِي انْتِقَامٍ} من الكافرين؟ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)}. [38] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من آلهتكم {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} بشدة وبلاء {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} بنعمة وبركة {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} المعنى: أفرأيتم هؤلاء إذا أراد الله أمرًا لهم قدرةٌ على نقضه؟ وحذف الجواب عن هذا؛ لأنه من البين أنه لا يجيب أحد إلا بأنه لا قدرة للأصنام على شيء من ذلك. قرأ حمزة: (أَرَادَنِي اللَّهُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: (كَاشِفَاتٌ) (مُمْسِكَاتٌ) بالتنوين، ونصب (ضُرَّهُ) و (رَحْمَتَهُ) على الأصل؛ لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال، وقرأ الباقون: بغير تنوين فيهما تخفيفًا، وخفض (ضُرَّهِ) و (رَحْمَتِهِ) على الإضافة (¬1)، فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 190)، و"تفسير البغوي" (4/ 18)، و"النشر في =

[39]

فسكتوا، فقال الله له: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} (¬1) من كل شيء. {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} يثق الواثقون. {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)}. [39] ثم أمره بتوعدهم بقوله: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: على ما رأيتموه متمكنًا لكم. قرأ أبو بكر عن عاصم: (مَكَانَاتِكُمْ) بألف بعد النون على الجمع، والباقون: بغير ألف على الإفراد (¬2). {إِنِّي عَامِلٌ} أي: على مكانتي، فحذف؛ للاختصار، والمبالغة في الوعيد {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}. [40] {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} هو عذاب الدنيا يوم بدر. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} دائم، وهو عذاب الآخرة أعاذنا الله منه برحمته. ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 363)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 184). (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 132)،، و"تفسير البغوي" (4/ 18). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 107)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 20).

[41]

{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)}. [41] {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآنَ {لِلنَّاسِ} أي: لأجلهم؛ لما فيه من مصلحة العالم وهداية الناس {بِالْحَقِّ} في أخباره وأحكامه. {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} عمل وسعى. {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فإن وبال ضلاله عليه. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} والوكيل: القائم على الأمر حتى يكمله. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}. [42] ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبرى تدل الناظر على الوحدانية، وأن ذلك لا شرك فيه لصنم ولا غيره، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} لأن للإنسان نفسين: نفس الحياة، هي الروح تفارق بالموت، ونفس التمييز تفارق بالنوم، وتبقى نفس الحياة، وبينهما مثل شعاع الشمس، قال ابن عباس: "فيقبض الله تعالى جميع الأنفس التمييزية والحيوانية". {حِينَ} أي: وقت {مَوْتِهَا} لانقضاء أجلها. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} والأنفس التي لم يحكم بموتها يقبض نفسها التمييزية {فِي مَنَامِهَا} أي: وقت نومها؛ بأن تخرج عن جسدها، وتبقى فيه

الحيوانية؛ لأن النفس والحركة بها تكون والنائم نفس (¬1) يتنفس ويتحرك. {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} فلا يردها إلى جسدها. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (قُضِيَ) بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء (الْمَوْتُ) بالرفع على ما لم يُسم فاعله، وقرأ الباقون: بفتح القاف والضاد، فتصير الياء ألفًا، ونصب (الْمَوْتَ) (¬2) مفعولًا به لقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} (¬3). {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} يردُّ النفسَ التي لم يحكم عليها بالموت إلى جسدها {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وقتِ موتها، المعنى: يتوفى الأنفس التي حكم بموتها وقتَ الموت، ويتوفى الأنفس التي لم يحكم بموتها وقت النوم، شبه النائم بالميت؛ لعدم تمييزه، وروي أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم إلى السماء، فمن كان منهم طاهرًا، أذن له في السجود، ومن لم يكن منهم طاهرًا، لم يؤذن له فيه (¬4). {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور {لَآيَاتٍ} لدلالات. {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيستدلون على قدرته تعالى على البعث. ¬

_ (¬1) "نفس" ساقطة من "ت". (¬2) في "ت": "ونصب الياء". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 190)، و"تفسير البغوي" (4/ 19)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 21). (¬4) انظر: "تفسير النسفي" (4/ 56).

[43]

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)}. [43] {أَمِ اتَّخَذُوا} أي: بل اتخذ قريش {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من غير إذنه {شُفَعَاءَ} والهمزة إنكار عليهم؛ لاعتقادهم شفاعة الأصنام حيث قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. {قُلْ} يا محمد: {أَوَلَوْ كَانُوا} أي: وإن كانوا؛ يعني: الآلهة. {لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} من الشفاعة {وَلَا يَعْقِلُونَ} أنكم تعبدونهم؟ وجواب هذا محذوف، تقديره: وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم. {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)}. [44] {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} هو مختص بها، فلا يشفع أحد إلا بإذنه؛ لأنه. {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يُحصي أعمالكم هنا. {ثُمَّ إِلَيْهِ} إلى حسابه ثَمَّ {تُرْجَعُونَ} فيجازيكم. قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء ونصب الجيم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 21).

[45]

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}. [45] {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أي: أُفرد بالذكر دون آلهتهم {اشْمَأَزَّتْ} نفرت {قُلُوبُ} الكافرين. {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني: الأصنام. {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بذلك. روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم، فألقى الشيطان في أمنيته: تلك الغرانيق العلا، ففرح الكفار بذلك (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 230): جاءت من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وقال الآلوسي في "تفسيره" (17/ 177) بعد أن ذكر من أسند هذه القصة: قد أنكر كثير من المحققين هذه القصة، فقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وقال القاضي عياض في "الشفا": يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. ثم ذكر -رحمه الله- عن محمد بن إسحاق وأبي منصور الماتريدي ما ملخصه: أن هذه القصة من وضع الزنادقة يلقونها بين الضعفاء وأرقاء الدِّين ليرتابوا في صحة الدين، وحضرةُ الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية .. إلخ. وانظر: "الإسرائيليات" لأبي شهبة (ص: 314 - 322).

[46]

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)}. [46] {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ} خالقَ {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: التجئ إليه بالدعاء؛ فإنه قادر على ما يشاء، ومعنى اللهم: يا الله برحمتك وفضلك، والغيب: ما غاب عن البشر، والشهادة: ما شهدوه. {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح صلاةً من الليل يقول: اللهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلف فيه من الحق بأمرك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (¬1). {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)}. [47] {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أخبر تعالى عن سوء حال الكفرة يوم القيامة، وأن ما نزل لو قدروا على الافتداء منه بضعف الدنيا بأسرها، لفعلوا. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (770)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

[48]

{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} أي: ظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن في حسابهم. {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)}. [48] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ} أي: جزاء سيئات {مَا كَسَبُوا} من الشرك عند عرض صحائفهم. {وَحَاقَ} نزل {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من البعث والعذاب. {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)}. [49] {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} شدةٌ {دَعَانَا} وعطف هذه الآية بالفاء، وعطف مثلها في أول السورة بالواو؛ لأن هذه وقعت مسببة عن قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} على معنى: إنهم يشمئزون عن ذكر الله، ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدَهم ضر، دعا من اشمأز من ذكره، دونَ من استبشر بذكره، وما بينهما من الآيات (¬1) اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم. {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ} أعطيناه {نِعْمَةً مِنَّا} تفضُّلًا {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي: علم من الله أني أهل له، وذكر الكناية؛ لأن المراد بالنعمة: الإنعام. ¬

_ (¬1) في "ت": "من الآتي".

[50]

{بَلْ هِيَ} أي: النعمة {فِتْنَةٌ} استدراجٌ لهم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك. {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)}. [50] {قَدْ قَالَهَا} أي: مقالتَهُ {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: قارون؛ حيث قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الأموال والمعاصي. {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)}. [51] {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي: جزاؤها وهو العذاب. {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ} يعني: كفار مكة. {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} كما أصاب أولئك. {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين، فقتل صناديدهم ببدر، وقحطوا سبع سنين. {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}. [52] {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} فإنه وسَّع عليهم سبع سنين بعد تلك السبعة.

[53]

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}. [53] عن ابن عباس: أَنَّ ناسًا من المشركين كانوا قَتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (¬1) فَرَّطوا وتعدَّوا الطورَ {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} القنط: أعظم اليأس. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم (¬2): (يَا عِبَادِيَ) بفتح الياء، وقرؤوا هم وحمزة: (لا تَقْنَطُوا) بفتح النون، وقرأ الباقون: بإسكان الياء وكسر النون (¬3). {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} عموم بمعنى الخصوص، على أن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعًا، وهي أيضًا في العاصي مقيدة بالمشيئة، و (جَمِيعًا) نصب على الحال. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4532) كتاب: التفسير، باب قوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا}، ومسلم (122)، كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله، من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-. (¬2) "وعاصم" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 563)، و"التيسير" للداني (ص: 136 و 190)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 302)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 22).

[54]

{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يغفر الذنوب جميعًا ولا يبالي" (¬1). {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)}. [54] {وَأَنِيبُوا} وارجعوا {إِلَى رَبِّكُمْ} عن الذنب تائبين. {وَأَسْلِمُوا لَهُ} أخلصوا العمل لوجهه. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} في الدنيا والآخرة. {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} إن لم تتوبوا قبل نزول العذاب. {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)}. [55] {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وهو القرآن. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً} فجأة. {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} لشغلكم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3237) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الزمر، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 454) من حديث أسماء بنت يزيد، قال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ثابت عن شهر بن حوشب. (¬2) في "ت": "لغفلتكم".

[56]

{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)}. [56] {أَنْ تَقُولَ} (أن) في هذه الآية مفعول من أجله؛ أي: وأنيبوا وأسلموا من أجل أن تقول {نَفْسٌ} نكر نفسًا إرادة الكثرة؛ ليشيع في كل النفوس {يَاحَسْرَتَا} أصلها: يا حسرتي، ومن العرب من يرد ياء الإضافة ألفًا، فيقول: يا غلاما، ويا جارا. قرأ أبو جعفر: (يَا حَسْرَتَاي) بياء بعد الألف، وروي عنه فتحها وإسكانها، وكلاهما صحيح عنه، وقرأ الباقون: بغير ياء، ووقف يعقوب: (يَا حَسْرَتَاهْ) بهاء ساكنة بعد الألف (¬1). {عَلَى مَا فَرَّطْتُ} قَصَّرت {فِي جَنْبِ اللَّهِ} أي: طاعة الله. {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى، والسخر: الاستهزاء. {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)}. [57] {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} بألطافه. {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} الشركَ. {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)}. [58] {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} عيانًا: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} رجعة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 25)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 363)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 23).

[59]

إلى الدنيا {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الموحِّدين، ويحمله على هذا القول تحيره وندمه حيثما لا ينفع. {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)}. [59] فثم يقال ردًّا عليه (¬1): {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} يعني: القرآن، وهي سبب الهداية {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} عنها. {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بها. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)}. [60] {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} بأن جعلوا له البنات والصاحبة، وشرعوا ما لم يأذن به، إلى غير ذلك. {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} بما ينالهم من الشدة. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} مقام {لِلْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان؟ {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}. [61] {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} قرأ روح عن يعقوب: ¬

_ (¬1) "فثم يقال ردًّا عليه" زيادة من "ت".

[62]

(وَيُنْجِي اللَّهُ) بإسكان النون وتخفيف الجيم، وقرأ الباقون: بفتح النون وتشديد الجيم (¬1)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (بِمَفَازَاتِهِمْ) بألف بعد الزاي على الجمع؛ لأن لكل واحد مفازة؛ أي: بالطرق التي تؤديهم إلى الفوز، وقرأ الباقون: بغير ألف على الإفراد إرادة الجنس (¬2)، وهو مصدر من الفوز: النجاة؛ أي: مكان الفوز، وهو الجنة. {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} لا يصيبهم المكروه. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} تفسير للمفازة. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)}. [62] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} كلام مستأنف دال على الوحدانية. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} والوكيل: القائم على الأمر، الزعيم بإكماله، فالخلق غير المخلوق، وهو فعل الرب تعالى القائم به، مغاير لصفة القدرة في قول الحنفية وأئمة الشافعية والسلف وأكثر أصحاب أحمد؛ خلافًا لأكثر المعتزلة وغيرهم في قولهم: هو هو. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 259)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 26 - 27). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 563)، و"التيسير" للداني (ص: 190)، و"تفسير البغوي" (4/ 26)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 27).

[63]

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)}. [63] {لَهُ مَقَالِيدُ} أي: مفاتيح خزائن {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} واحدها مِقْلاد، فمفاتيح السموات: المطر، والأرض: النبات. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} متصل بقوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} وما بينهما اعتراض، التقدير: وينجي المتقين، والكافرون هم الخاسرون. {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)}. [64] {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه. قرأ ابن عامر: (تَأْمرُونَنِي) بنونين ظاهرتين خفيفتين على الأصل، الأولى علم الرفع، والثانية للوقاية، ويسكن ياء الإضافة، وقرأ نافع، وأبو جعفر: بنون واحدة خفيفة على الحذف مع فتح ياء الإضافة، وقرأ الباقون: بنون واحدة مشددة على الإدغام، فابن كثير منهم يفتح ياء الإضافة، والباقون: يسكنونها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 563)، و"التيسير" للداني (ص: 190 - 191)، و"تفسير البغوي" (4/ 26)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 363 - 364)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 27 - 28).

[65]

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)}. [65] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} يا محمد {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} من الرسل. {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الذي عملته قبلَ الشرك وحبط معناه: بطل، فالخطاب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمراد منه: غيره. {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} في صفقتك بسبب حبوط عملك، وتقدم حكم بطلان أعمال المرتدين من صلاة وحج، واختلاف الأئمة في ذلك في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217]. {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}. [66] {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} الفاء جواب شرط محذوف، تقديره: لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته، بل إن عبدت، فاعبد الله، فحذف الشرط، وأقيم المفعول مقامه، معناه: لا تعبد إلا الله. {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} له على فضله. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}. [67] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره، ثم أخبر عن عظمته.

[68]

فقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا} حال من الأرض (¬1) {قَبْضَتُهُ} أي: في تصرفه، والمراد: الأرضون السبع؛ لقوله: (جَمِيعًا). {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي: مجموعات بقدرته. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: هو منزه عن الشبه الذي لا يليق به. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)}. [68] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهو قرن، والصحيح أنها النفخة الثانية بعد نفخة الفزع بأربعين سنة، وفي الخبر: أنها ثلاث نفخات، وتقدم ذكرها في سورة النمل. {فَصَعِقَ} فمات. {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} من الحور والولدان وغيرهما. {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} نفخة (¬2) {أُخْرَى} هي نفخة البعث، وروي أن بين النفختين أربعين، لا يدري أبو هريرة سنة أو شهرًا أو يومًا أو ساعة (¬3). ¬

_ (¬1) "حال من الأرض" زيادة من "ت". (¬2) "نفخة" زيادة من "ت". (¬3) رواه البخاري (4536) كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}، ومسلم (2955) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين.

[69]

{فَإِذَا هُمْ} جميع الخلائق {قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أهوالَ يوم القيامة وما يُفعل بهم. {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)}. [69] {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ} أي: أضاءت عرصات يوم القيامة. {بِنُورِ رَبِّهَا} إضافة خلق إلى خالق؛ أي: بنور الله تعالى، وقيل: بعدله. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: كتاب الأعمال، ووحِّد على اسم الجنس؛ لأن كل واحد له كتاب على حدة {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} ليشهدوا على أممهم {وَالشُّهَدَاءِ} يشهدون للرسل بالإبلاغ، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين جعلهم الله شهداء على الناس، وقيل: الحفظة. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين العالم بأجمعه {بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (¬1) لا يوضع شيء من أمورهم في غير موضعه. قرأ قنبل عن ابن كثير، وهشام عن ابن عامر، ورويس عن يعقوب: (وَجِيءَ) و (قِيلَ)، (وَسِيقَ): بإشمام الضم الجيمَ والقافَ والسينَ، وافقهم في إشمام السين: ابنُ ذكوان راوي ابن عامر (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت" كتبت الآية: {بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهو خطأ. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 72 و 181)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 377)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 30).

[70]

{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)}. [70] {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} ثوابَ. {مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} لا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد. {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)}. [71] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} جماعات، واحدتها زُمرة، ونصبه على الحال؛ أي: يساقون سوقًا خبيثًا إلى النار. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} السبعة عند مجيئهم؛ تهويلًا لشأنها، ولم تفتح قبل؛ لبقاء حرها. {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} وهم الزبانية توبيخًا: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} من جنسكم {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ} يخوفونكم. {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وهو وقت دخول النار. {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} وهي قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] {عَلَى الْكَافِرِينَ} فوجبت لنا النار.

[72]

{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)}. [72] {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} جهنمُ، وأُبهِمَ القائل؛ لتهويل ما يقال لهم. {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)}. [73] {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} تكرمة لهم، ونصبه على الحال. قرأ أبو عمرو: (إِلَى الْجَنَّة زُمَرًا) بإدغام التاء في الزاي (¬1). {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وجواب (حتى) محذوف تقديره: حتى إذا جاؤوها، اطمأنوا، وجيء بالواو في (وَفُتِحَتْ) للإيذان [أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم تكرمةً، يدل عليه قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] قالوا: وللحال تقديره: جاؤوها وقد فتحت أبوابها، وحذفها في الآية الأولى لبيان] (¬2) أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم، فالكفار يساقون إلى النار سريعًا إهانةً، والمتقون يساقون إلى الجنة ليصلوا إلى ما أعد لهم فيها تكرمة لهم. قرأ الكوفيون، وهم: عاصم، وحمزة، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص:340)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 32). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[74]

والكسائي، وخلف: (فُتِحَتْ) (وَفتِحَتْ) بتخفيف التاء فيهما، والباقون: بالتشديد على التكثير (¬1). {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} لا يعتريكم بعدُ مكروه. {طِبْتُمْ} أي: طاب لكم المقام {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم، فدخلوها. {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)}. [74] فلما رأوا ما أعد لهم فيها، أعجبوا سرورًا {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالبعث والثواب {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أي: أرض الجنة، والوراثة هنا مستعارة؛ لأن حقيقة الميراث أن يصير شيء إلى إنسان بعد موت إنسان، وهؤلاء إنما ورثوا مواضع أهل النار لو كانوا مؤمنين {نَتَبَوَّأُ} نتنزل {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} منها، ثم يدخل سائر الأمم (¬2)، وهو إشارة إلى السعة والزيادة عن قدر الحاجة، لا أن أحدًا ينزل في غير منزله، روي أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تدخل أولًا الجنة، فتنزل حيث تشاء منها، ثم يدخل سائر الأمم، قال الله تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} ثواب المطيعين. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 564)، و"التيسير" للداني (ص: 190)، و"تفسير البغوي" (4/ 29)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 31). (¬2) "منها ثم يدخل سائر الأمم" ساقطة من "ت".

[75]

{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}. [75] ثم وصف حال الملائكة فقال: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} أي: محيطين بجوانبه. {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد؛ لأن التكليف يزول في ذلك اليوم. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين جميع الخلائق. {بِالْحَقِّ} بالعدل، فيدخل المؤمن الجنة، والكافر النار. {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} والقائلون هم المؤمنون؛ شكرًا لله حين تم وعده لهم، وقد فتح الله أول الخلق بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وختم القيامة بالحمد في هذه الآية؛ للإيذان أن يحمد تعالى في أول كل أمر وخاتمته، والله أعلم.

سورة غافر

سُوْرَةُ غَافِر مكية بإجماع، وقد روي في بعض (¬1) آياتها أنها مدنية، وذلك ضعيف، والأول أصح، وآيها: خمس وثمانون آية، وحروفها: أربعة آلاف وتسع مئة وستون حرفًا، وكلمها: ألف ومئة وتسع وتسعون كلمة. روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الحواميمَ ديباجُ القرآن" (¬2)، ومعنى العبارة أنها خلت من الأحكام، وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضًا، وأيضًا فهي قصار لا يلحق قارئها فيها سآمة. وعن عبد الله بن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أراد أن يرتعَ في رياض مؤنقةٍ من الجنة، فليقرأ الحواميم" (¬3). وعن ابن عباس قال: "لكل شيء لُباب، ولُباب القرآن الحواميم" (¬4). ¬

_ (¬1) "بعض" ساقطة من "ت". (¬2) رواه أبو الشيخ، وأبو نعيم، والديلمي، كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 269). ورواه الحاكم في "المستدرك" (3634)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2471)، عن ابن مسعود موقوفًا عليه من قوله. (¬3) رواه ابن الضريس في "فضائل القرآن" كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 269). (¬4) رواه القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" (ص: 138).

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1)} [1] {حم} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف (¬1)، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بإمالة الحاء محضًا، وقرأ ورش عن نافع: بإمالتها بين اللفظين، واختلف عن أبي عمرو، فروي عنه بين اللفظين، والفتح، والوجهان صحيحان عنه، وقرأ الباقون، وهم: ابن كثير، وأبو جعفر، ويعقوب، وحفص عن عاصم، وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر: بالفتح، وأبو جعفر: يقطع الحروف على أصله، وكذا اختلافهم في بقية الحواميم، وقد تقدم الكلام في الحروف المقطعة في أوائل السور، ويختص هذا المحل بقول آخر: أن هجاء (حُمَّ) بضم الحاء وشد الميم المفتوحة (¬2) (¬3)؛ كأنه يقول: حتم الأمر (¬4)، ووقع، وقال ابن عباس: " (الر) و (حم) و (ن) هي حروف (الرحمن) مقطعة في سور (¬5)، وروي أنه ¬

_ (¬1) "وخلف" ساقطة من "ت". (¬2) في "ش": "مفتوحة". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 566)، و"التيسير" للداني (ص: 191)، و"تفسير البغوي" (4/ 33)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 70 - 71)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 35). (¬4) في "ت": "حُمَّ الأرض". (¬5) رواه الطبري في "تفسيره" (15/ 10)، وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 33)، والتعليق الآتي عند تفسير الآية (1) من سورة الشورى.

[2]

اسم الله الأعظم، أقسم بحلمه وملكه، وقيل: الأقرب هاهنا أن يقال: (حم) اسم السورة. {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)}. [2] {حم} مبتدأ، خبره {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} والتقدير: أن هذه السورة المسماة بحم تنزيلُ الكتاب من الله. {الْعَزِيزِ} الذي لا مثل له {الْعَلِيمِ} بكل المعلومات. {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}. [3] {غَافِرِ} أي: ساتر {الذَّنْبِ} للمؤمنين، والذنب: مأخوذ من الشيء الدنيء الرذل، ومنه ذَنَبُ كل شيء؛ أي: آخره {وَقَابِلِ التَّوْبِ} لهم؛ أي: التوبة، مصدر تاب يتوب توبًا {شَدِيدِ الْعِقَابِ} للمشركين. {ذِي الطَّوْلِ} أي: ذي التطول (¬1) والمن بكل نعمة، فلا خير إلا منه، فترتب في هذه الآية وعيد بين ضدين، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه، وقال ابن عباس: "الطَّول: السعة والغنى" (¬2)، ثم صدع بالتوحيد في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وبالبعث والحشر في قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فيجازي المطيع والعاصي. ¬

_ (¬1) "أي: ذي التطول" زيادة من "ت". (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3264)، وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 546).

[4]

{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)}. [4] {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} أي: في دفعها بالباطل. {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} بقولهم مرة: إنه سحر، ومرة: إنه قول الكهنة، ومرة: هو أساطير الأولين (¬1)، ومرة: إنما يعلمه بشر، وأشباه هذا، أما الجدال فيه لحل عقده، واستنباط حقائقه، وتقرير الحق فيه، فمن أعظم الطاعات. روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع قومًا يتمارون فقال: "إنما هلكَ مَنْ كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدِّقُ بعضُه بعضًا، فلا تكذبوا بعضَه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلوه إلى عالمه" (¬2). {فَلَا يَغْرُرْكَ} يا محمد {تَقَلُّبُهُمْ} تصرُّفهم للتجارة. {فِي الْبِلَادِ} فإنهم إن تمتعوا بزخارف الدنيا، فإنهم يعذبون في الآخرة. ¬

_ (¬1) "الأولين" ساقطة من "ت". (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 185)، وعبد الرزاق في "المصنف" (20367)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (2995)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2258)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.

[5]

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)}. [5] لأنهم كذبوك كما {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} نوحًا {وَالْأَحْزَابُ} الذين تحزبوا على أنبيائهم، وكفروا بهم {مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعد قوم نوح. {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ} كافرة {بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي: ليقتلوه. {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} بالشرك، والباطل: ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة، إما لانعدام الأهلية، أو لانعدام الحِلِّية (¬1)؛ كبيع الخمر وبيع الصبي. {لِيُدْحِضُوا} ليزيلوا {بِهِ الْحَقَّ} الإسلام. {فَأَخَذْتُهُمْ} بالإهلاك {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} فإنكم تمرون على آثارهم، وهذا تهديد لكفار مكة. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (فَأَخَذْتُهُمْ) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (¬2)، وقرأ يعقوب: (عِقَابِي) بإثبات الياء، والباقون بحذفها (¬3). ¬

_ (¬1) في "ت": "المحلية". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 341)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 337)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 36). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 36).

[6]

{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)}. [6] {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي: العذاب {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك، كما حقت على الأمم المكذبة. {أَنَّهُمْ} أي: بأنهم {أَصْحَابُ النَّارِ} سكانها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (كَلِمَاتُ رَبِّكَ) بألف بعد الميم على الجمع، والباقون: بغير ألف على التوحيد، وهي للجنس (¬1). {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)}. [7] {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} من الحافين به، وهم الكَرُوبيُّون سادة الملائكة. قال ابن عباس: "حملةُ العرش ما بين كعبِ أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرةُ خمس مئة عام، وهم خشوع، لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفًا من أهل السماء [السابعة، وكل أهل سماء أشدُّ خوفًا من أهل السماء] (¬2) التي دونها". ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 122)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 262)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 36 - 37). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الملك الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح. روي أن حملة العرش ثمانية، فأربعة منهم يقولون: [سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حكمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون] (¬1): سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك (¬2)، وكأنهم يرون ذنوب بني آدم. وروي أن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة يطوفون ويحمدون مسبحين بحمد ربهم (¬3) {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} تعالى أنه واحد (¬4) لا شريك له. {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أي: وسعتْ رحمتُك وعلمك كل شيء، ونصبه على التمييز. {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} دينَ الإسلام. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (19/ 261)، عن شهر بن حوشب. ورواه أبو الشيخ في "العظمة" (3/ 954)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 55)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (364)، عن هارون بن رئاب. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 36). (¬4) "واحد" زيادة من "ت".

[8]

{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} احفظهم عنه. قرأ رويس عن يعقوب بخلاف عنه: (وَقِهِمُ) بضم الهاء (¬1). قال مطرف: أنصحُ عباد الله للمؤمنين الملائكةُ، وأغشُّ الخلقِ للمؤمنين هم الشياطين، وتلا هذه الآية (¬2). {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)}. [8] {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} إياها. {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} عطف على (هم) في (وَأَدْخِلْهُمْ)؛ أي: أدخل معهم هؤلاء؛ ليتم سرورهم. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الذي لا يمتنع عليه مقدور {الْحَكِيمُ} فيما يفعله. {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}. [9] {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} ادفعْ عنهم العقوبات يوم القيامة، والمعنى: ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 340)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 273)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 37). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (21/ 358)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 208)، وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 36)، و"الدر المنثور" للسيوطي (7/ 276).

[10]

وقهم ما يسوؤهم. قرأ رويس عن يعقوب: (وَقِهُمُ السَّيَّئَاتِ) بضم الهاء والميم، والباقون: بكسرهما (¬1). {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيمًا لا ينقطع. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)} [غافر: 10]. [10] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} عند دخولِ النار ورؤيتِهم أعمالَهم الخبيثةَ ومقتِهم أنفسَهم. {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} المعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: لمقتُ الله أنفسَكم حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون أشدُّ مما تمقتونها اليوم وأنتم في النار. {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)}. [11] {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} أي: إماتتين: الأولى: أن خلقوا في أصلاب آبائهم مواتًا، والثانية: عند انقضاء آجالهم. {وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} إحياءتين: الأولى: الخروج من البطن، والثانية: البعث يوم القيامة. ¬

_ (¬1) انظر: المصادر السابقة.

[12]

{فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} بكفرنا بالبعث. {فَهَلْ} لنا (¬1). {إِلَى خُرُوجٍ} من النار والرجوع إلى الدنيا لنطيع ربنا (¬2). {مِنْ سَبِيلٍ} طريق. {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)}. [12] {ذَلِكُمْ} تعليل في المعنى؛ أي: الذي أنتم فيه من العذاب. {بِأَنَّهُ} أي: بسبب أنكم {إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ} بالتوحيد {كَفَرْتُمْ} وقلتم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5]. {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ} معبودكم {تُؤْمِنُوا} تصدقوا ذلك المشرك. {فَالْحُكْمُ} اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار {لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهية، والْعَلِيُّ الْكَبِيرُ صفتا مدح من صفاته تعالى. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)}. [13] {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} الدالةَ على وحدانيته. ¬

_ (¬1) "لنا" ساقطة من "ت". (¬2) "ربنا" زيادة من "ت".

[14]

{وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} أي: مطرًا هو سبب الأرزاق. {وَمَا يَتَذَكَّرُ} يتعظ {إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} يرجع عن الشرك. {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)}. [14] {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من الشرك. {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} إخلاصَكم. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)}. [15] {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} أي: رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة. {ذُو الْعَرْشِ} خالقُه. {يُلْقِي الرُّوحَ} ينزل الوحي، سماه روحًا؛ لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح {مِنْ أَمْرِهِ} من قضائه {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الأنبياء. {لِيُنْذِرَ} قراءة العامة: بالغيب؛ أي: لينذر النبي بالوحي، وقرأ روح عن يعقوب من رواية زيد: (لِتُنْذِرَ) بالخطاب (¬1)؛ أي: لتنذر أنت يا محمد. {يَوْمَ التَّلَاقِ} هو يوم القيامة؛ لأن الخلائق تلتقي فيه. قرأ نافع، وأبو جعفر بخلاف عن الثاني وعن قالون راوي الأول: (التَّلاَقِي) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 38)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 378)، وذكرها ابن خالويه في "القراءات الشاذة" (ص: 132) عن ابن السَّمَيْفع.

[16]

و (التَّنَادِي) بإثبات الياء فيهما وصلًا، وأثبتها (¬1) ابن كثير ويعقوب فيهما وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون فيهما في الحالين (¬2). {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)}. [16] {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} خارجون من قبورهم في بَراز من الأرض، ينظرُهم البصر، لا تسترهم أَكَمَةٌ ولا غيرها، ونصب (يَوْمَ) على البدل من الأول، فهو نصب لمفعول {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ} في الدارين {مِنْهُمْ شَيْءٌ} من أعمالهم وأحوالهم، فبعد فناء الخلق يقول تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلم يُجَبْ، فيجيب نفسه تعالى بقوله: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الذي قهر الخلق بالموت. {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)}. [17] {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} يُجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. ¬

_ (¬1) في "ت": "وأثبتهما". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 192)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 38 - 39).

[18]

{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} بنقص الثواب وزيادة العقاب، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يحاسبهم في وقت واحد، فلا يشغله حساب عن حساب. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)}. [18] {وَأَنْذِرْهُمْ} خَوِّفْهم {يَوْمَ الْآزِفَةِ} القيامة، سميت به؛ لأزفها؛ أي: قربها، نظيره: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} [النجم: 57]؛ أي: قربت القيامة. {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} وذلك أنها تزول عن أماكنها من الخوف حتى تصير إلى الحناجر {كَاظِمِينَ} مكروبين. {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} قريب ينفعهم {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} فيشفع لهم. {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)}. [19] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ} أي: خافية {الْأَعْيُنِ} هي استراقُ النظر إلى محرم؛ كفعل أهل الريب {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} تضمره القلوب. {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}. [20] {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} يحكم بالعدل.

[21]

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} وهم الأصنام {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} لعجزهم. قرأ نافع، وهشام عن ابن عامر: (تَدْعُونَ) بالخطاب على معنى: قل لهم يا محمد: والذين تدعون أنتم، والباقون: بالغيب على ذكر الغائب. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} صفتان بَيَّنَ عُرُوَّ الأصنام عنهما، وهي عبارة عن الإدراك على إطلاقه. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)}. [21] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} كعاد وثمود. {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ} قرأ ابن عامر: (أَشَدَّ مِنْكُمْ) بالكاف، وكذا هو في المصحف الشامي، والباقون: بالهاء، وكذا هو في مصاحفهم (¬1). {قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} المعنى: ألم يعتبروا بمن قبلهم؟ كانوا أشد منهم بأسًا وأجسادًا، وأحصن قصورًا، فكفروا. {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} فأهلكهم. {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} يدفع عنهم العذاب. قرأ ابن كثير: (وَاقِي) ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 569)، و"التيسير" للداني (ص: 191)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 40).

[22]

و (هَادِي) بإثبات الياء وقفًا، وروي ذلك عن يعقوب (¬1). {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}. [22] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فكذبوهم. {فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ} متمكن مما يريده. {شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهذا كله وعيد لقريش. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)}. [23] ثم ابتدأ تعالى قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وملئه، وهي قصة فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم - تسلية وأسوة، وفيها لقريش وعيد ومثال يخافون منه أن يحل بهم ما حل بأولئك من النقمة، وفيها وعد للمؤمنين بالنصر والظفر، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} وهي المعجزات. {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} برهان ظاهر. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)}. [24] {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ} في أمر العصا. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 378)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 40 و 45).

[25]

{كَذَّابٌ} في قوله: إنه رسول من الله، وخص هامان وقارون بالذكر؛ تنبيهًا على مكانهما من الكفر، ولكونهما أشهر رجال فرعون. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)}. [25] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} أي: أعيدوا القتل الذي كان أولًا عند مولد موسى عليه السلام. {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل، ولا نجحت لهم فيه سعاية، بل أضل الله سعيهم وكيدهم. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)}. [26] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} لأنهم كانوا يكفونه عن قتله {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} الذي يزعم أنه أرسله، هل يمنعه من القتل؟ {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} يغير ما أنتم عليه {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} فساد دينكم ودنياكم بما يحدث عليكم (¬1) بسبب إيمانكم من قتل وغيره. قرأ ابن كثير: (ذَرُونيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها، [وقرأ ¬

_ (¬1) في "ت": "منكم".

نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1)] (¬2)، وقرأ الكوفيون ويعقوب: (أَوْ أَنْ) بزيادة ألف مفتوحة قبل الواو، وبإسكان الواو، وكذلك هي في مصاحف الكوفة، وقرأ الباقون: بالواو مفتوحة ليس قبلها ألف، وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (يُظْهِرَ) بضم الياء وكسر الهاء (الفَسَادَ) بالنصب مفعولًا؛ أي: يحدث موسى الفساد، وقرأ الباقون: بفتح الياء والهاء (الفَسَادُ) بالرفع فاعلًا (¬3)، فصار حفص عن عاصم ويعقوب على أصل واحد، وهو زيادة الألف قبل الواو، وضم الياء من (يُظْهِرَ) ونصب (الفَسَادَ)، ونافع، وأبو جعفر وأبو عمرو على أصل، وهو إسقاط الألف وضم الياء من (يُظْهِرَ) ونصب (الفَسَادَ)، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم على أصل، وهو زيادة الألف قبل الواو، وفتح الياء من (يَظْهَرَ) ورفع (الفَسَادُ)، وابن كثير، وابن عامر على أصل، وهو إسقاط الألف، وفتح الياء من (يَظْهَرَ)، ورفع (الفَسَادُ)، فعلى القراءة بالواو وبغير ألف قبلها: خاف عليهم تبديل دينهم والفساد، وعلى القراءة بالألف قبل الواو: خاف عليهم تبديل دينهم. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 192)، و"تفسير البغوي" (4/ 40)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 41). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 569)، و"تفسير البغوي" (4/ 40)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 365)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 41 - 42).

[27]

{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)}. [27] {وَقَالَ مُوسَى} لما سمع قولَ فرعون: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} لجهله. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: (عُذتُّ) بإدغام الذال في التاء، والباقون: بالإظهار، بخلاف عن أبي جعفر (¬1). {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)}. [28] {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} وهو ابن عمه، واسمه خربيل، وقيل غيره، وهو الذي حكى الله عنه: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20]، وكان قد آمن بموسى وهو {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} حكى ابن عطية في "تفسيره" (¬2) عن أبيه: أنه سمع أبا الفضل ابن الجوهري على المنبر يقول وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة، فأطرق قليلًا، ثم رفع رأسه فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 570)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 378)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 42). (¬2) في "المحرر الوجيز" (4/ 555).

عَنِ المرءِ لاتسألْ وسَلْ عن قرينهِ ... فكلُّ قرينِ بالمقارنِ يقتدي ماذا ترون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه، وخصهم بمشاهدته، وتلقي الوحي منه، وقد أثنى الله -عز وجل- على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره، فجعله تعالى في كتابه، وأثبت ذكره في المصاحف لكلامٍ قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذ جرد سيفه بمكة وقال: والله لا أعبد الله سرًّا بعد هذا اليوم، انتهى. {أَتَقْتُلُونَ} ظلمًا بلا دليل {رَجُلًا أَنْ} أي: لأن. {يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: بما يدل على صدقه، ثم فصل شأن موسى بقوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي: ضرر كذبه. قرأ أبو عمرو: (وَإِنْ يَك كَّاذِبًا) بإدغام الكاف في الكاف، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1)؛ لنقصان الحرفين بعدها (¬2) من الكلمة مع قلة حروفها. {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} به من العذاب عاجلًا، وبذلك المقدار تهلكون. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} على الله. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 341)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 43). (¬2) "بعدها" زيادة من "ت".

[29]

{يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}. [29] ثم استعطفهم بقوله: {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: غالبين في أرض مصر. {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} يمنعنا من عذابه. {إِنْ جَاءَنَا} إذا قتلتم أولياءه. فثَمَّ {قَالَ فِرْعَوْنُ} إضرابًا عن مجادلة المؤمن انقطاعًا لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم إلا بما أشير به على نفسي، وهو قتل موسى. {وَمَا أَهْدِيكُمْ} أدعوكم {إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} طريقَ الفلاح. {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)}. [30] {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ} أي: أيام {الْأَحْزَابِ} لأنه كان لكل حزب يوم. وتقدم اختلاف القراء في فتح الياء وإسكانها من (إِنِّي أَخَافُ). {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)}. [31] {مِثْلَ دَأْبِ} عطف بيان لـ (مثل) قيل: أي: مثل عادة.

[32]

{قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} كقوم لوط، المعنى: أخاف عليكم مثل جزاء عادة من كفر قبلكم أن يحل بكم مثلهم. {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} لأنه عادل، فلا يهلكهم قبل ثبوت الحجة عليهم، وهذا أبلغ من قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ لأنه نفى إرادة ظلمٍ ما. قرأ أبو عمرو: (يُرِيد ظُّلْمًا) بإدغام الدال في الظاء (¬1). {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)}. [32] {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} يومَ ينادي الناس بعضُهم بعضًا في القيامة، وهو يوم الأعراف، فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وبالعكس، وينادى: ألا إن فلانَ بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، [وأن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا] (¬2)، وينادى حين يُذبح الموت: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت. قرأ ابن عامر: (يَوْمَ التَّنَادِّ) بتشديد الدال؛ أي: يوم التنافر، وذلك أنهم هربوا، فندوا في الأرض كما تندُّ الإبل إذا شردت عن أربابها، قاله البغوي (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 341)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 44). (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬3) في "تفسيره" (4/ 42)، والقراءة عنده وعند ابن جني في "المحتسب" (2/ 243)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 44) ذكرت عن ابن عباس.

[33]

{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}. [33] {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} منصرفين عن موقف الحساب إلى النار، وقيل: هاربين من النار إذا لفحهم زفيرها. {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: من عذابه {مِنْ عَاصِمٍ} مانع. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} وتقدم اختلاف القراء في الوقف على الياء من (التَّنَادِي) و (هَادِي). {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)}. [34] {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ} وهو ابن يعقوب -عليهما السلام-، بعث إلى القبط {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل موسى -عليه السلام- {بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات على صدقه، وهو قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]. {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} من الدين. {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} مات {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} أي: أقمتم على كفركم، وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة، فلم تزالوا كافرين بيوسف وغيره.

[35]

{كَذَلِكَ} أي: كهذا الإضلال {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} في الأمور، متعدٍّ الطورَ {مُرْتَابٌ} شاكٌ؛ لغلبة الوهم، والانهماك في التقليد. {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}. [35] ثم أنحى لهم على قوم صفتُهم موجودة في قوم فرعون، فكأنه أرادهم، فزال عن مخاطبتهم حسنَ أدب واستجلابًا، فقال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} بالإبطال لها والرد {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} برهان. {أَتَاهُمْ كَبُرَ} جدالُهم {مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ} يختم ويحجب عن الهدى {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} قرأ أبو عمرو، وابن عامر بخلاف عنه: (قَلْبٍ) بالتنوين (مُتكبِّرٍ) صفته، نسب الكبر إلى القلب، والمراد: صاحبُه، وقرأ الباقون: بغير تنوين بإضافة (قَلْبِ) إلى (مُتكبَّرٍ) (¬1)، ومتى تكبر القلب، تكبر صاحبه، وبالعكس. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)}. [36] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لوزيره: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} بناء ظاهرًا عاليًا لا يخفى على الناظر وإن بعد، وأصلُه من التصريح، وهو الإظهار. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 570)، و"التيسير" للداني (ص: 191)، و"تفسير البغوي" (4/ 43)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 45).

[37]

{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} ما أتوصل به إلى نيل مرادي. قرأ الكوفيون ويعقوب: (لَعَلِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1). {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)}. [37] {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} طرقَها وأبوابها {فَأَطَّلِعَ} قرأ حفصٌ عن عاصم: (فَأَطَّلِعَ) بنصب العين على جواب (لعل)، لأنها هنا بمعنى التمني، وقرأ الباقون: برفعها عطفًا على (أَبْلُغُ) (¬2)، المعنى: لعلي أبلغ ما يوصلني إلى السماء، فأطلع {إِلَى إِلَهِ مُوسَى} لأنظر ما هو. {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ} يعني: موسى {كَاذِبًا} في أن له إلهًا غيري، قال فرعون ذلك تمويهًا، وتقدم ذكر قصة الصرح في سورة القصص. {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ} قرأ الكوفيون، ويعقوب: (وَصُدَّ) بضم الصاد مجهولًا نسقًا على قوله (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) (¬3)، قال ابن ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 573)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 379)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 46). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 191)، و"تفسير البغوي" (4/ 44)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 46). وذكر البغوي أن قراءة (فأطلعَ) بالنصب، هي قراءة حميد الأعرج أيضًا. (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 133)، و"تفسير البغوي" (4/ 44)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 298)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 47).

[38]

عباس: "صدَّه اللهُ عن سبيل الهدى" (¬1)، وقرأ الباقون: بالفتح معلومًا؛ أي: صَدَّ فرعونُ الناسَ {عَنِ السَّبِيلِ} سبيلِ الرشاد. {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} في إبطال آيات موسى. {إِلَّا فِي تَبَابٍ} هلاك وخسران. {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)}. [38] {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} طريق الهدى. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون عن نافع: (اتّبِعُوني) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ ابن كثير ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬2). {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)}. [39] {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} تُمتعون بها يسيرًا، ثم تزول. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 44). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 192)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 573)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 47 - 48).

[40]

{وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} الإقامة، فليُعْتَدَّ لها. {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}. [40] {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} وهو النار إن لم يتب. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} والصالح: الطاعات. {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} رزقًا واسعًا بلا تبعة. قرأ نافع، وابن عامر (¬1)، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (يَدْخُلُونَ) بفتح الياء وضم الخاء، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الخاء (¬2). {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)}. [41] {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} من النار بالتوحيد. قرأ الكوفيون، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر: (مَا لِي) بإسكان الياء، ¬

_ (¬1) "وابن عامر" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 571)، و"التيسير" للداني (ص: 97)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 252)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 48 - 49).

[42]

والباقون: بفتحها (¬1)، وأبو عمرو يدغم الميم في الميم من (يَا قَوْم مَّا لِي) (¬2) {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} بالإشراك، كرر نداءهم؛ إيقاظًا لهم عن سنة الغفلة، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه. {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)}. [42] ثم فسر فقال: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} بربوبيته. {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ} في انتقامه ممن كفر. {الْغَفَّارِ} لذنوب أهل التوحيد. قرأ نافع، وأبو جعفر: (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ) بالمد (¬3). {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)}. [43] {لَا جَرَمَ} قرأ حمزة: (لاَ جَرَمَ) بالمد بحيث لا يبلغ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 573)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 49). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 49). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 379)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 49).

[44]

الإشباع (¬1)، يعني: حقًّا {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} لأعبده. {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} إلى نفسه قط بالعبادة. {فِي الدُّنْيَا} لعجزه. {وَلَا فِي الْآخِرَةِ} ينتفع بها. {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} فيجازي كلًّا بما يستحقه. {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} المشركين {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} ملازموها. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)}. [44] {فَسَتَذْكُرُونَ} إذا نزل بكم العذاب {مَا أَقُولُ لَكُمْ} من النصيحة، فثَمَّ توعدوه لمخالفته دينَهم، فقال: {وَأُفَوِّضُ} أردُّ {أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} معتمدًا عليه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (أَمْرِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} يعلم المحق من المبطل. ¬

_ (¬1) انظر: المصدرين السابقين. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 192)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 50).

[45]

{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)}. [45] ثم خرج المؤمن من بينهم، فقصدوا قتله. {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} به، فنجا مع موسى. {وَحَاقَ} نزل {بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} الغرقُ في الدنيا، والنار في الآخرة. {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}. [46] وذلك قوله: {النَّارُ} وهي رفع على البدل من (سُوءُ الْعَذَابِ). {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي: يُحرقون بها نحو: عُرض القوم على السيف؛ أي: قتلوا به. {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} صباحًا ومساءً. قال ابن مسعود: "أرواحُ آلِ فرعونَ في أجوافِ طيرٍ سود يُعرضون على النار كلَّ يوم مرتين حتى تقوم الساعة" (¬1). ثم أخبر عن مستقرهم يوم القيامة فقال: ¬

_ (¬1) رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 182)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3267). ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (34160)، والطبري في "تفسيره" (21/ 295) عن الهذيل بن شرحبيل.

[47]

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بوصل همزة (ادْخُلُوا) وضم الخاء، ويبتدئون بضم الهمزة؛ من الدخول؛ أي: يقال لهم: ادخلوا يا آلَ فرعون، فـ (يا) محذوفة، وقرأ الباقون: (أَدْخِلُوا) بقطع الهمزة مفتوحة في الحالين، وكسر الخاء؛ من الإدخال (¬1)؛ أي: يقال للملائكة: أَدخِلوا {آلَ فِرْعَوْنَ}. {أَشَدَّ الْعَذَابِ} فيعاد عليهم الإحراق مرة بعد مرة دائمًا. {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)}. [47] {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ} أي: اذكر يا محمد لقومك وقتَ تخاصمهم. {فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} في القدر والمنزلة في الدنيا. {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم أشراف الكفار وكبراؤهم، ولم يصفهم بالكبر إلا من حيث استكبروا، لا أنهم في أنفسهم كبراء ولو كانوا كذلك في أنفسهم، لكانت صفتهم الكبير أو نحوه مما يوجب الصفة لهم. {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} جمعٌ واحدُه تابع؛ أي: كنا نطيعكم في الدنيا. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} دافعون {عَنَّا نَصِيبًا} جزءًا {مِنَ النَّارِ}؟ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 572)، و"التيسير" للداني (ص: 192)، و"تفسير البغوي" (4/ 46)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 50 - 51).

[48]

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)}. [48] {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ} تنوينُه عوضٌ من المضاف إليه؛ أي: نحن وأنتم جميعًا {فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} فأدخل المؤمن الجنة، والكافر النار. {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)}. [49] {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ} حين اشتدت عليهم. {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ} شافعين لنا {يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا} أي: قدر يوم {مِنَ الْعَذَابِ} أي: شيئًا منه. {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)}. [50] {قَالُوا} أي: الخزنة؛ توبيخًا: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} قرأ أبو عمرو: (رُسْلُكُمْ) (رُسْلنا) حيث وقع بإسكان السين، والباقون: بضمها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 379)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 51 - 52).

[51]

{قَالُوا بَلَى قَالُوا} لهم تهكمًا بهم: {فَادْعُوا} أنتم؛ فإنا لا نشفع لكافر، ثم قال تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} هلاك؛ لأنه لا ينفعهم. {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)}. [51] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} على أعدائهم. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بثبوت حجتهم. {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} جمع شاهد، وهم الحفظة، يقومون يوم القيامة، فيشهدون للرسل بالبلاغ، وعلى الكفار بالتكذيب. {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}. [52] {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} قرأ نافع والكوفيون: (يَنْفَعُ) بالياء على التذكير؛ لأن المعذرة والعذر واحد، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث؛ لتأنيث المعذرة (¬1)، المعنى: لو اعتذروا، لم يقبل عذرهم. {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} البعدُ من الرحمة. {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} الآخرة، وهو شدة عذابها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 572)، و"التيسير" للداني (ص: 192)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 90).

[53]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)}. [53] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} النبوة والحكمة، والتوراة تعم جميع ذلك. {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} من بعد موسى. {الْكِتَابَ} وهي عبارة عن أن طوائف بني إسرائيل قرنًا بعد قرن تصير فيهم التوراة إمامًا، فكان بعضهم يرثها عن (¬1) بعض. {هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)}. [54] {هُدًى وَذِكْرَى} إرشادًا وتذكرة. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} دون الأعمار الذين لا يعقلون. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}. [55] {فَاصْبِرْ} يا محمد على أذاهم. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} بنصر أوليائه وقهر أعدائه، فكما نصر موسى وأبقى التوراة في إسرائيل، فكذلك ينصرك ويبقي آثارك في أتباعك. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ليُستن بك {وَسَبِّحْ} صلِّ (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت": "على". (¬2) "صلِّ" زيادة من "ت".

[56]

{بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} الصلوات الخمس، وقيل: صلاة الفجر والعصر. {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}. [56] ونزل في اليهود لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن صاحبنا المسيح ابن داود -يعنون: الدجال- يخرج في آخر الزمان، فيبلغ سلطانه البر والبحر، ويسير معه الأنهار، ويرد الملك إلينا: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} (¬1) برهان {أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ} ما في قلوبهم {إِلَّا كِبْرٌ} أي: تكبر وتعاظُم {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} لأن الله مُذِلُّهم، فليسوا بمدركي مقتضاه. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} فالتجئ إليه من فتنة الدجال. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لأقوالكم وأفعالكم. وتقدم ذكر ما ورد في الدجال في آخر تفسير سورة الكهف. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3268)، وزاد نسبته السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 294) لعبد بن حميد وقال: بسند صحيح عن أبي العالية، وذكر ابن كثير في "تفسيره" (4/ 85) نحوه، وقال: هذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه، والله أعلم.

[57]

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)}. [57] {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ابتداءً. {أَكْبَرُ} أعظمُ في الصدور. {مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} مرة ثانية، وهي الإعادة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} الكفار. {لَا يَعْلَمُونَ} ذلك، ولا توحيده تعالى، وهو توبيخ للكفار. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)}. [58] {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى} هو الجاهل {وَالْبَصِيرُ} هو العالم {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهم المحسنون {وَلَا الْمُسِيءُ} اسم جنس يعم المسيئين، و (لا) زائدة؛ لأنه في مقابلة المؤمنين. {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} أي: تذكرًا (ما) قليلًا يتذكرون، والضمير للناس أو للكفار. قرأ الكوفيون: (تَتَذَكَّرُونَ) بتاءين على الخطاب، وقرأ الباقون: بالغيب (¬1)؛ لأن أول الآيات وآخرها خبر عن قوم. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 192)، و"تفسير البغوي" (4/ 51)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 45).

[59]

{إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)}. [59] {إِنَّ السَّاعَةَ} القيامة. {لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} لا شك في مجيئها] (¬1). {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} لا يصدقون بها. {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}. [60] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} اعبدوني. قرأ ابن كثير: (ادْعُونِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2)، وأبو عمرو يدغم اللام في الراء، وكذلك في قوله (وَقَال رَّجُلٌ) وشبهه حيث وقع (¬3) {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أُثِبْكم. {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} صاغرين. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وأبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (سَيُدْخَلُونَ) بضم الياء وفتح الخاء مجهولًا، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الخاء معلومًا (¬4)، وقيل: الدعاء هو الذكر والسؤال. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 573)، و"التيسير" للداني (ص: 192)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 54). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 342)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 54). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 572)، و"تفسير البغوي" (4/ 51 - 52)، =

[61]

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لم يدعُ الله، غضبَ عليه" (¬1). {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)}. [61] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا} لتستقروا {فِيهِ} بأن خلقه باردًا مظلمًا؛ ليؤدي إلى ضعف المحركات وهدوء الحواس. {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} يبصر فيه، وإسناد البصر إليه مجازي. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} وتنكيره الفضل يؤذن بكثرة فضله تعالى، وشياعه في كل فضل. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} لجهلهم بالمنعم، وفي تكرير (الناس) توبيخ لهم. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)}. [62] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} الذي لا يشارك. ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 252)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 54 - 55). (¬1) رواه الترمذي (3373)، كتاب: الدعوات، باب: (2)، وابن ماجه (3827)، كتاب: الدعاء، باب: فضل الدعاء.

[63]

{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان؟ {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)}. [63] {كَذَلِكَ} أي: كما أُفِكْتُم عن الحق مع قيام الدلائل، كذلك. {يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ولم يتأملوها. {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)}. [64] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} سقفًا كالقبة. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} قال ابن عباس: "خلق ابن آدم قائمًا معتدلًا، يأكل ويتناول بيده، وغيرُ ابن آدم يتناول بفيه" (¬1). {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} اللذائذ غير رزق البهائم. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فإن كل ما سواه مربوب. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 52).

[65]

{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}. [65] {هُوَ الْحَيُّ} الذي لا يموت. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إذ لا موجود يساويه. {فَادْعُوهُ} فاعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من الشرك. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو إخبار، وفيه إضمار الأمر، مجازه: فادعوه واحْمدوه. {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)}. [66] ولما طلب الكفار منه - صلى الله عليه وسلم - عبادة الأوثان، نزل: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} (¬1) تعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ} دلائل التوحيد {مِنْ رَبِّي} وإن كان منهيًّا عن عبادتها أبدًا عقلًا، فهو مع البينات آكد، ويجوز أنه نهي له - صلى الله عليه وسلم -، والمراد غيره، يوضحه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} لأنه كان مسلمًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 53).

[67]

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)}. [67] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي: أطفالًا، وتعلق (لِتَبْلُغُوا) بمحذوف تقديره: يُبقيكم. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} تكامُلَ قوتكم، وكذلك. {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر: (شِيُوخًا) بكسر الشين، والباقون: بضمها (¬1). {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} من قبل الأَشُدّ، ومن قبل أن يصير شيخًا، يفعل ذلك بكم لتعيشوا. {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} وقتًا محددًا، وهو وقت الموت. {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} دلائل التوحيد، فتؤمنون. {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}. [68] {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أراده. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 192)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 56).

[69]

{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} عقب الإرادة بلا إباء. قرأ ابن عامر: (فَيَكُونَ) بنصب النون، والباقون: بالرفع (¬1). {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)}. [69] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} يعني: القرآن، يقولون: ليس من عند الله {أَنَّى يُصْرَفُونَ} عن التصديق به؟! {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)}. [70] {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} القرآن. {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} من سائر الكتب. {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)}. [71] {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} (إِذْ) ظرف زمان ماض بمعنى الاستقبال؛ لأن مستقبل فعله تعالى كالماضي في تحققه لـ (يعلمون) {وَالسَّلَاسِلُ} عطف على (الأَغْلالُ)، فالخبر: (في أعناقهم). {يُسْحَبُونَ} بها. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 76)، و"الكشف" لمكي (1/ 260)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 57).

[72]

{فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)}. [72] {فِي الْحَمِيمِ} أي: يُجرون بالسلاسل (¬1)، ويجرونها في جهنم {ثُمَّ فِي النَّارِ} بعد جر السلاسل {يُسْجَرُونَ} يوقدون، فيصيرون سجار جهنم (¬2). * * * {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)}. [73] {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ} بعد الإحراق تبكيتًا: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ}. * * * {مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)}. [74] {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهي الأصنام {قَالُوا ضَلُّوا} غابوا {عَنَّا} فلم نرهم، وذلك قبل أن يقرن بهم آلهتهم. {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} أي: تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئًا ينفع ويضر. {كَذَلِكَ} أي: كما أضل هؤلاء. {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} حتى لا يهتدوا. * * * ¬

_ (¬1) "يجرون بالسلاسل" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "النار".

[75]

{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)}. [75] {ذَلِكُمْ} العذاب الّذي نزل بكم. {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ} تبطرون وتتكبرون. {بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهو الشرك والطغيان. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} تتوسعون في الفرح وتختالون. * * * {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)}. [76] {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} السبعة المقسومة لكم. {خَالِدِينَ فِيهَا} حال مقدرة أي: مقدرين الخلود فيها. {فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ولم يقل: فبئس مدخل؛ للإعلام أن الغرض من الدخول الإقامة. * * * {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)}. [77] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنصرك {حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب وهو القتل والأسر {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل حلول العذاب بهم. {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يوم القيامة، فنعذبهم أشد العذاب. قرأ يعقوب:

[78]

(يَرْجِعُونَ) بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون: بضم الياء وفتح الجيم (¬1). * * * {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}. [78] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} خبرَهم في القرآن. {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} لم نذكر لك خبرهم. روي أن عدد الأنبياء مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا (¬2). وروي أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر النَّاس (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 58). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 265)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7871)، من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 159): ومداره على علي بن يزيد، وهو ضعيف. ورواه ابن حبّان في "صحيحه" (361)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل، وفيه أن عددهم: "مئة ألف وعشرون ألفًا". (¬3) رواه أبو يعلى في "المسند" (4132). من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 210): فيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف جدًّا. وانظر: "تفسير ابن كثير" (1/ 587).

[79]

وعن علي -رضي الله عنه-: "أن الله تعالى بعث نبيًّا أسود، وهو ممّن لم يقصص الله عليه" (¬1). وتقدم في سورة البقرة أسماء الأنبياء الذين ذكروا في القرآن بأسمائهم، والذين أشير إليهم. {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} منهم {أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ} تُقترح عليه. {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فإنهم عبيد مربوبون. {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} بنزول العذاب على الكفار {قُضِيَ} بين الرسل عليهم السّلام ومكذبيهم {بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ} ثَمَّ {الْمُبْطِلُونَ} المعاندون بعد ظهور الآيات المغنية عما يقترحون. واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَمْرُ اللهِ) كاختلافهم فيهما من {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ} في سورة الحجِّ [الآية: 65]. {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)}. [79] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} بعضًا؛ كالإبل {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} كالغنم والبقر، فـ (منها) الأولى للتبعيض؛ لأنّ المركوب ليس من الأنعام، بل من ¬

_ (¬1) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (21/ 419). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 222).

[80]

الإبل خاصّة، و (منها) الثانية لبيان الجنس؛ لأنّ الجميع منها يؤكل. * * * {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)}. [80] {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها. {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد. {وَعَلَيْهَا} أي: على الإبل في البرّ (¬1) {وَعَلَى الْفُلْكِ} في البحر {تُحْمَلُونَ} نظيره قوله: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70]. * * * {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)}. [81] {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} دلائلَ قدرته {فَأَيَّ} أي: أيَّ آيةٍ من. {آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار. * * * {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}. [82] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم السالفة. ¬

_ (¬1) "في البرّ" زيادة من "ت".

[83]

{كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} عددًا. {وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} من المصانع والقصور. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} لم ينفعهم {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} حين جاءهم عذاب الله، و (ما) الأولى نافية، والثّانية موصولة. * * * {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)}. [83] {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وهو قولهم: نحن أعلم، لن نبعث، ولن نعذب، سمي ذلك علمًا على ما يزعمونه على طريق التهكم. {وَحَاقَ} نزل {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: جزاء استهزائهم. * * * {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)}. [84] {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} شدةَ عذابنا {قَالُوا} بألسنتهم دون قلوبهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أي: تبرأنا ممّا كنا نعدل بالله. * * *

[85]

{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}. [85] {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (¬1) لامتناع قبوله حينئذ. {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} ونصب (سُنَّتَ) مصدر مؤكد؛ أي: سن الله ذلك سنة ماضية في العباد أن الإيمان وقت نزول العذاب لا ينفع، و (سنت) رسمت بالتاء في خمسة مواضع، وقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي (¬2). {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} اسم مكان استعير للزمان؛ فإن قوله: (هُنَالِكَ) إشارة إلى أوقات العذاب؛ أي: ظهر خسرانهم، وحضر جزاء كفرهم، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 59).

سورة فصلت

سُوْرَةُ فُصِّلَتْ وتسمى: المصابيح، وهي مكية بإجماع من المفسرين، وآيها: أربع وخمسون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمسون حرفًا، وكلمها: سبع مئة وست وسبعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1)}. [1] {حم} تقدّم الكلام في مذاهب القراء، وتفسير (حم) أول سورة غافر، فعلى القول المتقدم بأن (حم) اسم للسورة، يكون مبتدأ. * * * {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)}. [2] خبره {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صفتا رجاء ورحمة لله. * * * {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)}. [3] {كِتَابٌ} بدل من (تَنْزِيلٌ)، أو خبر بعد خبر {فُصِّلَتْ} بُينت. {آيَاتُهُ} بالأحكام والقصص والمواعظ.

[4]

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نصب على الاختصاص والمدح؛ أي: أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنًا من صفته كيت وكيت. {لِقَوْمٍ} عرب {يَعْلَمُونَ} أنّه منزل (¬1) بلغتهم فيفهمونه. * * * {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)}. [4] {بَشِيرًا} للعالمين به {وَنَذِيرًا} للمخالفين له، وهما نعتان للقرآن. {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن قبوله. {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} السماعَ النافعَ الّذي يُعتد به سمعًا. * * * {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)}. [5] {وَقَالُوا} يعني: المشركين. {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} أغطية، جمع كِنان. {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} فلا نفقه ما تقول. {وَفِي آذَانِنَا} ثقل (¬2)، فلا نسمع ما تقول، وإنّما قالوا ذلك، لِيُؤْيِسُوه من قبولهم لدينه، وهو على التمثيل. قرأ الدوري عن الكسائي: (آذَانِنَا) و (آذَانِهِمْ) بإمالة فتحة الذال حيث وقع (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "نزل". (¬2) "ثقل" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 63).

[6]

{وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أي: خلاف في الدِّين، فلا نلتفت إلى إنذارك، ولا نؤمن بك {فَاعْمَلْ} يا محمّد في هلاكنا {إِنَّنَا عَامِلُونَ} في مثل ذلك، وقيل: فاعمل أنت على دينك، إننا عاملون على ديننا. * * * {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ (6)}. [6] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ملكًا ولا جنيًّا. {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ولولا الوحي ما دعوتكم. {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} تعالي، أي: توجهوا إليه بالطاعة، ولا تعدلوا عنه إلى عبادة غيره {وَاسْتَغْفِرُوهُ} من ذنوبكم {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}. * * * {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)}. [7] صفتهم {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لا يقولون: لا إله إِلَّا الله، وهي زكاة الأنفس، فلا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وأعاد الضمير في قوله: (هم) تأكيدًا. * * * {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}. [8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا (¬1) مقطوع ولا منقوص. ¬

_ (¬1) "لا": ساقطة من "ت".

[9]

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)}. [9] {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} الأحد والإثنين. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (أَئِنَّكمْ) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثّانية بين الهمزة والياء، وفصل بين الهمزتين بألف: أبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون، واختلف عن هشام، وقرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق الهمزتين (¬1) {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} أشباهًا وأمثالًا. {ذَلِكَ} خالق الأرض {رَبُّ الْعَالَمِينَ} الّذي خلق جميع الموجودات. * * * {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)}. [10] {وَجَعَلَ فِيهَا} أي: في الأرض. {رَوَاسِيَ} أي: جبالًا (¬2) ثوابت. {مِنْ فَوْقِهَا} من فوق الأرض مرتفعة عليها {وَبَارَكَ فِيهَا} بما خلق من المياه والزروع والضروع {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أي: قسم في الأرض الأرزاق ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 370)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 64). (¬2) "جبالًا" زيادة من "ت".

[11]

بقدر الحاجة {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي: تتمّة أربعة أيّام، المعنى: خلق الأرض في يومين: الأحد والإثنين، وقدر الأقوات في الثلاثاء والأربعاء، فهما مع اليومين المتقدمين أربعة أيّام {سَوَاءً} قرأ أبو جعفر، (سَوَاءٌ) بالرفع على الابتداء؛ أي: هي سواء، وقرأ يعقوب: (سَوَاءٍ) بالكسر صفة لأيام، وقرأ الباقون: بالنصب على المصدر (¬1)؛ أي: استوت سواء واستواء، ومعناه: سواء {لِلسَّائِلِينَ} عن خلقها بما فيها. * * * {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}. [11] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} عمد إلى خلقها. {وَهِيَ دُخَانٌ} روي أن العرش كان قبل خلق السَّماء والأرض على الماء، فارتفع من ذلك الماء بخار فسمي دخانًا، فأيبس الله تعالى الماء فجعله أرضًا، ثمّ فتقها أرضين، ثمّ خلق من ذلك البخار السماءَ. {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا} أي: كونا كما أردتُ. {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} مصدران في موضع الحال. قال ابن عبّاس: "قال تعالى للسماء: أخرجي شمسك ونجومك، وللأرض: شقي أنهارك وأخرجي ثمرك ونباتك، فإن فعلتما ذلك طوعًا، وإلا ألجأتكما أن تفعلاه كرهًا" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 59)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 64 - 65). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (73)، وعزاه السيوطيّ في "الدر المنثور" =

[12]

{قَالَتَا أَتَيْنَا} بمن فينا {طَائِعِينَ} هو حال. * * * {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}. [12] فلما وصفهما بالقول، أجراهما في الجمع مجرى من يعقل {فَقَضَاهُنَّ} أتمهن؛ يعني: السموات {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} الخميس والجمعة، وفرغ منها في آخر ساعة منه، وفيها -أي: تلك السّاعة- خلق آدم، وفيها تقوم السّاعة، وسمي بالجمعة؛ لاجتماع المخلوقات فيه، وتكاملها، ولما لم يخلق الله تعالى يوم السبت شيئًا، امتنع بنو إسرائيل من الشغل فيه. قال ابن عطية (¬1): والظاهر من القصص في طينة آدم: أن الجمعة الّتي خلق فيها آدم قد تقدمتها أيّام وجمع كثيرة، وأن هذه الأيَّام الّتي خلق الله فيها المخلوقات هي أول الأيَّام؛ لأنّ بإيجاد الأرض والسماء والشمس والقمر وجد اليوم {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أي: ما أمر به فيها. {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} كواكب {وَحِفْظًا} نصب بمصدر محذوف؛ أي: وحفظناها حفظًا من استراق السمع والشهب الصادرة عن الكواكب. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} البالغ في القدرة والعلم. ¬

_ = (7/ 316) إلى ابن المنذر، والبيهقي في "الأسماء والصفات". (¬1) في "المحرر الوجيز" (5/ 5).

[13]

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}. [13] {فَإِنْ أَعْرَضُوا} كفار مكّة عما جئتهم به {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ} خوفتكم. {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} لأنكم تمرون على آثارهم إذا سافرتم إلى الشّام، والصاعقة: المهلكة من كلّ شيء. * * * {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}. [14] {إِذْ جَاءَتْهُمُ} ظرف لـ (أَنْذَرْتُكُمْ)؛ أي: إنَّ كذبتم، يحل بكم ما حل بهم حين جاءتهم {الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي: من كلّ جانب {أَلَّا} أي: بأن لا {تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}. فثَمَّ {قَالُوا} استخفافًا برسلهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} هدايتَنا {لأَنْزَلَ} بدلَ هؤلاء الرسل {مَلَائِكَةً} فآمنا بهم. {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} لأنكم بشر مثلنا، لا مزية لكم علينا. لطيفة (¬1): روي أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: أنا أستخبر لكم محمدًا، وكان قد قرأ الكتب، وتعلم الكتابة والكهانة، فجاء إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنت يا محمّد خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ تشتم آلهتنا وتضللنا، فإن كنت تريد الرياسة، عقدنا لك اللواء، فكنت ¬

_ (¬1) "لطيفة" ساقطة من "ت".

[15]

رئيسنا، وإن تك بك الباءة، زوجناك عشر نسوة، تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك حب المال، جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت، فلما فرغ قال: "بسم الله الرّحمن الرحيم، وقرأ عليه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة، ومر في صدرها حتّى انتهى إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فوثب عتبة، ووضع يده على فم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وناشده الله أن يسكت، فسكت، وانصرف عنه، فأخبرهم أنّه سمع ما لا يشبه كهانة ولا شعرًا ولا سحرًا، قال: ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي (¬1). * * * {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)}. [15] {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا} تعظَّموا {فِي الْأَرْضِ} بأن استولوا عليها، وأخذوها من أهلها {بِغَيْرِ الْحَقِّ} ظلمًا {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} نحن ندفعه إذا نزل بنا، وكانوا ذوي أجسام طوال، فكان أحدهم يقتلع الصخرة العظيمة من الجبل يجعلها حيث شاء، قال الله ردًّا عليهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} ينكرونها، وهم يعرفون أنّها حق. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 60 - 61). وقد رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة" (ص: 221)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (38/ 242)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 227).

[16]

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)}. [16] {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} عاصفة شديدة الصوت، تُحرق ببردها كحرق النّار بحرها {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (نَحْسَاتٍ) بإسكان الحاء، والباقون: بكسرها (¬1)؛ أي: نكدات مشؤومات، فأمسك عنهم المطر ثلاث سنين، ودأبت عليهم الريح بلا مطر. {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} الذل {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وصف العذاب بالخزي؛ لأنّه حيث حل، حل الخزي معه. {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} أشد {وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم. * * * {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)}. [17] {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} بينا لهم سبيل الهدى. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} الكفر. {عَلَى الْهُدَى} الإيمان. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 193)، و"تفسير البغوي" (4/ 62)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 66 - 67).

[18]

{فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} الّذي يُهينهم. {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من اختيار الكفر. * * * {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} [18] {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} قرن تعالى بذكرهم ذكرَ من آمن واتقى، ونجاته؛ ليبين الفرق. * * * {يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)}. [19] {وَيَوْمَ} أي: واذكر يوم {يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} يُجمعون {إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} يُحبس أولُهم على آخرهم. قرأ نافع، ويعقوب: (نَحْشُرُ) بالنون وفتحها وضم الشين (أَعْدَاءَ) بالنصب، وقرأ الباقون: بالياء وضمها وفتح الشين، ورفع (أَعْدَاءُ) على البناء للفاعل (¬1)، وهو الله سبحانه. * * * {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)}. [20] {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} (ما) زاندة لتأكيد اتصال الشّهادة بالحضور. {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يُنطقها الله تعالى كإنطاق اللسان، فتشهد بما صدر منها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 576)، و"التيسير" للداني (ص: 193)، و"تفسير البغوي" (4/ 63)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 69).

[21]

{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)}. [21] {وَقَالُوا} أي: الكفار {لِجُلُودِهِمْ} توبيخًا لهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} فعنكن كنا نناضل؟ {قَالُوا} معتذرين: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} له النطق. {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قرأ يعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1). * * * {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)}. [22] فأخبر الله تعالى: أن الجلود ترد جوابهم؛ بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الّذي أنطقهم {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} بالحُجب عن ارتكاب الفواحش {أَنْ} أي: لأنّ. {يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} المعنى: لم تستتروا عند ارتكاب الفاحشة خوفَ شهادة جوارحكم عليكم؛ لأنكم لم توقنوا بالبعث. {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ} عند استتاركم. {أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} من الخفيات. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 70).

[23]

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}. [23] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أهلككم {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. * * * {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}. [24] ثمّ أخبر الله تعالى عن حالهم فقال: {فَإِنْ يَصْبِرُوا} على العذاب. {فَالنَّارُ مَثْوًى} منزل {لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} يطلبوا العتبى، وهي الرجوعُ عن الإساءة، وطلبُ الرضا {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} المجابين. * * * {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)}. [25] {وَقَيَّضْنَا} بعثنا {لَهُمْ}. ووكلنا {قُرَنَاءَ} نُظَراء من الشّياطين. {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا، وما تقدّم من أعمالهم. {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الآخرة بقولهم: لا بعث ولا حساب، وما هم عازمون عليه من الأعمال.

[26]

{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} بالعذاب {فِي أُمَمٍ} في جملة أمم (¬1). {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا} أي: جميع المذكورين {خَاسِرِينَ} تعليل لاستحقاقهم العذاب. * * * {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)}. [26] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} حين قراءته - صلى الله عليه وسلم -: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} عارضوه إذا قرئ بإكثار الصياح بالهذيان والخرافات، وإنشاد الأشعار، واللغو: هو الساقط من الكلام. {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} محمدًا على قراءته، فيسكت. * * * {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)}. [27] {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} النّار. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أقبح جزاء عملهم. * * * {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)}. [28] {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ} عطف بيان لجزاء قبل. واختلاف ¬

_ (¬1) "في جملة أمم" زيادة من (ت).

[29]

القراء في الهمزتين من {جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ} كاختلافهم فيهما من قوله: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ} في سورة النمل [الآية: 32] {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} الإقامة. {جَزَاءً} مصدر أو حال {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} ينكرون الحق. * * * {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}. [29] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم في النّار: {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} يعنون: إبليس، وقابيل بن آدم الّذي قتل أخاه؛ لأنّهما سنا الكفر والمعصية. قرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم، والسوسي عن أبي عمرو: (أَرْنَا) بإسكان الراء، وروي عن الدوري: اختلاس كسرتها، وقرأ الباقون: بكسر (¬1) الراء، وكلها لغات بمعنى الرؤية (¬2)، وقرأ ابن كثير: (الَّذَيْنِّ) بتشديد النون والمد وتمكين الياء لالتقاء الساكنين، والباقون: بالتخفيف (¬3). {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} في النّار {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} فيها جزاء إضلالهم إيانا. ¬

_ (¬1) في "ت": "بإسكان"، وهو خطأ. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 576)، و"التيسير" للداني (ص: 193)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 222)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 71). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 381)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 72).

[30]

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)}. [30] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على قولهم، فلم يختل توحيدهم، ولا اضطرب إيمانهم {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} عند الموت بالبشرى {أَلَّا} أي: بأن لا {تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} أَمَنَةٌ عامة في كلّ مهم مستأنف، وتسليةٌ عامة في كلّ فائت ماض، والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن: غم يلحق لوقوعه؛ من فوات نافع، أو حصول ضار، والمعنى: أن الله كتب لكم الأمن من كلّ غم، فلن تذوقوه أبدًا. {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا على لسان الرسل. {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)}. [31] {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} يعني: حفظتكم. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} لا نفارقكم حتّى تدخلوا الجنَّة. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} من الكرامات (¬1). {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} تتمنون. * * * {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}. [32] {نُزُلًا} رزقًا، ونصبه على المصدر {مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}. ¬

_ (¬1) في "ت": "المكرمات".

[33]

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)}. [33] ونزل فيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} إلى توحيده. {وَعَمِلَ صَالِحًا} فيما بينه وبين ربه، وبينه وبين العباد. {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} معتقدًا ذلك. * * * {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)}. [34] {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} فالحسنة أفضل، وكرر (لا) في قوله (ولا السَّيِّئَةُ) تأكيدًا؛ ليدلُّ على أن المراد: ولا تستوي الحسنة والسيئة، ولا السيئة والحسنة، فحذفتا اختصارًا، ودلت (لا) على هذا الحذف. {دْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} آية جمعت مكارمَ الأخلاق وأنواعَ الحكم، المعنى: ادفع أمورك وما يعرضك مع النَّاس ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة الّتي هي أحسن الفعلات والسير، فمن ذلك: بذل السّلام، وحسن الأدب، وكظم الغيظ، والسماحة في القضاء والاقتضاء، وغيره. {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} المعنى: إذا فعلت ذلك، صار العدو كالصديق القريب في محبته. روي أنّها نزلت في أبي سفيان بن حرب، وذلك أنّه لأنَّ للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة الّتي حصلت بينه وبين النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ

[35]

أسلم (¬1) فصار وليًّا بالإسلام، حميمًا بالقرابة، أو نزلت في شأن أبي جهل وإيذائه رسول الله (¬2) - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بالصفح عنه، ونسختها آية القتال (¬3). * * * {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}. [35] {وَمَا يُلَقَّاهَا} أي: هذه الخصلة. {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} على كظم الغيظ. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} في الخير والثواب. * * * {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}. [36] {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} (إِمَّا) شرط، وجواب الشرط قوله: {فَاسْتَعِذْ} والنزغ شبهُ النخس، وهو الوسوسة، فكان الشيطان (¬4) ينخس الإنسان، ويحركه، ويبعثه على ما لا يحل، المعنى: إنْ صرفك الشيطان بوسوسته عن الخير، فاستعذ {بِاللَّهِ} منه، وهو يعصمك. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لاستعاذتك {الْعَلِيمُ} بنيتك. * * * ¬

_ (¬1) "ثمّ أسلم" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "الرسول". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 67)، و"تفسير القرطبي" (15/ 362). (¬4) "فكان الشيطان" زيادة من "ت".

[37]

{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)}. [37] {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} لأنّهما مخلوقان مثلكم. {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الضمير للأربعة المذكورة، وأُنث؛ لأنّها آيات. {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن السجود أخص العبادات، وهذا محل السجدة عند الإمام مالك رضي الله عنه. * * * {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)}. [38] {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} عن امتثال أمرك في ترك السجود لغير الله سبحانه. {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} من الملائكة. {يُسَبِّحُونَ} يصلون {لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} دائمًا. {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} لا يملون، وهذا محل السجدة عند أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد -رضي الله عنهم-، وكل من الأئمة على أصله في السجود، فأبو حنيفة هو واجب، ومالك هو فضيلة، والشّافعيّ وأحمد هو

[39]

سنة، وتقدم ذكر اختلافهم ملخصًا (¬1) عند سجدة مريم. * * * {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}. [39] {وَمِنْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته. {أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} يابسة لا نبات فيها. {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} انتفخت بالنبات، وتزخرفت. {وَرَبَتْ} زادت. قرأ أبو جعفر: (وَرَبَأَتْ) بهمزة مفتوحة بعد الباء، والباقون: بحذفها (¬2). {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} بعد موتها. {لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من الإحياء والإماتة. * * * {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)}. [40] {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} يميلون {فِي آيَاتِنَا} بالطعن فيها. قرأ حمزة: (يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء، والباقون: بضم الياء وكسر الحاء (¬3). ¬

_ (¬1) "ملخصًا" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 325)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 73 - 74). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 114)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 381)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 74).

[41]

{لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فنجازيهم على إلحادهم، ونزل استفهامًا وعيدًا ووعدًا: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أمر تهديد ووعيد. {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم به. * * * {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)}. [41] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} بالقرآن {لَمَّا جَاءَهُمْ} وجواب (إن) محذوف؛ أي: خسروا، ثمّ وصف الذكر فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} كريم على الله. * * * {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}. [42] {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} أي: ليس فيما تقدمه من الكتب ما يبطل شيئًا منه، وليس فيما (¬1) بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل شيئًا منه، ولا يتطرق إليه ما يبطله من جهة ما، ولا يجد إليه سبيلًا. وهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} يحمده كلّ مخلوق. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "يأتي".

[43]

{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)}. [43] {مَا يُقَالُ لَكَ} يا محمّد؛ من التكذيب {إِلَّا} مثل. {مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ} من التكذيب {مِنْ قَبْلِكَ} وهو تسلية له - صلى الله عليه وسلم - عن مقالات قومه، وما يلقى من المكروه منهم. {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} لأوليائه {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائه. * * * {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}. [44] {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} أي: هذا الكتاب الّذي يُقرأ على النَّاس. {قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} يُقرأ بغير لغة العرب. {لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ} هَلَّا بُينت {آيَاتُهُ} بالعربيّة. {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الهمزة للإنكار، المعنى: لأنكروا، وقالوا: قرآن أعجمي، ورسول عربي؟ والأعجمي -بسكون العين-: من لا يفصح، وإن كان عربيًّا، وليست نسبة حقيقة، إنّما هي توكيد لمعنى الصِّفَة؛ كأحمريّ في أحمر. قرأ قنبل عن ابن كثير، وهشام عن ابن عامر، ورويس عن يعقوب باختلاف عنهم: (أَعْجَمِيٌّ) بهمزة واحدة على الخبر، وقرأ الباقون: بهمزتين على الاستفهام، فحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب: يحققون الهمزتين، والباقون: يحققون

[45]

الأولى، ويسهلون الثّانية بين الهمزة والألف، وهم على أصولهم، فورش اختلف عنه في إبدالها ألفًا خالصة، وتسهيلها بين بين، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون: يفصلون بين الهمزتين بألف، واختلف عن هشام في تسهيلها وتحقيقها وإدخال الألف بينهما مع تحقيقهما، وروي عن ابن ذكوان وحفص: إدخال الألف بين الهمزتين مع تحقيقهما (¬1) {قُلْ هُوَ} أي: القرآن. {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى} من الضلالة. {وَشِفَاءٌ} لما في القلوب من الشكوك. {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} هو (¬2) {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} صمم. {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وذلك لتصامِّهم عند سماعه، وتعاميهم عما يرون من آياته، ولما كانوا لا يعون ما يسمعون من القرآن، قال: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} تمثيل لهم في عدم قبولهم واستماعهم له بمن يُنادَى من بعد، لم يسمع، ولم يفهم. * * * {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)}. [45] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} كما اختُلف في القرآن، فصدقه قوم، وكذبه آخرون. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 576 - 577)، و"التيسير" للداني (ص: 193)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 75 - 76). (¬2) "هو" زيادة من "ت".

[46]

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} بأن يفصل يوم القيامة بين الخلائق، والكلمة: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46]. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بتعجيل إهلاك المكذبين. {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} من صدقك. {مُرِيبٍ} موقع للريبة. * * * {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}. [46] {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} نفعُه {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ضرُّه. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فلا يضع شيئًا من عقوبات عبيده في غير موضعها، بل هو العادل المتفضل الّذي يجازي كلّ عبد بكسبه. * * * {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)}. [47] {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} متى تكون، لا يعلمه غيره تعالى. {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (ثَمَرَةٍ) بغير ألف على التّوحيد، وقرأ الباقون: بألف بعد الراء على الجمع (¬1)؛ لاختلاف الأنواع ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 194)، و"تفسير البغوي" (4/ 71)، و"النشر في =

[48]

{مِنْ أَكْمَامِهَا} جمع كِمّ، وهو وعاء الثمر. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ} أي: ما يحدث حدوثٌ؛ من خروج ثمرٍ، وحملِ حاملٍ ووضعِه، وغيرِ ذلك. {إِلَّا بِعِلْمِهِ} فيعلمه تعالى على أي وصف وجد. {وَيَوْمَ} القيامة {يُنَادِيهِمْ} أي: الكفار {أَيْنَ شُرَكَائِي} بزعمكم. {قَالُوا آذَنَّاكَ} أعلمناك {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي: شاهد يشهد بأن لك شريكًا، لما عاينوا العذاب. قرأ ابن كثير: (شُرَكَائِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). * * * {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)}. [48] {وَضَلَّ عَنْهُمْ} ثَمَّ {مَا كَانُوا يَدْعُونَ} يعبدون. {مِنْ قَبْلُ} في الدنيا من الأصنام. {وَظَنُّوا} أيقنوا {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} مهرب. * * * {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)}. [49] {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ} لا يمل الكافر. {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} من طلب السعة في المال. ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 367)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 77). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 578)، و"التيسير" للداني (ص: 194)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 78).

[50]

{وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} الفقر والشدة. {فَيَئُوسٌ} من فضل الله {قَنُوطٌ} قاطع الرجاء من رحمته. * * * {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)}. [50] {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} آتيناه {رَحْمَةً} سعة وعافية. {مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أي: بعملي. قرأ أبو عمرو: (مِنْ بَعْد ضَّرَّاءَ) بإدغام الدال في الضاد (¬1). {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} كزعم محمّد. {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} فرضًا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها، واختلف عن قالون (¬2). {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} الجنَّة، يقول ذلك استهزاء. {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} من الأعمال الموجبة لهم النّار. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} شديد. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 346)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (6/ 78). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 578)، و"التيسير" للداني (ص: 194)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 367)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (6/ 78).

[51]

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}. [51] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ} عن شكره تعالى. {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} بَعُدَ، ولم يملْ إلى شكر ولا طاعة. قرأ أبو جعفر، وابن ذكوان عن ابن عامر: (وَنَاءَ) بألف قبل الهمز مثل وناع؛ من النوء، وهو النهوض والقيام، والباقون: بألف بعد الهمزة، [وأمال الكسائي، وخلف لنفسه وعن حمزة فتحة النون والهمزة] (¬1)، وأمال السوسي عن أبي عمرو بخلاف عنه، وخلاد عن حمزة فتحَ الهمزة فقط، وفتحا النون، وقرأ الباقون: بفتح النون والهمزة على وزن نَعَى (¬2). {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة، فيقال: أطال فلان الكلام والدعاء، وأعرض؛ أي: أكثر. * * * {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)}. [52] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أخبروني {إِنْ كَانَ} القرآن. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 577)، و"التيسير" للداني (ص: 141)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 43)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 79).

[53]

{مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} عنادًا، ألستم على هلكة من قبل الله. {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} عن الحق؛ أي: فلا أحد أضل منكم؛ لأنكم أهلكتم أنفسكم بتكذيبه. * * * {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}. [53] {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} يعني وقائع الله في الأمم، وما يفتحه الله (¬1) على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأقطار حول مكّة وغير ذلك من الأرض؛ كخيبر، وقهر العرب والعجم. {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} يوم بدر، وفتح مكّة. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي: الشرع والقرآن. {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} مُطَّلع لا يغيب عنه شيء. * * * {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}. [54] {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} في شك من البعث. {أَلَا إِنَّهُ} تعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} علمًا وقدرةً، ومعناه الوعيد لهم، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) لفظ الجلالة "الله" زيادة من "ت".

سورة الشوري

سُوْرَةُ الشُّوْرَي مكية، وقال مقاتل: فيها مدني {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} إلى {الصُّدُورِ} {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} إلى {مِنْ سَبِيلٍ}، وآيها: ثلاث وخمسون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وخمس مئة وثمانية وثمانون حرفًا، وكلمها: ثماني مئة وست وستون كلمة، وهذه السورة أول المفصل على أحد القولين في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، والقول الثّاني: أنّه من سورة النجم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) عسق (2)}. [1 - 2] {حم (1) عسق} تقدّم ذكر الإمالة، ومذهب أبي جعفر في تقطيع الحروف أول غافر، وأشبع ورش مد (ع) بخلاف عنه؛ كأول سورة مريم، قال ابن عبّاس: "إنَّ (حم عسق) هذه الحروف بأعيانها نزلت في كلّ كتب الله المنزلة على كلّ نبي أُنزل عليه كتاب الله (¬1) " (¬2) ولذلك قال تعالى: ¬

_ (¬1) لفظ الجلالة "الله" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 73)، و"تفسير الرازي" (27/ 123). قال الرازي: وهذا عندي بعيد.

{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} وفُصِلَتْ (حم) من (عسق)، ولم يفعل ذلك بـ (كهيعص) لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها، ولأنّهما عُدَّا آيتين، و (كهيعص) عُدَّت آية واحدة، والأقوال في هذه كالأقوال في أوائل السور. وعن ابن عبّاس -رضي الله عنه-: أنّه قال: " (ح) حلمه (م) مجده (ع) علمه (س) سناؤه (ق) قدرته، أقسم الله بها" (¬1). وروي عن علي -رضي الله عنه-: أنّه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الحروف الّتي في أوائل السور (¬2). وروى حذيفة بن اليمان: "أن رجلًا يقال له: عبد الإله، أو عبد الله ينزل على نهر من أنّهار المشرق يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقًّا، فتهلك إحدى المدينتين ليلًا، ثمّ تصبح الأخرى سالمة، فيجتمع فيها جبابرة ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 73)، و"فتح القدير" للشوكاني (4/ 525)، وقال: وقيل غير ذلك ممّا هو متكلّف متعسف لم يدلَّ عليه دليل، وجاءت به حجة ولا شبهة حجة. (¬2) قال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصَّل لي فيها عشرون قولًا وأزيد، ولا أعرف أحدًا يحكم عليها بعلم ولا يصل منها إلى فهم. انظر: "الإتقان " للسيوطي (2/ 26)، وفي مقدمة من نفى هذا العلم عن سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، هذا ولمّا سئل السبكي عن دلالة {كهيعص} فكان من إجابته -رحمه الله-: .. وأكثر ذلك يكون معصية ممَّا يجب إنكارُه وبعضه ممّا جربناه فلم نجده صحيحًا ممّا لا فائدة فيه. انظر: "فتاوى السبكي" (2/ 563).

[3]

المدينتين متعجبين من سلامتها، فتهلك من اللَّيلة القابلة، وإن (حم) معناه: حتم (¬1) هذا الأمر، و (عين) معناه: عدلًا من الله، و (سين): سيكون ذلك، و (قاف) معناه: يقع ذلك بهم" (¬2). * * * {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}. [3] {كَذَلِكَ} أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني. {يُوحِي إِلَيْكَ} يا محمّد {وَإِلَى} الرسل {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: كما أوحينا إليك، وأوحينا إليهم. قرأ ابن كثير: (يُوحَى) بفتح الحاء مجهولًا، القائم مقام الفاعل (إليك)، وقرأ الباقون: بكسر الحاء معلومًا، فالفاعل (الله) تعالى، وقرأ أبان عن عاصم: (نُوحِي) بنون العظمة (¬3)، فعلى قراءة ابن كثير (كَذَلِكَ) مبتدأ، خبره (يُوحَى)، وعلى قراءة الباقين (اللَّهُ) مبتدأ، خبره (العزيزُ الحكيمُ)، وقال (يُوحِي) مضارعًا دون (أَوْحَى)؛ للإيذان أن إيجاد مثله عادته، و (العزيزُ الحكيمُ) صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحى به. ¬

_ (¬1) في "ت": "حُمَّ". (¬2) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (21/ 497). قال ابن كثير في "تفسيره" (4/ 107): غريب عجيب. (¬3) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (3/ 49)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: 580)، و"تفسير البغوي" (4/ 74)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 83 - 84).

[4]

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)}. [4] {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ملكًا وخلقًا. {وَهُوَ الْعَلِيُّ} في قدره {الْعَظِيمُ} في سلطانه. * * * {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)}. [5] {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} قرأ نافع، والكسائي: (يَكَادُ) بالياء مذكرًا؛ لتذكير الجمع، والباقون: بالتاء مؤنثًا (¬1)؛ لتأنيث (السَّمَوَات)، و (كادَ) من أفعال المقاربة. {يَتَفَطَّرْنَ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: (يَنْفَطِرْنَ) بالنون وكسر الطاء مخففة؛ وقرأ الباقون: بالتاء وفتح الطاء مشددة (¬2)؛ أي: يتشققن {مِنْ فَوْقِهِنَّ} أي: كلّ (¬3) منها تنفطر فوق الّتي تليها، أو من فوق الأرضين السبع، من قول المشركين: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116]. {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يقولون: سبحان الله، وقيل: يصلون. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 580)، و"التيسير" للداني (ص: 150)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 84). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 580)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 319)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 84). (¬3) في "ت" زيادة: "من" بعد "كلّ".

[6]

{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} من المؤمنين {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الّذي يطلب هذا منه؛ إذ هذه أوصافه، وهو أهل المغفرة. * * * {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)}. [6] {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} شركاء. {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب يحصي أعمالهم؛ ليجازي بها. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} بموكَّل بهم، ولا بلازم لأمرهم حتّى يؤمنوا، والوكيل: المقيم على الأمر، وما في هذا (¬1) اللّفظ من موادعة، فهو منسوخ بآية السيف. * * * {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)}. [7] {وَكَذَلِكَ} ومثلَ ذلك الإيحاء البين. {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكّة؛ أي: أصل البلاد، والمراد: أهلها، ولذلك عطف عليها {وَمَنْ حَوْلَهَا} (مَنْ) في الأغلب لمن يعقل؛ يعني: قرى الأرض كلها. {وَتُنْذِرَ} النَّاس {يَوْمَ الْجَمْعِ} هو يوم القيامة؛ أي: تخوفهم إياه؛ لما ¬

_ (¬1) في "ت": "هذه".

[8]

فيه مِنْ عذاب مَنْ كفر، ويسمى يوم الجمع؛ لاجتماع أهل الأرض وأهل السماء فيه. {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي: في نفسه وذاته، وارتياب الكفار فيه لا يعتد به، ثمّ بعد الجمع يتفرقون. {فَرِيقٌ} مرتفع على خبر الابتداء المضمرة أي: هم فريق. {فِي الْجَنَّةِ} هم المؤمنون {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} هم الكافرون. * * * {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)}. [8] ثمّ قرن (¬1) تعالى تسلية نبيه بأن عرفه بأن الأمور موقوفة على مشيئته تعالى، فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد، وهو الإسلام. {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ} إيمانَه، وهو من سبقت له السعادة عنده. {فِي رَحْمَتِه} في دين الإسلام. {وَالظَّالِمُونَ} الكافرون الميسرون لعمل الشقاوة. {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ينقذهم من عذابه تعالى. ¬

_ (¬1) في "ت": "قوَّى".

[9]

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)}. [9] {أَمِ اتَّخَذُوا} وهذا كلام منقطع ممّا قبله، وليس بمعادلة، ولكن الكلام كأنّه (¬1) أضرب عن حجة لهم أو مقالة مقررة، فقال: بل اتخذوا {مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} شركاء وأندادًا، و (الفاء) بعد جواب شرط مقدر، تقديره: بعد نفي جميع الآلهة إنَّ أرادوا وليًّا حقًّا. {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} لك يا محمّد ولمن اتبعك. {وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى} يبعثهم من قبورهم. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قدرته تعطي هذا وتقتضيه. * * * {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)}. [10] ثمّ أُمر - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمؤمنين حيث اختلفوا هم و (¬2) المشركون بين يديه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ} أنتم والكفار. {مِنْ شَيْءٍ} من الدِّين وغيره {فَحُكْمُهُ} مردود {إِلَى اللَّهِ}. ¬

_ (¬1) "كأنّه" زيادة من "ت". (¬2) "و": سقط من "ت".

[11]

{ذَلِكُمُ} الموصوفُ بهذا الوصف. {اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع الأمور. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَرْجِع. * * * {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}. [11] {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خالق الآفاق. {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: من جنسكم. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (جَعَل لَّكُمْ) بإدغام اللام الأولى في الثّانية (¬1). {أَزْوَاجًا} حلائلَ، وليس الأزواج هاهنا الأنواع {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} ذكرًا وأنثى؛ إكرامًا لكم. {يَذْرَؤُكُمْ} يخلقكم، والضمير للأناسي والأنعام، فغلّب الأناسي. {فِيهِ} في هذا التّدبير، وهو جعلُ النَّاس والأنعام أزواجًا يكون بينهم توالد. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ} أي: ليس كهو {شَيْءٌ} يزاوجه ويناسبه، والمراد من (مثله): ذاتُه، والشيء: عبارة عن الموجود، قال ابن عبّاس: "ليس له نظير" (¬2)، فالتوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات، ولا معطلة من ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 346)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 86). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 77).

[12]

الصفات، ليس كذاته ذوات (¬1)، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة، إِلَّا من جهة موافقة اللّفظ اللّفظ، وجَلَّت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة؛ كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة، وحيث تراءى في مرآة القلب صورة، أو خطر بالخاطر مثال، أو ركنت النفس إلى كيفية، فليجزم بأن الله بخلافه؛ إذ كلّ ذلك من سمات الحدوث؛ لدخوله في دائرة التحديد والتكييف اللازمين للمخلوق، المنزهِ عنهما الخالق تعالى، ولقد أقسم سيد الطائفة الجنيد بأنّه ما عرف اللهَ إِلَّا اللهُ. {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لكل ما يُسْمَع ويُبْصر. * * * {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}. [12] {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تقدّم تفسيره في سورة الزمر. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يوسِّع ويضيِّق؛ لأنّ مفتاح الرزق بيده {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيفعله على ما تقتضيه حكمته. * * * {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى ¬

_ (¬1) في "ت": "ذات".

[13]

الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)}. [13] {شَرَعَ} بَيَّنَ. {لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} وهو أول أنبياء الشّريعة. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من القرآن وشرائع الإسلام {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشام عن ابن عامر: (إِبْرَاهَامَ) بألف بين الهاء والميم (¬1) {وَمُوسَى وَعِيسَى} ثمّ بين المشروع المشترك فيه هؤلاء، وهو: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} وهو توحيد الله وطاعته، وما به يكون الإنسان مسلمًا. {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} في القدر المشترك بينكم من الدِّين، ولم يردّ الاشتراك في جميع الشرائع؛ لأنّها متفاوتة؛ لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، ثمّ أخبر تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بصعوبة موقع هذه الدّعوة إلى إقامة الدِّين على المشركين بالله العابدين للأصنام بقوله: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ} يا محمّد. {إِلَيْهِ} من التّوحيد، ثمّ سلَّاه عنهم بقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي} يختار {إِلَيْهِ} أي: لدينه (¬2). {مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ} بالتوفيق. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 383)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 86). (¬2) "أي: لدينه" زيادة من "ت".

[14]

{مَنْ يُنِيبُ} يُقبل إلى طاعته، وكان نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة متعبدًا في الفروع بشرع من قبلَه مطلقًا، وقيل: مُعَيَّن، فقيل: آدم، أو نوح، أو إبراهيم، أو موسى، أو عيسى، وقيل: بوضع شريعة اختارها، وقيل: بالإلهام، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - على ما كان عليه قومه باتِّفاق الأئمة وإجماع الأُمَّة. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: من زعمه، فقول سوء. وامتناع المعصية منه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة عقلًا مبني على التقبيح العقلي، وبعدها معصوم من تعمد ما يُخِلُّ بصدقه فيما دلت المعجزة على صدقه من رسالة وتبليغ بالاتفاق. * * * {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}. [14] {وَمَا تَفَرَّقُوا} أي: أهلُ الكتاب {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} بأن التفرق ضلال {بَغْيًا} لأجل البغي الحاصل. {بَيْنَهُمْ} المؤدي إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} بتأخير العذاب والجزاء. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو يوم القيامة. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا، وغلب المحقُّ المبطلَ. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.

[15]

{مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعد مَنْ تقدمهم {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} من محمّد - صلى الله عليه وسلم - {مُرِيبٍ} ووصف الشك بمريب مبالغة فيه. * * * {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}. [15] {فَلِذَلِكَ} إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التّوحيد {فَادْعُ} أنت إلى ربك، وبلغ ما أُرسلت به {وَاسْتَقِمْ} على دينهم. {كَمَا أُمِرْتَ} أي: دُمْ على استقامتك؛ لأنّه كان مستقيمًا، وفي هذا المعنى قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "شيبتني هودٌ وأخواتُها"، فقيل له: لم ذلك؟ فقال: "لأنّ فيها {فَاْسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} " (¬1)، وهذا خطاب له - صلى الله عليه وسلم - بحسب قوته في أمر الله تعالى، وقال هو لأمته بحسب ضعفهم: "استقيموا ولَنْ تُحصوا" (¬2). {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يعني: قريشًا فيما كانوا يهوونه من أن يعظِّم محمّد - صلى الله عليه وسلم - آلهتَهم، وغير ذلك. {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} يعني: جميع الكتب المنزلة من عند الله، وهو أمر يعم سائر أمته. ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه. (¬2) رواه ابن ماجه (277)، كتاب: الطّهارة، باب: المحافظة على الوضوء، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 276)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. وصححه المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 97).

[16]

{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ} واللام بمعنى أن؛ أي: أمرت بأن أعدل. {بَيْنَكُمُ} في الحكم، ولا أطالبكم بأكثر ممّا افترض الله عليكم. {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} خالق كلّ شيء. {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وكلٌّ مجازى بعمله. {لَا حُجَّةَ} لا مخاصمة {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} نسخها آية القتال. {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وعيد للكفار. * * * {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)}. [16] {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} أي: في توحيده. {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أي: من بعد ما أجاب المسلمون بالإيمان. {حُجَّتُهُمْ} مجادلتهم {دَاحِضَةٌ} باطلة. {عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرة. * * * {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)}. [17] {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ} القرآن {بِالْحَقِّ} في أحكامه. {وَالْمِيزَانَ} العدلَ، سمي ميزانًا؛ لأنّ الميزان آلة الإنصاف، ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن السّاعة، نزل:

[18]

{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ} (¬1) أي: البعث {قَرِيبٌ}. * * * {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}. [18] ثمّ وصف تعالى حال الجهلة المكذبين بها، فقال: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا} استهزاء {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} بقيامها. {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} خائفون من شدائدها. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا} أي: مجيئها {الْحَقُّ} الواقع. {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ} يجادلون {فِي السَّاعَةِ} وإبطال مجيئها عنادًا. {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} عن الحق. * * * {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}. [19] {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} بارٌّ بعباده بصنوف من البرّ {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} ما يشاء (¬2)، فيخص كلًّا من عباده بنوع من البرّ على ما اقتضته حكمته. {وَهُوَ الْقَوِيُّ} القادر {الْعَزِيزُ} الّذي لا يُغلب. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 78). (¬2) "ما يشاء" زيادة من "ت".

[20]

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}. [20] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} عملَها؛ أي: من كان يريد بعمله الآخرةَ. {نَزِدْ لَهُ فِي} جزاء {حَرْثِهِ} بتضعيف الحسنة إلى العشر، وتزاد إلى ما شاء الله. {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} يريد بعمله الدنيا {نُؤْتِهِ مِنْهَا} ما قُسم له بلا تضعيف {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} لأنه لم يعمل لها. قرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: (نُؤْتِهْ) بسكون الهاء، واختلف عن أبي جعفر، وقرأ يعقوب، وقالون عن نافع: بكسر الهاء من غير صلة، واختلف عن أبي جعفر وهشام، وقرأ الباقون، وهم ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: بصلتها، واختلف عن هشام (¬1). * * * {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)}. [21] {أَمْ} أي: بل {لَهُمْ شُرَكَاءُ} والهمزة للتقرير والتقريع، ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 349)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 305 - 306)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 87).

[22]

وشركاؤهم شياطينهم {شَرَعُوا لَهُمْ} أي: عملوا شريعة لهم. {مِنَ الدِّينِ} الفاسد، وهو الشرك. {مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} لأنّه سبحانه منزه أن يأذن في عمل الباطل. {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي: القضاء السابق بتأجيل الجزاء. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. * * * {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)}. [22] {تَرَى الظَّالِمِينَ} المشركين يوم القيامة {مُشْفِقِينَ} وَجِلين. {مِمَّا كَسَبُوا} من السيئات {وَهُوَ} أي: جزاء كسبهم {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أشفقوا، أو لم يشفقوا. قرأ أبو عمرو (وَهُو وَّاقعٌ) بإدغام الواو في الواو (¬1). {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} أي: أطيب بقاعها، وهي المواضع المؤنقة، وهي مرتفعة في الأغلب، وهي الممدوحة عند العرب وغيرهم. {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ} أي: ما يشتهون ثابتٌ لهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} الّذي يصغُر دونه ما لغيرهم في الدنيا. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 346)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 88).

[23]

{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}. [23] {ذَلِكَ} المعَدُّ لهم في الجنة {الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ} به. {عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: (يَبْشُرُ) بفتح الياء وإسكان الباء وضم الشين مخففة؛ من بَشَرَ، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة (¬1)؛ من بَشَّرَ، وهما لغتان بمعنى البشارة. {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على تبليغ الرسالة {أَجْرًا} نفعًا منكم. {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} استثناء منقطع، معناه: لكن أسألكم أن تودوا قرابتي التي هي قرابتكم، قال ابن عباس: "لم يكنْ بطنٌ من قريش إلا له فيهم قرابة" (¬2). روي أنها لما نزلت، قيل: يا رسول الله! من قرابتك من هؤلاء؟ قال: "عليٌّ وفاطمةُ وابناها" (¬3)، وقيل: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 195)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 383)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 88 - 89). (¬2) رواه البخاري (4541)، كتاب: التفسير، باب قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12259) عن ابن عباس، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 103): فيه جماعة ضعفاء وقد ثقوا كلهم، وضعفهم جماعة، وبقية رجاله ثقات. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 81).

[24]

{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} يكسِبْ طاعة {نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} بتضعيفها. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} ساترٌ ذنوبَ (¬1) عبيده {شَكُورٌ} مجازٍ على الدقيقة من الخير، لا يضيع عنده لعامل عمل. ... {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)}. [24] {أَمْ} أي: بل {يَقُولُونَ} كفار مكة: {افْتَرَى} محمد. {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبته القرآن إلى الله {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي: ينسيك القرآن، والمراد: الرد على مقالة الكفار، وبيان إبطالها، وذلك كأنه يقول: وكيف يصح أن تكون مفتريًا، وأنت من الله بمرأى ومسمع، ولو شاء الله أن يختم على قلبك، فلا تعقل ولا تنطق، ولا يستمر افتراؤك؟! فمقصد اللفظ هذا المعنى، وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصارًا واقتصارًا، وهذا التأويل تهديد لهم، وقيل: المعنى: يختم على قلبك بالصبر، فلا تتأذى منهم، وهذا التأويل تسلية له - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عطية (¬2): هذا التأويل لا يتضمن الرد على مقالتهم. {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} وهو الكفر، فعل مستقبل خبر من الله تعالى أنه يمحو الباطل ولا بد، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وكتبت (يَمْحُ) في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} [الإسراء: 11] إلى غير ذلك مما ذهبوا ¬

_ (¬1) في "ت": "عيوب". (¬2) في "المحرر الوجيز" (5/ 35).

[25]

فيه إلى الحذف والاختصار نظرًا إلى اللفظ وحملًا للوقف على الوصل. {وَيُحِقُّ الْحَقَّ} يُثبت الإسلام. {بِكَلِمَاتِهِ} بوحيه وقضائه، وقد فعل الله تعالى ذلك، فمحا باطلهم، وأعلى كلمة الإسلام. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما تضمره القلوب، فيجازي كلًّا بعمله. ... {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)}. [25] قال ابن عباس: لما نزل {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ووقع في قلوب قوم منها شيء، وقالوا: يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده، فنزل جبريل، فأخبره أنهم اتهموه، وأنزل هذه الآية، فقال القوم: يا رسول الله! فإنا (¬1) نشهد أنك صادق، فنزل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ} (¬2) أي: من {عِبَادِهِ} يريد: أولياءه وأهل طاعته، والتوبة: الرجوع عن الذنب ندمًا، والعزم ألَّا يعود إليه أبدًا {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} إذا تيب منها، فيمحوها {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَفْعَلُونَ) بالخطاب؛ لأنه خطاب للمشركين، وقرأ الباقون: بالغيب (¬3)؛ لأنه بين خبرين عن قوم. ¬

_ (¬1) "فإنا" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 82)، و"تفسير القرطبي" (16/ 26). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 580)، و"التيسير" للداني (ص: 195)، و"تفسير البغوي" (4/ 83)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 90).

[26]

{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)}. [26] فقال قبله: {عَنْ عِبَادِهِ}، وبعده: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: يجيب تعالى دعاء المؤمنين الصالحين إذا دعوه. {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} زيادة على ثواب عملهم؛ تفضلًا منه. {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل. ... {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)}. [27] {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها، فأنزل الله الآية (¬1). والبغي: الطغيان والعتو في الأرض {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ} من الأرزاق. {بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} مصلحة لعباده. {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} يعلم ما ظهر من أمرهم وما بطن. قرأ الكوفيون، ونافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (يُنَزِّلُ) بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون وهم ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (يُنْزِلُ) بإسكان النون وتخفيف الزاي (¬2)، واختلافهم في الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَّهُ) كاختلافهم ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 228)، و"تفسير الرازي" (27/ 147). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 75)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[28]

فيهما من (مَنْ نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىَ) في سورة الحج [الآية: 5]. في الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل، عن الله سبحانه: "وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه [إلا الفقر، ولو أغنيته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه] (¬1) إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته، لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير" (¬2). ... {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)}. [28] {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} المطر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم، وابن عامر: (يُنَزِّلُ) بالتشديد كما تقدم، والباقون: بالتخفيف. {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} أيسوا منه، روي أن الله حبس المطر على أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر، فذكَّرهم تعالى نعمتَه. ¬

_ = (2/ 218) , و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 383)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 90). (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء" (ص: 9)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 318)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (41/ 285)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وإسناده ضعيف. وانظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي (1/ 45).

[29]

{وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} وهي الشمس، فذلك تعديد نعمة غير الأولى (¬1)، وذلك أن المطر إذا جاء بعد القنط، حسن موقعه، فإذا دام، سئم، فتجيء الشمس بعده عظيمة المواقع. {وَهُوَ الْوَلِيُّ} لأهل طاعته {الْحَمِيدُ} المستحق للحمد على كل حال. ... {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)}. [29] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ} أي: فَرَّقَ. {فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ} أي: وقت يشاء. {قَدِيرٌ} متمكن منه، والمراد: يوم القيامة عند الحشر من القبور. ... {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)}. [30] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} بلية وشدة. {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فبسبب معاصيكم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (بِمَا كَسَبَتْ) بغير فاء قبل الباء، وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون: بالفاء، وكذلك هي في مصاحفهم (¬2)، فالقراءة ¬

_ (¬1) "غير الأولى" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 195)، و"تفسير البغوي" (4/ 85)، و"النشر في =

[31]

بالفاء جواب ما قبل؛ لأنها شرطية محلها رفع ابتداء، ومن حذف الفاء، جعل ما في أول الآية مبتدأ، و (بِمَا كَسَبَتْ) خبرها. قال - صلى الله عليه وسلم -: " {وَمَا أَصَابَكُمْ} من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، والله أكرم من أن يُثَنِّيَ عليكم العقوبة في الآخرة" (¬1) {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} من الذنوب، فلا يعاقب عليها. قال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده! ما من خَدْشٍ، ولا عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر" (¬2). ... {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)}. [31] {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين {فِي الْأَرْضِ} هربًا حيثما كنتم. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} يدفع عنكم المصائب. ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 367)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 91). (¬1) رواه أحمد في "المسند" (1/ 85)، وأبو يعلى الموصلي في "المسند" (453). قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 104): فيه أزهر بن راشد، وهو ضعيف. (¬2) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 192)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (8/ 558)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3278).

[32]

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)}. [32] {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} السفن. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (الْجَوَارِي) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ ابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين، وأمال فتحة الواو حيث وقع: الدوري عن الكسائي (¬1). {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} أي: كالجبال، وكل مرتفع عَلَم. ... {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)}. [33] {إِنْ يَشَأْ} شرط {يُسْكِنِ الرِّيحَ} جوابه، وتعطف عليه {فَيَظْلَلْنَ} أي: السفن {رَوَاكِدَ} سواكنَ {عَلَى ظَهْرِهِ} أي: ظهر البحر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: لكل مؤمن؛ لأن من صفته الصبر في الشدة، والشكر في الرخاء. قرأ نافع، وأبو جعفر: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 581)، و "التيسير" للداني (ص: 195)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 368)، وَقَرأَها الكسائي (الجوري) بالإمالة في "الكشف" لمكي (1/ 171)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 383)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 91 - 92).

[34]

(الرِّيَاحَ) بفتح الياء وألف بعدها على الجمع، والباقون: بإسكان الياء وحذف الألف على الإفراد (¬1). ... {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)}. [34] وتعطف على الجواب {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يهلِكْهن بالغرق. {بِمَا كَسَبُوا} من الذنوب، وتعطف على (يوبقهن). {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} منها. ... {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}. [35] {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} تكذيبًا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (وَيَعْلَمُ) برفع الميم [على الاستئناف، وقرأ الباقون: بنصبها عطفًا على تعليل محذوف (¬2)، تقديره: لينتقم منهم] (¬3)، وليعلم. {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} مهرب. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 92). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 78)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 223)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 92). (¬3) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[36]

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)}. [36] {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} شرط، جوابه: {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تتمتعوا به يسيرًا، ثم يزول. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب {خَيْرٌ وَأَبْقَى} من حطام الدنيا. {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين أنفق جميع ماله، وتصدق به، فلامه الناس (¬1). ... {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}. [37] وعطف على قوله: {خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا} {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} هي الشرك، وقتل النفس، وقذف المحصن، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وتقدم الكلام على ذلك في سورة النساء. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (كَبِيرَ) بكسر الباء من غير ألف ولا همزة على التوحيد إرادة الجنس، وقرأ الباقون: بفتح الباء والألف وهمزة مكسورة بعدها على الجمع (¬2) {وَالْفَوَاحِشَ} هي موجبات الحدود. {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} يكظمون الغيظ، ويتجاوزون. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (16/ 25). (¬2) المصادر السابقة.

[38]

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)}. [38] {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته. {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} الخمس. {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي: يتشاورون فيه، لا ينفرد واحد منهم برأي دون صاحبه. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في سبل الخير، فهؤلاء صنف. ... {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)}. [39] {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} صنف؛ أي: ينتقمون من ظالميهم (¬1) من غير أن يعتدوا. ... {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)}. [40] {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} سمي الجزاء سيئة؛ لتشابههما في الصورة. {فَمَنْ عَفَا} عن ظالمه {وَأَصْلَحَ} الودَّ بينه وبين خصمه بالعفو. {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} عِدَةٌ مبهمة تدل على عظم الموعود. ¬

_ (¬1) "من ظالميهم" ساقطة من "ت".

[41]

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين يبتدئون بالسيئة، أو يتجاوزون في الانتقام. ... {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}. [41] {وَلَمَنِ انْتَصَرَ} اقتصَّ {بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي: بعد ظلم الظالم إياه. {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} طعن ولا عيب. ... {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)}. [42] {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} تكبرًا. {بِغَيْرِ الْحَقِّ} يعملون فيها بالمعاصي. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على ظلمهم وبغيهم. ... {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}. [43] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} فلم ينتصر. {إِنَّ ذَلِكَ} منه. {لَمِنْ عَزْمِ} أي: محكم {الْأُمُورِ} ومتينها.

[44]

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)}. [44] {وَمَنْ يُضْلِلِ} أي: يخذله. {اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} يلي هدايته. {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} يوم القيامة. {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ} إلى الدنيا {مِنْ سَبِيلٍ}؟ ... {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)}. [45] {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} على النار {خَاشِعِينَ} خاضعين. {مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ} إليها {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} ضعيف، يسارقون النظر إلى النار؛ خوفًا منها؛ كنظر المقتول إلى السياف. {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا} أي: يخسرون. {أَنْفُسَهُمْ} بدخول النار {وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: الحور المعدة لهم في الجنة (¬1)، لو آمنوا. {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} دائم، وهذا تمام كلام المؤمنين، ويحتمل أنه تصديق من الله لهم. ¬

_ (¬1) "في الجنة" ساقطة من "ت".

[46]

{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}. [46] {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من دون عذابه. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} طريق إلى الهداية. ... {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)}. [47] {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أجيبوا داعي الله؛ يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} لا يقدر أحد على دفعه، وهو يوم القيامة. قرأ حمزة: (لا مَرَدَّ لَهُ) بالمد بحيث لا يبلغ الإشباع. {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ} من عذابه {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أي: لا تقدرون أن تنكروا شيئًا مما اقترفتموه، تلخيصه: أنتم عجزة معترفون ثَمَّ بذنوبكم. ... {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)}. [48] {فَإِنْ أَعْرَضُوا} عن إنذارك يا محمد. {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظ أعمالهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} ونُسخ هذا بآية السيف {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ} أراد الجنس {مِنَّا رَحْمَةً} نعمة.

[49]

{فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ} الكافر {كَفُورٌ} يفرح بالنعم، ويكفر بسبب النقم. ... {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)}. [49] {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} له التصرف فيهما بما يريد. {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من غير لزوم. {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} لا اعتراض عليه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ من يُمْنِ المرأة تبكيرَها بالأنثى قبلَ الذكر"، وذلك أن الله تعالى يقول: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (¬1) ألا ترى أنه بدأ بالإناث قبل الذكور، وقَدَّم (إناثًا)، ونكرهن، وعرف الذكر؛ لأنه في معرض أنه فعال لما يختار، لا لما يختاره العباد. قال الكواشي: ويجوز أنهن قُدِّمن توبيخًا لمن كان يَئِدُهن، ونُكِّرْنَ إيماء إلى ضعفهن؛ ليُرْحَمْن، فيُحْسَنَ إليهن، ثم قدم الذكور عليهن بعدُ، مع ¬

_ (¬1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (818)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (47/ 225)، من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. وإسناده ضعيف جدًّا، وصرح ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 276) أنه موضوع. وانظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 162).

[50]

جمعهن معهم منكرين؛ إيذانًا أن لا غناء لأحدهما عن الآخر، ولأنهما أصل الخلق، انتهى. واختلاف القراء في الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَاثًا) كاختلافهم فيهما من (يَشَاءُ إِنَّهُ) كما تقدم التنبيه عليه. ... {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}. [50] {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} يجمع له بينهما، فيولد له الذكور والإناث. {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} فلا تلد، ولا يولد له، والعقم في اللغة: المنع. {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} يفعل ما يختار بحكمته. ... {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}. [51] ولما قال اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تكلم الله وتنظر إليه كموسى إن كنت نبيًّا؟ نزل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} (¬1) أي: ما صح لأحد. {أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} أي: إلهامًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 89 - 90)، و"تفسير القرطبي" (16/ 53).

[52]

{أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فيسمع صوتًا، ولا يرى شخصًا {أَوْ يُرْسِلَ} تعالى {رَسُولًا} إما جبريل، أو غيره {فَيُوحِيَ} تعالى إلى ذلك الرسول {بِإِذْنِهِ} باختياره تعالى. {مَا يَشَاءُ} من الوحي، فيكلم ذلك الرسول بالموحَى إليه الرسلَ؛ بأن يلقيه عليهم. {إِنَّهُ عَلِيٌّ} عن صفات المخلوقين {حَكِيمٌ} في صنعه. قرأ نافع (أَوْ يُرْسِلُ) برفع اللام على الاستئناف (فَيُوحِي) بإسكان الياء عطف على (يُرْسِلُ)؛ أي: ما جاز أن يفهم ما عنده تعالى أحد من البشر إلا من هذه الأوجه الثلاثة، أو بعضها، مع عدم الرؤية. وقرأ الباقون: بنصب اللام والياء عطفًا على محل (وَحْيًا) (¬1)؛ لأنه بتأويل المصدر فـ (مِنْ) في (مِنْ وَرَاءِ) متعلقة بمحذوف تقديره: إلا أن يوحي، أو أن يُسمع من وراء حجاب، أو أن يرسل، و (فيوحي) عطف على (يُرْسل)، وتقدم التنبيه على اختلافهم في الهمزتين من (يَشَاءُ إِنَّهُ) في الحرف المتقدم. ... {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}. [52] {وَكَذَلِكَ} أي: ومثل إيحائنا إلى الرسل. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 582)، و"التيسير" للداني (ص: 195)، و"تفسير البغوي" (4/ 90)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 96).

[53]

{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} أي: نبوة؛ لأن الموحى إليه للدين كالروح للجسد. {مَا كُنْتَ تَدْرِي} قبل الوحي {مَا الْكِتَابُ} أي: القرآنُ. {وَلَا الْإِيمَانُ} يعني: شرائعه ومعالمه، والأنبياء كانوا مؤمنين قبل الوحي، وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - يعبد على دين إبراهيم -عليه السلام-، وقيل: غيره. في الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوحِّدُ، ويُبغض اللات والعزى، ويحج ويعتمر، ويتبع شريعة إبراهيم، وتقدم ذكر الخلاف في ذلك، وما كان يتعبد به قبل البعثة عند تفسير قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الآية: 13]. {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} أي: القرآنَ {نُورًا نَهْدِي بِهِ} أي: نُرشد. {مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} بالتوفيق للقبول. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} لتدعو {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} دينِ الإسلام. ... {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}. [53] وتبدل من (مُسْتَقِيمٍ) {صِرَاطِ اللَّهِ} أي: شرعِ الله ورحمتِه وجنته. {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ملكًا وخلقًا.

{أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} أمور جميع الخلائق في الآخرة، وهي صائرة على الدوام إلى الله تعالى، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين، والله أعلم.

سورة الزخرف

سُورَةُ الزُّخْرُفِ مكية إلا {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}، نزلت ببيت المقدس ليلة أُسري به - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وآيها: تسع وثمانون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وأربع مئة حرف، وكلمها: ثماني مئة وثلاث وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1)}. [1] {حم} خبر مبتدأ محذوف. ... {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}. [2] ثم تبتدئ مقسمًا {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} يعني: القرآن الذي أبان الهدى، وما تحتاج إليه الأمة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (21/ 612)، و"تفسير البغوي" (4/ 101)، و"تفسير القرطبي" (16/ 95).

[3]

{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)}. [3] وجواب القسم: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} أي: أنزلناه وبيناه، ويستحيل أن يكون بمعنى الخلق، وهو إخبار عليه وقع القسم، والضمير في (جَعَلْنَاهُ) عائد على (الْكِتَابِ). {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بلسانكم؛ لئلا يبقى لكم عذر. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تَرَجٍّ بحسب معتقد البشر؛ أي: إذا أبصر المبصر من البشر هذا الفعل منا، يرجى منه أن يعقل الكلام، ويفهم؛ لأنه لو نزل بغير لغتهم، ما فهموه. ... {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)}. [4] {وَإِنَّهُ} أي: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} في اللوح المحفوظ. قرأ حمزة، والكسائي: (إِمَّ) بكسر الهمزة حالة الوصل إتباعًا، وإذا ابتدأا، ضمَّاها، وبه قرأ الباقون في الحالين (¬1). {لَدَيْنَا} عندنا {لَعَلِيٌّ} رفيع الشأن {حَكِيمٌ} ذو حكمة بالغة. ... {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)}. [5] ثم استفهم منكرًا فقال: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} أفنترك ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 94)، و"الكشف" لمكي (1/ 379)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 101).

[6]

عنكم الوحيَ وإنزالَ القرآن عفوًا عنكم، وغفرًا لإجرامكم {أَنْ كُنْتُمْ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (إِنْ كُنْتُمْ) بكسر الهمزة؛ أي: إذ كنتم، والباقون: بفتحها (¬1)؛ أي: لأن كنتم. {قَوْمًا مُسْرِفِينَ} في كفركم، فلا تؤمرون ولا تنهون. ... {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)}. [6] {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} تسليةٌ لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. ... {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)}. [7] وذكرُ أسوةٍ له، ووعيد لهم وتهديد: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} كاستهزاء قومك بك. ... {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}. [8] {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ} أي: من قريش {بَطْشًا} نصب على التمييز. {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي: سلفَ في القرآن في غير موضع ذكرُ قصتهم التي يُسار بها لشهرتها مسيرَ الأمثال، وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 584)، و"تفسير البغوي" (4/ 92)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 368)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 101).

[9]

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)}. [9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يعني: قومَك. {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} وهم مع ذلك يعبدون أصنامًا، ويدعونها آلهتهم، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا: خلقهن الله، فلما ذكر تعالى المعنى، جاءت العبارة عن الله تعالى بالعزيز العليم؛ ليكون ذلك توطئة لما عدَّدَهُ بعدُ من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها، وقطعها من الكلام الذي حكي معناه عن قريش. ... {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)}. [10] وهو قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} فتستقرون فيها. قرأ الكوفيون: (مَهْدًا) بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف، والباقون: بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها (¬1) {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} طرقًا تسلكونها {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى مقاصدكم من بلد إلى بلد. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 151)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 384)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 102).

[11]

{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)}. [11] {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} بمقدار الحاجة، ولم يكن طوفانًا كالمرسَل على قوم نوح حتى أهلكهم. {فَأَنْشَرْنَا} فأحيينا {بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} مال عنه النماء، وذُكِّر؛ لأن البلدة بمعنى البلد. قرأ أبو جعفر: (مَيِّتًا) بتشديد الياء، والباقون: بتخفيفها (¬1). {كَذَلِكَ} أي: مثلَ إحياء هذه البلدة الميتة بالمطر {تُخْرَجُونَ} من قبوركم أحياءً. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان عن ابن عامر: (تَخْرُجُونَ) بفتح التاء وضم الراء، والباقون: بضم التاء وفتح الراء (¬2). ... {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)}. [12] {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ} الأصناف. {كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} في البحر والبر. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 102). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 584)، و"التيسير" للداني (ص: 109)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 384)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 102 - 103).

[13]

{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)}. [13] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ذُكِّر الضمير ردًّا إلى لفظ (ما)؛ أي: لتثبتوا على ظهور ما تركبونه. {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} عليكم {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} على مركوبكم. {وَتَقُولُوا}: ما نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وضع رجلَه في الركاب، وهو: "باسم الله"، فلما استوى على الدابة قال: "الحمد لله {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} (¬1)؛ أي: ذلله. قرأ أبو عمرو: (سَخَّر لّنَا) بإدغام الراء في اللام (¬2) {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} مُطيقين، ثم حمد الله ثلاثًا، وكبر ثلاثًا، ثم قال: "لا إله إلا الله، ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت" (¬3)، ويقال إذا ركب السفينة: {فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]. ... {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}. [14] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} لمنصرفون في المعاد. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في "سننه" (2602)، كتاب: الجهاد، باب: ما يقول الرجل إذا ركب، والترمذي (3446)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا ركب الناقة وقال: حسن صحيح، وأحمد في "المسند" (1/ 97) من حديث عليَّ -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 347)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 103). (¬3) انظر: تخريج الحديث السابق.

[15]

{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)}. [15] {وَجَعَلُوا لَهُ} أي: حكموا أن لله تعالى {مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أي: نصيبًا، وهو قولهم: الملائكة بنات الله؛ لأن الولد جزء الوالد. قرأ أبو جعفر: (جُزًّا) بتشديد الزاي بغير همز، وقرأ أبو بكر: بضم الزاي والهمز، والباقون: بالجزم والهمز (¬1). {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} ظاهر الكفران. ... {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)}. [16] ثم جيء (بأَم) المنقطعة تجهيلًا لهم، فقيل: {أَمِ اتَّخَذَ} تعالى لنفسه. {مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ} أَخْلَصَكم. {بِالْبَنِينَ} هذا مستحيل في صفاته. ... {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)}. [17] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} بالجنس الذي جعل له مثلًا؛ إذ الولد لا بد أن يماثل الوالد. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 385)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 103).

[18]

{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أي: صار وجهه أسود. {وَهُوَ كَظِيمٌ} والكظيم: الممتلئ غيظًا، الذي قد ردَّ غيظَه إلى جوفه، فهو يتجرَّعُه ويروم رده، وهذا محسوس عند الغيظ. ... {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)}. [18] ثم زاد توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (يُنَشَّأُ) بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين؛ أي: يُرَبَّى، وقرأ الباقون: بفتح الياء وإسكان النون وتخفيف الشين (¬1)؛ أي: يَنْبُتُ {فِي الْحِلْيَةِ} في الزينة؛ يعني: النساء {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} بالحجة؛ من ضعفهن، والمعنى: أو يُجعل للرحمن من الولد (¬2) مَنْ هذه صفتُه؟ ... {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)}. [19] {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (عِنْدَ) بالنون ساكنة وفتح الدال من غير ألف على أنه ظرف، وتصديقه قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وقرأ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 584)، و"التيسير" للداني (ص: 196)، و"تفسير البغوي" (4/ 94)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 104). (¬2) "من الولد" زيادة من "ت".

[20]

الباقون: بالباء وألف بعدها ورفع الدال (¬1)، جمع عبد؛ لقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} قرأ نافع، وأبو جعفر: (أَأُشْهِدُوا) بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة مسهلة على أصلهما، مع إسكان الشين، وفصل بينهما بألف: أبو جعفر، وقالون على أصلهما؛ أي: أَأُحْضِروا، وقرأ الباقون: بهمزة واحدة مفتوحة وفتح الشين (¬2)؛ أي: أحضروا خلقَ الملائكة إناثًا؟ وهذا استهزاء بهم، وتوبيخ لهم. روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وما يُدريكم أن الملائكةَ إناثٌ؟ " قالوا: سمعنا من آبائنا، ونشهد بصدقهم، فنزل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} (¬3) على آبائهم بأنوثة الملائكة هنا. {وَيُسْأَلُونَ} عنها في الآخرة، فيجازون عليها. ... {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}. [20] {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} يعنون: الملائكة وغيرهم؛ أي: لو لم يرض، لعجَّلَ عقوبتنا. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 196)، و"تفسير البغوي" (4/ 94 - 95)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 368 - 369)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 105 - 106). (¬2) المصادر السابقة. (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 95)، و"تفسير القرطبي" (16/ 73).

[21]

قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ} المقول {مِنْ عِلْمٍ} لأنهم لو قالوا: لو شاء الرحمن، معتقدين ذلك، لوصفوا بالعلم، ولمدحوا على ذلك، وأيضًا فحال الكافر يقتضي الاستهزاء بالمؤمن في كل وقته، ويدل على استهزائهم أيضًا أن قيل: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يكذبون. ... {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)}. [21] ثم زادهم توبيخًا فقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله {فَهُمْ بِهِ} بالكتاب (¬1) {مُسْتَمْسِكُونَ}. ... {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)}. [22] فلم يجيبوا انقطاعًا، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} طريقة وملة. {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين، فلا حجة لهم على ذلك غير تقليد آبائهم الجهلة. ... {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)}. [23] {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أغنياؤها ورؤساؤها: ¬

_ (¬1) "بالكتاب" زيادة من "ت".

[24]

{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} متبعون. ... {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)}. [24] {قَالَ} قرأ ابن عامر، وحفص: (قَالَ) على الخبر، وقرأ الباقون: (قُلْ) على الأمر (¬1) {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} ألف الاستفهام دخلت على واو العطف. قرأ أبو جعفر: (جِئْنَاكُمْ) بنون وألف على الجمع، ويبدل الهمزة ياء ساكنة، ويصل الميم بواو في اللفظ حالة الوصل على أصله، وقرأ الباقون: بالتاء مضمومة على التوحيد، وأبو عمرو يبدل الهمزة كأبي جعفر، وابن كثير وقالون يصلان الميم بخلاف عن الثاني (¬2). {بِأَهْدَى} بدينٍ أصوبَ. {مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} أتتبعون آباءكم، فأبوا أن يقبلوا. {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أيها الرسل. {كَافِرُونَ} أي: ثابتون على الكفر. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 585)، و"التيسير" للداني (ص: 196)، و"تفسير البغوي" (4/ 95)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 108). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 95)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 369)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 385)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 108).

[25]

{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}. [25] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بإهلاكهم. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وعيد لقريش، وضربُ مثل لمن سلف من الأمم المعذَّبة المكذِّبة بأنبيائها كما كذبت هي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ... {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)}. [26] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} أي: واذكر وقتَ قوله {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ}: {إِنَّنِي بَرَاءٌ} أي: متبرئ ولا يُثَنَّى (البراءُ) ولا يجمع ولا يؤنث؛ لأنه مصدر وُضع موضعَ النعت {مِمَّا تَعْبُدُونَ} من آلهتكم. ... {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)}. [27] {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} استثناء منقطع؛ أي: لكن الذي فطرني لا أبرأ منه. {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} يرشدني، قال هنا: (سَيَهْدِينِ)، وقال في الشعراء [الآية: 78]: (يَهْدِينِ)؛ للإيذان بدوام الهداية حالًا واستقبالًا. قرأ يعقوب: (سَيَهْدِينِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 109).

[28]

{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}. [28] {وَجَعَلَهَا} إبراهيم {كَلِمَةً} يعني: كلمة التوحيد. {بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله. {لَعَلَّهُمْ} أي: كفار مكة {يَرْجِعُونَ} إلى الإيمان إذا علموا أن أباهم إبراهيم أوصى بذلك، وهي قوله -عز وجل-: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. ... {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)}. [29] {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ} المشركين بدنياهم {وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} القرآنُ {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} يبين الأحكام ويوضحها، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. ... {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)}. [30] {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} القرآنُ؛ لينبههم عن غفلتهم، جاؤوا بما هو أقبح من غفلتهم؛ حيث {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} ضموا إلى شركهم: معاندةَ الحق، واستخفافَ القرآن، واستحقارَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}. [31] {وَقَالُوا لَوْلَا} هَلَّا {نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} مكةَ

[32]

والطائفِ {عَظِيمٍ} في رئاسته بالمال والجاه، يعنون: الوليد بن المغيرة المخزومي بمكة، وعروةَ بنَ مسعود الثقفي بالطائف، وقيل غيرهما. ... {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}. [32] ثم قال تعالى: على جهة التوبيخ لهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} أي: نبوَّتَه، فيجعلون من شاؤوا أنبياء مع عجزهم؟ و (رَحْمَت) رسمت بالتاء في سبعة مواضع، ووقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (¬1). ثم قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} ما يعيشون به {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لأنا قادرون على ذلك. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} بالفقر والغنى، والحرية والرق {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} بضم السين باتفاق القراء؛ من التسخير؛ أي: ليسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب معاش، فيلتئم قوام أمر العالم. {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ} الجنة {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من الأموال. ¬

_ (¬1) وقد سلفت عند تفسير الآية (218) من سورة البقرة.

[33]

{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)}. [33] ثم أومأ تعالى إلى أن لا قدر للدنيا عنده بقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: لولا أن يصيروا كلهم كفارًا، فيجتمعون على الكفر. {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} وتبدل من (لِمَنْ) {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (سَقْفًا) بفتح السين وإسكان القاف مفردًا، وقرأ الباقون: بضم السين والقاف جمعًا (¬1). {وَمَعَارِجَ} مصاعِدَ، جمع مَعْرَج {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} يعلون إلى السطح. ... {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)}. [34] {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا} من فضة {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} قرأ أبو جعفر: (يَتَّكُونَ) بضم الكاف وإسكان الواو من غير همز، والباقون: بكسر الكاف والهمز (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 196)، و"تفسير البغوي" (4/ 79)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 111). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 112).

[35]

{وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}. [35] {وَزُخْرُفًا} ذهبًا؛ أي: لولا الخوف على المؤمن، لأعطينا الكافر هنا عطاءً جزيلًا؛ إذ لاحظ له في الآخرة في النعيم. {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ} المذكور {لَمَّا} قرأ عاصم، وحمزة، وابن جماز عن أبي جعفر، وهشام بخلاف عنه: (لَمَّا) بتشديد الميم، فتكون (إِنْ) نافية بمعنى (ما)، و (لَمَّا) بمعنى (إلَّا)، تقديره: وما كلُّ ذلك إلَّا، وقرأ الباقون: بتخفيف الميم (¬1)، فتكون (إِنْ) مخففة من الثقيلة، و (لَمَا) بمعنى الذي، والعائد عليها من صلتها محذوف، والتقدير: وإنْ كلُّ ذلك لَلَّذِي هو. {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تلخيصه: حطام الدنيا يزول، وقد يشترك فيه المؤمن والكافر في الدنيا. {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ} أي: الجنة خاصة {لِلْمُتَّقِينَ} الكفرَ. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانتِ الدنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضة، لما سقى منها كافرًا شربةَ ماء" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 586)، و"التيسير" للداني (ص: 196)، و"تفسير البغوي" (4/ 98)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 291)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 112 - 113). (¬2) رواه الترمذي (2320)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل وقال: صحيح غريب، وابن ماجه (4110)، كتاب: الزهد، باب: مثل الدنيا. من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-.

[36]

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}. [36] {وَمَنْ يَعْشُ} يُعرض {عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} فلم يخفْ عقابه، والمراد بذكر الرحمن: القرآن (¬1). [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بلا إلهَ إلا اللَّهُ، والاستغفار، وأكثروا منهما؟ فإن إبليس قال: أهلكتُ الناسَ بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار، ولا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك، أهلكتهم بالأهواء، وهم يحسبون أنهم مهتدون"] (¬2) (¬3). {نُقَيِّضْ} نسبب {لَهُ شَيْطَانًا} نسلطه عليه. قرأ يعقوب: (يُقَيِّضْ) بالياء؛ أي: الرحمن، وقرأ الباقون: بالنون، واختلف عن أبي بكر راوي عاصم (¬4). {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لا يفارقه يغويه دائمًا. ¬

_ (¬1) "القرآن" زيادة من "ت". (¬2) ما بين معكوفتين ساقطة من "ت". (¬3) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 9)، وأبو يعلى في "مسنده" (136)، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 207): فيه عثمان بن مطر. وهو ضعيف. (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 99)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 369)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 386)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 114).

[37]

{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}. [37] {وَإِنَّهُمْ} يعني: الشياطين {لَيَصُدُّونَهُمْ} يمنعون العاشِين. {عَنِ السَّبِيلِ} عن طريق الهدى {وَيَحْسَبُونَ} كفارُ الإنس {أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. ... {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)}. [38] {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (جَاءَانَا) بألف بعد الهمزة على التثنية؛ أي: العاشي والشيطان، وقرأ الباقون: بغير ألف على التوحيد (¬1)؛ أي: إذا جاء العاشي القيامةَ، ورأى أهوالَها {قَالَ} لشيطانه تندمًا: {يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ} أي: بُعْدَ ما بينَ المشرق والمغرب، فغلِّب المشرقُ كتغليب القمر في القمرين للشمس والقمر. {الْقَرِينُ} الشيطانُ. ... {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)}. [39] فعند دخول العاشين النار يقال لهم: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ} في الآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 586)، و"تفسير البغوي" (4/ 99)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 369)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 114 - 115).

[40]

{إِذْ ظَلَمْتُمْ} أشركتم في الدنيا {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أي: لا ينفعكم الاشتراك في العذاب، ولا يخفف الاشتراك عنكم شيئًا منه؛ لأن لكل واحد منهم (¬1) من الكفار والشياطين الحظَّ الأوفرَ من العذاب. ... {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)}. [40] ولما كان - صلى الله عليه وسلم - يبالغ في طلب إيمان الكفار، نزل إيماءً إلى أن لا نافعَ إلا هو تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} والمراد: من حقت عليه كلمة العذاب. ... {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)}. [41] {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} يا محمد؛ بأن نُميتك قبلَ تعذيب الكفار، هنا قرأ رويس عن يعقوب: (نَذْهَبَنْ) (أو نُرِيَنْكَ) بإسكان النون مخففة فيهما، والباقون: بفتحها مشددة فيهما (¬2). {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} بعدك بالقتل وفي الآخرة بالعذاب. ¬

_ (¬1) "منهم" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 246)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 115 - 116).

[42]

{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)}. [42] {أَوْ نُرِيَنَّكَ} في حياتك {الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} به من العذاب إن لم يؤمنوا. {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ} وعلى إهلاكهم {مُقْتَدِرُونَ} قادرون. ... {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)}. [43] {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} وهو القرآن، واعمل به، أمرٌ له - صلى الله عليه وسلم - والمرادُ غيرُه. {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لا عِوَجَ له. ... {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)}. [44] {وَإِنَّهُ} أي: القرآن {لَذِكْرٌ} لشرفٌ {لَكَ وَلِقَوْمِكَ} قريش. {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عن القيام بحق القرآن. ... {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}. [45] {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} أي: الأنبياء الذين لقيتَهم ليلةَ الإسراء، وهم سبعون جُمعوا له ببيت المقدس: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ومعنى السؤال: التقريرُ لمشركي

[46]

مكة أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل، فلم يشكك - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسألهم، وكان أثبت يقينًا من ذلك، وتقدم ذكر ذلك في سورة الإسراء في قصة المعراج. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (وَسَلْ) بالنقل، والباقون: بالهمز، وقرأ أبو عمرو: (رُسْلِنا) بإسكان السين، والباقون: بضمها (¬1). ... {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)}. [46] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذه آية ضرب مثل وأسوة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بموسى عليه السلام، ولكفار قريش بقوم فرعون وملئه، والآيات التي أرسل بها موسى هي التسع وغيرها. ... {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)}. [47] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} استهزاءً. ... {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)}. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 386)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 116).

[48]

[48] {وَمَا نُرِيهِمْ} أي: القبطَ {مِنْ آيَةٍ} كالطوفان والجراد والضفادع. {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} التي قبلها؛ ليكون العذاب أعظم. قرأ يعقوب: (نُرِيهِمُ) بضم الهاء، وقرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وقالون بخلاف عنه: (نُرِيهمُو) بصلة الميم بواو في اللفظ (¬1) حالة الوصل، والباقون: بكسر الهاء وإسكان الميم (¬2). {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} بالسنين، والطوفان، وغيرِهما. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم. ... {وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)}. [49] وعند مجيء موسى -عليه السلام- بالآيات، ذلوا {وَقَالُوا} تعظيمًا له: {يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ} أي: العالم الكامل. قرأ ابن عامر: (يَا أَيُّهُ) بضم الهاء في الوصل، والباقون: بفتحها، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: يقفون (يَا أَيُّهَا) بالألف، والباقون: بغير ألف (¬3) {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ} أي: ¬

_ (¬1) "في اللفظ" زيادة من "ت". (¬2) انظرها عند تفسير الآية (6) من سورة البقرة. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 586)، و"التيسير" للداني (ص: 161 - 162)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 142)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 117 - 118).

[50]

بعهده {عِنْدَكَ} أنك مجاب الدعوة. {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} مؤمنون، وعدٌ منهم معلن بشرط الدعاء. ... {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}. [50] {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} بدعاء موسى. {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} ينقُضون عهدَهم، ويُصِرُّون على كفرهم. ... {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)}. [51] {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} افتخارًا. {قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} وهو من نحو الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ} وهي الخلجان الكبار الخارجة من النيل، وأعظمها نهر الإسكندرية، وتنبس، ودمياط، ونهر طولون {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أي: من تحت قصوري وسريري، وبين يدي (¬1)، وفي بساتيني. قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي - رحمه الله - يومًا في قول فرعون: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}: ويحه! افتخر بنهر ما أجراه ما أجراه. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب، وقنبل عن ابن كثير: (تَحْتِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2). ¬

_ (¬1) "وبين يدي" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 590)، و"التيسير" للداني (ص: 197)، =

[52]

{أَفَلَا تُبْصِرُونَ} عظمتي؟ ... {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)}. [52] {أَمْ} أي: بل {أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ضعيف حقير. {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} معنى كلامه إشارة إلى العقدة في لسانه التي حدثت بسبب الجمرة. ... {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)}. [53] {فَلَوْلَا} فهلَّا {أُلْقِيَ عَلَيْهِ} إن كان صادقًا {أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} جمع سِوار؛ لأنهم إذا سَوَّدوا رجلًا، ألبسوه أسورة ذهب، وطوقوه طوق ذهب، فقال فرعون: هلَّا ألقى رب موسى عليه من السماء أسورة من ذهب إن كان سيدًا تجب طاعته. قرأ يعقوب، وحفص عن عاصم: (أَسْوِرَةٌ) بإسكان السين من غير ألف بعدها جمع سوار، وقرأ الباقون: بفتح السين وألف بعدها (¬1)، جمع أسورة، وهي جمع الجمع. {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} متتابعين يشهدون بصدقه. ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 118). (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 197)، و "تفسير البغوي" (4/ 102)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 369)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 119 - 120).

[54]

{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)}. [54] {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} استعجلهم وطلب خِفَّتهم، وطلب (¬1) إجابتهم إلى غرضه {فَأَطَاعُوهُ} فيما يريده. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق. ... {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)}. [55] {فَلَمَّا آسَفُونَا} أغضبونا (¬2). {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} في اليم. ... {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)}. [56] {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} قرأ حمزة، والكسائي: بضم السين واللام، جمع سَليف؛ من سلَفَ؛ أي: تقدم، وقرأ الباقون: بفتحهما (¬3)، جمع سالف؛ أي: جعلناهم متقدمين؛ ليتعظ بهم الآخرون {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} بعدَهم، يتمثلون بحالهم، فلا يُقْدِمون على مثل فعالهم. ¬

_ (¬1) "وطلب" ساقطة من "ت". (¬2) "أغضبونا" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 587)، و"التيسير" للداني (ص: 197)، و"تفسير البغوي" (4/ 103)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 120).

[57]

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}. [57] {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} في خلقه من غير أب، فشبه بآدم في خلقه من غير أب ولا أم، وهو قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59]. {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وعاصم، وحمزة: بكسر الصاد؛ أي: يَضِجُّون، يقولون: ما يريد محمدٌ منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهًا؛ كما عبدت النصارى عيسى، وقرأ الباقون: بضم الصاد (¬1)؛ أي: يعرضون. ... {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}. [58] {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون محمدًا، فنعبده ونترك آلهتنا. قرأ الكوفيون، وروح عن يعقوب: (آَالِهَتُنَا) بتحقيق الهمزتين، وقرأ الباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية (¬2)، ولم يدخل هنا أحد بينهما ألفًا؛ لئلا يصير اللفظ في تقدير أربع ألفات: الأولى همزة الاستفهام، والثانية الألف الفاصلة، والثالثة همزة القطع، والرابعة المبدلة من الهمزة الساكنة، وذلك إفراط في التطويل، وخروج عن كلام العرب. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 197)، و"تفسير البغوي" (4/ 103)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 369)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 121). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 587)، و"التيسير" للداني (ص: 179)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 364 - 365)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 121 - 122).

[59]

{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ} أي: هذا المثلَ، وهو {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}. {إِلَّا جَدَلًا} خصومة بالباطل. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} لُدٌّ شديدو الخصومة، والجدل: فتل الخصم عن قصده؛ لطلب صحة قوله، وإبطال غيره، وهو مأمور به على وجه الإنصاف وإظهار الحق بالاتفاق. ... {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}. [59] {إِنْ هُوَ} أي: عيسى {إِلَّا عَبْدٌ} مربوبٌ، فلا يجوز أن يكون إلهًا، لكن {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بالنبوة {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا} آية {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يستدلون بها على قدرة الله على خلقه من غير أب. ... {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)}. [60] {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ} أي: أهلكناكم، وجعلنا بدلًا منكم. {مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} يكونون خَلَفًا منكم. ... {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}. [61] {وَإِنَّهُ} أي: نزول عيسى {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي: شرط من أشراط الساعة.

[62]

{فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} لا تشكُّنَّ فيها {وَاتَّبِعُونِ} على التوحيد. {هَذَا} الذي آمرُكم به {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} لا يضل سالكه. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر: (وَاتّبَعُونبي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (¬1). ... {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}. [62] {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ} يصرفَنَّكم {الشَّيْطَانُ} عن دين الله. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} بَيِّنُ العداوة. ... {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)}. [63] {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى} بني إسرائيل {بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات والشرائع {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} بشرائع الإنجيل {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من أحكام التوراة؛ لأنهم اختلفوا في أمر الدين وغيره، فبين لهم أمر الدين دون أمر الدنيا. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} قرأ يعقوب: (وَأَطِيعُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 197)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 123). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 360)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 124).

[64]

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)}. [64] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} بيان لما أمرهم به، وهو التوحيد. {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} حكاية عن عيسى؛ إذ أشار إلى شرعه. ... {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}. [65] {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} الذين تحزبوا من بني إسرائيل، فمنهم من آمن به، وهو قليل، وكفر الغير، وهذا إذ كان معهم حاضرًا {مِنْ بَيْنِهِمْ} من تلقائهم، ومن أنفسهم ثار شرهم، ولم يدخل عليهم اختلاف من غيرهم. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون. {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يوم القيامة. ... {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)}. [66] {هَلْ يَنْظُرُونَ} أي: ينتظرون؛ يعني: قريشًا {إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} فجأة دون مقدمة ولا إنذار بها {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} لاشتغالهم بالدنيا. ... {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}. [67] {الْأَخِلَّاءُ} على المعصية في الدنيا {يَوْمَئِذٍ} يومَ القيامة.

[68]

{بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} المتحابين في الله على طاعته؛ فإن خلتهم نافعة أبدًا. ... {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)}. [68] {يَاعِبَادِ} أي: يقال للمتقين: يا عبادي. قرأ أبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (يَا عِبَادِيَ) بفتح الياء، ووقفا عليها ساكنة، وأسكنها نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وابن عامر في الوصل والوقف، وحذفها الباقون في الحالين، وهذه الياء مثبتة في مصاحف المدينة والشام، محذوفة في مصحف أهل مكة والعراق (¬1). {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}. ... {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)}. [69] روي أن الناس يبعثون، وكلٌّ فزع، فينادي مناد: {يَاعِبَادِ} الآية، فيرجوها الناس كلهم، فإذا قيل: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فييئسون منها غير المسلمين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 588)، و"التيسير" للداني (ص: 197)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 124). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (21/ 639)، وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 106).

[70]

{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)}. [70] {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} تُسَرُّون. ... {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)}. [71] فإذا دخلوا الجنة، واستقروا فيها {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} بقِصاع {مِنْ ذَهَبٍ} جمع صحيفة، وهي القصعة الواسعة {وَأَكْوَابٍ} جمع كوب، وهي أباريق لا عرا لها ولا خراطيم؛ ليشرب الشارب من حيث شاء. {وَفِيهَا} أي: في الجنة {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} تلذذًا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: (تشتَهِيهِ) بزيادة هاء ضمير مذكر بعد الياء على الأصل، وكذلك هو في المصاحف المدنية والشامية، وقرأ الباقون: بحذفها استخفافًا، وكذلك هو في مصاحف العراق (¬1) {وَتَلَذُّ} أي: تلتذُّ به {الْأَعْيُنُ} إذا شوهد. {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون. ... {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}. [72] {وَتِلْكَ} مبتدأ، وخبره {الْجَنَّةُ} صفتها. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 588)، و"تفسير البغوي" (4/ 107)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 125).

[73]

{الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} المعنى: أن الجنة قد دخلت في ملككم كدخول الميراث في ملك وارثه؛ بفضل الله وهداه، وليس المعنى: أن أعمالهم أوجبت على الله دخولهم الجنة، وإنما حظوظُهم منها على قدر أعمالهم. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشام عن ابن عامر: (أُورثتُّمُوها) بإدغام الثاء في التاء، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1). {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}. [73] {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} في الحديث: "لا ينزعُ رجلٌ من الجنة من ثمرها إلَّا نبت مكانها مِثْلاها" (¬2). {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)}. [74] {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} وهم الكفار {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} خبر (إن). {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)}. [75] {لَا يُفَتَّرُ} لا يُخَفَّف {عَنْهُمْ} العذابُ. {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 387)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 125). (¬2) رواه البزار في "مسنده" (10/ 414 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1449)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. قال الهيثمي: وأحد إسنادي البزار ثقات.

[76]

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)}. [76] {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بأن وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه. {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} بأن وضعوا العبادة فيمن لا يستوجبها، ووضعوا الكفر في جنب الله. ... {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)}. [77] {وَنَادَوْا} عند طول مكثهم وشدة العذاب: {يَامَالِكُ} يدعون خازن النار {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي: ليمتنا فنستريح، قال مجيبًا لهم بعد ألف سنة: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} مقيمون في العذاب. ... {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)}. [78] ثم يقال لهم توبيخًا: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ} أي أرسلنا إليكم رسولَنا. {بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} لما في اتباعه من إتعاب النفس، وقد ورد لفظ القضاء في القرآن على عشرة أوجه: الأول: بمعنى الفراغ من الشيء، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [الآية: 200]، الثاني: بمعنى وجوب العذاب، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة أيضًا: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الآية: 210]، الثالث: بمعنى تقدير المدة، ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} [الآية: 2]، الرابع: بمعنى التمام، ومنه قوله في سورة الأنعام أيضًا: {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الآية: 60]،

[79]

الخامس: بمعنى الفصل، ومنه قوله في سورة يونس: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [الآية: 54]، السادس: بمعنى الختم، ومنه قوله في سورة يوسف: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [الآية: 41]، السابع: بمعنى الخبر، ومنه قوله في سورة الإسراء: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الآية: 4]، الثامن: بمعنى الأمر، ومنه قوله في سورة الإسراء أيضًا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الآية: 23]، التاسع: بمعنى الفعل، وهو قوله في طه: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [الآية: 72]، العاشر: بمعنى الموت، ومنه قوله هنا: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}، وقد ذُكر كل شيء من ذلك في محله. ... {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)}. [79] {أَمْ أَبْرَمُوا} أحكموا: أهل مكة {أَمْرًا} في كيد محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ كما فعلوا في اجتماعهم على قتله في دار الندوة، إلى غير ذلك. {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كيدَنا بإهلاكهم. ... {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}. [80] {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} ما يخطر ببالهم {وَنَجْوَاهُمْ} ما يتناجون بينهم جهرًا {بَلَى} نسمعُها {وَرُسُلُنَا} الحفظةُ {لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ما يُسرون وما يُعلنون.

[81]

{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)}. [81] {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} في زعمكم. قرأ حمزة، والكسائي: (وُلْدٌ) بضم الواو وإسكان اللام، والباقون: بفتحهما (¬1) {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} لله؛ فإنه واحد لا شريك له، ولا ولد، نزلت لما قيل: الملائكة بنات الله؛ تبكيتًا لهم. قرأ نافع، وأبو جعفر: (فَأَنَا أَوَّلُ) بالمد (¬2). ... {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)}. [82] ثم نزه تعالى نفسه، فقال: {سُبْحَانَ} الله (¬3). {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} يقولون؛ من الكذب، وخص السموات والأرض والعرش؛ لأنها أعظم المخلوقات. ... {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}. [83] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} في باطلهم {وَيَلْعَبُوا} في دنياهم. {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} فيه العذاب، وهو يوم القيامة. قرأ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 149 - 150)، و"الكشف" لمكي (2/ 92)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 127). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 230 - 231)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 387)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 127 - 128). (¬3) لفظ الجلالة "الله" سقط من "ت".

[84]

أبو جعفر: (يَلْقَوْا) بفتح الياء وإسكان اللام وفتح القاف من غير ألف قبلها، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح اللام وألف بعدها وضم القاف (¬1). ... {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)}. [84] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أي: هو النافذ أمره في كل شيء، وهو المستحق لأن يُعبد في السماء والأرض. {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في تدبير خلقه. {الْعَلِيمُ} بصلاحهم. واختلاف القراء في الهمزتين من قوله: (فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ) كاختلافهم فيهما من قوله (عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: 33]. ... {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)}. [85] {وَتَبَارَكَ} تعظَّمَ وتقدَّس. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من جميع الموجودات. {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي: علمُ تحديدِ قيامها، والوقوف على تعيينه وحصره. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 128).

[86]

ورويس عن يعقوب: (يُرْجَعُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب، ومنهم روح عن يعقوب، ويعقوب على أصله في فتح حرف المضارعة وكسر الجيم (¬1). ... {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)}. [86] {وَلَا يَمْلِكُ} آلهتُهم {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} من دون الله {الشَّفَاعَةَ} كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله {إِلَّا مَنْ شَهِدَ} استثناء منقطع؛ أي: لكن من شهد. {بِالْحَقِّ} وهم عيسى وعزير والملائكة، فإنهم عُبدوا من دون الله، ويملكون شفاعة بأن يملِّكها الله إياهم؛ إذ هم ممن شهد بالحق، وهو قول لا إله إلا الله كلمة التوحيد. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. ... {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)}. [87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يُصْرَفون (¬2) عن عبادته. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 289)، و"التيسير" للداني (ص:197)، و"تفسير البغوي" (4/ 109)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 129). (¬2) "يصرفون" زيادة من "ت".

[88]

{وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)}. [88] {وَقِيلِهِ يَارَبِّ} يعني: قول محمد - صلى الله عليه وسلم - شاكيًا إلى ربه: يا ربِّ {إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} قرأ عاصم، وحمزة: (وَقِيلِهِ) بخفض اللام وكسر الهاء على معنى: وعندَه علمُ الساعة وعلمُ قيلِه: يا رب! وقرأ الباقون: بنصب اللام وضم الهاء (¬1)، ولها وجهان: أحدهما: معناه: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، وقيلَه: يا رب! والوجه الثاني: وقالَ وقيلَه. ... {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}. [89] {فَاصْفَحْ} فاعف {عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} أي: قولًا تسلم به من شرهم، ومعناه: المتاركة، ونسختها آية السيف. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ من الله لهم، وتسليةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (تَعْلَمُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 589)، و"التيسير" للداني (ص: 197)، و"تفسير البغوي" (4/ 109)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 130). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 197)، و"تفسير البغوي" (4/ 1810) و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 387)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 131).

سورة الدخان

سُورَةُ الدُّخَانِ مكية إلا قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا} الآية، وآيها: تسمع وخمسون آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وأحد وثلاثون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وست وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1)}. [1] {حم} تقدم الكلام في معناه ومذاهب القراء فيه أول سورة غافر، وتقدم إعرابه في أول الزخرف. ... {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}. [2] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} تقدم تفسيره، وهو قَسَم أقسم الله به. ... {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)}. [3] وجواب القسم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} أي: الكتابَ، وهو القرآن {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} هي ليلة القدر على المشهور، ويأتي الكلام عليها في سورة القدر،

[4]

نزل فيها القرآن من أم الكتاب من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل -عليه السلام- نجومًا في نيف وعشرين سنة، وقيل: هي ليلة النصف من شعبان، وسميت مباركة؛ لكثرة خيرها وبركتها على العالمين. روي عن النبي -عليه السلام-: أنه قال: "ينزل الله - جل ثناؤه - ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لكل نفس، إلا إنسانًا في قلبه شيء" (¬1)؛ أي: شركًا بالله. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له، ولقد أخرج اسمه في الموتى" (¬2). {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} للكافر بالعذاب. ... {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)}. [4] {فِيهَا} في الليلة المباركة {يُفْرَقُ} يفصل (¬3) {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} محكم من خير وشر، وأجل ورزق، وكل ما هو كائن من السنة إلى السنة. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 222)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 29)، من حديث القاسم بن محمد، عن أبيه أو عمه، عن جده أبي بكر رضي الله عنه، به. وإسناده ضعيف. قال العقيلي: وفي النزول في ليلة النصف من شعبان أحاديث فيها لين، والرواية في النزول في كل ليلة أحاديث ثابتة صحاح، فليلة النصف من شعبان داخلة فيها إن شاء الله. (¬2) رواه البيهقي في "شُعب الإيمان" (3839) عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، مرسلًا. (¬3) "يفصل" زيادة من "ت.".

[5]

{أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)}. [5] {أَمْرًا} أي: أنزلناه أمرًا. {مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادنا. ... {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}. [6] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال ابن عباس: "رأفة مني بخلقي، ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل" (¬1). {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأقوال العباد {الْعَلِيمُ} بأحوالهم. ... {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)}. [7] {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} إن الله رب السموات والأرض. قرأ الكوفيون: (رَبِّ السَّمَوَاتِ) بالخفض ردًّا على قوله: (مِنْ رَبِّكَ)، والباقون: بالرفع ردًّا على قوله: (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وإن شئت على الابتداء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 112). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 198)، و "تفسير البغوي" (4/ 112)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 136).

[8]

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)}. [8] {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لا شريك له {يُحْيِي وَيُمِيتُ} بقدرته. {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} فأيقِنوا أن القرآن تنزيله، وأن محمدًا رسوله. ... {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}. [9] {بَلْ} إضراب قبله نفي مقدر؛ كأنه يقول: ليس هؤلاء ممن يؤمن، بل. {هُمْ فِي شَكٍّ} من الساعة والقرآن {يَلْعَبُونَ} استهزاء بك يا محمد. ... {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)}. [10] {فَارْتَقِبْ} فانتظر {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ظاهر، وذلك لما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش فقال: "اللهم أَعِنِّي عليهم بسبعٍ كسبعِ يوسفَ"، فأخذتهم سَنَةٌ حتى هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فكان الجائع يرى بينه وبين السماء دخانًا من شدة الجوع، فجاء أبو سفيان النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا محمد! تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادعُ لهم؛ فإنهم لك مطيعون، فقرأ: {فَارْتَقِبْ} إلى {عَائِدُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (4496)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الروم، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. قال ابن بطَّال (19/ 172): كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو على المشركين على حسب ذنوبهم وإجرامهم، فكان يبالغ في الدعاء على مَن =

[11]

{يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)}. [11] {يَغْشَى النَّاسَ} يحيط بهم، فإذا غشيهم، قالوا: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ... {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)}. [12] ويقولون: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} مصدقون بنبينا. ... {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)}. [13] وعلم الله تعالى قولهم في حال الشدة: (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) إنما هو عن حقيقة منهم، فدل على ذلك بقوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} كيف يتذكرون الإيمان عند نزول العذاب. {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} يبين لهم أحكام الدين؛ يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = اشتد أذاه للمسلمين، ألا ترى أنه لمَّا يئس من قومه قال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر .. " ودعا على أبي جهل، ودعا على الأحزاب بالهزيمة والزلزلة، فأجاب اللهُ دعاءه فيهم ... فبالغ في الدعاء عليهم لشدة إجرامهم، ونهى عائشة عن الرد على اليهود باللعنة، وأمرها بالرفق في المقارضة لهم، والرد عليهم مثل قولهم، ولم يبح لها الزيادة والتصريح، فيمكن أن يكون كان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - على وجه التألف لهم والطمع في إسلامهم. والله أعلم.

[14]

{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)}. [14] {ثُمَّ تَوَلَّوْا} أعرضوا {عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} أي: عُلِّم ما جاء به، وليس من عند الله، يقول هذا بعضُهم، وبعضهم يقول: إنه {مَجْنُونٌ}. ... {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)}. [15] قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا} أي: زمانًا يسيرًا، وإن كشفناه عنكم. {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلى كفركم، فرفع عنهم القحط بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعادوا إلى الشرك. ... {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}. [16] {يَوْمَ} المعنى: ننتقم منكم إن عدتم إلى كفركم يوم. {نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} وهو يوم بدر. {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} قرأ أبو جعفر: (نَبْطُشُ) بضم الطاء، والباقون: بكسرها (¬1)، والكسائي يميل الشين حيث وقف على هاء التأنيث. ... {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)}. [17] {وَلَقَدْ فَتَنَّا} بَلَونا {قَبْلَهُمْ} قبلَ قريش. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 274)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 133).

[18]

{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} بالإمهال، وكثرة الأموال، فارتكبوا المعاصي. {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} على الله، وهو موسى بن عمران عليه السلام. ... {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)}. [18] فقال لهم: {أَنْ أَدُّوا} سَلِّموا {إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} بني إسرائيل؛ لأذهب بهم إلى الشام {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} على الوحي. ... {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)}. [19] {وَأَنْ لَا تَعْلُوا} تَطْغَوا {عَلَى اللَّهِ} فتعصوه {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} حجة ظاهرة، ودليل واضح على رسالتي. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)}. [20] فلما قال ذلك، توعدوه بالقتل، فقال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} أي: تقتلون. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب بخلاف عن أبي جعفر: (عُذْتُ) ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 593)، و "التيسير" للداني (ص: 198) و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 138).

[21]

بإظهار الذال عند التاء (¬1)، والباقون: بإدغامها (¬2)، وقرأ ورش: (تَرْجُمُونِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (¬3). ... {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)}. [21] {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} فاعتزلوا أذاي باليد واللسان. واختلاف القراء في (فَاعْتَزِلُونِي) كاختلافهم في (تَرْجُمُونِ)، وورش بفتح الياء من (لِيَ)، والباقون يسكنونها. ... {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)}. [22] فلم يؤمنوا {فَدَعَا رَبَّهُ} عليهم {أَنَّ} أي: بأن. {هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} مشركون. ... {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)}. [23] فقال الله تعالى: {فَأَسْرِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: ¬

_ (¬1) "عند التاء" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:388)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 138). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 198)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 138 - 139).

[24]

بوصل الألف، والباقون: بقطع الهمزة مفتوحة (¬1). {بِعِبَادِي} بني إسرائيل {لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه ليقتلكم. ... {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)}. [24] {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} ساكنًا بعد أن انفرق؛ لأن موسى لما قطع البحر، عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم؛ خوفًا أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اترك البحر كحاله حتى يدخله القبط. {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} أخبر موسى بإغراقهم؛ ليطمئن قلبه في ترك البحر كما جاوزه. ... {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)}. [25] ثم ذكر ما تركوه بمصر، فقال: {كَمْ تَرَكُوا} (كَمْ) خبر للتكثير. {مِنْ جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} روي أنها كانت متصلة من رشيد إلى أسوان، وقدر المسافة بينهما أكثر من عشرين يومًا. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر: (وَعِيُونٍ) بكسر العين، والباقون: بضمها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 388)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 139 - 140). (¬2) المصدران السابقان.

[26]

{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)}. [26] {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} مجلس حسن، وسمي كريمًا؛ لأنه مجلس الملوك. ... {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)}. [27] {وَنَعْمَةٍ} -بفتح النون-: الترفُّه، وبالكسر: الإنعام، و-بالضم-: المسرة، والتلاوة بالأول {كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} قرأ أبو جعفر: (فَكِهِينَ) بغير ألف بعد الفاء؛ أي: بَطِرين، وقرأ الباقون: بالألف (¬1)؛ أي: ناعمين. ... {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)}. [28] {كَذَلِكَ} أي: أفعل بمن عصاني {وَأَوْرَثْنَاهَا} أي: أموالَ القبط. {قَوْمًا آخَرِينَ} من بني إسرائيل. ... {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)}. [29] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} ذلك أن المؤمن إذا مات، تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحًا، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده، ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 354 - 355)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 140).

[30]

الأرض عليه، فأهلكوا، ولم يكن لهم قدر. {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} مؤخَّرين عند نزول العذاب (¬1). ... {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)}. [30] {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} قتلِ الأبناء، واستحياءِ النساء، والتعبِ من العمل. ... {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)}. [31] وتبدل من العذاب {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا} متكبرًا (¬2). {مِنَ الْمُسْرِفِينَ} في العتو. ... {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)}. [32] {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} أي: بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} مِنَّا بحالهم. {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: عالَمي زمانهم. ... {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)}. [33] {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ} كفرق البحر، والمن والسلوى، وغيرها. ¬

_ (¬1) "عند نزول العذاب" زيادة من "ت". (¬2) "متكبرًا" زيادة من "ت".

[34]

{مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} اختبار ظاهرَ، والله تعالى يختبر بالنعم كما يختبر بالنقم. ... {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)}. [34] {إِنَّ هَؤُلَاءِ} يعني: مشركي مكة {لَيَقُولُونَ} حين قيل لهم: إنكم تموتون ثم تحيون: ... {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)}. [35] {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} التي في الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} بمبعوثين. ... {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)}. [36] {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} الذين ماتوا {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنا نُبعث أحياء بعد الموت. ... {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)}. [37] ثم خوَّفهم مثلَ عذاب الأمم الخالية، فقال: {أَهُمْ خَيْرٌ} في القوة والمنعة. {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} هو الحِمْيَرِيُّ ملك اليمن، سمي بذلك؛ لكثرة أتباعه، وكل واحد منهم يسمى تُبَّعًا؛ لأنه يتبع صاحبه، وكان هذا يعبد النار، فأسلم

[38]

ودعا قومه إلى الإسلام،، وهم حِمْيَر، فكذبوه، فذم الله قومه ولم يذمه، وكانت عائشة تقول: "لا تسُبُّوا تبعًا؛ فإنه كان رجلًا صالحًا (¬1) " (¬2)، وقال سعيد بن جبير: "هو الذي كسا البيت، وهو الذي بنى سمرقند، وكان اسمه أسعد (¬3) أبو كرب بن مليك" (¬4). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تسُبُّوا تبُّعًا؛ فإنه كان قد أسلم" (¬5). {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم الكافرة {أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} بالكفر. ... {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)}. [38] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: بين الجنسين {لَاعِبِينَ} لاهِين. ¬

_ (¬1) "صالحًا" ساقطة من "ت". (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 40)، وذكره البغوي في "تفسيره" (4/ 118). (¬3) "أسعد" زيادة من "ت". (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 118)، و"تفسير القرطبي" (16/ 146). (¬5) رواه أحمد في "المسند" (5/ 340)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6013)، من حديث سهل بن سعد الساعدي، ورواه الطبراني أيضًا في "المعجم الكبير" (11790) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال ابن حجر في "الفتح" (8/ 571) رواه أحمد من حديث سهل، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس مثله، وإسناده أصلح من إسناد سهل.

[39]

{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)}. [39] {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} بالواجب المقتضي للخيرات. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} لقلة نظرهم. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)}. [40] {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} بين الخلائق، وهو يوم القيامة. {مِيقَاتُهُمْ} وقتُ اجتماع الخلائق. {أَجْمَعِينَ} يوافي الأولون والآخرون. {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)}. [41] وتبدَلُ من {يَوْمَ الْفَصْلِ} {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى} من قرابة، وغيرها من موالي العتق والصدقة {عَنْ} أيِّ {مَوْلًى} كان {شَيْئًا} من العذاب {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} يُمنعون من العذاب. {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)}. [42] {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} من المؤمنين؛ فإنه يُشفع له، ويُشَفَّع، استثناء متصل. {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيز} الذي لا يُنصر منه من أراد تعذيبَه. {الرَّحِيمُ} لمن أراد أن يرحمه.

[43]

{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)}. [43] {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} تقدم ذكرها في سورة الصافات. وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب على (شَجَرَةَ) بالهاء (¬1). ... {طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)}. [44] {طَعَامُ الْأَثِيمِ} أي: كثير الإثم، وهو أبو جهل وأصحابه. روي عن أبي الدرداء: "أنه أقرأ إنسانًا {طَعَامُ الْأَثِيمِ}، فقال: طَعَامُ اليتيمِ، مرارًا، فقال: قُلْ: طعامُ الفاجرِ يا هَذا" (¬2)، وفي هذا دليل لمن يجوِّزُ إبدالَ كلمة بكلمة إذا أَدَّت معناها، وتقدم في الفصل الرابع أول التفسير ذكر الخلاف في جواز القراءة بالفارسية. ... {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)}. [45] {كَالْمُهْلِ} وهو دُرْدِيُّ الزيت {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (يَغْلِي) بالياء على التذكير؛ يعني: المهل، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث (¬3)؛ يعني: الشجرة. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:388)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 141). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 43)، والحاكم في "المستدرك" (3684). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 418). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 198)، و"تفسير البغوي" (4/ 119)، و "النشر في =

[46]

{كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)}. [46] {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} كالماء الحار إذا اشتد غليانه. ... {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)}. [47] فيؤمر بإلقاء الكافر في النار، فيقال للزبانية: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (فَاعْتُلُوهُ) بضم التاء، والباقون: بكسرها، وهما لغتان (¬1)؛ أي: سوقوه بعنف {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} وسطه. ... {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)}. [48] {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}. ... {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}. [49] ثم يقال لأبي جهل: {ذُقْ إِنَّكَ} قرأ الكسائي: (أَنَّكَ) بفتح الهمزة؛ أي: لأنك {أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} على سبيل التهكم، وقرأ الباقون: بكسرها على الابتداء (¬2). ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 142). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 120)، وباقي المصادر في التعليق السابق. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 593)، و "التيسير" للداني (ص: 198)، و"تفسير البغوي" (3/ 120)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 142 - 143).

[50]

{إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)}. [50] وذلك أن أبا جهل كان يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا أعز أهل الوادي، وأكرمُهم، فوالله لن تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا (¬1)، فثَمَّ يقال له: {إِنَّ هَذَا} أي: الأمر الذي أنتم فيه {مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} تشكُّون. ... {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)}. [51] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (مُقَامٍ) بضم الميم على المصدر؛ أي؛ في إقامة، وقرأ الباقون: بالنصب (¬2)؛ أي: مجلس {أَمِينٍ} من الفتن والمحن. ... {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)}. [52] {فِي جَنَّاتٍ} بدل من مقام {وَعُيُونٍ} تقدم اختلاف القراء في كسر العين وضمها من (عُيُونٍ) في الحرف المتقدم [الآية: 25]. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 48) عن قتادة، وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 120)، و"تفسير القرطبي" (16/ 151). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 198)، و "تفسير البغوي" (4/ 120)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 143).

[53]

{يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)}. [53] {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ} وهو ما رَقَّ من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} وهو ما غَلُظ منه {مُتَقَابِلِينَ} لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض؛ لدوران الأسرة بهم. ... {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)}. [54] {كَذَلِكَ} أي: والأمر كذلك {وَزَوَّجْنَاهُمْ} قَرَنَّاهم. {بِحُورٍ عِينٍ} عِظامِ العيون حسانها، نقيات البياض؛ أي: جعلناهم اثنين اثنين، ذكرًا وأنثى، ليس من عقد التزويج. ... {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)}. [55] {يَدْعُونَ فِيهَا} يطلبون في الجنة أن يجاؤوا {بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} اشتهوها {آمِنِينَ} من انقطاعها ومضرتها، ومن كل مخوف. ... {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)}. [56] {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} التي في الدنيا. {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}.

[57]

{فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)}. [57] {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} أي: أُعطوا ذلك تفضلًا منه {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. ... {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)}. [58] {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي: القرآن {بِلِسَانِكَ} بلغتك؛ لتفهمه العرب عنك {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون فيؤمنون. ... {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}. [59] {فَارْتَقِبْ} فانتظر نصرَنا لك {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} فيما يظنون الدوائرَ عليك، وفي هذه الآية وعد له - صلى الله عليه وسلم -، ووعيد لهم، وفيه متاركة لهم، وهذا وما جرى مجراه منسوخ بآية السيف، والله أعلم.

سورة الجاثية

سُوْرَةُ الجَاثِيَة مكية إلا {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} الآية، وآيها: سبع وثلاثون آية، وحروفها: ألفان ومئة وواحد وتسعون حرفًا، وكلمها: أربع مئة وثمان وثمانون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1)}. [1] {حم} مبتدأ. ... {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}. [2] خبره {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} في شدةِ أخذه إذا انتقم، ودفاعِه إذا حمى ونصر {الْحَكِيمِ} المحكِم للأشياء. ... {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)}. [3] {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: في خلقها {لَآيَاتٍ} لدلالاتٍ على قدرته تعالى وتوحيده {لِلْمُؤْمِنِينَ} المصدِّقين.

[4]

{وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)}. [4] {وَفِي} تغيير {خَلْقِكُمْ} من حال إلى حال دلالة أيضًا على ذلك. {وَمَا يَبُثُّ} يفرِّق في الأرض {مِنْ دَابَّةٍ} هي كل حيوان يدب. {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالبعث. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (آيَاتٍ) بكسر التاء ردًّا على قوله: (لآيَاتٍ)، وهي موضع النصب، وقرأ الباقون: بالرفع على الاستئناف (¬1). {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}. [5] {وَاخْتِلَافِ} جر بـ (في) غير الأولى، التقدير: وفي اختلاف. {اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالنور والظلام. {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ} أي: مطر؛ لأنه سبب الرزق. {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} باختلاف جهاتها وأحوالها. {آيَاتٌ} قرأ حمزة، والكسائي: (الرِّيحِ) بغير ألف على التوحيد (آيَاتٍ) بكسر التاء، وقرأ خلف: (الرِّيحِ) على التوحيد، (آيَاتٌ) بالرفع، وقرأ يعقوب: (الرِّيَاحِ) بألف على الجمع، (آيَاتٍ) بالكسر، وقرأ الباقون: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 594)، و"التيسير" للداني (ص:198)، و"تفسير البغوي" (4/ 123)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 147)، وقراءة (آياتٍ) بكسر التاء هي قراءة يعقوب أيضًا.

[6]

(الرِّيَاحِ) على الجمع، (آيَاتٌ) بالرفع (¬1)، تلخيصه: إن في المذكور لدلالاتٍ على الوحدانية {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الدليلَ، فيؤمنون. ... {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)}. [6] {تِلْكَ} الآيات المذكورات. {آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} أي: بعد كتابه {وَآيَاتِهِ} معجزاتِ أنبيائِه {يُؤْمِنُونَ} توبيخ وتقريع، وفيه قوة التهديد. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وروح، وحفص: (يُؤْمِنُونَ) بالغيب موافقة لما قبله، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬2) على معنى: قل لهم يا محمد: فبأي حديث تؤمنون؟ ... {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)}. [7] {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ} كذاب {أَثِيمٍ} وهو النضر بن الحارث. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 198)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 371)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 148). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 594)، و"تفسير البغوي" (4/ 123)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 371 - 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 148 - 149).

[8]

{يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)}. [8] {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ} صفة أثيم {تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرّ} يقيم على كفره. {مُسْتَكْبِرًا} عن الإيمان، وجيء بـ (ثم) هنا؛ لاستبعاد الإصرار على الكفر بعد سماع القرآن. {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أي: كأنه، فخفف، وحذف ضمير الشأن، المعنى: يصر على الكفر مثلَ غير السامع. {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فقتل يوم بدر صبرًا. ... {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)}. [9] {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا} أي: جميعَ الآيات؛ لمبالغته في الكفر {هُزُوًا} سخرية؛ كفعل أبي جهل حيث أطعمهم الزبد والتمر، وقال: تزقَّموا، فهذا ما يتوعدكم به محمد. قرأ حفص: (هُزُوًا) بضم الزاي ونصب الواو بغير همز، وحمزة وخلف: بإسكان الزاي والهمز، والباقون: بضم الزاي والهمز (¬1) {أُولَئِكَ} أي: الأفاكون. {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ذكر بلفظ الجمع إشارة إلى كل أفاك أثيم؛ لشموله الأفاكين. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 389)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 149).

[10]

{مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)}. [10] {مِنْ وَرَائِهِمْ} أي: أمامهم {جَهَنَّمُ} وأصله ما توارى عنك من خلف أو قدام {وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا} من الأموال. {شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام. {أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يتحملونه. ... {هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}. [11] {هَذَا} أي: القرآن {هُدًى} بيانٌ من الضلالة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} والرجز: أشد العذاب. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: (أَلِيمٌ) بالرفع صفة (عَذَابٌ) والباقون: بالجر صفة (رِجْزٍ) (¬1). ... {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}. [12] {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} على ضعفكم. {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} بتسخيره وأنتم راكبوها. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 180)، و"الكشف" لمكي (1/ 201 - 202)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 150).

[13]

{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بالتجارة والصيد وغيرهما. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم. ... {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)}. [13] {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من الشمس والقمر والنجوم، والسحاب والرياح والهواء، والملائكة الموكلة بهذا كله {وَمَا فِي الْأَرْضِ} من البهائم والمياه والأودية والجبال، وغير ذلك {جَمِيعًا مِنْهُ} أي: كلُّ إنعام فهو من فضله تعالى؛ لأنه لا يستحق أحد عليه شيئًا، بل هو يوجبه على نفسه تكرمًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في صنع الله تعالى. ... {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}. [14] {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا} اغفروا {يَغْفِرُوا} يعفوا ويصفحوا. {لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ} يخافون {أَيَّامَ اللَّهِ} وقائعَه في الأمم الماضية، ولا يخشون نقمته. {لِيَجْزِيَ} الله {قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الإحسان والغفر للكافر، نزلت في عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وذلك أن رجلًا من بني غفار

[15]

شتمه بمكة، فهمَّ عمر أن يبطش به، فأنزل الله الآية، وأمره أن يعفو عنه (¬1). قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (لِنَجْزِيَ) بالنون التي للعظمة، وقرأ الباقون، ومنهم أبو جعفر: بضم الياء وفتح الزاي مجهولًا، وجاءت أيضًا عن عاصم (¬2)، وهذا على أن يكون التقدير: ليُجْزى الجزاءُ قومًا، ونظيره (وَنُجِّي الْمُؤْمِنِينَ) على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة الأنبياء؛ أي: نُجِّي النَّجاءُ المؤمنين، وتقدم التنبيه على ذلك في محله. ... {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}. [15] {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} ثوابُه {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} عقابُه. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم. قرأ يعقوب: (تَرْجِعون) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬3). ... {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)}. [16] {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} التوراة. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 83). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 198)، و"تفسير البغوي" (4/ 125)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 372)، و "معجم القراءات القرآنية" (6/ 151). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 152).

[17]

{وَالْحُكْمَ} الحكمة والفقه {وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الحلالات؛ كالمن والسلوى. {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} عالَمي زمانهم. ... {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17). [17] {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} دلالاتٍ على العلم بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -. {فَمَا اخْتَلَفُوا} في محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكفروا {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} به، وبالدين {بَغْيًا} أي: لبغي حدث {بَيْنَهُمْ} حسدًا وعداوة - صلى الله عليه وسلم -. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بالمؤاخذة والمجازاة. ... {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)}. [18] {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ} يا محمد {عَلَى شَرِيعَةٍ} سنة وطريقة مسلوكة. {مِنَ الْأَمْر} أمر الدين. {فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} هم رؤساء قريش كانوا يقولون له: ارجع إلى دين آبائك.

[19]

{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)}. [19] {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا} لن يدفعوا. {عَنْكَ مِنَ اللَّهِ} أي: من عذاب الله (¬1). {شَيْئًا} إن اتبعت أهواءهم. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} فَوالِهِ بالتقوى واتباع الشريعة. ... {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}. [20] {هَذَا} أي: القرآن {بَصَائِرُ} معالِمُ {لِلنَّاسِ} يتبصرون بها دينهم. {وَهُدًى} من الضلال {وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالبعث. ... {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)}. [21] ولما قال نفر من مشركي مكة للمؤمنين: لئن كان ما تقولون من البعث حقًّا، لنُفَضلَنَّ عليكم في الآخرة كما فُضِّلنا في الدنيا، نزل إنكارًا ¬

_ (¬1) "الله": لفظ الجلالة لم يرد في "ت".

[22]

عليهم، وأنْ لا مساواة بينهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا} (¬1) اكتسبوا. {السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ} أن نُصَيِّرهم. {كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مثلَهم. {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (سَوَاءً) بالنصب؛ أي: نجعلهم سواءً؛ يعني: أحسبوا أن حياة الكافرين ومماتهم كحياة المؤمنين سواء؟ كلا، وقرأ الباقون: بالرفع على الابتداء والخبر (¬2)؛ أي: محياهم ومماتهم سواء، فالضمير فيهما يرجع إلى المؤمنين والكافرين جميعًا، وقرأ الكسائي: (مَحْيَاهُمْ) بالإمالة، والباقون: بالفتح (¬3)، المعنى: لا يستويان في موتهما كما استويا في حياتهما، لأن المؤمن والكافر قد استويا في الرزق والصحة والمرض وغيرها في الدنيا، وافترقا في الآخرة بالجنة والنار {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} بئس ما يقضون. ... {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)}. [22] {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} لما فيه من فيض الخيرات، وليدل على قدرته تعالى {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} من خير وشر {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب، ولا بتضعيف عقاب. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 85). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص:198)، و"تفسير البغوي" (4/ 126)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 152 - 153). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 153).

[23]

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)}. [23] ونزل توبيخًا لمن عبد غيرَ الله كالأصنام بهوى نفسه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة، فإذا وجدوا شيئًا أحسن من الأول، رموه أو كسروه وعبدوا الآخر. {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} من الله تعالى بأنه من أهل النار، وقيل: على علم من الضال بطريق الهداية بأن ضل عنادًا. {وَخَتَمَ} طبع {عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} فلم يسمع ولم يعقل الهدى. {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} ظلمة، فهو لا يبصر الهدى. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (غَشْوَةً) بفتح الغين وإسكان الشين من غير ألف، وقرأ الباقون: بكسر الغين وفتح الشين وألف بعدها (¬1). {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ} إضلال {اللَّهِ} إياه. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَذِكَّرُونَ) بتخفيف الذال، والباقون: بتشديدها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 595)، و"التيسير" للداني (ص: 199)، و"تفسير البغوي" (3/ 126 - 127)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 154 - 155). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 154 - 155).

[24]

{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)}. [24] {وَقَالُوا} يعني: منكري البعث: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} التي نحن فيها. {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي: يموت البعض، ويحيا البعض. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي: ممر السنين والأيام، وكانت العرب إذا أصابهم سوء، نسبوه إليه اعتقادًا منهم أنه الفعال له، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ الله (¬1)، بيده الأمرُ" (¬2)؛ أي: الله الفعال لذلك. {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} القولِ {مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ذلك ظنًّا بلا تحقيق. ¬

_ (¬1) في "ت": "فإن الله هو الدهر". (¬2) رواه البخاري (4549)، كتاب: التفسير، باب: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، ومسلم (2246)، كتاب: الألفاظ من الآدب وغيرها، باب: النهي عن سب الدهر، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (10/ 565): معنى النهي عن سب الدهر: أنَّ من اعتقد أنه الفاعل للمكروه فسبَّه أخطأ، فإن الله هو الفاعل، فإذا سببتم من أنزل ذلك بكم رجع السبُّ إلى الله ... ومحصَّل ما قيل في تأويله ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن المراد أن الله هو الدهر: أي المدبر للأمور، ثانيها: أنه على حذف مضاف، أي صاحب الدهر، ثالثها: التقدير: مقلِّب الدهر. اهـ.

[25]

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)}. [25] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} واضحاتِ الدلالة. {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ} ما كان لهم متشبَّثٌ يعارضونها به. {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَنَّا نُبعث. قراءة الجمهور: (حُجَّتَهُمْ) بالنصب خبر (كانَ)، واسمها (إِلَّا أَنْ قَالُوا)، وانفرد ابن العلاف عن رويس راوي يعقوب بالرفع، ووردت عن أبي بكر وابن عامر، فتكون (حُجَّتُهُمْ) في هذه القراءة اسمَ (كان)، والخبر (إِلَّا أَنْ قَالُوا) (¬1). ... {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)}. [26] {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} لقلة تفكرهم، وقصور نظرهم. ... {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)}. [27] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} تبدل منه ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 372)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 156).

[28]

{يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} أي: يظهر خسرانُهم ثَمَّ. ... {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}. [28] {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} بارِكَةً على الرُّكَب، وهي جلسة المخاصِم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء. {كُلُّ أُمَّةٍ} قرأ يعقوب: (كُلَّ) بنصب اللام على أنه بدل الأول، و (تُدْعَى) صفة، وقرأ الباقون: برفعها على أنه مبتدأ (¬1)، خبره: {تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} الذي فيه أعمالُها؛ لتحاسب، ويقال لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا. ... {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)}. [29] {هَذَا كِتَابُنَا} ديوان الحفظة، أو القرآن. {يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} يشهد عليكم ببيان شافٍ. {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} نستكتب الحفظةَ. {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} لأنا لا نهمل شيئًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (3/ 128)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 156 - 157).

[30]

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)}. [30] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} جنته. {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} الظَّفَرُ الظاهر. ... {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)}. [31] {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} يُقال لهم تهديدًا: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} بالإنذار على لسان رسلي. {فَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان {وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} كافرين (¬1). ... {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)}. [32] {وَإِذَا قِيلَ} لكم: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} كائنٌ {وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} أي: لا شكَّ في البعث. قرأ حمزة: (السَّاعَةَ) بالنصب عطفًا على (وَعْدَ)، والباقون: بالرفع على الابتداء (¬2). ¬

_ (¬1) "كافرين" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 199)، و"تفسير البغوي" (4/ 129)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 157).

[33]

{قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} أي: لا اعتقادَ لنا إلا الشكُّ، والظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان، ويجيء الظن بمعنى اليقين؛ نحو قوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171]؛ أي: أيقنوا أن الجبل واقع بهم. {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أنها كائنة. ... {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)}. [33] {وَبَدَا} ظهر {لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} في الدنيا. {وَحَاقَ} نزل {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وهو الجزاء. قرأ أبو جعفر: (يَسْتَهْزُونَ) بضم الزاي بغير همز، والباقون: بكسر الزاي والهمز (¬1). ... {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)}. [34] {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} نترككم في العذاب كالشيء المنسيِّ الذي لا يُلتفت إليه. {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي: كما تركتم العمل للقاء هذا اليوم. {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يخلِّصونكم من عذابها. ¬

_ (¬1) سلفت عند تفسير الآية (64) من سورة التوبة.

[35]

{ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)}. [35] {ذَلِكُمْ} العذابُ النازل بكم {بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ} أي: بسبب اتخاذكم. {آيَاتِ اللَّهِ} القرآنَ {هُزُوًا} استهزأتم بها. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (اتَّخَذْتُمْ) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام، وقرأ حفص: (هُزُوًا) بإبدال الهمزة واوًا، والباقون: بالهمز (¬1). {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} حتى قلتم: لا بعثَ ولا حساب. {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَخْرُجُونَ) بفتح الياء وضم الراء، والباقون: بضم الياء وفتح الراء (¬2). {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لا يطلب منهم أن يُعتبوا ربهم؛ أي: يُرضوه بالطاعة؛ لأنه لا عذر في ذلك اليوم ولا توبة. ... {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)}. [36] {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تحميدٌ لله، وتحقيق لألوهيته، وفي ذلك كسر لأمر الأصنام. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 3551)، و "معجم القراءات القرآنية" (6/ 158). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 175)، و "تفسير البغوي" (4/ 129)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 267 - 268)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 158).

[37]

{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)}. [37] {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} العظمة {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إذ ظهر فيهما آثارها. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب {الْحَكِيمُ} فيما قضى. وفي الحديث الشريف: يقول الله تعالى: "الكبرياءُ ردائي، والعَظَمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما، قَصَمْتُه" (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4090)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في الكبر، وابن ماجه (4174)، كتاب: الزهد، باب: البراءة من الكبر والتواضع، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ورواه مسلم (2620)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكبر، من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ: "العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته".

سورة الأحقاف

سُوْرَةُ الأَحقَافِ مكية، لم يُختلف منها إلا في آيتين، وهو قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}، وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الآية، فقال بعض المفسرين: هاتان آيتان مدنيتان وُضعتا في سورة مكية قاله ابن عطية (¬1). وقال الكواشي (¬2): {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} الثلاث. وآيها: خمس وثلاثون آية، وحروفها: ألفان وست مئة حرف، وكلمها: ست مئة وأربع وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}. [1 - 2] {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} تقدم نظيره في الجاثية. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 91). (¬2) "وقال الكواشي" زيادة من "ت".

[3]

{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)}. [3] {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا} خَلْقًا ملتبِسًا (¬1) {بِالْحَقِّ} الواجبِ الذي حقَّ أن يكون. {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} وَقَّتناه وجعلناه موعدًا لفساد هذه البنية، وهو يوم القيامة، ومعنى الآية: موعظة وزجر؛ أي: فانتبهوا أيها الناس، وانظروا ما يراد بكم، ولمَ خُلقتم. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا} به من القرآن. {مُعْرِضُونَ} عن الاهتمام لذلك المقام. ... {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)}. [4] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} استفهام على معنى التوبيخ {مَا تَدْعُونَ} تعبدون. {مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ} أي: للأصنام {شِرْكٌ} أي: مشاركة {فِي} خلق {السَّمَاوَاتِ} مع الله حتى تشركوهم في عبادته. {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} يعني: جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون. ¬

_ (¬1) "خلقًا ملتبسًا" زيادة من "ت".

[5]

{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي: بقية من علم يؤثر عن الأولين. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم. ... {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)}. [5] {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ} إنكار أن يكون أحد أضلَّ من المشركين؛ حيث تركوا عبادة الله، وعبدوا الأصنام التي لا تسمع دعاءهم، ولا تجيبهم. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يعني: أبدًا ما دامت الدنيا. {وَهُمْ عَنْ} إجابةِ {دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} لأنهم جماد لا يعقلون. ... {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}. [6] {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا} أي: الأصنام {لَهُمْ} أي: لعابديها. {أَعْدَاءً وَكَانُوا} أي: الأصنام {بِعِبَادَتِهِمْ} بعبادة عابديهم {كَافِرِينَ} جاحدين، بيانه {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]. ... {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}. [7] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي: لما يسمع المشركون القرآن.

[8]

{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ظاهرٌ بطلانُه. ... {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)}. [8] {أَمْ} أي: بل (¬1) {يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} اختلقَ محمدٌ القرآن، إضرابٌ عن ذكر تسميتهم القرآنَ سحرًا، إلى ذكر ما هو أشنعُ منه، وإنكارٌ له. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} فرضًا {فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ} أي: من عذابه {شَيْئًا} أن: تردُّوه عني إن عذبني على افترائي. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ} تخوضون {فِيهِ} من التكذيب بآياته، والقدحِ فيها. {كَفَى بِهِ} تعالى {شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالصدق، وعليكم بالكذب. {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ترجية واستدعاء إلى التوبة؛ لأنه في خلال تهديده إياهم بالله تعالى جاءت هاتان الصفتان. ¬

_ (¬1) "أي: بل" زيادة من "ت".

[9]

{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}. [9] ثم أمر تعالى بأن يحتج عليهم، فقال: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أي: بديعًا؛ أي: لستُ بأولِ مرسَل، قد بُعث قبلي غيري، والبدع والبديع من الأشياء: ما لم ير مثله، المعنى: فكيف تنكرون نبوتي؟. {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} قال ابن عباس وأنس وغيرهما: "معناه: في الآخرة" (¬1)، وكان هذا في صدر الإسلام، ثم بعد ذلك عرفه تعالى بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير، وهو الجنة، وبأن الكافرين في نار جهنم. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في النوم مُهاجَره إلى أرض ذاتِ نخل، فأخبر أصحابه، فسألوه عنها، فسكت، فنزل: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} (¬2)، المعنى: وما أدري أأخرُجُ أم أُخْرَج كما أُخرج الأنبياء قبلي، أم أُقتل كما قُتلوا، وأنتم أيها المصدقون ما أدري أتخرجون معي (¬3)، أم تتركون، وأنتم أيها المكذبون ما أدري أترمون بالحجارة، أم يخسف بكم كالمكذبين قبلكم. ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 301)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 94)، وقد روى الطبري في "تفسيره" (22/ 100) عن الحسن قوله: أما في الآخرة، فمعاذ الله؛ فقد علَّم الله أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} في الدنيا. وهو الصحيح كما قال القرطبي في "تفسيره" (16/ 186). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 94)، و"تفسير القرطبي" (16/ 187). (¬3) "معي" زيادة من "ت".

[10]

{إِنْ أَتَّبِعُ} ما أتبع {إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} من القرآن، وما أبتدع من عندي شيئًا. {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} يبين الإنذار بالمعجزات الظاهرة. قرأ نافع، وأبو جعفر بخلاف عن قالون: (أَنَا إِلَّا) بالمد (¬1). {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}. [10] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أخبروني ماذا تقولون {إِنْ كَانَ} القرآن. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} هو عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -. قرأ أبو عمرو: (وَشَهِد شَّاهِدٌ) بإدغام الدال في الشين (¬2) {عَلَى مِثْلِهِ} أي: القرآن، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة له. {فَآمَنَ} الشاهدُ {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان به، وجواب الشرط في (أَرَأَيْتُمْ) محذوف، وهو: ألستم ظالمين؟ لدلالة {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} لدينه. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص ت 391)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 163). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 351)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 163).

[11]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)}. [11] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من اليهود {لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ} دينُ محمد. {خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} يعني: عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: نزلت في مشركي مكّة، وقالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمّد خيرًا، ما سبقنا إليه عمار وصهيب وبلال ونحوهم ممّن أسلم، وهم دوننا في الشرف. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان، والعامل في {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} محذوف تقديره: وقتَ عدمِ إيمانهم ظهرَ عنادُهم. {فَسَيَقُولُونَ هَذَا} أي: القرآن {إِفْكٌ} كذب {قَدِيمٌ} ووصفوه بالقدم بمعنى أنّه في أمور متقادمة. * * * {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}. [12] {وَمِنْ قَبْلِهِ} أي: القرآن، أو محمد - صلى الله عليه وسلم -. {كِتَابُ مُوسَى} التوراة. {إِمَامًا} يؤتَمُّ به في دين الله وشرائعه {وَرَحْمَةً} لمن آمن به، وفي الكلام محذوف تقديره: وتقدمه كتاب موسى إمامًا، ولم يهتدوا به؛ كما قال في الآية الأولى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} {وَهَذَا} أي: القرآنُ {كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} للكتب قبله {لِسَانًا عَرَبِيًّا} حال من ضمير (كِتَابٌ) في (مُصدِّقُ)؛

[13]

أي: القرآن مصدق لسان محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو عربي {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} بوضع العبادة في غير موضعها، وهم مشركو مكّة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (لِتُنْذِرَ) بالخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الباقون: بالغيب؛ يعني: الكتاب، واختلف عن البزي راوي ابن كثير (¬1) {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (وبشرى) في محل الرفع؛ أي: هذا كتاب مصدق وبشرى. * * * {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)}. [13] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على العمل بموجب الإقرار بالتوحيد {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} ممّا يحل بالكفرة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على أمر ما. * * * {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)}. [14] {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الأعمال الصالحة. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 199)، و"تفسير البغوي" (4/ 136)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 164).

[15]

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}. [15] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} ألزمناه (¬1)، والمراد: النوع، فهي وصية من الله في عباده {بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} أي: ليفعل ذا حسن. قرأ الكوفيون: (إِحْسَانًا) بزيادة همزة مكسورة قبل الحاء، وإسكان الحاء وفتح السين وألف بعدها، وكذلك هو في مصاحف الكوفة، وقرأ الباقون: بضم الحاء وإسكان السين من غير همزة ولا ألف، وكذلك هو في مصاحفهم (¬2). {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} على مشقة حين تتوقع حوادثه {وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} أي: كارهة، والمراد: شدة الطلق. قرأ الكوفيون، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر: (كُرْهًا) بضم الكاف، والباقون: بالنصب فيهما، وهما لغتان (¬3)، وقد عدد تعالى على الأبناء مِنَنَ الأمهات، وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب، والأب في واحدة، جمعها الذكر في قوله: {لَهُمْ ¬

_ (¬1) "ألزمناه" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 596)، و"التيسير" للداني (ص: 199)، و"تفسير البغوي" (3/ 136)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 165). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 199)، و"تفسير البغوي" (4/ 136)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 165 - 166).

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ثمّ ذكر الحمل للأم، ثمّ الوضع لها، ثمّ الرضاع الّذي عبر عنه بالفصال، فهذا يناسب ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جعل للأم ثلاثة أرباع البرّ، والربعَ للأب، وذلك إذ قال له رجل: يا رسول الله! من أبر؟ قال: "أمك"، ثمّ قال: ثمّ من؟ قال: "ثمّ أمك"، ثمّ قال: ثمّ من؟ قال: "ثمّ أمك"، ثمّ قال: ثمّ من؟ قال: "ثم أباك" (¬1). {وَحَمْلُهُ} أي: مدة حمله {وَفِصَالُهُ} عن الرضاع، والمراد: فطامه. قرأ يعقوب: (وَفَصْلُهُ) بفتح الفاء وإسكان الصاد من غير ألف، وقرأ الباقون: بكسر الفاء وفتح الصاد وألف بعدها (¬2). {ثَلَاثُونَ شَهْرًا} يريد: أقل مدة الحمل، وهي ستة أشهر، وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرًا. وعن ابن عبّاس قال: "إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعت إحدى وعشرين شهرًا، وإذا حملت ستة أشهر، أرضعت أربعة وعشرين شهرًا" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (5626)، كتاب: الأدب، باب: من أحق النَّاس بحسن الصحبة، ومسلم (2548)، كتاب: البرّ والصلة والآداب، باب: بر الوالدين وأنّهما أحق به، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 136 - 137)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 166). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 137).

واتفق الأئمة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، واختلفوا في أكثر مدته، فقال أبو حنيفة: سنتان، والمشهور عن مالك: خمس سنين، وروي عنه: أربع، وسبع، وعند الشّافعيّ وأحمد: أربع سنين، وغالبها: تسعة أشهر، وتقدم نظير ذلك في سورة الرعد. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وهو كمال قوته وعقله ورأيه، أقله ثلاث وثلاثون سنة، وأكثره أربعون سنة. {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-[وأبيه أبي قحافةَ عثمانَ بن عمرو، وأُمِّه أم الخير بنتِ صخر بن عمر (¬1). وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-] (¬2): الآية في أبي بكر، أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده (¬3)، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- صحب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشّام، فلما بلغ أربعين سنة، ونبُئ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، آمن به، ثمّ دعا ربه، و {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني. قرأ ورش عن نافع، والبزي عن ابن كثير: (أَوْزِعْنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 137)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 97)، و"تفسير القرطبي" (16/ 192). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 137)، و"تفسير القرطبي" (16/ 194). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 596 - 597)، و"التيسير" للداني =

[16]

{أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} بها، وهي التوحيد. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} قال ابن عبّاس: "هي الصلوات الخمس"، وقيل: أراد نوعًا من الجنس يستجلب رضا الله تعالى. {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} اجعل الصلاح راسخًا فيهم. {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} عما لا ترضاه {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} المخلصين لك، فأجابه - الله عَزَّ وَجَلَّ -، فأعتق تسعة من المؤمنين يُعذبون في الله، ولم يُرِدْ شيئًا من الخير إِلَّا أعانه الله عليه، ولم يكن له ولد إلَّا آمنوا، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعًا، فأدرك أبو قحافة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرّحمن بن أبي بكر (¬1)، وابن عبد الرّحمن هو محمّد يكنى: أبا عتيق، كلهم أدركوا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن ذلك لأحد من الصّحابة. * * * {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}. [16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} يعني: طاعاتهم. {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} فلا يعاقبهم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ¬

_ = (ص: 200)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 391)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 166). (¬1) "بن أبي بكر" زيادة من "ت".

[17]

وحفص عن عاصم: (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ) (وَنَتَجَاوَزُ) بنون مفتوحة فيهما، وهي النون الّتي للعظمة (أَحْسَنَ) بالنصب، وقرأ الباقون (يُتَقَبَّلُ) (وَيُتَجَاوَزُ) بالياء مضمومة فيهما على بناء الفعل للمفعول (أَحْسَنُ) بالرفع (¬1). {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} يريد: الذين سبقت لهم رحمة الله. {وَعْدَ الصِّدْقِ} نصب على المصدر المؤكد لما قبله؛ فإن يتقبل ويتجاوز وعد. {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون} في الدنيا. * * * {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)}. [17] ونزل في كافر عاقٍّ لوالديه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} إذ دعواه للإيمان بالله، والإقرار بالبعث: {أُفٍّ لَكُمَا} وهي كلمةُ كراهية. قرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (أُفَّ) بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم: (أُفٍّ) بكسر الفاء مع التّنوين، وقرأ الباقون: بكسر الفاء من غير تنوين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 597)، و"التيسير" للداني (ص: 199)، و"تفسير البغوي" (4/ 137)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 167). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 597)، و"التيسير" للداني (ص: 139)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 306 - 307)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 168).

[18]

{أَتَعِدَانِنِي} قرأ هشام عن ابن عامر: بنون واحدة مشددة، وقرأ الباقون: بنونين مكسورتين، وفتحَ ياءَ الإضافة: نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأسكنها: الباقون (¬1). {أَنْ أُخْرَجَ} من قبري بعد الموت. {وَقَدْ خَلَتِ} مضت {الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} فلم يُبعث منهم أحد. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ} يستصرخان {اللَّهَ} عليه، ويقولان له: {وَيْلَكَ آمِنْ} بالبعث، وهو دعاء عليه بالويل، والمراد به: الحث على الإيمان. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا} القولُ. {إِلَّا أَسَاطِيرُ} أباطيل (¬2) {الْأَوَّلِينَ} الّتي كتبوها. * * * {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)}. [18] {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ} أي: وجب {عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} منه تعالى بتعذيبهم. {فِي أُمَمٍ} أي: مع أمم {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 597 - 599)، و"التيسير" للداني (ص: 199 - 200)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 303 و 2/ 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 168 - 169). (¬2) "أباطيل" زيادة من "ت".

[19]

خَاسِرِينَ} وزعم بعضهم أنّها نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر قبل إسلامه (¬1)، وأنكرته عائشة -رضي الله عنها- (¬2)، والصّحيح ما تقدّم أنّها نزلت في رجل كافر، ويدلُّ على فساد قول من زعم أنّها في عبد الرّحمن بن أبي بكر قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الآية، أعلم الله سبحانه أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب (¬3)، وعبد الرّحمن أسلم وحسن إسلامه، وصار من أفاضل المسلمين، فلا يكون ممّن حقت عليه كلمة العذاب، والله أعلم. * * * {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}. [19] {وَلِكُلٍّ} تنوينه عوض من ضمير جنس المؤمن والكافر؛ أي: ولكلِّ الجنسين {دَرَجَاتٌ} منازلُ ومراتبُ عند الله يوم القيامة، فدرج أهل ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 137)، و"تفسير ابن كثير" (4/ 160). قال الحافظ ابن كثير: هذا عام في كلّ من قال هذا، ومن زعم أنّها نزلت في عبد الرّحمن، فقوله ضعيف؛ لأنّه أسلم بعد وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه. (¬2) روى البخاريّ (4550)، كتاب: التفسير، باب: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} عن يوسف بن ماهَك، وقال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية فخطب ... فقال مروان: إنَّ هذا الّذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن، إِلَّا أن الله أنزل عذري. (¬3) "العذاب" زيادة من "ت".

[20]

النّار يذهب سفالًا، ودرج أهل الجنَّة يذهب علوًا. {مِمَّا عَمِلُوا} فيجازيهم بأعمالهم. {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان عن ابن عامر: (وَلِنُوَفِّيَهُمْ) بالنون، والباقون: بالياء، واختلف عن هشام (¬1) {أَعْمَالَهُمْ} أي: جزاء أعمالهم. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب، ولا زيادة عقاب. * * * {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}. [20] {وَيَوْمَ} أي: واذكر يوم {يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} وهذا العرض هو بالمباشرة كما تقول عرضت العود على النّار، والجاني على السوط، فيقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} المعدَّةَ لكم في الجنَّة لو آمنتم. باشتغالِكم بلذاتكم {فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} قرأ نافع، وأبو عمرو، والكوفيون: (أَذْهَبْتُمْ) بهمزة مفتوحة (¬2) واحدة على الخبر، وقرأ الباقون، وهم: ابن عامر، وابن ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 598)، و"التيسير" للداني (ص: 199)، و"تفسير البغوي" (4/ 139)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 170). (¬2) "مفتوحة" ساقطة من "ت".

كثير، وأبو جعفر، ويعقوب: بهمزتين على الاستفهام، وهم على أصولهم، فابن ذكوان عن ابن عامر يحقق الهمزتين على الأصل، وهشام عنه بهمزة ومدة؛ لأنّها همزة استفهام دخلت على همزة القطع، فجعلت همزة القطع بين الهمزة والألف، والثلاثة يحققون الهمزة الأولى، ويسهلون الثّانية، وأبو جعفر على أصله في إدخال ألف بين الهمزة المحققة والملينة، وكلاهما فصيحان؛ لأنّ العرب تستفهم بالتوبيخ، وتترك الاستفهام فتقول: أَذَهَبْتَ ففعلتَ كذا، وذهبت ففعلت كذا (¬1). {وَاسْتَمْتَعْتُمْ} تمتعتم {بِهَا} فما بقي لكم منها شيء. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} الهوان {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} تخرجون عن طاعة الله. قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: رأى عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - لحمًا معلقًا في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر: أو كلما اشتهيتَ يا جابرُ اشتريت؟ أما تخاف هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 199)، و"تفسير البغوي" (4/ 139)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (6/ 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 170 - 171). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطَّأ" (2/ 936)، وابن أبي شيبة في "المصنِّف" (24524) والحاكم في "المستدرك" (3697)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5672).

[21]

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما شبعَ آلُ محمدٍ خبزَ الشعير يومين متتابعين حتّى قُبِض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * * * {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)}. [21] ثمّ أمر تعالى نبيه بذكر هود وقومه على جهة المثال لقريش، فقال: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} يعني: هودًا -عليه السّلام-، وهذه الأخوة أخوة القرابة، لأنّ هودًا كان من أشراف القبيلة الّتي هي عاد. {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} الصحيح من الأقوال: أن بلاد عاد كانت في اليمن، ولهم كانت إرم ذات العماد، والأحقاف جمع حقف، وهو الجبل المستطيل المعوَجُّ من الرمل، وكثيرًا ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى؛ لأنّ الريح تصنع ذلك. {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} مضت الرسل {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} من قبله ومن بعده، المعنى: خَوَّفَ قومَه وهم بهذا المكان بقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هائل؛ بسبب شرككم. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2970) في أول كتاب: الزهد والرقائق. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 599)، و"التيسير" للداني (ص: 200)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 373)، و "معجم القراءات القرآنية" (6/ 172).

[22]

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)}. [22] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} لتصرِفَنا {عَنْ} عبادة. {آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب. {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في وعدك. * * * {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)}. [23] {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} هو يعلم متى يأتيكم العذاب. {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} من الوحي إليكم (¬1)، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [النور: 54]. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} باستعجالكم العذاب. قرأ أبو عمرو: (وَأبلِغُكُمْ) بإسكان الباء وتخفيف اللام، والباقون: بفتح الباء وتشديد اللام (¬2)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عموو، والبزي عن ابن كثير؛ (وَلَكِنِّيَ) بفتح الياء، والبادون: بإسكانها (¬3). ¬

_ (¬1) "إليكم" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 111)، و "معجم القراءات القرآنية" (6/ 172). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 598 - 599)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 172).

[24]

{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)}. [24] {فَلَمَّا رَأَوْهُ} أي: العذابَ {عَارِضًا} نصب على الحال؛ أي: سحابًا يعرض في أفق السَّماء؛ لأنّهم لما رأوا العذاب {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} ظنوه سحابًا؛ لأنّهم قد حبس عنهم المطر، فخرجت عليهم سحابة سوداء من وادٍ لهم يقال له: المغيث، فلما رأوها، استبشروا. و {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} يأتينا بالمطر، فقال لهم هود: ليس الأمرُ كما رأيتم. {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} في قولكم: {فَأَتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}. ثمّ قال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فجعلت (¬1) الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتّى ترى كأنّها جرادة. * * * {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}. [25] {تُدَمِّرُ} تُهلك {كُلَّ شَيْءٍ} مرت به من رجال عاد وأموالهم. {بِأَمْرِ رَبِّهَا} وجلس هود بمؤمنيه في حضيرة لا يصيبهم منها إِلَّا ما يلين أبشارهم، وتلتذ (¬2) بها نفوسهم، وروي أن هذه (¬3) الريح أمالت عليهم الأحقاف، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيّام، ثمّ كشفت عنهم، ¬

_ (¬1) في "ت": "فجعل". (¬2) في "ت": "تلذ". (¬3) في "ت": "هذا".

[26]

واحتملتهم الريح، ورمتهم أجمعين في البحر. {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} قرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب، وخلف: (يُرَى) بياء مضمومة على الغيب مجهولًا، (مَسَاكِنُهُمْ) بالرفع فاعل المجهول، وقرأ الباقون: بالتاء وفتحها على الخطاب معلومًا (¬1)؛ أي: لا ترى يا محمدُ إِلَّا مساكنَهم، ونصب (مَسَاكِنَهُمْ) مفعولًا صريحًا، وأمال أبو عمرو والكسائي الراء من (تَرَى) (¬2)، المعنى: هلكوا بأموالهم، وبقيت مساكنهم. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}. كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الريح، فزع، ويقول: "اللهمَّ إنِّي أسألُك خيرَها وخيرَ ما أُرْسِلَتْ به، وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما أُرْسِلَتْ به" (¬3). * * * {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)}. [26] ثمّ خاطب تعالى قريشًا على جهة الموعظة، فقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (ما) موصولة بمعنى الّذي، و (إن) نافية بمعنى (ما) ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 200)، و"تفسير البغوي" (4/ 142)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 173 - 174). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (5/ 173). (¬3) رواه مسلم (899)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: التعوذ عند رؤية الريح والغيم والفرح بالمطر، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

[27]

وقعت مكانها؛ ليختلف اللّفظ تخفيفًا؛ لئلا يجمع بين كلمتين بلفظ واحد (¬1)، المعنى: مكَّنَّا عادًا في الّذي ما مكناكم فيه يا كفار مكّة. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} فكانت أعمارهم (¬2) طويلة، وأجسادهم قوية، وأموالهم كثيرة. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} فما دفع ذلك عنهم شيئًا ممّا حل بهم من العذاب. {إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ} نزلَ {بِهِمْ} جزاءُ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من العذاب، وهذا تهديد للمشركين. * * * {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)}. [27] ثمّ زادهم تهديدًا بقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ} يا أهل مكّة. {مِنَ} أهل {الْقُرَى} كعاد وثمود وقوم لوط. {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} بَيَّناها بالإنذار بالعذاب. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم، فلم يرجعوا، فأهلكناهم. * * * {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}. ¬

_ (¬1) "واحد" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "أعمالهم".

[28]

[28] {فَلَوْلَا} فهلَّا (¬1) {نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} يعني: الأوثان يتقربون بها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-. {بَلْ ضَلُّوا} غابوا عند نزول العذاب بهم {عَنْهُمْ} قرأ الكسائي: (بَل ضَّلُّوا) بإدغام اللام في الضاد، والباقون: بالإظهار (¬2). {وَذَلِكَ} اتخاذُهم الآلهة واعتقادُهم فيها {إِفْكُهُمْ} كذبُهم {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}. [29] ولما مات أبو طالب، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرَ والمنعةَ له من قومه، فلم يطيعوه، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف راجعًا إلى مكّة حين يئس من خير ثقيف، حتّى إذا كان بنخلة عند سوق عكاظ، قام من جوف اللّيل يصلّي، فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته، وَلَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا، وأجابوا لما سمعوا، فقصَّ الله خبرهم عليه، فقال: {وَإِذْ} (¬3) أي: واذكر إذ {صَرَفْنَا} أَمَلْنا {إِلَيْكَ} قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف: (وَإِذْ صَرَفْنَا) بإظهار ¬

_ (¬1) "فهلا" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 353)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 174). (¬3) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 419) وما بعد.

الذال عند الصاد، والباقون: بالإدغام (¬1) {نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} جن نصيبين اليمن، قال ابن عبّاس: "هم تسعة: سليط، وشاصر، وماصر، وحسا، ومسا، وعليم، والأرقم، والأدرس، وحاصر (¬2) " (¬3). {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} منك. {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي: استماعَ القرآن؛ أي: كانوا منه بحيث يسمعون {قَالُوا} أي: قال بعضهم لبعض: {أَنْصِتُوا} أصغوا لاستماعه، قالوا: صَهْ. {فَلَمَّا قُضِيَ} فُرغ من تلاوته {وَلَّوْا} رجعوا. {إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} مخوِّفين بأمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. في الحديث: "الجنُّ ثلاثةُ أصناف: صنفٌ لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف كلاب وحيات، وصنف يحلُّون ويرتحلون" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 354)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 176). (¬2) انظر: "الروض الأُنف" (1/ 354 و 2/ 235) و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 674). (¬3) جاء على هامش النسخة "ت": [أسماء الجن: وفيها، وكذا في عددهم خلاف ذكره السهيلي وغيره، ونصيبين -بفتح النون-: بلدة بالجزيرة بشمال سنجار وفي قرب منها جبل الجودي كما في "تقويم البلدان" وغيره. (¬4) رواه ابن حبّان في "صحيحه" (6156)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 214)، والحاكم في "المستدرك" (3702)، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 539): رفعه غريب جدًّا.

[30]

{قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)}. [30] وكان دينهم اليهودية، فلذلك {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} هو القرآنُ {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} قال ابن عبّاس: "إنهم لم يعلموا بعيسى، فلذلك قالوا: من بعد موسى" {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} هي التوراة {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} الإسلام {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} العمل به. * * * {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}. [31] {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان. {وَآمِنُوا بِهِ} الضمير عائد على (الله). {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي: ذنوبكم، وقيل: المراد: يغفر لكم بعض ذنوبكم، وهو ما يكون في خالص حق الله تعالى، لا مظالم العباد؛ لأنّه تعالى لا يغفرها إِلَّا برضا أربابها. {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هو مُعَدٌّ للكفار، فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلًا من الجن، فرجعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوافوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، وأمرهم ونهاهم (¬1)، وفيه دليل على أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثًا (¬2) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 148)، و"تفسير القرطبي" (16/ 217). (¬2) "مبعوثًا" زيادة من "ت".

[32]

إلى الإنس والجن جميعًا، ولم يبعث قبله نبي إليهما جميعًا. واختلف الأئمة في حكم مؤمني الجن، فقال أبو حنيفة: لا ثواب لهم إِلَّا النجاة من النار؛ لقوله تعالى: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ثم يقال لهم: كونوا ترابًا مثل البهائم (¬1)، وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة؛ كالإنس، وهم في حكم بني آدم؛ لأنّهم مكلَّفون مثلهم. ولم يرسل - صلى الله عليه وسلم - إلى الملائكة، صرح به البيهقي في الباب الرّابع من "شعب الإيمان"، وصرح في الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه، وفي "تفسير الإمام الرازي"، و"البرهان النفسي" حكاية الإجماع، قال ابن حامد من أصحاب أحمد: ومذهب العلماء إخراجُ الملائكة عن التكليف، والوعد والوعيد، وهم معصومون كالأنبياء بالاتفاق، إِلَّا من استثني؛ كإبليس، وهاروت وماروت، على القول بأنّهم من الملائكة. * * * {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)}. [32] {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} ليس له مهرب. {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ} من دون عذابه تعالى {أَوْلِيَاءُ} أنصارٌ يمنعونه من الله. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "وفي شرح عقائد الطحاوي لابن السراج: أن أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- توقف في كيفية ثوابهم؛ حيث لم ينص شيء في القرآن".

[33]

{أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} واختلف القراء في الهمزتين من (أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ)، ولم يرد في القرآن همزتان متفقتان بالضم في كلمتين إِلَّا في هذا المحل، فقرأ أبو عمرو: بإسقاط الهمزة الأولى منهما بلا عوض منها، وتحقيق الثّانية، وقرأ قالون عن نافع، والبزي عن ابن كثير: بتسهيل الأولى بين الهمزة والواو، وتحقيق الثّانية، وقرأ أبو جعفر، ورويس عن يعقوب: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثّانية، واختلف عن قنبل راوي ابن كثير، وورش راوي نافع، فروي عن الأوّل: جعل الهمزة الثّانية بين بين، وروي عنه إسقاط الهمزة الأولى، وهو الّذي عليه الجمهور من أصحابه، وروي عن الثّاني: إبدال الهمزة الثّانية حرف مد، وروي عنه: تسهيلها بين بين، وقرأ الباقون، وهم: الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق الهمزتين (¬1). * * * {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}. [33] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} لم يتحير فيه، ولم يعجز عنه {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} الباء في قوله (بِقَادِرٍ) زائدة مؤكدة، ومن حيث تقدّم نفيٌ في صدر الكلام، حَسُنَ التأكيدُ بالباء، ولم يكن المنفي ما دخلت هي عليه؛ كما في قولك: ما زيدٌ بقائمٍ، كأنَّ بدل (أَوَلَمْ يَرَوْا): أَوَلَيْسَ الّذي خَلَق. قرأ يعقوب: (يَقْدِرُ) بياء مفتوحة ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 176 - 177).

[34]

وإسكان القاف من غير ألف وضم الراء، وقرأ الباقون: بالباء وفتح القاف وألف بعدها، وخفضِ الراء منونة (¬1). قرر القدرة على إحياء الموتى، وأكده بقوله: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كما قرر الربوبية بـ (بلى) في قوله (¬2): {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. * * * {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}. [34] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ويقال (¬3) لهم: {أَلَيْسَ هَذَا} التعذيبُ {بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} وذلك تصديقٌ حيث لا ينفع {قَالَ} أي: فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بسبب كفركم. * * * {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}. [35] {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ} أي: الجد والحزم {مِنَ الرُّسُلِ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 149)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 355)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 177). (¬2) "في قوله" سقط من "ت". (¬3) في "ت": "فيقال".

وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصّلاة والسلام، فهم مع محمّد - صلى الله عليه وسلم - خمسة، ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، وفي قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]، المعنى: اصبر على أذى قريش؛ كصبر الرسلِ قبلَك. {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} نزولَ العذاب؛ فإنّه نازل. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً} المعنى: إذا عاينوا العذاب، استقصروا من هوله مدةَ لبثهم في الدنيا والبرزخ، فظنوها ساعة. {مِنْ نَهَارٍ} لأنّ ما مضى وإن كان طويلًا كأن لم يكن. {بَلَاغٌ} أي: هذا القرآن وما فيه تبليغٌ من الله إليكم. {فَهَلْ يُهْلَكُ} بالعذاب إذا نزل {إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجون عن أمر الله، وفي هذه الألفاظ وعد محض، وإنذار بَيِّنٌ، والله أعلم. * * *

سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -

سُوْرَةُ مُحَمَّدْ - صلى الله عليه وسلم - وتسمى: سورةَ القتال، مدنية بإجماع، وقيل: إنَّ قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} الآية نزلت بمكة في وقت دخول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها عام الفتح، أو سنة الحديبية، وما كان مثل هذا، فهو معدود في المدني؛ لأنّ المراعى في ذلك إنّما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها، وآيها: ثمان وثلاثون آية، وحروفها: ألفان وثلاث مئة وتسعة وأربعون حرفًا، وكلمها: خمس مئة وتسع وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)}. [1] {الَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ {وَصَدُّوا} نفوسهم وغيرهم. {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: شرعِ الله وطريقِه الّذي دعا إليه، وهو الإسلام، وخبر المبتدأ. {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها، فلم يقبلها، وهي ما فعلوا من إطعام الطّعام وصلة الأرحام، والإشارة في {الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى أهل مكّة الذين أخرجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * *

[2]

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}. [2] ثمّ أشار إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مبتدأ أيضًا {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} يعني: القرآن. {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} وسمي دينُ محمّد حقًّا؛ لأنّه لا يردُ عليه النسخ، وخبر المبتدأ. {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} سترها بالإيمان. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} حالَهم؛ بتوفيقه. * * * {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}. [3] {ذَلِكَ} الواقع من الضلالة والهدى {بِأَنَّ} أي: بسبب أن. {الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} الشيطانَ. {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} وهو القرآن. {كَذَلِكَ} أي: مثلَ ذلك الضرب. {يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي: يذكر لهؤلاء النَّاس قصصَ أمثالهم؛ ليتعظوا بهم. * * *

[4]

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)}. [4] {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في المحاربة {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} مصدر بمعنى الفعل؛ أي: فاضربوا الرقاب ضربًا، المعنى: إذا لقيتموهم، فاقتلوهم، وعَيَّنَ من أنواع القتل أشهرَه وأعرفه، فذكره. {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أكثرتم فيهم القتل، وأوهنتموهم به. {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} أي: فَأْسِروهم، واحتفظوا بهم حتّى لا يُفلتوا منكم، ولما قوي الإسلام، نزل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي: تمنون عليهم منًّا بإطلاقهم بعد أسرهم. {وَإِمَّا فِدَاءً} أي: تفادوهم فداء؛ أي: أنتم مخيرون في ذلك. {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ} أي: أصحابها. {أَوْزَارَهَا} سلاحها، فيمسكوا عن الحرب، وأصل الوزر: ما يحمله الإنسان. واختلفوا في حكم الآية، فقال قوم: هي منسوخة بقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]، وبقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وهو قول أبي حنيفة، وذهب آخرون إلى أنّها محكمة، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يسترقهم، أو يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض، أو يفاديهم بالمال، أو بأسارى المسلمين، وهو قول الشّافعيّ ومالك وأحمد؛ لأنّه

عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاءُ بعده، ومعنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتّى يدخل أهل الملل (¬1) كلّها في الإسلام، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال، وذلك عند نزول عيسى بن مريم -عليه السّلام-. وجاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الجهادُ ماضٍ منذُ بعثني الله إلى أن يُقاتل آخر أُمتي الدجَّالَ" (¬2). {ذَلِكَ} أي: الأمر ذلك {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} فأهلكهم بغير قتال. {وَلَكِنْ} أمركم بالقتال {لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ليختبر المؤمنين بالكافرين؛ بأن يجاهدوهم، فيستوجبوا (¬3) الثّواب، والكافرين بالمؤمنين؛ بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم؛ ليرتدع بعضهم عن الكفر. {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (قُتِلُوا) بضم القاف وكسر التاء من غير ألف بينهما؛ يعني: الشهداء، وقرأ الباقون: بفتح القاف والتاء وألف بينهما (¬4)؛ يعني: المجاهدين. ¬

_ (¬1) في "ت": "الملك". (¬2) رواه أبو داود (2532)، كتاب: الجهاد، باب: في الغزو مع أئمة الجور، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) في "ت": "فيستجيبوا". (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 200)، و"تفسير البغوي" (4/ 154)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 374)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 184).

[5]

{فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} روي أنّها نزلت يوم أحد، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل. * * * {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)}. [5] {سَيَهْدِيهِمْ} في الدنيا إلى أرشد الأمور، وفي الآخرة إلى الدرجات. {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم. * * * {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)}. [6] {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي: عرفهم منازلَهم فيها. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}. [7] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} أي: دينَه. {يَنْصُرْكُمْ} على أعدائكم. {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} عند القتال. * * * {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)}. [8] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: تَعِسوا، يدلُّ عليه: {فَتَعْسًا لَهُمْ} أي: عِثارًا وسقوطًا، ودخلت الفاء للجزاء، وتعطف على تعسوا المحذوف.

[9]

{وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها. * * * {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}. [9] {ذَلِكَ} التعسُ والإضلالُ. {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} من القرآن وأحكامِه. {فَأَحْبَطَ} أبطلَ {أَعْمَالَهُمْ}. * * * {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)}. [10] ثمّ خّوَّف الكفار فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أهلكهم وأموالهم وأولادهم. {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أمثالُ عاقبة المدمَّرِ عليهم إنَّ لم يؤمنوا، توعُّد لمشركي مكّة. * * * {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)}. [11] {ذَلِكَ} المذكورُ من نصر المؤمنين وقهر الكافرين {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وليهم وناصرهم {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} يُنجيهم، والمراد: ولاية النصرة، لا ولاية العبودية؛ فإن الخلق كلهم عباده تعالى. * * *

[12]

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)}. [12] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} ليس لهم همة إِلَّا بطونهم وفروجهم، ولا يفكرون في مآلهم {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} أي: موضع إقامتهم. * * * {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}. [13] {وَكَأَيِّنْ مِنْ} أهل (¬1) {قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْك} أي: أخرجك أهلُها، المعنى: كم رجال هم أشدُّ من أهل مكّة. {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُم} من إهلاكنا. وتقدم اختلاف القراء في (وَكَأَيِّنْ) في سورة الحجِّ عند قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} قال ابن عبّاس: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكّة إلى الغار، التفت إلى مكّة وقال: "أنت أحبُّ بلاد الله إلى الله، وأحبُّ بلاد الله إليَّ، ولو أن المشركين لم يخرجوني، لم أخرجْ منك"، فأنزل الله هذه الآية (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "أهل" زيادة من "ت". (¬2) رواه عبد الرزّاق في "المصنِّف" (8868)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 305)، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 305)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[14]

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}. [14] {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} يقينٍ من دينه، وهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون، وخبر (مَنْ): {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} وهم مشركو مكّة {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} المعنى: لا مساواة بين المهتدي والضال. * * * {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}. [15] {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: صفتها. {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} قرأ ابن كثير: (أَسِنٍ) بقصر الهمزة، والباقون: بمدها (¬1)؛ أي: غير متغير الطعم والرائحة. {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} كلبن الدنيا. {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} لم تَدُسْها الأرجل، ولم تدنسها الأيدي؛ لأنّ خمر الدنيا كريهة الطعم عند التناول، وشربها يبعد من الله تعالى؛ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 600)، و"التيسير" للداني (ص: 200)، و"تفسير البغوي" (4/ 156)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 187).

[16]

بخلاف خمر الجنَّة. قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: (لِلشَّارِبِينَ) بالإمالة بخلاف عنه. {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} لا شمعَ فيه {وَلَهُمْ فِيهَا} مع كلّ (¬1) ذلك. {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أصناف {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} عطف على الصنف المحذوف؛ أي: ونعيم أعطته المغفرة وسببته، وإلا فالمغفرة إنّما هي قبل الجنَّة. {كَمَنْ} أي: أمثال أهل الجنَّة وهي بهذه الأوصاف كمن. {هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} شديدَ الحر يُسقط فروةَ الوجه عند الشرب. {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُم} ما في بطونهم من الحوايا؛ من فرط الحرارة، فخرجت من أدبارهم. * * * {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)}. [16] {وَمِنْهُمْ} أي: المنافقين {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} ولا يَعون كلامَك. {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من الصّحابة؛ استهزاءً وسخرية. {مَاذَا قَالَ} محمّد {آنِفًا} قرأ البزي عن ابن كثير بخلاف عنه: (أَنِفًا) بقصر الهمزة، والباقون: بمدها (¬2)؛ يعني: الآن، ونصبه ظرف؛ أي: وقتًا مؤتنفًا، وذلك أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب، ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من ¬

_ (¬1) "كل" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 600)، و"التيسير" للداني (ص: 200)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 188).

[17]

المسجد، سألوا عبد الله بن مسعود: ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أي: ما معناه؟ وما نفعه؟ قال ابن عبّاس: "وقد سُئلت فيمن سُئل" (¬1). {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بالنفاق {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} في الكفر، فلا يؤمنون. * * * {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)}. [17] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} وهم المسلمون {زَادَهُمْ هُدًى} علمًا وبصيرة. {وَآتَاهُمْ} تعالى {تَقْوَاهُمْ} أي: جعلهم متقين. * * * {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)}. [18] {فَهَلْ يَنْظُرُونَ} أي: ينتظرون {إِلَّا السَّاعَةَ} وتبدل من (السّاعة) بدلَ اشتمال {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} فجأة {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} علاماتُها، وبَعْثُه - صلى الله عليه وسلم - من أشراطها، ومن أشراطها: أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل والربا وشرب الخمْرِ، ويقل الرجال ويكثر النِّساء، حتّى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (22/ 169)، والحاكم في "المستدرك" (3705). (¬2) رواه البخاريّ (80)، كتاب: العلم، باب: رفع العلم وظهور الجهل، ومسلم (2671)، كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن في آخر الزّمان، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[19]

قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا ضُيِّعت الأمانةُ، فانتظروا السّاعة"، فقيل: كيفَ إضاعتُها؟ قال: "إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله، فانتظرِ السّاعة" (¬1). واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَشْرَاطُهَا) كاختلافهم فيهما من قوله (¬2): (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ) في سورة الحجِّ [الآية: 65]. {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم السّاعة؟ لا ينفعهم ثَمَّ، نحو: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23]. * * * {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}. [19] {فَاعْلَمْ} يا محمدُ {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أي: دُمْ موحِّدًا. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ليستنَّ بك غيرُك. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} لتغفرَ ذنوبُهم. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} منصرَفكم في الدنيا. {وَمَثْوَاكُمْ} مصيرَكم في الآخرَة إلى الجنَّة أو النّار. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (59)، كتاب: العلم، باب: من سئل وهو مشتغل في حديثه، فأتم الحديث ثمّ أجاب السائل، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) "قوله" ساقطة من "ت".

[20]

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)}. [20] {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} حرصًا على طلب الجهاد: {لَوْلَا} هلَّا. {نُزِّلَتْ سُورَةٌ} فيها ذكرُ الجهاد. {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} مثبتة غير منسوخة الأحكام من الجهاد وغيره. {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} أي: الأمر به. {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك، وهم المنافقون. {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نظَرَ} أي: نظرًا مثل {الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} إذا نزل به، وعاين الملائكة؛ بغضًا لك، وخوفًا منك {فَأَوْلَى لَهُمْ} وعيد بمعنى: فويل؛ أي: قَرُبَ منهم ما يكرهون. * * * {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)}. [21] {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} استئناف، والخبر محذوف؛ أي: هما خير لهم، والقول المعروف: هو الأمر المرضي. {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي: جَدَّ ولزمَ فرضُ القتال، وجواب (إذا) محذوف؛ أي: كذبوا.

[22]

{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} في إظهار الإيمان والطاعة إذا جد أصحاب أمر القتال. {لَكَانَ} الصدق {خَيْرًا لَهُمْ} من الكراهة والكذب. * * * {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)}. [22] ثمّ التفت من الغيبة إلى الخطاب لضرب من الإرهاب، فقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أي: فلعلّكم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمرَ هذه الأُمَّة، وقيل: معناه: إنَّ أعرضتم عن الحق. {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي، والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام. {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} بالقتل والعقوق ووأد البنات، المعنى: فهل يتوقع منكم إِلَّا الإفساد وتقطيع الأرحام؟ قال البغوي (¬1): نزلت في بني أمية وبني هاشم. قرأ نافع: (عَسِيتُمْ) بكسر السين، والباقون: بفتحها (¬2)، وقرأ رويس عن يعقوب: (تُوُلِّيتُم) بضم التاء والواو وكسر اللام، والباقون: بفتحهن (¬3)، وقرأ يعقوب: (تَقْطَعُوا) بفتح التاء وإسكان القاف وفتح الطاء ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (4/ 160). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 81)، و"الكشف" لمكي (1/ 303)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 192). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 374)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 192).

[23]

مخففة، [والباقون: بفتحهن، وقرأ يعقوب: (تَقْطَعُوا) بفتح التاء وإسكان القاف وفتح الطاء مخففة] (¬1)، والباقون: بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة (¬2). * * * {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}. [23] {أُولَئِكَ} المفسدون {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} لإفسادهم. {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الحق {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} أي: بصائرهم عن طريق الهداية. * * * {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}. [24] {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} فيعرفون الحق، والتدبر: النظر إلى ما يؤول إليه الكلام، فلما لم يتدبروا، أضرب عنهم، فقال: {أَمْ} أي: بل {عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} المعنى: قلوبهم مقفلة، فلا يتدبرون، ولا يعون، ونكرت القلوب إرادة بعض القلوب (¬3)، وهي قلوب المنافقين وأعداء الدِّين. * * * ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 160)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 374)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 192 - 193). (¬3) "إرادة بعض القلوب" زيادة من "ت".

[25]

{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)}. [25] ونزل في اليهود الذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم يعرفونه: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} (¬1) أي: رجعوا إلى الكفر. {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} في التوراة، وهو أن محمدًا حق {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه} [البقرة: 89] {الشَّيْطَانُ} مبتدأ، خبره {سَوَّلَ} زَيَّنَ {لَهُمْ} أعمالَهم {وَأَمْلَى لَهُمْ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (وَأُمْلِي لَهُمْ) بضم الهمزة وكسر اللام، فأبو عمرو يفتح الياء على ما لم يسم فاعله، ويعقوب يسكنها على وجه الخبر من الله سبحانه عن نفسه أنّه يفعل ذلك، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة واللام، وقلب الياء ألفًا (¬2)؛ أي: أطال الشيطان لهم المدة، ومد لهم في الأمل. * * * {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)}. [26] {ذَلِكَ} الإضلالُ {بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطّبريّ" (22/ 179)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 119). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 201)، و "تفسير البغوي" (4/ 160 - 161)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 374)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 194 - 195).

[27]

وهم المشركون: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} التعاون على عداوة محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وتثبيط النَّاس عن الجهاد معه، قالوا ذلك سرًّا، فأظهره تعالى بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (إِسْرَارَهُمْ) بكسر الهمزة مصدر أَسَرَّ، وقرأ الباقون: بفتحها، جمع سِرّ (¬1). * * * {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)}. [27] {فَكَيْفَ} يعملون. {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ظهورهم بمقامع الحديد. قال ابن عبّاس: "لا يُتَوَفَّى أحدٌ على معصية، إِلَّا تضرب الملائكةُ وجهَه ودُبُرَهُ" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 601)، و"تفسير البغوي" (4/ 161)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 394)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 195). (¬2) انظر: "الكشَّاف" للزمخشري (4/ 329).

[28]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}. [28] {ذَلِكَ} التوفِّي {بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} من كتمان نعته -عليه السّلام- {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} أي: أبغضوا العمل بما يرضيه. قرأ أبو بكر عن عاصم: (رُضْوَانَهُ) بضم الراء، والباقون: بكسرها (¬1). {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها لذلك. * * * {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)}. [29] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أظنَّ المنافقون. {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} يعرفوا نفاقهم. * * * {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)}. [30] {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} أي: لو أردنا، لدللناك على المنافقين. {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} بعلامتهم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 394)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (6/ 195).

[31]

قال ابن عبّاس (¬1): قال أنس: ما أُخفيَ على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيء من أمر المنافقين بعد نزول هذه الآية (¬2). {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فحواه، المعنى: أنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمور المسلمين، فكان لا يتكلم عنده - صلى الله عليه وسلم - منافق إِلَّا عرفه، والأكابر يعرفون صدق المريد من كذبه بسؤاله وكلامه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} فيجازيكم بها. * * * {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}. [31] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنعاملنكم معاملة المختبرين؛ بأن نأمركم بالجهاد والقتال {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} والمراد: علم الظهور؛ أي: نبلوكم حتّى يظهر ما نخبر به عنكم من أفعالكم؛ من جهاد وصبر وغيرهما {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} نظهرها بسبب طاعتكم وعصيانكم (¬3). قرأ أبو بكر عن عاصم: (وَلَيَبْلُوَنَكمْ حَتَّى يَعْلَمَ)، (وَيَبْلُوَ) بالياء في الثلاثة؛ لقوله تعالى: (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)، وقرأهن الباقون: بالنون، لقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ ¬

_ (¬1) قوله: "ابن عبّاس" سقط من "ت". (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (16/ 252)، وذكره البغوي في "تفسيره" (4/ 161)، والزمخشري في "الكشاف" (4/ 330). (¬3) في "ت": "إبائكم".

[32]

لأَرَيْنَاكَهُمْ) (¬1)، وقرأ رويس عن يعقوب: (وَنَبْلُو) بإسكان الواو؛ أى ونحن نبلو، وقرأ الباقون: بفتحها ردًّا على قوله: (حَتَّى نَعْلَمَ) (¬2). * * * {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)}. [32] ونزل فيمن عصى الله وكره الإسلام: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} هم قريظة والنضير. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} بكفرهم وبصدِّهم. {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} يبطلها، فلا يرون لها ثوابًا. * * * {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)}. [33] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} بالمعاصي والكفر. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 201)، و"تفسير البغوي" (4/ 162)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 195 - 196). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 162)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 375)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 196).

[34]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)}. [34] ونزل في أصحاب القَليب ومَنْ جرى مجراهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ويدلُّ بمفهومه على أنّه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه. * * * {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)}. [35] {فَلَا تَهِنُوا} لا تضعفوا {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي: لا تدعوا إلى الصلح ابتداءً إذا لقيتم الكفار. قرأ حمزة، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (السِّلْمِ) بكسر السين، والباقون: بفتحها (¬1)، وهما لغتان بمعنى. {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْن} الغالبون {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} بالعون والنصرة. {وَلَنْ يَتِرَكُمْ} ينقصكم {أَعْمَالَكُمْ} أي: ثواب أعمالكم. * * * {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)}. [36] {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور، لا ثباتَ لها، فلا ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 604)، و"التيسير" للداني (ص: 201)، و"تفسير البغوي" (4/ 170)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 205).

[37]

تهنوا في الجهاد بسببها {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} الفواحشَ. {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} ثوابَ إيمانكم وتقواكم {وَلَايَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم} جميعَها، بل الزَّكاة المفروضة، وهي ربع العشر، فَطَيِّبوا أنفسَكم. * * * {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)}. [37] {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} يُلِحّ عليكم {تَبْخَلُوا} بها {وَيُخْرِجْ} البخل {أَضْغَانَكُمْ} أحقادَكم ومعتقداتكم السوء. قرأ يعقوب: (وَنُخْرِجْ) بالنون، والباقون: بالياء (¬1). * * * {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}. [38] {هَاأَنْتُمْ} قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، ونافع: بتسهيل الهمزة بين بين، وقرأ الكوفيون، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: بتحقيق الهمزة بعد الألف، وروي عن ورش: (هَآنْتُمْ) مدًّا بلا همزة، وعنه وجه ثان (هَئَنْتُمْ) بهمزة مقصورة بين الهاء والنون؛ مثل: سَأَلْتُم، وروي عن قنبل: كالوجه الثّاني عن ورش، أصلها أَأَنْتُمْ، قلبت الهمزة الأولى هاء؛ كقولهم هَرَقْتُ، وأَرَقْتُ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 141). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 602 و 607)، و"النشر في القراءات العشر" =

{هَؤُلَاءِ} أصلُه: أولاء، دخلت عليه هاء التنبيه، وهو في موضع النِّداء، يعني: أنتم يا هؤلاء المخاطبون، ثمّ استأنف فقال: {تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ما فرض عليكم. {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} بالزكاة المفروضة، و (يَبْخَلُ) رفع؛ لأنّ (مَنْ) هذه ليست بشرط؛ لاستئنافك {وَمَنْ يَبْخَلْ} بالصدقة والمفروض، و (يَبْخَلْ) جزم، لأنّ (مَنْ) هذه شرط، جوابه {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ} رفعٌ أيضًا. {عَنْ نَفْسِهِ} أي: عليها، المعنى: جزاءُ بخله مختص به. {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} عنكم وعن صدقتكم {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} عن الطّاعة {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} خيرًا منكم، وهم الأنصار. {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} في البخل والتولي ونحوهما، بل يكونوا خيرًا منكم، وأطوعَ لله، والله أعلم. * * * ¬

_ = لابن الجزري (1/ 400 - 401)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 198).

سورة الفتح

سُوْرَةُ الفَتح مدنية، نزلت على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منصرَفَهُ من الحديبية (¬1)، وهي بهذا في حكم المدني، وآيها: تسع وعشرون آية، وحروفها: ألفان وأربع مئة وثمانية وثلاثون حرفًا، وكلمها: خمس مئة وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}. [1] {إِنَّا فَتَحْنَا} الأكثرون على أنّه صلح الحديبية (¬2)، ونزلت السورة مؤانسة للمؤمنين، لأنّهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم، ومن تلك (¬3) المهادنة الّتي هادنهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت، ومذهِبَة ما كان في قلوبهم. وملخص القصة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة معتمرًا، لا يريد حربًا، وساق الهدي، وأحرم بالعمرة، وسار حتّى وصل إلى ثنية المزار مهبط الحديبية أسفل مكّة، والحديبية بئر، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1786)، كتاب: الجهاد، باب: صلح الحديبية في الحديبية، من حديث أنس بن مالك. (¬2) رواه البخاري (3939)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، عن أنس. (¬3) "تلك" زيادة من "ت".

ووقع من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - آية الماء في بئر الحديبية؛ حيث وضع فيه سهمه، وثاب الماء حتّى كفى الجيش. وتأهبت قريش للقتال، وبعثوا رسولهم إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إليهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يعلمهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائرًا ومعظمًا لهذا البيت، فلما وصل إليهم، أمسكوه وحبسوه، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قتل، فدعا النَّاس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايع النَّاس على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، حتّى قال سلمة بن الأكوع وغيره: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت" (¬1)، ثمّ أتاه الخبر أن عثمان لم يقتل، ثمّ وقع الصلح بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش؛ فإنهم بعثوا سهيل بن عمرو في الصلح، فأجاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ دعا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: "اكتب: بسم الله الرّحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللَّهُمَّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتب: باسمك اللَّهُمَّ، ثمّ قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال لعلي: امح رسول الله، قال: لا والله لا أمحوك أبدًا، قال: فأرنيه، فأراه إياه (¬2)، فمحاه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عن النَّاس عشر سنين، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (6780)، كتاب: الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام النَّاس، ومسلم (1860)، كتاب: الإمارة، باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال. (¬2) "إياه" زيادة من "ت".

[2]

وعهدهم دخل فيه"، وأشهدوا في الكتاب على الصلح رجالًا من المسلمين والمشركين، ثمّ نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه، وحلق رأسه، وفعل النَّاس كذلك (¬1)، ثمّ عاد إلى المدينة، حتّى إذا كان بين مكّة والمدينة، نزلت سورة الفتح. ودخل في (¬2) هذه السُّنَّة في الإسلام مثل من دخل فيه قبل ذلك وأكثر، فكان هذا الفتح الأعظم، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام، واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المسلمين خيرًا، واتفقت في ذلك الوقت (¬3) ملحمة عظيمة بين الروم وفارس، ظهرت فيها الروم، فكانت من جملة الفتح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسر بها والمؤمنون؛ لظهور أهل الكتاب على المجوس، وانحصاد الشوكة العظمى من الكفرة، والفتح: الظفر بالبلد عنوة أو صلحًا. {فَتْحًا مُبِينًا} أي: قضينا لك قضاء بيِّنًا. * * * {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)}. [2] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} هى لام (كي)؛ لكنها تخالفها في المعنى. قرأ ¬

_ (¬1) رواه مطولًا البخاري (2581)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، من حديث المسْوَر بن مخرمة، ومسلم (1784)، كتاب: الجهاد، باب: صلح الحديبية في الحديبية، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) "في" ساقطة من "ت". (¬3) "الوقت" زيادة من "ت".

[3]

أبو عمرو: (لِيَغْفِر لَّكَ) بإدغام الراء في اللام (¬1)، والمراد هنا: أن الله فتح لك؛ لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك؛ فكأنّها لام صيرورة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أنزلت عليَّ اللَّيلة سورة هي أحبُّ إليَّ من الدنيا" (¬2). {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} يعني: ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك. {وَمَا تَأَخَّرَ} ذنوب أمتك بدعوتك، وقيل: مقصد الآية: أنك مغفور لك، غير مؤاخذ بذنب أن لو كان. {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإظهارك وتعليتك على عدوك، والرضوان في الآخرة. {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: إلى صراط؛ أي: يثبتك على الدِّين، فجمع الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه السورة نعمًا مختلفة من الفتح المبين، وهو من أعلام الإجابة، والمغفرة، وهي من أعلام المحبة، وتمام النعمة، وهي من أعلام الاختصاص، والهداية، وهي من أعلام الولاية، فالمغفرة تبرئة من العيوب، وتمام النعمة بلاغ (¬3) الدرجة الكاملة، والهداية هي الدّعوة إلى المشاهدة. * * * {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)}. [3] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} وهو الّذي معه غلبة العدو، والظهور عليه، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 356)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 201). (¬2) رواه مسلم (1786)، كتاب: الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية في الحديبية، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) في "ت": "إبلاغ".

[4]

والنصر غيرُ العزيز: هو الّذي مضمنه الحماية ودفع العدو فقط. * * * {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)}. [4] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} الطمأنينة والوقار {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وهو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتّى اطمأنوا وعلموا أن وعد الله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق. {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} يقينًا {مَعَ إِيمَانِهِمْ} الأوّل، ويكثر تصديقهم. قال ابن عبّاس: بعث - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن لا إله إِلَّا الله، فلما صدقوه، زادهم الصّلاة، ثمّ الزَّكاة، ثمّ الصِّيام، ثمّ الحجِّ، ثمّ الجهاد (¬1). واختلف الأئمة في زيادة الإيمان ونقصانه، فقال أبو حنيفة: لا يزيد ولا ينقص، ولا استثناء فيه، وقال الثّلاثة: يزيد وينقص، ويجوز الاستثناء فيه. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلو أراد نصر دينه بغيركم، لفعل. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بخلقه {حَكِيمًا} في صنعه، وقوله: (وَكَانَ)؛ أي: كان ويكون، فهي دالة على الوجود بهذه الصِّفَة، لا معينة وقتًا ماضيًا. * * * ¬

_ (¬1) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (22/ 203). وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 168)، و"تفسير القرطبي" (16/ 264)، و"الدر المنثور" للسيوطي (7/ 514).

[5]

{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)}. [5] روي أنه لما أنزلت: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، تكلم فيها أهل الكتاب، وقالوا: كيف نتبع من لا يعرف ما يفعل به وبالناس معه؟ فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}، فلما سمعها المؤمنون، قالوا: هنيئًا مريئًا، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فنزل: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}. قال أهل المعاني: وإنما كررت اللام في قوله: (لِيُدْخِلَ) بتأويل تكرير الكلام، مجازه: إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، إنا فتحنا لك؛ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار (¬1). {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} يسترها {وَكَانَ ذَلِكَ} الإدخال والتكفير. {عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)}. [6] روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بجماعة، فقالوا: ما لنا عند الله؟ فنزل: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أن الله لا ينصر محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (9/ 43).

[7]

{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} بالعذاب والهلاك. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (دَائِرَةُ السُّوءِ) بضم السين، وقرأ الباقون: بفتحها كالحرف الأول (¬1)، وهما لغتان، غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء، والمضموم جرى مجرى الشر الذي هو نقيض الخير، يقال: أراد به السُّوْء، وأراد به الخير، وسَمَّى المصيبة التي دعا بها عليهم: (دائِرَة) من حيث يقال في الزمان: إنه يستدير، ألا ترى أن السنة والشهر كأنها مستديرات، تذهب على ترتيب، وتجيء من حيث هي تقديرات للحركة العظمى، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الزمانَ قد استدار كهيئته يومَ خَلَق الله (¬2) السمواتِ والأرضَ" (¬3)، ويحسُن أن تسمى المصيبة دائرة؛ من حيث إنها تدير: تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء من النقطة. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} أبعدهم من رحمته. {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} جهنم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)}. [7] {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ} الملائكة {وَالْأَرْضِ} الغزاة في سبيل الله. {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 603)، و"التيسير" للداني (ص: 119)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 201). (¬2) لفظ الجلالة "الله" لم يرد في "ت". (¬3) رواه البخاري (3025)، كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين، ومسلم (1679)، كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.

[8]

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)}. [8] {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على أمتك يوم القيامة. {وَمُبَشِّرًا} بالجنة مَنْ عمل خيرًا من أهل الإيمان. {وَنَذِيرًا} منذرًا أعداءَ الله بالنار، ومن عمل سوءًا. ... {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}. [9] {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} يُقَوُّوه وينصروه {وَتُوَقِّرُوهُ} يعظِّموه ويفخِّموه، والهاء في (يُعَزِّرُوهُ ويُوقِّرُوهُ) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهاهنا وقف، والهاء في {وَتُسَبِّحُوهُ} لله -عز وجل- أي: يصلوا له. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} بالغداة والعشي. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (ليُؤْمِنُوا) (وَيُعَزِّرُوهُ وَيُوَقِّرُوه وَيُسَبِّحُوهُ) بالغيب في الأربعة على استمرار الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الباقون: بالخطاب للناس (¬1)، على معنى: قل لهم. ... {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}. [10] {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} يا محمد بيعةَ الرضوان بالحديبية على ألَّا ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 603)، و"التيسير" للداني (ص: 201)، و"تفسير البغوي" (4/ 169)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 202 - 203).

[11]

يفروا، وخبر (إِنَّ) {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: حولُه وقُوَّتُه فوق حولهم وقوتهم؛ أي: في نصرك ونصرهم، وهذا تعديد نعمة عليهم مستقبَلة مخبر بها. {فَمَنْ نَكَثَ} نقضَ البيعةَ {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ} فإنما يرجع وبالُ نقضه. {عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} ثبت على البيعة. قرأ حفص عن عاصم: (عَلَيْهُ الله) بضم الهاء، حذفت الواو لسكونها، وبقيت الضمة تدل عليها، وقرأ الباقون: بكسر الهاء، أبدلوا من الضمة كسرة (¬1)، يقال: أوفى بالعهد، ووفَّى به: إذا لم ينقضه. {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وهو الجنة فما فوقها. قرأ أبو عمرو، والكوفيون، ورويس عن يعقوب: (فَسَيُؤْتيِه) بالياء؛ أي: فسيؤتيه الله، وقرأ الباقون: بالنون التي للعظمة (¬2). ... {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)}. [11] ولما سار - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة عام الحديبية، طلب ناسًا من الأعراب ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 603)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 204). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 201)، و "تفسير البغوي" (4/ 169)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 375)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 204).

[12]

ليرتحلوا معه، فتخلفوا عنه جبنًا، واعتلُّوا بالأموال والأولاد، فنزل: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ} عنك {مِنَ الْأَعْرَابِ} إذا رجعت من الحديبية. {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} اللهَ ليغفر لنا تخلُّفَنا عنك، فكذبهم الله في اعتذارهم، فقال: {يَقُولُونَ} يُظهرون. {بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} لأنهم لا يبالون باستغفارك. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} سوءًا {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} أي: لا يقدر على دفع ضر ولا جلب نفع إلا هو تعالى. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ضُرًّا) بضم الضاد، والباقون: بفتحها (¬1)، وهما لغتان، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم أنه إن أراد شيئًا من ذلك، لم يقدر أحد على دفعه {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيعلم تخلفكم وقصدَكم فيه. ... {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)}. [12] {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} لظنكم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون. قرأ الكسائي، وهشام: (بَل ظَّنَنْتُمْ) بإدغام اللام في الظاء، والباقون: بالإظهار (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 604)، و"التيسير" للداني (ص: 201)، و"تفسير البغوي" (4/ 170)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 205). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 356)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 205).

[13]

{وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} فتمكن فيها {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} وهو سائر ما يظنون بالله ورسوله من الأمور الزائغة {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} هلكى جمع بائر؛ أي: لا تصلحون لشيء من الخير. ... {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)}. [13] {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} وهي النار المؤججة، ونكر (¬1) (سَعِيرًا)؛ للتهويل. ... {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)}. [14] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يدبره بقدرته وحكمته. {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} رحمتُه سابقة لغضبه؛ حيث يكفِّر السيئات باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة. ... {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)}. [15] {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} عن الحديبية. {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ} أي: غنائم خيبر. ¬

_ (¬1) في "ت": "وتنكير".

[16]

{لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} لنشهد معكم قتال أهلها، وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر، وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضًا من غنائم أهل مكة؛ لأنهم انصرفوا منها على صلح، ولم يصيبوا منها (¬1) شيئًا، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (كَلِمَ اللهِ) بكسر اللام من غير ألف، جمع كلمة، وقرأ الباقون: بفتح اللام وألف بعدها (¬2)، والمعنى فيه متقارب، ومعناه: يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر. {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} إلى خيبر. {كَذَلِكُمْ} أي: كقولي لكم {قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} من قبلِ عَوْدِنا. {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} فلذلك قلتم هذا القول. {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ} من الدين {إِلَّا قَلِيلًا} منهم، وهم المؤمنون. ... {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)}. [16] {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} عن الحديبية، وكرر ذكرهم بهذا الاسم ¬

_ (¬1) في "ت": "منهم". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 604)، و"التيسير" للداني (ص: 201)، و"تفسير البغوي" (4/ 171)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 206).

مبالغةً في الذم، وإشعارًا بشناعة التخلف؛ أي: قل لهم إن كنتم تريدون الغزو: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وهم فارس والروم، أو هم بنو حنيفة والمرتدون، قال منذر بن سعيد: يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ لأن أبا بكر قاتل أهل الردة، وعمر قاتل فارس والروم (¬1). {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: يكون أحد الأمرين لا غير، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم، أو يعطي الجزية. وعن رافع بن خديج قال: واللهِ لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم مَنْ هم، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم أريدوا (¬2). {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} تُعْرِضوا {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} عامَ الحديبية. {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهو النار. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 172)، و"تفسير القرطبي" (16/ 272). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (19/ 219) عن ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 172)، و"تفسير القرطبي" (16/ 273).

[17]

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}. [17] فلما نزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} في التخلف عن الجهاد. {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} هذا عذر لهم في تخلفهم عن الحديبية. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (نُدْخِلْهُ) (نُعَذِّبْهُ) بالنون فيهما للعظمة، والباقون: بالياء فيهما؛ لقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) (¬1). ... {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)}. [18] {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} كانوا ألفًا وثلاث مئة، وقيل غير ذلك. {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وكانت سَمُرة {فَعَلِمَ} الله {مَا فِي قُلُوبِهِمْ} ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 201)، و"تفسير البغوي" (4/ 172)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 207).

[19]

من الصدق والوفاء {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ} الطمأنينة {عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ} جازاهم {فَتْحًا قَرِيبًا} هو فتح خيبر بعد انصرافه من مكة. ... {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)}. [19] {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} من أموال اليهود، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله بينهم {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} غالبًا {حَكِيمًا} مراعيًا مقتضى الحكمة. ... {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)}. [20] {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} أي: مغانم خيبر. {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} هم قبائل من أسد وغطفان هموا أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة في غيبتهم في غزوة خيبر، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. {وَلِتَكُونَ} هذه الكفة {آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} على صدقك. {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} يثبتكم على الإسلام. ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعضَ المحرم، ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع من الهجرة إلى خيبر، وهي على ثماني بُرُد من المدينة، فأشرف عليها، وقال لأصحابه: "قفوا،

ثم قال: اللهمَّ ربَّ السمواتِ وما أَظْلَلْنَ، وربَّ الأَرَضِينَ وما أَقْلَلْنَ، وربَّ الشياطينِ وما أَضْلَلْنَ، وربَّ الرياح وما ذَرَيْنَ، نسألك خيرَ هذه القرية وخيرَ أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا باسم الله"، ونزل عليها ليلًا، وكان إذا غزا لم يُغر حتى يصبح, فإن سمع أذانًا، كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذانًا، أغار عليهم، فلما أصبحوا، خرجوا إلى عملهم بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوه عادوا وقالوا: محمدٌ والخميس، يعنون: الجيش، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبرُ خربتْ خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساءَ صَباحُ المنذَرين"، ثم حاصرهم وضيق عليهم، فخرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: قدْ علمتْ خيبرُ أَني مَرْحَبُ ... شاكي السلاح بطلٌ مجرَّبُ أطعنُ أحيانًا وحينًا أضربُ ... إذا الليوثُ أقبلتْ تلتهب فبرز إليه عامر وقال: قد علمتْ خيبرُ أني عامرُ ... شاكى السلاح بطلٌ مغامرٌ فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله، فكانت فيها نفسُه، فمات رضي الله عنه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "له أجرُه مرتين"، وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قد تخلف بالمدينة لرمد لحقه، فلما أصبحوا، جاء علي، فتفل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، فما (¬1) اشتكى رمدًا بعدها، فلما مات عامر، برز علي لمرحب بعد أن أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية، وقال رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) في "ت": "فلما".

أنا الذي سمتني أُمِّي حَيْدَرَهْ ... أَكِيلُهم بالسيفِ كيلَ السَّنْدَرهْ ليثٌ بغابات شديدُ القسوره واختلف بينهما ضربتان، فسبقه علي -رضي الله عنه- وضرب رأسه فقتله، فسقط عدو الله ميتًا (¬1). وكان فتح خيبر في صفر على يد علي رضي الله عنه، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأموال، وفتح الحصون، ورجع إلى المدينة، وأصاب سبايا منهن صفية بنت حيي، فاصطفاها - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، وجعل عتقها صداقها، وهو مذهب الإمام أحمد -رضي الله عنه- مستدلًا بذلك، فإذا قال الرجل لأمته القن، أو المُدَبَّرة، أو المكاتبَة، أو أم ولده، أو المعلق عتقُها على صفة: أعتقتُك وجعلتُ عتقَك صداقَك، أو جعلت عتقَ أمتي صداقَها، أو صداق أمتي عتقها، أو قد أعتقتها (¬2) وجعلت عتقها صداقها، أو أعتقتك على أن أتزوجك وعتقك صداقك، صح إن كان متصلًا (¬3) بحضرة شاهدين، وينعقد النكاح والإعتاق، ويصح جعل صداق مَنْ بعضُها رقيق عتقَ ذلك البعض، وإن طلقها قبل الدخول، رجع عليها بنصف قيمتها، فإن لم تكن قادرة، أجبرت على الاستسعاء، ولو أعتقها بسؤالها على أن تنكحه، أو قال: أعتقتك على أن تنكحيني، ورضيت، صح، ثم إن نكحته، وإلا لزمتها قيمة نفسها، وهذا من مفردات مذهب أحمد؛ خلافًا للثلاثة رضي الله عنهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قراد وغيرها. من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. (¬2) "أو قد أعتقتها" زيادة من "ت". (¬3) "متصلًا" زيادة من "ت".

[21]

وفي غزوة خيبر أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) الشاة المسمومة، فأخذ منها قطعة ولاكها، ثم لفظها، وقال: "تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة" (¬2). ... {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}. [21] {وَأُخْرَى} أي: وعدكم فتح بلدة أخرى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} يعني: بلاد فارس والروم، وقيل: الإشارة إلى مكة، قال ابن عطية: وهذا هو القوي الذي يتسق معه المعنى ويتأيد (¬3)، وقيل: ومعنى (وَأُخْرَى)؛ أي: مغانم هوازن في غزوة حنين، ومعنى (لَمْ تقدِرُوا عَلَيْهَا)؛ لما كان فيها من اضطراب المسلمين. {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} بالقدرة والقهر لأهلها؛ أي: قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء. ... ¬

_ (¬1) "أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - زيادة من "ت". (¬2) رواه أبو داود (4512)، كتاب: الديات، باب: فيمن سقى رجلًا سمًّا أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 68)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 245). (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 135).

[22]

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)}. [22] {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: أسد وغطفان وأهل خيبر. {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} لانهزموا {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يحرسهم. {وَلَا نَصِيرًا} ينصرهم. ... {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)}. [23] {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} أي: كسنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} تغييرًا. ... {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)}. [24] {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} يعني: كفار قريش. {بِبَطْنِ مَكَّةَ} بداخلها. {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ} أي: أظهركم عليهم، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مئة إلى الحديبية يطلبون غِرَّة في عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أحسَّ بهم المسلمون، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد، وسماه سيف الله في جملة من الناس، فهزمهم حتى أدخلهم مكة،

[25]

وأسر منهم جملة، فسيقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنَّ عليهم وأطلقهم، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب، وكف أيدي المسلمين عنهم بدخولهم مكة، تلخيصه: حجز بينكم بعد ظفركم بهم. {عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} فيجازيهم. قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُونَ) بالغيب على ذكر الكفار وتمردهم، وقرأ الباقون: بالخطاب للكفار (¬1). ... {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)}. [25] {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: كفار مكة {وَصَدُّوكُمْ} منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عن دخوله والوصول إليه {وَالْهَدْيَ} أي: وصدُّوا الهديَ، وكانت سبعين بدنة {مَعْكُوفًا} محبوسًا، نصب على الحال. {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} مكانه الذي ينحر فيه عادة، وهو الحرم، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في محل النحر للمُحْصَر في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [الآية:196]. {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} يعني: المستضعفين بمكة. {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم؛ لاختلاطهم بالمشركين {أَنْ تَطَئُوهُمْ} ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 604)، و"التيسير" للداني (ص: 201)، و"تفسير البغوي" (4/ 181)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 208).

[26]

بالقتل. قرأ أبو جعفر: (تَطَوْهُمْ) بإسكان الواو بغير همز، والباقون: بالهمز مضمومًا (¬1). {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ} من جهتهم {مَعَرَّةٌ} مشقة وإثم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بـ {أَنْ تَطَئُوهُمْ}، أي: تطؤوهم غيرَ عالمين بهم، وجواب (لَوْلاَ) محذوف، تقديره: لأذنَ لكم في دخولها، ولكنه حالَ بينكم وبين ذلك. {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} في دين الإسلام. {مَنْ يَشَاءُ} من أهل مكة بعدَ الصلح قبل أن تدخلوها. {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: تميزوا؛ يعني: المؤمنين من الكفار، وجواب (لَوْ تزَيَّلُوا): {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} بدخولكم مكة {عَذَابًا أَلِيمًا} بالسبي والقتل بأيديكم. ... {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}. [26] {إِذْ} أي: واذكر إذ {جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} الأَنَفَة حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البيت، ولم يقروا ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأنكروا محمد رسول الله، قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 209).

وإخواننا، ثم يدخلون علينا، فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللات والعزى لا يدخلونها علينا، فهذه. {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} التي دخلت قلوبهم. قرأ أبو عمرو، وهشام: (إِذ جَّعَلَ) بإدغام الذال في الجيم، والباقون: بالإظهار (¬1). {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} أي: الثبات والوقار {عَلَى رَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم -. {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} حتى لم يدخلهم ما دخل المشركين من الحمية، فيعصوا الله في قتالهم. {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} هي كلمة الشهادة؛ أي: يثبتهم عليها {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} ممن أباها من المشركين {وَأَهْلَهَا} في علم الله وسابق قضائه لهم، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن الكفار من قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية، فيروى أنه لما انعقد، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة، وعلت دعوة الإسلام، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك، ويقتضي ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في عام الحديبية في أربع عشرة مئة، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بنحو عامين في عشرة آلاف فارس - صلى الله عليه وسلم -. ... ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 356)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 209).

[27]

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}. [27] روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه قبل خروجه إلى الحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين، ويحلقون ويقصرون، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا، وظنوا أنه يكون في ذلك العام، فلما انصرفوا ولم يدخلوا، قال المنافقون: وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا} التي رآها في النوم {بِالْحَقِّ} بالصدق. قرأ الكسائي، وخلف: (الرُّؤْيَا) بالإمالة، والباقون: بالفتح (¬1). {لَتَدْخُلُنَّ} اللام لام القسم الذي يقتضيه (صدق)؛ لأنها من قبيل تبين وتحقق ونحوها مما يعطي القسم، تقديره: والله لتدخلن. {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ودخول الاستثناء في إخبار الله -عز وجل- فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة؛ تعليمًا لعباده أن يقولوا في عِداتهم مثلَ ذلك متأدبين بأدب الله، ومقتدين بسنته، أو يريد: لتدخلن جميعًا إن شاء الله، ولم يمت منكم أحد، أو: كان ذلك على لسان ملك، فأدخل الملك إن شاء الله، أو: هي حكاية ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، وقص عليهم، وقيل: هو متعلق بـ (آمِنِينَ)، وقيل: (إنْ) بمعنى (إذْ)؛ فكأنه قال: إذ شاء الله، قال ابن عطية: وهذا أحسن في معناه، لكن كون (إن) ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 356)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 210).

[28]

بمعنى (إذ) غير موجود في لسان العرب، انتهى (¬1). {مُحَلِّقِينَ} حال من (آمِنِينَ) مفعوله {رُءُوسَكُمْ} أي: جميعَ شعورها {وَمُقَصِّرِينَ} بعض شعورها، وتقدم حكم الحلق والتقصير في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [الآية:196]. {لَا تَخَافُونَ} أبدًا {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} من الحكمة في تأخير الفتح. {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أي: فتح مكة {فَتْحًا قَرِيبًا} هو فتح خيبر، وتحققت الرؤيا في العام القابل، فكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة. ... {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)}. [28] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} ملتبِسًا به {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ليعليَه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقًّا، وإظهار فساد ما كان باطلًا، وهذا موجود الآن في دين الإسلام؛ فإنه قد عم أكثر الأرض، وظهر على كل دين. {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي: شاهدًا بهذا الخبر، ومعلمًا به، وعلى هؤلاء الكفار المنكرين أمرَ محمد - صلى الله عليه وسلم - الرادين في صدره، ومعاقبًا لهم بحكم الشهادة. ... ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 139).

[29]

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}. [29] {مُحَمَّدٌ} مبتدأ، خبره {رَسُولُ اللَّهِ} شهد له بالرسالة، وتقدم تفسير (محمد) في سورة آل عمران، وفي الأحزاب، ثم قال مبتدئًا: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} من المؤمنين {أَشِدَّاءُ} صفة الصحابة خاصة، فلا يكون - صلى الله عليه وسلم - داخلًا مع الصحابة في الشدة {عَلَى الْكُفَّارِ} غلاظ عليهم كالأسد في فريسته. {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} متعاطفون بعضهم على بعض كالوالد مع الولد. {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} لأنهم مشغولون في الصلاة في أكثر أوقاتهم. {يَبْتَغُونَ} يطلبون {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} أن يدخلهم الجنة {وَرِضْوَانًا} أن يرضى عنهم. قرأ أبو بكر عن عاصم: (رُضْوَانًا) بضم الراء، والباقون: بكسرها (¬1). {سِيمَاهُمْ} علاماتهم {فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} وهو نور وبياض يُعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا، وروي أن مواضع السجود تكون في وجوههم كالقمر ليلة البدر. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 211).

{ذَلِكَ} الوصف المذكور {مَثَلُهُمْ} أي: صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. {فِي التَّوْرَاةِ} وتعطف عليه. {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} أي: ذلك مثلهم في الكتابين {كَزَرْعٍ} تمثيل مستأنف؛ أي: هم كزرع {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} فرخه؛ يقال: أشطأ الزرع: إذا فرخ. قرأ ابن كثير، وابن ذكوان عن ابن عامر: بفتح الطاء، والباقون: بإسكانها (¬1)، وهما لغتان كالنهْر والنهَر، وقرأ أبو عمرو: (أَخْرَج شَّطْاَهُ) بإدغام الجيم في الشين (¬2). {فَآزَرَهُ} قرأ ابن ذكوان: بقصر الهمزة، والباقون: بالمد (¬3)؛ أي: قواه؛ من المؤازرة، وهي المعاونة {فَاسْتَغْلَظَ} غلظ ذلك الزرع. {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} جمع ساق؛ أي: قوي واستقام على أصوله، وهذا مثل ضربه الله لنبيه، خرج وحده، فآزره بأصحابه. قرأ قنبل عن ابن كثير: (سُؤْقِهِ) بهمزة ساكنة، وعنه وجه ثان: بهمزة مضمومة، وقرأ الباقون: بغير همز (¬4). {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} الذين زرعوه، وهذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وقوته ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 604)، و"التيسير" للداني (ص: 202)، و"تفسير البغوي" (4/ 191)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 213). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 356)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 213). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 605)، و"التيسير" للداني (ص: 202)، و"تفسير البغوي" (4/ 191)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 214). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 605)، و"التيسير" للداني (ص: 168)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 214 - 215).

بالصحابة بأن يكونوا قليلًا فيكثروا وضعفاء، فيقوون، يوضح ذلك أن علله بقوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} أي: إنما كثرهم وقواهم؛ ليكونوا غيظًا للكافرين. قال عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي بن أبي طالب. ومن غيظ الكفار قولُ عمر بمكة: "لا أعبد (¬1) الله سرًّا بعد هذا اليوم" (¬2). وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أرحمُ أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقُهم حياءً عثمان، وأقضاهم عليٌّ، وأقرؤهم أُبي بن كعب، وأفرضهم زيدُ بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وما أظلت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة أصدقَ من أبي ذر، ولكل أمة أمين، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" رضي الله عنهم أجمعين (¬3). ¬

_ (¬1) في "ت": "لا عبد" (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 192). (¬3) رواه الترمذي (3791)، كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل وزيد ابن ثابت وأبي عبيد بن الجراح رضي الله عنهم، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (154) في المقدمة، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. دون قوله: "وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر". وقد رواه الترمذي (3802)، كتاب: المناقب. باب: مناقب أبي ذر رضي الله عنه، وابن حبان في "صحيحه" (7132)، وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} و (مِنْهُمْ) لبيان الجنس وليست للتبعيض؛ لأنه وعد للجميع. {وَأَجْرًا عَظِيمًا} يعني: الجنة، وقد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في هذه الآية، وهي {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} إلى آخر السورة، أول حروف المعجم فيها ميم من (محمد)، وآخرها صاد من (الصالحات)، وتقدم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [الآية: 154]، وليس في القرآن آيتان كل آية حوت حروف المعجم غيرهما (¬1) من دعا الله بهما, استجيب له، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) من قوله (ص: 347): "وقيل: الإشارة إلى مكة" إلى هنا سقط من "ش".

سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية بإجماع من أهل التأويل، وآيها: ثماني عشرة آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وثلاث وأربعون كلمة، وهذا أول المفصل على الراجح من مذهب الشافعي، وبعض (¬1) الأقوال المعتمدة عند أبي حنيفة، وعنه قول آخر معتمد: أن أوله (ق). قال - صلى الله عليه وسلم -: "فضلني ربي بالمفصل" (¬2)، وتقدم في أول التفسير أن المفصل من القرآن هو ما بعد الحواميم وقصار السور إلى آخر القرآن، وسميت مفصلًا؛ لكثرة الفصولات فيها بسطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لأنها سور قصار يقرب تفصيل كل سورة من الأخرى، فكثر التفصيل فيها، والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}. ¬

_ (¬1) في "ت": "وأحد". (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 107)، والطيالسي في "مسنده" (1012)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 75)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2415)، وغيرهم من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.

[1]

[1] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ يعقوب: (تَقَدَّمُوا) بفتح التاء والدال؛ من التقدم؛ أي: لا تتقدموا، على حذف إحدى التاءين، وقرأ الباقون: بضم التاء وكسر الدال؛ من التقديم (¬1)؛ أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه، المعنى: لا تفعلوا ولا تقولوا شيئًا حتى يحكما به، ويأذنا فيه، ولا تفتاتوا عليهما، وقد كانت عادة العرب الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء، ويفعل ما أحب، فمشى بعض الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض ذلك، فربما قال قوم: لو نزل كذا وكذا في معنى كذا، ولو فعل الله كذا، أو ينبغي أن يكون كذا، وأيضًا فإن قومًا ذبحوا ضحاياهم قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقومًا فعلوا في بعض خروجه وغزواته أشياء بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك، وتحقيق معنى الآية الأمرُ بتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته، وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، وكره بعضهم رفع الصوت في مجالس الفقهاء؛ تشريفًا لهم؛ إذ أنهم (¬2) ورثة الأنبياء. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة أمره {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأحوالكم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 197)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 375)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 219). (¬2) في "ت": "هم".

[2]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)}. [2] ونزل فيمن رفع صوته لدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثابت بن قيس (¬1) بن شماس، وكان جهوري الصوت، وربما كان يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتأذى بصوته: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} (¬2) إذا نطقتكم. {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إذا نطق {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} إذا ناجيتموه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي: لا تغلظوا له الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمد يا أحمد كما ينادي بعضكم بعضًا، ولكن فخموه، وقولوا له قولًا لينًا: يا رسول الله! يا نبي الله! نظيره: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. {أَنْ تَحْبَطَ} أي: مخافة أن تبطل {أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. ... {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}. [3] فلما نزل، دخل ثابت في بيته، فجعل يبكي، وقال لامرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول: لا أخرج حتى يتوفاني الله، أو يرضى عني رسوله، إني رفيع الصوت، وإني أخاف أن يحبط عملي، وأكون من أهل ¬

_ (¬1) "بن قيس" زيادة من "ت". (¬2) رواه مسلم (119)، كتاب: الإيمان، باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[4]

النار، فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال "أما (¬1) ترضى أن تعيش حميدًا وتموتَ شهيدًا وتدخلَ الجنة؟ "، فقال؛ رضيتُ ببشرى الله ورسوله، ولا أرفع صوتي أبدًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} (¬2) إجلالًا له. {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي: اختبرها بأنواع المحن {لِلتَّقْوَى} أي: لتظهر التقوى بالاختبار وصد النفس عن مرادها {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} واستُشهد ثابت يوم القيامة في حرب مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-. ... {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)}. [4] ونزل في وفد بني تميم حين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فدخلوا المسجد، ودنوا من حُجَر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي تسعة، فعجلوا، ولم ينتظروا، ونادوا بجملتهم: يا محمد! اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زين، وذمنا شين، فتربص مدة، ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "إنما ذلكم اللهُ الذي مدحُه زَيْن وذمُّه شَيْن": {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} (¬3) جمع حجرة، وهو ما يحجر عليه من الأرض بحائط، والمراد: حجرات نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. قرأ ¬

_ (¬1) في "ت": "إنما". (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (20425)، والطبري في "تفسيره" (26/ 119)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1310)، والحاكم في "المستدرك" (5034). (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 146)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 106)، و"تفسير الثعلبي" (9/ 73).

[5]

أبو جعفر: (الحُجَرَاتِ) بفتح الجيم، والباقون: بضمها (¬1)، وهما لغتان، فكان كل واحد ينادي من وراء حجرة؛ لأنهم لم يتحققوا مكانه، والإنكار إنما وقع لأنهم نادوه من ظاهر الدار بجفاء وغلظة مناداةَ الأعرب. {أَكْثَرُهُمْ} جهال {لَا يَعْقِلُونَ} إذ العقل يقتضي حسنَ الأدب، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم فقال: "هم جُفاةُ بني تميم، لولا أنهم من أشدِّ الناسِ قتالًا للأعور الدجَّال، لدعوتُ الله عليهم أن يُهلكهم" (¬2). ... {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}. [5] {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} أي: ولو ثبت صبرهم وانتظارهم. {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ} الصبر. {خَيْرًا لَهُمْ} وأحسنَ لأدبهم، والصبر: حبسُ النفس عن أن تنازع إلى هواها. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 200)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 220). (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" (9/ 77)، من حديث سعد بن عبد الله. وقد روى البخاري (2405)، كتاب: العتق، باب: من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع .. ، ومسلم (2525)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل غفار وأسلم وجهينة ومزينة وتميم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما زلت أحبُّ بني تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيهم، سمعته يقول: "هم أشدُّ أمتي على الدجال".

[6]

{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب (¬1)، والتاركين تعظيم الرسول. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}. [6] روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه إلى بني المصطلق مُصَدِّقًا، وكان بينه وبينهم عدواة في الجاهلية، فلما سمع به القوم، خرجوا يتلقونه تعظيمًا لأمر رسول الله، فخافهم، فرجع من الطريق هاربًا، فجاء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إنهم قد منعوا الصدقة، وهموا بقتلي، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهَمَّ بغزوهم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: يا رسول الله! خرجنا نتلقاه، فرجع، فخشينا أن يكون قد رده كتاب أتاه منك، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم في قولهم، وأرسل إليهم بعد عودهم إلى بلادهم خالد بن الوليد، فلم ير فيهم إلا الطاعة والخير، فانصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره بذلك، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} (¬2) يعني: الوليد بن عقبة {بِنَبَإٍ} بخبر {فَتَبَيَّنُوا} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (فَتَثَبَّتُوا) بالتاء والثاء؛ من التثبت؛ أي: توقفوا، وقرأ الباقون: بالياء والنون؛ من التبين (¬3)؛ أي: ¬

_ (¬1) "الأدب" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" (4/ 187)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 146). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 97)، و"الكشف" لمكي (1/ 394)،=

[7]

تفحصوا، وتنكير (فَاسِقٌ) يؤذن بالاحتراز من كل فاسق. {أَنْ تُصِيبُوا} كيلا تصيبوا بالقتل {قَوْمًا} برآء {بِجَهَالَةٍ} جاهلين بحالهم. {فَتُصْبِحُوا} فتصيروا {عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} مغتمين. ... {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)}. [7] {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} إن كذبتم، أخبره الله، فتفتضحوا. {لَوْ يُطِيعُكُمْ} يقبل منكم {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} الذي تخبرونه به، فيحكم برأيكم {لَعَنِتُّمْ} لأثمتم وهلكتم. {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} فجعله أحبَّ الأديان إليكم. {وَزَيَّنَهُ} حَسَّنه {فِي قُلُوبِكُمْ} بالبرهان، وثبته فيها. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} الكذبَ {وَالْفُسُوقَ} الخروجَ عن الطاعة {وَالْعِصْيَانَ} جميع معاصي الله، ومعنى تحبيب الله وتكريهه: اللطف والإمداد بالتوفيق، ثم عاد من خطاب المؤمنين إلى الإخبار عنهم، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} الثابتون على دينهم. ... ¬

_ = و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 220 - 221).

[8]

{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}. [8] {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن ما قبله هو بمعناه؛ إذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين {حَكِيمٌ} بإنعامه عليهم بالتوفيق. ... {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}. [9] روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه، وركب حمارًا، فمر بعبد الله بن أبي بن سلول، فقال عبد الله بن أبي (¬1) لما غشيَه حمارُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تغبروا علينا، والله لقد آذاني نتنُ حمارك، فقال عبد الله بن رواحة لابن أبي: واللهِ لحمارُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أطيبُ ريحًا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، فتشاتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، وكان فيمن غضب لابن أبي مؤمنون، وقيل غير ذلك، فنزل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬2) جُمع نظرًا إلى المعنى؛ لأن كل ¬

_ (¬1) "ابن سلول فقال عبد الله بن أبي" زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري (2545)، كتاب: الصلح، باب: ما جاء في الإصلاح بين الناس، ومسلم (1799)، كتاب: الجهاد والسِّير، باب: في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أنس -رضي الله عنه- وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 203).

طائفة جماعة {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} بالنصح والدعاءِ إلى حكم الله تعالى، وثُني نظرًا إلى اللفظ. {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} بأن كانت الباغية مبطلة، والأخرى محقة. {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ترجع إلى حكمه المذكور في كتابه من الصلح. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (تَفِيءَ إِلَى) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية بين اللفظين، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزتين (¬1). {فَإِنْ فَاءَتْ} رجعت عن البغي {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بالإنصاف {وَأَقْسِطُوا} اعدلوا. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} والقَسْط بالفتح الجور؛ من القسط: اعوجاج في الرجلين، و -بالكسر-: العدل، وفعله أقسط، وهمزته أصلية (¬2)؛ أي: أزيلوا الجور، يقال: قسط: جار، وأقسط: عدل، والباغي في الشرع: هو الخارج على إمام العدل. وأما حكم قتال أهل البغي، فقد اتفق الأئمة على أن نصب الإمام فرض كفاية، وتنعقد الإمامة بالبيعة، وباستخلاف (¬3) الإمام، وقهرِ قرشيٍّ حر ذكر، ويحرم قتاله بالاتفاق، فإذا خرج على الإمام طائفة ذات شوكة بتأويل ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 397) ,و"معجم القراءات القرآنية:" (6/ 221 - 222). (¬2) في "ت": "للسلب". (¬3) في "ت": "وبالاستخلاف".

سائغ، ونصبوا إمامًا، وقالوا: الحق معنا، دعاهم، وكشف شبهتهم التي استندوا إليها في خروجهم عن طاعته، وأزال ما يذكرونه من مظلمة؛ فإن فاؤوا، وإلا أبيح قتالهم بالاتفاق حتى يفيئوا إلى أمر الله، فإذا فاؤوا، كف عنهم، فإن لم يكن لهم شوكة، أو لم يكن تأويل، أو لم ينصبوا إمامًا، فقطاع طريق تقدم حكمهم في سورة المائدة عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]. واختلفوا في اتباعِ مدبرِ البغاةِ، وقتلِ جريحهم، فقال أبو حنيفة: إن كان لهم فئة يرجعون إليها، جاز ذلك، وإلا فلا، وقال الثلاثة: لا يجوز. واتفقوا على أن أموالهم يحرم أخذها، وهي باقية لهم. واختلفوا هل يجوز أن يستعان على حربهم بسلاحهم؟ فقال الشافعي، وأحمد: لا يجوز، وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز مع قيام الحرب، فإذا انقضت، ردت إليهم. واتفقوا على أن البغاة إذا أخذوا خراجًا أو جزيةَ ذمي، فإنه يلزم أهل العدل أن يحتسبوا بذلك، بخلاف عن مالك. واتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي وعكسه من نفس ومال حالَ الحرب، فلا ضمان فيه، وتقبل شهادة البغاة (¬1) وقضاء قاضيهم فيما يقبل فيه قضاء قاضينا بالاتفاق بخلاف عن مالك، ويحرم سبي ذراريهم بالاتفاق، ومن أسر منهم من رجل أو امرأة أو صبي، حُبس حتى ينقضي الحرب، ثم يرسل بالاتفاق، ويحرم قتالهم بما يعم إتلافه؛ كنار ¬

_ (¬1) "فلا ضمان فيه وتقبل شهادة البغاة" زيادة من "ت".

[10]

ومنجنيق إلا لضرورة عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة: يجوز، وعند مالك: للإمام العدل في قتالهم ما له في الكفار بعد أن يدعوهم إلى الحق. ... {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}. [10] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} المتنازعين، وثُني؛ لأن النزاع إنما يكون أولًا بين اثنين، ثم يتعدى إلى الجماعة، ويجوز أن يراد: الحزبان؛ كقوله: (طَائِفَتَانِ). قرأ يعقوب: (إِخْوَتِكُمْ) بكسر الهمزة وإسكان الخاء وتاء مكسورة على الجمع، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة والخاء وياء ساكنة على التثنية (¬1). {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تعصوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وفي هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان؛ لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين، مع كونهم باغين، يدل عليه ما روي عن علي -رضي الله عنه-: أنه سئل، وهو القدوة في قتال أهل البغي، عن أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟ فقال: لا، من الشرك فروا، فقيل: أمنافقون هم؟ فقال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا، قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 222). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (37763)، والبيهقي في "الكبرى" (8/ 173).

[11]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}. [11] ونزل في ثابت بن قيس حين سأل رجلًا: من أنت؟ فقال: ابن فلان، فقال ثابت: أنت ابن فلانة، فخجل الرجل؛ لأنه كان يُعير بها في الجاهلية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} (¬1) أي: رجال من رجال، والقوم: الرجال خاصة؛ لأنهم القوام على النساء، جمع قائم، ويسخر معناه: يستهزئ. {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} المعنى: اجتنبوا السخرية، فربما كان المستسخَر به خيرًا عند الله من الساخر. {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} ونكر (قَوْمٌ) و (نِسَاءٌ)؛ ليعم النهي (¬2) قبيلهما (¬3)، ولم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة؛ أي: فرد من فرد؛ لأن السخرية تكون غالبًا بين جمع. عن ابن عباس: أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب، قال لها النساء: يهودية بنت يهوديين، فشكت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: "هَلَّا قلتِ: إن أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 206)، و"تفسير الثعلبي" (9/ 80)، و"تفسير النسفي" (4/ 166). (¬2) "النهي" زيادة من "ت". (¬3) في "ت": "قبيلهما". (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 206)، و"تفسير الثعلبي" (9/ 81)، =

{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} لا يعيب بعضكم بعضًا. قرأ يعقوب: (تَلْمُزُوا) بضم الميم، والباقون: بكسرها (¬1). {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} النبز: اللقب، واللقب: ما يسمى به الإنسان بعد اسمه العَلَم، يعم المدح والذم، والتنابز: هو أن يدعى الإنسان بغير ما سُمي به مما يكرهه، المعنى: لا تلقبوا غيركم بالألقاب القبيحة؛ كالفاسق ونحوه، ولا تنادوه بها. قرأ البزي عن ابن كثير: (وَلاَ تَّنَابَزُوا) {وَلَا تَّجَسَّسُوا} (لِتَّعَارَفُوا) بتشديد التاء في الثلاثة، والباقون: بالتخفيف (¬2). {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} أي: بئس الذكرُ المرتفع للمؤمنين أن يُذكروا بالفسق بعد دخولهم بالإيمان، واشتهارهم به. {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} عما نُهي عنه {فَأُولَئِكَ} أي: الساخرون واللامزون. {هُمُ الظَّالِمُونَ} بوضع العصيان موضع الطاعة. قرأ أبو عمرو، والكسائي، وخلاد عن حمزة بخلاف عنه: (يَتُب فَّأُولَئِكَ) بإدغام الباء في الفاء، والباقون: بالإظهار (¬3). ¬

_ = و"الكشاف" للزمخشري (4/ 383). وقوله: "هلَّا قلتِ ... محمد" أخرجه الترمذي في "سننه" (3892) في كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 75)، والحاكم في "المستدرك" (6790). وهو ضعيف الإسناد؛ قال الترمذي: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هاشم الكوفي، وليس إسناده بذلك القوي. (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 280)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 223). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 83)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 398)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 223 - 225). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 398)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 223 - 224). =

[12]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}. [12] ونزل في رجلين اغتابا رفيقهما: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} (¬1) أي: أَبعِدوه عنكم، واجعلوه جانبًا منكم. {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يستحق عليه العقاب، وذلك البعض كثير؛ لأنه ظن السوء بالمؤمنين، والتبعيض يؤذن باجتناب بعض الظن، ولا يقدم عليه إلا بعد النظر في حال الشخص، فإن كان موسومًا بالصلاح، فلا يظن به السوء بأدنى توهم، بل يحتاط في ذلك، ولا تظنن سوءًا إلا بعد ألا تجد إلى الخير سبيلًا، وأما ظن الصلاح بالصلحاء والعلماء بالله والشرع، فمندوب إليه، وأما الفساق، فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم. {وَلَا تَجَسَّسُوا} ولا تتبعوا عورات الناس، ولا تبحثوا عن أخبارها حتى لا يظهر ما ستره الله منها {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الغيبة: أن يقول في الرجل ما فيه مما يكرهه. {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} أي: أن ما يناله من عرض أخيه كأكل لحم ميت. قرأ نافع، وأبو جعفر: (مَيِّتًا) بكسر الياء مشددة (¬2)، والباقون: بإسكانها مخففة (¬3)، ونصبه على الحال من (لَحْمَ). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 207)، و"تفسير القرطبي" (16/ 330). (¬2) "مشددة" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 106)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[13]

{فَكَرِهْتُمُوهُ} المعنى: إن صح ذلك، أو عرض عليكم هذا، فقد كرهتموه، ولا يمكنكم إنكار كراهته {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} لمن اتقى ما نهي عنه، وتاب مما فرط منه. ... {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}. [13] ونزل نهيًا عن التفاخر: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} من آدم وحواء. {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} جمع شعب -بفتح الشين-، وهو أكبر من القبيلة؛ لأنه يجمع القبائل مثل: ربيعة ومضر، والأوس والخزرج، سموا شعوبًا؛ لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجر {وَقَبَائِلَ} وهي دون الشعوب، واحدتها قبيلة، والقبيلة تجمع العمائر، [والعمائر تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ، والأفخاذ تجمع الفصائل] (¬1) مثاله: خزيمة شعب، كنانة قبيلة، قريش عمارة، قصي بطن، هاشم فخذ، العباس فصيلة، المعنى: خلقناكم من أصل واحد، ثم فرقناكم. {لِتَعَارَفُوا} ليعرف بعضكم بعضًا، ويعطيه حقه، لا للتفاخر، ثم بين ما به (¬2) الفخر فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فإن التقوى بها تكمل ¬

_ = (2/ 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 224). (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) "ما به" زيادة من "ت".

[14]

النفوس، وتتفاضل الأشخاص، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحبَّ أن يكونَ أكرمَ الناس، فليتق الله" (¬1). {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بكم {خَبِيرٌ} ببواطنكم. ... {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}. [14] ونزل في طوائف من الأعراب قَدِموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الإسلام ليأمنوا بذلك على نفوسهم وأموالهم، ومَنُّوا بذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} يا محمد: {لَمْ تُؤْمِنُوا} حقيقة، وأوقع {لَمْ تُؤْمِنُوا} موقع كذبتم؛ لأنه نفي ما ادعوه تأدبًا. {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} انقدنا واستسلمنا؛ مخافةَ القتل والسبي. {وَلَمَّا} أي: لم {يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} فالإسلام: الخضوع والقبول لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن وجد معه اعتقاد وتصديق بالقلب، فهو إيمان، وتقدم ذكر الإيمان واختلاف الأئمة فيه أول سورة البقرة. {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بالإخلاص وترك النفاق. ¬

_ (¬1) رواه عبد بن حميد في "مسنده" (675)، والحاكم في "المستدرك" (7707)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (367)، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف. انظر: "الضعفاء" للعقيلي (4/ 340).

[15]

{لَا يَلِتْكُمْ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (يَأْلِتكُمْ) بهمزة ساكنة بين الياء واللام، ويبدلها أبو عمرو على أصله؛ من ألت يألت؛ كضرب يضرب، لقوله تعالى: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ)، وقرأ الباقون: بكسر اللام من غير همز (¬1)؛ من لات يليت؛ كباع يبيع، وهما لغتان، معناهما: لا ينقصكم. {مِنْ أَعْمَالِكُمْ} أي: من ثوابها {شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما (¬2) فرط من المطيعين {رَحِيمٌ} بالتفضل عليهم. ... {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)}. [15] ثم بين المؤمنين حقيقة فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} لم يشكوا. {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إيمانهم. ... {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)}. [16] فلما نزلت هاتان الآيتان، أتت الأعراب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يحلفون ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 606)، و"التيسير" للداني (ص: 22)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 398)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 226). (¬2) في "ت": "لمن".

[17]

بالله إنهم مؤمنون صادقون، وعلم الله غير ذلك منهم، فأنزل: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} (¬1) التعليم بمعنى الإعلام؛ أي: أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يحتاج إلى إخباركم. ... {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)}. [17] ثم أمر تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ينفي مِنَّةَ الأعراب، فقال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} أي: بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض. {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} على ما زعمتم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في إيمانكم، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله؛ أي: فلله المنة عليكم لا لكم. ... {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}. [18] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ما غاب فيهما. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 213 - 214)، و"تفسير الثعلبي" (9/ 90)، و"تفسير القرطبي" (16/ 249).

{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سركم وعلانيتكم. قرأ ابن كثير: (يَعْمَلُونَ) بالغيب؛ لما في الآية من الغيبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬1)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 606)، و"التيسير" للداني (ص: 202)، و"تفسير البغوي" (4/ 214)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 227).

سورة ق

سورة ق مكية بإجماع من المتأولين، وقيل: إلا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ} الآية، فمدني، وآيها: خمس وأربعون آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وأربعة وسبعون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وخمس وسبعون كلمة. روي عن أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "مَنْ قرأ سورةَ ق هَوَّنَ الله عليه الموتَ وسَكَراتِه" (¬1). وهذا أول المفصل عند الإمام أحمد، وأحد الأقوال المعتمدة عن أبي حنيفة، وتقدم التنبيه عليه في أول الحجرات عند ذكر الأقوال الأخرى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}. [1] {ق} أبو جعفر على أصله في السكت يقف على (ق)، والكلام فيه كالكلام في (ص)؛ لأنهما في أسلوب واحد، واختلف في معناه، فقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، أو من أسماء القرآن، أو هو مفتاح ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" (9/ 92)، وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 361).

[2]

أسماء الله تعالى التي هي القدير والقادر والقاهر والقريب والقابض، وقيل: هو جبل محيط بالأرض من زُمردة خضراء منه خضرة السماء، والسماء مقبيَّةٌ عليه، وعليه كنفاها، وقيل: معناه: قضي الأمر، وقضي ما هو كائن، كما قالوا في (حم)، وقيل: هو اسم السورة. {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} الكريم في أوصافه، ومن عمل بالقرآن مَجُدَ؛ أي: شَرُف على الناس، و (ق) مُقْسَم به وبالقرآن المجيد، وجواب القسم محذوف (¬1) تقديره: لَتبعَثُنَّ؛ لأنهم أنكروا البعث. قال ابن عطية (¬2): و (¬3) هذا قول حسن، ثم قال: وأحسنُ منه أن يكون الجواب هو الذي يقع عنه الإضراب بـ (بل)؛ كأنه قال: والقرآنِ المجيدِ ما ردوا أمرك بحجة، أو ما كذبوك ببرهان. ... {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)}. [2] {بَلْ عَجِبُوا} كفار مكة (¬4) {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} مخوِّف {مِنْهُمْ} يعرفون نسبه وصدقه. {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أي: قولُ محمد: إنا نحيا بعد الموت، وقيل: الضمير في (عَجِبُوا) لجميع الناس، مؤمنِهم وكافرِهم؛ لأن كل مفطور عجبَ من بعثة بشرٍ رسولَ الله، لكن المؤمنون نظروا واهتدوا، ¬

_ (¬1) "محذوف" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 155). (¬3) "و" زيادة من "ت". (¬4) في "ت": "قريش".

[3]

والكافرون بقوا في عمايتهم، وحاجوا بذلك العجب، ولذلك قال: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}. ... {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)}. [3] {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} استفهام إنكار جوابه محذوف؛ أي: أنرجع إذا متنا وصرنا ترابًا؟ ثم أنكروا ذلك أصلًا، فقالوا: {ذَلِكَ رَجْعٌ} إلى الحياة {بَعِيدٌ} عن العادة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (أَئِذا) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والياء، وفصل أبو جعفر، وأبو عمرو، وقالون بين الهمزتين بألف، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزتين، واختلف عن هشام في الفصل (¬1)، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مِتْنَا) بكسر الميم، والباقون: بضمها (¬2). ... {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)}. [4] قال الله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} ما تأكل من لحومهم، وهو رَدٌّ لاستبعادهم. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 369 - 370)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 398)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 231). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 398)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 232).

{وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} محفوظ من الشياطين، جامع لم يفته شيء، وهو اللوح المحفوظ. في الحديث: "كلُّ ابنِ آدمَ يَبْلى إلا عَجْبَ الذَّنَب" (¬1)، وهو عظم كالخردلة، فمنه يركب ابن آدم. قال ابن عطية: وحفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة، وهذا هو الحق، وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه، قال ابن عطية: وهذا عندي خلاف لظاهر كتاب الله تعالى، ولو كانت غيرها، فكيف كانت تشهد الجلود والأيدي والأرجل على الكفرة؟ إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود (¬2). وسئل شيخ الإسلام ابن حجر: هل الأجساد إذا بليت وفنيت، وأراد الله إعادتها كما كانت أولًا، هل تعود الأجساد الأول، أم يخلق الله للناس (¬3) أجسادًا غير الأجساد الأول؟ فأجاب: إن الأجساد التي يعيدها الله هي الأجساد الأول، لا غيرها، قال: وهذا هو الصحيح، بل الصواب ومن قال غيره عندي، فقد أخطأ فيه؛ لمخالفته ظاهر القرآن والحديث. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4651)، كتاب: التفسير، باب: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}، ومسلم (2955)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، من حديث أبي هريرة. قال ابن حجر في "الفتح" (8/ 552): قال ابن الجوزي: قال ابن عقيل: لله في هذا سرٌّ لا يعلمه إلا الله، لأن من يُظهر الوجود من العدم لا يحتاج إلى شيء يبني عليه. ويحتمل أن يكون ذلك جُعِلَ علامةً للملائكة على إحياء كل إنسان بجوهره. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (15/ 156)، ووقع فيه: "الأجساد المبعثرة" بدل: "المبعوثة". (¬3) "للناس" زيادة من "ت".

[5]

{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)}. [5] {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} بالقرآن {لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} مضطرب، قالوا مرة: شعر، ومرة: كهانة، فلم يثبتوا على حال. ... {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)}. [6] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا} معتبرين حين أنكروا البعث. {إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} ظرف لـ (يَنْظُرُوا). {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} بلا عمد {وَزَيَّنَّاهَا} بالكواكب. {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} شقوق وصدوع، فهي مزينة سليمة من العيب. ... {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)}. [7] {وَالْأَرْضَ} نصبٌ بمضمر يفسره {مَدَدْنَاهَا} دَحَوْناها على وجه الماء. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالًا ثوابت {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من كل صنف حسن. ... {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}. [8] {تَبْصِرَةً} أي: جعلنا ذلك تبصرة {وَذِكْرَى} أي: تذكيرًا. {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} رَجَّاع إلى طاعة الله تعالى.

[9]

{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)}. [9] {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} كثيرَ البركة، وهو المطر. {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} أشجارًا وثمارًا {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي: وحب الزرع الذي من شأنه أن يُحصد. ... {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)}. [10] {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أي: طوالًا في السماء {لها طَلْعٌ} ثمر، والطلع: أول ظهور (¬1) الثمر في أكمامه قبل أن ينشق، وهو أبيض كحب الرمان {نَضِيدٌ} أي: منضود بعضُه فوق بعض، فما دام ملتصقًا كذلك، فهو نضيد، فإذا خرج من أكمامه وتفرق، فليس بنضيد. ... {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}. [11] {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} نصب على المصدر {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي: بالمطر. {بَلْدَةً مَيْتًا} أرضًا جدبة أنبتنا فيها الكلأ. قرأ أبو جعفر: (مَيِّتًا) بتشديد الياء، والباقون: بالتخفيف (¬2). {كَذَلِكَ} أي: مثلَ ذلك الإحياء {الْخُرُوجُ} من القبور. ¬

_ (¬1) "ظهور" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 255)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 232).

[12]

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)}. [12] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} قبلَ قريش {قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} قومٌ كان لهم بئر عظيمة، وهي الرس، وكل ما لم يُطْوَ من بئر أو معدن أو نحوه، فهو رَسٌّ، وتقدم ذكرهم في سورة الحج، وفي سورة الفرقان {وَثَمُودُ}. ... {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)}. [13] {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ} والمراد بفرعون: إياه وقومه. {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} وأخواته؛ لأنهم كانوا أصهاره. ... {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)}. [14] {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} قوم شعيب {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} هو تُبَّع الحِمْيَرِيُّ، ذم الله قومه، ولم يذمه؛ لأنه أسلم، وتقدم ذكر قصته في سورة الدخان. {كُلٌّ} من هؤلاء المذكورين {كَذَّبَ الرُّسُلَ} كقريش {فَحَقَّ وَعِيدِ} وجب نزول العذاب عليهم، وفيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتهديد لهم. قرأ ورش عن نافع: (وَعيِدِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 202)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 232 - 233).

[15]

{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}. [15] ثم وبخهم بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} أفعجزنا عن الإتيان به ابتداءً، فنعجز عن إعادته؟! المعنى (¬1): كما لم نعجز عن ابتداء الخلق، لا نعجز عن إحيائه بعد الموت، فلما لم يؤمنوا، قيل: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} شك {مِنْ خَلْقٍ} بعد الموت {جَدِيدٍ} وهو البعث؛ لأنهم ينكرونه. ... {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)}. [16] ثم دل على قدرته تعالى، فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ} أي: تحدث {بِهِ نَفْسُهُ} فلا يخفى علينا ضمائره. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} إلى الإنسان {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وهما عرقان كبيران في العنق، يقال لهما: وريدان، عن يمين وشمال، وسمي وريداً؛ لورود الروح فيه، والحبلُ هو الوريد، فأضيف إلى نفسه؛ [لاختلاف اللفظين، وقيل: ليس هذا بإضافة الشيء إلى نفسه] (¬2)، بل هي (¬3) كإضافة الجنس إلى نوعه، والقرب: هو بالقدرة والسلطان؛ إذ لا ينحجب عن علم الله تعالى باطن ولا ظاهر (¬4). ... ¬

_ (¬1) "المعنى" زيادة من "ت". (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬3) "بل هي" زيادة من "ت". (¬4) في "ت": "ظاهر ولا باطن".

[17]

{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)}. [17] {إِذْ يَتَلَقَّى} أي: واذكر إذ يتلقى {الْمُتَلَقِّيَانِ} أي: يتلقن، ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ويكتبانه. {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات {قَعِيدٌ} أي: مُقاعِد، وهو المجالس الملازم، ولم يقل: قعيدان اكتفاءً بأحدهما عن الآخر. قال - صلى الله عليه وسلم -: "كاتبُ الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة، كتبها صاحب اليمين عشرًا، وإذا عمل سيئة، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبعَ ساعات؛ لعله يسبح أو يستغفر" (¬1). * * * {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}. [18] {مَا يَلْفِظُ} الإنسان {مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} يرقب قوله ويحفظه عليه. {عَتِيدٌ} حاضر معه، وأراد: رقيبين وعتيدين، فاكتفى بأحدهما عن الآخر. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (7787)، وفي "مسند الشاميين" (468)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7049)، والروياني في "مسنده" (1215)، والثعلبي في "تفسيره" (9/ 99)، ومن طريقه: البغوي في "تفسيره" (4/ 219)، كلهم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 208): وفيه جعفر بن الزبير، وهو كذاب.

[19]

{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)}. [19] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} شدتُه الذاهبة بالعقل {بِالْحَقِّ} أي: بحقيقة الموت. {ذَلِكَ} أي: الموت {مَا كُنْتَ مِنْهُ} أيها الإنسان {تَحِيدُ} تميل وتهرب. * * * {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}. [20] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} نفخة البعث {ذَلِكَ} أي: النفخ. {يَوْمُ الْوَعِيدِ} للكفار بالعذاب. * * * {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)}. [21] {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ} مَلَكٌ يحثها إلى المحشر. {وَشَهِيدٌ} ملك يشهد عليها بما عملت، وهل الملكان الكاتبان في الدنيا هما اللذان ذكرهما الله تعالى في قوله: {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} أم غيرهما؟ فيه خلاف. * * * {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}. [22] ولما كانت الغفلة ساترة الكافر عن الإيمان وأهوال يوم القيامة،

[23]

شبهت بالغطاء، فقيل: {لَقَدْ كُنْتَ} في الدنيا {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} النازلِ بك اليوم. {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} الذي كان في الدنيا من الغفلة. {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} نافذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا. * * * {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)}. [23] {وَقَالَ قَرِينُهُ} الملَك الموكَّل به: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} هذا ما هو مكتوب عندي مُعَدٌّ محضَر. * * * {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)}. [24] ثم يقال للسائق والشهيد، أو خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب، والمراد: مالك؛ كأنه قيل: ألق ألق تأكيدًا {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} معاند للحق. * * * {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)}. [25] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} مطلقًا (¬1) {مُعْتَدٍ} ظالم. روي عن يعقوب، وقنبل: الوقف بالياء على (مُعْتَدِي). {مُرِيبٍ} شاكٍّ في دينه. ¬

_ (¬1) "مطلقًا" زيادة من "ت".

[26]

{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)}. [26] {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي: أشرك، مبتدأ ضُمن معنى الشرط، جوابه: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} من النار. * * * {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)}. [27] {قَالَ قَرِينُهُ} هو شيطانه المقيض له تبرُّأً منه {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} ما أضللته أنا {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} عن الإيمان. * * * {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)}. [28] {قَالَ} أي: فيقول الله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} فما ينفعكم الخصام هنا. {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ} في الدنيا {بِالْوَعِيدِ} أي: خَوَّفتكم الرسلُ بما أعددتُ لكم من العذاب هنا إن لم تؤمنوا، أو لا بد منه. * * * {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)}. [29] {مَا يُبَدَّلُ} ما يُغَيَّر {الْقَوْلُ لَدَيَّ} بالثواب والعقاب. {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فأعذبهم بغير جرم.

[30]

{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)}. [30] {يَوْمَ} أي: واذكر يوم {نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} استفهام توبيخ لداخليها، وتصديق لقوله تعالى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18]. {هَلِ امْتَلأَتِ} فتجيب مستفهمة تأدبًا، وليكون الجواب وفق السؤال {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} زيادة. قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: (يَوْمَ يَقُولُ) بالياء؛ أي: يقول الله، وقرأ الباقون: بالنون التي للعظمة (¬1)، واختلف الناس هل يقع التقرير وهي قد امتلأت، أو هي لم تمتلئ بعد؟ فقال بكل وجه جماعةٌ من المتأولين، وبحسب ذلك تأولوا قولها: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، فمن قال: إنها تكون ملأى، جعل قولها: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} على معنى التقرير ونفي المزيد؛ أي: وهل عندي موضع يزاد فيه شيء؟ وهو قول عطاء، ومجاهد، ومن قال: إنها تكون غير ملأى، جعل قولها: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} على معنى السؤال والرغبة بالزيادة، وهو قول ابن عباس (¬2). عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزالُ جهنم تقولُ: هل من مزيد، حتى يضع ربُّ العزة فيها قدمَه، فتقول قَطْ قَطْ وعزتك، وتزوي بعضها إلى بعض، ولا يزال في الجنة فضل حتى يُنشئ الله خلقًا فيسكِنَهُ فُضولَ الجنة" (¬3)، وقوله: قط قط: حسبي حسبي. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 202)، و"تفسير البغوي" (4/ 221)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 235). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 165). (¬3) رواه البخاري (6284)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الحَلِف بعزة الله وصفاته، ومسلم (2848)، كتاب: الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، من حديث أنس. =

[31]

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)}. [31] {وَأُزْلِفَتِ} قُرِّبت {الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ} أي: مكانًا غير {بَعِيدٍ}. * * * {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)}. [32] فإذا شاهدوها وما فيها، يقال لهم: {هَذَا} المشاهَد. {مَا تُوعَدُونَ} من الجزاء. قرأ ابن كثير: (يُوعَدُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬1) {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدل من {الْمُتَّقِينَ} أي: رجّاع عن الذنوب {حَفِيظٍ} حافظ لأمر الله تعالى، ولذنوبه حتى يستغفر منها. * * * {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)}. [33] {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} محل (مَنْ) رفع بالابتداء والخبر؛ أي: خاف الرحمن وأطاعه، ولم يره. {وَجَاءَ} يوم القيامة {بِقَلْبٍ} سليم (¬2) {مُنِيبٍ} مقبل على الطاعة. * * * {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)}. [34] وخبر الابتداء {ادْخُلُوهَا} أي: فيقال لهم: ادخلوا الجنة ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 202)، و"تفسير البغوي" (4/ 221)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 236). (¬2) "سليم" ساقطة من "ت".

[35]

{بِسَلَامٍ} أي: بأمن وسلامة من جميع الآفات. {ذَلِكَ} الدخول {يَوْمُ الْخُلُودِ} البقاءُ في الجنة. * * * {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}. [35] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} فيعطون ما شاؤوا مما يسألونه. {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} زيادة فوق ما طلبوا، قال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله الكريم (¬1). * * * {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)}. [36] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} (كَمْ) للتكثير، وهي خبرية، المعنى: أهلكنا قرونًا كثيرة قبل كفار مكة. {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} أي: طافوا في نقوبها: طرقها. {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} أي: هل لهم من مفر من أمر الله عَزَّ وَجَلَّ؟ * * * {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}. [37] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور {لَذِكْرَى} عظة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 226).

[38]

أي: عقل {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أصغى لسماع كتاب الله {وَهُوَ شَهِيدٌ} حاضرُ القلب غيرُ غافل. * * * {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)}. [38] ولما قال اليهود: يا محمد! أخبرنا بما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة، فقال: "خلق الله الأرْضَ يومَ الأحد والإثنين، والجبال يوم الثلاثاء، والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء، والسمواتِ والملائكةَ يومَ الخميس إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث ساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم"، قالوا: صدقت إن أتممت، قال: "وَما ذاكَ؟ "، قالوا: ثم استراح يوم السبت، واستلقى على العرش، فأنزل الله تكذيبًا لهم، وردًّا عليهم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (¬1) إعياء؛ لأنا منزهون عن صفات المخلوقين؛ إذ لا مماسة ثَمَّ فيقع تعب، إنما أمرنا بالشيء {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (21/ 432) و (22/ 433)، والحاكم في "المستدرك" (2683) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو ضعيف لضعف أبي سعيد البقَّال، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (8/ 558).

[39]

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)}. [39] {فَاصْبِرْ} يا محمَّد {عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي: اليهودُ والمشركون من التشبيه والتكذيب، واختُلف في الأمر بالصبر، فبعضهم يقول: نسخ بآية السيف، وبعضهم يقول: ثابتُ، ويرى أن الصبر مأمور به في كل حال. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} صلِّ حمدًا لله تعالى. {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} هي صلاة الفجر {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} هما الظهر والعصر. * * * {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)}. [40] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} يعني: صلاة المغرب والعشاء. {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} الركعتان بعد صلاة المغرب. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وحمزة، وخلف: (وَإِدْبارَ) بكسر الهمزة مصدر أدبر إدبارًا، وقرأ الباقون: بفتحها على جمع الدُّبُر (¬1). * * * {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)}. [41] {وَاسْتَمِعْ} ما أُخبرك به يا محمد {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} هو إسرافيل -عليه السلام- ينادي بالحشر. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 202)، و"تفسير البغوي" (4/ 223)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 237 - 238).

[42]

{مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} إلي السماء، وهو صخرة بيت المقدس، وهو وسط الأرض، وهي أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر أو ثمانية عشر ميلًا: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء (¬1). قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (الْمُنادِي) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ ابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬2). * * * {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)}. [42] وتبدل من {يَوْمَ يُنَادِ} {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ} هي النفخة الثانية {بِالْحَقِّ} بالبعث {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور. * * * {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)}. [43] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} في الدنيا {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} في الآخرة. * * * {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)}. [44] {يَوْمَ} ظرف له {تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ} قرأ أبو عمرو، ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 382) عن كعب. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 607)، و"التيسير" للداني (ص: 202)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 376)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 238).

[45]

والكوفيون: (تَشَقَّقُ) بتخفيف الشين، والباقون: بتشديدها (¬1) {سِرَاعًا} جمع سريع، ونصبه على الحال، أي: تتشقق الأرض عنهم، فيخرجون مسرعين. {ذَلِكَ} الخروجُ {حَشْرٌ} بعث {عَلَيْنَا يَسِيرٌ} سهل، وهو كلام معادل لقول الكفرة: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}. * * * {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}. [45] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} يعني: كفار مكة في تكذيبك، تسليةٌ له - صلى الله عليه وسلم -، وتهديد لهم {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} بمسلَّط تُجبرهم على الإسلام، وإنما أنت داع. قرأ أبو عمرو، والكسائي من رواية الدوري: (بِجَبّارٍ) بالإمالة، واختلف عن ابن ذكوان، وروي عن ورش وحمزة بين بين، وقرأ الباقون: بالفتح (¬2). {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} قرأ ابن كثير (بِالْقُرَانِ) (¬3) بالنقل، والباقون: بالهمز {مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} أي: ما أوعدت من عصاني من العذاب. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 607)، و"التيسير" للداني (ص: 163 - 164)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 334)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 239). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 358)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 239). (¬3) "بالقران" زيادة من "ت".

روى ابن عباس: "أن المؤمنين قالوا: يا رسول الله! لو خوفتنا، فنزلت: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} " (¬1). وتقدم اختلاف القراء في إثبات الياء وحذفها من (وَعِيدِي) في الحرف السابق، وكذلك اختلافهم في هذا الحرف، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بسورة (ق) في كثير من الأوقات؛ لاشتمالها على ذكر الله تعالى، والثناء عليه، ثم على علمه بما توسوس به النفوس، وما تكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة وعصيان، ثم تذكير الموت وسكرته، ثم تذكير القيامة وأهوالها، والشهادة على الخلائق بأعمالهم، ثم تذكير الجنة والنار، ثم تذكير الصيحة والنشور والخروج من القبور، ثم بالمواظبة على الصلوات، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 385)، وذكره البغوي في "تفسيره" (4/ 225)، والثعلبي في "تفسيره" (9/ 108)، وابن عطية في "المحرر الوجيز" (5/ 170)، والقرطبي في "تفسيره" (17/ 28).

سورة الذاريات

سورة الذاريات بإجماع المفسرين مكية، وآيها: ستون آية، وحروفها: ألف ومئتان وسبعة وثماثون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وستون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)}. [1] {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} يعني: الرياح التي تذرو (¬1) التراب ذروًا، وذروًا (¬2) نصب على المصدر. قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، وحمزة: بإدغام التاء في الذال، والباقون: بكسر التاء من غير إدغام (¬3). * * * {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)}. [2] {فَالْحَامِلَاتِ} أي: السحاب الموقراة بالماء. {وِقْرًا} ثقلًا، مفعول (الحاملات). ¬

_ (¬1) "تذرو" زيادة من "ت". (¬2) "وذروًا" سقط من "ت". (¬3) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 151)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 288 - 300)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 243).

[3]

{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)}. [3] {فَالْجَارِيَاتِ} أي: السفن. {يُسْرًا} تجري في الماء جريًا سهلًا (¬1). قرأ أبو جعفر: (يُسُرًا) بضم السين، والباقون: بإسكانها (¬2)، ويسرًا مصدر في موضع الحال؛ أي: ميسرة. * * * {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)}. [4] {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق؛ من الأرزاق والأمطار وغيرها على ما أمروا به، و (¬3) (أَمْرًا) مفعول (الْمُقَسِّماتِ)، أقسم الله تعالى بهذه الأشياء؛ لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته. * * * {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)}. [5] وجواب القسم؛ {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} من الثواب والعقاب. {لَصَادِقٌ} أي: لوعد صادق. * * * {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)}. [6] {وَإِنَّ الدِّينَ} أي: الحساب والجزاء {لَوَاقِعٌ} لا محالة. ¬

_ (¬1) "سهلًا" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 399)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 243). (¬3) "و" زيادة من "ت".

[7]

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)}. [7] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} الطرائق التي تكون في السماء من آثار الغيم، جمع حبيكة، وهو قَسَمٌ ثانٍ. * * * {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)}. [8] جوابه: {إِنَّكُمْ} يا أهل مكة. {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} تصديق وتكذيب بمحمد، أو في قول مختلف في نفسه، قوم منكم يقولون: ساحر، وقوم: كاهن، وقوم: شاعر، وقوم: مجنون، إلى غير ذلك. * * * {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)}. [9] {يُؤْفَكُ عَنْهُ} يُصرف عن الإيمان به. {مَنْ أُفِكَ} من صُرف عن السعادة في الأزل. * * * {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)}. [10] {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي: لُعن الكذابون أصحابُ القول المختلف. * * * {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)}. [11] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} أي: في غلبة الجهل، غافلون عما يراد بهم.

[12]

{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)}. [12] {يَسْأَلُونَ} استهزاء: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي: متى يوم الجزاء؟ * * * {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)}. [13] قال الله تعالى: {يَوْمَ هُمْ} أي: يكون هذا الجزاء في يوم. {عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} يعذبون. * * * {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}. [14] فإذا عذبوا، قيل لهم: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي: حريقكم. {هَذَا} العذابُ {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} تكذيبًا به واستهزاء. * * * {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)}. [15] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر: (وَعِيُونٍ) بكسر العين، والباقون: بضمها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 399)،و "معجم القراءات القرآنية" (6/ 245).

[16]

{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}. [16] {آخِذِينَ} قابلين {مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} بسرور؛ لأنه في غاية الجودة، فليس فيه ما يُرَدُّ {إِنَّهُمْ} أي: المتقون {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أعمالَهم. * * * {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}. [17] لأنهم {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ} خبر (كان). {مَا يَهْجَعُونَ} ينامون، و (ما) زائدة، و (قَليلًا) نعت لمصدر محذوف؛ أي: هجوعًا قليلًا؛ أي: كانوا في معظم الليل يصلون ويذكرون. * * * {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)}. [18] {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قيل: يا رسول الله! كيف الاستغفار؟ قال: "قولوا: اللهمَّ اغفر لنا، وارحمنا، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم" (¬1). * * * {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}. [19] {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ} الطالب {وَالْمَحْرُومِ} أي: يُحسب غنيًّا، فيحرم؛ لتعففه. ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (10295)، وفي "عمل اليوم والليلة" (ص: 332)، من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه.

[20]

{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)}. [20] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ} دلالات على التوحيد. {لِلْمُوقِنِينَ} وإذا ساروا فيها من الجبال والبحار والأشجار والثمار وأنواع النبات. * * * {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)}. [21] {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} آيات أيضًا بتنقلها من حال إلى حال، ثم إلى الزوال. {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الصنعة، فتستدلون بها على صانعها؟ * * * {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)}. [22] {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} أي: المطر؛ لأنه سبب الرزق. {وَمَا تُوعَدُونَ} من الجنة؛ لأنها فوق السماء السابعة، وجميع المقدر مكتوب في السماء. * * * {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}. [23] ثم أقسم بنفسه فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ} أي: هذا القول. {لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فتقولون: لا إله إلا الله. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (مِثْلُ) برفع اللام صفة لـ (حقٌ)؛

[24]

لأنه نكرة لكثرة المماثل، و (ما) زائدة تعطي تأكيدًا، وقرأ الباقون: بالنصب صفة لمصدر محذوف (¬1)؛ أي: إنه لحق حقًّا مثلَ ما إنكم تنطقون. قال الحسن في هذه الآية: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قاتل الله أقوامًا أقسمَ الله لهم بنفِسه، فلم يصدِّقوه" (¬2). * * * {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)}. [24] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشام: (إِبْراهامَ) بالألف، وأبو عمرو: (حَدِيث ضيْفِ) بإدغام الثاء في الضاد (¬3)، وضيف اسم جنس يقع للجمع والواحد، وروي أن أضياف إبراهيم هؤلاء: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وأتباع لهم من الملائكة صلى الله عليه وعليهم. {الْمُكْرَمِينَ} لأنهم كرام على الله، ولأن إبراهيم خدمهم هو وامرأته، وسماهم ضيفًا؛ لأنهم كانوا في صورة الضيف. قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر، فليكرمْ ضيفَه" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 609)، و"التيسير" للداني (ص: 203)، و"تفسير البغوي" (4/ 231)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 246). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (26/ 206). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 392)، والإدغام في "الغيث" للصفاقسي (ص: 358)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 246). (¬4) رواه البخاري (5672)، كتاب: الأدب، باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومسلم (47)، كتاب: الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار والضيف، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[25]

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)}. [25] {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا} عند دخولهم {سَلَامًا} مصدر؛ أي: سلموا سلامًا. {قَالَ سَلَامٌ} عليكم، مبتدأ وخبره. قرأ حمزة، والكسائي: (سِلْمٌ) بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف، وقرأ الباقون: بفتح السين واللام وألف بعدها (¬1)، فنكرهم، فقال: أنتم {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي: غرباء لا نعرفكم. * * * {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)}. [26] {فَرَاغَ} فمال (¬2) {إِلَى أَهْلِهِ} سرًّا {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} مشوي. * * * {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)}. [27] {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} ليأكلوه، فتركوه. {قَالَ} إنكارًا عليهم (¬3): {أَلَا تَأْكُلُونَ} منه؟ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 125)، و"الكشف" لمكي (1/ 534)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 247). (¬2) "فمال" زيادة من "ت". (¬3) "عليهم" زيادة من "ت".

[28]

{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)}. [28] {فَأَوْجَسَ} فأضمر في نفسه {مِنْهُمْ خِيفَةً} لأنه ظنهم أعداءً؛ لعدم أكلهم، ولغرابة شكلهم. {قَالُوا لَا تَخَفْ} روي أن جبريل مسح بجناحه العجل، فقام يمشي خلف أمه. {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ} هو إسحق عليه السلام {عَلِيمٍ} يكمُلُ علمُه إذا بلغ. قرأ ابن كثير: {وَبَشَّرُوهُو} بواو يصلها بهاء الكناية في الوصل وشبهه حيث وقع. * * * {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)}. [29] {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} سارة إلى بيتها، وكانت في زاوية تنظر إليهم. {فِي صَرَّةٍ} شِدَّة صوت؛ من الصرير. {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} لطمته بجميع أصابعها تعجُّبًا كعادة النساء إذا أنكرن شيئًا. {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} فكيف ألد؟ والعقيم: من مُنع الولد، والعُقْم في اللغة: المنع، وكانت سارة لم تلد قبل ذلك. * * * {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}. [30] {قَالُوا كَذَلِكِ} مثلَ ذلك الذي بشرنا به {قَالَ رَبُّكِ} وإنما نخبرك به عنه.

[31]

{إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ} ذو الحكمة {الْعَلِيمُ} بالمصالح وغير ذلك من المعلومات. * * * {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)}. [31] ثم {قَالَ} إبراهيم -عليه السلام- للملائكة: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} والخطب: الأمر المهم، وقلما يعبر به إلا عن الشدائد والمكاره، حتى قالوا: خطوب الزمان، ونحو هذا، فكأنه يقول لهم: ما هذه الطامة التي جئتم لها؟ * * * {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)}. [32] {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يعني: قوم لوط، والمجرم: فاعلُ الجرائم، وهي صعاب المعاصي. * * * {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)}. [33] {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} مطبوخٍ بالنار، روي أنه طين طبخ نار جهنم حتى صار حجارة كالآجُرّ. * * * {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)}. [34] {مُسَوَّمَةً} معلَّمة، عليها اسمُ من يُرمى بها، ونصبه على الحال.

[35]

{عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} والمسرف: الذي يتعدى الطور، فإذا جاء مطلقًا، فهو لأبعد الغايات: الكفر فما دونه. * * * {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)}. [35] {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا} في قرى لوط، وإن لم يجر لها ذكر؛ لأن ذلك معلوم. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ممن آمن بلوط منجيًا لهم، وذلك قوله: {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود: 81]. * * * {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)}. [36] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} هو بيت لوط، وكان هو وابنتاه، وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعًا؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. * * * {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)}. [37] {وَتَرَكْنَا فِيهَا} في مدينة قوم لوط، وهي سدوم. {آيَةً} عبرة {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} فإنهم المعتبرون بها. * * * {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)}. [38] وتعطف على قوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا} {وَفِي مُوسَى} أي: وتركنا فيه

[39]

وقصته أثرًا أيضًا هو آية {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ} هو صاحب مصر. {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} بحجة ظاهرة. * * * {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)}. [39] {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أعرض عن الإيمان بجمعه؛ لأنهم له كالركن للبناء. {وَقالَ} لموسى: هو {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} تقسيم ظن؛ أي: إنه لا بد أن يكون أحدَهما. * * * {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)}. [40] {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} فطرحناهم في البحر. {وَهُوَ مُلِيمٌ} والمليم: الذي أتى من المعاصي ونحوها ما يُلام عليه. * * * {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)} [41] {وَفِي عَادٍ} أي: في إهلاكهم آيةٌ {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} التي لا خير فيها، لا تفلح شجرًا، ولا تسوق مطرًا، وهي الدبور. * * * {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)}. [42] {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ} من أنفسِهم وأموالهم. {أَتَتْ} مرَّت {عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} البالي.

[43]

{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)}. [43] {وَفِي} هلاكِ (¬1) {ثَمُودَ} آيةٌ. {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} إلى انقضاء آجالكم، وهي ثلاثة أيام. * * * {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)}. [44] وذلك أنهم لما عقروا الناقة، قيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. {فَعَتَوْا} ترفعوا {عَن} امتثال {أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} بعد الأيام الثلاثة. قرأ الكسائي: (الصَّعْقَةُ) بإسكان العين من غير ألف، والباقون: بكسر العين وألف قبلها (¬2)، وهي على القراءتين: الصيحة العظيمة، ومنه يقال للوقعة الشديدة من الرعد: صاعقة، وهي التي معها النار {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} إليها نهارًا. * * * {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)}. [45] {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} ما قدروا على النهوض عند نزول العذاب بهم. {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} ممن أهلكهم. ¬

_ (¬1) في "ت": "هلاك". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 609)، و"التيسير" للداني (ص: 203)، و"تفسير البغوي" (4/ 233)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 248).

[46]

{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)}. [46] {وَقَوْمَ نُوحٍ} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: (وَقَوْمِ) بخفض الميم عطفًا على (وَفِي ثَمُودَ)، وقرأ الباقون: بنصبها بمضمر (¬1)؛ أي: وأهلكنا قومَ نوح. {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل إهلاك (¬2) هؤلاء المذكورين. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} بالكفر والعصيان. * * * {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)}. [47] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لقادرون. * * * {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)}. [48] {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} مَهَدْناها {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} نحن. * * * {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)}. [49] {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} صنفين ونوعين مختلفين، وهي إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء؛ كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلالة، والسماء والأرض، والسواد والبياض، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 203)، و"تفسير البغوي" (4/ 234)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 400)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 248). (¬2) "إهلاك" زيادة من "ت".

[50]

والصحة والمرض، والكفر والإيمان، ونحو هذا {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعرفون الخالق فتعبدونه. * * * {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}. [50] {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} بالتوبة والطاعة {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}. * * * {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)}. [51] ثم نهى عن عبادة كل مدعو من دون الله تعالى بقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وكرر {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} حرصًا على هدايتهم. * * * {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}. [52] {كَذَلِكَ} أي: سيرة الأمم كذلك {مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: قبلَ قومك يا محمد. {مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا} له: أنتَ {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} تلخيصه: المرسلون قبلك كُذِّبوا كما كُذِّبت. * * * {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)}. [53] {أَتَوَاصَوْا بِهِ} توقيف وتعجيب من تراود نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء على تفرق أزمانهم؛ أي: إنهم لم يتواصوا.

[54]

{بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} جمعَهم على ذلك الطغيان، والطاغي: المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله. * * * {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)}. [54] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: عن الحرص المفرط عليهم، وذهاب النفس حسرات. {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} لأنك بلغت الرسالة. * * * {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}. [55] {وَذَكِّرْ} عِظْ بالقرآن {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ولمن قُضِي (¬1) له أن يكون منهم. قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل، فلا نسخ في الآية، إلا في معنى الموادعة التي فيها؛ فإنّ آية السيف نسخت جميع الموادعات (¬2). * * * {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}. [56] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} قال ابن عباس، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا ¬

_ (¬1) في "ت": "قضي له". (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 182).

[57]

لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبودية (¬1)، فعبر عن ذلك بقوله: {لِيَعْبُدُونِ} إذ العبادة هي مضمن الأمر، ومعنى العبادة في اللغة: التذلل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته. * * * {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)}. [57] {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} لي، ولا لأنفسهم وغيرهم. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} ولا أنفسَهم ولا غيرَهم. * * * {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}. [58] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} الذي يرزق كلَّ ما يفتقر إلى الرزق. {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} الشديد القوة نعتًا لـ (ذو)، المعنى: أنا غني عنكم، فاشتغلوا بما أمرتكم به تفلحوا. * * * {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)}. [59] {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسَهم بالكفر {ذَنُوبًا} نصيبًا من العذاب {مِثْلَ ذَنُوبِ} نصيب {أَصْحَابِهِمْ} المراد: من تقدم من الأمم المعذبة، وهذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 235)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 182)، و"تفسير القرطبي" (17/ 55).

[60]

استعارة؛ لأن الذَّنوب: الدلو العظيمة، وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة (¬1) الماء بالدلاء. {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} بالعذاب، فهو نازل بهم لا محالة في وقته المحتوم. قرأ يعقوب: (لِيَعْبُدُوِني) (يُطْعِمُوني) (يَسْتَعْجِلُوني) بإثبات الياء فيهن وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬2). * * * {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}. [60] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} فيه بالعذاب، وهو يوم القيامة، والويل: الشقاء والهم، وروي أن في جهنم واديًا يسمى ويلًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "ت": "القساة". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 377)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 250 - 251).

سورة الطور

سورة الطور مكية بإجماع المفسرين، وآيها: تسع وأربعون آية، وحروفها ألف وثلاث مئة وثمانية أحرف، وكلمها: ثلاث مئة واثنتا عشرة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالطُّورِ (1)}. [1] {وَالطُّورِ} هو الجبل بالسريانية، والمراد: الذي كلم الله عليه موسى -عليه السلام-، واسمه زبير، وهو بمدين. * * * {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}. [2] {وَكِتَابٍ} هو ما كتبه الله لموسى من التوراة، وقيل: هو القرآن {مَسْطُورٍ} مكتوب، والسطر: ترتيب الحروف المكتوبة. * * * {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)}. [3] {فِي رَقٍّ} جلد، وسمي رقًا؛ لأنه مرقق، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان {مَنْشُورٍ} مبسوط، وهو خلاف المطوي.

[4]

{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)}. [4] {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} هو بيت في السماء السابعة حذاء العرش بحيال الكعبة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، والمعمور: المأهول، وعمارته بالملائكة. * * * {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)}. [5] {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} هو السماء. * * * {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)}. [6] {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} المملوء، والجمهور على أنه بحر الدنيا، والواو الأولى للقسم، وباقيها للعطف. * * * {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)}. [7] وجواب القسم: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} لنازلٌ، والمراد: عذاب الآخرة للكفار. * * * {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)}. [8] {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} يدفعه.

[9]

{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)}. [9] {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ} تضطرب، فتجيء وتذهب {مَوْرًا} مصدر. * * * {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)}. [10] {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ} كما يسر السحاب {سَيْرًا} ثم تتفتت أثناء السير حتى تصير آخرًا كالعهن المنفوش؛ لهول ذلك اليوم. * * * {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)}. [11] والفاء في قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} عاطفة جملة على جملة، وهي تتضمن ربطَ المعنى وتأكيدَه، وإثباتَ الويل. {لِلْمُكَذِّبِينَ} للرسل، وتقدم ذكر الويل في آخر الذاريات. * * * {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)}. [12] {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ} والخوض: التخبط في الأباطيل تَشَبُّهٌ بخوض الماء {يَلْعَبُونَ} استهزاءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)}. [13] وتبدل من {يَوْمَئِذٍ} {يَوْمَ يُدَعُّونَ} يُدْفَعون بعنف.

[14]

{إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} بأن تجمع أيديهم إلى أعناقهم، ونواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون في النار. * * * {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)}. [14] فإذا جُعلوا (¬1) فيها، قيل لهم تبكيتًا: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا} في الدنيا {تُكَذِّبُونَ}. * * * {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)}. [15] ثم قيل لهم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا} العذابُ {أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} العذابَ كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدلّ عليه؟! * * * {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}. [16] {اصْلَوْهَا} ادخلوها، ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم: {فَاصْبِرُوا} عليها {أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ} خبر محذوف (¬2) المبتدأ؛ أي: صبرُكم وجزعُكم سواءٌ {عَلَيْكُمْ} لأن صبركم لا ينفعكم. {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: هذا عذابكم حتمٌ لا بدَّ منه جزاءَ أعمالكم. ¬

_ (¬1) في "ت": "حصلوا". (¬2) "محذوف" زيادة من "ت".

[17]

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)}. [17] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} إخبار لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومعاصريه، لما فرغ من ذكر عذاب الكفار، عقب ذلك بنعيم المتقين؛ ليبين الفرق، ويقع التحريض على الإيمان. * * * {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)}. [18] {فَاكِهِينَ} قرأ أبو جعفر: (فَكِهِينَ) بغير ألف بعد الفاء، يعني: مسرورين، وقرأ الباقون: بالألف، يعني: متنعمين (¬1). {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} من إنعامه ورضاه عنهم {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}. * * * {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)}. [19] ثم يقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أكلًا وشربًا. {هَنِيئًا} لا تنغيص فيه، ونصبه على المصدر. {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} معناه: إن رُتَب الجنة ونعيمها هي بحسب الأعمال، وأما نفس دخولها، فهو برحمة الله وتغمده، والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء، وأعمال العباد الصالحة لا توجب ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 354)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 255).

[20]

على الله التنعيم إيجابًا، لكنه قد جعلها أمارة على من سبق في علمه تنعيمه، وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال. * * * {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)}. [20] {مُتَّكِئِينَ} نصب على الحال. قرأ أبو جعمر: (مُتَّكِينَ) بإسكان الياء بغير همز، والباقون: بالهمز (¬1) {عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} صُفَّ بعضُها إلى بعض. {وَزَوَّجْنَاهُمْ} قَرنَّاهم، وليس في الجنة تزويج كالدنيا {بِحُورٍ} جمع حوراء، وهي البيضاء القوية بياض العين وسواد سوادها. {عِينٍ} جمع عيناء، وهي الكبيرة العينين مع جمالها. * * * {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}. [21] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ} قرأ أبو عمرو: (وَأَتْبَعْناهُمْ) بقطع الألف وفتحها وإسكان التاء والعين ونون وألف بعدها، والباقون: (وَاتَّبَعَتْهُمْ) بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وتاء ساكنة بعدها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 255). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 612)، و"التيسير" للداني (ص: 203)، و"تفسير البغوي" (4/ 239)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 256).

{ذُرِّيَّتُهُمْ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وابن عامر: بألف بعد الياء على الجمع، وأبو عمرو وحده يكسر التاء والهاء، ويعقوب وابن عامر يضمانهما، وقرأ الباقون: بغير ألف على التوحيد مع ضم التاء والهاء (¬1). {بِإِيمَانٍ} المعنى: أن المؤمنين اتبعتهم ذريتهم، وهم أولادهم الصغار والكبار بسبب إيمانهم، فكبارهم بإيمانهم بأنفسهم، وصغارهم بأن أتُبِعوا في الإِسلام بآبائهم بسبب إيمانهم؛ لأنَّ الولد يُحكم بإسلامه تبعًا لأحد أبويه إذا أسلم، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقال مالك: يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام أبيه دون أمه، وأما إذا مات أحد أبويه في دار الإسلام، فقال أحمد: يحكم بإسلامه، وهو من مفردات مذهبه؛ خلافًا للثلاثة، واختلفوا في إسلام الصبي المميز ورِدَّته، فقال الثلاثة: يصحان منه، وقال الشافعي: لا يصحان. {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} المؤمنين في الجنة بدرجاتهم، وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجة آبائهم؛ تكرمة لآبائهم؛ لتقر بذلك أعينهم. قرأ ابن كثير، والكوفيون: (ذُرَيَّتهمْ) بغير ألف على التوحيد مع فتح التاء، وقرأ الباقون: بالألف على الجمع مع كسر التاء. {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} قرأ ابن كثير: بكسر اللام، والباقون: بنصبها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 203)، و"الكشف" لمكي (2/ 290)، و "تفسير البغوي" (4/ 240)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 377)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 257). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 612)، و"التيسير" للداني (ص: 203)، و"تفسير البغوي" (4/ 240)، و "معجم القراءات القرآنية" (6/ 258).

[22]

{مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (مِنْ) الأولى متعلقة بـ (ألتناهم)، والثانية زائدة، المعنى على القراءتين: ما نقصناهم من عملهم شيئًا. {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ} من خير وشر {رَهِينٌ} مرهون، فنفس المرء مرهونة بعمله، ومطالَبة ومجازاة به. * * * {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)}. [22] {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} زِذْناهم في وقت بعد وقت. {بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} وإن لم يصرحوا بطلبه. * * * {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)}. [23] {يَتَنَازَعُونَ} يتداولون بينهم {فِيهَا كَأْسًا} خمرًا. {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} أي: لا يُذهب عقولَهم فَيَلْغُوا ويأثموا كشاربي خمر الدنيا. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (لا لَغْوَ وَلا تأثِيمَ) بفتح الواو والميم بغير تنوين، والباقون: برفعهما مع التنوين (¬1). * * * {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)}. [24] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} مع ذلك للخدمة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 612)، و"التيسير" للداني (ص: 82)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 211)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 259).

[25]

{غِلْمَانٌ} أرقّاءُ {لَهُمْ كَأَنَّهُمْ} حسنًا ولطافة. {لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} مصون (¬1) في الصَّدَف. قرأ أبو جعفر: (لُوْلُؤٌ) بإسكان الواو الأولى ورفع الثانية منونة من غير همز فيهما (¬2)، وأبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو: بإبدال الهمز الأول، وبالهمز في الثاني، والباقون: بالهمز فيهما. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أدنى أهلِ الجنة منزلةً مَنْ ينادي الخادمَ من خدامه، فيجيبه ألفُ خادمٍ ببابه: لَبَّيْكَ لَبيك" (¬3). * * * {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)}. [25] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بعدَ اجتماعِهم ودورانِ الكأس عليهم {يَتَسَاءَلُونَ} يسأل بعضهم بعضًا؛ تلذذًا واعترافًا بالنعمة عما كانوا عليه، وما وصلوا إليه. ¬

_ (¬1) "مصون" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 390 - 394)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 401)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 259). (¬3) رواه الثعلبي في "تفسيره" (9/ 129)، والديلمي في "مسند الفردوس" (831)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 374)، و"تفسير القرطبي" (17/ 69).

[26]

{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)}. [26] {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا} في الدنيا {مُشْفِقِينَ} خائفين من عذابه تعالى. * * * {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)}. [27] {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالمغفرة {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} اسمٌ من أسماء جهنم، والسموم: الحار الذي يبلغ مسام الإنسان، وهو النار في هذه الآية. * * * {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}. [28] {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ} من قبل البعث {نَدْعُوهُ} نعبده موحِّدين {إِنَّهُ} قرأ نافع، وأبو جعفر، والكسائي: بفتح الهمزة، أي: لأنه، وقرأ الباقون: بكسرها على الاستئناف (¬1) {هُوَ الْبَرُّ} المحسن الصادق في وعده {الرَّحِيمُ} العظيم الرحمة. * * * {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)}. [29] {فَذَكِّرْ} دُمْ على تذكير المشركين {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} برحمته ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 203)، و"تفسير البغوي" (4/ 242)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 378)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 260).

[30]

وعصمته، و (نِعْمَت) رُسمت بالتاء، وقف عليها بالهاء: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب (¬1) {بِكَاهِنٍ} هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب {وَلَا مَجْنُونٍ} كما يقولون. * * * {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)}. [30] {أَمْ يَقُولُونَ} أي: بل أيقولون: هو {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ} ننتظر. {بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} حوادثَ الدهر، فيهلك كغيره من الشعراء. * * * {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)}. [31] {قُلْ تَرَبَّصُوا} انتظروا هلاكي، وعيدٌ في صيغة أمر. {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} المنتظرين هلاككم، فُعذِّبوا بالسيف يوم بدر. {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)}. [32] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ} عقولُهم {بِهَذَا} القولِ المتناقض، وهو قولهم له - صلى الله عليه وسلم -: ساحر، كاهن، شاعر، وذلك أن عظماء قريش كانوا يعرفون (¬2) بالأحلام والعقول، فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمرهم معرفة الحق من الباطل. ¬

_ (¬1) سلفت عند تفسير الآية (231) من سورة البقرة. (¬2) في "ت": "يوصفون".

[33]

{أَمْ هُمْ} بل هم {قَوْمٌ طَاغُونَ} مجاوزون الحدَّ في العناد. * * * {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}. [33] {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} اختلقَ محمدٌ القرآن. {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} المعنى: لم يمتنعوا عن الإيمان بالقرآن لأنه مختلَق، بل تكبرًا. * * * {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}. [34] فإن كان كما زعموا مختلقًا {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أي: مثلِ القرآن ونظمِه وحسنِ بيانه {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في قولهم. * * * {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)}. [35] {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي: من غير مقدر. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} لأنفسهم، ولا بد للخلق من خالق، فهلَّا يوحِّدون خالقهم. * * * {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)}. [36] {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فلا يعبدون خالقهما (¬1). {بَلْ لَا يُوقِنُونَ} بخالقهما. ¬

_ (¬1) في "ت": "خالقهم".

[37]

{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)}. [37] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ} أي: مفاتيح خزائن رحمة {رَبِّكَ} من النبوة والرزق وغيرهما، فيخصوا من شاؤوا بما شاؤوا. قرأ أبو عمرو: (خَزائِن رَّبِّكَ) بإدغام النون في الراء (¬1). {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} المسلطون الجبارون. قرأ هشام عن ابن عامر، وقنبل عن ابن كثير، وحفص عن عاصم، بخلاف عن الثاني والثالث: (الْمُسَيْطِرُونَ) بالسين، وقرأ حمزة: بين الصاد والزاي، بخلاف عن رواية خلاد، وقرأ الباقون: بالصاد الخالصة (¬2). * * * {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)}. [38] {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} يرتقون به إلى السماء {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} الوحيَ وكلامَ الملائكة، فيقولوا ما شاؤوا، فإن كان كذلك. {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ} فَرَضًا على دعواهم {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} حجة بينة. * * * {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)}. [39] {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ} بزعمكم. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 359)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 261). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 204)، و"الكشف" لمكي (2/ 292)، و"تفسير البغوي" (4/ 244)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 401)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 261 - 262).

[40]

{وَلَكُمُ الْبَنُونَ} فيه تسفيه لهم، وإشعار بأن مَنْ هذا رأيه، فلا (¬1) يُعَدُّ من العقلاء. * * * {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)}. [40] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} على الإنذار {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ} أي: غُرم، وهو ما يلزم أداؤه، فهم بذلك {مُثْقَلُونَ} فلا يُسْلِمون. * * * {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)}. [41] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} اللوح المحفوظ. {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه، ويخبرون الناس به. * * * {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)}. [42] {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} مكرًا بك؛ ليهلكوك. {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} المهلكون (¬2) جزاء كيدهم. * * * {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)}. [43] {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} يستحق العبادة {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} من ¬

_ (¬1) في "ت": "لا". (¬2) "المهلكون" زيادة من "ت".

[44]

الآلهة، وجميع ما في هذه السورة من ذكر (أَمْ) استفهام غير عاطفة، واستفهم تعالى مع علمه بهم؛ تقبيحًا عليهم، وتوبيخًا لهم؛ كقول الشخص لغيره: أجاهل أنت؟ مع علمه بجهله. * * * {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)}. [44] {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا} قطعًا {مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} عليهم؛ ليعذَّبوا به. {يَقُولُوا} عنادًا وجهلًا: {سَحَابٌ مَرْكُومٌ} بعضُه فوق بعض يَسقينا. * * * {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)}. [45] {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا} يعاينوا. قرأ أبو جعفر: (يَلْقوْا) بفتح الياء وإسكان اللام وفتح القاف من غير ألف قبلها، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح اللام وألف بعدها وضم القاف (¬1). {يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} وذلك عند النفخة الأولى. قرأ ابن عامر، وعاصم: (يُصْعَقُونَ) بضم الياء؛ أي: يهلكون، وقرأ الباقون: بفتحها؛ أي: يموتون (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 262). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 613)، و"الكشف" لمكي (2/ 292)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 262).

[46]

{يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)}. [46] وتبدل من {يَوْمَهُمُ} {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} من الإغناء في رد العذاب {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله. * * * {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)}. [47] {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} كفروا {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} أي: قبل المعد لهم يوم القيامة، وهو القتل ببدر {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بذلك. * * * {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)}. [48] {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فيهم بالإمهال، ولا يضيق صدرك. قرأ أبو عمرو: (واصْبِر لِّحُكْمِ) بإدغام الراء في اللام، وروي عنه الإظهار، والوجهان صحيحان عنه (¬1). {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} بحيث نراك ونلحظك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: قل: سبحان الله وبحمده {حِينَ تَقُومُ} من منامك. * * * {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}. [49] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي: صلِّ له، يعني: المغرب والعشاء. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 359)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 263).

{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} يعني: الركعتين قبل صلاة الفجر، وذلك حين تدبر النجوم؛ أي: تغيب بضوء الصبح. اتفق القراء على كسرة الهمزة في (وَإِدْبارَ النُّجُومِ)؛ إذ المعنى على المصدر؛ أي: وقت أُفول النجوم وذهابها، لا جمع دبر، كما تقدم لبعض القراء في (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) في سورة (ق) [الآية: 40]، والله سبحانه أعلم. * * *

سورة النجم

سورة النجم مكية بإجماع من (¬1) المتأولين، وآيها: اثنتان وستون (¬2) آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وخمسة أحرف، وكلمها ثلاث مئة وستون كلمة، وهي أول سورة أعلنَ بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجهرَ بقراءتها في الحرم، والمشركون يستمعون، وفيها سجد، وسجد معه المؤمنون والمشركون، والجن والإنس غير أبي لهب؛ فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. وسبب هذه السورة أن المشركين قالوا: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يتقول القرآن، ويختلق أقواله، فنزلت الآية في ذلك. وهذه السورة أول المفصل على أحد القولين في مذهب مالك، وتقدم التنبيه عليه في أول الشورى عند ذكر القول الآخر، وقد ذكر اختلاف الأئمة في المفصل في أول التفسير، ثم ذكر كل مذهب في محله، وهو عند أول الشورى، والحجرات، وق، وهذا المحل، والله الموفق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}. ¬

_ (¬1) "من" ساقطة من "ت". (¬2) في "ت": "ستون وآيتان".

[1]

[1] {وَالنَّجْمِ} يعني: الثريا، والعرب لا تقول النجم مطلَقًا إلا للثريا. {إِذَا هَوَى} سقط عند غروبه، وقيل: المراد: الجملة من القرآن إذا تنزلت، وذلك أنه روي أن القرآن نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نجومًا؛ أي: أقدارًا مقدرة في أوقات ما، ويجيء (هَوَى) على هذا التأويل بمعنى: نزل. قال ابن عطية: وفي هذا المعنى بُعد وتحامُل على اللغة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، والخلاف في هذه كالخلاف في تلك (¬1)، وهو قسم بالنجم وقتَ هويِّه، أو بالقرآن وقتَ نزوله. * * * {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)}. [2] وجواب القسم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الهدى {وَمَا غَوَى} ما لابسَ الغَيَّ، وهو نقيض الرشد. قرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: بإمالة رؤوس آي هذه السورة؛ بخلاف عنهما، وافقهما على الإماله: حمزة، والكسائي، وخلف (¬2). * * * {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)}. [3] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي: لا يتكلم بالباطل عن هوى نفسه. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 195). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 614)، و"التيسير" للداني (ص: 204)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 402)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 7 وما بعدها).

[4]

{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}. [4] {إِنْ هُوَ} أي: نطقُه - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن وما يأتيه من السماء {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} إليه، لم يقله من تلقاء نفسه. * * * {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)}. [5] {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} هو جبريل عليه السلام، والقوى: جمع القوة. * * * {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)}. [6] {ذُو مِرَّةٍ} قوة شديدة في خلقه {فَاسْتَوَى} فاستقر جبريل. * * * {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)}. [7] {وَهُوَ} يعني: محمدًا، المعنى: استوى جبريل ومحمدٌ ليلة المعراج. {بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} عند مطلع الشمس. * * * {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)}. [8] {ثُمَّ دَنَا} قَرُب جبريل من محمَّد {فَتَدَلَّى} زادَ في القُرب، والأكثرون على أن هذا الدنوَّ والتدلِّي منقسم بين جبريل -عليه السلام-، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو مختص بأحدهما من الآخر، أو من سدرة المنتهى.

وقال ابن عباس: "هو محمدٌ دنا وتدلى من ربه". وحكي عن ابن عباس أيضًا: "هو الربُّ دنا من محمَّد، فتدلَّى إليه؛ أي: أمرُه وحكمُه" (¬1). قال القاضي أبو الفضل -رضي الله عنه- في كتاب "الشفا": فاعلم أن ما وقع في إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله، فليس بدنو مكان ولا قرب حدًّا، بل كما ذكرنا عن جعفر الصادق: "فليس بدنو حَدّ، وإنما دنوُّ النبي من ربه وقربُه منه إبانةُ عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته، ومن الله تعالى له مبرة وتأنيس، وبسط وإكرام" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 197)، و"تفسير البغوي" (4/ 251). (¬2) انظر: "الشفا" للقاضي عياض (1/ 204)، وقول ابن عباس السالف منه. وقال القاضي في نهاية هذا الكلام: ويتأول فيه ما يُتأول في قوله: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا". وذكر الإمام ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/ 65) ما يؤيد قولَ ابنِ عباس الأخير بما روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: دنا الجبَّار ربُّ العزة فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى. اهـ وهذا القول متأوَّل على ما ذكر القاضي عياض. ومن المعلوم أن أكثر العلماء على أن هذا الدنو والتدلي منقسم ما بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، أو مختص بأحدهما من الآخر ومن السدرة المنتهى. كما ذكر النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (3/ 4).

[9]

{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)}. [9] {فَكَانَ قَابَ} قدرَ {أَوْ أَدْنَى} بل أقرب، فمن جعل الضمير عائدًا إلى الله لا إلى جبريل على هذا كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، واتضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب قربٌ بالإجابة والقبول، وإتيانٌ بالإحسان وتعجيل المأمول، وإنما ذكر (القَوْسَين)؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس، ويقال: قاب قوسين؛ يعني: قدر ذراعين، وإنما سمي الذراع قوسًا؛ لأنه يقاس به الأشياء. * * * {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}. [10] {فَأَوْحَى} اللهُ {إِلَى عَبْدِهِ} - صلى الله عليه وسلم - {مَا أَوْحَى} قوله تعالى: (مَا أَوْحَى) إبهام على جهة التفخيم والتعظيم، والذي عُرف من ذلك فرضُ الصلاة. * * * {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)}. [11] {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} قرأ أبو جعفر، وهشام عن ابن عامر: (كَذَّبَ) بتشديد الذال؛ يعني: ما كذب قلب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. {مَا رَأَى} بعينه، وقرأ الباقون: بتخفيفها (¬1)؛ أي: ما ارتابَ القلب، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 204)، و"تفسير البغوي" (4/ 252)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 402)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 9).

[12]

وقرأ ورش عن نافع: (الْفُوَادُ) بفتح الواو بغير همز، والباقون: بالهمز، تلخيصه: لم يوهم القلبُ العينَ غيرَ الحقيقة، بل صَدَّق رؤيتَها. واختلف السلف والخلف هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء؟ فأنكرته عائشة، وخالفها ابن عباس وجمع، وتقدم الكلام في ذلك مستوفىً في أول سورة الإسراء في قصة المعراج. * * * {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)}. [12] {أَفَتُمَارُونَهُ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب: (أَفَتَمْرُونَهُ) بفتح التاء وإسكان الميم من غير ألف؛ أي: أتجحدونه، وقرأ الباقون: بضم التاء وفتح الميم وألف بعدها؛ أي: أتجادلونه (¬1) {عَلَى مَا يَرَى} لأن المشركين أنكروا إسراءه - صلى الله عليه وسلم -، ومشاهدتَه جبريل عليه السلام. * * * {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}. [13] فأكذبهم الله تعالى بقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ} أي: رأى محمدٌ جبريلَ على صورته حقيقة، وعلى قول ابن عباس ومَنْ وافقه: رأى رَبَّه. قرأ ورش، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وخلف، وابن ذكوان بخلاف عنه: (رَآهُ) بإمالة الهمزة والراء، وأمال الدوري عن أبي عمرو الهمزة بخلاف عنه، وأمال السوسي الراء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني ص: 204)، و"تفسير البغوي" (4/ 253)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 379)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 10). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 614)، و "التيسير" للداني (ص: 204)، =

[14]

{نَزْلَةً} مرةً {أُخْرَى} لأنه - صلى الله عليه وسلم - عرج إلى السماء مرات بسبب الصلوات، فكان لكل عرجة نزلة. * * * {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)}. [14] وكانت الرؤيا {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش، لا يتجاوزها أحد من الملائكة ولا غيرهم، ولا يعلم ما وراءها إلا هو تعالى، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها. * * * {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)}. [15] {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} أراد أن يعظم مكان السدرة ويشرفه بأن جنة المأوى عنده، وهي الجنة التي يأوي إليها الملائكة. * * * {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)}. [16] {إِذْ يَغْشَى} يغطِّي {السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} العامل في (إِذْ) (رَآهُ)، والمعنى: رآه في هذه الحال، و {مَا يَغْشَى} معناه: من قدرة الله وأنواع الصفات التي يخترعها لها، وذلك مبهم على جهة التفخيم والتعظيم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ على كل ورقة منها ملكًا قائمًا يُسَبِّحُ الله" (¬1). ¬

_ = و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 7 و 10). (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 519) عن عبد الرحمن بن زيد، مرسلًا. =

[17]

{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)}. [17] {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} ما مال بصر محمَّد يمينًا ولا شمالًا، أضاف الأمر للبصر. {وَمَا طَغَى} أي: ما جاوز ما رأى. * * * {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}. [18] {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} التي يمكن أن يراها البشر الآيةَ {الْكُبْرَى} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان: (ما رَأَى) (لَقَدْ رَأَى) بإمالة الراء والهمزة، واختلف عن هشام وأبي بكر، وأمال أبو عمرو الهمزة فقط. * * * {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)}. [19] {أَفَرَأَيْتُمُ} مخاطبة لقريش، وهي من رؤية العين، لما فرغ من ذكر عظمة الله تعالى وقدرته، قال على جهة التوقيف: أرأيتم هذه الأوثانَ وحقارتَها، وبعدَها عن هذه القدرة والصفات العلية {اللَّاتَ} صنم ثقيف بالطائف. قرأ رويس عن يعقوب: بتشديد التاء، ويمدُّ الساكنين، وقرأ الباقون: بتخفيفها، والكسائي يقف عليها بالهاء (¬1). ¬

_ = وانظر: "تفسير الثعلبي" (9/ 143)، و"تفسير البغوي" (4/ 248)، و"تفسير القرطبي" (17/ 96). (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 132 و 379)، و"معجم =

[20]

{وَالْعُزَّى} سَمُرة كانت غطفان تعبدها، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد فقطعها، واجتث أصلها، فخرجت من أصلها شيطانة، فقتلها. * * * {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)}. [20] {وَمَنَاةَ} اسم علم (¬1) لصنم هُذيل وخُزاعة، وألفها منقلبة عن ياء؛ لأنها من مني يمني. قرأ ابن كثير: (مَناءَةَ) بهمزة بعد الألف، فيمد للاتصال، وقرأ الباقون: بغير همز، والوقف عليها لجميع القراء بالهاء اتباعًا للرسم (¬2) {الثَّالِثَةَ} نعت لـ (مناة)؛ لأنها ثالثة الصنمين. {الْأُخْرَى} نعت ذم، نحو: و {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ} [الأعراف: 38]؛ أي: ضعفاؤهم لرؤسائهم؛ أي: مناة الحقيرة، وقيل: اللات والعزى ومناة كانت أصنامًا من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها، واشتقوا لها أسماء من أسماء الله سبحانه، فقالوا: من الله: اللات، ومن العزيز: العزى، ومن المنان: مناة، ومعنى الآية: أخبرونا ألهذه الآلهة المعبودة قدرة على شيء ما فتعبدونها دون الله تعالى؟! وتقدم في سورة الحج ما ألقاه الشيطان في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قرأ هذه الآية. ¬

_ = القراءات القرآنية" (7/ 12). وذكرها البغوي في "تفسيره" (4/ 256)، من قراءة ابن عباس وأبي صالح. (¬1) "علم" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 615)، و"التيسير" للداني (ص: 204)، و"تفسير البغوي" (4/ 257)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 13).

[21]

{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)}. [21] ولما قالوا: الملائكة والأصنام بنات الله، مع كراهتهم البنات، نزل إنكارًا عليهم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} المعنى: إذا كرهتم البنات، فكيف تجعلون لكم البنين، وله تعالى البنات؟! * * * {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}. [22] {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} جائرة؛ حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم. قرأ ابن كثير: (ضِئْزَى) بالهمز؛ من ضأزه يضأزه ضأزًا، وقرأ الباقون: بغير همز (¬1)؛ من ضازه يضيزه ضيزًا. * * * {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)}. [23] {إِنْ هِيَ} أي: الأصنام {إِلَّا أَسْمَاءٌ} لا حقيقة تحتها من نفع أو ضر {سَمَّيْتُمُوهَا} أي: سميتم بها {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} آلهة تخرُّصًا. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا} بتلك الأسماء {مِنْ سُلْطَانٍ} حجة على تسميتهم، ثم رجع إلى الخبر بعد المخاطبة، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} في قولهم: إنها آلهة {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} الخبيثة مما زين لهم الشيطان. {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} على لسان الرسل. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 615)، و"التيسير" للداني (ص: 204)، و"تفسير البغوي" (4/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 14).

[24]

{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)}. [24] {أَمْ لِلْإِنْسَانِ} (أَمْ) منقطعة، والهمزة فيها للإنكار، المعنى: ليس للكافر. {مَا تَمَنَّى} من شفاعة الأصنام. * * * {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)}. [25] {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} يحكم فيهما بما يريد، فالأمر كله لله. * * * {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)}. [26] {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} إن شفعوا لا يشفعون. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ} أن يشفع له {وَيَرْضَى} عنه. * * * {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)}. [27] {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله.

[28]

{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)}. [28] {وَمَا لَهُمْ بِهِ} أي: بذلك القولِ {مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فإنه (¬1) لا اعتبار له في المعارف الحقيقية. * * * {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)}. [29] {فَأَعْرِضْ عَنْ} إبلاغَ {مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} عن العمل بالقرآن. {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وهذا منسوخ بآية السيف. * * * {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)}. [30] {ذَلِكَ} أي: طلب الدنيا {مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} لا يتجاوزه علمُهم. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} أي: هو أعلم بالفريقين، فيجازيهم. * * * {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)}. [31] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فهذا معترض بين الآية الأولى، ¬

_ (¬1) في "ت": "فإن".

[32]

وبين قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} من الشرك، فاللام في (لِيَجْزِيَ) متعلق بمعنى الآية: إذا كان أعلم بهم، جازى كلًّا بما يستحقه. {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} وَحَّدوا ربهم {بِالْحُسْنَى} بالجنة. * * * {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}. [32] ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} الشرك. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (كَبِيرَ) بكسر الباء من غير ألف ولا همز على التوحيد، والباقون: بفتح الباء وألف وهمزة مكسورة بعدها على الجمع (¬1). {وَالْفَوَاحِشَ} ما فَحُش من الذنوب {إِلَّا اللَّمَمَ} استثناء منقطع، واللمم: ما صغر من الذنوب؛ كالغمزة والنظرة واللمسة والقبلة. {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} لمن فعل ذلك وتاب. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي: خلق أباكم آدمَ من تراب. {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} جمع جنين، سمي جنينًا؛ لاجتنانه؛ أي (¬2): استتاره في البطن. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 615)، و"التيسير" للداني (ص: 195)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 16). (¬2) "لاجتنانه؛ أي" زيادة من "ت".

[33]

{فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} قرأ حمزة: (إِمِّهاتِكُمْ) بكسر الهمزة والميم، وقرأ الكسائي: بكسر الهمزة فقط، وكل منهما بشرط الوصل، وقرأ الباقون: بضم الهمزة وفتح الميم، واتفقوا على الابتداء كذلك (¬1). {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} تُثنوا عليها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} وأخلصَ العمل. * * * {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)}. [33] كان الوليد بن المغيرة المخزومي قد سمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجلس إليه، ووعظه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقرب إلى الإسلام، وطمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجعْ إلى دينك، أثبت عليه، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما همَّ به من الإسلام، وضل ضلالًا بعيدًا، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشحَّ، فنزل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} (¬2) عن الإيمان. * * * {وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)}. [34] {وَأَعْطَى} صاحبَه {قَلِيلًا} من ماله {وَأَكْدَى} قطعَ عطيته بخلًا، وأصله من الكدْيَة: أرضٌ صلبة كالصخرة تمنع حافرَ البئر من النفوذ. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 94)، و"الكشف" لمكي (1/ 379)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 16 - 17). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 541)، وذكره البغوي في "تفسيره" (4/ 262)، والقرطبي في "تفسيره" (17/ 111) عن ابن زيد ومقاتل.

[35]

{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)}. [35] {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} أعلمَ من الغيب أنَّ مَنْ تحمل ذنوبَ أحد، فإن المتحمل عنه ينتفع بذلك {فَهُوَ} لهذا الذي علمه {يَرَى} الحقَّ، وله فيه بصيرة؟! * * * {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)}. [36] {أَمْ} هو جاهل {لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} يعني: أسفار التوراة. قرأ أبو جعفر: (يُنَبَّا) بإبدال الهمز، والباقون: بالهمز (¬1) (¬2). * * * {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)}. [37] {وَإِبْرَاهِيمَ} قرأ هشام عن ابن عامر: (أَبْراهامَ) بالألف، والباقون: بالياء (¬3) {الَّذِي وَفَّى} أي: تمم ما أُمر به، وبلغ رسالات ربه إلى خلقه. عن أبي ذر الغفاري (¬4) -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله! كم من كتابٍ أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قال: "مئة كتاب، وأربعة كتب، ¬

_ (¬1) "والباقون: بالهمز" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 18). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 403)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 18). (¬4) "الغفاري" زيادة من "ت".

[38]

أنزل الله (¬1) على آدم عشر صحائف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل الله (¬2) التوراة والإنجيل والزبور والفرقان"، قلت: يا رسول الله! ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: "كانت أمثالًا: أيها الملِكُ المبتلى المغرور! إني لم أبعثك فتجمعَ الدنيا بعضَها إلى بعض، ولكن بعثتُك، تردُّ دعوة المظلوم، فإني لا أردها، وإن كانت من كافر، وكان فيها أمثال منها: على العاقل -ما لم يكن مغلوبًا على عقله- أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، ويفكر في صنع الله، وساعة يحاسب نفسه فيما قدم وأخر، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب وغيرهما، وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن علم أن كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه". ويأتي ما نقل من صحف موسى آخر سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. * * * {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)}. [38] ثم بين تعالى ما في صحفهما، فقال: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل حاملة حملَ غيرِها بأن تؤخذ بإثمها، وفي هذا إبطال قول من قال للوليد بن المغيرة: إنه يحمل عنه الإثم. ¬

_ (¬1) لفظ الجلالة زيادة من "ت". (¬2) لفظ الجلالة زيادة من "ت".

[39]

{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}. [39] وتعطف على {أَلَّا تَزِرُ} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} عمل ونوى، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، لا يثاب بفعله، وما جاء في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت، فلكون الناوي له كالنائب عنه. واختلف الأئمة فيما يُفعل من القرب؛ كالصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة (¬1)، ويُهدى ثوابه للميت المسلم، فقال أبو حنيفة وأحمد: يصل ذلك إليه، ويحصل له نفعه بكرم الله ورحمته، وقال الشافعي ومالك: يجوز ذلك في الصدقة والعبادة المالية، وفي الحج، وأما في غير ذلك من الطاعات؛ كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وغيره، لا يجوز، ويكون ثوابه لفاعله، وعند المعتزلة: ليس للإنسان جعلُ ثواب عملِه في شيء من الأعمال لغيره، ولا يصل، ولا ينفعه. واختلفوا فيمن مات قبل أن يحج، فقال أبو حنيفة ومالك (¬2): يسقط عنه الحج بالموت، ولا يلزم الحج عنه إلا أن يوصي بذلك، وقال الشافعي وأحمد: لا يسقط عنه، ويلزم الحج عنه من رأس ماله. واختلفوا فيمن لم يحج عن نفسه، هل يصح أن يحج عن غيره؟ فقال أبو حنيفة ومالك: يصح، ويجزئ عن الغير مع الكراهة، وقال الشافعي وأحمد: لا يصح، فلو فعل، وقع عن نفسه. وأما الصلاة، فهي عبادة بدنية، لا تصح فيها النيابة بمال ولا بدن بالاتفاق، وعند أبي حنيفة: إذا مات وعليه صلوات، يعطى لكل صلاة ¬

_ (¬1) "والصدقة" زيادة من "ت". (¬2) "ومالك" زيادة من "ت".

[40]

نصف صاع بر، أو صاع من تمر، أو شعير، أو قيمة ذلك فدية تصرف للمساكين، وليس للمدفوع إليه عدد مخصوص، فيجوز أن يدفع لمسكين واحد الفدية عن عدة صلوات، ولا يجوز أن تدفع فدية صلاة لأكثر من مسكين، ثم لا بد من الإيصاء بذلك، فلو تبرع الورثة بذلك، جاز من غير لزوم، وهو من مفردات مذهبه، وهو (¬1) خلاف (¬2) للثلاثة. * * * {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)}. [40] {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} في ميزانه يوم القيامة. * * * {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}. [41] {ثُمَّ يُجْزَاهُ} أي: يُجزى (¬3) العبدُ سعيَه {الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} الأكملَ، والقراءة بفتح (أَنَّ) على أن (¬4) هذا كله في صحف موسى. * * * {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)}. [42] {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي: الانتهاء، وهو رجوع الخلائق إليه تعالى بعد الموت، فيجازيهم. ¬

_ (¬1) "وهو" ساقطة من "ت". (¬2) في "ت": "خلافًا". (¬3) "أي يجزى" زيادة من "ت". (¬4) "على أن" زيادة من "ت".

[43]

{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} [43] {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ذكر الضحك والبكاء؛ لأنهما صفتان تجمعان أوصافًا كثيرة من الناس؛ إذ الواحدة دليل السرور، والأخرى دليل الحزن في الدنيا والآخرة، فنبه تعالى بهاتين الخاصتين اللتين هما للإنسان وحده. * * * {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)}. [44] {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ} في الدنيا. {وَأَحْيَا} للبعث، فلا يقدر على الإماتة والإحياء غيره. * * * {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)}. [45] {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} الصنفين {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} من كل حيوان. * * * {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)}. [46] {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} تُراق في الرحم. * * * {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)}. [47] {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ} الخلقة {الْأُخْرَى} للبعث بعد الموت. وتقدم اختلاف القراء في (النَّشْأَةَ) في سورة العنكبوت.

[48]

{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)}. [48] {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى} الناسَ بالكفاية والأموال. {وَأَقْنَى} أعطى القُنية وما يدخرونه بعد الكفاية. * * * {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)}. [49] {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وهو كوكب خلف الجوزاء، وهما شعريان، يقال لأحدهما: العبور، وهي اليمانية، وللأخرى: الغميصاء، والمراد هنا: العبور، وهي أشد ضياء، عبدها أبو كبشة من خزاعة، وخالف قريشًا في عبادة الأوثان، فلذلك كانوا يسمون النبي -صلى الله عليه وسلم-: ابن أبي كبشة؛ لخلافه إياهم كخلاف أبي كبشة في عبادة الشعرى. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (وَأَنَّه هُّوَ) بإدغام الهاء في الهاء في الأحرف الأربعة؛ بخلاف عن رويس (¬1). * * * {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)}. [50] {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (عادً الأُولى) بإدغام التنوين في اللام وتشديدها مضمومة بلا همز بعدها، على أنهم لم يحركوا التنوين؛ لالتقاء الساكنين، بل أدغموه في لام التعريف بعد أن حركوا اللام بحركة الهمزة التي هي فاء الفعل حتى ساغ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 361)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 403)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 20).

[51]

الإدغام فيه، وقرأ الباقون وهم: ابن كثير، والكوفيون، وابن عامر: بكسر التنوين؛ لاجتماع الساكنين، وإسكان اللام، وتحقيق الهمزة بعدها (¬1)، وهذا حكم الوصل، وأما حكم الابتداء، فيجوز في مذهب أبي عمرو، ويعقوب، وقالون، وأبي جعفر إذا لم يهمزوا الواو ثلاثةُ أوجه: (ألُولى) بإثبات همزة الوصل وضم اللام بعدها، الثاني: (لُولَى) بضم اللام وحذف همزة الوصل قبلها اكتفاء عنها بتلك الحركة، الثالث: (الأُولَى) ترد الكلمة إلى أصلها، فتأتي بهمزة الوصل وإسكان اللام وتحقيق الهمزة المضمومة بعدها، وعن قالون في الابتداء بها في وجه همز الواو [ثلاثة أوجه: الأول: (الُؤْلَى) بهمزة الوصل وضم اللام وهمزة ساكنة على الواو] (¬2)، والثاني: (لُؤْلَى) بضم اللام وحذف همزة الوصل وهمز الواو، الثالث: (الأُولَى) كوجه أبي عمرو الثالث، وعن أبي جعفر في هذه الأوجه الثلاثة خلاف، وكلهم يقف على (عادًا) بالألف؛ لأنها بدل من التنوين؛ لأنه اسم رجل، وعاد الأولى هم قوم هود، أُهلكوا بريح صرصر، وكان لهم عقب، فكانوا عادًا الأولى. * * * {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)}. [51] {وَثَمُودَ} هم قوم صالح، أهلكهم الله بالصيحة. قرأ عاصم، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 204)، و"تفسير البغوي" (4/ 267)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 410 - 411)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 21 - 22). (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت".

[52]

وحمزة، ويعقوب: بغير تنوين: اسم للقبيلة، وقرأ الباقون: بالتنوين (¬1): اسم للأب، منصوب بأهلكنا مقدرة، وكل من نَوَّنَ وقف بالألف، ومن لم ينون، وقف بغير ألف، وإن كانت مرسومة، فبذلك جاءت الرواية عنهم منصوصة {فَمَا أَبْقَى} منهم أحدًا. * * * {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)}. [52] {وَقَوْمَ نُوحٍ} أهلكناهم أيضًا {مِنْ قَبْلُ} أي: قبلَ عاد وثمود {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} لطولِ دعوة نوح إياهم، وعتوِّهم على الله بالمعصية والتكذيب. * * * {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)}. [53] {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} قرى قوم لوط. قرأ أبو جعفر: (والْمُوْتَفِكَةَ) بإسكان الواو بغير همز، والباقون: بالهمز، واختلف عن قالون (¬2). {أَهْوَى} أسقطَ؛ لأنَّ جبريل -عليه السلام- رفعها إلى السماء، ثم أسقطها مقلوبة إلى الأرض. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 615)، و"التيسير" للداني (ص: 205)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 23). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 490)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 404)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 23).

[54]

{فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)}. [54] {فَغَشَّاهَا} ألبسَها اللهُ {مَا غَشَّى} ولم يذكر المغشَّى؛ تهويلًا لشأنه. * * * {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)}. [55] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ} أي: أَنْعُمه الدالة على الوحدانية أيها الإنسان {تَتَمَارَى} تتشكك، والخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمراد: غيره. قرأ يعقوب: (رَبِّك تَّمارَى) بتاء واحدة مشددة حيث قرأها بالوصل، وأما إذا ابتدأ بقوله (تَتَمَارَى)، أظهر التاءين جميعًا؛ لموافقة الرسم والأصل، وبذلك قرأ الباقون (¬1)؛ فإن الإدغام إنما يتأتى في الوصل، وهذا بخلاف الابتداء بتاءات البزي في البقرة؛ فإنها مرسومة بتاء واحدة، فكان الابتداء كذلك موافقة للرسم، فلفظ الجميع في الوصل واحد، والابتداء مختلف؛ لما ذكر. * * * {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)}. [56] {هَذَا نَذِيرٌ} هو محمد - صلى الله عليه وسلم - {مِنَ النُّذُرِ} أي: الرسل. {الْأُولَى} يعني: من جنسهم أُرسل إليكم كما أُرسلوا إلى أقوامهم. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 300)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 24).

[57]

{أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}. [57] {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} قربت القيامة. * * * {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)}. [58] {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي: كاشف مزيل لها إذا جاءت، والهاء للمبالغة. * * * {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)}. [59] {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} أي: القرآن {تَعْجَبُونَ} تكذيبًا. قرأ أبو عمرو: (الْحَدِيث تَّعْجَبُونَ) بإدغام الثاء في التاء (¬1). * * * {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)}. [60] {وَتَضْحَكُونَ} استهزاءً {وَلَا تَبْكُونَ} مما فيه من الوعيد. * * * {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)}. [61] {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} لاهون. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 361)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 24).

[62]

{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}. [62] {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ} سجودَ التلاوة، أو صلوا المفروضات {وَاعْبُدُوا} وحِّدوا، وهذا محل سجود عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وهو قول عمر بن الخطاب؛ لأنه صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سجد بالنجم، وليس يراها مالك -رحمه الله-؛ لما روي عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "أنه قرأ على النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَالنَّجْمِ}، فلم يسجد فيها" (¬1)، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في حكم سجود التلاوة هل هو واجب أو مسنون عند سجدة مريم، والله سبحانه أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1022)، كتاب: أبواب سجود القرآن، باب: من قرأ السجدة ولم يسجد، ومسلم (577)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: سجود التلاوة.

سورة القمر

سورة القمر مكية، وقال بعضهم: إلا قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الآية، وآيها: خمس وخمسون آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وثلاثة وعشرون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة واثنتان وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. [1] {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} دَنَت القيامة {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. * * * {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)}. [2] روي أن أهل مكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُريهم آية، فأرأهم القمر شقتين حتى رأوا حِراءَ بينهما (¬1)، ورئي فرقتين: فرقة على قُعَيْقِعان، وفرقة على أبي قُبَيْس (¬2)، فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة، فاسألوا السُّفَّار، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3655)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: انشقاق القمر، ومسلم (2802)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: انشقاق القمر، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه أبو نعيم في "الحلية"، كما في "الدر المنثور" (7/ 671) وذكره القرطبي في =

[3]

فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه (¬1)، فنزلت الآية: {وَإِنْ يَرَوْا} أي: قريش {آيَةً} دالةً على معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ كانشقاق القمر {يُعْرِضُوا} عن الإيمان بها. {وَيَقُولُوا} هذا {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي: ذاهب، سوف يبطل؛ من قولهم: مر: إذا ذهب، وقيل: معناه: دائمٌ متمادٍ، ومعنى تسمية ما جاءت به الأنبياء معجزة: هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بها. * * * {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)}. [3] {وَكَذَّبُوا} النبي {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} في الباطل. {وَكُلُّ أَمْرٍ} من الخير والشر {مُسْتَقِرٌّ} بأهله في الجنة أو في (¬2) النار. قرأ أبو جعفر: (مُسْتَقرّ) بخفض الراء نعتًا لـ (أَمْرٍ)؛ أي: اقتربت الساعة، واقترب كل أمر مستقرٍّ يستقرُّ ويتبين حاله، وقرأ الباقون: برفعها على المعنى الأول (¬3). ¬

_ = "تفسيره" (17/ 127) عن ابن عباس. وقعيقعان وأبو قبيس هما جبلا مكة. (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (27/ 85)، ومن طريقه: الثعلبي في "تفسيره" (9/ 162). ورواه البيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 266)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (4/ 355). (¬2) "في" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 272)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 29).

[4]

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)}. [4] {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ} في القرآن {مِنَ الْأَنْبَاءِ} المتقدمة عن الأمم الماضية. {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} مُتَّعظ، زجرته وازدجرته: نهيته. * * * {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)}. [5] {حِكْمَةٌ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا حكمة. {بَالِغَةٌ} تامة قد بلغت الغاية. {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} نفي واستفهام توبيخ. وقف يعقوب (تُغْنِي) بإثبات الياء، والنذر: جمع نذير (¬1). * * * {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)}. [6] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: لا تذهب نفسُك عليهم حسرات، وتم القول في قوله: (عَنْهُمْ)، ثم ابتدأ وعيدهم فقال: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} هو إسرافيل عليه السلام، ونصب (يَوْمَ) بـ: اذكر مقدرة. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، وورش: (الدَّاعِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب والبزي: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 138)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 30). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 206)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[7]

{إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} فظيع، تنكره النفوس؛ لأنها لم تعهَدْ مثله. قرأ ابن كثير: (نُكْرٍ) بإسكان الكاف، والباقون: بضمها (¬1). * * * {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)}. [7] {خُشَّعًا} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف: (خاشِعًا) بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين بعدها مخففة على الواحد، وقرأ الباقون: (خُشَّعًا) بضم الخاء وفتح الشين مشددة من غير ألف (¬2)، جمع خاشع، حال العاملُ فيها (يدْعُو)، وصاحب الحال ضميرٌ محذوف تقديره: يدعوهم الداعي، ولم يؤنث خاشع؛ لأنَّ تأنيثه غير حقيقي. {أَبْصَارُهُمْ} أي: ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب، وخص الأبصار بالخشوع؛ لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في الإنسان من حياء أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر. {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} والقبور {كَأَنَّهُمْ} لكثرتهم وما بهم من الخوف والحيرة. {جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} مُنْبَثٌّ لا يدرون أين يذهبون. ¬

_ = (2/ 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 30). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 617 - 618)، و"التيسير" للداني (ص: 205)، و"تفسير البغوي" (4/ 273)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 30 - 31). (¬2) المصادر السابقة.

[8]

{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}. [8] {مُهْطِعِينَ} حال من (يَخْرُجُونَ)؛ أي: مسرعين مادِّي أعناقهم. {إِلَى الدَّاعِ} إلى صوت إسرافيل. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (الدَّاعِي) بإثبات الياء، وابن كثير ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (¬1). {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} صعب شديد. * * * {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)}. [9] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} قبلَ قريش {قَوْمُ نُوحٍ} نوحًا {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} نوحًا؛ أي: كذبوه تكذيبًا بعد تكذيب، فكان كلما ذهب قرن مكذِّب، تبعه قرن مكذِّب. {وَقَالُوا} هو {مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} انْتُهِر وزُجر عن التبليغ بأنواع الأذية. * * * {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)}. [10] {فَدَعَا} نوحٌ {رَبَّهُ} منتصرًا عليهم {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} لي منهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 617)، و"التيسير" للداني (ص: 206)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 32).

[11]

{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)}. [11] {فَفَتَحْنَا} قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بتشديد التاء، والباقون: بتخفيفها (¬1) {أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} كثيرٍ سريع الانصباب، لم ينقطع أربعين يومًا. * * * {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)}. [12] {وَفَجَّرْنَا} أي: جعلنا {الْأَرْضَ عُيُونًا} كلها تنبع. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (عِيُونًا) بكسر العين، والباقون: بضمها (¬2) {فَالْتَقَى الْمَاءُ} أي: ماء الأرض وماء السماء، فصارا ماء واحدًا. {عَلَى أَمْرٍ} أي: حال {قَدْ قُدِرَ} مضى عليهم، وهو الغرق. * * * {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)}. [13] {وَحَمَلْنَاه} أي: نوحًا {عَلَى} سفينة {ذَاتِ أَلْوَاحٍ} هي خشباتها العِراض. {وَدُسُرٍ} جمع دِسار؛ أي: المسامير التي تشد بها الألواح. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 102)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 258)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 33). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 404)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 33).

[14]

{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)}. [14] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا وحمايتنا {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} يعني: فعلنا به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثوابًا لمن جُحِد أمرُه، وهو نوح - صلى الله عليه وسلم -. * * * {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}. [15] {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا} أي: أبقينا السفينة بباقَرْدَى من بلد الجزيرة حتى أبصرها أوائل هذه الأمة، أو أبقينا الفعلة بقوم نوح. {آيَةً} يُعتبر بها {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} معتبرٍ خائفٍ مثلَ عقوبتهم. * * * {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)}. [16] {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} استفهام تعظيم، ووعيد لقريش، والنذر هنا جمع نذير، المعنى: كيف كان عاقبة إنذاري لمن لم يحصل به كأنتم أيها القوم. قرأ ورش عن نافع: (وَنُذُرِي) في الأحرف الستة بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 680)، و"التيسير" للداني (ص: 206)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 34 - 35).

[17]

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}. [17] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} سهَّلناه للتلاوة والحفظ عن ظهر قلب. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} استدعاء وحض على ذكره وحفظه؛ لتكون زواجره وعلومه وهدايته حاضرة في النفس، وقيل: معناه: هل من طالب علم، فيعان عليه. * * * {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)}. [18] {كَذَّبَتْ عَادٌ} وهي قبيلة، وتقدم قَصَصُها. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله. * * * {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)}. [19] {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} شديدةَ الهبوب. {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} شؤم {مُسْتَمِرٍّ} صفته؛ أي: دائم الشؤم. * * * {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)}. [20] {تَنْزِعُ النَّاسَ} تقلَعُهم عن أماكنهم؛ لأنهم كانوا يدخلون الشعاب، ويحفرون الحفر يندسون فيها، فكانت الريح تقلعهم، وتصرعهم على رؤوسهم، فتدقُّ رقابهم، فَيَبين الرأس عن الجسد. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ} أصولُ {نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} منقلع، وشبهوا بالنخل؛ لطولهم،

[21]

وذكر منقعر حملًا على لفظ (نخل)، ولو حمل على المعنى، لأنث؛ كـ {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]. * * * {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)}. [21] {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} كرره للتهويل. * * * {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)}. [22] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} تقدم تفسيره. * * * {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)}. [23] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} بالإنذار الذي جاءهم به صالح عليه السلام. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشام: (كَذَّبَت ثَّمُودُ) بإدغام التاء في الثاء، واختلف عن ابن ذكوان، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1). * * * {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)}. [24] {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا} وانتصابُه بفعل يفسره. {نَتَّبِعُهُ} ونحن جماعة كثيرة، فكيف نتبعه وهو واحد منا، وليس بملك؟ ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 361)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 404)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 35).

[25]

{إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ} خطأٍ {وَسُعُرٍ} جنون إن اتبعناه. * * * {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)}. [25] {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ} الوحيُ {عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} ونحن أحقُّ به منه. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَأُلْقِيَ) كاختلافهم فيهما من (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) في سورة ص [الآية: 8] {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ} في قوله، {أَشِرٌ} متكبر بَطِر. * * * {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)}. [26] {سَيَعْلَمُونَ} قرأ ابن عامر، وحمزة: (سَتَعْلَمُونَ) بالخطاب على معنى: قل يا صالح لهم، وقرأ الباقون: بالغيب؛ أي: يقول الله: سيعلمون (¬1). {غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} وقوله: (غَدًا) تقريب يريد به الزمان المستقبل، لا يومًا بعينه (¬2). * * * {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)}. [27] {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} مخرجوها، وذلك أنهم تعنتوا على صالح، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 206)، و"تفسير البغوي" (4/ 276)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 36 - 37). (¬2) من قوله: "لهم عقب ... " (ص: 452) إلى هنا سقط من "ش".

[28]

فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء، فقال الله لهم: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ}. {فِتْنَةً لَهُمْ} اختبارًا لهم {فَارْتَقِبْهُمْ} فانتظر هلاكهم {وَاصْطَبِرْ} على أذاهم. * * * {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)}. [28] {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ} مقسوم {بَيْنَهُمْ} وبين الناقة، فيومٌ لهم ويومٌ لها. {كُلُّ شِرْبٍ} نصيب من الماء {مُحْتَضَرٌ} يحضره من كان نوبته، هم أو الناقة. * * * {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)}. [29] فهموا بقتلها {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} قدار بن سالف. {فَتَعَاطَى} فتناول الناقة بسيفه {فَعَقَرَ} الناقة؛ أي: قتلها. * * * {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30)}. [30] {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}. * * * {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)}. [31] ثم بين عذابهم فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} هي صيحة جبريل عليه السلام {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} هو الرجل يجعل لغنمه

[32]

حظيرة من الشجر والشوك دون السباع، فما سقط من ذلك فداسته الغنم، فهو هشيم، وقيل: هو يبس الشجر إذا تحطم. * * * {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)}. [32] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. * * * {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)}. [33] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ}. * * * {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)}. [34] {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} ريحًا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى. {إِلَّا آلَ لُوطٍ} يعني: لوطًا وابنتيه، والاستثناء منقطع. {نَجَّيْنَاهُمْ} من العذاب {بِسَحَرٍ} وهو السدس الآخر من الليل. * * * {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)}. [35] {نِعْمَةً} أي: جعلناه نعمة عليهم {مِنْ عِنْدِنَا} حيث أنجيناهم. {كَذَلِكَ} كما أنعمنا على آل لوط {نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} أَنْعُمَنا، وهو مؤمن.

[36]

{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)}. [36] {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ} لوط {بَطْشَتَنَا} أخذتنَا بالعذاب. {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} شَكُّوا في الإنذار. * * * {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)}. [37] {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} ليخبثوا بهم، فصدهم وأغلق بابه، فعالجوا فتحه، فقالت الملائكة: خَلِّ بيننا وبينهم، ففتحه، فصفقهم جبريل بجناحه. {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} مسحناها، فصاروا عميًا لا يبصرون، فثَمَّ قالت الملائكة إخبارًا عنه تعالى: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} أي: وما أنذركم به لوط. * * * {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)}. [38] {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} نصب على الظرف، وصرفت؛ لتنكيرها؛ أي: حل بهم وقتَ الصبح {عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} دائم متصل. * * * {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39)}. [39] {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}.

[40]

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)}. [40] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} كرر ذلك في كل قصة؛ لأن التخويف والوعظ متى كررا، كانا أوقع في القلوب، وأردع للنفوس. * * * {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)}. [41] {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} هما موسى وهارون. واختلاف القراء في الهمزتين من (جاءَ آلَ) كاختلافهم فيهما من (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ) في سورة الحج [الآية: 65]. * * * {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)}. [42] {كَذَّبُوا} أي: كذب فرعون وقومه {بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} يعني: الآيات التسع، وهي: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وحل عقدة من لسانه، وانفلاق البحر. {فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب {أَخْذَ عَزِيزٍ} غالب في انتقامه {مُقْتَدِرٍ} قادر على إهلاكهم. * * * {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)}. [43] {أَكُفَّارُكُمْ} يا قريش {خَيْرٌ} أشد وأعظم {مِنْ أُولَئِكُمْ} المذكورين من قوم نوح إلى فرعون؟! وهذا استفهام بمعنى الإنكار.

[44]

{أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ} من العذاب {فِي الزُّبُرِ} أي: الكتب أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية. * * * {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)}. [44] {أَمْ يَقُولُونَ} جهلًا منهم {نَحْنُ جَمِيعٌ} أي: جماعة أمرنا مجتمع {مُنْتَصِرٌ} أي: ممتنع لا نُضام، ووحد منتصر؛ لأنه وصف للفظ (جميع). * * * {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)}. [45] ولما قال أبو جهل يوم بدر: إنا جمع منتصر، نزل: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} (¬1) قرأ روح، وزيد عن يعقوب: (سَنَهْزِمُ) بالنون مفتوحة وكسر الزاي ونصب (الجمعَ) مفعولًا، وقرأ الباقون: بالياء (¬2) ورفعها (الجمعُ) رفع على غير تسمية الفاعل، المعنى: ينصر تعالى رسوله، ويهزم جمع المشركين. {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي: الأدبار، وإفراده لإرادة الجنس، فهزموا ببدر. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (27/ 109)، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وانظر: "تفسير الثعلبي" (9/ 170). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 278)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 40).

[46]

{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)}. [46] {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} بالتعذيب {وَالسَّاعَةُ} أي: عذابها. {أَدْهَى} أعظم داهية {وَأَمَرُّ} أشدُّ مرارة من الأسر والقتل يوم بدر. * * * {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)}. [47] {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} المشركين. {فِي ضَلَالٍ} في الدنيا {وَسُعُرٍ} نيران في العقبى. * * * {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)}. [48] وسعر مظروف {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} ويقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} أي: حر النار؛ فإن مسها سبب للتألم بها، وسقر: علم لجهنم، ولذلك لم يصرف. * * * {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}. [49] {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ} نصب لفعل يفسره {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي: بتقدير سابق. * * * {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}. [50] {وَمَا أَمْرُنَا} بشيء نريد تكوينه.

[51]

{إِلَّا وَاحِدَةٌ} أي: كلمة واحدة {كَلَمْحٍ} كنظر سريع {بِالْبَصَرِ} بالعين. * * * {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)}. [51] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} أشباهكم في الكفر ممن قبلكم (¬1). {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} متعظ فيخاف. * * * {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)}. [52] {وَكُلُّ شَيْءٍ} مبتدأ، نعته {فَعَلُوهُ} أي: العباد، مكتوب خبره. {فِي الزُّبُرِ} في كتب الحفظة. * * * {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)}. [53] {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الخلق وأعمالهم وآجالهم. {مُسْتَطَرٌ} مكتوب محفوظ. * * * {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)}. [54] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَنَهَرٍ} أي: أنهار، وتوحيده على أنه اسم الجنس، وهي أنهار الماء واللبن والعسل والخمر في الجنة. ¬

_ (¬1) "ممن قبلكم" زيادة من "ت".

[55]

{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. [55] {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} مكان مرضي مُقرَّبين. قرأ أبو عمرو: (مَقْعَد صِّدْقٍ) بإدغام الدال في الصاد (¬1). {عِنْدَ مَلِيكٍ} عزيز الملك {مُقْتَدِرٍ} قادر (¬2) لا يعجزه شيء، وهذا إشارة إلى الرتبة والقربى، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 361)، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 148)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 42). (¬2) "قادر" زيادة من "ت".

سورة الرحمن عز وجل

سورة الرحمن عز وجل مكية على الأصح، نزلت حين قالت قريش بمكة: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60]، وفي السيرة: أن ابن مسعود جهر بقراءتها في المسجد حتى قامت إليه أندية قريش، فضربوه، وذلك قبل الهجرة (¬1)، وآيها: ثمان وسبعون آية (¬2)، وحروفها: ألف وست مئة وثلاثون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وإحدى وخمسون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الرَّحْمَنُ (1)}. [1] {الرَّحْمَنُ} مبالغة الرحمة، وهو اسم لا يوصف به غيره سبحانه، وقال الجمهور: {الرَّحْمَنُ} جزء آية، وهو مبتدأ. * * * {عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}. [2] خبره {عَلَّمَ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {الْقُرْآنَ} بواسطة جبريل عليه السلام، ¬

_ (¬1) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 314)، و"تفسير القرطبي" (17/ 151). (¬2) في "ت": "سبعون وثمان آيات".

[3]

وقيل: مَنَّ به وعلَّمه الناسَ، وخص حفاظه وفهمته بالفضل، قال - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم من تعلَّمَ القرآن وعلَّمه" (¬1). قرأ ابن كثير: (الْقُرانَ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬2). * * * {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)}. [3] ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله تعالى ذكره في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعًا، ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعًا، كلها نصَّ (¬3) على خلقه، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} هو آدم عليه السلام. * * * {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}. [4] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أسماء كل شيء، والبيان: هو إظهار المعنى وإيضاحه عما كان مستورًا قبله، وقيل: المراد بالإنسان: اسم الجنس، وبالبيان: النطق والفهم والإبانة عن ذلك، وذلك هو الذي ميز به من سائر الحيوان، وهذه الأفعال الثلاثة مع ضمائرها أخبار مترادفة للرحمن، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد؛ كما تقول: زيد أغناك ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4739)، كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 405)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 45). (¬3) في "ت": "نصبٌ".

[5]

بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثَّرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه. * * * {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)}. [5] {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} رفع بالابتداء، وهذا ابتداء تعديد نِعَم، المعنى: الشمس والقمر يجريان {بِحُسْبَانٍ} بحساب معلوم، ومنازل معدودة؛ ليعرف الإنسان بذلك الأوقات، والحسبان -بالضم-: مصدر حَسَبْتُ الحساب -بفتح السين- أحسُبه -بضمها- حَسْبًا وحِسابًا وحِسْبَة. * * * {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)}. [6] {وَالنَّجْمُ} ما ليس له ساق من النبات؛ كاليقطين، وقيل: المراد: نجوم السماء. {وَالشَّجَرُ} ماله ساق تبقى في الشتاء {يَسْجُدَانِ} وسجودهما سجود ظلهما، وفي النجم بالغروب ونحوه، وثنى ضمير (يسجدان) نظرًا إلى لفظهما، وسمي نجمًا؛ لأنه نَجَمَ؛ أي: ظهر وطلع، وسمي الشجر؛ من اشتجار غصونه، وهو تداخلها. * * * {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)}. [7] {وَالسَّمَاءَ} نصب بفعل يفسره {رَفَعَهَا} سقفًا لمصالح العباد. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أمر بالعدل.

[8]

{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)}. [8] {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} لئلا تجاوزوا العدل. * * * {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)}. [9] {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} أي: وزنكم بالميزان المعروف {بِالْقِسْطِ} بالعدل. {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} لا تنقصوا الموزون، خسرت الشيء -بالفتح-، وأخسرته: نقصته. * * * {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)}. [10] {وَالْأَرْضَ} نصب بفعل يفسره. {وَضَعَهَا} بسطها {لِلْأَنَامِ} الخلق الذين بثهم فيها. * * * {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)}. [11] {فِيهَا فَاكِهَةٌ} يعني: أنواع الفواكه {وَالنَّخْلُ} عطف على (فاكهةٌ). {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} أوعية ثمر النخل، وهو الطلع، جمع كِمّ، وكل ما ستر شيئًا، فهو كم، ومنه كُمُّ القميص.

[12]

{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)}. [12] {وَالْحَبُّ} هو البر والشعير ونحوهما {ذُو الْعَصْفِ} التبن وورق النبات اليابس. {وَالرَّيْحَانُ} هو الرزق في قول ابن عباس والأكثرين، وقيل: هو المشموم. قرأ ابن عامر: (والْحَبَّ ذا الْعَصْفِ والرَّيْحانَ) بنصب الثلاثة الأسماء عطفًا على (الأرض)؛ أي: وضع الأرض، وخلق الحب، وخلق الريحان، وكذا كتب (ذا الْعَصْفِ) في المصحف الشامي بالألف، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (والْحَبُّ) (¬1) و (ذُو) بالرفع، (والرَّيْحانِ) بخفض النون عطفًا على (الْعَصْفِ)، وقرأ الباقون: برفع الأسماء الثلاثة عطفًا على (النَّخْلُ) (¬2)؛ أي: والحب ذو العصف، وذو الريحان، فحذف (ذو)، وأقيم (الريحان) مقامه، و (ذُو الْعصْفِ) في مصاحفهم بالواو، فذكر تعالى قوت الناس والأنعام. * * * {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}. [13] ثم خاطب الجن والإنس فقال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ} جمع أَلَى؛ كقفا؛ أي: بأي أنعم {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} روى الأصبهاني عن ورش: [(فَبِأَيِّ) ¬

_ (¬1) "والحب" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 619)، و"التيسير" للداني (ص: 206)، و"تفسير البغوي" (4/ 285)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 46).

[14]

بالإبدال حيث وقع بالفاء، واختلف عنه فيما تجرد عن الفاء نحو] (¬1) (بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمز (¬2)، وكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة؛ تقريرًا للنعمة، وتذكيرًا بها، وتوبيخًا لمنكريها، ومن عادة العرب إذا ذكروا النعم أن يفصلوا بين كل نعمتين بما ينبه عليهما؛ نحو: ألم تكن فقيرًا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ [ألم تكن جائعًا فأطعمتك، أفتنكر هذا] (¬3)؟ * * * {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)}. [14] ويدل على أنه خطاب للثقلين قوله بعد: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} من طين يابس له صلصلة {كَالْفَخَّارِ} كالطين المطبوخ، نعت لصلصال، المعنى: جعل آدم أولًا ترابًا، ثم طينًا، ثم حمأً مسنونًا، ثم صلصالًا. * * * {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)}. [15] {وَخَلَقَ الْجَانَّ} هو أبو الجن (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 405)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 47). (¬3) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬4) جاء على هامش "ت": "الجان بنو الجن، عن الضحاك، أو هو مسيخ الجن كما =

[16]

{مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} هو لهب النار الصافي الذي لا دخان فيه. * * * {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)}. [16] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات؟ {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)}. [17] {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} يعني: مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، وتقدم الكلام عليهما، وعلى قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء: 28] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] في أول سورة الصافات. * * * {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)}. [18] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى؛ كاعتدال الهواء، واختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه. ¬

_ = أن القردة والخنازير مسيخ الإنس، عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أو بنو إبليس كما قاله الحسن وعطاء وقتادة ومقاتل رحمهم الله تعالى كذا في "شذور العقود" لابن الجوزي ........ قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} الآية، وفي الأولين نظر ....... ".

[19]

{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)}. [19] {مَرَجَ} أرسل {الْبَحْرَيْنِ} الملحَ والعذبَ متجاورين. {يَلْتَقِيَانِ} لا فصل بينهما في رأي العين. * * * {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)}. [20] {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجز من قدرة الله تعالى. {لَا يَبْغِيَانِ} لا يختلطان، ولا يطغيان على الناس بالغرق. [21] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. * * * {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)}. [22] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (يُخْرَجُ) بضم الياء وفتح الراء مجهولًا، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الراء معلومًا (¬1)، وثنى الضمير، وإنما يخرجان من الملح؛ لأنهما لما التقيا، صارا كالشيء الواحد. {اللُّؤْلُؤُ} الدر. قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو: (اللَّوْلُؤُ) بإبدال الهمز الأول، وهو الساكن، فيسكنان الواو، والباقون: بالهمز (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 206)، و"تفسير البغوي" (4/ 286)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 380 - 381)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 47 - 48). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 390 - 394)، و"معجم =

[23]

{وَالْمَرْجَانُ} الخرز الأحمر، قال ابن عباس: "إذا أمطرت السماء، فتحت الأصداف أفواهها، فحيثما وقعت قطرة كانت لؤلؤة" (¬1). [23] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. * * * {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)}. [24] {وَلَهُ الْجَوَارِ} السفن. قرأ يعقوب: (الْجَوارِي) بإثبات الياء وقفًا، وحذفها الباقون في الحالين، وأمال الدوري عن الكسائي فتحة الواو {الْمُنْشَآتُ} صفة الجواري. قرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم بخلاف عنه: بكسر الشين؛ أي: المحدِثاتُ السيرَ، وقرأ الباقون: بالفتح (¬2)؛ أي: المرفوعات، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} كالجبال، جمع عَلَم. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)}. [25] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها. ¬

_ = القراءات القرآنية" (7/ 48). (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (27/ 132). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 696). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 620)، و"التيسير" للداني (ص: 206)، و"تفسير البغوي" (4/ 286 - 287)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 49).

[26]

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)}. [26] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي: الأرض (¬1) {فَانٍ} هالك. روي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء على (فانِي) و (آنِي) و (دانِي). * * * {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)}. [27] {وَيَبْقَى وَجْهُ} أي: ذات {رَبِّكَ} ويعبر بالوجه عن الجملة. {ذُو} صفة (وَجْهُ)، ومعنى ذي {الْجَلَالِ} الذي يعظمه ويجله المؤمنون (¬2) عن سمات المحدثات {وَالْإِكْرَامِ} الذي يكرم عبيده بالنعمة عليهم. قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (والإِكْرامِ) بالإمالة حيث وقع (¬3). {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)}. [28] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما يبقى وهو وجه ربك. * * * {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)}. [29] {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: الكلُّ محتاجون إليه {كُلَّ يَوْمٍ} ¬

_ (¬1) "أي: الأرض" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "الموحدون". (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 406)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 50).

[30]

نصب على الظرف {هُوَ فِي شَأْنٍ} أي: كل حين ووقت يُحدِث أمورًا ويُجدد أحوالًا. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}. [30] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما يسعف به سؤالكما. {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)}. [31] {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (سَيَفْرُغُ) بالياء؛ لقوله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، و (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)، و (وَلَهُ الْجَوَارِ)، فأتبع الخبر الخبر، وقرأ الباقون: بالنون (¬1) إخبارًا منه تعالى عن نفسه، وهو وعيد من الله سبحانه للخلق بالمحاسبة، وليس المراد منه الفراغ عن شغل؛ لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن. {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} الجن والإنس، سميا بذلك؛ لأنهما ثقلا الأرض أحياءً وأمواتًا، وكتب (أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ) في النور [الآية: 31] و (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ) في الزخرف [الآية: 49]، و (أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ) هنا بغير ألف، وما سواها: (يَا أَيُّهَا)، و (يَا أَيَّتُهَا) بالألف. قرأ ابن عامر (أَيُّهُ) بضم الهاء على الإتباع لضمة الياء قبلها، وقرأ الباقون: بفتحها، ووقف أبو عمرو، والكسائي، ويعقوب ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 206)، و "تفسير البغوي" (4/ 288)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 50 - 51).

[32]

(أَيُّهَا) بالألف على الأصل خلافًا للرسم، ووقف عليها الباقون بالحذف إتباعًا للرسم (¬1). [32] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)}. [33] {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} تخْرُجوا {مِنْ أَقْطَارِ} أي: جوانب {أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هاربين من قضائه تعالى {فَانْفُذُوا} فاخرجوا {لَا تَنْفُذُونَ} لا تقدرون على الخروج (¬2) {إِلَّا بِسُلْطَانٍ} بقوة وقهر، وأنى لكم ذلك؟! ... {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)}. [34] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قدم هنا الجن على الإنس، وقال في سورة الإسراء {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الآية: 88]، والتقديم يقتضي الأفضلية، ولكن الجن خلق قبل الأنس، ففي هذه السورة ترتيب الخلقة، لا ترتيب الفضيلة، وفي سورة الإسراء عكسه، وكذا قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 620)، و"التيسير" للداني (ص: 161)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 51 - 52). (¬2) في "ت": "النفوذ".

[35]

أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وأولو العلم أفضل من الملائكة، ولكن قدمهم لتقدم الخلقة. ... {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)}. [35] {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} لهب بلا دخان. قرأ ابن كثير: بكسر الشين، والباقون: بضمها (¬1)، وهما لغتان، وجمع الضمير في (اسْتَطَعْتُمْ) نظرًا إلى معنى (الثَّقَلَيْنِ)، وثناه في (عَلَيْكُمَا) نظرًا إلى اللفظ (مِّن نَّار) صفة شواظ (وَنُحَاسٌ) هو الدخان. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بخفض السين عطفًا على النار، والباقون: بالرفع عطفًا على الشواظ (¬2)، المعنى: إذا خرجتم من قبوركم، يرسل عليكما لهب خالص من النار ودخان يسوقانكما إلى المحشر {فَلَا تَنْتَصِرَانِ} لا تمتنعان من ولوج النار. [36] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)}. [37] {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} انفرجت فصارت أبوابًا لنزول الملائكة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 621)، و"التيسير" للداني (ص: 206)، و"تفسير البغوي" (4/ 289)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 52 - 53). (¬2) المصادر السابقة.

[38]

{فَكَانَتْ وَرْدَةً} أي: حمراء؛ من الورد المعروف {كَالدِّهَانِ} الأديم الأحمر، وألوانه تختلف، قال قتادة: إنها اليوم خضراء، ويكون لها يومئذ لون آخر إلى الحمرة. ... {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)}. [38] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما يكون بعد ذلك. ... {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)}. [39] {فَيَوْمَئِذٍ} أي: يوم تنشق السماء {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لأنهم يعرفون، فالمؤمن يعرف بغرته وتحجيله، والكفار بسيماهم على ما يأتي بعد. وعن ابن عباس في الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] قال: "لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؛ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يسألهم: لمَ عملتم كذا وكذا؟ "، وعنه أيضًا: "لا يُسألون سؤال شفاء وراحة، وإنما يُسألون سؤالَ تقريع وتوبيخ" (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 290)، وعنده: "لا يسألون سؤال شفقة ورحمة".

[40]

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)}. [40] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بما أنعم على عباده المؤمنين في هذا اليوم. ... {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}. [41] {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} بسواد الوجه وزرقة العيون {فَيُؤْخَذُ} المجرمُ {بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} أي: يجمع بين ناصيته وقدميه من وراء ظهره، ثم يلقى في جهنم. [42] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)}. [43] ثم يقال لهم: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} المشركون. ... {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)}. [44] {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا} بين النار يحترقون بها. {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ماءٍ حار بلغ النهاية في الحرارة يُصب عليهم. ***

[45]

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}. [45] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فكل ما ذكر الله -عز وجل- من قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فإنه مواعظ وتخويف، وكل ذلك نعمة منه تعالى؛ لأنه يزجر عن المعاصي، ولذلك ختم كل آية {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)}. [46] ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه، فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي: مقامه بين يدي ربه للحساب (¬1) {جَنَّتَانِ} جنة عدن، وجنة النعيم. [47] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)}. [48] ثم وصف الجنتين فقال: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أغصان، جمع فنن، وهو الغصن المستقيم طولًا. [49] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)}. [50] {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} في الأعالي والأسافل بالماء الزلال، إحداهما السلسبيل، والأخرى التسنيم. ¬

_ (¬1) "أي: مقامه بين يدي ربه للحساب" زيادة من "ت".

[51]

[51] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)}. [52] {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} صنفان: رطب، ويابس، ونحوهما. قرأ يعقوب: (فِيهُمَا) بضم الهاء، والباقون: بكسرها (¬1). [53] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)}. [54] {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} جمع فراش {بَطَائِنُهَا} جمع بطانة، وهي التي تلي الظِّهارة. {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو ما غَلُظ من الديباج، وظهائرها من سندس، وهو ما رَقَّ منه، وقيل: إن الإستبرق فارسي معرب. قرأ ورش عن نافع، ورويس عن يعقوب: (مِنِ اسْتَبْرَقٍ) بحذف الألف وكسر النون لإلقاء حركة الهمزة عليها، والباقون: بإسكان النون وكسر الألف وقطعها (¬2). {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ} أي: ما يجتنى منهما، وهو الثمر. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 406)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 55). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 408 - 409)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 406)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 56).

[55]

{دَانٍ} قريب المتناوَل للقائم والقاعد والنائم. [55] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)}. [56] {فِيهِنَّ} أي: فيهما وفي غيرهما من الجنان {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} خافضات (¬1) الأعين من النظر إلى غير أزواجهن، ولا يردن غيرهم. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} يمسسهن، والطمث: الجماع بالتدمية، ومنه قيل للحائض: طامث؛ كأنه قال: لم يُدْمِهن بالجماع. {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} قرأ الكسائي بخلاف عنه: (يَطْمُثْهُنَّ) بضم الميم في هذا الحرف والحرف الثاني، وروي عنه التخيير في أحدهما، بمعنى أنه إذا ضم الأول كسر الثاني، وإذا كسر الأول ضم الثاني، والوجهان ثابتان عنه من التخيير وغيره، وقرأ الباقون: بالكسر (¬2)، وفي هذا دليل على أن الجن يغشى كالإنسي. [57] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... ¬

_ (¬1) في "ت": "غاضات". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 621)، و"التيسير" للداني (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (4/ 294)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 56 - 57).

[58]

{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)}. [58] {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} في حمرة الوجنة وبياض الوجه وصفائهما. عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكلِّ رجلٍ منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهن دون لحمها ودمها وجلدها" (¬1). وروي: أن المرأة تلبس سبعين حلة، فيرى ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء (¬2) (¬3). [59] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)}. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2522)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (60)، وقال: حسن صحيح، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. واللفظ الذي ساقه المؤلف هو للبغوي في "تفسيره" (4/ 275). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (20867)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8864)، عن ابن مسعود موقوفًا. ورواه البزار في "مسنده" (1855)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10321)، وفي "المعجم الأوسط" (915)، عن ابن مسعود مرفوعًا. وانظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (10/ 411) و (10/ 418). (¬3) في "ش": "لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة، فيرى ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء، ويرى مخ سوقهن دون لحمها ودمها وجلدها. كما روي أن المرأة تلبس سبعين حلة". وما أثبت من "ت"، وهو الموافق لمراجع التخريج.

[60]

[60] {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ} بالتوحيد (¬1) {إِلَّا الْإِحْسَانُ} بالجنة. [61] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63)}. [62] {وَمِنْ دُونِهِمَا} أي: من دون الجنتين الأوليين؛ أي: أمامهما. {جَنَّتَانِ} أخريان فالأوليان جنتا السابقين، والأخريان (¬2) جنتا أصحاب اليمين. [63] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65)}. [64] {مُدْهَامَّتَانِ} قد علا لونهما في دهمة وسواد من شدة الخضرة والري، نعت (جَنَّتَانِ). [65] {أبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)}. [66] {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء لا ينقطعان. [67] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... ¬

_ (¬1) "بالتوحيد" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "الأولتان" و"الأخرتان".

[68]

{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)}. [68] {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ} وعطف على (فاكهة) (وَنخلٌ وَرُمَّانٌ) وإن كانا منها؛ تخصيصًا وبيانًا لفضلهما، فكأنهما قد صارا جنسين آخرين نحو {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]؛ فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء، وثمرة الرمان فاكهة ودواء، واحتج به أبو حنيفة على أن من حلف لا يأكل فاكهة، فأكل رطبًا أو رمانًا، لم يحنث؛ لأنه لا يجعلهما من الفاكهة، وكذا الحكم عنده في العنب، وهذا من مفردات مذهبه؛ خلافًا لصاحبيه والأئمة الثلاثة. [69] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)}. [70] {فِيهِنَّ} يعني: الجنان الأربع {خَيْرَاتٌ} أي: خَيِّرات -بالتشديد-, فخفف؛ لأن خَيْرًا الذي بمعنى أَخْيَرَ لا يجمع، فلا يقال فيه: خيرون، ولا خيرات. {حِسَانٌ} المعنى: فاضلات حسنات خَلْقًا وخُلُقًا. [71] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73)}. [72] {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} مخدَّرات مستورات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.

[73]

{فِي الْخِيَامِ} جمع خيمة، وخيام الجنة بيوت اللؤلؤ، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "هي دُرٌّ مجوف" (¬1)، ورواه ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [73] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)}. [74] {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ} أي: قبل أصحاب الجنتين. {وَلَا جَانٌّ} كحور الأوليين، وتقدم تفسيره، ومذهب الكسائي فيه. [75] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)}. [76] {مُتَّكِئِينَ} نصب على الاختصاص أو الحال {عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} هو ما تدلَّى من الأسرة من عالي الثياب والبسط، وقيل: هي رياض الجنة، قال ابن عطية (¬2): والأول أصوب وأبين (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (27/ 161)، وابن أبي حاتم في "تفسيره " (10/ 3328). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3328). (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 236).

[77]

{وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} هي بسط حسان فيها صور وغير ذلك، منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه بلد الجن، فينسبون إليه كل شيء عجيب، وقيل: العبقري: هي الزرابي، واحدتها عبقرية، والطنافس الثخان، والعرب إذا استحسنت شيئًا واستجادته، قالت: عبقري، قال ابن عطية (¬1): ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلم أَرَ عَبْقَرِيًّا من الناس يَفْري فَرْيَهُ" (¬2). [77] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ... {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}. [78] {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} تعالى اسمه من حيث إنه مطلق على ذاته، فما ظنك بذاته. {ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. قرأ ابن عامر: (ذُو الْجَلاَلِ) بواو بعد الذال كالحرف الأول نعتًا للاسم، وكذلك هو في المصاحف الشامية، وقرأ الباقون: (ذِي الْجَلاَلِ) بياء بعد الذال نعتًا للربّ، وكذلك هو في مصاحفهم (¬3)، وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَلِظُّوا ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 237). (¬2) رواه البخاري (3434)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب، ومسلم (2393)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله عنه، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 621)، و"التيسير" للداني (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (4/ 299)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 59).

بِيا ذا الجلالِ والإكرامِ" (¬1)، والدعاء بهاتين الكلمتين مرجو الإجابة، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3524)، كتاب: الدعوات، باب: (92)، وقال: حديث غريب، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ورواه النسائي في "السنن الكبرى" (7716)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 177)، والحاكم في "المستدرك" (1836)، وغيرهم من حديث ربيعة بن عامر رضي الله عنه.

سورة الواقعة

سورة الواقعة مكية بإجماع من يعتد به من المفسرين، وقيل: فيها بعض آيات مدنية، وليس بثابت، وآيها: ست وتسعون آية، وحروفها: ألف وسبع مئة وثلاثة أحرف، وكلمها ثلاث مئة وثمان وسبعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)}. [1] {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قامت القيامة، وسماها واقعة؛ لتحقق وقوعها، وتنصب (إذا) بمضمر مثل (اذكرْ)، وقال بعض المفسرين: الواقعة: صخرة بيت المقدس تقع عند القيامة (¬1). ... {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)}. [2] {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} لمجيئها {كَاذِبَةٌ} كذب؛ يعني: أنها تقع صدقًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 238)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 202)، و"روح المعاني" للآلوسي (27/ 129)، قال ابن عطية: وهذا ضعيف. وقال الألوسي: وليس بشيء.

[3]

{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)}. [3] {خَافِضَةٌ} قومًا إلى النار {رَافِعَةٌ} آخرين إلى الجنة. ... {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)}. [4] وتبدل من {إِذَا وَقَعَتِ} {إِذَا رُجَّتِ} حُرِّكت {الْأَرْضُ رَجًّا} تحريكًا شديدًا. ... {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)}. [5] {وَبُسَّتِ} فُتِّتتْ {الْجِبَالُ بَسًّا} فصارت كالدقيق المبسوس، وهو المبلول. ... {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)}. [6] {فَكَانَتْ هَبَاءً} أي (¬1): غبارًا {مُنْبَثًّا} متفرقًا كالذي يرى في شعاع الشمس. ... {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)}. [7] {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا} أصنافًا {ثَلَاثَةً}. ... ¬

_ (¬1) "أي" ساقطة من "ت".

[8]

{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)}. [8] ثم فسر الأزواج فقال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} الذين يؤتَون كتبَهم بأيمانهم، ثم عَجَّب نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} كأنه قال: ماهم، وأي شيء هم؟! وقوله (فأصحابُ الميمنةِ) ابتداء، و (ما) ابتداء ثان، وأصحاب الميمنة خبر (ما)، والجملة خبر الابتداء الأول، في الكلام معنى التعظيم؛ كما تقول: زيد و (¬1) ما زيد؟! ... {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}. [9] {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} الذين يؤتَونها بشمالهم. {مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} وهم الذين يؤخذ بهم ذاتَ الشمال إلى النار، والعرب تسمي اليد اليسرى: الشؤم (¬2)، ومنه سمي الشام واليمن؛ لأن اليمن عن يمين الكعبة، والشام عن شمالها. ... {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}. [10] {وَالسَّابِقُونَ} إلى الإيمان من كل أمة هم {السَّابِقُونَ} إلى الجنة. ... ¬

_ (¬1) "و" ساقطة من "ت". (¬2) في "ت": "الشومى".

[11]

{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)}. [11] {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} إلى الله. ** {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)}. [12] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} قد أُعليت مراتبُهم. ... {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)}. [13] {ثُلَّةٌ} جماعة كثيرة غير محصورة العدد {مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي: من الأمم الماضية من لدن آدم -عليه السلام- إلى زمان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، واشتقاقها من الثَّلِّ، وهو القطع. ... {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}. [14] {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} يعني: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخالف ذلك قوله -عليه السلام-: "إِنَّ أمتي يكثرون سائرَ الأُمم" (¬1)؛ لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثرُ من سابقي هذه الأمة، وتابعو هذه أكثر من تابعيهم، ولا يرده قوله في أصحاب اليمين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} لأن كثرة الفريقين لا ينافي أكثرية أحدهما، وروي مرفوعًا أنهما من هذه الأمة، وقيل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} يعني: الأنبياء من آدم إلى محمد، {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} يعني: الصحابة؛ لأن الأولين هم الأنبياء السابقون، وهم مئة ¬

_ (¬1) قال المناوي في "الفتح السماوي" (3/ 1022): لم أقف عليه.

[15]

ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، فالصحابة بالنسبة إليهم قليل، وهذا قول حسن صحيح للمناظرة، المعنى: جماعة من المتقدمين والمتأخرين. ... {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)}. [15] {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} منسوجة بالذهب مشتبكة بالدرِّ والياقوت. ... {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)}. [16] {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} حالان من الضمير في (عَلَى). قرأ أبو جعفر: (مُتَّكِينَ) بإسكان الياء بغير همز، والباقون: بالهمز (¬1). ... {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)}. [17] {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} للخدمة {وِلْدَانٌ} غلمان {مُخَلَّدُونَ} مبقَون معهم. ... {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)}. [18] {بِأَكْوَابٍ} الكوب: إناء لا عروة ولا خرطوم له {وَأَبَارِيقَ} هي آنية لها ذلك {وَكَأْسٍ} يشربونها من خمر جارية {مِنْ مَعِينٍ} منبع لا ينقطع أبدًا. ... {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)}. [19] {لَا يُصَدَّعُونَ} لا يفرَّقون {عَنْهَا} بسكر ولا غيره كخمر الدنيا. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 406)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 56).

[20]

{وَلَا يُنْزِفُونَ} قرأ الكوفيون: بكسر الزاي؛ أي: لا يَنْفَد شربهم (¬1)، وقرأ الباقون: بالفتح (¬2)؛ أي: لا تغلبهم على عقولهم. ... {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)}. [20] {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: يختارون. ... {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)}. [21] {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} يتمنون، قال ابن عباس: "يخطر على قلبه لحمُ الطير، فيصير بين يديه على ما اشتهى (¬3) " (¬4). ... {وَحُورٌ عِينٌ (22)}. [22] {وَحُورٌ عِينٌ} قرأ حمزة، والكسائي، وأبو جعفر: بخفض الاسمين عطفًا على (جَنَّاتِ النَّعِيمِ)؛ أي: هم في جنات النعيم، ومحادثةِ حور عين، وقرأهما الباقون: بالرفع (¬5)؛ أي: وعندهم حورٌ عين وتفسير حور عين (¬6) أي: بِيضٌ ضِخامُ العيون. ¬

_ (¬1) في "ت": "شرابهم". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 207)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 407)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 64 - 65). (¬3) في "ت": "أشهى". (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 304). (¬5) انظر: "التيسير" للداني (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (4/ 304)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 383)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 65). (¬6) "وتفسير حور عين" ساقط من "ت".

[23]

{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)}. [23] {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} المخزونُ في الصدف، وخص المكنون من اللؤلؤ؛ لأنه أصفى لونًا، وأبعدُ عن الغير. وتقدم مذهب أبي جعفر، وأبي عمرو في إبدال همزة (اللُّؤلُؤ) في سورة الرحمن [الآية: 22]. ... {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)}. [24] {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: إن هذه الرتب والنعم هي لهم بحسب أعمالهم؛ لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة هي منقسمة على قدر الأعمال، ونفس دخول الجنة هو برحمة الله وفضله، لا بعمل عامل. ... {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25)}. [25] {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} باطلًا {وَلَا تَأْثِيمًا} إثمًا؛ أي: ما يُحدث الإثم. ... {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)}. [26] {إِلَّا قِيلًا} استثناء منقطع؛ أي: قولًا، وتبدل من (قِيلًا). {سَلَامًا سَلَامًا} أي: يفشون السلام بينهم، ويسلمون سلامًا بعد سلام، فلا يسمع إلا السلام. ***

[27]

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)}. [27] {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} هم المسلمون. ... {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)}. [28] {فِي سِدْرٍ} هو شجر النبق {مَخْضُودٍ} لا شوكَ فيه. ... {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)}. [29] {وَطَلْحٍ} هو الموز في قول أكثر المفسرين {مَنْضُودٍ} متراكم بالثمرة من أسفله إلى أعلاه. ... {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)}. [30] {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي دائم. ... {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)}. [31] {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} يجري على الأرض أين شاؤوا بلا تعب. ... {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32)}. [32] {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} كثيرة الأجناس. ***

[33]

{لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)}. [33] {لَا مَقْطُوعَةٍ} في زمن {وَلَا مَمْنُوعَةٍ} عنهم. ... {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)}. [34] {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} على الأسرة، في الحديث: "ارتفاعُها كما بينَ السماء والأرض" (¬1). ... {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)}. [35] {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} ابتدأنا خلقهن، في الحديث: "هم اللواتي قُبضن في دار الدنيا عجائزَ شُمْطًا رُمْصًا" (¬2) {إِنْشَاءً} خلقًا جديدًا. ... ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3294)، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة ثياب أهل الجنة، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 75)، وابن حبان في "صحيحه" (7405) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رِشدين بن سعد. (¬2) رواه الترمذي (3296)، كتاب: التفسير، باب: ومن تفسير سورة الواقعة، من حديث أنس، بلفظ: "إن من المنشآت التي كن في الدنيا عجائز عمشًا رمصًا"، قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرقاشي يضعفان في الحديث.

[36]

{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)}. [36] {فَجَعَلْنَاهُنَّ} بعد أن كنَّ عجائزَ {أَبْكَارًا} عذارى، كلما أتاهن أزواجهن، وجدوهن أبكارًا، ولا وجع ثَمَّ. ... {عُرُبًا أَتْرَابًا (37)}. [37] {عُرُبًا} قرأ حمزة، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: بإسكان الراء تخفيفًا، والباقون: بضمها على الأصل (¬1)، وهي جمع عَروب؛ أي: عواشق متحببات لأزواجهن {أَتْرَابًا} جمع تِرْب؛ أي: مستويات في السن، بنات ثلاث وثلاثين، وسن أزواجهن كذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -: "يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ جُرْدًا مُرْدًا بِيضًا جِعادًا مُكَحَّلين، أبناءَ ثلاث وثلاثين، على طول آدم، طوله ستون ذراعًا في سبعة أذرع" (¬2). وروي أن الرجل يرى وجهه في وجه زوجته؛ لصفائه. وقيل: الضمير عائد على الحور العين المذكورات قبل، قال ابن عطية: وهذا فيه بعد؛ لأن تلك قصة قد انقضت جملة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 602)، و"التيسير" للداني (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (4/ 308)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 67). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 295)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (34006)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه الترمذي (2545)، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في سن أهل الجنة، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه بلفظ نحوه. (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 244).

[38]

{لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)}. [38] {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} هم المسلمون، واللام صلة (أَنْشَأْنَاهُنَّ). ... {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ}. [39] {ثُلَّةٌ} جماعة {مِنَ الْأَوَّلِينَ}. ... {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}. [40] {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} وهاتان الفرقتان في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الثلتان من أمتي" (¬1)، فعلى هذا: التابعون بإحسان، ومن جرى مجراهم ثلة أولى، وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان، وقيل: الأولون سالف الأمم منهم جماعة عظيمة أصحاب يمين، والآخرون هذه الأمة منهم جماعة عظيمة أهل يمين، قال ابن عطية: بل جميعهم إلا من كان من السابقين (¬2). ... {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)}. [41] {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} هم الكفار. ... ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (27/ 191) وقال: من وجه غير صحيح. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 245).

[42]

{فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)}. [42] {فِي سَمُومٍ} ريح حارة من النار تنفذ في المسام {وَحَمِيمٍ} ماء في غاية الحر. ... {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)}. [43] {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} دخان أسود. ... {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)}. [44] {لَا بَارِدٍ} كغيره من الظلال {وَلَا كَرِيمٍ} حسن. ... {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)}. [45] {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} في الدنيا {مُتْرَفِينَ} منعَّمين. ... {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)}. [46] {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} يقيمون. {عَلَى الْحِنْثِ} الذنب {الْعَظِيمِ} بجعل الشريك لله تعالى. ... {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)}. [47] {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} محشورون،

[48]

قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب. واختلف القراء في (أَئِذَا) (أَئِنَّا)، فقرأ نافع، وأبو جعفر، والكسائي، ويعقوب؛ بالاستفهام في الأول، والإخبار في الثاني، وقرأ الباقون: بالاستفهام فيهما، وهم على أصولهم في التحقيق والتسهيل، وإدخال الألف كما تقدم في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} واختلفوا في كسر الميم وضمها من (متنا)، فقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: بالكسر، والباقون: بالضم (¬1). ... {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)}. [48] {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} الأقدمون، وتقدم تفسيره، ومذاهب القراء فيه، وتوجيه قراءتهم في سورة الصافات. ... {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49)}. [49] ثم أمر الله نبيه أن يُعْلِمهم بأن العالم محشور مبعوث إلى يوم القيامة، فقال: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ}. ... {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)}. [50] {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ} وقت {يَوْمٍ مَعْلُومٍ} هو يوم القيامة. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 408)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 68).

[51]

{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)}. [51] ثم خاطب أهل مكة بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} بالبعث. ... {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)}. [52] {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} (مِنْ) الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الجنس، وتقدم ذكر شجرة الزقوم في سورة الصافات. ... {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)}. [53] {فَمَالِئُونَ مِنْهَا} من جماعة الشجر، و (مِنْ) للتبعيض {الْبُطُونَ} من شدة الجوع. قرأ أبو جعفر: (فَمَالُونَ) بضم اللام بغير همز، والباقون: بكسر اللام والهمز. ... {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)}. [54] {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ} على الزقوم؛ لغلبة العطش {مِنَ الْحَمِيمِ} الماء الحار. ... {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)}. [55] {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم، وحمزة:

[56]

(شُرْبَ) بضم الشين اسم للمشروب، والباقون: بالفتح على المصدر (¬1)، و (الهيم): إبل يصيبها داء يقال له الهيام، تشرب الماء فلا تروى، ولا تزال تشرب حتى تهلك. ... {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}. [56] {هَذَا نُزُلُهُمْ} رزقهم المعَدُّ لهم {يَوْمَ الدِّينِ} يوم الجزاء بأعمالهم. ... {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)}. [57] ثم احتج عليهم في البعث بقوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا} فهلَّا (¬2) {تُصَدِّقُونَ} بالبعث؛ لأنكم إذا نظرتم النظر الصحيح، علمتم أن القادر على الإنشاء قادرٌ على الإعادة. ... {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)}. [58] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} تَصُبُّون في أرحام النساء من المني الذي يكون منه الولد. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (4/ 311)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 383)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 69). (¬2) "فهلا" زيادة من "ت".

[59]

{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)}. [59] {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} تجعلون المني بشرًا {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} واختلاف القراء في الهمزتين من (أَأَنْتُمْ) في الأحرف الأربعة كاختلافهم فيهما من (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بآلِهَتِنَا) في سورة الأنبياء [الآية: 62]. ... {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)}. [60] {نَحْنُ قَدَّرْنَا} قرأ ابن كثير بتخفيف الدال، والباقون: بتشديدها (¬1)، وهما لغتان؛ أي: قضينا. {بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} وأَقَّتنا موتَ كلٍّ بوقت معين {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بعاجزين. ... {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)}. [61] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ} أي: نجعل {أَمْثَالَكُمْ} مكانكم {وَنُنْشِئَكُمْ} نخلقكم. {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} من أوصاف لا يصلُها علمُكم، ولا يحيط بها فكركم، قال الحسن: من كونهم قردة وخنازير، تأول هذا؛ لأن الآية تنحو إلى الوعيد (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 623)، و"التيسير" للداني (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (4/ 303)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 71). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 248).

[62]

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)}. [62] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} الخلق في الرحم. وتقدم اختلاف القراء في (النَّشْأَة) في سورة العنكبوت [الآية: 20]. {فَلَوْلَا} فهلَّا {تَذَكَّرُونَ} تعتبرون فتؤمنون. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَذْكُرُون) بتخفيف الذال، والباقون: بتشديدها (¬1). ... {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)}. [63] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} تثيرون من الأرض، وتلقون فيها من البذر. ... {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)}. [64] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ} تنبتونه {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} المنبِتون. ... {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)}. [65] {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} فُتاتًا {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تعجبون. قرأ البزي عن ابن كثير بخلاف عنه: (فَظَلْتُمُ تّفَكَّهُونَ) بتشديد التاء. ... ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 408)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 71).

[66]

{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)}. [66] {إِنَّا} قرأ أبو بكر عن عاصم: (أَئِنَّا) بهمزتين محققتين، إحداهما استفهام إنكار للعذاب الواقع بهم، وقرأ الباقون: بهمزة واحدة إخبار بمعنى الإنكار والجحود أيضًا، والقول مضمر على القراءتين؛ أي: يقولون: إنا (¬1). {لَمُغْرَمُونَ} معذَّبون، والغرام: العذاب. ... {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}. [67] {بَلْ نَحْنُ} قوم {مَحْرُومُونَ} ممنوعون من الرزق. ... {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)}. [68] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ} العذبَ {الَّذِي تَشْرَبُونَ} أي: تشربونه. ... {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)}. [69] {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} السحاب {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} بقدرتنا. ... {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}. [70] {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} شديد الملوحة، وتثبت اللام جوابًا (¬2) لـ (لو) ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 624)، و"التيسير" للداني (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (4/ 303)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 72). (¬2) في "ت": "وجوبًا".

[71]

في (لَجَعْلنَاهُ حُطَامًا)، وحذفت في هذا الحرف اختصارًا؛ لدلالة الموجودة عليها. {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} هذه النعمَ. ... {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)}. [71] {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} تقدحونها من زندكم. ... {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)}. [72] {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} التي يُقدح منها النار، وهي المرخ والعفار، وتقدم ذكرهما في آخر سورة (يس) {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} الشجرةَ. قرأ أبو جعفر: (الْمُنْشُونَ) بإسكان الواو بغير همز، والباقون: بالهمز (¬1). ... {نحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)}. [73] {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا} أي: النارَ {تذْكِرَةً} لنار جهنم. {وَمَتَاعًا} منفعة {لِلْمُقْوِينَ} أي: المسافرين الذين ينزلون القواء، وهي القفر. ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 72).

[74]

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}. [74] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الباء زائدة؛ أي: نَرِّه ربك. {الْعَظِيمِ} والعظيم صفة للاسم، أو الرب. ... {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)}. [75] {فَلَا أُقْسِمُ} معناه: أقسم، و (لا) زائدة، وقيل: قوله: (فلا) رد لما قاله الكفار في القرآن أنه سحر وشعر وكهانة، معناه: ليس الأمر كما يقولون، ثم استأنف القسم فقال: أقسم. {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قرأ السوسي عن أبي عمرو: (أُقْسِمْ) بإسكان الميم عند الباء حيث وقع، وتقدم الكلام عليه في الكهف، وقرأ حمزة والكسائي (¬1) وخلف: (بِمَوْقِعِ النُّجُومِ) بإسكان الواو من غير ألف على التوحيد، والباقون: بفتح الواو وألف بعدها على الجمع (¬2)، والمراد: نجوم القرآن حين نزلت فإنه كان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متفرقًا نجومًا، وهذا قول ابن عباس، وقال جماعة: المراد: مغارب النجوم ومساقطها. ... {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}. [76] ثم اعترض بين القسم وجوابه بموصوف وصفته، وهو: ¬

_ (¬1) "الكسائي" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 207)، و"تفسير البغوي" (4/ 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 73).

[77]

{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} ثم اعترض بين الموصوف وصفته بقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} لأن صفته {عَظِيمٌ}. ... {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)}. [77] وجواب القسم: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} على الله؛ لكثرة ما فيه من التنزيه والمواعظ والأحكام. ... {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)}. [78] {فِي كِتَابٍ} صفة قرآن {مَكْنُونٍ} مَصون، وهو اللوح المحفوظ. ... {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}. [79] {لَا يَمَسُّهُ} أي: ذلك الكتابَ المكنونَ {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وهم الملائكة عليهم السلام الموصوفون بالطهارة، وقيل: قوله: {لَا يَمَسُّهُ} إخبار مضمنه النهي، وضمة السين تعود إلى القرآن؛ أي: لا يمس المصحف من بني آدم إلا الطاهرُ من الكفر والجنابة والحدث الأصغر، وضعَّفَ ابن عطية هذا القول (¬1). وأما حكم مسِّ المصحف بعلاقة (¬2)، فقال أبو حنيفة: يجوز للجنب والمحدث والحائض حمل المصحف بعلاقة (¬3)، ولا بأس أن يمسه ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 252). (¬2) "بعلاقة" ساقطة من "ت". (¬3) "بعلاقة" زيادة من "ت".

بكمه، وقال مالك: لا يجوز لمحدث حدث الوضوء فما فوقه أن يمس المصحف، ولا يحمله بعلاقته، ولا على وسادة، ولا بأس بحمله (¬1) في خرجه وعدله، ولا بأس بحمل الصبيان المصاحف على غير طهارة، ولا تمسه حائض، وقال الشافعي: يحرم بالحدث والجنابة حمل المصحف، ومسُّ ورقه، وكذا جلده، وخريطة وصندوق فيهما مصحف، وما كتب لدرس قرآن؛ كلوح، والصبي المحدث لا يمنع، ويباح قلب ورقه بعود، وحمله في أمتعة، ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة، وقال أحمد: يحرم على المحدث والجنب مس المصحف وبعضِه من غير حائل، حتى جلده وحواشيه (¬2)، وهو أشبه؛ لشمول اسم المصحف له، وله حمله بعلاقته، وفي غلافه، وفي كمه، وتصفحه به، وبعود، ومسه من وراء حائل، ويباح لصغير مس لوح فيه قرآن، وحكمه في المصحف كالرجل، ولا تمسسه حائض مطلقًا. وأما قراءة القرآن للجنب والحائض، فقال أبو حنيفة: لا يجوز للجنب قراءة القرآن، ولا بأس أن يقرأ شيئًا منه ولا يريد به القرآن؛ كالبسملة، والحمدلة، والحائض كالجنب، وقال مالك: لا يجوز للجنب أن يقرأ الكثير من القرآن، ولا بأس بقراءة اليسير؛ كالآية والآيتين ونحوهما، وعنه في قراءة الحائض روايتان: المشهور جواز القراءة لها، وقال الشافعي: يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن، ويحل أذكاره بغير قصد قرآن، وقال أحمد: يجوز للجنب قراءة بعض آية، ولو كرر، ما لم يتحيل (¬3) ¬

_ (¬1) "بحمله" زيادة من "ت". (¬2) "وحواشيه" زيادة من "ت". (¬3) في "ت": "يحتمل".

[80]

على قراءة محرم عليه، وله قولٌ ذكر وما وافق قرآنًا ولم يقصده، ويحرم على الحائض مطلقًا. ... {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)}. [80] {تَنْزِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: القرآن منزَّلٌ. {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سمي المنزل تنزيلًا على اتساع اللغة، كما يقال للمقدور: قَدَر، وللمخلوق: خَلْق، على قول من يجيزه، وتقدم الكلام في ذلك في سورة الزمر. ... {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)}. [81] {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} أي: القرآن. {أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} متهاونون مكذبون، وأصله الجري في الباطل خداعًا. ... {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}. [82] ونزل لما قيل: مطرنا بنوء كذا: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} شكركم. {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي: تجعلون شكر رزقكم التكذيبَ. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريقٌ من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث، فيقولون: بكوكب كذا وكذا" (¬1)، فالسنة أن يقول: مُطرنا بفضل الله وبرحمته. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (72)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[83]

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)}. [83] {فَلَوْلَا} فهلَّا {إِذَا بَلَغَتِ} الروحُ {الْحُلْقُومَ} الحلقَ. ... {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)}. [84] {وَأَنْتُمْ} يا حاضري الميت {حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} إليه ولا تنفعونه. ... {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)}. [85] {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} علمًا وقدرة منكم {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} الملائكة. ... {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)}. [86] {فَلَوْلَا} كررت للتأكيد {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} مملوكين أذلاء. ... {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)}. [87] {تَرْجِعُونَهَا} أي: تردون الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تدعون من عدم القدرة عليكم، فأجاب عن قوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وعن قوله: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} بجواب واحد، ومثلُه قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38] أجيبا بجواب واحد.

[88]

{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)}. [88] ثم بين طبقات الخلق عند الموت، وبين درجاتهم، فقال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ} الميتُ {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} إلى رحمة الله تعالى. ... {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)}. [89] وجواب (أَمّا): {فَرَوْحٌ} قرأ رويس عن يعقوب: (فَرُوحٌ) بضم الراء؛ أي: فله حياة طيبة لا موت فيها، وقرأ الباقون: بالفتح (¬1)؛ أي: فله راحة من كل تعب. {وَرَيْحَانٌ} رزق طيب {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} ذات تنعم، وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (وَجَنَّهْ) بالهاء. ... {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)}. [90] {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} الميتُ [{مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}. ... {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}. [91] {فَسَلَامٌ لَكَ} يا محمد {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي: سلامة لك من الاغتمام لهم، فلا ترى فيهم إلا السلامة من العذاب] (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 317)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 383)، و"معجم القراءات القرآنية" (6/ 74 - 75). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[92]

{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)}. [92] {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} الميت {مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} وهم الكفار أصحاب الشمال والمشأمة. ... {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)}. [93] {فَنُزُلٌ} هو أول شيء يُقدم للضيف {مِنْ حَمِيمٍ}. ... {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)}. [94] {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} قرأ أبوعمرو: (وَتَصْلِيَة جَّحِيمٍ) بإدغام التاء في الجيم (¬1)، والتصلية: أن يباشر بهم النار، والجحيم: معظم النار وحيث تراكمها. ... {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)}. [95] ولما كمل تقسيم أحوالهم، وانقضى الخبر بذلك، أكد تعالى الأخبار بأن قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مخاطبة تدخل معه أمته فيها: {إِنَّ هَذَا} الذي أخبرنا به {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} عبارة فيها مبالغة؛ لأنها بمعنى واحد؛ كما تقول في أمر تؤكده: هذا يقين اليقين، أو صواب ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 365)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 75).

[96]

الصواب؛ بمعنى: أنه نهاية الصواب، فهي عبارة مبالغة وتأكيد، معناها: أن هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته. ... {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}. [96] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} هذه عبارة تقتضي الأمر بالإعراض عن أقوال الكفار، وسائر أمور الدنيا المختصة بها، وبالإقبال على أمور الآخرة، وعبادة الله والدعاء إليه. وروي أنه لما نزل {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوها في ركوعكم، فلما نزل {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: اجعلوها في سجودكم" (¬1)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى" (¬2). واختلف الأئمة في ذلك، فقال أحمد: هو واجب تبطل الصلاة بتركه عمدًا، ويسجد لتركه سهوًا، والواجب عنده مرة واحدة، وأدنى الكمال ثلاث، وقال أبو حنيفة والشافعي: هو سنة، وقال مالك: يكره لزوم ذلك؛ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (869)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، وابن ماجه (887)، كتاب: الصلاة، باب التسبيح في الركوع والسجود، من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه. (¬2) رواه أبو داود (871)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، والترمذي (262)، كتاب: الصلاة، باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، والنسائي (1008)، كتاب: الافتتاح، باب: تعوذ القارئ إذا مرَّ بآية عذاب، من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.

لئلا يعد واجبًا فرضًا، والاسم هنا بمعنى الجنس؛ أي: بأسماء ربك، والعظيم: صفة الرب. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من داومَ على قراءةِ سورة الواقعة لم يفتقرْ أبدًا" (¬1)، قال ابن عطية: فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفهم ذلك غنىً لا فقر معه، ومن فهمه، شغل بالاستعداد (¬2)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2497)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 188)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال البيهقي: تفرد به شجاع أبي طيبة. والحديث إسناده ضعيف، ومتنه منكر. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 413 - 414) وبيان وجوه ضعف هذا الحديث. (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 238).

سورة الحديد

سورة الحديد مدنية، وقيل: مكية، وآيها: تسع وعشرون آية، وحروفها: ألفان وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلمها: خمس مئة وأربع وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}. [1] {سَبَّحَ لِلَّهِ} التسبيح هنا: هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله، وهو إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام، وأن التسبيح مما ذكر دائم مستمر، وهو تسبيح حقيقة، وجاء في فاتحة هذه السورة، وفي الحشر، والصف على لفظ الماضي، وفي الجمعة والتغابن على لفظ المضارع، وذلك إشارة إلى أن تسبيح هذه الأشياء غير مختص بوقت دون وقت، بل كانت مسبحة أبدًا في الماضي، وستكون مسبحة أبدًا في المستقبل. {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من جميع المخلوقات. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} بقدرته وسلطانه {الْحَكِيمُ} بلطفه وتدبيره. ***

[2]

{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)}. [2] {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: سلطانها الحقيقي الدائم؛ لأن ملك البشر مجاز {يُحْيِي} الموتى للبعث {وَيُمِيتُ} الأحياء {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تام القدرة. ... {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)}. [3] {هُوَ الْأَوَّلُ} السابق للأشياء قبل وجودها الذي ليس لوجوده بداية مفتتحه. {وَالْآخِرُ} الدائم الباقي بعد فناء الأشياء الذي ليس له نهاية منقضية. {وَالظَّاهِرُ} الغالب العالي على كل شيء. {وَالْبَاطِنُ} بلطفه وغوامض حكمته وباهي صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يستوي عنده الظاهر والخفي. ... {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)}. [4] {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} تقدم القول فيها في سورة (فصلت)، قال بعض المفسرين: الأيام الستة من أيام القيامة، وقال الجمهور: بل من أيام الدنيا، قال ابن عطية: وهو الأصوب (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 257).

[5]

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليق بعظمته، وتقدم الكلام فيه في سورة (طه)، وفي (الأعراف) أيضًا. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} من المطر والأموات وغير ذلك {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} كالزرع ونحوه. {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من الملائكة، والرحمة، والعذاب، وغير ذلك. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الأعمال صالحها وسيئها. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} بعلمه وقدرته وإحاطته. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه. ... {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)}. [5] {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يتصرف فيه كما أراد. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} خبر يعم الموجودات. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (¬1). ... {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)}. [6] {يُولِجُ} يُدخل {اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} فيه تنبيه على ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 409)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 79).

[7]

العبرة فيما يتجاذبه الليل والنهار من الطول والقصر، وذلك متشعب (¬1) مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة، وذلك بحر من بحار الفكرة لمن تأمله. {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما فيها من الأسرار والمعتقدات، وذلك أغمض ما يكون. ... {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}. [7] {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أمرٌ للمؤمنين بالثبوت على الإيمان. {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} من أموال متقدميكم، وفيه تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير للإنسان من غيره، ويتركها لغيره، روي أنها نزلت في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك، والإشارة بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} إلى عثمان -رضي الله عنه-، وحكمها باق يندب إلى هذه الأفعال بقية الدهر. ... {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}. [8] وقوله (¬2): {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} 1) ¬

_ (¬1) "متشعب" زيادة من "ت". (¬2) "وقوله" زيادة من "ت".

[9]

توطئة لدعائهم، وإيجاب لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة، فإذا تقرر ذلك، فلا مانع من الإيمان، وهذا كما تريد أن تندب رجلًا إلى عطاء، فتقول له: أنت يا فلان من قوم أجواد، فينبغي أن تكرم، وهذا مطرد في جميع الأمور إذا أردت من أحد فعلًا خَلَّقته بخلق أهل ذلك الفعل، وجعلت له رتبتهم، فإذا تقرر في هؤلاء أن الرسول يدعوهم، وأنهم ممن أخذ ميثاقهم، فكيف يمتنعون من الإيمان. {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} بالإيمان حين الإخراج من ظهر آدم على ما مضى في سورة الأعراف. قرأ أبو عمرو: (أُخِذَ) بضم الهمزة وكسر الخاء مجهولًا، (مِيثَاقُكمُ) بالرفع فاعل، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة والخاء، ونصب (مِيثَاقَكُمْ) مفعولًا (¬1)، والآخذ على كلِّ قول هو الله تعالى. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن دمتم على ما بدأتم به. ... {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)}. [9] {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (يُنْزِلُ) بإسكان النون وتخفيف الزاي، والباقون: بفتح النون وتشديد الزاي (¬2) {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 625)، و"التيسير" للداني (ص: 208)، و"تفسير البغوي" (4/ 322)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 79). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 409)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 80).

[10]

{لِيُخْرِجَكُمْ} الله بالقرآن (¬1) {مِنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر {إِلَى النُّورِ} الإيمان. {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} حيث نبَّهكم بالرسل والآيات. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: (لَرَؤُوفٌ) بالإشباع على وزن فَعول، والباقون: على وزن فَعُل (¬2)، والرأفة: أشد الرحمة. ... {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}. [10] {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وأنتم تموتون وتتركون أموالكم {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيه زيادة تذكير بالله وعبرة، ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله والجهاد فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقوا نفقات كثيرة حتى قال ناس: هؤلاء أعظم أجرًا من كل من أنفق قديمًا، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظمُ أجرًا، والمراد: فتح مكة الذي أزال الهجرة، وهذا هو المشهور الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرةَ بعدَ الفتح، ولكن ¬

_ (¬1) "الله بالقرآن" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 364)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 49)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 80).

[11]

جهادٌ ونية" (¬1)، وروي أنها نزلت في أبي بكر -رضي الله عنه- ونفقاته (¬2). {أُولَئِكَ} المنفقون قبل الفتح {أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} أي: من بعد الفتح. {وَكُلًّا} من الفريقين {وَعَدَ اللَّهُ} المثوبةَ {الْحُسْنَى} وهي الجنة. قرأ ابن عامر: (وَكُلٌّ) بالرفع مبتدأ، خبره (وَعَدَ)، وكذلك هو في المصاحف الشامية وقرأ الباقون: بالنصب، وكذلك هو في مصاحفهم (¬3)، وهي الوجه؛ لأن وعد ليس يعوقه عائق عن أن ينصب المفعول المتقدم (¬4). {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يعلم ظاهره وباطنه فيجازيكم عليه. ... {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}. [11] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} من ذا الذي ينفق في سبيل الله رجاء أن يعوضه؟ والقرض الحسن: الإعطاء لله. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} فيعطيه أجره أضعافًا مضاعفة. قرأ عاصم. (فَيُضَاعِفَهُ) بإثبات الألف بعد الضاد مخففًا ونصب الفاء، وقرأ ابن عامر، ويعقوب: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2631)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد والسير، ومسلم (1353)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 323)، و"تفسير القرطبي" (17/ 240). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 625)، و"التيسير" للداني (ص: 208)، و"تفسير البغوي" (4/ 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 80 - 81). (¬4) في "ت": "المقدم".

[12]

بحذف الألف وتشديد العين ونصب الفاء، وقرأ ابن كثير، وأبو جعفر: بحذف الألف وتشديد العين ورفع الفاء، وقرأ الباقون: بإثبات الألف مخففًا ورفع الفاء (¬1)، فالقراءة بالنصب جواب الاستفهام؛ كأنه قال: أيقرض الله أحد فيضاعفه له؟ وبالرفع؛ أي: فهو يضاعفه. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} هو الذي يقترن به رضا وإقبال. ... {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}. [12] {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} العامل في (يَوْمَ) قوله: (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)، والرؤية في هذه الآية رؤية عين. {يَسْعَى نُورُهُمْ} وهو نور حقيقة؛ لأن كل مؤمن يُعطى يوم القيامة نورًا، فيطفأ نور كل منافق، ويبقى نور المؤمنين. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وخص بين الأيدي بالذكر؛ لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور. {وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي: وعن أيمانهم، خص ذكر جهة اليمين تشريفًا، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاتهم، وقيل: وبأيمانهم: كتبهم بالرحمة، وتقول لهم الملائكة: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 625)، و"التيسير" للداني (ص: 81)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 228)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 81 - 82).

[13]

{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} أي: دخولُ جنات. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مخاطبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}. [13] وتبدل من {يَوْمَ تَرَى} {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} قرأ حمزة: (أَنْظِرُونَا) بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الظاء؛ بمعنى: أمهلونا، وقرأ الباقون: بوصل الهمزة وضم الظاء (¬1)؛ أي: انتظرونا نستضئ من نوركم، وابتداؤها لهم بضم الهمزة. {قِيلَ} أي: فيقول لهم المؤمنون: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} طردًا لهم وتهكمًا. {فَالْتَمِسُوا نُورًا} فاطلبوا لأنفسكم نورًا؛ فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا، فيرجعون، فلا يجدون شيئًا، فينصرفون إليهم ليلقوهم. {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} أي: حائل بين الجنة والنار، وقيل: هو الأعراف {لَهُ} أي: ولذلك السور {بَابٌ بَاطِنُهُ} أي: داخل الباب من جهة المؤمنين ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 625)، و"التيسير" للداني (ص: 208)، و"تفسير البغوي" (4/ 324)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 83).

[14]

{فِيهِ الرَّحْمَةُ} الجنة {وَظَاهِرُهُ} خارجه {مِنْ قِبَلِهِ} أي: من جهة شقه الخارج نحو الكفار {الْعَذَابُ} وهو النار. وقال عبد الله بن عمر، وكعب الأحبار، وعبادة بن الصامت، وابن عباس: هو سور بيت المقدس الشرقي، وفيه باب يسمى باب (¬1) الرحمة، باطنه فيه المسجد الأقصى، وظاهره من جهة المشرق واد يقال له: وادي جهنم (¬2). قال ابن عطية: وهذا القول في السور بعيد (¬3)، والله أعلم. ... {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)}. [14] {يُنَادُونَهُمْ} أي: ينادي المنافقون المؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} في الدنيا؟ {قَالُوا}: يعني المؤمنين ردًّا عليهم: {بَلَى} كنتم معنا {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} محنتموها بالنفاق. {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر {وَارْتَبْتُمْ} شككتم في أمر الله ¬

_ (¬1) "يسمى باب" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (23/ 183)، و"تفسير البغوي" (4/ 325). (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 262).

[15]

{وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} الكاذبة بطول الأمل. قرأ أبو جعفر: (الأَمَانِي) بإسكان الياء، والباقون: برفعها مشددًا (¬1). {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} الموتُ، ودخولُ النار. واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَمْرُ اللهِ) كاختلافهم فيهما من (وَيُمْسِك السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ) في سورة الحج [الآية: 65]. {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: غركم الشيطان بأن الله لا يعذبكم. ... {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}. [15] {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} بدل؛ بأن تنقذوا (¬2) أنفسكم من العذاب. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (تُؤْخَذُ) بالتاء على التأنيث، والباقون: بالياء على التذكير (¬3)؛ لأن الفداء بمعنى الفدية. {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم (¬4) المشركون، والخطاب الأول للمنافقين. {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} أي: أولى بكم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} النارُ. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 217)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 84). (¬2) في "ت": "تفدوا". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 208)، و"تفسير البغوي" (4/ 326 - 327)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 384)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 84 - 86). (¬4) "وهم" ساقطة من "ت".

[16]

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}. [16] ونزل عتابًا للمؤمنين: {أَلَمْ يَأْنِ} أي: يَحِنْ؛ من أنى يأني: إذا جاء إناه؛ أي: وقتُه. {لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} تعالى إذا ذكر، وتلين وتخضع؟ قال ابن عباس: "إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاثَ عشرةَ سنة من نزول القرآن" (¬1) {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} وهو القرآن. قرأ نافع، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (نَزَلَ) بتخفيف الزاي، والباقون: بالتشديد (¬2). {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل القرآن، وهم اليهود والنصارى. قراءة العامة: (وَلاَ يَكُونُوا) بالغيب عطفًا على (تَخْشَعَ)، وقرأ رويس عن يعقوب: بالخطاب (¬3) التفاتًا أو نهيًا للمؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب فيما حُكي عنهم. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} أي: الزمانُ بطول أعمارهم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} بميلهم ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 326 - 327)، و"تفسير القرطبي" (17/ 249). (¬2) المصادر السابقة. (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 384)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 86).

[17]

إلى الدنيا، وإعراضهم عن مواعظه تعالى {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن الطاعة. ... {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)}. [17] {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} هذا ضرب مثل، واستدعاء إلى الخير؛ أي: لا يبعد عنكم أيها التاركون للخشوع رجوعُكم إليه؛ فإن الله يحيي الأرض بعد موتها، فكذلك يفعل بالقلوب، يردها إلى الخشوع، وترجع هي إليه بعد نفورها منه؛ كما تحيا الأرض بعد أن كانت غبراء. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي يكمل عقلكم. ... {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)}. [18] {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: بتخفيف الصاد فيهما؛ من التصديق بالإسلام، وقرأ الباقون: بتشديدها منهما (¬1)؛ من التصدُّق، وأصلُه: المتصدقين والمتصدقات، أدغمت التاء في الصاد. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 626)، و"التيسير" للداني (ص: 208)، و"تفسير البغوي" (4/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 87).

[19]

{وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} هو الصدقة بطيب نفس، وصحة نية على مستحقيها (¬1). {يُضَاعَفُ لَهُمْ} القرض. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (يُضَعَّفُ) بتشديد العين وحذف الألف قبلها، وقرأ الباقون: بإثبات الألف والتخفيف (¬2). {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} تقدم تفسيره في هذه السورة. ... {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)}. [19] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} والصدِّيق: الكثيرُ الصدق، وهم ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب، ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته، وتم الكلام عند قوله: (هُمُ الصِّدِّيقُونَ)، ثم ابتدأ فقال: {وَالشُّهَدَاءُ} مبتدأ، ظرفه {عِنْدَ رَبِّهِمْ} خبره {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي: أجر ما عملوا من العمل الصالح {وَنُورُهُمْ} على الصراط، وهم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم. ¬

_ (¬1) في "ت": "مستحقها". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 410)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 87).

[20]

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار؛ لأن الصحبة تدل على الملازمة. ... {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)}. [20] ولما ذكر حال الفريقين في الآخرة، حقَّر أمر الدنيا، فقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: إن الحياة الدنيا، و (ما) صلة؛ أي: الحياة في هذه الدار. {لَعِبٌ} باطل {وَلَهْوٌ} فرح، ثم ينقضي {وَزِينَةٌ} منظر يتزينون به {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} يفخر به بعضكم على بعض. {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} فازهدوا فيها، فما مثلها إلا. {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} أي: الزراع؛ لأنهم إذا ألقوا البذر في الأرض، كفروه؛ أي: غطَّوه {نَبَاتُهُ} الهاء للغيث؛ أي: أعجب الكفارَ ما نبت بالمطر. {ثُمَّ يَهِيجُ} ييبس {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعد خضرته. {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فتاتًا ويفنى. {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكافرين {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} للمؤمنين.

[21]

قرأ أبو بكر عن عاصم: (وَرُضْوَانٌ) بضم الراء، والباقون: بكسرها (¬1). {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} لمن ركن إليها، ولم يشتغل بطلب الآخرة. ... {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}. [21] {سَابِقُوا} سارِعوا {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ} أي: السموات {وَالْأَرْضِ} لو وصل بعضها ببعض، ولم يذكر الطول؛ لأن عرض كل ذي عرض أقلُّ من طوله. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} قوله (أُعِدَّتْ) دليل على أنها مخلوقة الآن معدة. {ذَلِكَ} الموعود {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} من غير إيجاب. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فلا يبعد منه التفضل بذلك، والمراد منه: التنبيه لأعظم (¬2) حال الجنة، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه، وأثنى بسببه على نفسه، فإنه لابد أن يكون ذلك العطاء عظيمًا. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 86)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 411)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 88). (¬2) في "ت": "على عظم".

[22]

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)}. [22] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} أي: ما حدث من حادث. {فِي الْأَرْضِ} من قحط ونقص في النبات والثمار {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} كمرض وفقد ولد. {إِلَّا} مكتوبة {فِي كِتَابٍ} وهو اللوح المحفوظ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: نخلقها؛ يعني: المصيبةَ والأرضَ والأنفسَ. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} يعني: تحصيل الأشياء كلها في كتاب. ... {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)}. [23] {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} معناه: فعل الله هذا كله، وأعلمكم به، ليكون سبب تسليمكم وقلة اكتراثكم بأمر الدنيا، فلا تحزنوا على فائت {وَلَا تَفْرَحُوا} الفرحَ المبطِرَ {بِمَا آتَاكُمْ} منها. قرأ أبو عمرو: (أَتَاكُمْ) بقصر الهمزة؛ لقوله: (فَاتَكُمْ)، فجعل الفعل له، وقرأ الباقون: بالمد (¬1)، أي: أعطاكم الله. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} متكبر بما أوتي من الدنيا {فَخُورٍ} به على الناس، فيه دليل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 626)، و"التيسير" للداني (ص: 208)، و"تفسير البغوي" (4/ 329)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 88 - 89).

[24]

والفخر، وأما الفرح بنعم الله، المقترنُ بالشكر والتواضع، فأمر لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه، ولا حرج فيه. ... {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}. [24] {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بأموالهم وأفعالهم الحسنة من إيمانهم وغير ذلك، قيل: هو في محل الخفض على نعت المختال، وقيل: هو رفع بالابتداء، وخبره فيما بعده {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وهذا غاية الذم أن يبخل الإنسان، ويأمر غيره بالبخل. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (بِالْبَخَلِ) بفتح الباء والخاء، والباقون: بضم الباء وإسكان الخاء (¬1). {وَمَنْ يَتَوَلَّ} عما يجب عليه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن خلقه {الْحَمِيدُ} المحمود في ذاته. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (فَإِنَّ اللهَ الْغَنِيُّ) بغير (هو)، وكذا هو في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون بزيادة (هو)، وكذلك هو في مصاحفهم (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 96)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 411)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 89). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 208)، و"تفسير البغوي" (4/ 329)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 384)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 89 - 90).

[25]

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}. [25] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} الملائكةَ إلى الأنبياء. قرأ أبو عمرو: (رُسْلَنَا) (بِرُسْلِنَا) بإسكان السين فيهما، والباقون: بضمها (¬1) {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج القواطع. {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الوحي {وَالْمِيزَانَ} العدلَ. {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ليتعاملوا بينهم بالعدل. {وَأَنْزَلْنَا} أخرجنا {الْحَدِيدَ} من المعادن؛ لأن العدل إنما يكون بالسياسة، والسياسة مفتقرة إلى العدة، والعدة مفتقرة إلى الحديد. {فِيهِ بَأْسٌ} قتال {شَدِيدٌ} لأنه يقاتل به ويمتنع {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فيما يحتاجون إليه. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} أي: يعلمه موجودًا، فالتغيير ليس في علم الله، بل في هذا الحادث الذي خرج من العدم إلى الوجود {مَنْ يَنْصُرُهُ} أي: دينَه بآلات الحرب في مجاهدة الكفار {وَرُسُلَهُ} أي: وينصر رسله {بِالْغَيْبِ} أي: بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه، فآمن بها؛ لقيام الأدلة عليها، قال ابن عباس: "يَنصرونه ولا يُبصرونه" (¬2). {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} في أمره {عَزِيزٌ} في ملكه. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 411)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 90). (¬2) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 478).

[26]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)}. [26] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} ذكر رسالتهما، تشريفًا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل، ثم ذكر نعمه على ذريتهما، فقال {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} يعني: الكتب الأربعة؛ فإنها جميعًا في ذرية إبراهيم عليه السلام. قرأ هشام (أَبْرَاهَاَم) بالألف، والباقون: بالياء، وقرأ نافع (النُّبُوءَةَ) بالمد والهمز، والباقون: بتشديد الواو بغير همز. {فَمِنْهُمْ} فمن الذرية {مُهْتَدٍ} روي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء على (مُهْتَدِي) {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن الطاعة. ... {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)}. [27] {ثُمَّ قَفَّيْنَا} أَتْبعنا وأَرْدفنا؛ مأخوذ من القفا؛ أي: جاء بالثاني في قفا الأول {عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وكان آخر نبي من بني إسرائيل، وأول أنبيائهم موسى عليه السلام. {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً} وهي أشد الرحمة، وكانوا متوادِّين بعضهم لبعض؛ كما قال تعالى في وصف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. قرأ قنبل بخلاف عنه: (رَآفَةً) بالمد

مثل: رَعافة {وَرَحْمَةً} والرحمة في القلب لا تَكَسُّبَ للإنسان فيها. {وَرَهْبَانِيَّةً} هو ترهبهم في الجبال والصوامع، ورفض النساء، والرهبان: الخائف؛ مأخوذ من الرهب، وهو الخوف، (ورَهْبَانِيَّهً) عطف على (وَرَحْمَةً). {ابْتَدَعُوهَا} نعت؛ أي: جعلنا عليهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة، والمعتزلة تعرب (ورَهْبَانِيَّهً) أنها نصب بإضمار فعل يفسره (ابْتَدَعُوهَا)، وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة، ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله، فيعربون الآية على مذهبهم، ابتدعوها من قبل أنفسهم، روي أنهم افترقوا ثلاث فرق: ففرقةٌ قاتلت الملوك على الدين فقتلت وقتلت، وفرقةٌ قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل، فأخذَتْها الملوك فنشرتها بالمناشير، وقتلوا، وفرقةٌ خرجت إلى الفيافي، وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل، فتركت، ولذلك تسمت بالرهبان، فهذا هو ابتداعهم. {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي: لم نفرض الرهبانية عليهم {إِلَّا} استثناء منقطع؛ أي: لكنهم ابتدعوها. {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} وهو امتثال أمره تعالى، واجتناب نهيه. وتقدم مذهب أبي بكر في ضم الراء من (رُضْوَانِ). {فَمَا رَعَوْهَا} ما حفظ الرهبانية هؤلاء المعتدون {حَقَّ رِعَايَتِهَا} لأنهم قصروا فيما ألزموا أنفسهم من الرهبانية، ورجعوا عنها، ودخلوا في دين ملوكهم، ولم يبق على دين النصرانية إلا اليسير، فآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -

[28]

قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ آمنَ بي وصدَّقني، فقد رعاها حقَّ رعايتها، ومن لم يؤمنْ بي، فأولئك هم الهالكون" (¬1). {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {مِنْهُمْ} أي: من العيسيين. {أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} من العيسيين التاركي الرهبانية الكافرون بمحمد وعيسى عليهما السلام {فَاسِقُونَ} خارجون عن حال (¬2) الاتباع. وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل، وأنه يلزمه أن يرعاه حق رعايته، واختلف الأئمة فيما إذا أنشأ صومًا أو صلاة تطوعًا، فقال أبو حنيفة: لم يجز له الخروج منه، فإن أفسده، فعليه القضاء؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وقال مالك كذلك، إلا أنه اعتبر العذر، فقال: إن خرج منه لعذر، فلا قضاء، وإلا، وجب، وقال الشافعي وأحمد: متى أنشأ وحدًا منهما، استحب إتمامه، فإن خرج منه، لم يجب عليه قضاء على الإطلاق، وأما إذا كان التطوع حجًّا أو عمرة، فيلزم إتمامه، فإن أفسده، وجب قضاؤه بالاتفاق؛ لوجوب المعنى في فاسده. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}. [28] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بموسى وعيسى {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10531)، وفي "المعجم الصغير" (624)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 177)، من حديث أبي مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 163): فيه عقيل بن الجعد، قال البخاري: منكر الحديث. (¬2) "حال" زيادة من "ت".

[29]

محمد - صلى الله عليه وسلم - {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} حظين {مِنْ رَحْمَتِهِ} بالإيمان بالكتابين. {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} على الصراط {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ... {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}. [29] {لِئَلَّا يَعْلَمَ} أي: ليعلم (¬1) {أَهْلُ الْكِتَابِ} و (لا) صلة. قرأ ورش عن نافع، وأبو جعفر بخلاف عنه: (لِيَلَّا) بإبدال الهمزة ياء مفتوحة، والباقون: بالهمز، والمراد: أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا. {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} أي: لا ينالون شيئًا {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}. روي أنه لما نزل هذا الوعد للمؤمنين، حسدهم أهل الكتاب على ذلك، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها، وتزعم أنها أحباء الله، وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله فعل ذلك، وأعلم به؛ ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون (¬2). {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} في تصرفه وملكه {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} لا اعتراض عليه؛ فإنه قادر مختار، يفعل بحسب الاختيار. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، والعظيم (¬3) لا بد أن يكون إحسانه ¬

_ (¬1) "أي: ليعلم" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 337)، و"تفسير القرطبي" (17/ 268). (¬3) "والعظيم" زيادة من "ت".

عظيمًا، والمراد منه: تعظيم حال محمد - صلى الله عليه وسلم - في نبوته وشرعه وكتابه. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "واسم الله الأعظم في أولي سورة الحديد في ست آيات من أولها، فإذا علقت على المقاتل في الصف، لم ينفذ إليه حديد" (¬1)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 256). قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير": اشتمل هذا المقدار من أول السورة على معاني ست عشرة صفة من أسماء الله الحسنى، وهي: الله، العزيز، الحكيم، الملل، المحيي، المميت، القادر، الأول، الآخر، الظاهر الباطن، العليم، الخالق، البصير، الواحد، المدبِّر. وقول ابن عباس يعني مجموع هذه الأسماء.

سورة المجادلة

سُوْرَةُ المُجَادَلَة مدنية، وحكى النقاش أن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} الآية، مكي (¬1)، آيها: اثنتان وعشرون آية (¬2)، وحروفها: ألف وسبع مئة واثنان وتسعون حرفًا، وكلمها: أربع مئة وثلاث وسبعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}. [1] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} أي: علم (¬3) {قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} تحاورك. {فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وقالون عن نافع، وعاصم، ويعقوب: (قَدْ سَمِعَ) بإظهار الدال عند السين، والباقون: بالإدغام. نزلت في خولة بنت ثعلبة لما ظاهرَ منها زوجها أوسُ بن الصامت، وكانا من الأنصار، فأرادها، فأبت عليه، فقال: أنت علي كظهر أمي، فكان ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 272). (¬2) في "ت": "عشرون وآيتان". (¬3) "أي: علم" زيادة من "ت".

[2]

أولَ ظهار في الإسلام، ثم ندم، وكان الظهار في الجاهلية يُحَرِّم، فأخبرت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال لها: "قَدْ حرمْتِ عليه"، فقالت: واللهِ ما ذكر طلاقًا، وراجعَتْه في الكلام، وشكت إلى الله الفاقة وشدة الحال (¬1)، فهذه مجادلتها. {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي: مراجعتكما القول {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما تناجيه {بَصِيرٌ} لمن يشكو إليه. ... {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}. [2] {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} قرأ عاصم: (يُظَاهِرُونَ) بضم الياء وتخفيف الظاء والهاء وكسرها وألف بينهما في الموضعين؛ من ظاهرَ يُظاهر، وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف: بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعدها، وتخفيف الهاء وفتحها، أصله: يَتَظاهرون، أدغمت التاء في الظاء، وقرأ الباقون: بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء بلا ألف قبلها، أصله: يتظَهَّرون، أدغمت التاء في الظاء (¬2)، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 337)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 273)، و"تفسير القرطبي" (17/ 270). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 208 - 209)، و"تفسير البغوي" (4/ 338)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 385)، و"معجم القراءات القرآنية) (7/ 97 - 98).

[3]

والمعنى على القراءات كلها؛ أي: يحرِّمون أزواجَهم بالظهار، والظهار: أن يشبه امرأته أو عضوًا منها بظهر من تحرم عليه على التأبيد، أو إلى أمد، أو بها، أو بعضو منها، فإذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو كَيَدِ أختي، ونحو ذلك، أو حرام، فيحرم عليه وطؤها حتي يكفِّر بالاتفاق. {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي: ليس قول الرجل لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أو كشيء من أعضائها، ويجعلها كأمه في الحرمة بصحيح. {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} حقيقةً {إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} والمرضعات، وزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ملحقات بالوالدات في الحرمة، وأما المظاهَرات، فأبعد شبهًا بالوالدات. واختلاف القراء في الهمز من (الَّلائِي) كاختلافهم فيه في حرف سورة الأحزاب [الآية: 4]. {وَإِنَّهُمْ} أي: المظاهرون {لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} هو جعلُ الزوجةِ أمًا تنكره الحقيقة {وَزُورًا} باطلًا. {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} عما سلف من الظهار {غَفُورٌ} لمن تاب. ... {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)}. [3] {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} تقدم اختلاف القراء في (يُظَاهِروُنَ). {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي: يريدودن العود إلى التَّماسِّ، وهو كناية عن الجماع، فعند الإمام أحمد: العود: هو الوطء، وعند أبي حنيفة ومالك: هو العزم على الوطء، وعند الشافعي: هو أن يمسكها عقب الظهار زمانًا

[4]

يمكنه أن يفارقها، ولم يفعل، فإن طلقها عقب الظهار في الحال، أو مات أحدهما في الوقت، فلا كفارة عليه. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والكفارة على الترتيب يجب عليه عتق رقبة سليمة من العيوب الفاحشة بالاتفاق، مؤمنة عند الأئمة الثلاثة، وقال أبو حنيفة: لا يشترط الإيمان. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} يتجامع المظاهِر والمظاهَر منها، فإن أقدم على الجماع قبل التكفير، استغفر الله تعالى، وليس عليه سوى الكفارة الأولى بالاتفاق. {ذَلِكُمْ} التغليظ بالكفارة {تُوعَظُونَ بِهِ} لتنزجروا عن الظهار. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لا يخفى عليه شيء. ... {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}. [4] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الرقبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ليس فيهما رمضان، ولا يوما العيدين وأيام التشريق عند الثلاثة، وعند أحمد: إن تخلل صومها صوم رمضان، أو فطر واجب كيوم العيد، لم ينقطع التتابع. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فلو أصاب المظاهر منها ليلًا أو نهارًا عمدًا أو سهوًا، انقطع التتابع عند الثلاثة، وقال الشافعي وأبو يوسف: إن جامع ليلًا عامدًا، أو نهارًا، ناسيًا، لم يستأنف، وله وطء غيرها من نسائه بالاتفاق.

{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} الصومَ لعذر {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}. والمخرج في الكفارة ما يجزئ في الفطرة، فقال أبو حنيفة: لكل مسكين نصف صاع من بر، أو صاع من تمر أو شعير، والصاع عنده ثمانية أرطال بالعراقي، وعند أبي يوسف: خمسة أرطال وثلث، وقال مالك: لكل مسكين مد من عيش أهل البلد، فإن كان الشعير والتمر، أعطي لكل مسكين منه عدل الحنطة بمد هشام، وقدره مد وثلثان بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهشام هذا الذي أضيف إليه المد هو هشام بن إسماعيل المخزومي، كان أميرًا على المدينة من قبل هشام بن عبد الملك، وقال الشافعي: لكل مسكين مد مما يكون فطرة، وهو البر، والأرز، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، وقدر المد رطل وثلث بالبغدادي، وهو مد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال أحمد: المخرج في الكفارة ما يخرج في الفطرة، وهو البر، والشعير، ودقيقهما، أو سويقهما، وهو بر أو شعير يحمص، ثم يطحن، والتمر، والزبيب، والأقط، وهو شيء يعمل من اللبن المخيض، ولا يجزئ من البر أقل من مد، وهو رطل وثلث بالبغدادي، ولا من غيره أقل من مدين لكل مسكين، وتقدم ذكر الصاع والمد والكلام عليها مستوفىً بأتم من هذا في سورة المائدة عند ذكر كفارة اليمين، وفي سورة التوبة عند ذكر زكاة الفطر. فإن دفع الكفارة إلى مسكين واحد في ستين يومًا، جاز عند أبي حنيفة، ولم يجز عند الشافعي ومالك، وقال أحمد: إن لم يجد غيره، أجزأه، وإلا فلا، ولو غداهم وعشاهم، جاز عند أبي حنيفة بشرط شبعهم (¬1) في الأكلتين، وعند الثلاثة: لا يجوز. ¬

_ (¬1) "بشرط شبعهم" زيادة من "ت".

ويجوز دفع الكفارة لكافر، وإخراج القيمة عند أبي حنيفة؛ خلافًا للثلاثة. ومن كفر بالإطعام، جاز له الوطء في خلاله عند أبي حنيفة والشافعي؛ خلافًا لمالك وأحمد، ونقل بعض المفسرين عن مالك أن من كفر بالإطعام، جاز له الوطء قبله؛ لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس، ولم يقل في الطعام: قبل أن يتماسا، ومنقول مذهب مالك خلاف ذلك، فقد جزم علماء مذهبه في كتبهم أنه لا يجوز الوطء في خلال الإطعام كالصيام، فإن وطئ، بطل ما مضى من إطعامه، ولزمه ابتداؤها، وصرح ابن عطية المالكي في "تفسيره" عن مالك أنه قال: إطعام المساكين أيضًا هو قبل التماس حملًا على العتق والصوم (¬1). {ذَلِكَ} إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم والإطعام {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} لتصدقوا ما أتى به الرسول من الله عز وجل، ثم شدد بقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} فالتزموها، وقفوا عندها. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: الذين لا يقبلونها. واختلفوا فيمن ظاهر من أمته، فقال مالك: يصح، وقال الثلاثة: لا يصح، وعليه عند أحمد كفارة يمين. واتفقوا على صحة الظهار من العبد، ويكفر بالصيام، وقال مالك: إن عجز عنه، فبالإطعام إن أذن له سيده، فإن منعه، انتظر القدرة على الصيام. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 275).

[5]

ويصح من الأجنبية عند مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يصح منها، ويصح من الذمي عند الشافعي وأحمد، ويكفر بالمال، وعند أبي حنيفة ومالك لا يصح منه. ومن كرر الظهار قبل التكفير، فكفارة واحدة عند مالك وأحمد، وعند أبي حنيفة بكل ظهار كفارة، ومذهب الشافعي إن كرره في امرأة متصلًا، وقصد تأكيدًا، فظهار واحد، أو استئنافًا، فالأظهر التعدد، وإنه بالمرة الثانية عائد في الأولى، والله أعلم. ... {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}. [5] {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: يحاربونهما، ويخالفون أمرهما. {كُبِتُوا} أُهلكوا {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من كفار الأمم الماضية. {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} تدل على صدق ما جاء به الرسول. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} نزلت هذه الآيات في المنافقين، وقومٍ من اليهود كانوا في المدينة يتمنون المكروه في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ويتربصون بهم الدوائر، ويدبرون عليهم، ويتناجون بذلك، فنزلت هذه الآيات إلى آخر أمر النجوى فيهم (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعالبي" (4/ 276).

[6]

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}. [6] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} العامل فيه قوله: (مُهِينٌ). {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} توبيخًا لهم. {أَحْصَاهُ} حفظه {اللَّهُ} عليهم {وَنَسُوهُ} لتهاونهم به. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} شهيد، لا يغيب عنه شيء. ... {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}. [7] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} كليًّا وجزئيًّا. {مَا يَكُونُ} قرأ أبو جعفر: (تَكُونُ) بالتاء على التأنيث؛ لتأنيث النجوى، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير (¬1)؛ لأن تأنيث نجوى غير حقيقي، وللفصل بـ (من)، المعنى: ما يقع. {مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} وجر (ثَلاثَةٍ) بإضافة النجوى إليها، وهي التناجي سرًّا. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 342)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 385)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 99).

[8]

{إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} بالعلم {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} وخصوا بهذا العدد؛ لأنها نزلت في المنافقين، وكانوا يتحلقون للمناجاة ثلاثة خمسة غيظًا للمؤمنين. {وَلَا أَدْنَى} أقل {مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} قرأ يعقوب: (أَكْثَرُ) بالرفع عطفًا على موضع (مِنْ نَجْوَى)؛ لأن التقدير: ما يكون نجوى، وقرأ الباقون: بالنصب عطفًا على العدد المخفوض {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} عالمًا بهم. {أَيْنَ مَا كَانُوا} لأن علمه تعالى لا يتفاوت باختلاف الأمكنة. {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تفضيحًا لهم {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. ... {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}. [8] كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - واليهود موادعة، فكانوا هم والمنافقون إذا رأوا بعض المسلمين تناجوا، فيظن المسلم أنهم يريدون قتله، فيترك الطريق خوفًا منهم، فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن التناجي، فلم ينتهوا فنزل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (¬1) أي: يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها. {وَيَتَنَاجَوْنَ} قرأ حمزة، ورويس عن يعقوب: (وَيَنْتَجُونَ) بنون ساكنة بعد الياء وبعدها تاء مفتوحة وضم الجيم على وزن ينتهون مستقبل انتجوا، وقرأ الباقون: بتاء ونون مفتوحتين وبعدها ألف وفتح ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 345 - 346).

[9]

الجيم مستقبل تَناجوا (¬1)، ومعناهما: الحديث سرًّا. {بِالْإِثْمِ} أي: بما هو إثم {وَالْعُدْوَانِ} للمؤمنين {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهاهم فلم ينتهوا. وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (وَمَعْصِيَهْ) بالهاء. {وَإِذَا جَاءُوكَ} أي: اليهود {حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} وهو قولهم: السام عليك يا محمد، والسام: الموت، وتقدم حكم سلام الذمي، والرد عليه، ومذاهب الأئمة في ذلك في سورة النساء. {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} إذا خرجوا: {لَوْلَا} هَلَّا {يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} كانوا يقولون: لو كان نبيًّا، لدعا علينا حتى يعذبنا الله بما نقول له. {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذابًا {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} جهنمُ. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)}. [9] ثم نهى الله المؤمنين أن يفعلوا كفعل المنافقين واليهود، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا} قرأ رويس: (تَنْتَجُوا) على وزن تنتهوا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 209)، و"تفسير البغوي" (4/ 343)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 385)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 101 - 102). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 385)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 103).

[10]

{بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} كفعل المنافقين واليهود. {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} وهو ما يتضمن خيرًا للمؤمنين {وَالتَّقْوَى} أي: اتقاء معصية الرسول. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تذكير بالحشر الذي معه الحساب. ... {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}. [10] {إِنَّمَا النَّجْوَى} المحرمة {مِنَ الشَّيْطَانِ} بتزيينه {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} بتوهمهم. قرأ نافع: (لِيُحْزِنَ) بضم الياء وكسر الزاي، وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الزاي (¬1). {وَلَيْسَ} التناجي {بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} بمشيئة الله. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كنتم ثلاثةً، فلا يتناجى اثنان دونَ الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنُه" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 412)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 103). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 146)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بهذا اللفظ. ورواه البخاري (5932)، كتاب: الاستئذان، باب: إذا كانوا أكثر من ثلاث فلا بأس بالمسارَّة والمناجاة، ومسلم (2184)، كتاب: السلام، باب: تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ نحوه.

[11]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)}. [11] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -. قرأ عاصم: (الْمَجَالِسِ) بألف على الجمع؛ لأن لكل جالس مجلسًا، معناه: ليفسح كل رجل في مجلسه، وقرأ الباقون: بغير ألف على التوحيد إرادة الجنس (¬1). {فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} في الجنة. {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} ارتفعوا وانهضوا حتى توسِّعوا لإخوانكم {فَانْشُزُوا} قرأ الكسائي، وهشام، ورويس: (قِيلَ) بإشمام الضم حيث وقع، والباقون: بإخلاص الكسر (¬2)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، (انْشُزُوا) (فَانْشُزُوا) بضم الشين في الحرفين؛ بخلاف عن أبي بكر راوي عاصم، وقرأ الباقون: بالكسر فيهما (¬3). {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} بإيمانهم وطاعتهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 629)، و"التيسير" للداني (ص: 209)، و"تفسير البغوي" (4/ 345)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 104). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 412)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 103). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 209)، و"تفسير البغوي" (4/ 345)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 385)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 104).

[12]

{وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أيضًا على غيرهم من المؤمنين {دَرَجَاتٍ} هنا وَثمَّ بما جمعوا من العلم والعمل (¬1). {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تهديد لمن لم يمتثل الأمر. ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}. [12] ولما أكثر الناس على النبي - صلى الله عليه وسلم - السؤال حتى أسأموه، نزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ} أي: قبل {نَجْوَاكُمْ} إذا أردتم مناجاته {صَدَقَةً} على مستحقيها. {ذَلِكَ} التقديمُ {خَيْرٌ لَكُمْ} لطاعتكم {وَأَطْهَرُ} لذنوبكم فلما نزلت هذه الآية، ارتدع الأغنياء عن السؤال شُحًّا، والفقراء عدمًا، فنزل رخصة: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} ما تتصدقون به {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمناجاتكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا صدقة {رَحِيمٌ} حيث أباح لكم السؤال، وكان ذلك المنع عشرَ ليال. ... {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}. [13] {أَأَشْفَقْتُمْ} أَخفتم الفاقةَ {أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} واختلاف القراء في الهمزتين من (أَأَشْفَقْتُمْ) كاختلافهم فيهما من {ءَأَنتَ ¬

_ (¬1) "والعمل" زيادة من "ت".

[14]

فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} في سورة الأنبياء [الآية: 62]. {فَإِذْ لَمْ} أي: فإن لم {تَفْعَلُوا} ما أُمرتم به. {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} تجاوز عنكم، ولم يعاقبكم بترك الصدقة، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنبٌ تجاوزَ الله عنه. {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الواجبةَ. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} المفروضةَ، ولا تفرطوا فيهما {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في جميع الحالات، فهو كفارة ذلك {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ظاهرًا وباطنًا. ... {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}. [14] ونزل في قوم من المنافقين تولَّوا قومًا من اليهود، وهم المغضوب عليهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ} (¬1) أي: المنافقون {مِنْكُمْ} أيها المسلمون. {وَلَا مِنْهُمْ} من اليهود، كما قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]. {وَيَحْلِفُونَ} أي: المنافقون {عَلَى الْكَذِبِ} وهو قولهم: والله إنا مسلمون. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 349 - 350)، و"تفسير القرطبي" (17/ 307).

[15]

{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون في حلفهم. ... {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)}. [15] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا} نوعًا من العذاب {شَدِيدًا} في غاية الشدة. {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من المعاصي. ... {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)}. [16] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} الكاذبةَ {جُنَّةً} ترسًا يقيهم السيف {فَصَدُّوا} المسلمين بحلفهم {عَنْ} قتلهم ونهبهم؛ فإنه جهاد في {سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم. ... {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)}. [17] {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} مقيمون؛ لأن الصحبة تدل على الملازمة. ... {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)}. [18] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} العامل فيه (أَصْحَابُ) {فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أي: لله تعالى ثَمَّ إنهم مسلمون.

[19]

{كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} هنا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} على فعل نافع من أيمانهم الكاذبة كما انتفعوا بها في الدنيا. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، وحمزة: (وَيَحْسَبُونَ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (¬1). {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} البالغون الغاية في الكذب؛ حيث يكذبون مع عالم الغيب والشهادة، ويحلفون عليه. ... {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}. [19] {اسْتَحْوَذَ} غلبَ واستولى {عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} بطاعتهم إياه. {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} معناه: تملَّكَهم من كل جهة، وغلب على نفوسهم، وهذا الفعل مما استُعمل على الأصل؛ فإن قياس التعليل يقتضي أن يقال: استحاذ، وحكي أن عمر -رضي الله عنه- قرأ: (اسْتَحَاذَ) (¬2). {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} جنودُه. {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لتفويتهم على نفسهم النعيمَ، وعرضها للعذاب. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 412)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 106). (¬2) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 238)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 106).

[20]

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)}. [20] {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} معناه: يكونون في حد غير الحد الذي شرع الله {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} المغلوبين. ... {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}. [21] {كَتَبَ اللَّهُ} أي: قضى {لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} بالحجة كُلَّ مَنْ حادَّ الله ورسوله. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (وَرُسُلِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} على نصر رسله {عَزِيزٌ} غالب في مراده. ... {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}. [22] ونزل في قتل أبي عبيدة بن الجراح أباه عبدَ الله بنَ الجراح يومَ أحد، وأبي بكر حيث أراد مبارزة ابنه يومَ بدر، ومصعبِ بنِ عمير وقتلِه ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 629)، و"التيسير" للداني (ص: 209)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 386)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 106).

أخاه عبيدَ بنَ عمير بأُحد، وعمرَ وقتلِه خالَه العاصَ بنَ هشام ببدر، وعلي وحمزة وقتلِهما الوليدَ بنَ عتبة وشيبةَ وعتبةَ ابني ربيعة ببدر: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬1) عاداهما وخالفهما. تلخيصه: من صح إيمانه، لم يواد المشركين، بل يقتلهم، ويقصدهم بالسوء {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} كأبي عبيدة بن الجراح {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} كأبي بكر {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} كمصعب بن عمير. {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} كعمر وعلي وحمزة. {أُولَئِكَ} المذكورون. {كَتَبَ} ثبَّتَ {فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ} قواهم. {بِرُوحٍ} أي: بنصر {مِنْهُ} هو جبريل عليه السلام. {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بطاعتهم. {وَرَضُوا عَنْهُ} بقضائه. {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} أنصارُ دينه، والحزب: الفريق الذي يجمعهم مذهب واحد. {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون ببغيتهم، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 312).

فَتْحُ الرَّحْمَن في تَفْسِيْرِ القُرآنِ تَأليف الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ المولود سنة (860 هـ) - والمتوفى سنة (927 هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى المُجَلَّد السابع اعتَنَى بِهِ تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا نُوْرُ الدِّيْن طَالب إصدَارات وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ دولة قطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فَتْحُ الرَّحَمْن

حُقُوق الطَّبع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطَبعَة الأولى، 1430 هـ - 2009 م قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 518/ 14 هَاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

سورة الحشر

سُورة الحشر مدنية باتفاق أهل العلم، وآيها: أربع وعشرون آية، وحروفها: ألف وتسع مئة وثلاثة عشر حرفًا، وكلمها: أربع مئة وخمس وأربعون كلمة، وهي سورة بني النضير، [وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عاهد بني النضير] (¬1) على سِلْم ألَّا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه، وهم يرون أنه لا ترد له راية، فلما جرت هزيمة أحد، ارتابوا ودخلوا قريشًا وغدروا، فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد، تبين له معتقد بني النضير وغدرهم بعهده، وموالاتهم للكفار، فخرج إليهم بالكتائب على حمار مخطوم بليف، وقال: "اخرجوا من المدينة"، فقالوا: الموتُ أقرب إلينا من ذلك، فدسَّ إليهم عبد الله بن أبي وأصحابُه ألا تخرجوا من حصنكم، وإن قتلتم فنحن معكم ننصركم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فدربوا الأزقة، وحصنوها، فحاصرهم - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرين ليلة، فرعبت قلوبهم، وطلبوا الصلح، فأبى عليهم - صلى الله عليه وسلم - إلا الجلاء، ويحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم، ولنبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي، فجلوا عن المدينة إلى أريحاء وأذرعات من أرض الشام، إلا أهل بيتين من ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[1]

آل أبي الحقيق وآل ابن أخطب لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فنزلت السورة (¬1). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}. [1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم تفسيره في أول سورة الحديد. ... {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2)}. [2] {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} هم بنو النضير، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل، موازنة في القدر والمنزلة لبني قريظة، وكان يقال للقبيلتين: الكاهنان؛ لأنهما من ولد الكاهن ابن هارون. {مِنْ دِيَارِهِمْ} وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة بقرية يقال لها: زهرة، ولهم نخل وأموال عظيمة. {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} أي: عند أول حشرهم إلى الشام، والحشر: الجمع ¬

_ (¬1) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (3/ 438): غريب، وهو في "تفسير الثعلبي" (9/ 267) هكذا من غير سند.

والتوجيه إلى ناحية ما، قال ابن عباس: من شكَّ أن المحشرَ بالشام، فليقرأ هذه الآية"، فكان أول حشر إلى الشام، قال النبي: - صلى الله عليه وسلم - "اخرجوا"، قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر، ثم تحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام (¬1) (¬2)، وقيل: معناه لأول الحشر؛ لأنهم كانوا أول من أُجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرَهم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، وسميت جزيرة، لأنه أحاط بها بحر الحبشة، وبحر فارس، ودجلة، والفرات. {مَا ظَنَنْتُمْ} أيها المؤمنون {أَنْ يَخْرُجُوا} من المدينة؛ لعزهم وقوتهم {وَظَنُّوا} أي: بنو النضير. {أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: من بأس الله؛ لوثوقهم بحصانتها. {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ} أي: أمرُه وعذابه {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي: يظنوا. {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} الخوفَ بقتل سيدهم كعبِ بن الأشرف غيلةً قبلَ ذلك، وتقدم ذكرُ قتله في سورة آل عمران. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، والكسائي، ويعقوب: (الرُّعُبَ) بضم العين، والباقون: بإسكانها (¬3). {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} يهدمونها. قرأ أبو عمرو: (يُخَرِّبُونَ) بفتح الخاء وتشديد الراء من خَرَّب، وقرأ الباقون: بإسكان الخاء مخففًا من أخرب، ¬

_ (¬1) "إلى الشام" زيادة من "ت". (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما نسبه السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 89)، والبزار في "مسنده" كما عزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 343)، ورواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 385). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 91)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و "معجم القراءات القرآنية" (7/ 111).

[3]

لغتان (¬1)، وقرأ ابن كثير، وقالون، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (بِيُوتَهُمْ) بكسر الباء، والباقون: بضمها، ومعناهما واحد (¬2). {بِأَيْدِيهِمْ} [كانوا يخربون بواطنها؛ لئلا يتحسروا على بقائها للمسلمين] (¬3). {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} كانوا يخربون باقيها. {فَاعْتَبِرُوا} فاتعِظوا (¬4) بمصابهم {يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} ذوي العقول والبصائر. ... {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)}. [3] {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} أي: حكمَ عليهم بخروجهم من أوطانهم {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} بالقتل والأسر؛ كقريظة. {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} إن نجوا هنا من القتل. {عَذَابُ النَّارِ} وكان إجلاء بني النضير مرجعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أُحد في سنة ثلاث من الهجرة، وفتحُ قريظة مرجعَه من الأحزاب في سنة خمس من الهجرة، وبينهما سنتان. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 632)، و"التيسير" للداني (ص: 209)، و"تفسير البغوي" (4/ 353)، و "معجم القراءات القرآنية" (7/ 111 - 112). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 413)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 112). (¬3) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬4) "فاتعظوا" زيادة من "ت".

[4]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}. [4] {ذَلِكَ} الذي نزل بهم {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} والمشاقة: كون الإنسان في شق، ومخالفُه في شق {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. ... {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}. [5] ولما حاصروا بني النضير، قطعوا بعض نخلهم؛ ليغيظوهم، فتحرَّج بعض المسلمين من ذلك، فنزل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} من نخلة {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} بمشيئته، فلا جناح عليكم. {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} اليهودَ، فيه دليل على جواز قطع شجر الكفار وحرقها وهدم بيوتهم إذا قوتلوا، والحكم كذلك بالاتفاق. ... {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}. [6] ولما ترك بنو النضير رباعهم وضياعهم، طلب المسلمون قسمتها كخيبر، فنزل: {وَمَا أَفَاءَ} ردَّ {اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} من أموال الكفار؛ أي: جعله فيئًا يختص به - صلى الله عليه وسلم -. {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} أي: سرتم بسرعة {عَلَيْهِ} على طلبه.

[7]

{مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} إبل خاصة، و (مِنْ) زائدة، المعنى: لم تقاسوا مشقة على أخذ أموال اليهود، فلذلك اختص به - صلى الله عليه وسلم -. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} إهلاكَه وأخذَ ماله. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يفعل ما يريد، فجعل أموال بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة سماكُ بنُ خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة (¬1). ... {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}. [7] ثم بين ما يصنع - صلى الله عليه وسلم - بالفيء، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ} أموال الكفار. {أَهْلِ الْقُرَى} وهي قريظةُ والنضير، وفدك، وخيبر، وقرى عرينة. {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (الْقُرَى) و (الْقُرْبَى) و (الْيَتَامَى) بالإمالة، وافقهم أبو عمرو في (الْقُرَى) و (الْقُرْبَى)، واختلف عن ورش، وقرأ الباقون: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (9/ 272)، و "تفسير البغوي" (4/ 316)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (8/ 209).

بالفتح (¬1)، وتقدم حكم الفيء والغنيمة واختلاف الأئمة فيهما مستوفىً في سورة الأنفال. {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} هو ما يُتداول. {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} المعنى: قسم تعالى هذه الأموال بين المذكورين؛ لئلا يختص بها الأغنياء، ويتداولوها بينهم. قرأ أبو جعفر: (تَكُونَ) بالتاء على التأنيث؛ لتأنيب لفظ (دُوَلةً)، [و (دولةٌ) بالرفع؛ أي: كي لا يقع دولة جاهلية، وافقه هشام على رفع دولة] (¬2)، واختلف عنه في تذكير (يَكُونَ) وتأنيثه، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير، لأن تأنيث (دُولَة) غير حقيقي، و (دُولَةً) بالنصب (¬3)؛ أي: لكيلا يكون الفيء دولة، والمخاطبة للأنصار؛ لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غنى. {وَمَا آتَاكُمُ} أعطاكم {الرَّسُولُ} أيها المؤمنون من الفيء وغيره. {فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} من الغلول وغيره. {فَانْتَهُوا} وهذا نازل في أمر الفيء، ثم اطَّرد بعدُ معنى الآية في جميع أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونواهيه، فما حكم به الشارع - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا، أو في عين، أو فعله، أو أقره، لا يعلل بعلة مختصة بذلك الوقت بحيث يزول الحكم مطلقًا عند الحنابلة والشافعية، وجوزه الحنفية والمالكية. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 366)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 114). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 209)، و"تفسير البغوي" (4/ 357)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 386)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 114).

[8]

{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن خالفه. ... {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}. [8] ثم بين مَنْ له الحقُّ في الفيء، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فإن كفار مكة أخرجوهم، وأخذوا أموالهم. {يَبْتَغُونَ فَضْلًا} رزقًا {مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي: أُخرجوا إلى دار الهجرة طلبًا لرضا الله عز وجل. قرأ أبو بكر عن عاصم: (وَرُضْوَانًا) بضم الراء، والباقون: بكسرها (¬1). {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بأنفسهم وأموالهم. {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إيمانهم. ... {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}. [9] {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا} استوطنوا {الدَّارَ} المدينةَ، وهم الأنصار {وَالْإِيمَانَ} أي: وأخلصوا الإيمان {مِنْ قَبْلِهِمْ} من قبل قدوم المهاجرين ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 413)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 115).

عليهم؛ فإنهم آمنوا، وبنوا المساجد قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين المدينة بسنتين. {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} من المؤمنين {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ} لقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أموالَ بني النضير للمهاجرين دون الأنصار {حَاجَةً} حزازة وحسدًا {مِمَّا أُوتُوا} أي: مما أُعطي المهاجرون دونَهم من الفيء. {وَيُؤْثِرُونَ} إخوانَهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم. {عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فقرٌ إلى ما يؤثرون به. {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} وشحُّ النفس: هو كثرة الطمع وضبطها على المال والرغبة فيه، وامتداد الأمل، وهو فقر لا يُذهبه غنى المال، بل يزيده، وهو داعية كل خلق سوء {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالثناء والثواب. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يجتمعُ غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنمَ في جوفِ عبدٍ أبدًا، ولا يجتمعُ الشحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبدًا" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أَدَّى الزكاةَ المفروضةَ، وقِرى الضيف، وأعطى في النائبة، فقد برئ من الشح" (¬2). والشح: هو أقبح البخل. ¬

_ (¬1) رواه النسائي (3110)، كتاب: الجهاد، باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدمه، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 256)، وابن حبان في "صحيحه" (3251)، والحاكم في "المستدرك" (2395). (¬2) رواه الخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (1/ 459)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

[10]

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}. [10] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، وإعراب (الَّذِينَ) رفع عطفًا على (هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، ثم وصف الله تعالى القولَ الذي ينبغي أن يلتزمه كلُّ من لم يكن من الصدر الأول، فقال: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} قوله: (يَقُولُونَ) حال فيها الفائدة، والمراد: والذين جاؤوا قائلين كذا. {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} غشًّا وحقدًا. {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فكل من كان قلبه غل على أحد من الصحابة، ولم يترحم على جميعهم، فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث خلال: المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصوفين بما ذكرهم، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة، كان خارجًا من أصناف (¬1) المؤمنين، ولهذه الآية قال مالك وغيره: إنه من كان له في الصحابة قول سوء أو بغض، فلا حظَّ له في الغنيمة؛ أدبًا له، وتقدم في سورة الحديد [الآية: 9] اختلاف القراء في (رَؤوف). ... ¬

_ (¬1) في "ت": "أقسام".

[11]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)}. [11] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} أي: أظهروا خلاف ما أضمروا؛ يعني: عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم اليهود من بني قريظة والنضير: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} من المدينة {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا} سألنا خِذْلانكم {أَبَدًا} أي: من رسول الله والمسلمين. {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} لنعاوننَّكُمْ. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} لعلمِه بعدم فعلهم ذلك. ... {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)}. [12] كما قال: {لَئِنْ أُخْرِجُوا} من ديارهم {لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} وكان الأمر كذلك؛ فإنهم أخلفوهم الوعد. {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ} أي: جاؤوا لنصره. {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} منهزمين {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} اليهود؛ لانهزام ناصرهم. ***

[13]

{لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)}. [13] {لأَنْتُمْ} يا معشرَ المسلمين {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} المعنى: خوفُ المنافقين منكم أيها المؤمنون سرًّا أشدُّ من خوفهم من الله تعالى جهرًا، فإن استبطان رهبتكم سببٌ لإظهار رهبة الله تعالى. {ذَلِكَ} الخوفُ منكم {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} عظمةَ الله. ... {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)}. [14] {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ} اليهودُ والمنافقون {جَمِيعًا} أي: مجتمعين. {إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} بالخنادق، والدروب، فلا يبرزون لقتالكم. {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (جِدَارٍ) بكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها على التوحيد، وأبو عمرو: على أصله في الإمالة، وقرأ الباقون: بضم الجيم والدال من غير ألف على الجمع (¬1)، وهما بمعنى الحائط {بَأْسُهُمْ} حربهم {بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} قتالهم لكم من وراء السور شديد، ولكن لا يطيقون مبارزتكم. {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} متفقين. وتقدم اختلاف القراء في (تَحْسَبُهُمْ) في ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 632)، و "التيسير" للداني (ص: 209)، و"تفسير البغوي" (4/ 364)، و "معجم القراءات القرآنية" (7/ 116 - 117).

[15]

سورة الحديد {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} ما فيه صلاحُهم. {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)}. [15] فمثلُ بني النضير {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} يعني: مشركي مكة. {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} سوءَ عاقبة كفرهم، وهو القتل ببدر، وكانت غزوة بدر [في رمضان من السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة] (¬1) بني النضير، والتقدير: ذاقوا وبال أمرهم قريبًا من عصيانهم، و (قَرِيبًا) ظرف، أو نعت لظرف {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)}. [16] ومثل المنافقين وإغوائهم اليهود بقولهم: {إِنّا مَعَكم} {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} إبليس {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} فكفر. {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} تبرأ منه (¬2) مخافةَ أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك. وحكي أن هذا في شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص اسمه ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) في "ت": "عنه".

[17]

برصيصا، استودع امرأة سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون، فسول له الشيطان الوقوع عليها، فحملت، فخشي الفضيحة، فسول له قتلها ودفنها، ثم شهره، فلما استخرجت المرأة، وحُمل العابدُ شرَّ حمل، وهو قد قال: إنها قد ماتت، فقصتُ عليها فدفنتها فلما وُجدت مقتولة، علموا كذبه، فتعرض له الشيطان، فقال له: اكفر واسجد لي وأنا أنجيك، ففعل، فتركه عند ذلك، وقال: إني بريء منك، قال ابن عطية (¬1): وهذا كله ضعيف، والتأويل الأول هو وجه الكلام (¬2). وقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} رياء من قوله، وليست على ذلك عقيدته. قرأ أبو جعفر بخلاف عنه: (بَرِيٌّ) بتشديد الياء بغير همز، والباقون: بالمد والهمز (¬3)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬4). {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}. [17] {فكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} آخرَ أمر الغاوي والمغوى. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 364)، و"تفسير الثعلبي" (4/ 287). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 290). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 405)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 118). (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 632)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 386)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 118).

[18]

{أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن (الشيطانَ) و (الإنسانَ) في هذه الآية اسما جنس؛ لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس، كما يغوي الشيطان الإنسان، ثم يفر عنه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير، وحرضوهم على الثبوت، ووعدوهم النصر، فلما نشب بني النضير، وكشفوا عن وجوههم، تركهم المنافقون في أسوأ حال. {نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}. [18] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ} من العمل. {لِغَدٍ} ليوم القيامة، وسماه به؛ لدنوه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تكرير للتأكيد. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وهو كالوعيد على المعاصي. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)}. [19] {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} أي: نسوا حقه، وغفلوا عنه. {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أي: حقَّ أنفسهم بالخذلان حتى لم يقدموا لها خيرًا. {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الكاملون في الفسق، ويعطي لفظ هذه

[20]

الآية أن من عرف نفسه ولم ينسها، عرف ربه تعالى، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اعرف نفسك تعرف ربك (¬1). {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}. [20] {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} فيه دليل على أن المسلم لا يُقتل بالكافر، وتقدم الحكم في ذلك، واختلاف الأئمة فيه في سورة البقرة. {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} بالنعيم المقيم. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}. [21] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا} متشققًا. {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قرأ ابن كثير: (القُرَانَ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬2)، وهذا تمثيل توبيخًا للإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن. {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} المذكورات هنا وجميع القرآن. {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيؤمنون. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 291)، و"تفسير الثعالبي" (4/ 287). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 414)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 120).

[22]

{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)}. [22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لما قال تعالى: {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} تعالى جاء بالأوصاف التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية. {عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن المخلوقين، ولم يعاينوه. {وَالشَّهَادَةِ} ما شاهدوه وعلموه {هُوَ الرَّحْمَنُ} ذو الرحمة، ولا يوصف به إلا هو سبحانه {الرَّحِيمُ} عظيم الرحمة. {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)}. [23] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} البليغٌ في النزاهة، وهو فُعُّول من تقدَّس: إذا تطهَّر، وحظيرة القدس: الجنة؛ لأنها طاهرة، ومنها روح القدس، والأرض المقدسة: بيت المقدس، سمي به؛ لأنه يُتطهر فيه من الذنوب. {السَّلَام} الذي سلم من النقائص {الْمُؤْمِنُ} واهب الأمن {الْمُهَيْمِنُ} الرقيب على كل شيء {الْعَزِيزُ} الذي لا يوجد له نظير {الْجَبَّارُ} العظيم الذي جبر خلقَه على ما أراد {الْمُتَكَبِّرُ} المتعالي عن صفات المحدثات وعن كل سوء. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.

[24]

{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}. [24] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} المقدِّرُ لما يوجد {الْبَارِئُ} المنشئ من العدم. قرأ الدوري عن الكسائي: (الْبَارِئُ) بالإمالة (¬1) {الْمُصَوِّرُ} الممثِّل لصورة خلقه بالشكل واللون. {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي: ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته سبحانه، وهذه الأسماء التي حصرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مئةً إلا واحدًا، من أحصاها، دخلَ الجنةَ" (¬2)، وتقدم ذكرها والكلام عليها في سورة الأعراف عند تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الآية: 180]. {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ينزهه عن النقائص. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قدم تفسيره في أول سورة الحديد. روي أن اسم الله الأعظم في هذه الآيات من {هُوَ اللَّهُ} إلى آخرها (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الكشف" لمكي (1/ 171)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 414)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 121). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "تفسير الطبري" (28/ 56).

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة مدنية، وآيها: ثلاث عشرة آية، وحروفها: ألف وخمس مئة وعشرة أحرف، وكلمها: ثلاث مئة وثمان وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)}. [1] لما أراد رسول الله الخروج إلى مكة عام الحديبية، فورَّى عن ذلك بخيبر، فشاع في الناس أنهم خارجون إلى خيبر، وأخبر هو جماعة من كبار الصحابة بقصده إلى مكة، منهم حاطبُ بن أبي بلتعة، فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله، وحذَّرهم، وأرسل مع سارة مولاة بني المطلب، فجاء جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بذلك، فبعث عليًّا والزبير وعمارًا وطلحة والمقداد وأبا مرثد، وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضةَ خاخ؛ فإنَّ بها ظَعينةً معها كتابُ حاطبٍ إلى أهلِ مكة، فخُذوا منها، وخَلُّوها، فإن أبت، فاضربوا عنقَها"، فأدركوها ثَمَّ، فجحدت، ففتشوا

جميع رحلها فما وجدوا شيئًا، فقال بعضهم: ما معها كتاب، فقال علي: ما كذب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، واللهِ لتخرجِنَّ الكتاب، وإلا لأجردَنَّك ولأضربَنَّ عنقَك، فأخرجته من ذؤابتها، قد خبأته في شعرها، فخلوها، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستحضر حاطبًا، وقال: "ما حَمَلَكَ عليه؟ فقالَ: ما كفرتُ منذ أسلمتُ، ولا غششتك منذ نصحتُك، ولكني كنتُ امرأً ملصَقًا في قريش، وليس فيهم من يحمي أهلي، فأردت أن آخذ عندهم يدًا يرعوني بها في قرابتي، وقد علمت أن كتابي لا يغني عنهم شيئًا، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: دعني يا رسول الله أضربْ عنقَ هذا المنافق، فقال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - صدقَ حاطبٌ إنه من أهل بدر، وما يدريك يا عمرُ لعلَّ الله قد اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم، لا تقولوا لحاطب إلا خيرًا" (¬1). وروي أن حاطبًا كتب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوكم مثل (¬2) الليل والسيل، وأقسم بالله، لو غزاكم هو وحده، لنصر عليكم، فكيف وهو في جمع كثير؟! فنزل في شأن حاطب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا} (¬3) مفعولُه الأول {عَدُوِّي} ويعطف عليه {وَعَدُوَّكُمْ} والثاني {أَوْلِيَاءَ} والعدو: اسم يقع للجمع والمفرد، والمراد هنا: كفار قريش. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4608)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، ومسلم (2494)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل أهل بَدر رضي الله عنهم من حديث عليٍّ -رضي الله عنه-. (¬2) في "ت": "في حكم". (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 293)، و" "تفسير الثعالبي" (4/ 290).

[2]

{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ} صفة لـ (أَوْلِياءَ) والباء زائدة في {بِالْمَوَدَّةِ} أي: لا تظهروا مودتكم لهم {وَقَدْ} الواو للحال؛ أي: وحالهم أنهم. {كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} وهو القرآن. {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} من مكة {أَنْ تُؤْمِنُوا} تعليل؛ أي: لإيمانكم {بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} شرطٌ جوابه متقدم في معنى ما قبله، تقديره: إن كنتم خرجتم {جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، و (جِهَادًا) و (ابْتِغَاءَ) مفعولان له، والمرضاة مصدر كالرضا. قرأ الكسائي: (مَرْضَاتِي) بالإمالة، والباقون: بالفتح (¬1). {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} بالنصيحة فعل ابتدأ به القول؛ أي: تفعلون ذلك {وَأَنَا أَعْلَمُ} قرأ نافع، وأبو جعفر: (وَأَنَا أَعْلَمُ) بالمد (¬2). {مَا أَخْفَيْتُمْ} من المودة للكفار {وَمَا أَعْلَنْتُمْ} أظهرتم. {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} أي: الإسرارَ. {فَقَدْ ضَلَّ} أخطأ {سَوَاءَ السَّبِيلِ} طريق الهدى. {إنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2}. [2] {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} يظفروا بكم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} ولا تنفعكم مودتهم. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 367)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 125). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 230 - 231)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 125).

[3]

{وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالضرب والقتل {وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} بالشتم. {وَوَدُّوا} كفار مكة {لَوْ تَكْفُرُونَ} فتكونون مثلَهم. {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}. [3] {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} قراباتُكم. {وَلَا أَوْلَادُكُمْ} بمكة الذين بسببهم كتب الكتاب خوفًا عليهم إلى مكة. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار. قرأ عاصم، ويعقوب: (يَفْصِلُ) بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة، وقرأ ابن عامر بخلاف عن راويه هشام: بضم الياء وفتح الفاء والصاد مشددة، وقرأ الباقون: بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخففة (¬1)، المعنى: يفرق تعالى بينكم وبين أقاربكم، فيدخل المؤمنَ الجنة، والكافرَ النار. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 210)، و"تفسير البغوي" (4/ 373)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 387)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 125 - 126).

[4]

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)}. [4] {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ} أيها المؤمنون {أُسْوَةٌ} قدوة {حَسَنَةٌ} قرأ عاصم: (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة، والباقون: بكسرها (¬1). {فِي إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشام؛ (أَبْرَاهَامَ) بالألف، والباقون: بالياء (¬2). [{وَالَّذِينَ مَعَهُ} من المؤمنين، وقيل: الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبًا منه، قال ابن عطية (¬3): وهذا القول أرجح؛ لأنه لم يرد (¬4) أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحة نمرود، وفي "البخاري" (¬5)؛ أنه قال لسارة حين دخل بها إلى الشام مهاجرًا من بلاد نمرود: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك] (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 633)، و"التيسير" للداني (ص: 178)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 127). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415)، و "معجم القراءات القرآنية" (7/ 127). (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 295). (¬4) في "المحرر الوجيز": "لم يروَ". (¬5) رواه البخاري (3179)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ومسلم (2371)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) ما بين معكوفتين سقط من "ت".

[5]

{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} المشركين {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} جمع بريء. {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} جحدنا دينكم. {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} فتنقلب العداوة محبة، وهذا أمر لحاطب والمؤمنين بالاقتداء بإبراهيم ومن معه من المؤمنين في التبرؤ من المشركين. واختلاف القراء في الهمزتين من (الْبَغْضَاءُ أَبَدًا) كاختلافهم فيهما من (الْمَلأُ أَفْتوني) في سورة النمل [الآية: 32]. {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} مستثنى من (أُسْوَة) يعني: لكم أسوة في إبراهيم، إلا في استغفاره لأبيه المشرك؛ فإن إبراهيم عليه السلام كان قد قال لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} ثم تبرأ منه كما تقدم في سورة التوبة؛ لأن استغفار المؤمن للكافر لا يجوز، قال إبراهيم لأبيه: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ} ما أدفعُ عنك من عذابه {مِنْ شَيْءٍ} إن عصيتُه وأشركتُ. {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} حكاية عن قول إبراهيم والذين معه: أنه هكذا كان، وقيل: هو أمر للمؤمنين؛ أي: قولوا ذلك. {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}. [5] {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: لا تُظفرهم بنا، فيفتنونا عن ديننا.

[6]

{وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا} ما فرطَ {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}. [6] ثم خاطب الله أمة (¬1) محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} في إبراهيم ومؤمنيه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} تقدم مذهب عاصم في (أُسْوَة)، فإن قيل: لم كرر الله الأسوة مرتين؟ فالجواب أن الأسوة الأولى غير الثانية، فالأولى أسوة في العداوة، والثانية في الخوف والخشية، فلا تكرار، وتبدل من {لَكمْ} بدل اشتمال. {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أي: يخاف الله، ويخاف عذاب الآخرة. {وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن الإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن خلقه. {الْحَمِيدُ} في ذاته وأفعاله، لا ينقص ذلك كفرُ كافر، ولا نفاقُ منافق. {عسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)}. [7] {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ} أي: من كفار مكة. {مَوَدَّةً} محبة، ففعل الله ذلك؛ بأن أسلم كثير منهم يوم فتح مكة، وتحابوا. ¬

_ (¬1) "أمة" زيادة من "ت".

[8]

روي أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وذلك أن أم حبيبة بنت أبي سفيان وزوجها عبيد الله بن جحش أسلما وهاجرا إلى الحبشة، فقُبض زوجها، فأُخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب كتابًا إلى النجاشي، وخطب أم حبيبة وتزوجها، وأحبَّ أن يكون صهرُه مسلمًا، فأنزل الله الآية، وأسلم هؤلاء (¬1) الأربعة لمحبته (¬2). {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على ذلك {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} لما فرط منكم في موالاتهم من قبل. {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}. [8] ونزل رخصة في بِرِّ من لم يعاد المسلمين، ولم يقاتلهم من الكفار {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} وتبدل من {الَّذِينَ}. {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تعدلوا فيهم بالإحسان. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} العادلين، ونسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. ¬

_ (¬1) في "ت": "هذه". (¬2) انظر: "تفسير الثعالبي" (9/ 294)، و"تفسير القرطبي" (18/ 58).

[9]

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}. [9] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا} أعانوا {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} فإن بعضهم سعى في إخراج المؤمنين، وبعضٌ أعان عليه، وتبدل من {الَّذِين}. {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} تلخيصه: لم ينهكم عن بر هؤلاء، إنما ينهاكم عن تولِّي هؤلاء. قرأ البزي: (أَن تَّوَلَّوْهُمْ) بتشديد التاء، والباقون: بتخفيفها (¬1). {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لوضعهم الولاية في غير موضعها. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)}. [10] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} من دار الكفر إلى دار الإسلام. {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فاختبروهن بالحلف إنهن ما خرجن إلا حبًّا لله ورسوله، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحلِّف المهاجرة بالله إنها ما خرجت بغضًا لزوج، ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 129).

ولا عشقًا لرجل، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا لحدث أحدثته، ولا لالتماس الدنيا، ولا خرجت إلا رغبة في الإسلام، وحبًّا لله ورسوله، فإذا حلفت، لم يردَّها، وأعطى زوجَها مهرَها وما أنفقَ عليها، وحكم بإيمانها. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} فإنَّه المطَّلع على ما في قلوبهن. {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أي: غلب على ظنكم إيمانُهنَّ بالحلف؛ لأن غلبة الظن تسمى: علمًا {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ} تردُّوهن {إِلَى الْكُفَّارِ} بعدَما أسلمن، وإن كانوا أزواجهن. {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي: لا يحل أحدهما لصاحبه. {وَءَاتُوهُم} يعني: أزواجَهن {مَا أَنْفَقُوا} من المهر. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} وإن كان لهن أزواج كفار؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار. {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن. {وَلَا تُمْسِكُوا} قرأ أبو عمرو، ويعقوب: بفتح الميم وتشديد السين، وقرأ الباقون: بإسكان الميم وتخفيف السين (¬1)، ومعناهما الإمساك. {بِعِصَمِ} جمع عصمة، وهو ما يعتمد عليه. {الْكَوَافِرِ} جمع كافرة، المعنى: من كانت له زوجة كافرة، فلا يعتدَّنَّ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 634)، و "التيسير" للداني (ص: 210)، و"تفسير البغوي" (4/ 377)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 387)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 130).

بها؛ لانقطاع الزوجية بينهما، فلما نزلت هذه الآية، طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له بمكة مشركتين: قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على الشرك في مكة، والأخرى: أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن عاصم، وهما على الشرك، وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله، فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها، ففرق الإسلام بينهما، فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وكانت زينبُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةَ أبي العاص بن الربيع، ولحقت بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام أبو العاص بمكة مشركًا، ثم أتى المدينةَ، فأسلم، فردها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأما حكم الشرع إذا أسلم الزوجان معًا، أو أسلم زوج الكتابية، فهما على نكاحهما بالاتفاق، وإذا أسلمت المرأة، فإن كانت مدخولًا بها، فأسلم في عدتها، فهي امرأته بالاتفاق، وإن كانت غير مدخول بها، وقعت الفرقة بينهما، وكانت فسخًا عند الثلاثة، وقال أبو حنيفة: يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم، فهي امرأته، وإلا فرق القاضي بينهما بإبائه عن الإسلام، وتكون هذه الفرقة طلاقًا عند أبي حنيفة ومحمد، وفسخًا عند أبي يوسف، ولها المهر إن كانت مدخولًا بها، وإلا فلا، بالاتفاق. وأما إذا ارتد أحد الزوجين المسلمَين، فقال أبو حنيفة ومالك: تقع الفرقة حال الردة بلا تأخير، قبل الدخول وبعده، وقال الشافعي وأحمد: إن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 378)، و"تفسير القرطبي" (18/ 66).

[11]

كانت الردة من أحدهما قبل الدخول، انفسخ النكاح، وإن كانت بعدها، وقعت الفرقة على انقضاء العدة، فإن أسلم المرتد منهما في العدة، ثبت النكاح، وإلا انفسخ بانقضائها، ثم إن كان المرتد الزوجة بعد الدخول، فلها المهر، وقبله لا شيء لها، وإن كان الزوج، فلها الكل بعده، والنصف قبله بالاتفاق. {وَاسْأَلُوا} أيها المؤمنون {مَا أَنْفَقْتُمْ} أي: واسألوا أهل مكة أن يردوا عليكم مهورَ النساء اللواتي يخرجن إليهن مرتدات ممن يتزوجهن. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (سَلُوا) بنقل حركة الهمز إلى ساكن قبله وهو السين، وقرأ الباقون: بإسكان السين والهمز (¬1). {وَلْيَسْأَلُوا} أي: المشركون {مَا أَنْفَقُوا} من المهر على زوجاتهم المهاجرات ممن تزوجوهن. {ذَلِكُمْ} الحكم المذكور. {حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يحكم (¬2) ما تقتضيه حكمته، ثم نسخ هذا الحكم بعد ذلك. {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}. [11] فلما نزلت هذه الآية، أقر المؤمنون بحكم الله -عز وجل-، وأدَّوا ما أُمروا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 131). (¬2) في "ت": "يشرع".

[12]

بحكم الله فيما أمر به من أداء نفقات المسلمين، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ} (¬1) أي: أحد {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} أي: سبقكم، وانقلب منكم {إِلَى الْكُفَّارِ}، فلحق بهم مرتدات. {فَعَاقَبْتُمْ} فغنمتم من الكفار. {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} منكم إلى الكفار مرتدات. {مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم. قال ابن عباس: "لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ستُّ نسوة رجعنَ عن الإسلام، فأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزواجهنَّ مهورهن من الغنيمة" (¬2)، وهذا كله منسوخ حكمه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمان به يقتضي التقوى منه. {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}. [12] ونزل يوم فتح مكة لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيعة الرجال وهو على الصفا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} قرأ نافع: (النَّبِيءُ إِذَا) ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 378). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 379).

بالهمز والمد وتسهيل الهمزة الثانية، والباقون: بتشديد الياء بغير مد ولا همز، وتحقيق الهمزة الثانية. {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} والمراد: وأد البنات الذي كانوا يفعلونه، وهو دفنهن في حياتهن. {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} أي: تلتقط مولودًا وتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فهو البهتان المفترى؛ لأن الولد إذا وضعته الأم، سقط بين يديها ورجليها. قرأ يعقوب: (أَيْدِيهُنَّ) بضم الهاء، والباقون: بكسرها (¬1). {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} هو ما وافق طاعة الله ورسوله. {فَبَايِعْهُنَّ} إذا بايعنك. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أسفل منه، وهو يبايع النساء بأمره، ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء؛ خوفًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرفها، ثم عرفها، وعفا عنها، وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصافح امرأة في البيعة، وإنما بايعهن بالكلام، وقال: "إني لا أصافحُ النساءَ، وإنما قولي لامرأةٍ كقولي لمئةِ امرأة" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415)، و "معجم القراءات القرآنية، (7/ 132 - 133). (¬2) رواه النسائي (4181)، كتاب: البيعة، باب: بيعة النساء، والترمذي (1597)، كتاب: السير، باب: ما جاء في بيعة النساء، وقال: حسن صحيح، من حديث أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها.

[13]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}. [13] وكان بعض فقراء المسلمين يواصلون اليهود لينالوا شيئًا من ثمارهم، فنزل: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (¬1) وهم اليهود. {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} أي: من أن يكون لهم حظ فيها. {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أي: من رجوع موتاهم؛ لأنهم لا يوقنون بالبعث، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 520)، و"تفسير البيضاوي" (5/ 331).

سورة الصف

سورة الصف مدنية في قول الجمهور، وقيل: مكية، والأول أصح؛ لأن معانيها تعضده، ويشبه أن يكون فيها المكي والمدني، وآيها: أربع عشرة آية، وحروفها: تسع مئة وستة وعشرون حرفًا، وكلمها: مئتان وإحدى وعشرون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} [1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم تفسيره في أول سورة الحديد. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}. [2] روي أن جماعة من المؤمنين قالوا: لو أردنا (¬1) أن نعرف أحبَّ الأعمال إلى ربنا حتى نفنى فيه، ففرض الله الجهاد، وأعلمهم بفضله لديه، وأنه يحب المقاتلين في سبيله كالبنيان المرصوص، وكان إذ فرض تكرَّهَهُ قوم منهم، وفرَّ من فر يوم أُحد، فعاتبهم الله تعالى بقوله: ¬

_ (¬1) في "ت": "لوددنا".

[3]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1) وقف البزي ويعقوب: (لِمَهْ) بهاء بعد الميم (¬2). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. [3] {كَبُرَ مَقْتًا} عظم بغضًا {عِندَ اَللَّهِ} و (مَقْتًا) نصب على التمييز، وفاعل (كَبُرَ) {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وهذا مبالغة في المنع عنه. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}. [4] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي: مصفوفين. {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} لاصقٌ بعضُه ببعض، قد أُحكم، فليس فيه فرجة ولا خلل. وأما حكم الجهاد، فهو فرض كفاية على المستطيع بالاتفاق، إذا فعله البعض، سقط عن الباقين، وعند النفير العام وهو هجوم العدو يصير فرض عين بغير خلف. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 301). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 137).

[5]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)}. [5] ثم ذكر قصة موسى؛ لأن قومه آذوه في الجهاد، وامتنعوا منه؛ كما أن المنافقين آذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: {وإِذْ} أي: واذكر إذ. {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} من بني إسرائيل. {يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} بالتكذيب والقذف بما ليس فيَّ. اتفق القراء على إثبات الياء في الحالين في (تُؤْذُوننَي) و (بِرَسُولٍ يَأْتِي). {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} والرسول يجب احترامه، و (قَدْ) لتحقيق العلم. {فَلَمَّا زَاغُوا} مالوا عن الحق. قرأ حمزة: (زَاغُوا) بالإمالة (¬1). {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أمالها عن الإيمان والخير. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} الذين سبق في علمه فسقُهم. {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}. [6] {وَإِذْ} أي: واذكر إذ {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} ولم يقل: ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 137).

يا قوم؛ لأنه لم يكن له في بني إسرائيل قرابة. {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا} أي: في حال تصديقي. {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، و (أَحْمَدُ) هو الذي حمدُه لربه أفضلُ من حمد الحامدين غيره، وهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، وأهل السماء والأرض، فلكثرة خصائله المحمودة التي تفوق عددَ العادِّين سمي باسمين من أسماء الحمد، يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة، فدل أحد الاسمين وهو محمد على كونه محمودًا، ودل الاسم الثاني وهو أحمد على كونه أحمد الحامدين لربه، وأن الحمد الذي يستحقه أفضلُ مما يستحقه غيره، وقد أكرمه الله سبحانه بهذين الاسمين المشتقين من اسمه جل وعلا، وتقدم تفسير محمد في سورة (آل عمران)، وفي (الأحزاب)، ولم يُسم بأحمد أحدٌ غيره، ولا دُعي به مدعو قبله، وكذلك محمد أيضًا لم يُسم به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قُبيل وجوده -عليه ابسلام- وميلاده: أن نبيًّا يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناهم بذلك؛ رجاء أن يكون أحدهم هو، وهم: محمد بن أُحيحة بن الجلاج الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمدان الجعفي، ومحمد بن خزاعي السلمي، لا سابع لهم (¬1)، ثم حمى الله كلَّ من تسمى به أن يدَّعي النبوة أو يدَّعيها أحدٌ له، أو يظهر ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعالبي" (4/ 297)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 556).

[7]

له (¬1)، أو يظهر عليه سبب تشكك أحدًا في أمره حتى تحققت السمتان له - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينازع فيهما. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مِن بَعْدِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬2)، وكان بين رفع المسيح ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة وخمس وأربعون سنة تقريبًا، وعاش المسيح إلى أن رُفع ثلاثًا وثلاثين سنة، وبين رفعه والهجرة الشريفة خمس مئة وثمان وتسعون سنة، ونزل عليه جبريل -عليه السلام- عشر مرات، وأُمَّتُه النصارى على اختلافهم. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (سَاحِرٌ) بألف بعد السين وكسر الحاء، إشارة إلى عيسى عليه السلام، وقرأ الباقون: بكسر السين وإسكان الحاء من غير ألف، إشارة إلى ما جاء به (¬3). {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)}. [7] {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي: لا أحدَ أظلمُ. {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة الشريك والولد إليه تعالى. ¬

_ (¬1) "أو يظهر له" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 635)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 138). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 101)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 138).

[8]

{وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} على لسان رسله. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى ما فيه فلاحهم. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}. [8] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} هو توحيده وإظهار شرعه، وزيدت اللام في (لِيُطْفِئُوا) تأكيدًا للإضافة. قرأ أبو جعفر: (لِيُطْفُوا) بضم الفاء وإسكان الواو بغير همز، وقرأ الباقون: بكسر الفاء والهمز (¬1). {بِأَفْوَاهِهِمْ} بكذبهم بنسبة الولد والشريك إليه. {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} بنشره وإعلانه. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مُتِمُّ) بغير تنوين (نُورِهِ) بالخفض إضافة، وقرأ الباقون: بالتنوين، ونصب (نُورَهُ) على الأصل (¬2). {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} إرغامًا لهم. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}. [9] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 139). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 635)، و"التيسير" للداني (ص: 210)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 139).

[10]

{بِالْهُدَى} بالقرآن {وَدِينِ الْحَقِّ} وهو الإسلام. {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على سائر الأديان. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} لما فيه من التوحيد وإبطال الشرك. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)}. [10] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)} قرأ ابن عامر: (تُنَجِّيكُم) بفتح النون وتشديد الجيم؛ من (نَجَّى)، والباقون: بإسكان النون وتخفيف الجيم؛ من أنجى (¬1). {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}. [11] ثم بين تلك التجارة فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وهو خبر بمعنى الأمر. {ذَلِكُمْ} المذكور من الإيمان والجهاد. {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن كنتم من أهل العلم. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 210)، و"تفسير البغوي" (4/ 385)، و "معجم القراءات القرآنية" (6/ 139 - 140).

[12]

{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}. [12] {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} قرأ أبو عمرو: (يَغفِر لَكُمْ) بإدغام الراء في اللام (¬1) وجزمه جواب شرط محذوف تقديره: إن تؤمنوا، يغفر لكم، وتعطف على (يَغْفِرْ). {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} وطيبتُها بسعتِها ودوامِ أمرها. {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِك} المذكور من المغفرة وإدخال الجنة. {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}. [13] {وَأُخْرَى} أَي: ولكم في الجهاد خصلة أخرى {تُحِبُّونَهَا} وتلك الخصلة. {نَصْرٌ مِنَ اللَّه} على قريش {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} هو فتح مكة. {وَبَشِّرِ} يا محمد {الْمُؤْمِنِينَ} بالنصر والجنة. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 368)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 140).

[14]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}. [14] ثم حضهم على نصرة الدين وجهاد المخالفين فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (أَنْصَارًا لِلِه) بالتنوين ولام الجر، وإذا وقفوا، أبدلوا من التنوين ألفًا؛ لأن المعنى المذكور كونوا بعضَ أنصار الله، وقرأ الباقون: (أَنْصَارَ) بغير تنوين (اللهِ) بغير لام الجر على إضافة (أَنْصَارَ) إلى (اللهِ) (¬1)؛ أي: أنصارَ دينه؛ لقوله: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ)، وإذا وقفوا، أسكنوا الراء لا غير، وإذا ابتدؤوا، أتوا بهمزة الوصل. {كَمَا} أي: أقول لكم كما {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر: (لِلْحَوَارِيِّينَ) بالإمالة بخلاف عنه، والباقون: بالفتح، وقرأ نافع، وأبو جعفر: (أَنْصَارِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها، وأمال فتحة الصاد: الدوري عن الكسائي (¬2)، المعنى: مَنِ المختص بي، فيساعدني في نصر دين الله؟. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 210)، و"تفسير البغوي" (4/ 385)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 287)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 140 - 141). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 635)، والإمالة في "الكشف" لمكي (1/ 171)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 287)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 141).

{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} الذين ينصرونه، وتقدم ذكر أسماء الحواريين وتفسير معناهم في سورة (آل عمران). {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل} بعيسى؛ لأنهم قالوا: عبد الله، فرفع إلى السماء. {وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} لقولهم: هو ابنه وشريكه، فاقتتلت الطائفتان، فظهرت الكافرة على المؤمنة. {فَأَيَّدْنَا} قوينا ونصرنا {الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} ببعث محمد - صلى الله عليه وسلم -. {فَأَصْبَحُوا} يعني: المؤمنين {ظَاهِرِينَ} غالبين أعداءهم بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - أن عيسى كلمة الله وروحه، والله أعلم.

سورة الجمعة

سورة الجمعة مدنية، وآيها: إحدى عشرة آية، وحروفها: سبع مئة وثمانية وأربعون حرفًا، وكلمها: مئة وثمانون كلمة، وقيل: إنها مكية، وهو خطأ من قائله؛ لأن أمر اليهود لم يكن إلا بالمدينة، وكذلك إقامة الجمعة وصلاتها والانفضاض بغير خلاف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}. [1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ} تقدم تفسيره، ومعنى (سبح) بلفظ الماضي، و (يسبح) بلفظ المضارع أول سورة الحديد. {القُدُّوس} تقدم تفسيره في سورة الحشر {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} تقدم تفسيره في سورة الحديد، وجرُّ الأسماء الأربعة صفة (لله). {هوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}. [2] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} يعني: العرب كانت أمة أمية، لا تكتب

[3]

ولا تقرأ {رَسُولًا مِنْهُم} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، المعنى: بعث رجلًا أميًّا في أمة أمية نسبهُ نسبُهم. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} مع كونه أميًّا {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} الشريعة. {وَإِنْ كَانُوا} أي: وما كانوا {مِنْ قَبْلُ} أى: من قبل مجيئه. {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} إلا في ضلال بين (¬1) يعبدون الأوثان. {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}. [3] {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} عطف على (الأُميين)؛ أي: بعث في الأميين وفي آخرين منهم؛ أي: من بعدهم. {لَمَّا} أي: لم {يَلْحَقُوا بِهِمْ} بالأولين في فضل السابقة، وهم التابعون، أو العجم، وجميع طوائف الناس، لأن التابعين لا يدركون شأن الصحابة، و (ما) زيدت في (لم) تأكيدًا. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في اختياره. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}. [4] {ذَلِكَ} الفضلُ الذي أُعطيَه محمد - صلى الله عليه وسلم -. {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تبيين لموقع النعمة وتخصيصه بها من شاء. ¬

_ (¬1) "إلا في ضلال بين" زيادة من "ت".

[5]

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}. [5] {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} أي: قرؤوها، وكلفوا العمل بما فيها، وهم اليهود. {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} لأنهم لم يعملوا بما فيها، ولو عملوا، لآمنوا؛ لأن فيها نعته - صلى الله عليه وسلم -، فمثلهم في حملها وعدم الانتفاع بها. {كَمَثَلِ الْحِمَارِ} الذي {يَحْمِلُ أَسْفَارًا} كتبًا، واحدها سِفْر، لا يدرك منها إلا ما يتعبه، وكل من علم علمًا ولم يعمل به، فهذا مثله. {بِئْسَ} فاعلُه {مَثَلُ الْقَوْمِ} نعت القوم {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} الدالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: بئس مَثَلُ القومِ المكذبين هذا المثلُ. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أنفسَهم بتكذيب الأنبياء. قرأ أبو عمرو، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان: (التَّوْرَاةَ) بالإمالة حيث وقعت (¬1)، وقرأ أبو عمرو أيضًا، وورش، والدوري عن الكسائي، وابن ذكوان بخلاف عنه (الْحِمَارِ) بالإمالة. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 415 - 416)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 145).

[6]

{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)}. [6] ولما قال اليهود: نحن أولى بالله من غيرنا، نزل: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} تهودوا {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} جميعًا. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أي: اطلبوه؛ فإنه هو الذي يوصلكم إليه. {إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم. {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)}. [7] {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} لعلمهم بكذبِهم، ولكفرِهم. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من المعاصي {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فيجازيهم. {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}. [8] {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} أي: من تمنيه مخافةَ أن يصيبكم. {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} ودخلت الفاء في خبر (إنَّ) لما في (الَّذي) من معنى الشرط، تقديره: إن فررتم من أي موت فررتم؛ كقتل وغيره، فإنكم ميتون. {ثُمَّ تُرَدُّونَ} بعد الموت.

[9]

{إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وهو الله سبحانه، وتقدم تفسيره في سورة الحشر. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بأن يجازيكم عليه. {يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)}. [9] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ} أي: أُذِّنَ (¬1) {لِلصَّلَاةِ مِنْ} أي: في {يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وأول من سماه يومَ الجمعة كعبُ بن لؤي، وكان قبل ذلك يسمى عَروبة (¬2)، ويسمى جمعة؛ لاجتماع المخلوقات فيه، وتكاملها كما تقدم في سورة (فصلت)، وقيل: لاجتماع الناس فيها في المكان الجامع، أو لأن خلق آدم جُمع فيه. وأولُ جمعة جمعها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم بعد أن نزل على قباء، وأسس مسجدها، ثم خرج عامدًا إلى المدينة، فأدركته الصلاة ثَمَّ، فجمع هناك، وخطب (¬3)، والمراد بالنداء: الأذان الذي عند المنبر عند جلوس الإمام للخطبة، وهو الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، فلما كان زمن عثمان، وكثر الناس، وتباعدت المنازل، زاد مؤذنًا آخر على الزوراء يؤذن قبل جلوسه على ¬

_ (¬1) "أي: أذن" زيادة من "ت". (¬2) "وكان قبل ذلك يسمى عروبة" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 389)، و"تفسير القرطبي" (18/ 99).

[10]

المنبر، فإذا جلس، أذن الثاني، وهو المعتبر في وجوب السعي وترك البيع. {فَاسْعَوْا} فامضوا {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} هو الصلاة. {وَذَرُوا الْبَيْعَ} والشراء؛ لأن لفظ البيع يتناولهما، وسيأتي الكلام عليه مع أحكام الجمعة بعد انتهاء التفسير، والمراد بالسعي: المبادرة بالنية والجد، وليس المراد الإسراع في المشي. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يومُ الجمعة، كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الأولَ فالأولَ، فإذا خرج الإمام، طُويت الصحف، واجتمعوا للخطبة، والمهجِّرُ إلى الصلاة كالمهدي بَدَنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدى شاةً، حتى ذكر الدجاجة والبيضة" (¬1). {ذَلِكُمْ} المذكور {خَيْرٌ لَكُمْ} من المعاملة؛ فإن نفع الآخرة خير وأبقى. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مصالحَ أنفسكم ومضارَّها. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}. [10] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} أي: فُرغ منها. ¬

_ (¬1) رواه النسائي (1385)، كتاب: الجمعة، باب: التبكير إلى الجمعة، وابن ماجه (1092)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التهجير إلى الجمعة، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[11]

{فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} للتصرف في حوائجكم. {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} هو طلب العلم، وكسبُ الحلال. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} في كل أحوالكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بخير الدارين. {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11}. [11] وكان قد أصاب المدينةَ قحط شديد، وكان دِحْيَةُ بن خليفة الكلبيُّ يأتيهم بكل ما يحتاجون إليه من بر وشعير وغيرهما من الشام، وكان إذا قدم، ضُرب الطبل، ليعلم به، فقدم يوم الجمعة، وذلك قبل إسلامه، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فضرب الطبل، فخرج الناس إليه ومن في المسجد؛ خوفًا أن يُسبقوا، ولم يبق عنده - صلى الله عليه وسلم - غير اثني عشر رجلًا وامرأة، فنزل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} (¬1) هي تجارة دحية {أَوْ لَهْوًا} هو صوت الطبل. {انْفَضُّوا} تفرقوا عنك وذهبوا. {إِلَيْهَا} ولم يقل: إليهما؛ ردًّا للضمير إلى التجارة؛ لأنها كانت مطلوبَهم. {وَتَركُوكَ} في الخطبة {قَائِمًا} على المنبر. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (8/ 269).

{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} فإن نفع ذلك محقق. قرأ أبو عمرو: (مِنَ اللَّهْو وَّمِنَ التِّجَارَةِ) بإدغام الواو في الواو (¬1). {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأنه موجد الأرزاق، فإياه فاسألوا، ومنه فاطلبوا. وروي أن النفر الذين أقاموا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ الانفضاض منهم جابرُ بن عبد الله، والعشرةُ المشهود لهم بالجنة، واختلف في الثاني عشر، فقيل: عمار بن ياسر، وقيل: عبد الله بن مسعود، وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا هؤلاء، لقد كانت الحجارةُ سُوِّمَتْ على المنفضِّين من السماء" (¬2). وأما أحكامُ الجمعة، فهي ركعتان فرض على كل ذكر مكلف حر صحيح مقيم بالاتفاق، وشرطها: الأبنية، أو قربها بالاتفاق، واشترط أبو حنيفة أن يكون بها أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود، زاد بعضهم: وعالم يرجع إليه في الحوادث، ويشترط إذنُ الإمام فيها عند أبي حنيفة؛ خلافًا للثلاثة، ويشترط حضور أربعين ممن تلزمه عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن ثلاثة سوى الإمام، وعند أبي يوسف اثنان سوى الإمام، وعند مالك ليس للجماعة التي تنعقد بهم الجمعة حد محصور، وأولُ وقتها عند أحمد وقت صلاة العيد، وعند ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 368)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 148). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 309)، و"تفسير الثعالبي" (4/ 302)، و"تفسير القرطبي" (18/ 109).

الثلاثة وقت الزوال، وآخره آخر وقت الظهر بالاتفاق، وعن مالك يمتد إلى الغروب؛ بناء على أن وقت العصر والظهر عنده واحد. وإذا وقع عيد يوم الجمعة، سقطت الجمعة عمن حضر العيد مع الإمام سقوطَ حضور لا وجوب؛ كمريض إلا الإمام، فإن اجتمع معه العدد المعتبر، أقامها، وإلا صلوا ظهرًا. وتسقط صلاة العيد بصلاة الجمعة، سواء فعلت قبل الزوال أو بعده عند أحمد؛ خلافًا للثلاثة. وشرطها تقدم خطبتين بالاتفاق، يجلس بينهما جلسة خفيفة عند الثلاثة، وعند أبي حنيفة ليست الجلسة شرطًا، ويسلم الخطيب إذا صعد المنبر عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة ومالك لا يسلم، ويستحب جلوسه للأذان، والقيام في الخطبة بالاتفاق. وأول من استراح في الخطبة عثمان، وأول من جلس معاوية، وخطب جالسًا. والخطبة مشتقة من المخاطبة، والمنبر من نبر: إذا على صوته، والخطيب يعلو صوته. ومن شرط صحة الخطبتين: حمد الله، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقراءة آية، والوصية بالتقوى عند الشافعي وأحمد، وعند مالك أقله ما يسمى خطبة عند العرب، وفي مذهبه قول كالأول، وعند أبي حنيفة لو اقتصر على ذكر الله أجزأه، وكذلك التسبيحة ونحوها، وعند صاحبيه لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة.

وتشترط لهما الطهارة من الحدث والخبث عند الشافعي، خلافًا للثلاثة، ولا يشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة عند أحمد، وعند أبي حنيفة يجوز للعذر، وعند مالك والشافعي إذا أحدث بين الخطبة والصلاة، استخلف في الصلاة، واشترط الشافعي أن يكون سمع الخطبة؛ لأن من لم يسمعها ليس من أهل الجمعة، ولم يشترطه مالك. ويجهر في الركعتين بالاتفاق. ويجوز عند الشافعي وأحمد أكثر من جمعة إن احتيج إليه، وإلا، فالأولى الصحيحة، وهي السابقة بتكبيرة الإحرام، فإن جهلت، أو تساوتا، بطلتا، وعند أبي حنيفة لا يجوز إلا في موضع واحد، وعند محمد بن الحسن تصح في موضعين وثلاثة، وعند مالك لا يصلى في مصر واحد في مسجدين، فإن فعلوا، فالصحيحة صلاة أهل المسجد العتيق. ويحرم الكلام والإمام يخطب إذا كان منه بحيث يسمعه عند الشافعي. وأحمد، وعند أبي حنيفة ومالك يسكت ولو كان بعيدًا. ويكره البيع والشراء ممن تلزمه الجمع بعد ندائها الذي عند المنبر عند أبي حنيفة، ولا يفسد به البيع، وقال الثلاثة: يحرم، فلو باع، صح بيعه عند الشافعي خلافًا لمالك وأحمد، ويصح عند أحمد النكاح وسائر العقود غير البيع؛ خلافًا لمالك؛ فإن النكاح والإجارة عنده كالبيع. وإذا انفضوا قبل إتمامها، استأنفوها ظهرًا عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة ومالك إن انفضوا بعد أن صلوا ركعة بسجدتيها، ولم يبق أحد غير الإمام، ولم يجد من يجمعها معه، بنى عليها ركعة، وصحت صلاته جمعة، كان انفضوا عنه قبل أن يفرغ من الركعة الأولى، يتم ظهرًا أربعًا،

وعند أبي يوسف ومحمد إن انفضوا عنه بعد تكبيرة الإحرام، صلى جمعة. ومن أدرك مع الإمام ركعة، أتمها جمعة بالاتفاق، ومن أدرك أقل من ذلك، أتمها ظهرًا إن كان قد نوى الظهر عند مالك وأحمد، وعند الشافعي يتمها ظهرًا، لكن ينوي في اقتدائه الجمعة، وأحمد يشترط دخول وقت الظهر احترازًا عمن يصليها قبل وقت الزوال على قاعدته، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا أدرك التشهد، يتمها جمعة، وعند محمد يتمها أربعًا ظهرًا. ويسن الغسل لها، وقراءة سورة الكهف في يومها وليلتها. وتقدم اختلاف الأئمة في قراءة السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} في صبحها في سورة آلمّ السجدة، ويستحب أن يكثر الدعاء في يومها، وأفضله بعد العصر؛ لساعة الإجابة. وفي الحديث: "ما طلعت شمسٌ ولا غربت عليَّ أفضل من يوم الجمعة، فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مؤمن يدعو الله فيها خيرًا إلا استجابَ الله له، أو يستعيذُ من شيء إلا أعاذَه اللهُ منه" (¬1). قال الإمام أحمد: أكثر الأحاديث في الساعة التي تُرجى فيها الإجابة أنها بعد العصر، وترجى بعد زوال الشمس. وذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "شرح البخاري" فيها ثلاثة وأربعين قولًا، ولخصها صاحب "الإنصاف" فيه، الأول: قيل: رفعت، الثاني: موجودة في جمعة واحدة في كل سنة، الثالث: مخفية في جميع ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3339)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البروج، وقال: حسن غريب، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

اليوم، الرابع: تنتقل في يومها، ولا يلزم ساعة معينة، لا ظاهرة ولا مخفية، الخامس: إذا أذن لصلاة الغداة، السادس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، السابع: مثله، وزاد: من العصر إلى الغروب، الثامن: مثله، وزاد: ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر، التاسع: أول ساعة بعد طلوع الشمس، العاشر: عند طلوعها، الحادي عشر: في آخر الساعة الثالثة من النهار، الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع، الثالث عشر: مثله إلى أن يصير الظل ذراعًا، الرابع عشر: بعد الزوال بشير إلى ذراع، الخامس عشر: إذا زالت الشمس، السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة، السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل في الصلاة، الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الإمام، التاسع عشر: ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة، العشرون: ما بين خروجه إلى أن تنقضي الصلاة، الحادي والعشرون: ما بين تحريم البيع إلى حله الثاني والعشرون: ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة، الثالث والعشرون: ما بين أن يجلس على المنبر إلى انقضاء الصلاة، الرابع والعشرون: عند خروج الإمام، الخامس والعشرون: عند التأذين والإقامة وتكبير الإمام، السادس والعشرون: مثله، لكن قال: إذا أذن، وإذا رقي المنبر، وإذا أقيمت الصلاة، السابع والعشرون: من حين يفتتح الخطبة حتى يفرغها، الثامن والعشرون: إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة، التاسع والعشرون: عند الجلوس بين الخطبتين، الثلاثون: عند نزوله عن المنبر، الحادي والثلاثون: حين تقام حتى يقوم الإمام في مقامه، الثاني والثلاثون: من إقامة الصلاة إلى إتمام الصلاة، الثالث والثلاثون: وقت قراءة الإمام الفاتحة إلى أن يقول: آمين، الرابع والثلاثون: من الزوال إلى

المغرب، الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، السادس والثلاثون: في صلاة العصر، السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار، الثامن والثلاثون: بعد العصر مطلقًا، التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب آخره، الأربعون: من اصفرار الشمس إلى أن تغيب، الحادي والأربعون: آخر ساعة بعد العصر، الثاني والأربعون: من حين يغيب نصف قرصها، أو من حين تتدلى للغروب إلى أن يتكامل غروبها، الثالث والأربعون: هي الساعة التي كان -عليه أفضل الصلاة والسلام- يصليها فيها. قال الحافظ -رحمه الله-: وليست كلها متغايرة من كل وجه، بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره، وليس المراد من أكثرها أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 416 - 421).

سورة المنافقون

سورة المنافقون مدنية بإجماع، وآيها: إحدى عشرة آية، وحروفها: سبع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلمها: مئة وثمانون كلمة، نزلت في غزوة بني المصطلق بسبب أن عبد الله بن أبي ابن سلول كانت منه في تلك الغزوة أقوال، وكان له أتباع يقولون قوله، فنزلت السورة كلها بسبب ذلك، وبين الله تعالى فيها ما تقدم من المنافقين؛ من خلفهم، وشهادتهم في الظاهر بالإيمان، وأنهم كذبة، وذكر فيها ما تأخر منهم ووقع في تلك الغزوة على ما يأتي في التفسير إن شاء الله تعالى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)}. [1] {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه. {قَالُوا} بألسنتهم دون قلوبهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} والشهادة حجة شرعية تظهر الحق ولا توجبه،

[2]

فهي الإخبار بما علمه بلفظ خاص، ولذلك صدَّقَ المشهود به، وكذَّبهم في الشهادة بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فيما يُضمرون من تكذيبك، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقبل من المنافقين ظاهر الإسلام. وأما حكم الزنديق في الشرع، وهو الذي يظهر الإسلام ويُسر الكفر، فإنه يقتل، ولا يستتاب عند أحمد، والأصح عن مالك أنه إذا جاء تائبًا، وظهر من قوله، لا يقتل، بخلاف ما يظهر عليه، قال مالك: لأن توبته لا تعرف، يعني أن التقية من الزندقة، فيقتل، وعند أبي حنيفة والشافعي تقبل توبته. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)}. [2] وكل ما جاء في القرآن بعد العلم (¬1) لفظة (أَنَّ) فهي بفتح الهمزة، إلا في موضعين، إحداهما هنا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} والثاني: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} في الأنعام، وإنما كان كذلك في هذين الموضعين؛ لأنه يأتي بعدهما لام الخبر، فلهذا انكسر. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُم} أي: حلفهم، وما يظهرون من الإيمان ضد الكفر. {جُنَّةً} سترة عن أموالهم ودمائهم. {فَصَدُّوا} الناس {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الإيمانِ والجهادِ. ¬

_ (¬1) "بعد العلم" زيادة من "ت".

[3]

{إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من النفاق. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3}. [3] {ذَالِكَ} القولُ الشاهدُ على سوء عملهم {بِأَنَّهُمْ} أي: بسبب أنهم. {آمَنُوا} باللسان. {ثُمَّ كَفَرُوا} أي: استمروا على الكفر بقلوبهم {فَطُبِعَ} خُتِم. {عَلَى قُلُوبِهِمْ} بالكفر. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (فَطُبِع عَّلَى) بإدغام العين في العين (¬1). {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} لا يفهمون حقيقة الإيمان. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}. [4] {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} أي: المنافقين {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُم} لجمالها، وكان عبد الله بن أبي جسيمًا فصيحًا. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فتحسب أنه صدق {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام. قرأ أبو عمرو، والكسائي، وقنبل ¬

_ (¬1) "في العين" زيادة من "ت".

عن ابن كثير: (خُشْبٌ) بإسكان الشين، والباقون: بضمها (¬1). {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي: لا يسمعون صوتًا في العسكر إلا ظنوا أنهم يُرادون بذلك؛ من جبنهم وسوء ظنهم. قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر: (يَحْسَبُونَ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (¬2). {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} فإنهم يُفشون سرك للكفار، وهو جواب قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} لأن الجواب إما أن يكون بالفاء كما هنا، وإما بالماضي؛ كقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [مريم: 73]، ونظائره كثيرة. {قَاتَلَهُمُ} أهلكهم {اللَّهُ} دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة وتمني الشر لهم. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يُصرفون عن الحق بعد قيام البرهان. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (أَنَّى) بالإمالة، واختلف عن أبي عمرو، فروي عنه: إمالتها بين بين، وروي عنه: فتحُها، وبه قرأ الباقون (¬3). {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)}. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 368)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 151). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 636)، و"التيسير" للداني (ص: 211)، و"تفسير البغوي" (4/ 401)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 152). (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 416)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 152).

[5]

[5] روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى غزوة بني المصطلق، وخرج معه عبد الله بن أبي ابن سلول، وكانت في شعبان سنة ست من الهجرة، ونزل بالمريسيع -ماء من ماء بني المصطلق-، فسبق المهاجرون وكأنهم غلبوا الأنصار عليه بعضَ غلبة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: قد كنت قلت لكم في هؤلاء الجلابيب ما قلتُ، فلم تسمعوا مني، وكان المنافقون يسمون المهاجرين: الجلابيب، ثم إن الجهجاه الغفاري غلامَ عمرَ بنِ الخطاب ورد الماء بفرس لعمر، فازدحم هو وسنان بن وبر الجهنى حليف الأوس، ودار بينهما كلام، فاقتتلا، وصرخ الجهني: يا معشرَ الأنصار! وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين! فجاؤوا، فاقتتلوا، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما بالُ دَعْوى الجاهلية؟! " فلما أخبر بالقضية، قال: "دعوها فإنها مُنْتِنَةٌ"، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين (¬1). وروي أن جعالًا -رجلًا فقيرًا من المهاجرين- أعان الجهجاه، فغضب عبد الله بن أبي، وعنده بعض قومه، وكان معهم زيد بن أرقم صغيرًا لم يتحفظ منه، فقال عبد الله: أفعلوها؟! نافرونا وكاثرونا في بلادنا؟! فما نحن وهم إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبَك يأكلْكَ، ثم قال لقومه: هذا فعلكم بأنفسكم، أحللتموهم دياركم، وقاسمتموهم أموالكم، ولو أمسكتم عن جعال وذويه فضلَ طعامكم، لتحولوا عنكم، ولا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا عن محمد، ولئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فذهب ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4622)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، ومسلم (2584)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، من حديث جابر رضي الله عنه.

زيدُ بن أرقم إلى عمه، وكان في حجره، وأخبره، فأتى به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا زيد! غضبت على الرجل، ولعلك وهمتَ"، فأقسم زيد ما كان شيء من ذلك، ولقد سمع من عبد الله بن أبي ما حكى، فعاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي عند رجال من الأنصار، فبلغه ذلك، فجاء وحلف، وكذَّب زيدًا، وحلف معه قوم من المنافقين، فصدق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أيمانَ عبد الله بن أبي، وكذَّب زيدًا، فبقي زيد في منزله لا يتصرف حياءً من الناس، فنزلت هذه السورة عند ذلك، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أثر زيد، وقالماله: "لقد صدَّقك الله يا زيد، ووفت أُذُنُك"، فخزي عند ذلك عبد الله بن أبي، ومقته الناس، ولامه المؤمنون من قومه، وقال بعضهم: امض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واعترف بذنبك، فيستغفر لك، فلوى رأسه إنكارًا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم علي بالإيمان، فآمنت، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي، ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد! فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} (¬1) لابن أبيّ {تَعَالَوْا} إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - معتذرين، و (تَعَالَوْا) نداء يقتضي لفظه أنه دعاء الأعلى للأسفل، ثم استعمل في كل داع لما فيه من حسن الأدب. {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} أمالوها استكبارًا. قرأ نافع، وروح عن يعقوب: (لَوَوْا) بتخفيف الواو الأولى، والباقون: بتشديدها على تضعيف المبالغة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (28/ 115)، و"تفسير الثعلبي" (9/ 321)، و"تفسير البغوي" (4/ 348).

[6]

{وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يُعرضون عن الاستغفار {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عن الاعتذار. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)}. [6] {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} قراءة الجمهور: (أَسْتَغْفَرْتَ) بهمزة مفتوحة من غير مد عليها، وقرأ أبو جعفر بخلاف عنه: بالمد، ووجهه بعضهم بأنه إجراء لهمزة الوصل المكسورة مجرى المفتوحة، فمد من أجلال استفهام، وقال الزمخشري: إن المد إشباع لهمزة الاستفهام؛ للإظهار والبيان، لا قلبًا لهمزة الوصل ألفًا كما في (آالسِّحْر) (¬1). {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لرسوخهم في الكفر. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لانهماكهم في الكفر. {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)}. [7] {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} من الفقراء. {حَتَّى يَنْفَضُّوا} يتفرقوا عنه. {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بيده الأرزاق. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 211)، و"التفسير البغوي" (4/ 402)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 388)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 153).

[8]

{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} أن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون؛ لجهلهم بالله. {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}. [8] {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} هذا قول عبد الله بن أبي ابن سلول، يعني بالأعز (¬1): نفسَه، وبالأذل: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أُسيد بن حُضير لما سمعها: "واللهِ يا رسولَ الله تُخرجه إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله! ارفق به، فو الله لقد جاء الله بك كان قومه لينظمون له الخرز ليتوِّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكًا" (¬2). وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي؛ لما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل نرفق به، ونحسنُ صحبتَه ما بقيَ معنا" (¬3). وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فلم يلبث عبد الله بن أبي إلا أيامًا قلائل حتى اشتكى ومات. ¬

_ (¬1) "بالأعز" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (28/ 116)، و"تفسير البغوي" (4/ 403). (¬3) انظر: "تفسير الطبري" (28/ 116)، و"تفسير البغوي" (4/ 403).

[9]

{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} الغلبة لمن دونه {وَلِرَسُولِهِ} بإظهار دينه {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} بنصرهم على الكافرين {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ذلك، ولو علموا، ما قالوا هذه المقالة. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)}. [9] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ} تشغلكم. {أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} هو الصلوات الخمس. {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: اللهو بها. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأنهم باعوا الباقي بالفاني. قرأ الدوري عن الكسائي: (يَفْعَل ذَّلِكَ) بإدغام اللام في الذال، والباقون: بالإظهار (¬1). {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)}. [10] و {أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} في الطاعة، وقال ابن عباس: المراد: زكاة الأموال (¬2). {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: أسبابه. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 369)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 417)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 154). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 405).

{فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا} هَلَّا {أَخَّرْتَنِي} أمهلتني {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} زمان يسير. {فَأَصَّدَّقَ} فأتصدق وأزكي مالي، قيل: نزلت في مانعي الزكاة. {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} المؤمنين. قرأ أبو عمرو: (وَأَكُونَ) بالواو ونصب (¬1) النون على جواب التمني، وعطفًا على (فَأَصَّدَّقَ)؛ لأنه نصب بإضمار أن، وقال: إنما حذفت الواو من المصحف اختصارًا، وقرأ الباقون: (وَأَكُنْ) بجزم النون من غير واو عطفًا على موضع (فَأَصَّدَّقَ) (¬2)؛ لأنه جواب الشرط، تقديره: إن أخرتني، أصدق، وأكنْ، وكذا هو مرسوم في جميع المصاحف. {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}. {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} ولن يمهلها {إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} آخرُ عمرها. واختلاف القراء في الهمزتين من (جَاءَ أَجَلُهَا) كاختلافهم فيهما من {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} في سورة الحج [الآية: 65]. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجازٍ عليه. قرأ أبو بكر عن عاصم (يَعْمَلُونَ) بالغيب على تخصيص الكفار بالوعيد، وقرأ الباقون: بالخطاب على مخاطبة جميع الناس (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "ت": "وفتح". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 637)، و"التيسير" للداني (ص: 211)، و"تفسير البغوي" (4/ 406)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 155 - 156). (¬3) المصادر السابقة.

سورة التغابن

سورة التغابن مدنية، وقال بعض المفسرين: مكية إلا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ} إلى آخر السورة، وآيها: ثماني عشرة آية، وحروفها: ألف وسبعون حرفًا، وكلمها: مئتان وإحدى وأربعون كلمة. قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ مولودٍ يولَد إلا وفي شبائِكِ رأسه مكتوبٌ خمسُ آياتٍ من فاتحةِ سورةِ التغابن" (¬1). وعن أبي بن كعب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قرأَ سورةَ التغابن، دُفعَ عنه موتُ الفُجاءة" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "المجروحين" (3/ 81)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1763)، وفي "مسند الشاميين" (90)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (63/ 150)، والثعلبي في "تفسيره" (9/ 325). وفي إسناده الوليد بن الوليد الدمشقي، قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به فيما يروي. وقال ابن كثير في "تفسيره" (4/ 374): غريب جدًّا. بل منكر. (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" (9/ 325)، وابن مردويه والواحدي في "تفسيريهما" كما عزاه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (4/ 44). قال المناوي في "الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي" (3/ 1044): موضوع.

[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}. [1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ينزهونه بقولهم: سبحان الله. {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} فهو المختص بهما حقيقة. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وأما ملك غيره، فتسليط منه، وحمده: اعتدادٌ بأن نعمة الله جرت على يده. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)}. [2] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ثم وصفهم فقال: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} والكفر: فعلُ الكافر، والإيمان: فعل المؤمن، والكفر والإيمان اكتساب العبد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مولود يولد على الفطرة" (¬1)، وقوله {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار، وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان؛ لأن الله تعالى [أراد ذلك منه، وقدره عليه وعلمه منه، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1319)، كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم (2658)، كتاب: القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[3]

والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر؛ لأن الله تعالى] (¬1) قدر ذلك عليه، وعلمه منه، وهذا طريق أهل السنة. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيعاملكم بما يناسب أعمالكم. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}. [3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} بالحكمة البالغة. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} بأن جعل شكل الآدمي أحسن الأشكال. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فيجازي كلًّا بعمله. {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}. [4] {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من الخلق {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} فلا يخفى عليه شيء {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بضمائر القلوب. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)}. [5] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} يا كفار. الألف للاستفهام، و (لم) للجحد، ومعناه التحقيق. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[6]

{نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي: قبلكم. {فَذَاقُوا} في الدنيا {وَبَالَ} عقوبة {أَمَرَهُم} كفرهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)}. [6] {ذَلِكَ} العذابُ النازل بهم {بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات. {فَقَالُوا} احتقارًا بهم: {أَبَشَرٌ} أراد الجنس، مبتدأ، خبره {يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا} بالرسل {وَتَوَلَّوْا} عن الإيمان. {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} أظهرَ غناه عن كل شيء. {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عن جميع خلقه {حَمِيدٌ} على كل صنعة. {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}. [7] ثم أخبر عن إنكارهم البعث، فقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} ومعنى زعم: كذبوا في الحديث، قال ابن عطية (¬1): ولا توجد ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 319).

[8]

(زعم) مستعملة في فصيح من الكلام إلا عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله، فيريد له (¬1) قائله (¬2) أن يبقي عهدته على الزاعم، ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم. ثم أمر تعالى نبيه بأن يجيب نفيهم بما يقتضي الرد عليه، وإيجاب البعث، وأن يؤكد ذلك بالقسم، ثم يوعدهم بأنهم يجزون بأعمالهم على جهة التوبيخ المؤدي إلى العقاب، فقال تعالى: {قُلْ} يا محمد: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} بالمحاسبة والمجازاة. {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لقدرته عليه. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}. [8] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} هو القرآن ومعانيه. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فمجازٍ عليه. {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}. [9] {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} العامل فيه {لَتُنَبَّؤُنَّ} قرأ يعقوب: (نَجْمَعُكُمْ) ¬

_ (¬1) "له" سقط من "ت". (¬2) في "المحرر الوجيز": "ناقله".

[10]

بالنون، والباقون: بالياء (¬1) {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} يعني: يوم القيامة، سمي بذلك؛ لاجتماع الخلائق فيه. {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} يوم الغبن (¬2)، وهو فوت الحظ، فيظهر يومئذ غبن الكافر بترك الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ} عملًا (¬3). {صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (نُكَفِّرْ) (وَنُدْخِلْهُ) بالنون في الحرفين، والباقون: بالياء فيهما (¬4) {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ} المذكورُ هو {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} لجلبه المنافع، ودفعِه المضار. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}. [10] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} كأنها والآية المتقدمة بيان للتغابن، وتفصيل له. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 388)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 160). (¬2) "يوم الغبن" زيادة من "ت". (¬3) "عملًا" زيادة من "ت". (¬4) انظر: "التيسير" للداني (ص: 211)، و "تفسير البغوي" (4/ 409)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 160).

[11]

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}. [11] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} بقضائه. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} فيصدِّقْ أنه لا يصيبه شيء إلا بمشيئته تعالى. {يَهْدِ قَلْبَهُ} إلى الاسترجاع عند نزول المصيبة. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} عموم مطلق على ظاهره. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)}. [12] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} عطف على {فَآمِنُوا}. {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} وعيد لهم، وتبرئة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إذا بَلَّغ. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}. [13] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} تحريض للمؤمنين على مكافحة الكفار، والصبر على دين الله.

[14]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}. [14] ونزل فيمن منعه أزواجه وأولاده عن الهجرة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (¬1) أن تطيعوهم في ترك الهجرة، و (مِنْ) تبعيض؛ لأن منهم من ليس بعدو لكم. {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هذا فيمن لم يهاجر، ورأى من سبقه قد فقه في الدين، فهم أن يعاقب زوجته وولده، فأمره بالعفو والصفح. {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)}. [15] ثم أخبر تعالى أن الأموال والأولاد فتنة تشغل المرء عن مراشده، وتحمله من الرغبة في الدنيا على ما لا يحمده في الآخرة بقوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة} اختبار. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثر محبته على محبة المال والأولاد. {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}. [16] روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة حتى جاء الحسن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 410).

والحسين عليهما قميصان أحمران يجرانهما، يَعْثُران ويَقُومان، فنزل - صلى الله عليه وسلم - عن المِنْبَرِ حتى أَخَذَهُمَا، وصَعِدَ بهما، وقال: "صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال: إني رأيت هذين، فلم أصبر"، ثم أخذ في خطبته، قال ابن عطية (¬1): وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء، فأما فتنة الجهال والفسقة، فمؤدية إلى كل فعل مهلك (¬2)، وجيء بـ (إنما) للحصر؛ لأن جميع الأموال والأولاد فتنة؛ لأنه لا يرجع إلى مال أو ولد إلا وهو مشتمل على فتنة واشتغال قلب. {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أطقتم، وهذه الآية ناسخة لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]. {وَاسْمَعُوا} ما أُمرتم به سماعَ قبول {وَأَطِيعُوا} الله ورسوله. {وَأَنْفِقُوا} المالَ في الطاعة، وآتوا {خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} أي: افعلوا ما هو خير لها. {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تقدم تفسيره في سورة الحشر. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 320). (¬2) رواه أبو داود (1109)، كتاب: الصلاة، باب: الإمام يقطع الخُطبة للأمر يحدث، والنسائي (1412)، كتاب: الجمعة، باب: نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة، والترمذي، (3774)، كتاب: المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (3600)، كتاب: اللباس، باب: لبس الأحمر للرجال، من حديث بريدة رضي الله عنه.

[17]

{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)}. [17] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ} تصرفوا المال فيما أَمر به {قَرْضًا حَسَنًا} مقرونًا بالإخلاص. {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} يجعل لكم بالواحد عشرًا إلى سبع مئة وأكثر. قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (يُضَعِّفْهُ) بتشديد العين وحذف الألف قبلها، وقرأ الباقون: بإثبات الألف والتخفيف (¬1). {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ببركة الإنفاق {وَاللَّهُ شَكُورٌ} يشكر لكم ما عملتم. {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}. [18] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} السر والعلانية. {الْعَزِيزُ} بالنقمة {الْحَكِيمُ} في أمره وقضائه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 638)، و"التيسير" للداني (ص: 211)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 288)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 162).

سورة الطلاق

سورة الطلاق وتسمى: سورةَ النساء القصرى، وهي مدنية، وآيها: اثنتا عشرة آية، وحروفها: ألف وستون حرفًا، وكلمها: مئتان وتسع وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}. [1] {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} أفرد - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب أولًا تعظيمًا لشأنه، وجمع ثانيًا مع أمته تشريفًا لهم. قرأ نافع: (النَّبِيءٌ إِذَا) بالهمز (¬1) والمد، وتسهيل الهمزة الثانية، وقرأ الباقون: بتشديد الياء بغير مد ولا همز، وتحقيق الهمزة الثانية (¬2)، المعنى: إذا أردتم تطليقهن. {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: لطهرهن الذي يُحصينه من عدتهن، وهو ¬

_ (¬1) "بالهمز" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 418)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 165).

أول طهر تعتد به، والمراد: أن يطلقها في طهر لم يُصِبْها فيه، وهو طلاق السنة. نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، كان قد طلق امرأته في حال الحيض، فقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "مُرْهُ فَلْيراجِعْها، ثم ليمسِكْها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكَ بعدُ، وإن شاء طلَّقَ قبلَ أن يَمَسَّ، فتلك العِدَّةُ التي أمَرَ الله أن تُطَلَّق لها النساءُ" (¬1). قرأ ورش عن نافع: (طَلَّقْتُمْ) (فَطَلِّقُوهُنَّ) بتغليظ اللام، وكذلك كل لام مفتوحة مخففة أو مشددة إذا تقدمها صاد أو طاء أو ظاء بفتح أو سكون، وعنه خلاف في (طَالَ) و (فِصَالًا)، وتقدم حكم الطلاق السني والبدعي ومذاهب الأئمة فيه في سورة الأحزاب عند تفسير قوله تعالى: {سَرَاحًا جَمِيلًا} [الآية: 49]. {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} اضبطوها، واحفظوا عدد أقراء العدة ثلاثًا مستقبلات بلا نقصان؛ لتعلموا وقت الرجعة إن أردتم أن تراجعوهن؛ لأن الرجعة إنما تجوز في زمان العدة إذا كان الطلاق رجعيًّا بالاتفاق. {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} في الإضرار بهن. {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} اللاتي يسكنها إذا طلقتموهن حتى تنقضي عدتهن، فإذا كان الطلاق رجعيًّا (¬2)، فللزوجة السكنى بمنزل الطلاق، وليس لها الخروج منه حتى تنقضي عدتها بالاتفاق، وأما إذا كان الطلاق بائنًا، فعند أحمد: الحقُّ في إسكانها للزوج، فيسكنها حيث شاء مما يصلح ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 413). والحديث رواه "البخاري" (4953)، كتاب: الطلاق، باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}، ومسلم (1471)، كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، دون ذكر أن الآية نزلت في قصته. (¬2) "رجعيًّا" زيادة من "ت".

[2]

لها؛ تحصينًا لفراشه، ولو لم تلزمه نفقة، وعند الثلاثة: يلزمها التربص بمنزل الطلاق إلى انقضاء العدة. {وَلَا يَخْرُجْنَ} بغير اختبارهن. {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي: زنًا، فيخرجن لإقامة الحد، ثم يعدن. قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: (مُبَيَّنَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها (¬1). {وَتِلْكَ} الأحكام المذكورة {حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} لتعريضها للعقاب. قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وورش، وحمزة، والكسائي، وخلف: (فَقَد ظَّلَمَ) بإدغام الدال في الظاء، والباقون: بالإظهار (¬2). {لَا تَدْرِي} أيها النبي {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ} الطلاق. {أَمْرًا} أي: رغبة في الرجعة، وهذا دليل على استحباب تفريق الثلاث. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)}. [2] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} قارَبْنَ انقضاء العدة {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} راجعوهن. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 95)، و"الكشف" لمكي (1/ 383)، و"معجم القراءات القرانية" (7/ 165 - 166). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 369)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 418)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 166).

[3]

{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، فَيَبِنَّ منكم. {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على الطلاق، وأما الرجعة، فلا يشترط لها الإشهاد بالاتفاق، وروي عن الشافعي اشتراطه، وهو القديم من مذهبه. واختلفوا في حصولها بالفعل، فقال الشافعي: لا تصح إلا بالقول، فلا تحصل بفعل كوطء، وقال الثلاثة: تصح بالفعل، فتحصل عند أبي حنيفة بالوطء واللمس والنظر إلى الفرج بشهوة فيهما، وعند مالك بالوطء والمباشرة والتقبيل إذا نوى بذلك الرجعة، وعند أحمد بوطئها، نوى به الرجعة أو لم ينو، ولا تحصل بمباشرتها ولا النظر إلى فرجها ولا الخلوة بها لشهوة، ولا خلف بينهم في حصولها بالقول، واستحباب الإشهاد لها. {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ} أيها الشهود. {لِلَّهِ} لأجل الله تعالى خاصة، ولا تنظروا في المشهود عليه. {ذَلِكُمْ} الحث على الشهادة وأدائها {يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} فيطلِّقْ للسُّنة {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} إلى الرجعة. {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}. [3] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} لم يخطر بباله. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} شرطٌ مبتدأ، جوابُه {فَهُوَ حَسْبُهُ} يكفيه ما أهمه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو أَنَّكم تتوكَّلون على الله حَقَّ تَوَكُّلِه، لرزقَكم كما يرزق

[4]

الطير، تغدو خِماصًا، وتَروح بِطَانًا" (¬1)، والتوكل: سكون القلب في كل موجود ومفقود، وقطعُ القلب عن كل علاقة، والتعلقُ بالله في جميع الأحوال. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} قرأ حفص عن عاصم: (بَالِغُ) بغير تنوين (أَمْرِهِ) بالخفض بإضافة (بالغ) إليه، وقرأ الباقون: بالتنوين، ونصب (أَمْرَهُ) (¬2)، والمعنى على القراءتين: منفذٌ حكمَه. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} نهاية. {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)}. [4] ولما نزل {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، قال خلاد بن النعمان (¬3) بن قيس الأنصاري: يا رسول الله! فما عدة من لا تحيض، والتي لم تحض، وعدة الحبلى؟ فأنزل الله تعالى: {وَاللَّائِي ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2344)، كتاب: الزهد، باب: في التوكل على الله، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (4164)، كتاب: الزهد، باب: التوكل واليقين، وأحمد في "المسند" (1/ 30)، وابن حبان في "صحيحه" (730)، والحاكم في "المستدرك" (7894) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 639)، و"التيسير" للداني (ص: 211)، و"تفسير البغوي" (4/ 417)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 166). (¬3) "بن النعمان" زيادة من "ت".

يَئِسْنَ} (¬1) لكبرهن {مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} شككتم في حكم عدتهن؛ لانقطاع دمهن لكبرهن. {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} الجملة خبر المبتدأ. {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} لصغرهن مبتدأ محذوفُ الخبر؛ أي: فعدتهن ثلاثة أشهر، حذف الخبر لدلالة المذكور عليه، فالصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي أيست من الحيض، عدةُ كلِّ واحدة منهما (¬2) من الطلاق ثلاثةُ أشهر بالاتفاق، والشابة التي كانت تحيض، فارتفع حيضها قبل بلوغها سنَّ الآيسات، فعند أبي حنيفة والشافعي: لا تنقضي عدتها حتى يعاودها الدم، فتعتد بثلاثة أقراء، أو تبلغ سنَّ الآيسات، فتعتد بثلاثة أشهر، وعند مالك وأحمد: إذا ارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه، تعتد به سنةً: تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، فتحل عقب السنة، كان علمت ما رفعه من مرض أو رضاع ونحوه، فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به، إلا أن تصير آيسة، فتعتد عدة آيسة حينئذ. وسن الإياس عند أبي حنيفة خمس وخمسون سنة، وعند مالك سبعون، وعند الشافعي اثنتان وستون وعند أحمد خمسون، وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين بالاتفاق. وعدة المتوفَّى عنها زوجها إذا لم تكن حاملًا أربعة أشهر وعشر بالاتفاق. واختلاف القراء في (وَالَّلِائي) في الحرفين كاختلافهم في نظيره في سورة الأحزاب [الآية: 4]. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 358). (¬2) "منهما" زيادة من "ت".

[5]

{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} أي: الحبالى، مطلقاتٍ كُنَّ أو تُوفي عنهن أزواجُهن. {أَجَلُهُنَّ} أي: انقضاء عدتهن التي يجوز بعدها النكاح، مبتدأ، خبره {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وهما خبر (أُولاَتُ)، فإذا كانت المرأة حاملًا، وطُلقت، أو مات زوجها، فعدتها بوضع الحمل بالاتفاق. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} يسهِّلْ عليه أمر الدارين، ويخلِّصْه من شدائدهما. {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}. [5] {ذَلِكَ} المذكور من الأحكام {أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} في أحكامه {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} فإن الحسنات يذهبن السيئات. {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} بالمضاعفة. {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)}. [6] {اسْكِنوُهُنَّ} يعني: مطلقاتِ نسائِكم {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} أي: مكانًا من سُكناكم {مِنْ وُجْدِكُمْ} قرأ روح عن يعقوب: (وِجْدِكُمْ) بكسر الواو،

والباقون: بضمها (¬1)؛ أي: من سَعَتكم وهو بيان لقوله: (مِنْ حَيْثُ)، وأبو عمرو يدغم الثاء في السين من قوله (حَيْث سَّكَنْتُمْ) (¬2). {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} تؤذوهن {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} ليخرُجْنَ، وتقدم في أول السورة اختلاف الأئمة في حكم السكنى للرجعية والبائن. {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيخرجن من العدة، فالبائن بالطلاق إذا كانت حاملًا لها النفقة والسكنى بالاتفاق، وأما البائن الحائل، فتستحق النفقة والسكنى عند أبي حنيفة كالحامل إلى أن تنقضي عدتها بالحيض، أو بالأشهر؛ خلافًا للثلاثة، ولا نفقةَ من التركة لمتوفًّى عنها زوجُها، ولا كسوةَ، ولو كانت حاملًا بالاتفاق. {فَإِنْ أَرْضَعْنَ} أي: المطلقات ولدًا {لَكُمْ} منهن، أو من غيرهن. {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على الإرضاع، وتقدم اختلاف الأئمة في حكم إرضاع الأمهات، وأخذِهن الأجرةَ في زمن العصمة وبعد الطلاق في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]. {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي: ليأمر بعضكم بعضًا بالمعروف في الإرضاع والأجر. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 388)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 168). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 369)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 168).

[7]

{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} تضايقتم في الرضاع، وامتنع الأب عن إعطاء الأجرة، والأم عن إرضاعه. {فَسَتُرْضِعُ لَهُ} امرأة {أُخْرَى} وفيه معاتبة للأم على المعاسرة. {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}. [7] {لِيُنْفِقْ} لام أمر. {ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} على المطلقات والمرضعات على قدر غناه. {وَمَن قُدِرَ} ضُيِّق {عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} من المال على مقداره. {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} أعطاها من المال. {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} عاجلًا أو آجلًا. قرأ أبو جعفر: (عُسُرًا) و (يُسُرًا) بضم السين فيهما، والباقون: بالإسكان (¬1)، وتقدم في سورة النور اختلاف الأئمة فيمن أعسر بصَداق زوجته وكسوتها ونفقتها، وحكم النسخ بذلك. {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)}. [8] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} تقدم تفسير (وَكَأَيِّنْ)، واختلاف القراء فيه في ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 418)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 169).

[9]

سورة الحج عند تفسير قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الحج: 45]. {عَتَتْ} أي: عتا أهلها بالتجبر {عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} {وَرُسُلِهِ} أي: وأمر رسله. {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} أي: لم يغتفر لهم ذلة، بل أُخذوا بالدقائق من الذنوب. {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} عظيمًا، وهو النار في الآخرة، والتعبير بلفظ الماضي في الحساب والعذاب لتحقيق وقوعهما في المستقبل. قرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (نُكُرًا) بضم الكاف، والباقون: بإسكانها (¬1) {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)}. [9] {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} عقوبةَ كفرها. {وَكَانَ عَاقِبَةُ} آخِرُ (¬2) {أَمْرِهَا خُسْرًا} خسرانًا لا ربح فيه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 639)، و"التيسير" للداني (ص: 144)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 170). (¬2) "آخر" زيادة من "ت".

[10]

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)}. [10] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} تكرير للوعيد. {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} صفة (لأُولِي الأَلْبَابِ). {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} يعني: القرآن. {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}. [11] {رَسُولًا} هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: بعث رسولًا، لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول. {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} صفة (رَسُولًا). قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مُبَيِّنَاتٍ) بكسر الياء، والباقون: بفتحها (¬1)، ثم علل الإنزال والإرسال، فقال: {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر {إِلَى النُّورِ} الإيمان. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 162)، و"الكشف" لمكي (1/ 383)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 170).

[12]

{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (نُدْخِلْهُ) بالنون، والباقون: بالياء (¬1). {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ} حال {فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أي: ما أحسنَ ما رزقه الله! يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}. [12] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} مبتدأ وخبر. {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} في العدد، ونصبه عطف (¬2) على (سَبْعَ) أي: وخلق من الأرض مثلَهن، قيل: ليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية، وفي التفسير بين كل سماءين مسيرة خمس مئة عام، وكذلك غلظ كل سماء، والأرضون مثل السموات. {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى، ثم علل الخلق والتنزيل فقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} فلا يخفى عليه شيء، وهو عموم على إطلاقه، ونصب (عِلْمًا) على المصدر المؤكد؛ لأن المعنى: وأن الله قد علم كل شيء علمًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 639)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 248)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 170 - 171). (¬2) "عطف" زيادة من "ت".

سورة التحريم

سورة التحريم مدنية بالإجماع، وآيها: اثنتا عشرة آية، وحروفها: ألف ومئة وستون حرفًا، وكلمها؛ مئتان وسبع وأربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}. [1] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خلا بسُرِّيته مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس ملك مصر في بيت حفصة، وقد مرت لزيارة أبيها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فجاءت حفصة، فوجدتهما، فأقامت خارج البيت حتى أَخرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مارية، وذهبت، فدخلت حفصة غَيْرى متغيرة، فقالت: يا رسول الله! أما كان في نسائك أهون عليك مني؟ في بيتي وعلى فراشي! فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متراضيًا لها: "هي حرامٌ عليَّ"، وقال مع ذلك: "والله لا أطؤها أبدًا، فلا تخبري عائشة"، وقال: "أبوك وأبو عائشة الخليفتان بعدي" (¬1)، ثم إن حفصة -رضي الله عنها- قرعت ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12640)، والدارقطني في "سننه" (4/ 153)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما باختلاف يسير.

الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها لتسرها بالأمر، ولم تر في إفشائها إليها حرجًا، واستكتمتها، فأوحى الله بذلك إلى نبيه ونزل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيّ} (¬1) تقدم مذهب نافع في المد والهمز في أول سورة الطلاق. {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}. وقيل: شرب عسلًا عند حفصة، فواطأت عائشة سودة وصفية، فقلن له: إنا نشم منك ريحَ المغافير (¬2) -وهو صمغ له ريح منكرة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يشتد عليه أن يُشم منه ما يكره، فحرم العسل، فنزلت. قال ابن عطية (¬3): والقول الأول أن الآية نزلت بسبب مارية أصحُّ وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية (¬4). فإذا قال الرجل لزوجته: أنت عليَّ حرام، أو ما أحلَّ اللهُ عليَّ حرامٌ، فقال أبو حنيفة: هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد الطلاق، فليس بشيء، وقال مالك: هو ثلاث في المدخول بها، وينوي في غير المدخول بها، فهو ما أراد من الواحدة أو الاثنتين أو الثلاث، ومتى حرم مالًا أو جارية دون أن يعتق، أو يشترط عتقًا أو نحو ذلك، فليس تحريمه بشيء، وقال الشافعي: إن نوى طلاقًا أو ظهارًا، حصل، أو نواهما، تخير، وثبت ما اختاره، وإن ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 424). (¬2) رواه البخاري (4628)، كتاب: التفسير، باب: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، ومسلم (1474)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 330). (¬4) "في الآية" زيادة من "ت".

[2]

نوى تحريم عينها، لم تحرم عليه (¬1)، وعليه كفارة يمين، وكذا إن لم تكن له نية، وإن قاله لأمة، ونوى عتقًا، ثبت، أو تحريمَ عينها، أو لا نية فكالزوجة، وقال أحمد: هو ظهار مطلقًا، ولو نوى الطلاق أو اليمين؛ لأنه صريح في الظهار، فلو قاله لأمته، أو أم ولده، فعليه كفارة يمين كما تقدم في سورة المجادلة في حكم الظهار. {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} تفسير لـ (تُحَرِّمُ)، والمرضاة مصدر كالرضا؛ أي: تبتغي رضاهن بتحريم المحلَّل، وليس لأحد تحريم ما أحل. قرأ الكسائي: (مَرْضَاتَ) بالإمالة، ووقف عليها بالهاء (¬2). {وَاللَّهُ غَفُورٌ} سَتور للذنب {رَحِيمٌ} عطوف بالرحمة، غفر تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ما عاتبه، ورحمه. {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}. [2] ثم أمره أن يكفِّر عن يمينه، فقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ} أي: بَيَّنَ {اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ} أي: تحليل {أَيْمَانِكُمْ} وهو الكفارة، وتقدم حكمها مستوفىً في سورة المائدة. {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ} ناصركم {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بما يصلحكم {الْحَكِيمُ} في أفعاله. ¬

_ (¬1) "عليه" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 419)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 175).

[3]

{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)}. [3] {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ} أي: واذكر يا محمد ذلك على جهة التأنيب والتعتب لهن. {إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما. واختلاف القراء في الهمزتين من (النَّبِيءُ إِلَى) كاختلافهم فيهما من (يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذَا) أول سورة الطلاق [الآية: 1] {حَدِيثًا} هو تحريم مارية، وخلافة أبي بكر وعمر. {فَلَمَّا نَبَّأَتْ} حفصةُ {بِهِ} عائشةَ {وَأَظْهَرَهُ} أطلعه {اللَّهُ عَلَيْهِ} بوحي منه. {عَرَّفَ بَعْضَهُ} قرأ الكسائي: (عَرَفَ) بتخفيف الراء؛ أي: عرف بعضَ الفعل الذي فعلته من إفشاء سره؛ أي: غضب من ذلك، وجازاها عليه بأن طلقها، فلما بلغ ذلك عمر، قال: "لو كان في آل الخطاب خيرٌ لما طلقك رسول الله"، فأمره الله على لسان جبريل بمراجعتها (¬1). وقرأ الباقون: بتشديد الراء (¬2)، أي: أعلم به، وأَنَّبَ عليه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 426)، و"تفسير القرطبي" (18/ 187). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 640)، و"التيسير" للداني (ص: 212)، و"تفسير البغوي" (4/ 425 - 426)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 175 - 176).

[4]

{وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} هو أمر الخلافة؛ لئلا يشتهر. {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي: نبأ حفصة بالخبر، وأنها أفشته إلى عائشة، ظنت أن عائشة فضحتها، فَثَمَّ {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} على جهة التثبت {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}. {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)}. [4] فلما أخبرها أن الله أخبره، سكتت، وسلمت، واعتزل - صلى الله عليه وسلم - نساءه للحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة، وحلف ألَّا يدخل عليهن شهرًا، فلما ذهب تسع وعشرون ليلة، بدأ بعائشة، فقالت: أقسمتَ أنك لا تدخل شهرًا، وإنما أصبحتَ من تسع وعشرين، فقال: "الشهر تسع وعشرون ليلة" (¬1)، وكان الشهر تسعًا وعشرين ليلة. {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} خطاب لحفصة وعائشة من التعاون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإيذاء. {فَقَدْ صَغَتْ} مالت {قُلُوبُكُمَا} أي: وُجد منكما ما يوجب التوبة بأن سَرَّكما ما كرهه النبي - صلى الله عليه وسلم - من تحريم مارية، وجمع القلوب؛ لئلا يجمع بين تثنيتين في كلمة؛ فرارًا من اجتماع المتجانسين، وربما جمع، وتقديره: إن تبتما، قُبلت توبتكما. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4895)، كتاب: النكاح، باب: موعظة الرجل ابنته، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، ومسلم (1083)، كتاب: الصيام. باب الشهر يكون تسعًا وعشرين، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

[5]

{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} قرأ الكوفيون: بتخفيف الظاء، والباقون: بتشديدها (¬1)، ومعناهما: تتعاونا على إيذائه. {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} أي: ناصره {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} عطفًا على الضمير في (مَوْلاَهُ) (وَصَالح الْمُؤْمِنِينَ) واحد يُراد به الجمع، وهم من صلح من المؤمنين. قرأ ابن كثير: (جَبْرِيلُ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز (¬2)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة، وقرأ أبو بكر عن عاصم كذلك، إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة، وقرأ الباقون: بكسر الجيم والراء من غير همز. {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير} أعوان، المعنى: كلُّ المذكورين ينصرون محمدًا ويعينونه، وتخصيص جبريل لتعظيمه. {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}. [5] {عَسَى رَبُّهُ} و (عسى) تكون للوجوب في ألفاظ القرآن إلا في موضعين: أحدهما في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - (فَهَلْ عَسَيْتُمْ)؛ أي: علمتم وتمنيتم، والثاني: هنا ليس بواجب؛ لأن الطلاق معلق بالشرط، فلما لم يوجد الشرط، لم يوجد التبديل. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 94)، و"تفسير البغوي" (4/ 429)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 176). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 640)، و"التيسير" للداني (ص: 75)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 177).

{إِنْ طَلَّقَكُنَّ} رسولُه {أنَّ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} قرأ أبو عمرو: (طَلَّقكُنَّ) بإدغام القاف في الكاف، والباقون: بالإخلاص، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (يُبَدِّلَهُ) بفتح الباء وتشديد الدال، والباقون: بإسكان الباء وتخفيف الدال (¬1). {مُسْلِمَاتٍ} خاضعات له بالطاعة {مُؤْمِنَاتٍ} مخلصات {قَانِتَاتٍ} طائعات {تَائِبَاتٍ} عن الذنوب {عَابِدَاتٍ} متذللات لأمر الرسول {سَائِحَاتٍ} صائمات. {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} أي: مشتملات على الثيبات والأبكار، والآية واردة في الإخبار عن القدرة، لا عن الكون في الوقت؛ لأنه تعالى قال: {إِنْ طَلَّقَكُنَّ}، وهو علم أنه لا يطلقهن، وهذا كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، فهذا إخبار عن القدرة، وتخويف لهم؛ لأنه ليس في الوجود خير من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. روي عن أنس بن مالك: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا رسول الله! لا تكترثْ بأمر نسائك، والله معك، وجبريل معك، وأبو بكر معك، وأنا معك"، فنزلت الآية موافقة نحوًا من قول عمر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 640)، وقراءة (يبدله) في "التيسير" للداني (ص: 145)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 314)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 178). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 332)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 287). وأصله في "الصحيح".

[6]

وروي أيضًا: أن عمر قال الزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن"، فنزلت الآية على نحو قوله (¬1). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)}. [6] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا} جَنِّبوا. {أَنْفُسَكُمْ} بترك المعاصي {وَأَهْلِيكُمْ} بالنصح والتأديب. {نَارًا وَقُودُهَا} حطبها (¬2) {النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وهي حجارة الكبريت، وقيل: الأصنام، وقرن الناس بالحجارة؛ لأنهم نحتوها واتخذوها أربابًا من دون الله، وقيل من النار نوع لا يتقد إلا بالناس والحجارة كاتقاد هذه النار بالحطب. {عَلَيْهَا} ولاة يعذبون بها الناس {مَلَائِكَةٌ} هم الزبانية {غِلَاظٌ} فظاظ على أهل النار {شِدَادٌ} أقوياء، بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يضرب أحدهم بمقمعته ضربة واحدة سبعين ألفًا، فيهوون في النار. {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} به {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} بمحبة وإسراع، وهذه الآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4632)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}. (¬2) "حطبها" زيادة من "ت".

[7]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)}. [7] ويقال للكفار عند دخولهم النار {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ونهيهم عن الاعتذار؛ لأنه لا عذر لهم. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)}. [8] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} هي ألَّا يعود إلى الذنب. قرأ أبو بكر عن عاصم: (نُصُوحًا) بضم النون، مصدر كالقعود، وقرأ الباقون: بفتحها (¬1)، مصدر واسم فاعل بمعنى ناصحة، وصف التوبة بالنصح مجازًا، وإنما هو وصف للتائبين؛ لأنهم ينصحون نفوسهم. {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ترجية، وروي أن (عَسَى) هنا للوجوب. {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} عطف على {يُكَفِّرَ}. {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} ظرف لـ (يُدْخِلَكُم) {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} عطف على (النبي). {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} على الصراط. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 641)، و"التيسير" للداني (ص: 212)، و"تفسير البغوي" (4/ 430)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 178 - 179).

[9]

{يَقُولُونَ} إذا طَفِئَ نْور المنافقين: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يقولون ذلك إشفاقًا على عادة البشرية. وعن الحسن: مُتَمِّمة لهم، ولكنهم يدعون تقربًا إلى الله؛ كقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، وهو مغفور له. {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)}. [9] {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف {وَالْمُنَافِقِينَ} بالحجة وإقامة الحدود {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} في ذلك {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} جهنمُ. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)}. [10] {ضَرَبَ} أي: مَثَّلَ {اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ} واسمها واعلة {وَامْرَأَتَ لُوطٍ} واسمها واهلة. {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ} أي: زوجيهما {مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} هما نوح ولوط عليهما السلام. {فَخَانَتَاهُمَا} بأن أشركتا، لا في الفراش، فقد روي: ما زنت امرأة

[11]

نبي قط (¬1)، وخيانتهما أن كانت امرأة نوح تقول: إنه مجنون، وامرأة لوط تدل على أضيافه. {فَلَمْ يُغْنِيَا} أي: زوجاهما {عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ} أي: من عذابه. {شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} الكافرين من أمة نوح ولوط، قطع الله بهذه الآية طمع من يركب المعصية أن ينفعه صلاحُ غيره. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. [11] ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} واسمها آسية بنت مزاحم. {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} قريبًا من رحمتك، وذلك أنها آمنت، فعلم فرعون، فأوتد يدها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقى على صدرها رحى عظيمة (¬2)، واستقبل بها الشمس، فقالت: {رَبِّ ابنِ لِى عِندَكَ بها فِى الجَنَّةِ}، فكشف لها فرأت بيتها، فسهل الله عليها تعذيبها (¬3)، وفي معنى ¬

_ (¬1) جاء من قول ابن عباس وغير واحد من السلف، كما ذكر ابن كثير في "تفسيره" (2/ 449). (¬2) "عظيمة" زيادة من "ت". (¬3) رواه أبو يعلى في "مسنده" (6431)، عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 218): رجاله رجال الصحيح.

[12]

قولها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}، من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: الجارُ قبلَ الدار. {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} هو الكفرُ، وتعذيبه إياها. {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} القبط. {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}. [12] {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} عطف على (امرأةَ فرعون) تسلية للأرامل. وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (امْرَأَة) و (ابْنَهْ) بالهاء في الأحرف الأربعة، وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (عِمْرَانَ) بالإمالة (¬1). {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} من الرجال {فَنَفَخْنَا فِيهِ} أي: الفرج. {مِنْ رُوحِنَا} والمراد: قولُ جبريل -عليه السلام- لها: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} الآية [مريم: 19]. {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} شرائعه، و (بِكَلِمَةِ رَبِّهَا)؛ أي: بعيسى، والتلاوة بالأول {وَكُتُبِهِ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم: بضم الكاف والتاء بغير ألف على الجمع؛ أي: كتبه المنزلة على إبرإهيم وموسى وداود وعيسى عليهم السلام، وقرأ الباقون: بكسر الكاف وفتح ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 419)، الإمالة في "غيث النفع" للصفاقسي (ص: 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 179).

التاء وألف بعدها على التوحيد (¬1)، والمراد: جنس الكتب المنزلة. {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} المطيعين لربها، ولم يقل: من القانتات؛ لأن القنوت يعم الذكر والأنثى، فغلب الذكر. قال - صلى الله عليه وسلم -: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسيةُ بنتُ مزاحِم امرأةُ فرعون، ومريمُ بنتُ عمران، وخديجةُ بنتُ خويلد، وفاطمةُ بنتُ محمد، وفضل عائشةَ على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 641)، و"التيسير" للداني (ص: 212)، و"تفسير البغوي" (4/ 432)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 389)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 180 - 181). (¬2) رواه البخاري (3230)، كتاب: الأنبياء، باب قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا} ومسلم (2431)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل خديجة رضي الله عنها، من حديث أبي موسى الأشعري، بلفظ: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقد رواه الثعلبي في "تفسيره" (9/ 353) من حديث أبي موسى رضي الله عنه باللفظ الذي ذكره المصنف رحمه الله.

سورة الملك

سورة الملك مكية، وتسمى: الواقية، والمنجية؛ لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر، آيها: ثلاثون آية، وحروفها: ألف وثلاث مئة وثلاثة عشر حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وخمس وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}. [1] {تَبَارَكَ} تقدم تفسيره أول سورة الفرقان. {الَّذِي بِيَدِهِ} أي: في تصرفه {الْمُلْكُ} السلطان والقدرة. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عموم، والشيء معناه في اللغة: الموجود. {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)}. [2] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} هما معنيان يتعاقبان جسمَ الحيوان، يرتفع أحدهما بحلول الآخر.

[3]

{لِيَبْلُوَكُمْ} أي: جعل لكم هاتين الحالتين ليعاملكم معاملة المختبِر. {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أخلصُه وأسرعُ إلى الطاعة؛ لأنه لا يُقبل عمل حتى يكون خالصًا لله. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قلت: يا رسول الله! ما معنى قوله تعالى {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}؟ فقال: "يقول: أيكم أحسن عقلًا، وأشدكم لله خوفًا، وأحسنكم في أمره ونهيه نظرًا، وإن كانوا أقلَّكم تطوعًا" (¬1). وقدم الموت في اللفظ؛ لأنه أدعى إلى حسن العمل؛ لتقدمه في النفس هيئة وغلظة. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب {الْغَفُورُ} لمن تاب. {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)}. [3] وتبدل من {الَّذِي} قبلُ {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} متطابقات بعضها فوق بعض، متباينات بلا علاقة ولا عماد ولا مماسة، وطباقًا: مصدر؛ أي: طُبقت طباقًا. ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" (9/ 355). وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 337).

[4]

{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} اختلاف. قرأ حمزة، والكسائي: (تَفَوُّتٍ) بضم الواو مشددة من غير ألف، وقرأ الباقون: بألف بعد الفاء وتخفيف الواو، وهما لغتان؛ كالتحامُل والتحمُّل (¬1). {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} كَرِّرْه إلى السماء؛ لتستيقن إحكامَ خلقهن. {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} صدوع. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشام عن ابن عامر: (هَل تَّرَى) بإدغام اللام في التاء، والباقون: بالإظهار (¬2). {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}. [4] {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} كرةً بعد كرة، ودققه؛ لترى خللًا، وجواب الأمر: {يَنْقَلِبْ} يرجع {إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} ذليلًا مبعَدًا عن إدراك خلل ما. قرأ أبو جعفر: (خَاسِيًا) بنصب الياء منونًا من غير همز، والباقون: بالهمز (¬3). {وَهُوَ حَسِيرٌ} منقطع، لم يدرك ما طلب. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 644)، و"التيسير" للداني (ص: 212)، و"تفسير البغوي" (4/ 436)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 185). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 420)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 185). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 186).

[5]

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)}. [5] {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} القُربى إلى الأرض. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وهشام: (وَلَقَد زَّيَّنَّا) بإدغام الدال في الزاي، والباقون: بالإظهار (¬1). {بِمَصَابِيحَ} بنجوم، سميت بذلك؛ لإضاءتها كالمصباح؛ لأنها زينة السماء. {وَجَعَلْنَاهَا} أي: النجومَ {رُجُومًا} جمع رجم؛ أي: مرامي {لِلشَّيَاطِينِ} يُرجمون بها عند استراق السمع، فينفصل الشهاب عن الكوكب كالقبس يؤخذ من النار، والنارُ مكانها، فيقتل الجني، ويخبله، ولا يزول الكوكب عن مكانه. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر، فمن قال غير ذلك، فقد تكلف ما لا علم له به (¬2). {وَأَعْتَدْنَا} أي: أعددنا {لَهُمْ} يعني: الشياطين. {عَذَابَ السَّعِيرِ} في الآخرة، واحتراقهم (¬3) بالشهب في الدنيا. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 420)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 186). (¬2) ذكره البخاري في "صحيحه" (3/ 1168) معلقًا. ورواه الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 489) بإسناده إلى عبد بن حميد في "تفسيره". (¬3) في "ت": "بعد إحراقهم".

[6]

{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)}. [6] {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} من الشياطين وغيرهم {عَذَابُ جَهَنَّمَ} ورفع (عَذَابُ) (¬1) خبر مبتدؤه (وَلِلَّذِينَ). {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تضمنت هذه الآية عذاب جهنم للكفار المخلدين، وقد جاء في الأثر: "أنه يمر على جهنم زمنٌ تخفق أبوابها قد أَخْلَتْها الشفاعة" (¬2)، فالذي في هذه الآية في جهنم بأسرها؛ أي: جميع الطبقات، والتي في الأثر هي الطبقة العليا؛ لأنها مقر العصاة. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)}. [7] {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا} في جهنم (¬3) {سَمِعُوا لَهَا} لأهلها. {شَهِيقًا} هو أقبح ما يكون من صوت الحمار {وَهِيَ تَفُورُ} غليانًا. {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)}. [8] {تَكَادُ تَمَيَّزُ} تنشَقُّ {مِنَ الْغَيْظِ} على الكفار. قرأ البزي عن ابن ¬

_ (¬1) "ورفع عذاب" زيادة من "ت". (¬2) كذا ذكره الثعالبي في "تفسيره" (4/ 321)، وابن عطية في "المحرر الوجيز" (5/ 339). ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (7969)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 360): فيه جعفر بن الزبير وهو ضعيف. (¬3) "في جهنم" زيادة من "ت".

[9]

كثير: {تَكَاد تَّمَيَّزُ} بتشديد التاء على أنها تتميز، وأدغم إحدى التاءين في الأخرى، وقرأ أبو عمرو: بإدغام الدال في التاء (¬1). {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} طائفةٌ {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} توبيخًا لهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} رسول يخوفكم هذا العذاب. {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)}. [9] {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} الرسل {وَقُلْنَا} لهم: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} وفرطنا في التكذيب حتى نفينا (¬2) الإنزال والإرسال. {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} أي: وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار حين أخبروا عن أنفسهم أنهم كذبوا الرسل. {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)}. [10] {وَقَالُوا} يعني: الكفارُ للخزنة في محاورتهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} سماعَ من يعي الحقَّ {أَوْ نَعْقِلُ} عقلًا يُنتفع به، ونعي شيئًا، لآمَنَّا، و {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} المستوجبين الخلودَ فيه. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 371)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 420)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 186). (¬2) في "ش": "نسينا"، والمثبت من "ت".

[11]

{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}. [11] {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} حيث لا ينفع الاعتراف {فَسُحْقًا} نصب على جهة الدعاء عليهم {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي: أبعدَهم الله بعدًا عن رحمته. قرأ الكسائي، وأبو جعفر بحلاف عن الثاني: (فَسُحُقًا) بضم الحاء، والباقون: بإسكانها، وهما لغتان مثل: الرعْب والرعُب (¬1). {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}. [12] {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: إذا غابوا عن الناس في خلواتهم. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} الجنة. {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)}. [13] ولما كان المشركون ينالون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيخبره جبريل بما قالوا، قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع إله محمد، فنزل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬2) بالضمائر دون أن ينطق، فكيف إذا نطق به سرًّا أو جهرًا؟ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 212)، و"تفسير البغوي" (4/ 437)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 217)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 187). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 437)، و"تفسير القرطبي" (18/ 214).

[14]

{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}. [14] {أَلَا يَعْلَمُ} السرَّ والجهرَ {مَنْ خَلَقَ} أي: أوجدَ الأشياءَ. {وَهُوَ اللَّطِيفُ} العالم بما ظهر من خلقه (¬1) وما بطن {الْخَبِيرُ} بهم وبأعمالهم. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}. [15] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} مذللة لينة {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} جوانبها. {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} الذي خلقه لكم، أمر إباحة {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} المرجع. {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)}. [16] ثم خوَّف الكفار فقال: {أَأَمِنْتُمْ} قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر، وقالون، ورويس، والأصبهاني عن ورش: (أَأَمِنْتُمْ) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية بين الهمزة والألف، واختلف عن الأزرق عن ورش في إبدالها ألفًا خالصة، وتسهيلها بين بين، واختلف عن هشام في تسهيلها بين بين، وتحقيقها، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزتين، وهم الكوفيون، وابن ذكوان، وروح، وفصل بين الهمزتين بألف: أبو عمرو، ¬

_ (¬1) "من خلقه" زيادة من "ت".

[17]

وأبو جعفر، وقالون، واختلف عن هشام، وقرأ الباقون: بغير فصل، ممن حقق الثانية أو سهلها، وقنبل راوي ابن كثير خالف أصله في هذا الحرف، فأبدل الهمزة الأولى منهما واوًا؛ لضم راء (النُّشُورُ) قبلها، فإذا وصل، قرأ بواو مفتوحة مع المد، واختلف عنه في الهمزة الثانية، فروي عنه تسهيلها، وروي تحقيقها، وأما إذا ابتدأ، فإنه يحقق الأولى، ويسهل الثانية على أصله (¬1). {مَنْ فِي السَّمَاءِ} وهذا المحل من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، نؤمن به ولا نتعرض إلى معناه، ونكل العلم فيه إلى الله، قال ابن عباس: "أأمنتم عَذَابَ مَنْ في السماء إن عصيتموه" (¬2). {أَنْ يَخْسِفَ} يغوِّرَ {بِكُمُ الْأَرْضَ} كما فعل بقارون. {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} تذهب وتجيء مضطربة. {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)}. [17] {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} ريحًا ذاتَ حجارة كما فعل بقوم لوط. واختلاف القراء في الهمزتين من (السَّمَاءِ أَنْ) في الحرفين كاختلافهم فيهما من (هَؤُلاَءِ آلِهَةً) في سورة الأنبياء [الآية: 99]. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 644)، و"التيسير" للداني (ص: 212)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 420)، و "معجم القراءات القرآنية" (7/ 188). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 438).

[18]

{فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} إنذاري إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم العلم. {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)}. [18] {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قبل كفار مكة من الأمم الماضية. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري عليهم بالعذاب، وهو تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتهديد لقومه. قرأ ورش عن نافع: (نَذِيرِي) و (نَكِيرِي) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ يعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (¬1). {أوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}. [19] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} المراد: جنس الطيور {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} باسطاتٍ أجنحتَها في الجو عند طيرانها كالسابح في الماء {وَيَقْبِضْنَ} أجنحتها بعدَ البسط. {مَا يُمْسِكُهُنَّ} عن الوقوع عند القبض والبسط {إلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} المعنى: ألم يستدلوا على القدرة بثبوت الطير في الهواء؟! ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 213)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 389)، و"معجم القراءات القرآنية" (2/ 189).

[20]

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)}. [20] ثم استفهم منكرًا فقال: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} إن أرسل عليكم عذابه {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} الشيطانُ يغرهم. {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}. [21] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ} اللهُ {رِزْقَهُ} عنكم باحتباس المطر وغيره من الأسباب؟ فلما لم يتعظوا، أضرب عنهم فقال: {بَلْ لَجُّوا} تمادَوْا {فِي عُتُوٍّ} تكبر {وَنُفُورٍ} تباعُد عن الإيمان. {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}. [22] ثم ضرب مثلًا فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا} واقعًا. {عَلَى وَجْهِهِ} يعثر كل ساعة؛ لوعورة طريقه. {أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} قائمًا سالمًا من العِثار. {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهذا مثل للمؤمن والكافر. {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)}. [23] {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُم} خلقكم {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} لتسمعوا

[24]

المواعظ {وَالْأَبْصَارَ} لتنظروا صنائعه {وَالْأَفْئِدَةَ} لتتفكروا وتعتبروا. {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} فيه قولان: أحدهما: شكركم قليل، والثاني: لا تشكرونه قليلًا ولا كثيرًا. {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}. [24] {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم {فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تبعثون يوم القيامة. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)}. [25] {وَيَقُولُونَ} يعني الكفار للمؤمنين استهزاء: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالعذاب. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تعدوننا به؟ {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)}. [26] {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا الْعِلْمُ} أي: علم وقته {عِنْدَ اللَّهِ} لا يعلمه غيره. {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} والنذير يُعَلِّمُ ما عُلِّم، ويخبر بما أُمر أن يُخبر به.

[27]

{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}. [27] {فَلَمَّا رَأَوْهُ} هذه حكاية حال تأتي، المعنى: فإذا رأوه. {زُلْفَةً} قريبًا منهم، يعني: عذاب الآخرة. {سِيئَتْ} قَبُحت واسودَّت (¬1) {وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وبانَ عليها الكآبةُ. {وَقِيلَ} أي: قال الخزنة لهم: {هَذَا} العذابُ. {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: كنتم بسببه تَدَّعون؛ أي: تتمنون أن يُعجل لكم؛ لاعتقادكم أنكم لا تبعثون. قرأ الكسائي، وهشام عن ابن عامر، ورويس عن يعقوب: (سِيَئْت) (وَقِيلَ) بإشمام السين والقاف الضم، وافقهم نافع، وأبو جعفر، وابن ذكوان عن ابن عامر في (سِيئَتْ)، وقرأ الباقون: بإخلاص الكسر فيهما (¬2)، وقرأ يعقوب: (تَدْعُونَ) بإسكان الدال مخففة، والباقون: بفتحها مشددة، ومعناهما واحد (¬3). ¬

_ (¬1) "واسودت" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 125)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 208)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 190 - 191). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 439)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 389)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 191).

[28]

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)}. [28] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} أماتني {وَمَنْ مَعِيَ} من المؤمنين. {أَوْ رَحِمَنَا} بتأخير آجالنا. {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} المعنى: نحن مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم أنتم مع كفركم؟ أي: لا ينجيكم أحد من العذاب، متنا أو بقينا. قرأ حمزة: (أَهْلَكَنِي اللهُ وَمَنْ مَعِي) بإسكان الياء فيهما، وافقه في الثاني: الكسائي، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وقرأ الباقون: بالفتح فيهما (¬1). ... {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)}. [29] {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ} الذي نعبده {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} وثوقًا به. {فَسَتَعْلَمُونَ} عند معاينة العذاب {مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} منا ومنكم. قرأ الكسائي: (فَسَيَعْلَمُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب، واتفقوا على الأول أنه بالخطاب، وهو (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)؛ لاتصاله بالخطاب (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 645)، و "التيسير" للداني (ص: 213)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 389)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 192). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 644)، و"التيسير" للداني (ص: 212)، =

[30]

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}. [30] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} غائرًا في الأرض لا تصلون إليه. {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} جارٍ ظاهرٍ تراه العيون، وتناله الأيدي. حكي أن بعض المتجبرين تُليت عنده هذه الآية، فقال: يأتي به رؤوس المعاول، فذهب ماء عينيه، وعمي، فسمع هاتفًا يقول: قد أغرناها، فاستعمل الآن رؤوس المعاول. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن سورةً من كتاب الله تعالى ما هي إلا ثلاثون آية شَفَعَتْ لرجل، فأخرجته يوم القيامة من النار، وأدخلته الجنةَ، وهي سورةُ تبارك" (¬1)، والله أعلم. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (4/ 440)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 192). (¬1) رواه أبو داود (1400)، كتاب: الصلاة، باب: في عدد الآي، والترمذي (2891)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل سورة الملك، وقال: حسن، وابن ماجه (3787)، كتاب: الأدب، باب: ثواب القرآن، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

سورة ن والقلم

سُوْرَةُ ن وَالْقَلَمِ مكية، وآيها اثنتان وخمسون آية، وحروفها: ألف ومئتان وستة وخمسون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (¬1)}. [1] {ن} قرأ الكسائي، ويعقوب، وخلف، وهشام عن ابن عامر: بإدغام النون الذي هو آخر نون في الواو بغنة؛ إجراء للواو المنفصل مجرى المتصل؛ فإن النون الساكنة تخفى مع حروف (¬2) الفم إذا اتصلت بها، واختلف عن ورش، وعاصم، والبزي، وابن ذكوان، وقرأ الباقون: بالبيان للنون عند الواو، وهم: أبو عمرو، وحمزة، وأبو جعفر، وقالون، وورش (¬3)، وأبو جعفر على أصله يقف على (ن) (¬4). واختلف في (ن)، فقال الجمهور من المفسرين: هو حرف مقطوع، ¬

_ (¬1) "والقلم" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "نون". (¬3) في "ت": "وقنبل". (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 646)، و"التيسير" للداني (ص: 183)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 18)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 195).

[2]

فيدخله من الاختلاف ما يدخل في أوائل السور، ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، والسدي، والكلبي: إنه الحوت الأعظم الذي تحت الأرضين السبع، واسمه يهموت (¬1). {وَالْقَلَمِ} الذي كتب به اللوح المحفوظ {وَمَا يَسْطُرُونَ} أي: ما يكتبون: الملائكةُ الحفظةُ من أعمال بني آدم. ... {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)}. [2] وهو قسم جوابه: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} بإنعامه عليك بالنبوة {بِمَجْنُونٍ} وهو جواب لقولهم: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، فأقسم الله بالنون والقلم، وما يكتب به الأعمال إنه ليس مجنونًا، وقد أنعم عليه بالنبوة والحكمة. ... {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)}. [3] {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا} بصبرك على افترائهم. {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: مقطوع. ... {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}. [4] {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وسمي خلقه - صلى الله عليه وسلم - عظيمًا؛ لامتثاله ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" (4/ 441)، وابن عطية في "المحرر الوجيز" (5/ 345). وقال أبو حيان في "البحر المحيط" (8/ 301) بعد ذكره لهذه الأقوال: لا يصح شيء من ذلك، انتهى.

تأديبَ الله تعالى، والخلق العظيم يجتمع فيه مكارم الأخلاق، وهي تجتمع في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمره الله بمكارم الأخلاق في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فأمره بتوبة آدم، وشكر نوح، ووفاء إبراهيم، ووعد إسماعيل، وحلم إسحاق، وحسن ظن يعقوب، واحتمال يوسف، وصبر أيوب، وإنابة داود، وتواضع سليمان، وإخلاص موسى، وعبادة زكريا، وعصمة يحيى، وزهد عيسى، ففعلها، وهي من مكارم الأخلاق، فأثنى الله عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. وسئلت عائشة عن خلقه، فقالت: "كان خلقُه القرآن" (¬1). عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: "خياركم أحاسنُكم أخلاقًا" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا ضرب خادمًا ولا امرأة" (¬3). وعنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (¬4): "إن المؤمنَ يدرك بحسن خلقه درجةَ قائم الليل وصائم النهار" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (746)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، بلفظ فيه: ... فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن". (¬2) رواه البخاري (5688)، كتاب: الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء، ومسلم (2321)، كتاب: الفضائل، باب: كثرة حيائه - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (9163)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 229)، وابن حبان في "صحيحه" (488). (¬4) "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيادة من "ت". (¬5) رواه أبو داود (4798)، كتاب: الأدب، باب: في حسن الخلق.

[5]

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)}. [5] ونزل وعدًا له - صلى الله عليه وسلم - ووعيدًا لهم: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} فستعلم يا محمد، ويعلمون إذا نزل بهم العذاب. ... {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}. [6] {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} بأي الجانبين الجنون: بجانب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أم بجانب أبي جهل وأصحابه؟ ... {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)}. [7] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} وهو المجنون حقيقة. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} الفائزين بكمال العقل. ... {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)}. [8] ثم عطف بعد مدحه على ذم عدوه، وذكر سوء خلقه، وعدَّ معايبه، فذكر بضع عشرة خصلة من خصال الذم فيه بقوله (¬1): {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} يعني: قريشًا. ¬

_ (¬1) "بقوله" زيادة من "ت".

[9]

{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}. [9] وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو عبدتَ آلهتنا وعظمتها، لعبدنا آلهتك وعظمناها، فأُمر بالتصميم على معاداتهم. {وَدُّوا} تمنَّوْا {لَوْ تُدْهِنُ} تَلين وتُصانعهم في دينك. {فَيُدْهِنُونَ} فيلاينونك بترك الطعن، ورفع (فَيُدْهِنُونَ) وإن كان جواب التمني؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهم يدهنون، وفي بعض المصاحف: (فَيُدْهِنُوا) بلا نون. ... {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)}. [10] {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} كثيرِ الحلف، وهذا نهي عن طاعة من يجترئ على الله تعالى، وكثرة الأيمان منهي عنه {مَهِينٍ} ضعيف الرأي والعقل. ... {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)}. [11] {هَمَّازٍ} مغتاب عياب للناس {مَشَّاءٍ} بين الناس {بِنَمِيمٍ} ينقل الكلم على وجه الإفساد، وهذه الأوصاف هي أجناس، لم يُرَدْ بها رجل بعينه، وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في الأخنس بن شريق، وقيل: في أبي جهل، وقيل: عتبة بن ربيعة، وقيل: الأسود بن عبد يغوث (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 447).

[12]

قال ابن عطية: وظاهر اللفظ عموم من بهذه الصفة، والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمن، لا سيما لولاة الأمور (¬1). ... {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)}. [12] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْر} شحيح بالمال والأفعال الصالحة. {مُعْتَدٍ} متجاوز لحدود الأشياء. روي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء على (مُعْتَدِي) {أَثِيمٍ} آثم من حيث أعماله قبيحة تكسب الإثم. ... {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)}. [13] {عُتُلٍّ} غليظ جافي سيء الخلق {بَعْدَ ذَلِكَ} الذي وصفناه به، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف، لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا، فكونه عتلًا هو قبل كونه صاحب خير يمنعه. {زَنِيمٍ} معلَّق بالقوم وليس منهم. ... {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)}. [14] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (أَنْ كَانَ) بهمزة واحدة على الخبر، أي: إذا كان، ومعناه: لا تطعه مع هذه المثالب ليساره، وقرأ الباقون: بهمزتين على الاستفهام، وهم على أصولهم، فحقق الهمزتين ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 347)، وعنده: "عموم من هذه صفته".

[15]

على الأصل: حمزة وروح عن يعقوب، وأبو بكر عن عاصم، وحقق الأولى وسهل الثانية تخفيفًا: ابنُ عامر، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب، وفصل بينهما بألف: أبو جعفر، وهشام، واختلف عن ابن ذكوان (¬1)، ولهذه القراءة وجهان: أحدهما معناه: لأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ يدل على المحذوف؛ (وَلاَ تُطِعْ) قبلُ، والوجه الآخر: ألأن كان ذا مال وبنين؟ ... {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)}. [15] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} كذَّبَ بالقرآن، و {قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أكاذيبهم، ورفعها بإضمار (هي) (¬2) أي: جعل مجازاة النعم التي خُوِّلها من البنين والمال الكفرَ بآياتنا. ... {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}. [16] ثم ختم ذلك بالوعيد الصادق بتمام شقائه بقوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنسوِّدُ وجهه، أو نكويه، والخرطوم: هو الأنف؛ ليكون له علمًا يعرف به؛ لأن الكافر يسود وجهه يوم القيامة، وخص الأنف بالذكر؛ لأن الوسم عليه أبشع، وقيل: أبو جهل خُطم أنفه بالسيف يوم بدر (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 213)، و"تفسير البغوي" (4/ 448 - 449) , و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 367)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 196 - 197). (¬2) في "ت": "هم". (¬3) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 593).

[17]

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)}. [17] {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع. {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} بستان يقال له: ضروان باليمن دون صنعاء بفرسخين، كان لرجل، وكان إذا جذَّهُ، ترك ما يتعداه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وينتثر عند الدياس للمساكين، فمات، فخلفه بنوه فيها، فاحتالوا لمنع حق الفقراء بخلًا منهم. {إِذْ أَقْسَمُوا} حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا} ليقطعن ثمارها وزرعها {مُصْبِحِينَ} في أول الصبح آخر جزء من الليل خفيةً على المساكين. ... {وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)}. [18] {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} لا يقولون: إن شاء الله. ... {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)}. [19] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ} بلاء وهلاك ليلًا {مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} ولا يكون الطائف إلا بالليل، وكان ذلك الطائف نارًا نزلت من السماء فأحرقتها. ... {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}. [20] {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي: المصرومة؛ لهلاك ثمرها، وكلُّ شيء قُطع من شيء فهو صريم، والليل صريم، والصبح صريم؛ لأن كل واحد

[21]

منهما ينصرم عن صاحبه، قال ابن عباس: "كالرماد الأسود" (¬1). ... {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)}. [21] {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} نادى بعضهم بعضًا. ... {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)}. [22] {أَنِ اغْدُوا} أي: أقبلوا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وخلف (¬2): (أَنُ اغْدُوا) بضم النون في الوصل، والباقون: بكسرها (¬3). {عَلَى حَرْثِكُمْ} نخلكم (¬4) {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} قاطعين للنخل. ... {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)}. [23] {فَانْطَلَقُوا} مضوا إليها {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يتسارُّون، يقول بعضهم لبعض: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 450)، و"زاد المسير" لاين الجوزي (8/ 336)، و"تفسير الثعالبي" (10/ 16). (¬2) "وخلف" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 421)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 198)، ولم يذكر خلفًا وأبا جعفر. (¬4) في "ت": "غلتكم".

[24]

{أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)}. [24] {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} وهذا مبالغة في النهي عن التمكين من الثمرة. ... {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)}. [25] {وَغَدَوْا} عزموا {عَلَى حَرْدٍ} منعٍ للفقراء، والحرد: المنعُ مع حدَّة وغضب {قَادِرِينَ} بزعمهم. ... {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)}. [26] {فَلَمَّا رَأَوْهَا} محترقةً {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} طريقَ جنتنا، وليست هذه. ... {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)}. [27] فلما تأملوا وعرفوا أنها هي، قالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون} خيرَها بسبب منعنا المساكين. ... {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)}. [28] {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أعدلُهم وخيرهم؛ كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا} هَلَّا {تُسَبِّحُونَ} تطيعون الله وتعظمونه، وقيل: تستثنون، وسمي الاستثناء تسبيحًا؛ لأنه تعظيم الله، قال

[29]

ابن عطية: وهذا يرد عليه قولهم: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} (¬1). ... {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)}. [29] فبادر القوم و {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بمنعنا المساكينَ. ... {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)}. [30] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} يلوم بعضهم بعضًا في منع المساكين؛ فإن منهم من أشار بذلك، ومنهم من استصوبه، ومنهم من سكت راضيًا، ومنهم من أنكره. ... {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)}. [31] فنادوا على أنفسهم بالويل، و {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} في منعنا حقَّ الفقراء. ... {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)}. [32] ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} ليتوب علينا، ويرد جنتنا، رُوي أنهم تابوا، فأُبدلوا جنة خيرًا منها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (يُبَدِّلَنَا) بفتح الباء وتشديد الدال، والباقون: بإسكان الباء وتخفيف الدال (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 350). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 145)، و"الكشف" لمكي (2/ 72)، و"معجم =

[33]

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}. [33] {كَذَلِكَ} أي: مثلَ عذاب أولئك {الْعَذَابُ} الذي نعذب به أهل مكة بالقتل والأسر والهزيمة في الدنيا؛ لشركهم وكفرهم، وهو راجع إلى قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أعظمُ منه وأشدُّ. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لاحترزوا عما يؤديهم إليه. ... {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)}. [34] ثم أخبر بما عنده للمتقين فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الآخرة. {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الخالصِ. ... {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)}. [35] فقال المشركون للمسلمين: إن بعثنا على زعمكم، فإنا نُعطى أفضلَ منكم، فنزل تكذيبًا لهم: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (¬1) الألف للاستفهام على وجه التوبيخ؛ أي: لا نجعل ذلك، وفيه إضمار: أفلا تعقلون، معناه: من كان له عقل يعلم أنه لا يكون ثواب المسلمين كثواب المجرمين. ¬

_ = القراءات القرآنية" (7/ 199). (¬1) انظر: "تفسير الثعالبي" (4/ 329)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 351).

[36]

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)}. [36] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكمَ الفاسدَ، التفات فيه تعجيبٌ من حكمهم، واستبعادٌ له. ... {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)}. [37] {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} منزلٌ من السماء {فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرؤون. ... {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)}. [38] {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي: إن لكم ما تختارونه وتشتهونه. قرأ البزي: (لَمَا تَّخَيَّرُونَ) بالمد وتشديد التاء، والباقون: بالتخفيف بغير مد (¬1). ... {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)}. [39] {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} نعت (أَيْمَانٌ)؛ أي: ثابتة علينا. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لا نخرج من عهدتها إلى يومئذ، ولما تضمن {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} معنى القسم، أجابه بقوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أي: لأقسمنا لكم أيمانًا موثقة بما تحكمون به لأنفسكم، فيجب علينا الوفاء بها. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:421)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 199).

[40]

{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)}. [40] ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين؟ ... {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)}. [41] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} لله بزعمهم، وهي الأصنام يكفلون لهم بذلك، فإن كان كذلك {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في زعمهم. ... {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)}. [42] {يَوْمَ} أي: واذكرْ يومَ {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: يشتد الأمر، قال ابن عباس: "هو أشدُّ ساعة في القيامة"، يقال: كشفت الحرب عن ساقها؛ أي: شدتها. {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} ويعني: الكفارَ والمنافقينَ على جهة التوبيخ. {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} السجودَ؛ لأن ظهورهم تصير كصياصي البقر، كأن سفافيد الحديد فيها. ... {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}. [43] {خَاشِعَةً} ذليلةً {أَبْصَارُهُمْ} والمراد: أربابها، و {خَاشِعَةً} نصب على الحال، وخص الأبصار بالذكر؛ لأن الخشوع فيها أبينُ منه في كل جارحة (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (29/ 39).

[44]

{تَرْهَقُهُمْ} تغشاهم {ذِلَّةٌ} تظهر عليهم ظهورًا يخزيهم. {وَقَدْ كَانُوا} هنا (¬1) {يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الصلاةِ. {وَهُمْ سَالِمُونَ} وأصحاء، فلا يأتون، فلذلك منعوا السجود ثَمَّ، وخص السجود بالذكر من حيث هو أعظم الطاعات، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة. ... {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)}. [44] {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} وعيد، ولم يكن ثمَّ مانع، ولكنه كما تقول: دعني مع فلان؛ أي: سأعاقبه، والحديث المشار إليه هو القرآن. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} والاستدراج: هو الحمل من رتبة إلى رتبة، حتى يصير المحمول إلى شر، وإنما يستعمل الاستدراج في الشر؛ أي: نجعلهم كلما أحدثوا خطيئة، جددنا لهم نعمة، وننسيهم الاستغفار. قرأ أبو عمرو: (بِهَذَا الْحَدِيث سَّنَسْتَدْرِجُهُمْ) بإدغام الثاء في السين (¬2). ... {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}. [45] {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: أُمهلهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وسُمي إحسانه ¬

_ (¬1) "هنا" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 372)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 201).

[46]

كيدًا واستدراجًا؛ لأنه في صورتهما؛ لأنه سبب هلاكهم، وفي معنى الاستدراج قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يُمهل الظالمَ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه" (¬1)، والمتين: القوي الذي له متانة. ... {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)}. [46] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} على تبليغ الرسالة {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ} يعطونكه {مُثْقَلُونَ} فلا يؤمنون لذلك، والمراد: توبيخ الكفار؛ لأنه لو سألهم أجرًا فأثقلهم غرمُ ذلك، لكان لهم بعض العذر في إعراضهم وفرارهم. ... {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)}. [47] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} اللوح {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه ما يقولون وبه يحكمون. ... {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}. [48] ثم أمر الله تعالى نبيه بالصبر لحكمه، وأن يمضي لما أُمر به من التبليغ، واحتمال الأذى والمشقة، ونُهي عن الضجر والعجلة التي وقع فيها ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4409)، كتاب: التفسير، باب قوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}، ومسلم (2583)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

[49]

يونس -عليه السلام-، فقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فيهم بما يشاء. {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} في عجلته وغضبه. {إِذْ نَادَى} داعيًا في بطن الحوت {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظًا. ... {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)}. [49] {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ} أسند الفعل دون علامة تأنيث؛ لأن تأنيث النعمة غير حقيقي، المعنى: لو لم تنله رحمة {مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ} لأُلقي من بطن الحوت {بِالْعَرَاءِ} بالأرض الفضاء {وَهُوَ مَذْمُومٌ} يُذم ويلام بالذنب، ولكنه رُحم، فُنبذ غيرَ مذموم. ... {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)}. [50] {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اختاره واصطفاه بالنبوة. {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} الأنبياء. ... {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)}. [51] ثم أخبر تعالى نبيه بحال نظر الكفار إليه، فقال {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} قرأ نافع (لَيَزْلقُونَكَ) بفتح الياء، والباقون، بضمها (¬1)، المعنى: قارب الكفار أن يصيبوك بأعينهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 647)، و"التيسير" للداني (ص: 213)، =

[52]

{لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} القرآنَ {وَيَقُولُونَ} حسدًا: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}. ... {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}. [52] فأكذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا هُوَ} أي: القرآن. {إِلَّا ذِكْرٌ} موعظة {لِلْعَالَمِينَ} من الجن والإنس، والله أعلم. ¬

_ = و"تفسير البغوي" (4/ 456)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 202).

سورة الحاقة

سُوْرَة الْحَاقَّةُ مكية، وآيها: اثنتان وخمسون آية، وحروفها: ألف وأربعة وثمانون حرفًا، وكلمها: مئتان وست وخمسون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنه قال: "خرجت يومًا بمكة متعرضًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فجئت فوقفت وراءه، فافتتح سورة الحاقة، فلما سمعت سرد القرآن، قلت في نفسي: إنه لشاعر كما تقول قريش، حتى بلغ إلى قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} ثم مر حتى انتهى إلى آخر السورة، فأدخل الله في قلبي الإسلام" (¬1). {الْحَاقَّةُ (1)}. [1] قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ} اسم فاعل من حقَّ الشيء يحق: إذا كان صحيح الوجود، والمراد: القيامة؛ لأنها حقت، فلا كاذبة لها. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 17)، وإسناده ضعيف؛ شريح بن عبيد لم يدرك عمر رضي الله عنه. انظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (9/ 62).

[2]

{مَا الْحَاقَّةُ (2)}. [2] {مَا الْحَاقَّةُ} استفهام تعجيب؛ تفخيمًا لشأنها، التقدير: الحاقة أيُّ شيء هي؟! و {مَا الْحَاقَّةُ} رفع بالابتداء، و (ما) رفعٌ بالابتداء أيضًا، و (الْحَاقَّةُ) الثانية خبر (ما)، والجملة خبر الأول، وهذا كما تقول: زيد وما زيد؟! على معنى التعظيم؛ ليتخيل السامع أقصى جهده. ... {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}. [3] ثم زادها تفخيمًا فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} أي: إنك لا تعلمها إذا لم تر ما فيها من الأهوال. ... {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)}. [4] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشام: (كَذَّبَت ثَّمُودُ) بإدغام التاء في الثاء، واختلف عن ابن ذكوان، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1). {بِالْقَارِعَةِ} القيامة؛ لأنها تقرع القلوب بالمخافة، و (ثَمُودُ) اسم عربي معرفة فإذا أُريد به القبيلة، لم ينصرف، وإذا أُريد به الحي، انصرف، وأما (عَادٌ)، فكونه على ثلاثة أحرف ساكن الأوسط فهو مصروف. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 373)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 422)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 205).

[5]

{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)}. [5] {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة، وقيل: بطغيانهم. ... {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)}. [6] {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} شديدةٍ تصرصر في هبوبها. {عَاتِيَةٍ} شديدةٍ عتت على خزنتها فلم يضبطوها. ... {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)}. [7] {سَخَّرَهَا} أرسلها بشدة وقهر {عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} متتابعة لم يتخللها غير ذلك. روى عن قنبل ويعقوب: الوقفُ بالياء على (لَيَالِي)، وهذه الأيام التي تسميها العرب: أيام (¬1) العجوز ذاتُ برد ورياح شديدة، سميت بذلك؛ لأنها كانت في عجز الشتاء. {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} في تلك الأيام والليالي {صَرْعَى} هَلْكى، جمع صريع. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} ساقطة فارغة. ¬

_ (¬1) "أيام" زيادة من "ت".

[8]

{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)}. [8] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} أي: بقاء. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشام: (فَهَل تَّرَى) بإدغام اللام في التاء، والباقون: بالإظهار (¬1). ... {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)}. [9] {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي: (قِبَلَهُ) بكسر القاف وفتح الباء؛ أي: ومن معه، وقرأ الباقون: بفتح القاف وإسكان الباء (¬2)؛ أي: من تقدَّمه من الأمم. {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} أي: المنخسفات؛ يعني: قوم لوط {بِالْخَاطِئَةِ} أي: بالخطيئة، وهي الشرك. قرأ أبو جعفر: (والْمُوتَفِكَاتُ) بإسكان الواو، و (الْخَاطِيَةِ): بفتح الياء بغير همز فيهما، واختلف عن قالون في (والْمُوتَفِكَاتُ)، وقرأ الباقون بالهمز فيهما (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 373)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص:422)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 206). (¬2) انظر "التيسير" للداني (ص: 213)، و"تفسير البغوي" (4/ 460)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 389)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 206 - 207). (¬3) "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 390 و 396)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 422)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 207 - 208).

[10]

{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)}. [10] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} يعني: لوطًا وجميعَ الرسل. {فَأَخَذَهُمْ} العذابُ. {أَخْذَةً رَابِيَةً} زائدة في الشدة. ... {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)}. [11] ثم عدد تعالى على الناس نعمه في قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} في وقت الطوفان الذي كان على قوم نوح، والطغيان: الزيادة على الحدود المتعارفة، روي أنه علا على كل شيء خمسة عشر ذراعًا. {حَمَلْنَاكُمْ} أي: آباءكم {فِي الْجَارِيَةِ} على وجه الماء بسفينة نوح عليه السلام. ... {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}. [12] {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ} أي: الفعلةَ، وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين {تَذْكِرَةً} عظةً. {وَتَعِيَهَا} نصب عطف؛ أي: ولتعيها؛ أي: وتحفظَها {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} حافظة لما تسمع. قرأ نافع (أُذْنٌ) بإسكان الذال، والباقون: برفعها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 99)، و"الكشف" لمكي (1/ 409)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 209).

[13]

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)}. [13] ثم ذكَّرَ تعالى بأمر القيامة فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} هو القرن الذي ينفخ فيه، وهو من نور، فَمُه أوسعُ من السموات. {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} هي الأولى التي للفزع، ومعها يكون الصعق، ثم نفخة البعث. ... {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)}. [14] {وَحُمِلَتِ} رُفعت (¬1) {الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} بجميع ما فيها. {فَدُكَّتَا} دُقَّتا {دَكَّةً وَاحِدَةً} لا تثنى؛ لشدتها. ... {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)}. [15] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قامت القيامة والطامة الكبرى. ... {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)}. [16] {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} تفطَّرت {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ضعيفة بعد قوتها. ... {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)}. [17] {وَالْمَلَكُ} اسم جنس يريد به: الملائكة {عَلَى أَرْجَائِهَا} جوانبها؛ يعني: السماء؛ لأنها إذا انشقت، انتقلت الملائكة إلى جوانبها حتى يأمرهم ¬

_ (¬1) في "ت": "وقعت".

[18]

الرب تعالى فينزلون، فيحيطون بالأرض ومن عليها. {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} أي: فوق رؤوسهم؛ يعني: الحملة. {يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة {ثَمَانِيَةٌ} من الملائكة. روي أن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة، أُمدوا بأربعة، فصاروا ثمانية على صور الأوعال، ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء (¬1). وعن ابن عباس: "أنهم ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم عدتهم إلا الله" (¬2). ... {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}. [18] {يَوْمَئِذٍ} العاملُ فيه: {تُعْرَضُونَ} على الله. {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} سريرة. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَخفَى) بالياء على التذكير؛ للفصل بـ (مِنْكُمْ)، وقرأ الباقون: بالتاء لتأنيث (خَافِيَةٌ) (¬3). ¬

_ (¬1) قال الألوسي في "روح المعاني" (29/ 45) بعد أن ذكره: وأبو حيان لم يقل بصحة شيء من ذلك حيث قال: ذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالًا متكاذبة، ضربنا عن ذكرها صفحًا. ثم قال الألوسي: وأكثر الأخبار في هذا الباب لا يعول عليها. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (29/ 58)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3370). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 648)، و"التيسير" للداني (ص: 213)، و"تفسير البغوي" (4/ 462)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 210).

[19]

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)}. [19] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ} سرورًا بما فيه خطابًا لجماعة. {هَاؤُمُ} اسم الفعل؛ أي: خذوا {اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} الهاء للوقف. ... {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)}. [20] {إِنِّي ظَنَنْتُ} أيقنت {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} أي: أُحاسب في الآخرة. روي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء على (مُلاَقِي). ... {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)}. [21] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} في حالة من العيش مرضية. ... {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)}. [22] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} رفيعة. ... {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)}. [23] {قُطُوفُهَا} ثمرتها {دَانِيَةٌ} قريبة المتناول للقائم والقاعد والنائم. ... {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}. [24] فيقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} نصبٌ على المصدر.

[25]

{بِمَا أَسْلَفْتُمْ} من الصلاح {فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الماضية في الدنيا. ... {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)}. [25] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} بأن تلُوى يسراه إلى خلف ظهره، فيأخذه بها {فَيَقُولُ} حزنًا (¬1) مما فيه: {يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}. ... {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)}. [26] {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}. ... {يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)}. [27] {يَالَيْتَهَا} أي: الموتةُ التي كانت في الدنيا. {كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} القاطعةَ لحياتي، فلم أُبعث. ... {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)}. [28] {مَا} نفي {أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} يساري لم يدفع عني شيئًا من عذاب الله. ¬

_ (¬1) في "ت": "خوفًا".

[29]

{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)}. [29] {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} ضلت عني حجتي. قرأ يعقوب: (كِتَابِي) (حِسَابِي) (مَالِي) (سُلْطَانِي) بحذف الهاء منها وصلًا، وأثبتها وقفًا، وافقه حمزة في (مَالِي) و (سُلْطَانِي)، وأثبتها الباقون في الحالين اتباعًا للإمام (¬1). ... {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)}. [30] فثَمَّ يُقال للخزنة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} اجمعوا يديه إلى عنقه في الغُلِّ. ... {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)}. [31] {ثُمَّ الْجَحِيمَ} نصب بفعل يفسره {صَلُّوهُ} أي: أدخلوه النار. ... {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)}. [32] {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا} طولها {سَبْعُونَ ذِرَاعًا} نصب على التمييز، قال حذاق من المفسرين: هي بالذراع المعروفة منا، وإنما خوطبنا بما نعرفه ونحصله، وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هي، وعن كعب: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها (¬2). {فَاسْلُكُوهُ} وسلكُه فيها أن تلُوى على جسده. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 214)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 142)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 212 - 213). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 389).

[33]

{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)}. [33] ثم علل ذلك مستأنفًا فقال: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} المستحقِّ للعظمة، فمن تَعَظَّم تيهًا، استوجب ذلك. ... {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)}. [34] {وَلَا يَحُضُّ} يحثُّ {عَلَى} بذلِ {طَعَامِ الْمِسْكِينِ} فضلًا أن يبذل من ماله، وأضاف الطعامَ إلى المسكين من حيث له إليه نسبة. ... {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)}. [35] {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} قريب ينفعه. ... {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)}. [36] {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} هو صديد أهل النار؛ لأنه غُسالة قروح وجروح بطونهم. ... {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}. [37] {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} الكافرون، والخاطِئ: الذي يفعل ضد الصواب متعمدًا لذلك، والمخطئ: الذي يفعله غير متعمد. قرأ

[38]

أبو جعفر: (الْخَاطُونَ) بحذف الهمزة وضم الطاء، والباقون: بكسر الطاء وهمزة مضمومة بعدها (¬1). ... {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)}. [38] {فَلَا} ردٌّ لكلام المشركين؛ أي: ليس كما يقول المشركون، وتبتدئ. {أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} ترون من الأجسام والأشباح. ... {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)}. [39] {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} من الأرواح، وما استأثر الله بعلمه. ... {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}. [40] وجواب القسم: {إِنَّهُ} يعني: القرآن {لَقَوْلُ} أي: تلاوة. {رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يقوله رسالة عن الله تعالى. ... {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)}. [41] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} كما تزعمون تارة {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} واتصاف ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 327)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 213).

[42]

إيمانهم بالقلة هو الإيمان اللغوي؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئًا؛ إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو حق صواب. ... {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)}. [42] {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تزعمون أخرى. {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} والقلة هنا بمعنى العدم. قرأ ابن كثير، ويعقوب، وابن عامر بخلاف عن راويه ابن ذكوان: (يُؤْمِنُونَ) (يَذْكُرُونَ) بالغيب فيهما، وقرأهما الباقون: بالخطاب، ومنهم حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف على أصله في تخفيف الذال من (تَذَكَّرُونَ)، ورجح أبو عمرو القراءة بالخطاب بقوله: (فَمَا مِنْكُمْ) (¬1). ... {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)}. [43] {تَنْزِيلٌ} رفع بالابتداء؛ أي: هو تنزيل. {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} نزَّله على لسان جبريل عليه السلام. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 214)، و"تفسير البغوي" (4/ 465)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 214).

[44]

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)}. [44] {وَلَوْ تَقَوَّلَ} أي: اختلقَ {عَلَيْنَا} محمد - صلى الله عليه وسلم -. {بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} وأتى بشيء من عند نفسه. ... {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)}. [45] {لأَخَذْنَا} لانتقمنا {مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي: بالقوة والقدرة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه. ... {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)}. [46] {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} نياط القلب، وهو عرق أبيض غليظ كالقصبة متصل بالقلب، إذا انقطع، مات صاحبه. ... {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}. [47] {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ} عن قتل (¬1) محمد - صلى الله عليه وسلم - {حَاجِزِينَ} مانعين يحجزوننا، وإنما قال: {حَاجِزِينَ} بالجمع، وهو فعل واحد؛ ردًّا على معناه؛ كقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]. ... {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)}. [48] {وَإِنَّهُ} أي: القرآن {لَتَذْكِرَةٌ} عظة {لِلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون عقاب الله. ¬

_ (¬1) "قتل" زيادة من "ت".

[49]

{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)}. [49] {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ} أيها الناس {مُكَذِّبِينَ} فنجازيهم على تكذيبهم. ... {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)}. [50] {وَإِنَّهُ} أي: القرآن {لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} من حيث كفروا به، ويرون من آمن به ينعم، وهم يعذبون. ... {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)}. [51] {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي: إن القرآن ليقين حق. ... {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}. [52] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} تنزيهًا له. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لما نزلت هذه الآية: "اجعلوها في ركوعكم" (¬1)، فالتزم ذلك جماعة العلماء, وتقدم ذكر الاختلاف في ذلك آخر سورة الواقعة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (869)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، وابن ماجه (887)، كتاب: الصلاة، باب: التسبيح في الركوع والسجود، والإمام أحمد في "المسند" (40/ 155)، وابن حبان في "صحيحه" (1898)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

سورة المعارج

سُوْرَةُ المَعَارِجِ مكية، وآيها: أربع وأربعون آية، وحروفها: ثمان مئة وأحد وستون حرفًا، وكلمها: مئتان وست عشرة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)}. [1] {سَأَلَ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (سَالَ) بألف من غير همز مثل قال، فألف (سَأَلَ) بدل من الهمزة، وهو لغة في السؤال، خففت الهمزة وجعلت ألفًا، وقرأ الباقون: بهمزة مفتوحة من السؤال على الأصل (¬1). {سَائِلٌ} المعنى: استفهمَ مستفهمٌ {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي: عن عذاب نازلٍ على من ينزل. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 214)، و"تفسير البغوي" (4/ 467)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 219).

[2]

{لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)}. [2] فقال الله مجيبًا له: {لِلْكَافِرِينَ} وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب، قال بعضهم لبعض: مَنْ أهلُ هذا العذاب، ولمن هو؟ سلوا عنه محمدًا، فسألوه، فأنزل الله الآية: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} (¬1) يردُّه. ... {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)}. [3] {مِنَ اللَّهِ} لتعلُّق إرادته به. {ذِي الْمَعَارِجِ} أي: مصاعد الملائكة، جمع مَعْرَج. ... {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}. [4] {تَعْرُجُ} أي: تصعد {الْمَلَائِكَةُ} الحفَظَة بأعمال بني آدم كل يوم. قرأ الكسائي: (يَعْرُجُ) بالياء على التذكير إرادة الجمع، والباقون: بالتاء على التأنيث إرادة الجماعة (¬2)، وقرأ أبو عمرو: (ذِي الْمَعَارِج تَّعْرُجُ) بإدغام الجيم في التاء (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 467). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 650)، و"التيسير" للداني (ص: 214)، و"تفسير البغوي" (4/ 468)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 220). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 373)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 220).

[5]

{وَالرُّوحُ} هو جبريل عليه السلام. {إِلَيْهِ} [إلى محل قربته وكرامته، وهو السماء] (¬1). {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} من سني الدنيا، لو صعد فيه غير الملك؛ لأن الملك يصعد من منتهى أمر الله من أسفل السفل إلى منتهى أمره من فوق السماء السابعة في يوم واحد، ولو صعد فيه بنو آدم، لصعدوه في خمسين ألف سنة. ... {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)}. [5] {فَاصْبِرْ} يا محمد على أذاهم {صَبْرًا جَمِيلًا} هو ما لا جزع فيه، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال. ... {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)}. [6] {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} يعني: العذابَ {بَعِيدًا} لإنكارهم البعث. ... {وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}. [7] {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} سهلًا؛ لقدرتنا عليه؛ لأن ما هو آت قريب. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[8]

{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)}. [8] {يَوْمَ} ظرف لـ (قَرِيبًا) {تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} وهو عكر الزيت. ... {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)}. [9] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} وهو الصوف المصبوغ ألوانًا. ... {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)}. [10] {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} قرأ أبو جعفر: (يُسْأَلُ) بضم الياء مجهولًا، أي: لا يسأل قريب عن قريبه؛ أي: لا يطالِب به، وقرأ الباقون: بفتح الياء معلومًا (¬1)؛ أي: يسأل قريب قريبًا؛ لاشتغال كلٍّ بشأن نفسه، واختلف عن البزي، فروي عنه الوجهان. ... {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)}. [11] {يُبَصَّرُونَهُمْ} أي: يُرونهم، يعني: يبصر الأحماء بعضهم بعضًا، ويتعارفون ولا يتكلمون، وليس في القيامة مخلوقٌ إلا وهو نصب عين صاحبه. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 290)، وذكرها ابن مجاهد في "السبعة" (ص: 650)، والبغوي في "تفسيره" (4/ 469)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 220 - 221) عن ابن كثير، وقال ابن مجاهد: الرواية بالضم غلط.

[12]

{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} يتمنى المشرك {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} قرأ نافع، وأبو جعفر، والكسائي: (يَوْمَئِذٍ) بفتح الميم، والباقون: بكسرها، ومن حيث أضيف إلى غير متمكن، جاز فيه الوجهان {بِبَنِيهِ}. ... {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)}. [12] {وَصَاحِبَتِهِ} زوجته {وَأَخِيهِ}. ... {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)}. [13] {وَفَصِيلَتِهِ} عشيرته {الَّتِي تُؤْوِيهِ} ويأوي إليها. قرأ ابن كثير: (بِبَنِيِهِي) (وَأَخِيهِي) و (تُؤْوِيهِي) وشبهه بياء يصلها بهاء الكناية في الوصل حيث وقع. ... {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}. [14] {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} يودُّ لو يفتدي بهم جميعًا. {ثُمَّ يُنْجِيهِ} ذلك الفداء من عذاب الله. ... {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)}. [15] {كَلَّا} لا ينجيه من عذاب الله شيء، ثم ابتدأ تعالى فقال: {إِنَّهَا} أي: النار {لَظَى} من أسماء جهنم، سميت بذلك لتلظِّيها؛ أي: لتلهبها عليهم.

[16]

{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)}. [16] {نَزَّاعَةً} قرأ حفص عن عاصم: (نَزَّاعَةً) نصب على الحال من (لَظَى)؛ لما فيها من معنى التلظِّي؛ كأنه قال: إنها النار التي تتلظى نزاعةً، فهي حال مؤكدة، وقرأ الباقون: بالرفع خبر مبتدأ محذوف (¬1)؛ أي: هي نزاعة {لِلشَّوَى} جمع شواة، وهي جلدة الرأس وما ليست مقتلًا كالأطراف، تلخيصه: تقتلع النار منهم كل عضو غير مقتل، ثم يعود هكذا أبدًا. ... {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)}. [17] {تَدْعُو} قال ابن عباس: "تدعوهم بأسمائهم ثم تلتقطهم كالتقاط الطير (¬2) الحبَّ" (¬3)، وقيل: معناه: تعذب. {مَنْ أَدْبَرَ} عن الإيمان {وَتَوَلَّى} عن الحق. ... {وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}. [18] {وَجَمَعَ} المال {فَأَوْعَى} جعله في وعاء، ولم يؤدِّ حقَّ الله منه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 651)، و"التيسير" للداني (ص: 214)، و"تفسير البغوي" (4/ 470)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 222). (¬2) "الطير" سقط من "ت". (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 470)، و"تفسير القرطبي" (18/ 289).

[19]

قرأ ورش عن نافع، وأبو عمرو: بإمالة رؤوس الآيات الأربع؛ بخلاف نهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، وقرأها الباقون: بالفتح (¬1). ... {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)}. [19] {إِنَّ الْإِنْسَانَ} هو عامٌّ {خُلِقَ هَلُوعًا} حال مقدرة، والهلع: أشد الجزع وهو اضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع ونحوها، تفسيره ما بعده. ... {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20}. [20] وهو {إِذَا مَسَّهُ} أصابه {الشَّرُّ} الفقرُ والمرض {جَزُوعًا} حال مقدرة. ... {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)}. [21] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} المالُ والصحة {مَنُوعًا} لحقِّ الله تعالى منه. ... {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)}. [22] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} استثناء من الإنسان. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 214)، و"اتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 424)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 222 - 223).

[23]

{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)}. [23] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} لا يلتفتون يمينًا ولا شمالًا، ولا يُخِلُّون بالمكتوبة في أوقاتها. ... {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)}. [24] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} هو الزكاة. ... {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)}. [25] {لِلسَّائِلِ} الذي يسأل {وَالْمَحْرُومِ} المتعفف عن السؤال، فيحرم لذلك. ... {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)}. [26] {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} الجزاء. ... {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)}. [27] {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} خائفون. ... {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}. [28] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} نزولُه، اعتراض يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله، وإن بالغ في طاعته.

[29]

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)}. [29] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}. ... {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)}. [30] {إِلَّا عَلَى} و (على) بمعنى (من) {أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}. ... {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)}. [31] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} تقدم تفسيره في سورة المؤمنين. ... {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)}. [32] {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} حافظون، وتقدم تفسيره. واختلاف القراء في (لِأَمانَاتِهِمْ) في سورة المؤمنين أيضًا [الآية: 8]. ... {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)}. [33] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ} قرأ يعقوب، وحفص عن عاصم: (بِشَهَادَاتِهِمْ) بألف بعد الدال على الجمع؛ لاختلاف الأنواع، والباقون: بغير ألف على الإفراد (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 214)، و"تفسير البغوي" (4/ 471)، و "النشر في =

[34]

{قَائِمُونَ} يقيمونها عند الأحكام، فلا يكتمونها. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا علمتَ مثلَ الشمس، فاشهدْ، وإلَّا فَدَعْ" (¬1). وتقدم معنى الشهادة في أول سورة المنافقين، وتقدم حكم تحمُّل الشهادة وأدائها وأخذ الأجرة عليها ومذاهب الأئمة في ذلك في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا} [الآية: 282]. ... {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)}. [34] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يداومون. واتفق القراء على الإفراد في (صَلاَتِهِمْ) هنا، وفي الأنعام (¬2)؛ بخلاف الحرف المتقدم في المؤمنين؛ لأنه لم يكتنفها فيهما ما اكتنفها في المؤمنين قبل وبعد، من تعظيم الوصف في المتقدم، وتعظيم الجزاء في المتأخر، فناسب لفظ الجمع، ولذلك قرأ به أكثر القراء، ولم يكن ذلك في غيرها، فناسب الإفراد، والله أعلم، وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولًا وآخرًا باعتبارين: للدلالة على فضلها، وإنافتها على غيرها. ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 391)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 224). (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 18)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (10974) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف. انظر: "التلخيص الحبير" (4/ 198). (¬2) "وفي الأنعام" زيادة من "ت".

[35]

{أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}. [35] {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} بثواب الله. ... {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)}. [36] {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وتقدم اختلاف القراء فيه في سورة الكهف عند قوله تعالى: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ) {قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} نحوك مسرعين مديمي النظر إليك. نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمعون كلامه، ويستهزئون به فقال الله لهم: ما لهم ينظرون إليك، ويجلسون عندك، وهم لا ينتفعون بما يسمعون (¬1)؟! ... {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)}. [37] {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} فرقًا شتى. ... {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)}. [38] {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} نزلت لأن بعض الكفار قال: إن كان ثم آخرة وجنة، فنحن أهلها وفيها؛ لأن الله لم ينعم علينا في الدنيا بالمال والبنين وغير ذلك إلا لرضاه عنا. قراءة العامة: (يُدْخَلَ) بضم ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (29/ 85). وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 472).

[39]

الياء وفتح الخاء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ المفضل عن عاصم: بفتح الياء وضم الخاء على بناء الفعل للفاعل (¬1). ... {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)}. [39] {كَلَّا} ردٌّ لقولهم وطمعهم؛ أي: ليس الأمر كذلك، ثم أخبر عن خلقهم فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} من النطف والعلق والماء المهين، وهم كافرون، فبم يفتخرون؟! ... {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)}. [40] {فَلَا أُقْسِمُ} تقدم نظيره في سورة الواقعة، وهو {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} يعني: مشرق كل يوم من السنة ومغربه، وتقدم الكلام على قوله {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] و {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] في أول سورة الصافات، وهو قسم جوابه: {إِنَّا لَقَادِرُونَ}. ... {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}. [41] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} أي: نهلكهم ونأتي بقوم أمثلَ منهم. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص:651)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 224).

[42]

{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: بعاجزين. ... {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)}. [42] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} في باطلهم {وَيَلْعَبُوا} في دنياهم {حَتَّى يُلَاقُوا} قرأ أبو جعفر: (يَلْقَوْا) بفتح الياء وإسكان اللام وفتح القاف من غير ألف قبلها، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح اللام وألف بعدها وضم القاف (¬1). {يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} فيه العذاب، ونسختها آية القتال. ... {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)}. [43] وتبدل من {يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} القبور {سِرَاعًا} إجابة الداعي {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: بضم النون والصاد، جمع نَصْب، وهي الأوثان، وقرأ الباقون: بفتح النون وإسكان الصاد، مفرد (نَصْب) (¬2)، وهو ما نُصب فعبد [من] دونِ الله {يُوفِضُونَ} يسرعون. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 370)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 225). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 651)، و"التيسير" للداني (ص: 214)، و"تفسير البغوي" (4/ 473)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 225 - 226).

[44]

{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}. [44] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} حال من ضمير {يَخْرُجُونَ}؛ أي: ذليلة خاضعة. {تَرْهَقُهُمْ} تظهر عليهم {ذِلَّةٌ} هوان {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} في الدنيا، والله أعلم.

سورة نوح عليه السلام

سُورَةُ نُوحٍ عليه السلام مكية، وآيها: ثمان وعشرون آية، وحروفها: تسع مئة وتسعة وعشرون حرفًا، وكلمها: مئتان وأربع وعشرون كلمة. عن أُبي بن كعب (¬1) -رضي الله عنه-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأَ سورةَ نوح، كان من المؤمنين الذين تُدركهم دعوةُ نوح" (¬2). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)}. [1] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} واسمه عبد الغفار، وسمي نوحًا؛ لكثرة نوحه على نفسه، وصرف نوح مع عجمته وتعريفه؛ لخفته وسكون الوسط من حروفه، وتقدم ذكر نسبه وتاريخ مولده ومحل قبره في [سورة آل عمران، وتقدم ذكر الاختلاف في عمره حين بعثه الله إلى قومه في] (¬3) سورة ¬

_ (¬1) "أبي بن كعب" ساقطة من "ت". (¬2) رواه الثعلبي في "تفسيره" (10/ 43). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (4/ 95). (¬3) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[2]

الأعراف، وتقدم ذكر تاريخ ركوبه في السفينة وخروجه منها وما بين الطوفان والهجرة الشريفة النبوية المحمدية في سورة هود، وتقدم ذكر المدة التي لبثها في قومه ينذرهم في سورة العنكبوت. {إِلَى قَوْمِهِ} وكانوا يعبدون الأوثان. {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} نصب؛ أي: بأن أنذر، وهي الناصبة للفعل. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عذاب الآخرة والطوفان إن لم يؤمنوا. ... {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2)}. [2] {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أُنذركم وأبين لكم. ... {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)}. [3] {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} بطاعته {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من الإيمان. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وخلف: (أَنُ اعْبُدُواْ الله) بضم النون في الوصل، والباقون: بكسرها (¬1)، فمن قرأ بالضم اتباعًا لضمة الباء، وتركًا لمراعاة الحائل لخفة السكون، فهو كأن ليس ثَمَّ حائل، ومن قرأ بالكسر، فهو الأصل في التقاء الساكنين من كلمتين، وقرأ يعقوب: (وَأَطِيعُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 391)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 229). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 424)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 229).

[4]

{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)}. [4] {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (مِنْ) زائدة؛ أي: يغفر ذنوبكم. {وَيُؤَخِّرْكُمْ} معافَيْنَ {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} هو وقت موتكم بلا إهلاك. {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} بتعذيبكم {إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} فبادروا في أوقات الإمهال. قرأ أبو جعفر، وورش عن نافع: (وَيُوَخِّرْكُمْ) (لاَ يُوَخَّرُ) بفتح الواو بغير همز، والباقون: بالهمز. {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك، لآمنتم. ... {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)}. [5] فلما أيس من إيمانهم لما أخبر {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} أي: دائمًا متصلًا، نصب بـ (دَعَوْتُ). ... {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)}. [6] {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} عن الإيمان، مفعول ثان لـ (دعوتُ). قرأ الكوفيون، ويعقوب: (دُعَائِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 652)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 424)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 230).

[7]

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)}. [7] {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُم} ذنوبهم (¬1). {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لئلا يسمعوا كلامي. قرأ الدوري عن الكسائي: (آذَانِهِمْ) بالإمالة، والباقون: بالفتح (¬2). {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} تغطَّوا بها {وَأَصَرُّوا} أقاموا على المعصية. {وَاسْتَكْبَرُوا} عن الإيمان {اسْتِكْبَارًا} عظيمًا. ... {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)}. [8] {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} مصدر في موضع الحال، أي: مجاهِرًا. ... {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)}. [9] {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} صوتي مرارًا، وبالغت في إعلاني. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (إِنِّي أَعْلَنْتُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (¬3). ¬

_ (¬1) "ذنوبهم" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 374)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 230). (¬3) انظر: "الكشف" لمكي (2/ 338)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 424)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 230).

[10]

{وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ} الكلامَ {إِسْرَارًا} بأن كلمتهم واحدًا واحدًا سرًّا؛ أي: نصحتهم بكل طريق. ... {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)}. [10] وكان قد منع عنهم المطر، وعقمت نساؤهم، وغارت مياههم. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} من الشرك {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} للتائبين. ... {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)}. [11] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} كثير الدُّرور. ... {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}. [12] {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} يكثر أموالكم وأولادكم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} بساتين. {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} جارية، ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء، والاستسقاء: هو الدعاء بطلب السقيا على وجه مخصوص، فإذا أجدبت الأرض، وقحط المطر، سُنَّ الاستسقاء بالاتفاق. واختلفوا في حكمه، فقال أبو حنيفة: لا صلاة في الاستسقاء، إنما الدعاء والاستغفار، وإن صلوا فرادى، فحسن، وقال صاحباه: يصلي الإمام بالناس ركعتين بلا أذان ولا إقامة كالعيد بالتكبيرات الزوائد عند محمد، وعند أبي يوسف: لا يكبر سوى تكبيرة الإحرام، وهو المشهور،

[13]

ثم يخطب واحدة، وقال مالك: يصلي ركعتين، يكبر في كل ركعة تكبيرة واحدة كسائر الصلوات، ثم يخطب خطبتين كالعيد، ويجعل بدل التكبير الاستغفار، وقال الشافعي: يصلي ركعتين كالعيد، ولا يختص بوقته، يكبر في الأولى بعد استفتاحه سبعًا، وفي الثانية بعد الرفع خمسًا، ويرفع يديه في الجميع، ويخطب كالعيد، لكن يستغفر الله بدل التكبير، وقال أحمد: وقتها وصفتها وأحكامها كالعيد، فيصلي ركعتين، يكبر في الأولى بعد استفتاحه ستًّا، وفي الثانية بعد الرفع خمسًا، ويرفع يديه مع كل تكبيرة، ثم يخطب واحدة يفتتحها بالتكبير كالعيد، ويكثر فيها الاستغفار والدعاء. والقراءة في الركعتين جهرًا بالاتفاق. ويستحب للإمام تحويل ردائه بعد أن يستقبل القبلة، ويفعل الناس كذلك عند الثلاثة؛ خلافًا لأبي حنيفة، وأجازه محمد بن الحسن للإمام فقط. وإن خرج أهل الذمة، لم يمنعوا عند الثلاثة، ولم يختلطوا بالمسلمين، ولم يفردوا بيوم، ومنع أبو حنيفة وأصحابه من خروجهم. ... {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)}. [13] {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} لا تخافون لله عَظَمة. ... {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)}. [14] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} تاراتٍ، حالًا بعد حال، نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق.

[15]

{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)}. [15] ثم أتبع ذلك ما يؤيده من آيات الآفاق فقال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي: مطابقة، جعل كلَّ واحدة طبقًا للأخرى. ... {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)}. [16] {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} وهو في السماء الدنيا؛ لأنه إذا كان في واحدة منهن، فهو فيهن. قال عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص: "إن الشمس والقمر أَقفاؤهما إلى الأرض، وإقبال نورهما وارتفاعه في السماء" (¬1)، وهو الذي يقتضيه لفظ (السِّراج). {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} مصباحًا مضيئًا تبصَر فيه الأشياء، وضوء القمر أقوى من نور القمر، وقيل: الشمس في السماء الخامسة، وقيل: في الرابعة، وقال عبد الله بن عمر: "هي في الشتاء في الرابعة، وفي الصيف في السابعة" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 477)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 375). (¬2) قال أبو حيان في "البحر المحيط" (8/ 334): وهذا شيء لا يوقف على معرفته إلا من علم الهيئة.

[17]

{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)}. [17] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} استعارة من حيث أُخذ آدم -عليه السلام- من الأرض، ثم صار الجميع نابتًا منه، وقوله: {نَبَاتًا} مصدر (¬1) واقع موقع إنبات؛ أي: فنبتُّم نباتًا. ... {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)}. [18] {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} مقبورين. {وَيُخْرِجُكُمْ} للبعث {إِخْرَاجًا} لموقف العرض والجزاء. ... {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)}. [19] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} بسيطة. ... {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}. [20] {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا} طرقًا {فِجَاجًا} واسعة. ... {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)}. [21] فلما لم يطيعوه، ويئس نوح من إيمانهم {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} لم يجيبوا دعوتي. ¬

_ (¬1) "مصدر" زيادة من "ت".

[22]

{وَاتَّبَعُوا} يعني: السفلة والفقراء {مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} هم الرؤساء منهم. {إِلَّا خَسَارًا} ضلالًا في الدنيا، وعقوبة في الآخرة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وعاصم بخلاف عنه: (وَوَلَدَهُ) بفتح الواو واللام، والباقون: بضم الواو وإسكان اللام، وهما بمعنى (¬1). ... {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)}. [22] {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} أي: كبيرًا عظيمًا، وهو كذبهم على الله. ... {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)}. [23] {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي: عبادتها {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا} قرأ نافع، وأبو جعفر: (وُدًّا) بضم الواو، والباقون: بفتحها (¬2). {وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} وهي أصنام كانت أعظم أصنامهم، فخصوا بالذكر، وكان الطوفان دفنها، فأخرجها الشيطان لمشركي العرب، فعبدت كلبٌ وَدًّا، وهمدان سُواعًا، ومذحج يغوث، ومراد يعوق، وحمير نسرًا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 652)، و"التيسير" للداني (ص: 215)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 231). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 215)، و"تفسير البغوي" (4/ 477)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 232).

[24]

{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)}. [24] {وَقَدْ أَضَلُّوا} أي: الأصنام، وهو إخبار نوح عنهم، وهو منقطع مما حكاه عنهم، والمعنى: قد أضل هؤلاء {كَثِيرًا} من الناس. روي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا، فلما ماتوا، صَوَّرهم أهلُ ذلك العصر من حجر، وقالوا ننظر إليها، فنذكر أفعالهم، فهلك ذلك الجيل، وكبر تعظيم الآخر لتلك الحجارة، ثم كذلك حتى عبدت (¬1)، ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها إلى قبائل العرب، ثم دعا نوح عليهم إلى الله تعالى فقال: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} هلاكًا، فأهلكوا، وذكر الظالمين؛ لتعم الدعوة كلَّ من جرى مجراهم. ... {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)}. [25] {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} قرأ أبو عمرو: بفتح الطاء والياء وألف بعدهما من غير همز، وضمَّ الهاء مثل عَطاياهُم، وقرأ الباقون:. (خَطِيئَاتِهِمْ) بكسر الطاء وياء ساكنة بعدها وبعد الياء همزة مفتوحة وألف وتاء مكسورة وكسر الهاء للإتباع (¬2)، وكلا القراءتين جمع خطيئة، و (ما) مزيدة للتأكيد والتفخيم، المعنى: من أجل خطيئاتهم. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 376). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 653)، و"التيسير" للداني (ص: 215)، و"تفسير البغوي" (4/ 479)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 233).

[26]

{أُغْرِقُوا} بالطوفان {فَأُدْخِلُوا نَارًا} وجاء بالفاء للإيذان أنهم عذبوا بالإحراق عقب الإغراق {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} أحدًا يصرف عنهم بأس الله تعالى. ... {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)}. [26] {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} أحدًا يدور في الأرض، وَديَّار أصله دَيْوار، وهو فَيْعال من الدوران، أي: من يجيء ويذهب. وروي أن نوحًا -عليه السلام- لم يدع بهذه الدعوة إلا من بعد أن أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم، وأعقم أرحام النساء قبل العذاب بسبعين سنة (¬1). ... {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)}. [27] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح، فيقول: احذر هذا؛ فإنه كذاب، وإن أبي حَذَّرنيه، فيموت الكبير، وينشأ الصغير عليه. {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا} مائلًا عن الحق. {كَفَّارًا} عظيمَ الكفر، قال ذلك لما علم حالهم؛ لمكثه ألف ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 479)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 377).

[28]

سنة إلا خمسين عامًا ينذرهم وهم لا يؤمنون، فأجاب الله دعاءه، وأهلكهم كلهم، ولم يكن فيه صبي وقت العذاب؛ لأن الله تعالى قال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37]، ولم يوجد التكذيب من الأطفال. ... {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}. [28] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} اسم أبيه لامخ وقيل لمك بن متوشلح، وأمه شمخاء بنت أنوش، وكانا مؤمنين، [وفي معنى قوله تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: لا تلدُ الحيةُ إلا حية] (¬1)، قال ابن عباس: لم يكفرْ لنوحٍ أبٌ ما بينه وبين آدم عليه السلام (¬2). {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ} أي: داري {مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} تعميم بالدعاء لمؤمني كل أمة. قرأ هشام عن ابن عامر، وحفص عن عاصم: (بَيْتِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬3). {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} هلاكًا، وذهابَ رسم، فاستجاب الله دعوته، وأهلكهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬2) انظر: "تفسير الثعالبي" (4/ 345). (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 654)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 425)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 234).

سورة الجن

سُورَةُ الْجِنِّ مكية، وآيها: عشرون وثماني آيات، وحروفها: سبع مئة وتسعة وخمسون حرفًا، وكلمها: مئتا كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)}. [1] {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} أصله وحي؛ من وحي إليه، فقلبت الواو همزة لضمها. {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وكانوا تسعة من جن نصيبين اليمن، استمعوا قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم ذكر أسمائهم وقصتهم وحكمهم في سورة الأحقاف، والجن أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية أو الهوائية. {فَقَالُوا} لما رجعوا إلى قومهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} بليغًا، لأنهم تعجبوا من حسنه وغزارة معانيه. قرأ ابن كثير: (قُرَانًا) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 425)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 237).

[2]

{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)}. [2] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} يدعو إلى الإيمان {فَآمَنَّا بِهِ} بالقرآن. {وَلَنْ نُشْرِكَ} بعد اليوم {بِرَبِّنَا أَحَدًا} وفيه دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم وقت قراءته، فسمعوها، فأخبر الله به نبيه. ... {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)}. [3] {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أي جلالُ ربنا وعظمتهُ (¬1)، والجَدُّ: البخت والحظ، والمعنى: تعاظم جلاله وقدرته عن المحدَثات. {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} اختلف القراء في (أَنَّهُ تَعَالَى) وما بعدها إلى قوله (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ)، وتلك اثنتا عشرة همزة، فقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: بفتح الهمزة فيهن، وافقهم أبو جعفر في ثلاتة: (وَأَنَّهُ تَعَالَى)، (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ)، (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ)، وقرأ الباقون: بكسرها في الجميع (¬2)، فمن كسر، استأنف فوقف على أواخر الآيات، ومن فتح، عطف على أنه عطف على (أَنَّهَ اسْتَمَعَ)، واتفقوا على فتح (أَنَّهُ اسْتَمَعَ)، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ)؛ لأنه لا يصح أن يكون من قولهم، بل هو مما أوحى الله إليه - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف الباقي؛ فإنه يصح أن يكون ¬

_ (¬1) "وعظمته" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 215)، و"تفسير البغوي" (4/ 481)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 237 - 240).

[4]

من قولهم، ومما أوحى، والله أعلم. وأبو عمرو يدغم الذال في الصاد من قوله: (مَا اتَّخَذ صَّاحِبَةً) (¬1). ... {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)}. [4] {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} جاهلُنا إبليس {عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} كذبًا وعدوانًا. ... {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)}. [5] {وَأَنَّا ظَنَنَّا} حَسِبْنا {أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} المعنى: كان في ظننا أن أحدًا لا يكذب على الله بنسبة الزوجة والولد إليه. قرأ يعقوب: (تَقَوَّلُ) بفتح القاف والواو مشددة، والباقون: بضم القاف وإسكان الواو مخففة (¬2). إلى هنا تم الكلام. ... {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)}. [6] وابتدأ كلام الله سبحانه، وهو قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر، ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 375)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 239). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 482)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 239 - 240).

[7]

فأمسى في أرض قفرة، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح. {فَزَادُوهُمْ} أي: زاد الإنسُ الجنَّ باستعاذتهم. {رَهَقًا} طغيانًا وسفهًا؛ بأن قالوا: سُدْنا الجنَّ والإنسَ. ... {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)}. [7] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} أي: الجنَّ {كَمَا ظَنَنْتُمْ} يا كفار الإنس. {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} بعد موته. ... {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)}. [8] ثم رجع إلى قول الجن، وهو قوله: {وَأَنَّا} أي: تقول الجنُّ: إنا. {لَمَسْنَا السَّمَاءَ} طلبنا بلوغ السماء، واللمس مستعار من المس: الطلب؛ كالجس. {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ} قرأ أبو جعفر: (مُلِيَتْ) بفتح الياء بغير همز، والباقون: بالهمز (¬1) {حَرَسًا شَدِيدًا} من الملائكة يحرسون {وَشُهُبًا} من النجوم محرقة. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 241).

[9]

{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}. [9] {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} أي: السماء {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} فيه إيذان بخلو بعض السماء من الحرس قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلما بُعث، منعوا منها بالكلية، يدل عليه: {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} المعنى: كنا قبل نستمع. {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} صفة لـ (شِهَابًا)، أي: أُرصد، يعني: أُعِدَّ له ليرمى به. ... {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)}. [10] {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} بحراسة السماء. {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} خيرًا. ... {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)}. [11] {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} المؤمنون الأبرار {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: قوم دون ذلك، وهم المقتصدون. {كُنَّا طَرَائِقَ} مذاهب {قِدَدًا} فرقًا مختلفة الأهواء، والقدة: القطعة من الشيء.

[12]

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)}. [12] {وَأَنَّا ظَنَنَّا} أَيْقَنَّا {أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ} كائنين {فِي الْأَرْضِ} أينما كنا. {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} أي: هاربين منها إلى السماء. ... {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)}. [13] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} القرآن {آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ} أي: فهو لا يخاف، مبتدأ وخبر، وليس بنهي، ولو كان نهيًا، لقيل: فلا يخف. {بَخْسًا} نقصًا {وَلَا رَهَقًا} ظلمًا. ... {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)}. [14] {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} وهم من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} الجائرون، وهم الذين جعلوا لله ندًّا، يقال: أقسط الرجل: إذا عدل، فهو مُقْسِط، وقَسَطَ: إذا جار، فهو قاسِط. {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا} تَوَخَّوا وتعمَّدوا {رَشَدًا} خيرًا وهداية.

[15]

{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}. [15] {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} توقَد بهم يوم القيامة. إلى هنا من كلام الجن. ... {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)}. [16] ثم قال الله تعالى إخبارًا عن الكفار: {وَأَلَّوِ} (وَأَنْ) مخففة من الثقيلة، تقديره: (وَأَنَّهُ لَو) {اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} طريقة الإسلام. {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} كثيرًا، وذلك بعد ما رُفع عنهم المطر سبع سنين. ... {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)}. [17] {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرهم كيف يشكرون {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} عن عبادته {يَسْلُكْهُ} ندخله. قرأ الكوفيون، ويعقوب: (يَسْلُكْهُ) بالياء؛ أي: يُدخله ربه، وقرأ الباقون: بالنون التي للعظمة (¬1) {عَذَابًا صَعَدًا} شاقًّا. ... {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)}. [18] {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} المبنية للصلاة {لِلَّهِ} تُفرد للصلاةِ والدعاءِ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 656)، و"التيسير" للداني (ص: 215)، و"تفسير البغوي" (4/ 485)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 244).

[19]

وكلِّ ما هو خالص لله تعالى، ولا يُجعل فيها لغير الله نصيب، وتقدم الكلام في حكم المسجد وصيانته وتحريم البصاق فيه في سورة التوبة عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الآية: 18]. وأما حكم القاضي في المسجد، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يجوز؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي بين الخصوم في المسجد، وكذا الخلفاء الراشدون بعده، ومذهب الشافعي: يُكره كراهة تنزيه، فلو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها، فلا بأس بفصلها، وأما الحدود، فلا تقام في المساجد بالاتفاق. {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} فلا تعبدوا فيها غيره سبحانه. ... {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)}. [19] ثم رجع عن الإخبار عن الكفار إلى الإخبار عن الجن، فقال: {وَأَنَّهُ} قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الهمزة، والباقون: بفتحها (¬1) {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} هو محمد - صلى الله عليه وسلم - {يَدْعُوهُ} يعبد الله تعالى، ويقرأ القرآن بنخلة عند سوق عكاظ. {كَادُوا} يعني: الجن، وهم النفر الذين جاؤوه من جن نصيبين. {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} أي: يركب بعضهم بعضًا، يزدحمون حرصًا على ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 656)، و"التيسير" للداني (ص: 215)، و"تفسير البغوي" (4/ 486)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 244 - 245).

[20]

سماع القرآن. قرأ هشام عن ابن عامر: (لُبَدًا) بضم اللام؛ كحُطَم، واحد يدل على الكثرة، وقرأ الباقون: بكسرها (¬1)؛ كمِعَد، جمع لِبْدَة، وهي الجماعة. ... {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)}. [20] {قُلْ} قرأ أبو جعفر، وعاصم، وحمزة: (قُلْ) بغير ألف على الأمر؛ أي: قل للمتظاهرين عليك، وقرأ الباقون: بالألف على الخبر (¬2)، يعني: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يرجع إلى قوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ). {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} إلها معبودًا. {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} في العبادة وغيرها، فلم تتظاهرون علي؟! ... {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)}. [21] {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} غَيًّا. {وَلَا رَشَدًا} خيرًا، وإنما هو تعالى المالك لذلك. ... {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)}. [22] {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ} من عذابه إن عصيته. ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 125)، و"تفسير البغوي" (4/ 486)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 246).

[23]

{أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملجأ. ... {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}. [23] وتستثنى من {لَا أَمْلِكُ} إلى {رَشَدًا} {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ} وتعطف على {بَلَاغًا} {وَرِسَالَاتِهِ} المعنى: لا أملك إلا تبليغَ الرسالة. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فلم يؤمن {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} جمعه للمعنى. ... {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)}. [24] {حَتَّى إِذَا رَأَوْا} فيه إضمار معناه: انتظرهم يا محمد، وأمهلهم حتى إذا رأوا، يعني: المشركين {مَا يُوعَدُونَ} من العذاب. {فَسَيَعْلَمُونَ} عند حلوله بهم {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} أعوانًا هم أم المؤمنون. ... {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)}. [25] {قُلْ إِنْ أَدْرِي} أي: ما أدري {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} من العذاب. {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} أجلًا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير،

[26]

وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)}. [26] {عَالِمُ الْغَيْبِ} رفع على نعت قوله: (رَبِّي). {فَلَا يُظْهِرُ} يُطْلع. {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} مما يختص به علمه. ... {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)}. [27] {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى} أي: اصطفى {مِنْ رَسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء مما هو قليل من كثير. {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} يسير {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} يدي الرسول. {وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} حَفَظَة من الملائكة يحرسونه من الشيطان. ... {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}. [28] {لِيَعْلَمَ} قرأ رويس عن يعقوب: بضم الياء؛ أي: ليُعلم الناسَ ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 657)، و "التيسير" للداني (ص: 215)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 247).

أن الرسل قد بلغوا، وقرأ الباقون: بفتح الياء (¬1)؛ أي: ليعلمَ الله. {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} أي: الرسل {رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} والآية مضمنة أنه تعالى قد علم (¬2) ذلك، فعلى هذا الفعل المتضمن العطف. {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي: علم ما عند الرسل، وأحاط علمه به. قرأ حمزة، ويعقوب: (لَدَيْهُمْ) بضم الهاء، والباقون: بكسرها (¬3). {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} أي: معدودًا محصورًا، فلم يخف عليه شيء، ونصب (عددًا) على الحال، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 488)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 392)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 248). (¬2) "قد علم" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 426)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 248).

سورة المزمل

سُورَةُ المُزَّمِّلِ مكية إلا قولَه تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} إلى آخر السورة؛ فإن ذلك نزل بالمدينة، آيها: عشرون آية، وحروفها: ثماني مئة وثمانية وثلاثون حرفًا، وكلمها: مئة وسبع كلمات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)}. [1] روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه جبريل -عليه السلام- في غار حراء، وحاوره بما حاوره، ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خديجة -رضي الله عنها- فقال: "زَمِّلوني زملوني"، فنزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (¬1) أصله: المتزمل، أدغمت التاء في الزاي؛ أي: معناه: الملتقِّفُ بثوبه، يقال: تزمَّلَ بثوبه: إذا تغطَّى به. ¬

_ (¬1) انظر: قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (4/ 108): قلت: غريب. وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" (5/ 386): جمهور المفسرين والزهري بما في البخاري من أنه عليه السلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره، رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خديجة فقال: "زملوني زملوني"، فنزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}. وعلى هذا نزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}.

[2]

{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)}. [2] {قُمِ اللَّيْلَ} للصلاة، ونصبه ظرف، وكسر الميم للساكنين. {إِلَّا قَلِيلًا} وكان قيام الليل فريضة في الابتداء. ... {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)}. [3] وبيَّن قَدْرَه فقال: {نِصْفَهُ} ظرف أيضًا. {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} من النصف {قَلِيلًا} إلى الثلث. ... {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)}. [4] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} على النصف إلى الثلثين، خَيَّره بين هذه المنازل. قرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب: (أَوِ انْقُصْ) بكسر الواو، والباقون: بضمها (¬1) {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} أي: بينه تبيينًا. سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: "كانت مَدًّا، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم" (¬2). ... {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)}. [5] {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} هو القرآن؛ لما فيه من الأوامر والنواهي والحدود. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 426)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 251). (¬2) رواه البخاري (4759)، كتاب: فضائل القرآن، باب: مد القراءة.

[6]

وسئل - صلى الله عليه وسلم -: كيف يأتيك الوحي؟ قال: "أحيانًا يأتيني مثلَ صلصلةِ الجرس، وهو أشدُّه عليَّ، فيفصم عني وقد وعيتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملَكُ رجلًا يكلمني، فأعي ما يقول". قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا (¬1). والخطاب الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كـ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ونحوه عام للأمة، إلا بدليل يخصه، وهذا قول أحمد والحنفية والمالكية، وقال أكثر الشافعية: لا يعمهم إلا بدليل، وخطابه - صلى الله عليه وسلم - لواحد من الأمة هل يعم غيره؟ قال الشافعي والحنفية والأكثر: لا يعم، وقال أبو الخطاب من أئمة الحنابلة: إن وقع جوابًا، عمَّ، وإلا فلا. ... {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)}. [6] {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} ساعاته كلها، وناشئة جمع ناشى، سميت بذلك؛ لأنها تنشأ؛ أي: تبدو، فكل ما حدث بالليل وبدأ فقد نشأ، وقيل: إن (ناشئة) حبشية معربة. {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} قرأ أبو عمرو، وابن عامر (وِطَآءً) بكسر الواو وفتح الطاء وألف ممدودة بعدها؛ أي: أَثبتُ قيامًا، وقرأ الباقون: بفتح الواو وإسكان الطاء من غير مد، وإذا وقف حمزة، نقل حركة الهمزة إلى الطاء، فحركها ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2333)، كتاب: الفضائل، باب: عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[7]

على أصله (¬1)، معناه: أشد وأثقل على المصلي من صلاة النهار. {وَأَقْوَمُ قِيلًا} أصحُّ قولًا؛ لهدوء الناس، وسكون الأصوات. ... {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)}. [7] {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} تصرُّفًا وتقلُّبًا في مهماتك وشغلك كما يتردد السابح في الماء. ... {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)}. [8] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} بالتوحيد. {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} أي: انقطعْ إليه عما سواه، وأخلص له إخلاصًا. ... {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}. [9] {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} قرأ ابن عامر، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (رَبِّ) بخفض الباء على نعت الرب في قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ)، وقرأ الباقون: بالرفع على الابتداء (¬2)، وتقدم ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 658)، و"التيسير" للداني (ص: 216)، و"تفسير البغوي" (4/ 493)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 426)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 252). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 216)، و"تفسير البغوي" (4/ 494)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 393)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 253 - 254).

[10]

الكلام على قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} و {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] و {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:5]، في أول سورة الصافات. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} أي: فوض إليه أمرك. ... {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}. [10] {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يعني: قريشًا {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} وهو ألَّا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، ونسختها آية القتال. ... {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)}. [11] {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} وعيد لهم؛ أي: لا تشتغل بهم فكرًا، وكِلْهم إلي. {أُولِي النَّعْمَةِ} بفتح النون: أي: التنعيم، وبكسرها؛ أي: الإنعام، وبضمها: المسرة، والتلاوة بالأول {وَمَهِّلْهُمْ} إمهالًا {قَلِيلًا} فلم يكن إلا اليسير حتى قتلوا ببدر. ... {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)}. [12] {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} قيودًا ثقالًا، كلما ارتفعوا بها في جهنم، استفلَتْ بهم {وَجَحِيمًا} نارًا محرقة.

[13]

{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)}. [13] {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} ينشب في حلوقهم، فلا يسوغ فيها. {وَعَذَابًا أَلِيمًا} زيادة على تعذيبهم. ... {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)}. [14] {يَوْمَ} العامل فيه الفعل الذي تضمنه {إِنَّ لَدَيْنَا} المعنى: استقر للكفار لدينا كذا وكذا يوم {تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} تتحرك وتتزلزل لهول ذلك اليوم. {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا} رملًا {مَهِيلًا} سائلًا بعد اجتماعه. ... {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)}. [15] {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} يا أهل مكة {رَسُولًا} هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. {شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} يوم القيامة بالكفر والإيمان {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا}. ... {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)}. [16] نكر الرسول، ثم دخل حرف التعريف في {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} ليعود المعرف على المنكر بعينه، وهو موسى -عليه السلام-، وتمثيلُه لهم أمرَهم بفرعون وعيدٌ؛ كأنه يقول: فحالُهم من العذاب والعقاب إن كفروا صائرة (¬1) إلى مثل حال فرعون. ¬

_ (¬1) في "ت": "سائرة".

[17]

{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} شديدًا ثقيلًا. ... {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)}. [17] {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} أنفسكم {إِنْ كَفَرْتُمْ} بقيتم على الكفر. {يَوْمًا} مفعول {تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} لا ظرفًا لـ {كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} ثم لأن الكفر لا يكون يوم. {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} جمع أشيب، وهو الأبيض الرأس. ... {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)}. [18] {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ} منشق {بِهِ} يعني: باليوم؛ لشدته، وبما عليه من الملائكة؛ كانفطار الخشبة بالقدوم، ولم يقل: منفطر؛ لأن السماء تذكر وتؤنث، فمن ذكر، ذهب إلى المعنى؛ لأن معناها السقف؛ لقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [الأنبياء: 32]، ومن أنث، ذهب إلى اللفظ. {كَانَ وَعْدُهُ} تعالى بمجيء ذلك اليوم {مَفْعُولًا} كائنًا بلا بد. ... {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}. [19] {إِنَّ هَذِهِ} الآياتِ المخوفة {تَذْكِرَةٌ} عظةٌ. {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} بالإيمان.

[20]

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}. [20] {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} أقلَّ (¬1) {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} قرأ هشام عن ابن عامر: (ثُلْثَي) بإسكان اللام، والباقون: بضمها {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} قرأ ابن كثير، والكوفيون: بنصب الفاء والثاء وضم الهاءين عطفًا على (أَدْنَى)؛ أي: وتقوم نصفه وثلثه، وقرأ الباقون: بخفض الفاء والثاء وكسر الهاءين عطفًا على (ثُلُثَي) (¬2)؛ أي: وتقوم أقلَّ من ثلثي الليل ومن نصفه ومن ثلثه. {وَطَائِفَةٌ} أي: تقوم أنت وتقوم طائفة {مِنَ} أصحابك {الَّذِينَ مَعَكَ} يعني: المؤمنين، وكانوا يقومون معه. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [فيعرف مقادير جميع ذلك {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} لن تطيقوا معرفة ذلك {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} فعاد عليكم بالعفو والتخفيف بترك ما فرض من قيام الليل] (¬3). ¬

_ (¬1) "أقل" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 658)، و"التيسير" للداني (ص: 216)، و"تفسير البغوي" (4/ 495 - 496)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 255). (¬3) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} من غير توقيت لصلاة، وقيل: القرآن هنا: الصلاة، عبر عنها به؛ لأنه بعض أركانها، ونسخ بالصلوات الخمس، ثم أومأ إلى علة النسخ فقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} فيثقل عليهم قيام الليل، و (أَنْ) مخففة من الثقيلة؛ أي: علم أنه سيكون. {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} يسافرون للتجارة {يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي: رزقه {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: يجاهدون لا يطيقون قيام الليل. {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي: القرآن، كان هذا في صدر الإسلام، ثم نُسخ بالصلوات الخمس، وذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} المفروضةَ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} الواجبة. {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} هو الإنفاق في سبل الخير غير المفروض. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} مما تؤخِّرونه إلى الوصية، ونصب (خَيْرًا) (وَأَعْظَمَ) على المفعول الثاني لـ (تَجِدُوهُ)، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} لذنوبكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر، ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح، والله أعلم.

سورة المدثر

سُوْرَةُ الْمُدَّثِّرُ مكية، وآيها: ست وخمسون آية، وحروفها: ألف وعشرة أحرف، وكلمها: مئتان وخمس وخمسون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}. [1] روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنتُ على جبل حِراء، فنوديت: يا محمد! إنك رسول الله، فنظرت عن يميني ويساري، فلم أر شيئًا، فنظرت فوقي، [فرأيت شيئًا، وفي رواية: فنظرت فوقي] (¬1)، فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض -يعني: الملك الذي ناداه-، فرعبت، ورجعت إلى خديجة، فقلت: دَثِّروني دَثِّروني، فنزل جبريل وقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} " (¬2)، الكلام فيه كـ (الْمُزُّمِّل)؛ أي: المتلفِّف بثوبه، من الدثار، وهو ما فوق الشعار الذي يلي الجسد، وقيل: هي أول سورة نزلت، والأصح أن أول ما نزل: ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري (4638)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة المزمل، ومسلم (161)، كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنه.

[2]

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] كما ورد به الحديث الصحيح (¬1). ... {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}. [2] {قُمْ} من مَضْجَعِك {فَأَنْذِرْ} خَوِّف الكفارَ النارَ إن لم يؤمنوا. ... {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}. [3] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عَظِّمْه مما يقول عبدة الأوثان. ... {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}. [4] {وَثِيَابَكَ} أي: نفسك {فَطَهِّرْ} من الذنب، قال ابن عباس: "لا تلبَسْها على معصية ولا غدر، البسها وأنت طاهر" (¬2)، وقيل: معناه: ثيابك فقصر؛ لأن تقصيرها طهرة لها؛ لأن العرب كانوا يجرون ثيابهم فخرًا وخيلاء، فربما أصابتها نجاسة. ... {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)}. [5] {وَالرُّجْزَ} قرأ أبو جعفر، ويعقوب، وحفص عن عاصم: بضم الراء، والباقون: بكسرها (¬3)، وهما لغتان معناهما واحد، كالذِّكر والذُّكر، ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث المتقدم. (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (29/ 145)، وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 500)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 393). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 216)، و"تفسير البغوي" (4/ 500)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 393)، و "معجم القراءات القرآنية" (7/ 259).

[6]

والمراد: الأوثان، وقيل: الضم للصنم، والكسر للنجاسة {فَاهْجُرْ} لا تقربها. ... {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)}. [6] {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} لا تُعط مالكَ مصانعةً لتُعطى أكثر منه، و (تَسْتكْثِرُ) رفع لأنه مستقبل في معنى الحال؛ أي: لا تعط مستكثرًا، قال الضحاك: وهذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومباح لأمته، لكن لا أجر لهم فيه (¬1). ... {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}. [7] {وَلِرَبِّكَ} أي: لأمره {فَاصْبِرْ} على الطاعة. ... {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)}. [8] {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} نفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، يعني: النفخة الثانية. ... {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)}. [9] {فَذَلِكَ} أي: وقت النقرة {يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة. {يَوْمٌ عَسِيرٌ} شديد. ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 364).

[10]

{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}. [10] {عَلَى الْكَافِرِينَ} يعسر فيه الأمر عليهم. {غَيْرُ يَسِيرٍ} هين، تأكيد، وفيه إشعار بيسره على المؤمنين. ... {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)}. [11] ونزل في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى: الوحيد في قومه (¬1) أي: لا نظير له في ماله وشرفه في بيته {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أي: خلقته من بطن أمه فريدًا لا مال له ولا ولد. ... {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)}. [12] ثم أنعمت عليه {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} كثيرًا له مدد بالنماء؛ كالزرع والضرع والتجارة. ... {وَبَنِينَ شُهُودًا (13)}. [13] {وَبَنِينَ شُهُودًا} حضورًا بمكة، لا يغيبون، وكانوا عشرة أو أكثر. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (29/ 157)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3382). وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 502).

[14]

{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)}. [14] {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} ببسط في (¬1) العيش وطول العمر والولد بسطًا. ... {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)}. [15] {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} له من المال والولد. ... {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)}. [16] {كَلَّا} ردع له عن الطمع، ثم علل الردع على سبيل الاستئناف فقال: {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا} القرآن. {عَنِيدًا} معاندًا، فما زال الوليد بعد هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. ... {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)}. [17] {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} سأكلفه مشقة من العذاب. ¬

_ (¬1) في "ت": "بسطت له في".

[18]

{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)}. [18] {إِنَّهُ فَكَّرَ} ماذا يقول في القرآن لما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقرأ {حم} السجدة، فقال لقومه بني مخزوم: سمعت منه كلامًا ما هو بكلام إنس ولا جن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق (¬1)، فلم يرض قومه بذلك {وَقَدَّرَ} في نفسه ما يقوله قدحًا (¬2) وهيأه. ... {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)}. [19] {فَقُتِلَ} لُعن {كَيْفَ قَدَّرَ} تعجيب من تقديره، واستهزاء به. روي أنه لما قال ما قال حين سمع القرآن، قالت قريش: صبأ الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إلى الوليد حزينًا، وكلمه بما أحماه، فقام الوليد فناداهم، فقال: تزعمون أنه مجنون، فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون: إنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرًا؟ فقالوا: لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر فقال: إنه (¬3) ساحر، فقال (¬4): أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 503)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 245). (¬2) "ما يقوله قدحًا" زيادة من "ت". (¬3) في "ت": "ما هو إلا". (¬4) "فقال" زيادة من "ت".

[20]

وولده ومواليه؟ ففرحوا بقوله، وتفرقوا متعجبين منه (¬1). ... {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)}. [20] {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تكرير للمبالغة. ... {ثُمَّ نَظَرَ (21)}. [21] {ثُمَّ نَظَرَ} في وجوه الناس؛ ليعلم ما عندهم. ... {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)}. [22] {ثُمَّ عَبَسَ} كلح وجهه وكرَّهه {وَبَسَرَ} زاد في الكلوح. ... {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)}. [23] {ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الحق {وَاسْتَكْبَرَ} عن الإيمان واتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -. ... {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)}. [24] {فَقَالَ إِنْ هَذَا} الذي يقول محمد {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} يروى عن السحرة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (10/ 73)، و"الكشاف" للزمخشري (4/ 651).

[25]

{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)}. [25] {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} يعني: يسارًا وجبرًا، وهما عبدان من بلد فارس كانا بمكة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس عندهما، فقال الوليد: ما هذا القرآن إلا قول جبر ويسار. ... {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)}. [26] {سَأُصْلِيهِ} سأدخله {سَقَرَ} اسم من أسماء جهنم، وهو بدل من {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}، ولم ينصرف للتعريف والتأنيث. ... {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)}. [27] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} هو تعظيم لشأنها. ... {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)}. [28] {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} شيئًا من لحم ولا عصب إلا أهلكته، ثم يعود كما كان. ... {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)}. [29] {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} مغيرة للجلد حتى تجعله أسود.

[30]

{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}. [30] {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} هم خزنتها: مالك، ومعه ثمانية عشر على بابها، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهيب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفًا فيرميهم حيث أراد في جهنم. قرأ أبو جعفر: (تِسَعْةَ عْشَرَ) بفتح السين وإسكان العين الأولى والثانية لتوالي الحركات (¬1). ... {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)}. [31] ولما نزلت هذه الآية، قال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة، وكان قويًّا شديد البأس: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل تجهيلًا لهم: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} (¬2) لا يطاقون، وليسوا كما يتوهمون. {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} تسعة عشر {إِلَّا فِتْنَةً} ضلالًا. {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} بأن يقولوا استهزاءً: لم كانوا تسعة عشر؟ ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 279)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 262 - 263). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 505).

[32]

{لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هم اليهود صِدْقَ محمد؛ لأن عددهم في التوراة تسعة عشر (¬1)، وتعطف على {لِيَسْتَيْقِنَ}. {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا} من أهل الكتاب {إِيمَانًا} تصديقًا، لموافقة محمد كتابهم، ثم بالغ في نفي احتمال الشك، فعطف على {لِيَسْتَيْقِنَ}، فقال: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} من غيرهم في عدد الملائكة، ثم عطف على {لِيَسْتَيْقِنَ} أيضًا. {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك بالمدينة {وَالْكَافِرُونَ} بمكة. {مَاذَا} أيّ شيء الذي {أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا} العدد المستغرب {مَثَلًا} استبعادًا أن يكون هذا من عند الله، والمراد بالمثل: الحديث نفسه. {كَذَلِكَ} أي: كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة، وهدى من صدَّقَ. {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ولما قال أبو جهل: أما كان لمحمد أعوان إلا تسعة عشر؟! نزل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} (¬2) من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار {إِلَّا هُوَ} ثم رجع إلى ذكر سقر. فقال: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى} عظة {لِلْبَشَرِ}. ... {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)}. [32] وقوله: {كَلَّا} رد على الكافرين وأنواع الطاغين على الحق، ثم ¬

_ (¬1) "تسعة عشر" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 506).

[33]

أقسم تعالى فقال: {وَالْقَمَرِ} تخصيص تشريف وتنبيه على النظر في عجائبه، وقدرة الله تعالى في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها واختلافها على نظام واحد لا يخل. ... {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)}. [33] {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} قرأ نافع، ويعقوب، وحمزة، وخلف، وحفص عن عاصم: (إِذْ) بإسكان الذال من غير ألف (أَدْبَرَ) بهمزة مفتوحة وإسكان الدال بعدها على وزن أَفْعَلَ، وقرأ الباقون: (إِذَا) بألف بعد الذال (دَبَرَ) بفتح الدال من غير همز قبلها على وزن فَعَلَ (¬1)، ومعناهما واحد؛ أي: ولى ذاهبًا. ... {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)}. [34] {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أضاء وتبيَّنَ. ... {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)}. [35] وجواب القسم: {إِنَّهَا} أي: سقر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 216)، و"تفسير البغوي" (4/ 506)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 393)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 263). (¬2) "أي: سقر" زيادة من "ت".

[36]

{لَإِحْدَى الْكُبَرِ} جمع كُبْرى؛ أي: البلايا العِظام. ... {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)}. [36] {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} ونصب (نَذِيرًا) حال؛ أي: إنها لكبيرة في حال الإنذار، وذكَّر (نذيرًا)، لأنه بمعنى العذاب، قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها (¬1). ... {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)}. [37] وتبدل من {الْحَيَاةُ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ} أن يسبق إلى الخير. {أَوْ يَتَأَخَّرَ} عنه إلى الشر؛ نحو: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وهو أمر وعيد وتهديد. ... {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)}. [38] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي: رهنٌ بعملها في النار، والهاء في (رَهِينَةٌ) للمبالغة، أو على تأنيث اللفظ، لا على معنى الإنسان، ولو كانت صفة، لقيل: رهين. ... {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)}. [39] {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} هم الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (10/ 76)، و"تفسير القرطبي" (19/ 85).

[40]

وهو استثناء (¬1) ظاهره الانفصال، وتقديره: لكن أصحاب اليمين، وذلك لأنهم لم يكتسبوا ما هم مرتهنون به. ... {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)}. [40] {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} بينهم. ... {عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)}. [41] {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} ماذا حل بهم؟ ... {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)}. [42] فإذا خرج الموحدون من النار، قال المؤمنون لمن فيها، وذلك أن الله أطلع أهل الجنة في الجنة حتى رأوا أهل النار وهم في النار، فسألوهم: {مَا سَلَكَكُمْ} أدخلكم. {فِي سَقَرَ} قرأ أبو عمرو: (سَلَككُّمْ) بإدغام الكاف، في الكاف والباقون: بالإظهار. ... {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)}. [43] فأجاب الكفار و {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} لله تعالى. ¬

_ (¬1) "استثناء" زيادة من "ت".

[44]

{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)}. [44] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} ولا نحض على إطعامه. ... {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)}. [45] {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} ندخل في الباطل مع المبطلين. ... {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)}. [46] {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} البعث. ... {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)}. [47] {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} الموت (¬1). ... {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)}. [48] قال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} من الملائكة والأنبياء والصالحين. ¬

_ (¬1) "الموت" زيادة من "ت".

[49]

{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)}. [49] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ} مواعظِ القرآن (¬1) {مُعْرِضِينَ} نصب على الحال. ... {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)}. [50] {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} جمع حمار {مُسْتَنْفِرَةٌ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: بفتح الفاء؛ أي: استنفرها غيرُها، وقرأ الباقون: بكسرها (¬2)؛ أي: طلبت النفار من نفسها؛ لشدة خوفها. ... {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}. [51] {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} هم الرماة الذين يتصيدون. ... {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)}. [52] ولما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن سرك أن نتبعك، فليصبح عند رأس كل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان نؤمر فيه باتباعك، نزل: ¬

_ (¬1) "مواعظ القرآن" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 660)، و"تفسير البغوي" (4/ 508)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 393)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 265 - 266).

[53]

{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا} (¬1) قراطيس {مُنَشَّرَةً} تنشر وتقرأ. ... {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)}. [53] {كَلَّا} ردع عن اقتراحهم الآيات {بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} لأنهم لو خافوا النار، لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة. ... {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)}. [54] {كَلَّا} ردع عن إعراضهم، ثم ابتدأ فقال: {إِنَّهُ} أي: القرآنَ {تَذْكِرَةٌ} عظة. ... {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)}. [55] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} اتعظ به. ... {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}. [56] {وَمَا يَذْكُرُونَ} قرأ نافع: (تَذْكُرُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (29/ 171)، وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 508)، و"الدر المنثور" للسيوطي (8/ 655). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 660)، و"التيسير" للداني (ص: 216)، و"تفسير البغوي" (4/ 509)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 266).

{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لهم الهدى. {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} بأن يُتقى ويُطاع ويُحذر عصيانه. {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} بأنْ يغفرَ لعباده إذا اتقوه، والله أعلم. ***

سورة القيامة

سورة القيامة مكية، وآيها: أربعون آية، وحروفها: ست مئة واثنان وخمسون حرفًا، وكلمها: مئة وتسع وتسعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)}. [1] {لَا أُقْسِمُ} تقدم مذهب السوسي في إسكان الميم من (أُقْسِمْ) في سورة الواقعة [الآية: 75]، وقرأ قنبل عن ابن كثير: (لأُقْسِمُ) الحرف الأول فقط بحذف الألف التي بعد اللام، فتصير لام توكيد، واختلف عن البزي، وقرأ الباقون: بالألف (¬1)، فتكون لام الابتداء، و (أقسم) خبر مبتدأ محذوف معناه: لأنا أقسم {بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أقسم الله به تنبيهًا منه لعظمته وهوله. ... {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}. [2] {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا، وإن ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 661)، و"تفسير البغوي" (4/ 511)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 428)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 7).

[3]

اجتهدت في الإحسان، وهو قسم كالأول على الصحيح، ولا خلاف بين القراء في إثبات الألف التي بعد اللام فيه، و (النَّفْس) في الآية اسم جنسٍ لنفوس البشر. ... {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)}. [3] وجواب القسم مضمر فيه، تقديره: لَتُبْعَثُنَّ، يدل عليه: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} الذي ينكر البعثَ {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} بعدَ تفرُّقها. قرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو جعفر: (أَيَحْسَبُ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (¬1). ... {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}. [4] {بَلَى} هو إيجاب ما نفي، والمعنى: بلى نجمعها. {قَادِرِينَ} نصب على الحال {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} والبنان: الأصابع؛ أي: نضمها على صغرها ولطافتها بعضَها على بعض كما كانت من غير نقصان، وقيل: معناه: نجعلها في حياته هذه شيئًا واحدًا كخف البعير، فلا يقدر على عمل لطيف كالكتابة، فتقل منفعته بيده، ففي هذا توعُّد ما. ... {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)}. [5] {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} يكذب بما قُدَّامه من البعث. ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 428)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 7).

[6]

{يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)}. [6] {يَسْأَلُ أَيَّانَ} متى (¬1) {يَوْمُ الْقِيَامَةِ} سؤالَ استهزاء وتكذيب. ... {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)}. [7] {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} قرأ نافع، وأبو جعفر: (بَرَقَ) بفتح الراء؛ أي: شَقَّ عينَه وفتَحها؛ من البريق، وهو التلألؤ، وقرأ الباقون: بكسرها (¬2)؛ أي: شَخَصَ عند الموت، فلا يطرف؛ مما يرى من العجائب. ... {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)}. [8] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} الخسوف والكسوف معناهما واحد، وهو ذهاب ضوء أحد النَّيرين أو بعضه. وصلاة الكسوف سنة (¬3) مؤكدة بالاتفاق، فإذا كسفت الشمس أو القمر، فزعوا للصلاة. واختلفوا في صفتها، فقال أبو حنيفة: صلاة كسوف الشمس ركعتان كهيئة النافلة، ويصلي بهم إمام الجمعة، ويطيل القراءة، ولا يجهر، ولا يخطب، وخسوف القمر ليس له اجتماع، ويصليها الناس في منازلهم ¬

_ (¬1) "متى" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 216)، و"تفسير البغوي" (4/ 513)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 393)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 8). (¬3) "سنة" زيادة من "ت".

[9]

ركعتين كسائر النوافل، وقال الثلاثة: الصلاة لكسوف الشمس ركعتان في جماعة، كل ركعة بركوعين، يطيل الأولى، ويقصر الثانية يسيرًا، ويقرأ في كل ركعتين مرتين. واختلف الثلاثة في صلاة خسوف القمر، فقال مالك فيها كقول أبي حنيفة، وقال الشافعي وأحمد: هي كصلاة كسوف الشمس. واختلفوا في الجهر بالقراءة، فقال مالك: لا يجهر في كسوف الشمس؛ كقول أبي حنيفة، وقال الشافعي: يجهر في كسوف القمر دون الشمس، وقال أحمد: يجهر فيهما، ويخطب لهما عند الشافعي خطبتين بأركانهما في الجمعة، ويحث على التوبة والخير، وعند مالك وأحمد لا يخطب؛ كمذهب أبي حنيفة. ... {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)}. [9] {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أسودين مكوَّرين كأنهما ثوران عقيران في النار. ... {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)}. [10] {يَقُولُ الْإِنْسَانُ} الكافر {يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} المهرب. ... {كَلَّا لَا وَزَرَ (11)}. [11] {كَلَّا} ردع عن الفرار {لَا وَزَرَ} لا ملجأ تتحصن به.

[12]

{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)}. [12] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} المصير، فيحاسب الخلائق ويجازيهم. ... {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)}. [13] {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ} قبلَ موته من خير وشر عَمِلَه. {وَأَخَّرَ} من حسنة وسيئة سنَّها يُعمل بهما بعده. ... {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)}. [14] {بَلِ الْإِنْسَانُ} إضراب بمعنى الترك، لا على معنى إبطال القول الأول. {عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} شاهد، والهاء في (بَصِيَرةٌ) للمبالغة، ويراد بالبصيرة: جوارحُه، والملائكةُ الحفظة. ... {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}. [15] {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي: ولو جاء بكل معذرة، ما قُبلت منه. ... {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)}. [16] وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا لُقِّنَ الوحيَ، يحرك لسانه مسارعة إلى حفظه قبل

[17]

فراغ جبريل، مخافة أن يتفلت منه، فنزل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ} (¬1) بالقرآن. {لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} حذرًا أن يفوتك منه شيء؛ أي: لا تقرأه حتى يفرغ جبريل من قراءته. ... {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)}. [17] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك. {وَقُرْآنَهُ} أي: قراءته عليك وجَريانَه على لسانك. ... {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)}. [18] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: قرأه رسولنا جبريل عليك {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاستمع قراءته. ... {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}. [19] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} بأن نبُيِّنه لك حتى تفهمه، فكان جبريل إذا أتى النبيَّ -عليهما السلام- بالوحي، أطرق، فإذا ذهب عنه، قرأه كما وعده الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (448)، كتاب: الصلاة، باب: الاستماع للقراءة، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[20]

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)}. [20] {كَلَّا} رجوع إلى مخاطبة قريش، وردٌّ عليهم وعلى أقوالهم في رد الشريعة بقوله: (كَلَّا)؛ أي: ليس كما تقولون، وإنما أنتم قوم قد ألهتكم (¬1) الدنيا بشهواتها، فذلك قوله: {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} الدنيا. ... {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)}. [21] {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} فلا تعملون لها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب: (يُحِبُّونَ) و (يَذَرُون) بالغيب، وقرأهما الباقون: بالخطاب على تقدير: قل لهم يا محمد (¬2). ... {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} [22] ولما ذكر الآخرة، أخبر بشيء من حال أهلها بقوله: {وُجُوهٌ} رفع بالابتداء، وابتدأ بالنكره لأنها تخصصت بقوله: {يَوْمَئِذٍ} ظرف لخبر المبتدأ، وهو {نَاضِرَةٌ} أي: ناعمة حسنة من نضرة النعيم. ... ¬

_ (¬1) في "ت": "غلبتكم". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 217)، و"تفسير البغوي" (4/ 515)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 393)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 10 - 11).

[23]

{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}. [23] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} من نظر العين، وحمل هذه الآية جميعُ أهل السنة على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله تعالى بلا كيف ولا تحديد كما هو معلوم موجود، لا يشبه الموجودات، كذلك لا يشبه المرئيات في شيء، فإنه ليس كمثله شيء سبحانه. قال - صلى الله عليه وسلم - "إنكم ترون ربَّكم يومَ القيامة كما ترون القمرَ ليلةَ البدر لا تُضامون في رؤيته" (¬1). والمعتزلة ينفون رؤية الله تعالى، ويذهبون في هذه الآية إلى أن المعنى: إلى رحمة ربها ناظرة، وإلى ثوابه، أو إلى ملكه، فقدروا مضافًا محذوفًا، وتقدم الكلام على ذلك، واختلاف (¬2) الأئمة على رؤيته سبحانه في الآخرة في سورة الأنعام. ... {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)}. [24] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} عابسة متكرِّهة. ... {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}. [25] {تَظُنُّ} تتيقَّن {أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} داهية عظيمة تفقر؛ أي: تكسر فقار الظهر. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6997)، كتاب: التوحيد، باب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}، ومسلم (633)، كتاب، المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (¬2) في "ت": "اتفاق".

[26]

{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)}. [26] {كَلَّا} زجر لقريش، وتذكيرهم بموطن من مواطن الهول، وهي حالة الموت والمنازعة {إِذَا بَلَغَتِ} النفسُ {التَّرَاقِيَ} جمع تَرْقُوة، وهي العظم بين ثغرة النحر والعاتق أعلى الصدر موازية للحلقوم، ولكل أحد ترقوتان، لكن من حيث هذا الأمر في كثيرين، جُمع؛ إذ النفس المرادة اسم جنس. ... {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)}. [27] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي: يرقيه ليشفى ما فيه. قرأ حفص عنه عاصم: (مِنْ رَاقٍ) بإظهار النون مع سكتة عليها خفيفة، وقرأ الباقون: بإدغام النون في الراء (¬1)، وروي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء على (رَاقِي). ... {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)}. [28] {وَظَنَّ} أي: تيقن {أَنَّهُ الْفِرَاقُ} فراق الدنيا. ... {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)}. [29] {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 661)، و"الكشف" لمكي (2/ 55 - 56)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 427)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 10).

[30]

{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)}. [30] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أي: مرجع العباد إلى الله يساقون إليه. ... {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)}. [31] {فَلَا صَدَّقَ} يعني: أبا جهل لم يصدق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَلَا صَلَّى} لله. أمال رؤوس الآي من قوله (وَلاَ صَلَّى) إلى آخر السورة: ورش، وأبو عمرو بين بين بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، واختلف عن أبي بكر في (سُدَى)، فروي عنه الإمالة والفتح. وقرأ الباقون: بإخلاص الفتح فيهما (¬1). ... {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)}. [32] {وَلَكِنْ كَذَّبَ} بالقرآن {وَتَوَلَّى} عن الإيمان. ... {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)}. [33] {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} يتبختر في مشيته (¬2) إعجابًا، أصله يَتَمَطَّطُ. ... {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)}. [34] {أَوْلَى لَكَ} مبتدأ وخبر، معناه: وليكنْ ما تكره. ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 151 و 217)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 428)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 11). (¬2) في "ت": "مشيه".

[35]

{فَأَوْلَى} فهو أولى بك من غيره، فهو وعيد لأبي جهل. ... {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)}. [35] {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وعيدٌ ثانٍ كرره تأكيدًا، تلخيصه: ويل لك في الدنيا، ثم في القبر، ثم حين البعث، ثم في النار مهملًا. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية، أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء، وهزه مرة أو مرتين، ولكزه في صدره، وقال له: "أَوْلى لكَ فأولى، ثم أولى لك فأولى"، فقال أبو جهل: أتوعدني يا محمد؟! والله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإني لأعزُّ من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر، صرعه الله شر مصرع، وقتله أسوأ قتلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن لكل أمة فرعونًا، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل" (¬1). ... {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)}. [36] {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} هو أبو جهل {أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} مهملًا لا يؤمر ولا ينهى. ... ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (30/ 254)، و"تفسير البغوي" (4/ 518)، و"تفسير الثعلبي" (10/ 92).

[37]

{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)}. [37] {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} تُصَبُّ في الرحم، فيستدل على ذلك بالقدرة على البعث. قرأ يعقوب، وحفص عن عاصم: (يُمْنَى) بالياء على التذكير إرادة المني، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث إرإدة النطفة، واختلف عن هشام (¬1). ... {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)}. [38] {ثُمَّ كَانَ} المنيُّ {عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} اللهُ منها الإنسان، وعدَّل أعضاءه. ... {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)}. [39] {فَجَعَلَ مِنْهُ} من المني {الزَّوْجَيْنِ} الصنفين. {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وهو استدلال آخر بالإبداء على الإعادة. ... {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}. [40] {أَلَيْسَ ذَلِكَ} الذي فعل هذا. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 662)، و "التيسير" للداني (ص: 217)، و"تفسير البغوي" (4/ 518)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 394)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 11 - 13).

{بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فيعيد الأجسام كهيئتها للبعث. روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحانك اللهم وبحمدك بلى" (¬1)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (887)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء في الصلاة، من حديث أبي هريرة.

سورة الإنسان

سورة الإنسان مكية، وقيل: مدنية، وقيل: منها آية مكية، وهي قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}، والباقي مدني، وآيها: إحدى وثلاثون آية، وحروفها ألف وأربع وخمسون حرفًا، وكلمها: مئتان واثنتان وأربعون كلمة. روي أنها نزلت في صنيع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في إطعامه عشاءه وعشاء أهله وولده لمسكين ليلةً، ثم ليتيم ليلة، ثم لأسير ثالثة، متواليات (¬1)، والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}. [1] {هَلْ} بابها المشهور للاستفهام المحض، ومعناها هنا: قد. {أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} يعني: آدم عليه السلام {حِينٌ} مدة {مِنَ الدَّهْرِ} أربعون سنة ملقى من طين بين مكة والطائف قبل أن تنفخ فيه الروح. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 408).

[2]

{لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [لا يُذكر ولا يُعرف، ولا يُدرى ما اسمه، ولا ما يراد به، فكان شيئًا، ولم يكن مذكورًا] (¬1)، ولا منوهًا به في العالم. ... {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)}. [2] ثم بين خلق بنيه فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} يعني: بني آدم، والإنسان هنا هو اسم الجنس {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} نعت؛ أي: أخلاطٍ، واحدها مَشَج -بفتح الميم والشين- يعني: ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم، فيكون منهما الولد، فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه، كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم، فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر، فمن ماء المرأة. {نَبْتَلِيهِ} حال؛ أي: خلقناه مريدين ابتلاءه؛ بأن نختبره بالأمر والنهي. {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} ذا سمع وبصر. ... {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}. [3] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ} بينا له {السَّبِيلَ} أي: الطريقَ إلى الهدى والضلالة. {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} حالان قسمتهما (إما)؛ أي: بأن يشكر فيؤمن، أو يكفر فيضل. ... ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[4]

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}. [4] {إِنَّا أَعْتَدْنَا} هيأنا (¬1) {لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ} يسحبون بها في النار. قرأ نافع، وأبو جعفر، والكسائي، وأبو بكر، ورويس، وهشام: (سَلاَسِلًا) منونًا مصروفًا؛ لأن الأصل الصرف، ووقفوا عليه بالألف بدلًا منه، وقرأ الباقون: بغير تنوين على المشهور عند النحاة، ووقف منهم بالألف صلة للفتحة واتباعًا لخط المصحف: أبو عمرو، وحفص، وروح، والبزي، وابن ذكوان بخلاف عنهم سوى أبي عمرو، ووقف الباقون بغير ألف، وهم: حمزة، وقنبل، وخلف (¬2). {وَأَغْلَالًا} في أعناقهم تُشد فيها السلاسل. {وَسَعِيرًا} نارًا مستعرة يُعذَّبون بها. ... {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)}. [5] {إِنَّ الْأَبْرَارَ} هم الصادقون المطيعون {يَشْرَبُونَ} في الآخرة خمرًا. {مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا} ما تمزج به {كَافُورًا} وهو اسم عين ماء في الجنة. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 363)، و"التيسير" للداني (ص: 217)، و"تفسير البغوي" (4/ 522 - 523)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 394 - 395)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 19 - 20).

[6]

{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}. [6] {عَيْنًا} نصب بحال (كافور) (¬1) {يَشْرَبُ بِهَا} أي: يشربها، فالباء زائدة. {عِبَادُ اللَّهِ} أي: أولياؤه {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم؛ لأن أنهار الجنة تكون منقادة لأهلها، كما أن الأشجار تكون منقادة لهم، فيتبعهم النهر إلى حيث شاؤوا. ... {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)}. [7] روي أن الحسن والحسين مرضا، فنذر علي وفاطمة وفضة جاريتهما إن عوفيا صيام ثلاثة أيام، فعوفيا، فلم يكن عندهم شيء، فاستقرض علي ثلاثة أصواع من شعير من يهودي، فطحنت فاطمة صاعًا، وخبزته خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها قدامهم ليفطروا، فقال سائل: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد أهل (¬2) الجنة، فآثروه به، وباتوا لم يطعموا شيئًا، وأصبحوا صيامًا، فلما قدموا الصاع الثاني، في الليلة الثانية، وهو خمسة أقراص ليفطروا عليه، وقف عليهم يتيم سائلًا، فآثروه ولم يطعموا شيئًا، وأصبحوا صيامًا، وفي الليلة الثالثة (¬3) قدموا الصاع ¬

_ (¬1) في "ت": "تبعًا (للكافور) ". (¬2) "أهل" زيادة من "ت". (¬3) "وفي الليلة الثالثة" زيادة من "ت".

[8]

الثالث، وهو خمسة أقراص ليفطروا عليه، وقف عليهم أسير، فآثروه ولم يطعموا شيئًا فنزل استئنافًا: {يُوفُونَ بِالنَّذْر} (¬1) إذا نذروا في الطاعة، وتقدم الكلام في حكم النذر في سورة البقرة. {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} منتشرًا؛ من استطار الحريق: انتشر. ... {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}. [8] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} حب الطعام وشهوتهم له. {مِسْكِينًا} لا مال له {وَيَتِيمًا} لا أب له {وَأَسِيرًا} يعني: أسارى الكفار؛ فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: "أحِسنْ إليه" (¬2). ... {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)}. [9] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} لم يقولوا ذلك باللسان، ولكن من اعتقادهم وضميرهم، فأخبر الله بذلك عن قلوبهم. {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً} على ذلك {وَلَا شُكُورًا} بأن تشكرونا عليه. ... ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" (10/ 99)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 293)، وقال: وهذا حديث لا يشك في وضعه، وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (4/ 133). (¬2) قال المناوي في "الفتح السماوي" (3/ 1070): قال الولي العراقي: لم أقف عليه.

[10]

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)}. [10] {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا} لا انبساطَ فيه {قَمْطَرِيرًا} شديدًا. ... {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)}. [11] {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} الذي يخافون {وَلَقَّاهُمْ} أعطاهم {نَضْرَةً} حسنًا في وجوههم {وَسُرُورًا} في قلوبهم. ... {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)}. [12] {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} على طاعته {جَنَّةً} أدخلهم فيها {وَحَرِيرًا} ألبسهموه. ... {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)}. [13] {مُتَّكِئِينَ} نصب على الحال {فِيهَا} في الجنة {عَلَى الْأَرَائِكِ} السُّرُر في الحِجال، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعا، وتقدم في سورة (يس). {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا} يؤذيهم حرُّها {وَلَا زَمْهَرِيرًا} بردًا شديدًا. ... {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)}. [14] {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} قريبةً منهم ظلالُ أشجارها.

[15]

{وَذُلِّلَتْ} سُخِّرَت وانقادت {قُطُوفُهَا} جمع قِطْف، وهو ما يقطف من الثمار {تَذْلِيلًا} المعنى: سُهِّل لهم اجتناؤها. ... {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)}. [15] {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ} جمع إناء، وهي الأوعية {مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} الكوب: ما لا عروةَ له ولا أُذُنَ من الأواني {كَانَتْ قَوَارِيرَا}. ... {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)}. [16] خبر (كانت) {قَوَارِيرَا} وإنما كرر القوارير؛ للتبيين، ومعناه: صفاؤها كالقوارير، وبياضها كالفضة. قرأ نافع، وأبو جعفر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: (قَوَارِيرًا قَوَارِيرًا) بتنوينهما، ووقفوا عليهما بالألف، وقرأ ابن كثير، وخلف: في الأول بالتنوين، ووقفا عليه بالألف، والثاني بغير تنوين، ووقفا عليه بغير ألف، والباقون: بغير تنوين فيهما، ووقف حمزة، ورويس عليهما (¬1) بغير ألف، واختلف عن روح، ووقف هشام عليهما بالألف صلة للفتحة، ووقف الباقون، وهم: أبو عمرو، وحفص، وابن ذكوان على الأول بالألف، وعلى الثاني بغير ألف، فحصل من ذلك أن من لم ينون وقف على الأول بالألف إلا حمزة، وعلى الثاني بغير ألف إلا هشامًا (¬2)، وهو كـ (سَلاَسِلا) في الصرف وتركه كما تقدم {مِنْ فِضَّةٍ} ¬

_ (¬1) "عليهما" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 663 - 664)، و"التيسير" للداني (ص: 217)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 395 - 396)، و"معجم =

[17]

بيان لأصل القوارير {قَدَّرُوهَا} نعت لـ (قَوَارِير) {تَقْدِيرًا} أي: تقدرها لهم الغلمان (¬1)، قدروا الكأس (¬2) على قدر رِيِّهم. ... {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)}. [17] {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} اسم عين في الجنة يوجد منها طعم (¬3) الزنجبيل. ... {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)}. [18] وتبدل من {كَأْسًا} {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى} أي: توصف. {سَلْسَبِيلًا} يعني: سَلِسَة لينة تتسلسل في الحلق. ... {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)}. [19] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} دائمون {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} لحسنهم وانشغالهم (¬4) بالخدمة {لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} من سلكه على البساط واللؤلؤ إذا نُثر من الخيط على البساط، كان أحسنَ منه منظومًا. ¬

_ = القراءات القرآنية" (8/ 22 - 23). (¬1) في "ت": "قدرها لهم السقاة". (¬2) "الكأس" زيادة من "ت". (¬3) "طعم" زيادة من "ت". (¬4) في "ت": "وانتشارهم في".

[20]

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)}. [20] {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ظرف، وليس مفعولًا لـ (رَأَيْتَ)، تقديره: إذا أوجدت الرؤية في الجنة {رَأَيْتَ نَعِيمًا} لا يوصف {وَمُلْكًا كَبِيرًا} واسعًا (¬1). في الحديث: "أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً مَنْ ينظرُ إلى مُلْكِه مسيرةَ ألفِ عامٍ، يرى أقصاه كما يرى أدناه" (¬2). ... {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}. [21] {عَالِيَهُمْ} أي: فوقهم {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} هو ما رَقَّ من الديباج {خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} هو ما غَلُظَ من الحرير (¬3). وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب: (عَالِيَهُمْ) بفتح الياء وضم الهاء، والنصب على الحال، والعامل فيه (لَقَّاهُمْ) و (جَزَاهُمْ)، وقرؤوا (خُضْرٌ) بالرفع نعت (ثِيَابٌ)، (وَإِسْتَبْرَقٍ) بالخفض نعت (سُنْدُسٍ)، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: (عَالِيَهُمْ) كأبي عمرو (¬4)، و (خُضْرٍ) بالخفض نعت (سُنْدُسٍ)، (وَإِسْتَبْرَقٌ) بالرفع عطف على الـ (ثياب)، وقرأ حفص عن عاصم: (عَالِيَهُمْ) كما تقدم (خُضْرٌ ¬

_ (¬1) "واسعًا" زيادة من "ت". (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (29/ 193)، عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا عليه من قوله. (¬3) في "ت": "الديباج". (¬4) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 664 - 665)، و"التيسير" للداني (ص: 218)، و"تفسير البغوي" (4/ 527)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (7/ 26 - 27).

[22]

وَإِسْتَبْرَقٌ) بالرفع فيهما، فخضرٌ نعت ثياب، وإستبرقٌ عطف على الثياب، وقرأ الكسائي، وخلف: (عَالِيَهُمْ) كما تقدم (خُضْرٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) بالخفض فيهما نعت (سُنْدُسٍ)، وقرأ نافع: (عَالِيْهِمْ) بإسكان الياء وكسر الهاء على الرفع بالابتداء، و (خُضْرٌ وإِسْتَبْرَقٌ) بالرفع فيهما كحفص، وقرأ حمزة (عَالِيْهِمْ) كنافع (خُضْرٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) بالخفض فيهما كالكسائي، وقرأ أبو جعفر: (عَالِيْهِمْ) كنافع، و (خُضْرٌ) بالرفع، (وَإِسْتَبْرَقٍ) بالخفض كأبي عمرو. {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وفي الكهف والحج {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] [الحج: 23]؛ للإيذان بأنهم (¬1) يحلون من الجنسين معًا، ومفترقًا. {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} طاهرًا من الأقذار، لم تَدُسْه (¬2) الأقدام، ولم تمسه الأيدي الوسخة كخمر الدنيا، ولا يصير بولًا، وذلك أنهم إذا طعموا وشربوا، فيصير ما أكلوا طِيبًا (¬3) يخرج من أبدانهم كأطيب من ريح المسك، وتضمر بطونهم، وتعود شهوتهم. ... {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}. [22] فثَمَّ يقال لهم: {إِنَّ هَذَا} النعيمَ {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} لعملكم. {وَكَانَ سَعْيُكُمْ} في الدنيا {مَشْكُورًا} مجازًى عليه. ¬

_ (¬1) في "ت": "أنهم". (¬2) في "ت": "تدنسه". (¬3) في "ت": "رشحًا".

[23]

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)}. [23] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} متفرقًا، آية بعد آية، وذكر التوراة (¬1) بلفظ الإنزال؛ لأنها نزلت مرة واحدة، وهذا تثبيت لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتقوية لنفسه على أفعال قريش وأقوالهم. ... {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)}. [24] {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} عليك بتبليغ الرسالة {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ} من الكفار {آثِمًا أَوْ كَفُورًا} هو تخيير في أن يعرف الذي ينبغي ألا يطيعه بأي وصف كان من هذين؛ لأن كل واحد منهم (¬2) فهو آثم، وهو كفور، ولم تكن الأمة حينئذ من الكثرة (¬3) بحيث يقع الإثم على العاصي. ... {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)}. [25] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي: صَلِّ. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} المعنى: دم على الصلاة المفروضة في هذين الوقتين. ... {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)}. [26] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ} مصليًّا متهجدًا. ¬

_ (¬1) في "ت": "التورية". (¬2) "منهم" ساقطة من "ت". (¬3) "من الكثرة" ساقطة من "ت".

[27]

{لَيْلًا طَوِيلًا} ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه. ... {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}. [27] {إِنَّ هَؤُلَاءِ} يعني: كفار قريش {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} يختارون الدنيا على الآخرة {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ} بعد موتهم {يَوْمًا ثَقِيلًا} لا ينهضون له، وهو يوم القيامة. ... {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)}. [28] {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا} قَوَّينا {أَسْرَهُمْ} توصيل أعضائهم (¬1) بعضِها ببعض. {وَإِذَا شِئْنَا} إهلاكَهم، أهلكناهم، ثم {بَدَّلْنَا} جعلنا {أَمْثَالَهُمْ} في الخلقة {تَبْدِيلًا} و (إِذَا) هنا موضع إن. ... {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)}. [29] {إِنَّ هَذِهِ} السورةَ {تَذْكِرَةٌ} عظةٌ. {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} بأن يتقرب إليه بطاعته. ... ¬

_ (¬1) في "ت": "عظامهم".

[30]

{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}. [30] {وَمَا تَشَاءُونَ} ذلك. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: (يَشَاؤونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (¬1) {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لأن الأمر إليه، وفيه دليل على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، خيرها وشرها، جارية بمشيئته على أي وجه كانت. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالسر والسرائر (¬2) {حَكِيمًا} حكم عليكم ألا تشاؤوا إلا بعد مشيئته. ... {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}. [31] {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ} وهم المؤمنون {فِي رَحْمَتِهِ} بهدايتهم لطاعته. {وَالظَّالِمِينَ} أي: المشركين، ونصبه بفعل يفسره {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} في الآخرة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 665)، و"التيسير" للداني (ص: 218)، و"تفسير البغوي" (4/ 529)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 28). (¬2) في "ت": "بالخير والشر".

سورة المرسلات

سورة المرسلات مكية في قول الجمهور، وقيل: فيها مدني قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} على تأويل من قال: إنها حكاية حال عن المنافقين في القيامة، وآيها: خمسون آية، وحروفها: ثماني مئة وستة عشر حرفًا، وكلمها: مئة وإحدى وثمانون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)}. [1] {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} يعني: الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، و {وَالْمُرْسَلَاتِ} نصب على الحال. ... {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)}. [2] {فَالْعَاصِفَاتِ} يعني: الرياح الشديدة الهبوب {عَصْفًا} مصدر. ... {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)}. [3] {وَالنَّاشِرَاتِ} يعني: الرياح اللينة {نَشْرًا} مصدر أيضًا.

[4]

{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)}. [4] {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} يعني: الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل. ... {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)}. [5] {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} يعني: الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء. قرأ أبو عمرو، وخلاد عن حمزة بخلاف عنه: بإدغام التاء في الذال، وقرأ الباقون: بالإظهار (¬1). ... {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)}. [6] {عُذْرًا} قرأ يعقوب من رواية روح: بضم الذال، والباقون: بإسكانها {أَوْ نُذْرًا} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: بإسكان الذال، والباقون: بضمها (¬2)، فإسكان الذال فيهما على أنهما مصدران، وضم الذال يصح معه المعنى، ويصح أن يكون جمعًا لنذير وعاذر اللذين هما اسم فاعل، والمعنى: أن الذكر يلقى بإعذار وإنذار، وأما النصب في قوله: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا)، فيصح إذا كانا مصدرين أن يكون ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 185 - 186)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 430)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 33). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 218)، و"تفسير البغوي" (4/ 532)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 217)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 33 - 34).

[7]

على البدل من الذكر، ويصح أن يكون مفعولًا للذكر كأنه قال (¬1): فالملقيات أن تذكر عذرًا، ويصح أن يكون عذرًا مفعولًا من أجله؛ أي: يلقى الذكر من أجل الإعذار، وأما إذا كان عذرًا أو نذرًا جمعًا، فالنصب على الحال، والواو الأولى للقَسَم، والباقي للعطف؛ لأنه تعالى أقسم بالمرسلات، وعطف عليها الباقي. ... {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)}. [7] وجواب القسم: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} من البعث والعذاب {لَوَاقِعٌ} كائن لا محالة. ... {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)}. [8] ثم ذكر متى يقع فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} مُحِيَ نورُها. ... {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)}. [9] {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} شُقَّت. ... {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)}. [10] {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} قُطعت من أماكنها (¬2). ¬

_ (¬1) "قال": ساقطة من "ت". (¬2) في "ت": "أساكنها".

[11]

{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)}. [11] {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر بخلاف عن الثاني: (وُقِّتَتْ) بواو مضمومة مبدلة من الهمزة, واختلف عن أبي جعفر في تخفيف القاف وتشديدها، وقرأ الباقون: (أُقِّتَتْ) بالهمز وتشديد القاف (¬1)، وهما لغتان، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة؛ كقولهم وَكَّدْتُ، وأَكَّدْتُ، ووَرَّخْتُ، وأَرَّخْتُ، ومعناهما: جُمعت لميقات يوم معلوم، وهو يوم القيامة؛ ليشهدوا على الأمم. ... {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)}. [12] {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)} أُخرت، وضرب الأجل لجمعهم، يعجِّبُ العبادَ من ذلك اليوم. ... {لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)}. [13] ثم بين تعالى فقال: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} بين الخلائق. ... {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)}. [14] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} من أين تعلم كنهه ولم تر مثله؟ ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 218)، و"تفسير البغوي" (4/ 532)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 396 - 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 34 - 35).

[15]

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}. [15] {وَيْلٌ} مبتدأ وهو نكرة لما فيه من معنى الدعاء قال ابن عباس: "ويلٌ: واد في جهنم" (¬1) {يَوْمَئِذٍ} ظرفه {لِلْمُكَذِّبِينَ} بالبعث. ... {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)}. [16] {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} يعني: الأمم الماضية حين كذبوا رسلهم. ... {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)}. [17] {ثُمَّ} نحن {نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} السالكين سبيلَهم في الكفر والتكذيب؛ يعني: كفار مكة. ... {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)}. [18] {كَذَلِكَ} مثلَ فعلنا بالمكذبين {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} بكل من أجرم. ... {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)}. [19] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} كرره في هذه السورة عشر مرات مبالغةً في التهديد؛ نحو: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (1/ 202)، وقد جاء مرفوعًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[20]

{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)}. [20] {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ضعيف، والمراد: المني. واتفق القراء على إدغام القاف في الكاف في هذا الحرف، وذكر النقاش أنه في قراءة ابن كثير، ونافع براوية قالون، وعاصم في رواية حفص: بالإظهار، قاله في "الإيضاح". ... {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)}. [21] {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} موضع حريز (¬1)، وهو الرحم. ... {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)}. [22] {إِلَى قَدَرٍ} أي: مؤخرًا إلى مقدار من الزمان {مَعْلُومٍ} وهو وقت الولادة. ... {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)}. [23] {فَقَدَرْنَا} قرأ نافع، وأبو جعفر، والكسائي: (فَقَدَّرْنَا) بتشديد الدال؛ من التقدير؛ أي: قدرناه تقديرًا مرة بعد مرة، وقرأ الباقون: بتخفيفها؛ من القدرة (¬2). ¬

_ (¬1) "حريز" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 666)، و"تفسير البغوي" (4/ 533)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 397)، و"معجم القراءات =

[24]

{فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} روى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه فسر القادرون بالمقدِّرين (¬1). ... {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)}. [24] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بقدرتنا على ذلك. ... {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)}. [25] {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} أوعيةً، جمع كافت، وهو الوعاء. ... {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)}. [26] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} منتصبان بـ (كِفَاتًا) على المفعولية، فالأرض تكفتُ الأحياء على ظهرها، وتكفتُ الأموات في بطنها. ... {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)}. [27] {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالًا {شَامِخَاتٍ} مرتفعاتٍ ثوابتَ. {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} عذبًا. ... ¬

_ = القرآنية" (8/ 37). (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (19/ 160).

[28]

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)}. [28] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بأمثال هذه النعم. ... {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)}. [29] ثم أخبر تعالى أنه يقال لهم يوم القيامة: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ} من العذاب {تُكَذِّبُونَ} في الدنيا. ... {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)}. [30] {انْطَلِقُوا} تكرير للأول {إِلَى ظِلٍّ} يعني: إلى دخان جهنم. قرأ رويس عن يعقوب: (انْطَلَقُوا) الحرف الثاني بفتح اللام، والباقون: بكسرها (¬1). {ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} لأنه إذا ارتفع، افترق ثلاث فرق؛ لعظمته. قرأ أبو عمرو: (ثَلاَث شُّعَبٍ) بإدغام الثاء في الشين (¬2). ... {لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)}. [31] {لَا ظَلِيلٍ} نعت (ظِلٍّ)؛ أي: لا كَنينٍ يُظلهم من حر ذلك اليوم. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 37). (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 379)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 37).

[32]

{وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} لا يردُّ عنهم شيئًا من لهب النار. ... {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)}. [32] {إِنَّهَا} أي: النار {تَرْمِي بِشَرَرٍ} جمع شرارة، وهو ما تطاير من النار، كلُّ شرارة {كَالْقَصْرِ} وهو البناء العظيم. ... {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)}. [33] ثم رد الضمير إلى لفظ النار دون معناها، فقال: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (جِمَالَةٌ) بغير ألف بعد اللام مع كسر الجيم على جمع جَمَل، وقرأ الباقون: بالألف، جمع (جمالة) التي هي جمع جَمَل، ومنهم رويس عن يعقوب: بضم الجيم، والباقون: بكسرها، فمن قرأ بضم الجيم، أراد الأشياء العظام المجموعة، والقراءة بالكسر قال ابن عباس وسعيد بن جبير: "هي حبال سفن البحر، يُجمع بعضُها إلى بعض لتكون كأوساط الرجال" (¬1) {صُفْرٌ} جمع أصفر؛ يعني: لون النار؛ فإن الشرار لما فيه من النارية يكون أصفر، وشبه الشرار بالقصر؛ لعظمه، وبالجمال للعظم والطول واللون، وهذا تشبيه بما يشاهد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4649)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وذكره البغوي في "تفسيره" (4/ 435)، والثعلبي في "تفسيره" (10/ 111)، عن سعيد بن جبير.

[34]

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)}. [34] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. ... {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)}. [35] {هَذَا} مبتدأ، خبره: {يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} أي: هذا المذكور في يوم لا ينطقون فيه (¬1) خوفًا ودهشًا. ... {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)}. [36] {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ} بالاعتذار (¬2) {فَيَعْتَذِرُونَ} عطف {فَيَعْتَذِرُونَ} على {يُؤْذَنُ لَهُمْ} فلا يعتذرون. ... {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)}. [37] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. ... {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)}. [38] {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} بين الخلائق {جَمَعْنَاكُمْ} أيها المكذبون من هذه الأمة {وَالْأَوَّلِينَ} من المكذبين من قبلكم، فتحاسبون جميعًا. ... ¬

_ (¬1) "فيه" ساقطة من "ت". (¬2) في "ت": "في الاعتذار".

[39]

{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)}. [39] {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ} حيلة تدفعون بها عنكم العذاب {فَكِيدُونِ} فاحتالوا لأنفسكم. قرأ يعقوب: (فَكِيدُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (¬1). ... {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}. [40] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} إذ لا حيلة لهم. ... {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)}. [41] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} من الشرك؛ لأنهم في مقابلة المكذبين. {فِي ظِلَالٍ} جمع ظل؛ أي: في ظلال الشجر. {وَعُيُونٍ} ماء. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وابن ذكوان: بكسر العين، والباقون: بضمها (¬2). ... {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)}. [42] {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ}. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 397)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 40). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 431)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 40).

[43]

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}. [43] ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} بلا داء ولا تخمة. {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا بطاعتي. ... {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)}. [44] {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في العقيدة. ... {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)}. [45] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. ... {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)}. [46] ثم قال لكفار مكة: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} في الدنيا (¬1). {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} كافرون مستحقون للعذاب. ... {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)}. [47] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} حيث عَرَّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل. ... ¬

_ (¬1) "في الدنيا" زيادة من "ت".

[48]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)}. [48] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} صَلُّوا {لَا يَرْكَعُونَ} قال ابن عباس: "إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون" (¬1). قرأ الكسائي، وهشام، ورويس: (قِيلَ) بإشمام القاف الضم (¬2). ... {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)}. [49] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. ... {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}. [50] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} بعدَ القرآن {يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا به؟! وهذا توقيف وتوبيخ. وروي عن يعقوب أنه قرأ: (تُؤْمِنُونَ) بالخطاب على المواجهة، ورويت عن ابن عامر، قاله ابن عطية في "تفسيره" (¬3)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 535). (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 431) , و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 41). (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 422)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 41).

سورة النبأ

سورة النبأ مكية، ليس فيها نسخ ولا حكم، وآيها: أربعون آية، وحروفها: سبع مئة وسبعون حرفًا، وكلمها: مئة وثلاث وسبعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)}. [1] لما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون: ماذا جاء به محمد؟ فنزل قوله تعالى: {عَمَّ} (¬1) أصله (عَنْ) (مَا) أدغمت النون في الميم، وحذفت الألف فرقًا بين الاستفهام والخبر. ووقف البزي، ويعقوب بخلاف عنهما (عَمَّهْ) بزيادة هاء بعد الميم (¬2) {يَتَسَاءَلُونَ} هؤلاء المشركون؛ أي: يسأل بعضهم بعضًا، ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه؛ كأنه لفخامته خفي جنسه، فيسأل عنه، وهو استفهام توقيف وتعجيب منهم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (30/ 1)، و"تفسير البغوي" (4/ 537). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 134)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 431)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 45).

[2]

{عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)}. [2] ثم بين شأن المسؤول عنه، فقال: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} وهو القرآن. ... {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)}. [3] {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} بأن أنكر (¬1) بعض، وكذب بعض، وقولهم: سحر، وكهانة، وشعر، وجنون، وغير ذلك. قال الزجَّاج: الكلام تام في قوله: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول: يتساءلون عن النبأ العظيم، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي يقتضيه الحال والمحاورة اقتضابًا للجواب (¬2) وإسراعها إلى موضع قطعهم، وهذا نحو قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ} [الأنعام: 19]، وله أمثلة كثيرة (¬3). ... {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)}. [4] {كَلَّا} ردٌّ على الكفار في تكذيبهم. {سَيَعْلَمُونَ} عاقبةَ تكذيبهم، وهو وعيد لهم في المستقبل. ... ¬

_ (¬1) في "ت": "شك". (¬2) في "ت": "للحجة". (¬3) نقل كلام الزجاج: ابن عطية في "المحرر الوجيز" (5/ 423)، وأبو حيان في "البحر المحيط" (8/ 403).

[5]

{ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)}. [5] {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} كرر الزجر تأكيدًا، وجيء بـ (ثُمَّ) ليؤذِنَ أن الوعيد الثاني أشدُّ من الأول، وأن مدته أطول. ... {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)}. [6] ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} فراشًا يُمْهَد للأناسي كالمهد للصبي. ... {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)}. [7] {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} للأرض حتى لا تميد؛ كتثبيت البيت بالوتد. ... {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)}. [8] {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} أصنافًا ذكورًا وإناثًا. ... {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)}. [9] {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} راحة لأبدانكم، وقيل: قطعًا لأعمالكم؛ لأن أصل السبت: القطع. ***

[10]

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)}. [10] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} غطاء يستر كل شيء بظلمته. ... {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)}. [11] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} وقتَ معاش (¬1) تتقلبون فيه، وتبتغون من فضل الله ما قسم لكم من رزقه. ... {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)}. [12] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا} أي: سبع سماوات {شِدَادًا} جمع شديدة؛ أي: قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان. ... {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)}. [13] {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} مضيئًا جامعًا بين النور والحرارة؛ يعني: الشمس. ... {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)}. [14] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} السحائب إذا عصرت بالرياح فيُخرج منها. ¬

_ (¬1) "وقت معاش" زيادة من "ت".

[15]

{مَاءً ثَجَّاجًا} مُنْصَبًّا بكثرة. ... {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)}. [15] {لِنُخْرِجَ بِهِ} بالماء {حَبًّا} كالحنطة والشعير. {وَنَبَاتًا} كالتبن والحشيش وما تنبته الأرض مما تأكل الأنعام. ... {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)}. [16] {وَجَنَّاتٍ} بساتين {أَلْفَافًا} ملتفة الأشجار، واحدها: لِفٌّ ولَفيفٌ. ... {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)}. [17] {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} بين الخلائق {كَانَ مِيقَاتًا} للثواب والعقاب. ... {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)}. [18] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من {يَوْمَ الْفَصْلِ}، {فَتَأْتُونَ} من قبوركم إلى الموقف {أَفْوَاجًا} جماعاتٍ مختلفةً، ونصبه على الحال. ... {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)}. [19] {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} قرأ الكوفيون: (وَفُتِحَتِ) بتخفيف التاء،

[20]

والباقون: بالتشديد (¬1)؛ أي: شُقَّت لنزول الملائكة {فَكَانَتْ أَبْوَابًا} أي: ذات أبواب مفتحة. ... {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)}. [20] {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} ذُهِبَ بها عن أماكنها {فَكَانَتْ سَرَابًا} هباءً يُرى كالسراب. ... {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)}. [21] {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} طريقًا وممرًا، فالمؤمن يمر عليها ليدخل الجنة، والكافر يدخلها، وقيل: (مِرْصَادًا) مِرْقَبًا ترقُب منه الملائكة الخلائقَ، فيُدخلون المؤمنَ الجنة، والكافرَ النار. ... {لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)}. [22] {لِلطَّاغِينَ} للكافرين {مَآبًا} مرجعًا. ... {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)}. [23] {لَابِثِينَ} قرأ حمزة، ورويس عن يعقوب: (لَبِثِينَ) بغير ألف بعد اللام، واللَّبِثُ: مَنْ شأنُه اللبثُ والمقامُ في المكان، وقرأ الباقون: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 668)، و"التيسير" للداني (ص: 190)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 46 - 47).

[24]

بالألف (¬1)، واللابث من وجُد منه اللبث، وإن قَلَّ، ونصبه حال مقدرة من الضمير في (الطَّاغِينَ) {فِيهَا أَحْقَابًا} جمع حُقْب: ثمانون سنة، كل يوم منها ألف سنة، وليس المراد منه عددًا محصورًا، فكلما مضى حقب، تبعه حقب، إلى غير نهاية، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود. ... {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)}. [24] {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} من حر {وَلَا شَرَابًا} من عطش. ... {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)}. [25] {إِلَّا حَمِيمًا} وهو ما بلغ نهاية الحر {وَغَسَّاقًا} هو الزمهرير. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: بتشديد السين، والباقون: بتخفيفها (¬2). ... {جَزَاءً وِفَاقًا (26)}. [26] {جَزَاءً} مصدر {وِفَاقًا} أي: موافقًا لسوء أعمالهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 219)، و"تفسير البغوي" (4/ 539)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 47). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 668)، و"التيسير" للداني (ص: 288)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 48).

[27]

{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)}. [27] {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ} لا يخافون {حِسَابًا} لأنهم لم يصدِّقوا بالبعث. ... {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)}. [28] {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} أي: تكذيبًا، وهو مصدر بلغة العرب. ... {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)}. [29] {وَكُلَّ شَيْءٍ} نصب بمضمر يفسره {أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} حال؛ أي: مكتوبًا في اللوح، وهذه الآية اعتراض بين (كِذَّابًا). ... {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}. [30] وقوله: {فَذُوقُوا} أي: يقال لهم: ذوقوا جزاءكم. {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} فوق عذابكم. ... {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)}. [31] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} أي: فوزًا بالبغية. ***

[32]

{حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)}. [32] {حَدَائِقَ} بيان {مَفَازًا} أي: بساتين عليها جدران {وَأَعْنَابًا} تفسير الـ (حدائق)؛ أي: فيها أنواع الأشجار المثمرة. ... {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)}. [33] {وَكَوَاعِبَ} يعني: نساء قد تكعَّبت ثُديُهن، وهُنَّ النَّواهد. {أَتْرَابًا} مستوياتٍ في السن. ... {وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)}. [34] {وَكَأْسًا دِهَاقًا} مملوءةً. ... {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)}. [35] {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} باطلًا من الكلام {وَلَا كِذَّابًا} قرأ الكسائي: بتخفيف الذال مصدر كَذَب مخففًا، وقرأ الباقون: بتشديدها (¬1) مصدر كذَّب مثقلًا، المعنى: لا يسمعون في الجنة باطل الكلام، ولا كلامَ من يكذب ولا يكذَّبُ صاحبه، واتفقوا على تشديد (كِذَّابًا) في الحرف المتقدم (¬2) لوجود فعله معه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 669)، و"التيسير" للداني (ص: 219)، و"تفسير البغوي" (4/ 541)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 49). (¬2) "المتقدم" ساقطة من "ت".

[36]

{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)}. [36] {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} بمقتضى وعده، ونصبه مصدر. {عَطَاءً} تفضُّلًا منه، وهو بدل من (جَزَاءً). {حِسَابًا} كافيًا، ومنه: أعطاني فأحسبني؛ أي: أكثر علي حتى قلت: حسبي، ونصبه صفة. ... {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)}. [37] {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (رَبُّ) بالرفع على الاستئناف، و {الرَّحْمَنِ} خبره، وقرأ ابن عامر، وعاصم، ويعقوب: (رَبِّ) بالخفض إتباعًا لقوله: (مِنْ رَبِّكَ)، وقرؤوا أيضًا (الرحمن) بالخفض إتباعًا لقوله: (رَبِّ السَّمَوَاتِ) وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (رَبِّ) بالخفض؛ لقربه من قوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ)، وقرؤوا: (الرَّحْمَنُ) بالرفع؛ لبعده منه على الاستئناف (¬1). {لَا يَمْلِكُونَ} الضمير لأهل السموات والأرض {مِنْهُ خِطَابًا} أي: لا يملكون شفاعة إلا بإذنه تعالى. ... ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 669)، و"التيسير" للداني (ص: 219)، و"تفسير البغوي" (4/ 541 - 542)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 50).

[38]

{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)}. [38] {يَوْمَ} ظرف لـ (لاَ يَمْلِكُونَ) {يَقُومُ الرُّوحُ} قال ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرُّوحُ خَلْقٌ غيرُ الملائكةِ هم حفظة لنا" (¬1)، وقيل: هو جبريل عليه السلام (¬2). {وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} أي: متقابلين (¬3)، ونصبه على الحال. قرأ أبو عمرو: (وَالْمَلاَئِكَة صفًّا) بإدغام التاء في الصاد (¬4). {لَا يَتَكَلَّمُونَ} جميع الخلائق {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} في الكلام. {وَقَالَ صَوَابًا} أي: حقًّا في الدنيا، وهو الشهادة بالتوحيد. * * * {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)}. [39] {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} الثابتُ وقوعُه، وهو يوم القيامة. {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} مرجعًا بالإيمان. * * * ¬

_ (¬1) ذكره الثعالبي في "تفسيره" (4/ 382). (¬2) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 612). (¬3) "أي متقابلين" زيادة من "ت". (¬4) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 380)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 50).

[40]

{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}. [40] {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} وهو عذاب الآخرة، وكلُّ ما هو آت قريب. {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ} المراد بالمرء (¬1): الجنس؛ أي: ينظر ثَمَّ كلّ امرئ. {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من خير وشر. {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ} في الدنيا {تُرَابًا} ولم أر حسابًا. روي أن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة، فيقتص من بعضها لبعض، ثم يقول لها بعد ذلك: كوني ترابًا، فيعود جميعها ترابًا، فإذا رأى الكفار ذلك، تمنوا مثله (¬2)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) "بالمرء" ساقطة في "ت". (¬2) رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (10)، والطبري في "تفسيره" (30/ 26)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3396)، والحاكم في "المستدرك" (3231)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

سورة النازعات

سُورَةُ النَّازِعَات مكية، وآيها: ست وأربعون آية، وحروفها: سبع مئة وثلاثة وسبعون حرفًا، وكلمها: مئة وتسع وسبعون كلمة. بِسِمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)}. [1] {وَالنَّازِعَاتِ} الملائكة التي تَنْزِع أرواحَ الكفار. {غَرْقًا} أي: إغراقًا، وهو النزع بشدة. * * * {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)}. [2] {وَالنَّاشِطَاتِ} الملائكة تنشط أرواح المؤمنين. {نَشْطًا} أي: تحلُّها حَلًا رفيقًا. * * * {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)}. [3] {وَالسَّابِحَاتِ} الملائكة بنزولها (¬1) كالسباحة. {سَبْحًا} مسرعين كالفرس الجواد، يقال له: سابح: إذا أسرع في جريه. ¬

_ (¬1) في "ت": "نزولها".

[4]

{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)}. [4] {فَالسَّابِقَاتِ} الملائكة تسبق الشياطين إلى الأنبياء. {سَبْقًا} بالوحي، ونصبها كلها مصدر. * * * {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)}. [5] {فَالْمُدَبِّرَاتِ} الملائكة وُكِّلوا بأمورٍ (¬1) عرفهم الله العملَ بها من تدبير أمر الدنيا {أَمْرًا} حال؛ أي: يدبرون مأموراتٍ. * * * {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)}. [6] أقسم الله بالمذكورات، وجواب القسم محذوف، تقديره: لَتُبعثنَّ، وإنما حذف؛ لدلالة ما بعده عليه، وهو: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} هي النفخة الأولى، وصفت بما يحدث بسببها؛ لأنها يرجف كل شيء ويتزلزل، ويموت كل الخلائق لشدتها. * * * {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)}. [7] {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} النفخة الثانية، ردفت الأولى، وبينهما أربعون سنة، فيحيا كل شيء بإذن الله سبحانه. * * * {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)}. [8] {قُلُوبٌ} مبتدأ {يَوْمَئِذٍ} ظرفه صفته {وَاجِفَةٌ} شديدة الاضطراب. ¬

_ (¬1) في "ت": "أمور".

[9]

{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)}. [9] خبره {أَبْصَارُهَا} أبصارُ أربابِ القلوب {خَاشِعَةٌ} ذليلة؛ لهول ما ترى. * * * {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)}. [10] {يَقُولُونَ} أي: أرباب القلوب والأبصار استهزاءً وإنكارًا للبعث: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} أي: نعود بعد الموت أحياء؟! والحافرة: اسم لابتداء الأمر وأوله، ومنه: رجع فلان في حافرته: إذا رجع من حيث جاء. * * * {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)}. [11] ثم زادوا إنكار البعث استبعادًا، فقالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} بالية، العامل في (أَئِذَا) محذوف؛ أي: أنبعث؟ واختلف القراء في (أَئِنَّا) (أَئِذَا)، فقرأ أبو جعفر: (إِنَّا) بالإخبار (أَئِذَا) بالاستفهام، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، ويعقوب: (أَئِنَّا) بالاستفهام، (إِذَا) بالإخبار، وقرأ الباقون: بالاستفهام فيهما (¬1)، فكل من استفهم، فهو على أصله من تحقيق الهمزتين والتسهيل وإدخال الألف كما تقدم في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر، ورويس: ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 670)، و"التيسير" للداني (ص: 132)، و"تفسير البغوي" (4/ 549)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 373 - 374)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 55).

[12]

(نَاخِرَةً) بألف بعد النون، والباقون: بغير ألف (¬1)، وهما لغتان معناهما واحد؛ مثل: حَذِر، وحاذِر. * * * {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)}. [12] {قَالُوا} أي: منكرو البعث: {تِلْكَ} أي: رجعتُنا هذه. {إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} باطلة ذات خسران؛ أي: إن صح أنا نبعث، فلنخسرنَّ. * * * {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)}. [13] قال الله عز وجل {فَإِنَّمَا هِيَ} يعني: الرادفة التي يعقبها البعث. {زَجْرَةٌ} صيحة {وَاحِدَةٌ} لا تكرر؛ لشدتها. * * * {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}. [14] فإذا نفخت {فَإِذَا هُمْ} كلُّ الخلائق. {بِالسَّاهِرَةِ} بوجه الأرض أحياءً بعدما كانوا ببطنها أمواتًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 670)، و"التيسير" للداني (ص: 219)، و"تفسير البغوي" (4/ 549)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 56)، قال ابن مجاهد: كان الكسائي لا يبالي كيف قرأها بألف أم بغير ألف.

[15]

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)}. [15] {هَلْ أَتَاكَ} أي: قد جاءك يا محمد {حَدِيثُ مُوسَى} أمال رؤوسَ الآي من قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ) إلى آخر السورة: ورش، وأبو عمرو بخلاف عنهما، ووافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، واختص الكسائي دونهما بإمالة (دَحَاهَا) (¬1). * * * {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)}. [16] {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} تقدم تفسير نظيره واختلاف القراء فيه في سورة (طه)، وكذا اختلافهم هاهنا، والواد المقدس: وادٍ بالشام، قال منذر بن سعيد: هو بين المدينة ومصر. * * * {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)}. [17] {اذْهَبْ} أي: قيل له: اذهب {إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} تجاوز الحدَّ في الكفر. * * * {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)}. [18] {فَقُلْ هَلْ لَكَ} أي: أدعوك {إِلَى أَنْ تَزَكَّى} قرأ نافع، وأبو جعفر، ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 219)، و "الغيث" للصفاقسي (ص: 380)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 432)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 56).

[19]

وابن كثير، ويعقوب: بتشديد الزاي، والباقون: بتخفيفها (¬1)، ومعناهما التطهُّرُ من النقائص، والتلبُّسُ بالفضائل. * * * {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)}. [19] ثم أمر موسى بأن يفسر له التزكي الذي دعاه إليه بقوله: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أي: أدلك على معرفته بالبرهان. {فَتَخْشَى} الله تعالى، والعلم تابع للهدى، والخشية تابعة للعلم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. * * * {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)}. [20] {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} قلبَ العصا حيةً، واليد بيضاءَ (¬2)، ووُحِّدَتا؛ لأنهما في حكم آية واحدة. * * * {فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)}. [21] {فَكَذَّبَ} أنها (¬3) من الله {وَعَصَى} ربَّه بعد ظهور الآية. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 219)، و"تفسير البغوي" (4/ 549)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 432)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 58 - 59). (¬2) في "ت": "البيضاء". (¬3) في "ت": "بأنها".

[22]

{ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)}. [22] {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} عند رؤية الثعبان رعبًا، وقيل: معناه: أدبر عن الإيمان يسعى في الأرض فسادًا. * * * {فَحَشَرَ فَنَادَى (23)}. [23] {فَحَشَرَ} جمع قومه {فَنَادَى} فيهم. * * * {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)}. [24] {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} لا ربَّ فوقي. * * * {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)}. [25] {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ} أي: عقوبةَ {الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} أخذًا منكلًا في الدنيا بالإغراق، وفي الآخرة بالإحراق، وقال ابن عباس: "نَكالَ كلمتيه (¬1) الآخرة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، والأولى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وكان بينهما أربعون سنة" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أي: كلمتا فرعون. (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 550).

[26]

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)}. [26] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي فُعل بفرعون {لَعِبْرَةً} عظةً {لِمَنْ يَخْشَى} اللهَ عز وجل. * * * {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)}. [27] ثم خاطب منكري البعث فقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} أصعبُ خلقًا. {أَمِ السَّمَاءُ} مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: أم السماء أشدُّ؟ واختلاف القراء في الهمزتين من (أَأَنْتُمْ) كاختلافهم فيهما من {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ} في سورة الأنبياء، ثم وصف خلق السماء فقال: {بَنَاهَا}. * * * {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)}. [28] ثم بين البناء فقال: {رَفَعَ سَمْكَهَا} والسمكُ: الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها. {فَسَوَّاهَا} جعلها مستوية بلا عيب. * * * {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)}. [29] {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي: أظلمه {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أبرز نورَ شمسها، وأضيف الليل والشمس إلى السماء؛ لأن الليل ظلها، والشمس سراجها. * * *

[30]

{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)}. [30] {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي: بعد خلق السماء، ونصب (وَالأَرْضَ) بمضمر (¬1) يفسره {دَحَاهَا} بسطها للسكنى. قال ابن عباس: "خلق الله الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها، ثم استوى إلى السماء، فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك" (¬2). * * * {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)}. [31] ثم فسر البسط فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} بتفجير عيونها {وَمَرْعَاهَا} أي رِعْيَها -بكسر الراء-، وهو الكلأ، ونسب الماء والمرعى إلى الأرض من حيث هما منها يظهران. * * * {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)}. [32] {وَالْجِبَالَ} نصب بمضمر يفسره {أَرْسَاهَا} أثبتها على وجه الأرض لتسكن. * * * {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)}. [33] {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} أي: منفعة تنتفعون ما أنتم ومواشيكم، ¬

_ (¬1) في "ت": "بفعل". (¬2) رواه الطبري في تفسيره" (30/ 45). وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 550).

[34]

ونصب (متاعًا) بمعنى قوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} لأن معناه: أمتع بذلك. * * * {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)}. [34] {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} الداهية العظمى؛ يعني: صيحة القيامة؛ لطمومها كلَّ هائلة من الأمور، فتعلو فوقها، والطامة عند العرب: الداهية التي لا تستطاع. * * * {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)}. [35] وتبدل من {فَإِذَا جَاءَتِ} {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} عملَ في الدنيا من خير وشر. * * * {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)}. [36] {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} أُظهرت {لِمَنْ يَرَى} لمن يجب له دخولُها. * * * {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)}. [37] {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} في كفره. * * * {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)}. [38] {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} على الآخرة باتباع الشهوات.

[39]

{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)}. [39] {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} أي: مأواه، والهاء عوض عنها بالألف واللام. * * * {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)}. [40] {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي: مقامه بين يدي ربه للحساب. {وَنَهَى النَّفْسَ} الأمارة بالسوء {عَنِ الْهَوَى} ما تهواه من اتباع الشهوات المحرمة. * * * {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}. [41] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ليس له سواها مأوى. * * * {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)}. [42] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى ظهورها؟ من مرسى السفينة، وهو حيث تنتهي إليه، وتستقر فيه. * * * {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)}. [43] روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يسأل عن الساعة حتى نزل: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ

[44]

ذِكْرَاهَا} (¬1) أي: من ذكر تحديدها؛ أي: لست من ذلك في شيء، وليس عندك علمُها. * * * {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)}. [44] {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} منتهى علمها متى يكون، لا يعلمه غيره تعالى. * * * {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)}. [45] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} مخوِّف من يخشى القيامة ومن لا يخشاها، فاختص بمن يخشاها؛ مدحًا لهم؛ لأن الإنذار يؤثر فيمن يخشاها، ولا يؤثر فيمن لا يخشاها؛ كقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، معناه: ومن لا يخافُ وعيد. قرأ أبو جعفر: (مُنْذِرٌ) بالتنوين، والباقون: بغير تنوين (¬2). * * * {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}. [46] {كَأَنَّهُمْ} يعني: كفار مكة {يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يعاينون القيامة. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (30/ 49)، والحاكم في "المستدرك" (7)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 314)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي الباب من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه وغيره. انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (4/ 150). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 551)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 398)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 67).

{لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا، أو في القبور. {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي: عشية اليوم (¬1)، أو ضحى العشية، وهو بكرة ذلك اليوم، فأضاف الضحى إلى العشية من حيث هما طرفان للنهار، وقد بدأ بذكر أحدهما، فأضاف الآخر إليه تجوزًا وإيجازًا، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "يوم".

سورة عبس

سُورَةُ عَبَسَ مكية، وآيها: أربعون وآيتان (¬1)، وحروفها: خمس مئة وستة وثلاثون حرفًا، وكلمها: مئة وثلاث وثلاثون كلمة. بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)}. [1] روي أن ابن أم مكتوم -واسمه عبد الله بن شريح بن مالك الفهري من بني عامر بن لؤي، وكان أعمى- أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده صناديدُ قريش يدعوهم إلى الإسلام، فقال ابن أم مكتوم: "يا رسول الله! علِّمني مما علَّمك الله"، وكرر ذلك، ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعه لكلامه، وعبس وجهه، وأعرض عنه، وأقبل على القوم يكلمهم، فنزل قوله تعالى: {عَبَسَ} (¬2) كَلَح {وَتَوَلَّى} أعرض بوجهه. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "أربعون آية". (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (30/ 51)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3399).

[2]

{أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)}. [2] {أَنْ جَاءَهُ} أي: لأن جاءه {الْأَعْمَى} فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: "مَرْحبًا بمن عاتبني فيه ربي"، وبسط له رداءه، ويقول: "هل لك من حاجة؟ "، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما، وفوض إليه أمر التأذين، قال أنس بن مالك: "رأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء" (¬1). * * * {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)}. [3] {وَمَا يُدْرِيكَ} أي: أي شيء يجعلك داريًا. {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} يتطهر من الذنوب بما يسمع منك. * * * {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)}. [4] {أَوْ يَذَّكَّرُ} يَتَّعظ {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} العظةُ التي سمعها منك. قرأ عاصم: (فَتَنْفَعَهُ) بنصب العين على جواب التمني؛ لأن قوله: (أَوْ يَذَّكَّرُ) في حكم قوله: (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)، وقرأ الباقون: بالرفع عطفًا على (يَذَّكَّرُ) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 553)، و "تفسير القرطبي" (19/ 213). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 672)، و"التيسير" للداني (ص: 220)، و"تفسير البغوي" (4/ 554)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 72 - 73).

[5]

{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)}. [5] ثم أكد تعالى عتب نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} عن الله، وعن الإيمان؛ بما له من المال. * * * {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)}. [6] {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر: (تَصَّدَّى) بتشديد الصاد؛ أي: تتصدى، وقرأ الباقون: بالتخفيف على الحذف (¬1)؛ أي: تتعرض له، وتُقبِلُ عليه. * * * {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)}. [7] ثم قال تعالى محقرًا لشأن الكفار: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} ألا يؤمنوا (¬2)؛ أي: وما يضرك أن لا يفلح؟ إن عليك إلا البلاغ، وهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الاكتراث بهم. * * * {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)}. [8] ثم قال مبالغًا في العتب: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} يسرع طالبًا للخير. * * * ¬

_ (¬1) المصادر السابقة. (¬2) في "ت": "ألا يؤمن".

[9]

{وَهُوَ يَخْشَى (9)}. [9] {وَهُوَ يَخْشَى} اللهَ تعالى. * * * {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)}. [10] {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} تَشاغلُ وتُعرض عنه. قرأ البزي: (عَنْه تّلَهَّى) بتشديد التاء، والباقون: بتخفيفها (¬1)، وأمال رؤوس الآي من أول السورة إلى (تَلَهَّى): ورش، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، وقرأ الباقون: بالفتح (¬2). روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها ما عبس في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني (¬3)، فحملة الشرع والعلم والحكام مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير، وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه السورة، وهذه الآيات ليس فيها إثبات ذنب له عليه السلام، بل إعلام الله أن ذلك المتصدَّى له ممن لا يتزكى، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فعل وتصدِّيه لذلك الكافر كان طاعة لله، وتبليغًا عنه واستئلافًا له كما شرعه الله، لا معصية ومخالفة له. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 672)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 433)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 75). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 220)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: 381)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 74). (¬3) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 702).

[11]

{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)}. [11] {كَلَّا} ردع على (¬1) المعاتبَ عليه، وعن معاودة مثله {إِنَّهَا} أي: آيات القرآن {تَذْكِرَةٌ} موعظة. * * * {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)}. [12] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} يتضمَّن وعدًا ووعيدًا على نحو قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19] و {مَآبًا} [النبأ: 39]. * * * {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)}. [13] ثم أخبر عن جلالته عنده فقال: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} يعني: اللوح المحفوظ. * * * {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)}. [14] {مَرْفُوعَةٍ} رفيعةِ القدر عند الله {مُطَهَّرَةٍ} من أيدي الشياطين. * * * {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)}. [15] {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} كَتبَةٍ، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، واحدهم سافِر. ¬

_ (¬1) في "ت": "عن".

[16]

{كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}. [16] ثم أثنى عليهم فقال: {كِرَامٍ} أي: على الله {بَرَرَةٍ} مطيعين، جمع بارّ. * * * {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)}. [17] {قُتِلَ الْإِنْسَانُ} لُعن الكافرُ {مَا أَكْفَرَهُ} بنعم الله تعالى مع إحسانه إليه على طريق التعجب، نزلت في عتبة بن أبي لهب (¬1). * * * {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)}. [18] {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} لفظه استفهام، ومعناه التقرير. * * * {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)}. [19] ثم فسر فقال: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أطوارًا: نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه. * * * {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)}. [20] {ثُمَّ السَّبِيلَ} نصب بمضمر يفسره {يَسَّرَهُ} بَيَّنَ له سبيلَ الخير والشر. ¬

_ (¬1) رواه ابن المنذر في "تفسيره" عن عكرمة، كما ذكر السيوطي في "لباب النقول" (ص: 227). وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 555)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 438).

[21]

{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)}. [21] {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} جعله في قبر يستره، قبرته: دفنته. * * * {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)}. [22] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ} بعدَ القبر {أَنْشَرَهُ} أحياه. واختلاف القراء في الهمزتين من (شَاءَ أَنْشَرَهُ) كاختلافهم فيهما من (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تقعَ) في سورة الحج [الآية: 65]. * * * {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)}. [23] {كَلَّا} رد (¬1) لما عسى أن يكون للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة {لَمَّا} أي: {يَقْضِ} الإنسان {مَا أَمَرَهُ} ما فرض عليه، نفي مؤكِّد لطاعة الإنسان لربه، وإثبات أنه تركَ حقَّ الله، ولم يقض أمره. * * * {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)}. [24] {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} فليتفكر عُتْبَةُ في أول طعامه الذي يأكله كيف يصير في آخره من حال إلى حال، فكذلك يتفكر في حياته، ثم في آخرها كيف يصير من حال إلى حال. ¬

_ (¬1) "رَدٌّ" زيادة من "ت".

[25]

{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)}. [25] ثم بين تحويله فقال: {أَنَّا} قرأ الكوفيون: (أَنَّا) بفتح الهمزة على نية تكرير الخافض، مجازه: فلينظر إلى أَنَّا، وافقهم رويس عن يعقوب وصلًا، وقرأ الباقون: بكسر الهمزة على الاستئناف، وافقهم رويس في الابتداء (¬1). {صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} من السماء؛ يعني: المطر. * * * {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)}. [26] {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} بالنبات. * * * {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)}. [27] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} كالحنطة والشعير مما يتغذى به. * * * {وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)}. [28] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} وهو القَتُّ الرطبُ؛ وسمي به؛ لأنه يُقضب مرة بعد مرة؛ أي: يقطع، واختلف في تفسير القت، فقيل: هو حب الغاسول، وهو ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 672)، و"التيسير" للداني (ص: 220)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 398)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 76).

[29]

الأشنان، وقيل: هو حب يابس أسود، يُدفن فيلين قشره، ويزال، ويطحن ويخبز، يقتاته أعراب طيء (¬1). * * * {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)}. [29] {وَزَيْتُونًا} وهو ما يُعصر منه الزيت {وَنَخْلًا} جمع نخلة. * * * {وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)}. [30] {وَحَدَائِقَ} بساتين {غُلْبًا} غلاظ الأشجار، واحدها أغلب. * * * {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)}. [31] {وَفَاكِهَةً} يريد: ألوان الفواكه {وَأَبًّا} هو ما ترعاه البهائم. * * * {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}. [32] {مَتَاعًا} مصدر؛ أي: منفعة {لَكُمْ} يعني: الفاكهة. {وَلِأَنْعَامِكُمْ} يعني: العشب. * * * {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)}. [33] {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} صيحة القيامة، سميت بذلك؛ لأنها تصخ الأسماع؛ أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصِمُّها، وهي النفخة الثانية. ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (2/ 232)، وعنه نقل المصنف رحمه الله.

[34]

{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)}. [34] ثم بين وقتها فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}. * * * {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)}. [35] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}. * * * {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)}. [36] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} لاشتغاله بنفسه، وعلمِه أنهم لا ينفعونه. * * * {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}. [37] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ} أي: حال. {يُغنِيهِ} يَشْغَلُه عن الاهتمام بشأن غيره. * * * {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)}. [38] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} مضيئة من أثر الوضوء. * * * {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)}. [39] {ضَاحِكَةٌ} بالسرور {مُسْتَبْشِرَةٌ} فرحة بما نالت من كرامة الله عز وجل.

[40]

{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)}. [40] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} غبار. * * * {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)}. [41] {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تعلوها ظلمة كالدخان مع الغبرة. * * * {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}. [42] {أُولَئِكَ} الذين يُصنع بهم هذا {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} الذين جمعوا إلى الكفر الفجور، وهو الفسق، فلذلك يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة، ولا شيء أقبح من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، والله أعلم. * * *

سورة التكوير

سُورَةُ التَّكْويرِ مكية، وآيها: تسع وعشرون آية، وحروفها: أربع مئة وخمسة وعشرون حرفًا، وكلمها: مئة وأربع كلمات. بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}. [1] {إِذَا الشَّمْسُ} رفع بفعل يفسره {كُوِّرَتْ} أي: أظلمت، وأصل التكوير: جمعُ بعض شيء إلى بعض، ثم يلف، فإذا فعل بها ذلك، ذهب ضوءها. * * * {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)}. [2] {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} تناثرت من السماء، وتساقطت على الأرض، وذلك لأن النجوم معلقة بالسلاسل، والسلاسل في أيدي الملائكة، فإذا مات مَنْ في السماء والأرض، تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة، ثم سقطت النجوم وتناثرت. * * *

[3]

{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)}. [3] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} ذُهب بها عن وجه الأرض. * * * {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)}. [4] {وَإِذَا الْعِشَارُ} الحواملُ من الإبل التي أتى عليها عشرة أشهر، واحدتها عُشَراء {عُطِّلَتْ} تُركت هَمَلًا بلا راع. * * * {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)}. [5] {وَإِذَا الْوُحُوشُ} كلُّ دوابِّ الأرض (¬1) {حُشِرَتْ} جُمعت بعدَ البعث؛ ليقتص بعض من بعض، فإذا اقتص منها، صارت ترابًا. * * * {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)}. [6] {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (سُجِرَتْ) بتخفيف الجيم، والباقون: بتشديدها (¬2)؛ أي: أُوقدت وصارت نارًا تضطرم. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "البحر". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 220)، و "تفسير البغوي" (4/ 560)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 398)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 81).

[7]

{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)}. [7] {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قُرنت بأشكالها. روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنه سئل عن هذه الآية، فقال: "يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين (¬1) الرجل السوء مع الرجل السوء في النار" (¬2). قرأ أبو عمرو: (النُّفُوس زُّوِّجَتْ) بإدغام السين في الزاي في هذا الحرف لا غير (¬3). * * * {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)}. [8] {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ} هي البنت تُدفن حيةً؛ سميت بذلك؛ لما يُطرح عليها من التراب فيؤودها؛ أي: يثقلها حتى تموت، وكان العرب يفعلون ذلك مخافة العار والحاجة {سُئِلَتْ} تبكيتًا لقاتلها. * * * {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)}. [9] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} لم وُئدت؟ فتقول: قُتلت بغير ذنب. قرأ أبو جعفر: (قُتِّلَتْ) بتشديد التاء، والباقون: بتخفيفها (¬4). ¬

_ (¬1) "بين" زيادة من "ت". (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (34492)، والطبري في "تفسيره" (30/ 69)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3404). وانظر: "تغليق التعليق" لابن حجر (4/ 362). (¬3) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 381)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 81). (¬4) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 562)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =

[10]

{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)}. [10] {وَإِذَا الصُّحُفُ} صحفُ الأعمال {نُشِرَتْ} فُتحت وبُسطت، فتقع صحيفة المؤمن في يده فيها مكتوب: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}، وتقع صحيفة الكافر في يده فيها مكتوب: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب: بتخفيف الشين، والباقون: بتشديدها. * * * {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)}. [11] {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} نُزعت عن أماكنها، وطُويت. * * * {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)}. [12] {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن ذكوان عن ابن عامر، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (سُعِّرَتْ) بتشديد العين، والباقون: بتخفيفها؛ بخلاف عن أبي بكر راوي عاصم (¬1). * * * {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)}. [13] {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} قُرِّبت للمتقين ليدخلوها. ¬

_ = (2/ 398)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 83). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 673)، و"التيسير" للداني (ص: 220)، و"تفسير البغوي" (4/ 562)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 398)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 84).

[14]

{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}. [14] فذكر الله سبحانه اثني عشر شيئًا، وقال: إذا وقعت هذه الأشياء، فهنالك {عَلِمَتْ نَفْسٌ} أي: كلُّ النفوس {مَا أَحْضَرَتْ} من خير وشر. * * * {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)}. [15] {فَلَا أُقْسِمُ} (لا) زائدة، معناه: أقسم {بِالْخُنَّسِ} الرواجع، جمع خانسة وخانس. * * * {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)}. [16] ونعت (الخنس) {الْجَوَارِ} السيارة. قرأ يعقوب: (الْجَوَارِي) بإثبات الياء وقفًا، وأمال فتحة الواو: الدوري عن الكسائي (¬1) {الْكُنَّسِ} الغُيَّب، نعت (الْجَوَارِ)، وأصل الخنوس: الرجوع إلى خلف، والكنوس: الاستتار، المراد بها: النجوم الخمسة: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد، و (¬2) سميت بذلك؛ لأنها تخنس؛ أي: ترجع في مجراها؛ وتكنس (¬3)؛ أي: تستتر بضوء الشمس كما تستتر الظباء في كنسها؛ أي: بيوتها. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 138)، وذكر الإمالة الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر" (ص: 434)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 85). (¬2) "و" ساقطة من "ت". (¬3) "وتكنس" زيادة "ت".

[17]

{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)}. [17] {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أقبل بظلامه. * * * {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)}. [18] {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} انتشر ضوءه بطلوع الفجر، فشبه ذلك بالتنفس مجازًا. * * * {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)}. [19] وجواب القسم: {إِنَّهُ} أي: القرآنَ {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} على الله، وهو جبريل عليه السلام، وأضيف القول إليه؛ لأنه قاله عن الله سبحانه. * * * {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}. [20] {ذِي قُوَّةٍ} أي: شديد القوى {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} أي: عند الله. {مَكِينٍ} في المنزلة. * * * {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)}. [21] {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في السموات، يطيعه الملائكة، ومن طاعتهم أنهم فتحوا أبواب السماء ليلة المعراج بقوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطاعة

[22]

جبريل فريضة على أهل السموات، كما أن طاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فريضة على أهل الأرض {أَمِينٍ} على الوحي. * * * {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)}. [22] {وَمَا صَاحِبُكُمْ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {بِمَجْنُونٍ} خطاب لأهل مكة، وهو أيضًا من جواب القسم، أقسم على أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس كما يقوله أهل مكة، وذلك أنهم قالوا: إنه مجنون، وما يقوله من عند نفسه. * * * {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)}. [23] {وَلَقَدْ رَآهُ} أي: رأى محمد جبريل -عليهما الصلاة والسلام- على صورته التي خُلق عليها. قرأ ورش (¬1)، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (رَآكَ) و (رَآهُ) و (رَآهَا) بإمالة الهمزة والراء، وأمال الدوري عن أبي عمرو الهمزة بخلاف عنه، وأمال السوسي الراء، وقرأ الباقون: بالفتح فيهما (¬2) {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} مطلع الشمس الأعلى من ناحية المشرق. * * * ¬

_ (¬1) "ورش" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 381)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 85).

[24]

{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)}. [24] {وَمَا هُوَ} يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {عَلَى الْغَيْبِ} أي: ما غاب عن أهل الأرض من خبر السماء {بِضَنِينٍ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (بِظَنِينٍ) بالظاء؛ أي: بمتَّهَم، وقرأ الباقون: بالضاد؛ أي: ببخيل بالدعاء به، ورسمُها بالضاد في جميع المصاحف (¬1). * * * {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)}. [25] {وَمَا هُوَ} أي: القرآن {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ} مسترِقٍ للسمع {رَجِيمٍ} مرجومٍ بالكواكب. * * * {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)}. [26] {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} توقيف وتقرير على معنى: أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق؟ * * * {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)}. [27] {إِنْ هُوَ} أي: القرآنُ {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} عظة للخلق أجمعين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 673)، و"التيسير" للداني (ص: 220)، و"تفسير البغوي" (4/ 564)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 398 - 399)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 86).

[28]

{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)}. [28] وتبدل من {لِلْعَالَمِينَ} {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} باتباع الحق، وخصص من يشاء الاستقامة بالذكر؛ تشريفًا وتنبيهًا منهم، وذكرًا لتكسبهم أفعال الاستقامة. * * * {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}. [29] ولما نزلت هذه الآية، قال المشركون: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل: {وَمَا تَشَاءُونَ} (¬1) الاستقامةَ {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} لأن المشيئة في التوفيق إليه {رَبُّ الْعَالَمِينَ} مالكُ الخلائق. في الحديث: "يا بنَ آدم! تريدُ وأريدُ، فتتعبُ فيما تريد، ولا يكونُ إلا ما أُريد" (¬2)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (30/ 84)، عن سليمان بن موسى. ورواه الثعلبي في "تفسيره" (10/ 144)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" (5/ 445) دون التصريح أو التلميح إلى أنه حديث أو أثر، وإنما ذكره بيانًا وإيضاحًا، ومثالًا مناسبًا فمعنى الآية. وقد نقله المؤلف هنا على أنه حديث، والعصمة من الله وحده.

سورة الانفطار

سُورَةُ الانفِطَار مكية، وآيها: تسع عشرة آية، وحروفها ثلاث مئة وسبعة وعشرون حرفًا، وكلمها: إحدى وثمانون كلمة. بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)}. [1] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} انشقَّتْ، وتشقُّقها على غير نظام مقصود، إنما هو انشقاق لتزول بنيتها. * * * {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)}. [2] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} تساقطت من مواضعها التي هي فيها. * * * {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)}. [3] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} فُتح بعضُها إلى بعض، عذبُها ومِلْحُها، فصارت بحرًا واحدًا. * * *

[4]

{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)}. [4] {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} بُحثت وأُخرج ما فيها من الموتى، وهذه أوصاف يوم القيامة. * * * {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)}. [5] وجواب (إِذا): {عَلِمَتْ نَفْسٌ} و (نفسٌ) هاهنا اسمُ جنس، وإفرادها ليبين لذهن السامع حقارتها وقلتها وضعفها عن منفعة ذاتها، إلا من رحم الله تعالى {مَا قَدَّمَتْ} في حياتها من عمل صالح أو سيئ. {وَأَخَّرَتْ} مما سَنَّتْه فعُمل به بعد موتها. * * * {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)}. [6] ثم خاطب تعالى جنس ابن آدم، فوقفه على جهة التوبيخ والتنبيه على أي شيء أوجب أن يغتر بربه الكريم فيعصيه، ويجعل له ندًّا، وغير ذلك من أنواع الكفر، وهو الخالق الموجِدُ بعدَ العدم، فقال: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ} أي: ما دعاك إلى الاغترار. {بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فقال: "جَهْلُهُ" (¬1)، وهذا يترتب في الكافر. ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" (10/ 146)، عن صالح بن مسمار بلاغًا. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3048)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزمخشري (4/ 167).

[7]

وفي العاصي: روي أن الله سبحانه إنما ذكر الكريم من بين سائر أسمائه، كأنه لقنه الإجابة حتى يقول: غرني كرمُ الكريم، فهذا من لطف الله بعباده العصاة المؤمنين (¬1). * * * {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)}. [7] {الَّذِي خَلَقَكَ} بعدَ أنْ لم تكن شيئًا {فَسَوَّاكَ} بأن سوى أعضاءك، وركب فيك العقل، وأنطق لسانك (¬2). {فَعَدَلَكَ} قرأ الكوفيون: بتخفيف الدال، أي: صرفَكَ وأمالك إلى ما شاء، وقرأ الباقون: بالتشديد (¬3)، أي: قَوَّمَك وجعلك معتدلَ الخَلْق والأعضاء. * * * {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}. [8] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} أي: في قبيحة أو حسنة، أو مشوهة أو سليمة، ونحو هذا. * * * ¬

_ (¬1) ذكره البغوي في "تفسيره" (4/ 568) عن بعض أهل الإشارة. (¬2) "لسانك" ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 674)، و"التيسير" للداني (ص: 220)، و"تفسير البغوي" (4/ 568)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 89 - 90).

[9]

{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)}. [9] {كَلَّا} ردٌّ على سائر أقوالهم، وردعٌ عنها. قرأ أبو عمرو، ورويس بخلاف عنه: (رَكَّبَك كَلَّا) بإدغام الكاف، في الكاف، والباقون: بالإظهار (¬1). {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} بالحساب، أثبت لهم تكذيبهم بالدين، وهذا الخطاب عام، ومعناه الخصوص. قرأ أبو جعفر: (يُكَذِّبُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب، ومنهم: حمزة، والكسائي، وهشام يدغمون اللام في التاء (¬2). * * * {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)}. [10] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} رقباء من الملائكة. * * * {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)}. [11] {كِرَامًا كَاتِبِينَ} يكتبون أعمال بني آدم، و (¬3) وصفهم بالكرم الذي هو نفيُ المذامِّ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 674)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 90). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 569)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 399)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 90). (¬3) "و" زيادة من "ت".

[12]

{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)}. [12] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وتقولون؛ لمشاهدتهم حالَكم. * * * {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)}. [13] {إِنَّ الْأَبْرَارَ} جمعَ برّ، وهو الذي قد اطَّرد بِرُّهُ عمومًا، فبرَّ ربَّه في طاعته إياه، وبرَّ أبويه، وبرَّ الناس في جلب ما استطاع من الخير لهم، وغير ذلك {لَفِي نَعِيمٍ}. * * * {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)}. [14] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ} يعني: الكفار {لَفِي جَحِيمٍ} بيان لما يكتبون لأجله. * * * {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)}. [15] {يَصْلَوْنَهَا} يباشرون حرها بأبدانهم {يَوْمَ الدِّينِ} هو يوم الجزاء. * * * {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)}. [16] {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} لا بدَّ من دخولهم إياها. * * *

[17]

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)}. [17] ثم فخم شأن يوم الدين فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}. * * * {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)}. [18] ثم كرر تعجبًا لشأنه فقال: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}. [19] {يَوْمَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: (يَوْمُ) برفع الميم على معنى: هو يوم، وقرأ الباقون: (يَوْمَ) بالنصب على الظرف (¬1)، والمعنى الجزاءُ يومَ. {لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} من المنفعة {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} إخبار منه تعالى بضعف الناس (¬2) يومئذ، وأنه لا يُغني بعضهم عن بعض، وأن الأمر له -تبارك وتعالى- كما هو له في الدنيا، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 674)، و"تفسير البغوي" (4/ 569)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 399)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 91). (¬2) "الناس": ساقطة من "ت".

سورة المطففين

سُورَةُ المُطَفِّفينَ مدنية، وقيل: مكية، وعن ابن عباس: نزل بعضها بمكة، ونزل أمر التطفيف بالمدينة؛ لأنهم كانوا أشدَّ الناس فسادًا، أي: في بهذا المعنى، فأصلحهم الله بهذه السورة (¬1)، وآيها: ست وثلاثون آية، وحروفها: سبع مئة وأربعون حرفًا، وكلمها: مئة وتسع وستون كلمة. بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}. [1] {وَيْلٌ} معناه: الثبور والحزن والشقاء الأدومُ، ورفعه على الابتداء، المعنى: ثبت الويل واستقر {لِلْمُطَفِّفِينَ} الباخسين في الكيل والوزن. * * * {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)}. [2] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي: منهم، و (مِنْ) و (عَلَى) يتعاقبان. {يَسْتَوْفُونَ} الكيل والوزنَ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 431).

[3]

{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)}. [3] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} أي: كالوا أو وزنوا للناس. {يُخْسِرُونَ} يُنقصون الكيل والوزن. * * * {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)}. [4] ثم أدخل همزة الاستفهام على (لا) النافية توبيخًا، وليست (أَلَا) هذة تنبيهًا؛ لأن ما بعد تلك مثبت، وهذا نفي؛ لأن (ألَا) التنبيهية إذا حُذفت لا يختل المعنى؛ نحو: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} (¬1) [الصافات: 151] وإذا حذفت (أَلَا) هذه، اختل المعنى، فقال: {أَلَا يَظُنُّ} أي: يتحقق {أُولَئِكَ} المطففون {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}. * * * {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)}. [5] {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة، فيُسألون عن كيلهم ووزنهم. * * * {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}. [6] {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} من قبورهم {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} لأجل أمره تعالى، و (يومَ) منصوب بـ (مَبْعُوثُونَ)، وهذا مما يؤيد أنها نزلت بالمدينة في قوم مؤمنين، وأُريد بها مع ذلك من غَبَرَ من الأمة. ¬

_ (¬1) في "ت": "ألا إنهم في سكرتهم يعمهون". قلت: وهو خطأ، وإنما يريد قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].

[7]

{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)}. [7] {كَلَّا} جميع ما في هذه السورة يجوز أن يكون ردًّا؛ أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا، وتمام الكلام هاهنا، ويحتمل أن يكون استفتاحًا بمنزلة (ألا)، فيتصل بما بعده على معنى: حقًّا. {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} ما يكتب من أعمالهم. {لَفِي سِجِّينٍ} هي الأرض السابعة، فيها أرواح الكفار توضع فيه إهانة لهم. قرأ أبو عمرو: (كِتَابَ الْفُجَّار لَّفِي) بإدغام الراء في اللام (¬1). * * * {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)}. [8] ثم فخم شأنه، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ} أي: أيُّ شيء أعلمك. {مَا سِجِّينٌ} ليس مما كنت تعلمه. * * * {كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)}. [9] ثم بين الكتابَ فقال: {كِتَابٌ} أي: هو كتاب. {مَرْقُومٌ} مسطور فيه أعمالُهم، لا ينسى ولا يمحى، حتى يُجَازوا به. * * * {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)}. [10] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بالحق. ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 382)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 96).

[11]

{الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)}. [11] {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} الجزاء، صفةٌ ذامة. * * * {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)}. [12] {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ} هو الذي يتجاوز حدود الأشياء. {أَثِيمٍ} مبالغة من (¬1) آثم. روي عن قنبل، ويعقوب: الوقف بالياء على (مُعْتَدِي). * * * {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)}. [13] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} جمع أُسْطُورَة، وهي الحكايات التي سُطِرتَ قديمًا. * * * {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}. [14] {كَلَّا بَلْ رَانَ} غَطَّى {عَلَى قُلُوبِهِمْ} وركبَها كركوب الصدأ الحديد. {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من المعاصي والذنوب. قرأ حفص عن عاصم: (بَلْ) بإظهار اللام مع سكتة عليها خفيفة، ويبتدئ (رَانَ)، وقرأ الباقون: بإدغام اللام في الراء، ومنهم: حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: يميلون فتحة الراء (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت": "في". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 675)، و"الكشف" لمكي (1/ 182)، =

[15]

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ إذا أذنب، كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبه، فإن تابَ ونزعَ، واستغفرَ، صُقِلَ قلبُه منها، وإذا زاد، زادت حتى تعلوَ قلبه، فذلكم الرانُ الذي ذكرَ اللهُ في كتابِه" (¬1). * * * {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)}. [15] {كَلَّا إِنَّهُمْ} يعني: الكفار {عَنْ رَبِّهِمْ} أي: عن رؤية ربهم. {يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فمن قال بالرؤية، وهو قول أهل السنة، وعليه اتفاق الأئمة، قال: إن هؤلاء لا يرون ربهم، فهم محجوبون عنه، واحتج بهذه الآية الإمام مالك بن أنس -رضي الله عنه- على مسألة الرؤيا من جهة دليل الخطاب، وإلا، فلو حجب الكل، لما أغنى هذا التخصيص، ومن قال بأن لا رؤية، وهو قول المعتزلة، قال في هذه الآية: إنهم محجوبون عن رحمة ربهم وغفرانه. وقد أخرج البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أربع عشرة من الشهر، فقال: "إِنَّكم سترونَ رَبَّكُم كما ترونَ هذا القمر، لا تُضامون في رؤيته" (¬2). ¬

_ = و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 96). (¬1) رواه الترمذي (3334)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، وقال: حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" (10251)، وابن ماجه (4244)، كتاب: الزهد، باب: ذكر الذنوب، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) تقدم تخريجه.

[16]

وتقدم كلام الأئمة الأربعة في ذلك في سورة الأنعام. * * * {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)}. [16] {ثُمَّ إِنَّهُمْ} بعد ذلك {لَصَالُو الْجَحِيمِ} مباشر وحرِّ النار دون حائل. * * * {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}. [17] {ثُمَّ يُقَالُ} أي: يقول لهم الزبانية توبيخًا: {هَذَا} العذاب. {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. * * * {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)}. [18] ولما ذكر تعالى كتاب الفجار، عقب ذلك بذكر كتاب ضدهم؛ ليبين الفرق، فقال {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ} جمع بَرّ، وتقدم تفسيره في أواخر السورة التي قبل هذه. قرأ أبو عمرو، والكسائي، وخلف: (الأبْرَار) بالإمالة، ورواه ورش عن نافع بين بين، واختلف فيه عن حمزة وابن ذكوان، فروى عن الأول: الإمالة، وبين بين، وعن الثاني: الإمالة، والفتح، وقرأ الباقون: بالفتح، وأبو عمرو على أصله بإدغام الراء في اللام (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 676)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 96).

[19]

{لَفِي عِلِّيِّينَ} في السماء السابعة تحت العرش. قال بعض أهل المعاني: علو بعد علو، وشرف بعد شرف، ولذلك جمعت بالياء والنون (¬1). * * * {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)}. [19] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} تقديره: وما أدراك ما في عليين؟ على التعظيم. * * * {كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)}. [20] ثم بين فقال: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} أي: مكتوب، وليس بتفسير (عِلِّيِّينَ). قال ابن عباس: "عملُهم مكتوبٌ في لوح من زَبَرْجَدٍ أخضرَ معلَّقٍ تحتَ العرش" (¬2). * * * {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)}. [21] {يَشْهَدُهُ} يحضره {الْمُقَرَّبُونَ} وهم سبعة أملاك من مقربي السماء، من كل سماء ملك مقرب، فيحضره ويشيعه حتى يصعد به إلى ما يشاء الله، ويكون هذا في كل يوم. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (10/ 155). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 576).

[22]

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)}. [22] {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}. * * * {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)}. [23] {عَلَى الْأَرَائِكِ} هي السُّرر في الحِجال، وتقدم في سورة (يَس). {ينَظُرُونَ} إلى ما يسرهم، وإلى الكفار في النار كيف يعذبون. * * * {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)}. [24] {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} بهجةَ التنعيم. قرأ أبو جعفر، ويعقوب: (تُعْرَفُ) بضم التاء وفتح الراء مجهولًا، ورفع (نَضْرَةُ)، وقرأ الباقون: بفتح التاء وكسر الراء معلومًا، ونصب (نَضْرَةَ) مفعولًا (¬1). * * * {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)}. [25] {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} وهو الشراب الخالص. {مَخْتُومٍ} على إنائها، فلا يَفُكُّ ختمَهُ إلا الأبرارُ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 577)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 399)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 97).

[26]

{خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)}. [26] {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قرأ الكسائي: (خَاتَمُهُ مِسْكٌ (¬1)) بفتح الخاء وألف بعدها من غير ألف بعد التاء، أي: آخره، وقرأ الباقون: بكسر الخاء من غير ألف بعدها وبألف بعد التاء: اسم لما يُختم به، ولا خلاف بينهم في فتح التاء (¬2). {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله، وأصله: من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس. * * * {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)}. [27] {وَمِزَاجُهُ} أي: الرحيق {مِنْ تَسْنِيمٍ} شراب يُصب عليهم من علو في غرفهم، وهو أشرف شراب في الجنة. * * * {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}. [28] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} أي: منها {الْمُقَرَّبُونَ} صِرْفًا، ويمزج رحيقُ الأبرار بها، ونصب (عَيْنًا) على الحال من (تَسْنِيمٍ). * * * {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)}. [29] ونزل في الكفار وسخريتهم بالمسلمين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} ¬

_ (¬1) "مسك" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 676)، و "التيسير" للداني (ص: 221)، و"تفسير البغوي" (4/ 577)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 97)

[30]

اكتسبوا الجرائم {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} استهزاء بهم. * * * {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)}. [30] {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ} يعني: المؤمنين بالكفار. {يَتَغَامَزُونَ} والغمز: الإشارة بالجفن والحاجب. * * * {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)}. [31] {وَإِذَا انْقَلَبُوا} أى: الكفار (¬1) {إِلَى أَهْلِهِمُ} ومنازلهم {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} قرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم: (فَكِهِينَ) بغير ألف بعد الفاء؛ يعني: فرحين، وقرأ الباقون: بالألف؛ يعني: مُعجبين بما هم فيه، واختلف عن ابن عامر (¬2). * * * {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)}. [32] {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أى: رأى الكافرون المؤمنين {قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ} المؤمنين {لَضَالُّونَ} لإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. * * * {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)}. [33] فقال تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا} أي: الكفار. ¬

_ (¬1) "أي: الكفار" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 221)، و"النشر في القراءات العشر": لابن الجزري (2/ 354 - 355). و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 98).

[34]

{عَلَيْهِمْ} على المؤمنين {حَافِظِينَ} يردونهم إلى مصالحهم. * * * {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)}. [34] {فَالْيَوْمَ} يعني: في الآخرة {الَّذِينَ آمَنُوا} إذا دخلوا الجنة. {مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} كما ضحك الكفارُ منهم في الدنيا، إذا نظروا إليهم من الجنة، وهم في النار يعذبون. * * * {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)}. [35] والمؤمنون {عَلَى الْأَرَائِكِ} من الدرِّ والياقوت {يَنظُرُونَ} إليهم في النار. * * * {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}. [36] قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ} أي: جوزي {الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي: جزاءَ استهزائهم بالمؤمنين، والاستفهام تقرير وتوقيف لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته. قرأ حمزة، والكسائي، وهشام: (هَل ثّوِّبَ) بإدغام اللام في الثاء، والباقون: بالإظهار (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 676)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 435)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 98).

سورة الانشقاق

سُورةُ الانشِقَاقِ مكية، وآيها: خمس وعشرون آية، وحروفها: أربع مئة وستة وثلاثون حرفًا، وكلمها: مئة وسبع كلمات. بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}. [1] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} تفطَّرت لهول يوم القيامة، وانشقاقُها من علامات الساعة. * * * {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)}. [2] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} استمعت وسمعت أمره ونهيه (¬1). {وَحُقَّتْ} أي: وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع خالقها. * * * {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)}. [3] {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} زالت جبالها حتى لا يبقى فيها عوج وزيد في سَعَتها. ¬

_ (¬1) "ونهيه" زيادة من "ت".

[4]

وفي الحديث: "إن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة مدَّ الأديم العكاظي" (¬1). * * * {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)}. [4] {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} من الكنوز والموتى إلى ظاهرها. {وَتَخَلَّتْ} خلت عما كان فيها، ولم تتمسك منهم بشيء. * * * {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)}. [5] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} ليس بتكرار الإذن (¬2)، الأول للسماء، والثاني للأرض، وجواب (إِذَا) محذوف؛ للتهويل بالإبهام، يدل عليه: {فَمُلَاقِيهِ} المعنى: إذا كان يوم القيامة، لقي الإنسان عمله، وقيل: هو على: اذكر إذا السماء انشقت. * * * {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)}. [6] وقيل: جوابه: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ} مخاطبة للجنس، والفاء مضمرة؛ كأنه قال: فيها أيها الإنسان. ¬

_ (¬1) ذكره ابن عطية في "المحور الوجيز" (5/ 456)، ورواه نحوه: إسحاق بن راهويه في "مسنده" (10)، والطبري في "تفسيره" (13/ 252)، وأبو الشيخ في "العظمة" (3/ 822)، والطبراني في "الأحاديث الطوال" (ص: 266) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل. (¬2) في "ت": "لأن".

[7]

{إِنَّكَ كَادِحٌ} أي: ساع باجتهاد {إِلَى رَبِّكَ} إلى وقت لقائه تعالى، وهو الموت {كَدْحًا} والكدح: جهد النفس في العمل. {فَمُلَاقِيهِ} أي: ملاقٍ جزاءَ عملِك من خير وشر. * * * {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)}. [7] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} أي: كتابَ أعماله {بِيَمِينِهِ} وهو المؤمن. * * * {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}. [8] {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} سهلًا بلا مناقشة. * * * {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)}. [9] {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} المؤمنين في الجنة بعد الحساب {مَسْرُورًا} بما أُعد له فيها. * * * {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)}. [10] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} وهو الكافر تُغَلُّ يمناه، وتُخلع يسراه، وتُجعل وراء ظهره، فيأخذ بها كتابه. * * * {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)}. [11] فإذا رأى ما فيه {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} ينادي هلاكه.

[12]

{وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)}. [12] {وَيَصْلَى} قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي: بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام مجهولًا؛ أي: يُدْخِلُه غيرهُ، وقرأ الباقون: بفتح الياء وإسكان الصاد وتخفيف اللام (¬1)؛ أي: يدخل هو {سَعِيرًا}. روي أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وفي أخيه أبي الأسود، وكان أبو سلمة من أفضل المؤمنين، وهو أول من هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه من عتاة (¬2) الكافرين (¬3). * * * {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)}. [13] {إِنَّهُ} أي: لأنه {كَانَ فِي أَهْلِهِ} عشيرته {مَسْرُورًا} بَطِرًا بارتكاب هواه دون معرفة الله. * * * {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)}. [14] {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} يرجعَ إلى الله، والظن هنا على بابه بمعنى الحسبان، لا الظن الذي بمعنى اليقين والعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 677)، و"التيسير" للداني (ص: 221)، و"تفسير البغوي" (4/ 582)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 102). (¬2) في "ت": "عثاة". (¬3) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 457)، و "تفسير القرطبي" (19/ 272).

[15]

{بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)}. [15] {بَلَى} أي: ليس كما ظن، بل يحور إلينا ويُبعث. {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} من يوم خلقه إلى أن يبعثه. * * * {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)}. [16] {فَلَا أُقْسِمُ} (لا) زائدة، والتقدير: فأقسم، وقيل: (لا) رد على أقوال الكفار، وابتدأ القول (أُقْسِمُ)، وقسم الله بمخلوقاته فإنه على جهة التشريف لها، وتعريضها للعبرة؛ إذ القسم بها (¬1) منبه منها. {بِالشَّفَقِ} الحمرةِ التي تبقى في الأفق بعد مغيب الشمس، وبسقوطها يدخل وقت العشاء عند الأئمة الثلاثة، وعند أبي حنيفة: هو البياض بعد الحمرة؛ خلافًا لصاحبيه، وتقدم الكلام في ذلك في سورة الروم، وسمي به؛ لرقته؛ من الشفقة. * * * {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)}. [17] {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} جمعَ وضَمَّ، وذلك أن الليل إذا أقبل، أقبل كلُّ شيء إلى مأواه مما كان منتشرًا بالنهار. * * * ¬

_ (¬1) "بها" زيادة من "ت".

[18]

{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)}. [18] {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} امتلأ في الليالي البيض. * * * {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} [19] وجواب القسم: {لَتَرْكَبُنَّ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف: (لَتَرْكَبَنَّ) بفتح الباء خطابًا للإنسان من (يَا أَيُّها الإِنْسَانُ)، وقرأ الباقون: بالضم خطابًا لجنس الإنسان (¬1) المعنى: لتركبن الشدائد: الموت والبعث والحساب. {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالًا بعد حال. * * * {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)}. [20] {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} استفهام إنكار. * * * {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)}. [21] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} أي: لا يصلُّون. قرأ أبو جعفر: (قُرِيَ) بفتح الياء، والباقون: بالهمز، وقرأ ابن كثير: (القُرَانُ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 677)، و "التيسير" للداني (ص: 221)، و"تفسير البغوي" (4/ 583)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 103). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 396)، وقراءة ابن كثير في =

[22]

وهذا محل سجود عند الثلاثة؛ خلافًا لمالك، وهم على أصولهم في قولهم بالوجوب والسنية، كما تقدم اختلافهم ملخصًا عند سجدة مريم. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬1). * * * {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)}. [22] {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} بالقرآن والبعث. * * * {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)}. [23] {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} يجمعون في صدورهم. * * * {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)}. [24] {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} استهزاء بهم. * * * ¬

_ = "اتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 436)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 104). (¬1) رواه مسلم (578)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: سجود التلاوة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[25]

{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}. [25] {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} استثناء منقطع. {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: معدود عليهم محسوب منغَّص بالمن، والله أعلم. * * *

سورة البروج

سُورَةُ البُرُوج مكية، وآيها: اثنتان وعشرون آية، وحروفها: أربع مئة وأربع وستون حرفًا، وكلمها: مئة وتسع كلمات. بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)}. [1] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} هي المنازل التي عرفتها العرب، وهي اثنا عشر على ما قسمته، وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يومًا، وتقدم ذكرها في سورة يونس، وفي الفرقان. * * * {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)}. [2] {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} هو يوم القيامة. * * * {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)}. [3] {وَشَاهِدٍ} يوم الجمعة؛ لأنه يشهد على كل عامل بعمله {وَمَشْهُودٍ} يوم عرفة؛ لأن الناس يشهدون مواسم الحج، وتشهده

[4]

الملائكة، وقيل في شاهد ومشهود غيرُ ذلك. * * * {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)}. [4] وجواب القسم محذوف؛ كأنه قيل: إنهم ملعونون؛ يعني: كفار مكة؛ كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل: الجواب. {قُتِلَ} أي: لُعن {أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} وهي شق مستطيل في الأرض كالنهر، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود كانوا ثلاثة، وهم أنطاليوس الرومي بالشام، وبخت نصر بفارس، ويوسف ذو نواس بنجران، شق كل واحد منهم شقًّا عظيمًا في الأرض، وكان طوله أربعين ذراعًا، وعرضه اثني عشر ذراعًا، وهو الأخدود، وملؤوه نارًا، وقالوا من لم يكفر، وإلا ألقي فيه، فمن كفر، تُرك، ومن أبي، أُلقي فيه، وقيل: إن القرآن إنما نزل في التي بنجران (¬1)، وفي ذلك خلاف يطول ذكره. * * * {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)}. [5] {النَّارِ} بدل من {الْأُخْدُودِ} بدل اشتمال {ذَاتِ الْوَقُودِ} والوقود -بفتح الواو-: ما- يوقد به. * * * {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)}. [6] {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا} أي: حولها على جانب الأخدود على الكراسي. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 500).

[7]

{قُعُودٌ} يعذبون الناس روي أنه احترق عشرون ألفًا. * * * {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)}. [7] {وَهُمْ} أي: الملك وأصجابه {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} من التعذيب {شُهُودٌ} أي حضور. * * * {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)}. [8] {وَمَا نَقَمُوا} أي: عابوا {مِنْهُمْ} يعني: المؤمنين. {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} فلذلك أحرقوهم، وهذا الاستثناء نحو: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفهم ... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ ووصفه بكونه عزيزًا غالبًا يُخشى عقابُه، حميدًا منعمًا يرجى ثوابه (¬1). * * * {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}. [9] وقرر ذلك بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من أفعالهم {شَهِيدٌ} للإشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 733).

[10]

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)}. [10] {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا} عذبوا {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بالإحراق. {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} بكفرهم {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أشد من الأول؛ بإحراقهم المؤمنين، وجهنم والحريق طبقتان من النار. * * * {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)}. [11] ثم ذكر ما أعد للمؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} إذ الدنيا وما فيها تصغر دونه. * * * {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)}. [12] {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} أي: أخذه بالعذاب {لَشَدِيدٌ} مضاعَف عنفُه. * * * {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)}. [13] {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ} الخلقَ بخلقهم ابتداءً {وَيُعِيدُ} خلَقهم عند البعث. * * *

[14]

{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)}. [14] {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} لمن تاب {الْوَدُودُ} المتودِّد إلى أوليائه بالمغفرة. * * * {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)}. [15] {ذُو الْعَرْشِ} خالقُه {الْمَجِيدُ} العظيم في ذاته. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (الْمَجِيدِ) بالجر نعتًا للعرش، وقرأ الباقون: بالرفع نعتًا للغفور (¬1)؛ لأن المجد هو النهاية في الكرم، والله تعالى هو المنعوت بذلك. * * * {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)}. [16] {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} لا يمتنع عليه شيء يريده. * * * {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)}. [17] {هَلْ} أي: قد {أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} خبرُ الجموع الكافرة. * * * {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)}. [18] ثم بين تعالى من هم فقال: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} وهذا تنبيه لكفار ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 678)، و"التيسير" للداني (ص: 221)، و"تفسير البغوي" (4/ 591)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 108).

[19]

مكة بما جرى للهالكين قبلهم؛ ليتعظوا بهم، فيؤمنوا. * * * {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)}. [19] فلما لم يؤمنوا، قيل إضرابًا عنهم: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك يا محمد. {فِي تَكْذِيبٍ} لك وللقرآن؛ كدأبِ مَنْ قبلهم. * * * {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)}. [20] {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} قدرتُه مشتملة عليهم، فلا يُعجزه منهم أحد. * * * {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)}. [21] {بَلْ هُوَ} أي: ما كذبوا به. {قُرْآنٌ مَجِيدٌ} عظيم القدر. قرأ ابن كثير: (قُرَانٌ) بالنقل، والباقون: بالهمز (¬1). * * * {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}. [22] {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} لا يدركه الخطأ والتبديل. قرأ نافع: (مَحْفُوظٌ) ¬

_ (¬1) سلفت عند تفسير الآية (21) من سورة الانشقاق.

بالرفع صفة لقرآن، وقرأ الباقون: بالجر صفة اللوح (¬1)، وهو اللوح المشهور بهذه الصفة، وهو في جبهة إسرافيل -عليه السلام-، قاله أنس، وقال ابن عباس: "هو من دُرَّةٍ بيضاءَ، طولُه ما بين السماء والأرض، وعرضُه ما بين المشرق والمغرب" (¬2)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 678)، و"التيسير" للداني (ص: 221)، و"تفسير البغوي" (4/ 592)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 109 - 110). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 592)، و"تفسير ابن كثير" (4/ 498).

سورة الطارق

سُورَةُ الطَّارِقِ مكية، وآيها: سبع عشرة آية، وحروفها مئتان وثمانية وأربعون حرفًا، وكلمها: إحدى وستون كلمة. بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)}. [1] {وَالسَّمَاءِ} هي السماء المعروفة {وَالطَّارِقِ} النجم؛ لأنه يطرق، أي: يطلع ليلًا، وكلُّ ما ظهر (¬1) أو أتى ليلًا، فهو طارق. * * * {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)}. [2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} عبر عنه أولًا بوصف عام. * * * {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)}. [3] ثم فسره بما يخصه تفخيمًا لشأنه فقال: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} المضيء؛ ¬

_ (¬1) "ظهر" ساقطة في "ت".

[4]

لثقبه الظلام بضوئه، وهو الثريا الذي تطلق عليه العرب اسم النجم معرفًا، وقيل: زحل. * * * {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)}. [4] وجواب القسم: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ} (إنْ) مخففة من الثقيلة {لَمَّا عَلَيْهَا}. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، وحمزة: (لَمَّا) بتشديد الميم بمعنى (إلا) عليها، وقرأ الباقون: بتخفيفها صلة مؤكدة (¬1)، مجازه: إنْ كلُّ نفسٍ لَعليها. {حَافِظٌ} من الملائكة يحصي أعمالها، ويعدها للجزاء عليها، وبهذا الوجه تدخل الأمة في الوعيد الزاجر. * * * {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)}. [5] {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ} نظرَ اعتبار {مِمَّ} أي: من أي شيء {خُلِقَ} وقف البزي، ويعقوب بخلاف عنهما: (مِمَّهْ) بزيادة هاء بعد الميم. * * * {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)}. [6] وجواب الاستفهام: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي: مدفوق، ونسبة الدفق ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 678)، و"تفسير البغوي" (4/ 593)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 291)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 113 - 114).

[7]

إلى الماء مجاز، والمراد: ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الولد منهما يكون، فإذا اعتبر أصله، علم أن القادر على ذلك قادر على البعث. * * * {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}. [7] {يَخرُجُ} أي: ينزع {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} من الرَّجل، وهو الظهر. {وَالتَّرَائِبِ} جمع تريبة (¬1)، وهي عظام الصدر من المرأة. * * * {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)}. [8] {إِنَّهُ} أي: الله تعالى {عَلَى رَجْعِهِ} أي: ردِّ الإنسان حيًّا بعد موته. {لَقَادِرٌ} يرجعه. * * * {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)}. [9] {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} تُختبر الضمائر. عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ السرائرَ التي يبتليها اللهُ من العباد: التوحيدُ، والصلاةُ، والزكاةُ، والغسلُ من الجنابة" (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت": "تربية". (¬2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2751)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه نحوه. انظر: "تفسير البغوي" (4/ 594)، و "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 466).

[10]

{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)}. [10] {فَمَا لَهُ} لمنكر البعث {مِنْ قُوَّةٍ} يمتنع بها من العذاب. {وَلَا نَاصِرٍ} ينصره منه. * * * {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)}. [11] {وَالسَّمَاءِ} تحتمل في هذا القَسَم أن تكون المعروفة، وتحتمل أن تكون السحاب {ذَاتِ الرَّجْعِ} أي: المطر، وسمي رجعًا؛ لرجوعه في كل أوان وكل وقته. * * * {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)}. [12] {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} الشق عن النبات، المعنى: أنه تعالى أقسم بهما إيماءً إلى المنة عليهم. * * * {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)}. [13] وجواب القسم: {إِنَّهُ} أي: القرآن {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} محكم بين الحق والباطل. * * * {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)}. [14] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} باللعب، والهزل: ما استعمل في غير ما وضع

[15]

له من غير مناسبة، والجد: ضده، وهو أن يقصد به المتكلم حقيقة كلامه. * * * {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)}. [15] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} يعملون المكائد للنبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)}. [16] {وَأَكِيدُ كَيْدًا} جزاء كيدهم؛ بإمهالي لهم؛ ثم أنتقم منهم، وسمى عقابهم كيدًا على العرف في تسمية العقوبة باسم الذنب. * * * {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}. [17] {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} وعيد من الله، وفيه إشعار أن عقابهم متأخر حتى ظهر ببدر وغيره {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} قليلًا، ومَهَّل وأمهلَ معناهما: الانتظار، {رُوَيْدًا} مصدر تصغير رَوْد، وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف، والله أعلم. * * *

سورة الأعلى جل وعلا

سُورَة الأَعْلَى جَلَّ وَعلَا مكية في قول الجمهور، وقيل: مدنية، وآيها: تسع عشرة آية، وحروفها: مئتان وستة وثمانون حرفًا، وكلمها: اثنتان وسبعون كلمة. بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}. [1] {سَبِّحِ} أي: نَزِّه {اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} عن النقائص، وما يقول المشركون، و (الاسم) الذي هو ألف سين ميم تارة يأتي في مواضع يراد به المسمى، وتارة يراد به التسمية نفسها؛ نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا" (¬1)، وهذه الآية تحتمل الوجهين، فعلى الأول يكون صلة كالزائد، تقديره: سبح ربَّك؛ أي: نزهه، وعلى الثاني يكون المعنى: نزه اسمَ ربك عن أن يُسمى به صنم أو وثن، فيقال له: إله ورب، ونحو ذلك، والأعلى يصح أن يكون صفة للرب، وأن يكون صفة للاسم. وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحانَ رَبِّيَ الأَعْلى"، وفعله جماعة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

[2]

من الصحابة، ولما نزلت هذه الآية، قال - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوها في سجودكم" (¬1) وتقدم اختلاف الأئمة في ذلك آخر سورة الواقعة. * * * {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)}. [2] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي: عدل مخلوقه، وأتقنه مستويًا. * * * {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)}. [3] {وَالَّذِي قَدَّرَ} قرأ الكسائي: بتخفيف الدال؛ من القدرة، والباقون: بتشديدها؛ من التقدير (¬2). {فَهَدَى} كلًّا إلى مصلحته، وهو عام لوجوه الهدايات في الإنسان والحيوان. روي أن الحية تعمى كل سنة في الشتاء من أكل التراب، فتمسح عينيها بورق الرازيانج الأخضر، فتبصر بقدرة الله تعالى (¬3). * * * {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)}. [4] {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أنبتَ العشبَ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 680)، و "التيسير" للداني (ص: 221)، و"تفسير البغوي" (4/ 598)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 117 - 118). (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" (20/ 16).

[5]

{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)}. [5] {فَجَعَلَهُ} بعدَ الخضرة {غُثَاءً} هشيمًا باليًا {أَحْوَى} أسودَ، نعت (غُثَاءً). * * * {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)}. [6] ولما كان - صلى الله عليه وسلم - يسابق جبريل -عليه السلام- إذا قرأ عليه القرآن؛ خوفَ النسيان، نزل: {سَنُقْرِئُكَ} نعلمك القرآنَ {فَلَا تَنْسَى} فلم ينس - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك شيئًا؛ لأنه إخبار منه تعالى، وإخباره صدق، و (لا) نفي، وليست نهيًا. * * * {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)}. [7] {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أن تنساه على سبيل النسخ، وفي هذا التأويل آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه أمي، وحفظ الله عليه الوحي، وأمنه من نسيانه {إِنَّهُ} تعالى {يَعْلَمُ الْجَهْرَ} من الأشياء {وَمَا يَخْفَى} منها. * * * {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)}. [8] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وآخرتك؛ من النصر والظفر، وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة، والرفعة في الجنة. * * *

[9]

{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)}. [9] {فَذَكِّرْ} عِظْ بالقرآن {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} المعنى: نفعت أو لم تنفع، فاقتصر على القسم الواحد؛ لدلالته على الثاني. * * * {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)}. [10] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} اللهَ والدارَ الآخرة، وهم العلماء والمؤمنون، كلُّ بقدر ما وفق. * * * {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)}. [11] {وَيَتَجَنَّبُهَا} أي: يتجنب الذكرى ونفعَها. {الْأَشْقَى} الذي سبقت له الشقاوة بالكفر. * * * {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)}. [12] {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} الشديدةَ، وهي نار الآخرة، والصغرى نار الدنيا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "نارُكم هذه جزءٌ من سبعينَ جزءًا من نار جهنم" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3092)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة النار، ومسلم (2843)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في شدة حر نار جهنم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[13]

{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)}. [13] {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح {وَلَا يَحْيَى} حياة تنفعه. * * * {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)}. [14] {قَدْ أَفْلَحَ} أي: فاز ببغيته {مَنْ تَزَكَّى} تطهر من الشرك بالإيمان. وتقدم مذهب ورش وحمزة في النقل في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ) في أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. * * * {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)}. [15] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} وحَّدَه {فَصَلَّى} الصلواتِ التي فرض عليه، وتنفَّلَ بما أمكنه من صلاة وبر. وروي أن هذه الآية في صبيحة يوم الفطر، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} هو ذكر الله في طريق المصلى، وتكبيرات العيد، والصلاة: هي صلاة العيد، وقد روي هذا التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي سعيد الخدري في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}، قال: "أَعْطى صدقةَ الفطر" (¬1)، قال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل؛ لأن هذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد، ولا زكاة فطر. قال البغوي (¬2): يجوز أن يكون النزول سابقًا على الحكم كما قال: ¬

_ (¬1) رواه عبد بن حميد وابن المنذر في "تفسيريهما"، كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 485). (¬2) في "تفسيره" (4/ 600).

[16]

{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2]، فالسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: "أُحِلَّت لي ساعةً من نهار" (¬1). وتقدم الكلام على صلاة العيد، والاختلاف فيها، وصفتها في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الآية: 185]، وحكم التكبير ووقته وصفته فيها أيضًا عند تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [الآية: 203]، وحكم الصلوات الخمس وأوقاتها، والخلاف فيها في سورة الروم، وحكم زكاة الفطر والخلاف فيها في سورة التوبة عند ذكر الزكوات. * * * {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)}. [16] {بَلْ تُؤْثِرُونَ} أي: تقدِّمون وترجون (¬2) {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} على الآخرة، فالكافر يؤثرها إيثارَ كفر، يرى أن لا آخرةَ، والمؤمنُ يؤثرها إيثار معصية، وغلبة نفس، إلا من عصم الله. قرأ أبو عمرو: (يُؤثرُونَ) بالغيب ردًّا إلى جنس (الأَشْقَى)، وقرأ الباقون: بالخطاب (¬3)، دليله (¬4) قراءة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (112)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، ومسلم (1355)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) "أي: تقدمونه وترجون" ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 680)، و"التيسير" للداني (ص: 221)، و"تفسير البغوي" (4/ 600)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 122). (¬4) "دليله" زيادة من "ت".

[17]

أُبي بن كعب (بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ)، وحمزة، والكسائي، وهشام: يدغمون اللام في التاء، والباقون: يظهرونها (¬1)، وأمال رؤوس الآي من لدن (الأَعْلَى) إلى (وَمُوسَى): ورش، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، وقرأها الباقون: بالفتح (¬2). * * * {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)}. [17] {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَدْوَمُ من الدنيا وأفضل. * * * {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)}. [18] {إِنَّ هَذَا} يعني: ما ذكر من قوله {قَدْ أَفْلَحَ} إلى هنا [بمعنى فلاح المتزكين والذاكرين والمصلين ومؤثري الآخرة على الدنيا] (¬3). {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} المنزلة قبل، لم ينسخ في شرع من الشرائع. * * * {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}. [19] ثم بين الصحف فقال: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} وصحفُ إبراهيم كانت بالسريانية، وصحف موسى بالعبرانية، وتقدم ذكر عدد الكتب المنزلة ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 437)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 122). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 221)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 437)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 117). (¬3) ما بين معكوفتين سقط من "ت".

على الأنبياء في سورة النجم عند تفسير قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [الآيتان: 36 - 37]، وتقدم هناك ما ذكر في صحف إبراهيم -عليه السلام-، وقد نقل من صحف موسى -عليه السلام-: يقول الله -عز وجل-: "يا بن آدمَ! اعمل لنفسك قبل نزولِ الموت بك، ولا تغرنك الخطيئة؛ فإن على آثارها السفر، ولا تلهك الحياة وطول الأصل عن التوبة، فإنك تندم على تأخيرها حين لا ينفعك الندم، يا ابن آدم! إذا لم تخرج حقي (¬1) من مالي الذي رزقتك إياه، ومنعتَ منه الفقراءَ حقوقَهم، سلطتُ عليك جبارًا يأخذه منك، ولا أُثيبك عليه" (¬2)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) "حقي" زيادة من "ت". (¬2) لم أقف عليه.

سورة الغاشية

سُورَةُ الغَاشِيَة مكية، وآيها: ست وعشرون آية، وحروفها: ثلاث مئة وأحد وسبعون حرفًا، وكلمها: اثنتان وتسعون كلمة. بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}. [1] {هَلْ} أي: قد {أَتَاكَ} وقيل: (هل) على بابها توقيف، فائدتُها تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر، وقيل: المعنى: هل كان هذا من علمك لولا ما علمناك؟ ففي هذا التأويل تعديد النعمة. {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} القيامة؛ لأنها تغشى العالم كله بهولها وتغييرها لبنيته. * * * {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)}. [2] {وُجُوهٌ} مبتدأ {يَوْمَئِذٍ} ظرف الخبر، وهو {خَاشِعَةٌ} ذليلة متغيرة بالعذاب، نعت الخبر: * * *

[3]

{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)}. [3] {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} تعمل في النار عملًا تتعب فيه؛ لأنها تكبرت عن العمل لله في الدنيا، فأعملَها في الآخرة في ناره. روي أنها نزلت في القسيسين، وعبَّادِ الأوثان، وكلِّ مجتهدٍ في كفر (¬1)، وإليه ذهب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في تأويلها. * * * {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)}. [4] {تَصْلَى} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: بضم التاء مجهولًا، وقرأ الباقون: بفتحها معلومًا (¬2)؛ أي: تدخل {نَارًا حَامِيَةً} شديدة الحر. * * * {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)}. [5] {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} قد انتهى حرها. قرأ هشام: (آنِيَةٍ) بإمالة فتحة الهمزة (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 603)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 472)، و"تفسير الثعالبي" (4/ 408). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 681)، و"التيسير" للداني (ص: 221)، و"تفسير البغوي" (4/ 603)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 127 - 128). (¬3) انظر: "التيسير" للداني (ص: 52)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 437)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 129).

[6]

{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)}. [6] {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} هو نبت ذو شوك يقال لرطبه: الشبرق، وهو مرعى سوء لا تعقد السائمة عليه شحمًا ولا لحمًا، فإذا يبس، سموه ضريعًا؛ أي: مضعِفًا للبدن مُهْزِلًا. * * * {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)}. [7] {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} والمقصودُ من الطعام أحدُ الأمرين. * * * {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)}. [8] ولما ذكر تعالى وجوه أهل النار، عقب ذلك بذكر وجوه أهل الجنة؛ ليبين الفرق، فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أي: ذات حسن وبهجة. * * * {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)}. [9] {لِسَعْيِهَا} لعملها في الدنيا {رَاضِيَةٌ} لما رأت ثوابه في الآخرة. * * * {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)}. [10] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} علية المحل. * * *

[11]

{لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)}. [11] {لَا تَسْمَعُ فِيهَا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وورش: (يُسْمَعُ) بياء مضمومة على التذكير مجهولًا فاعله (لاَغِيَةٌ) بالرفع، وذكَّر الفعل؛ للفصل، ولأن لاغية ولغوًا واحد، وهو ساقط الكلام وهذيانه، وقرأ نافع كذلك، إلا أنه بالتاء على التأنيث، وقرأ الباقون: بالتاء مفتوحة معلومًا خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونصب {لَاغِيَةً} مفعولًا به (¬1). * * * {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)}. [12] {فِيهَا عَيْنٌ} أي: عيون {جَارِيَةٌ} بالماء لا تنقطع، والتنكير للتعظيم. * * * {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)}. [13] {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} ذاتًا وقدرًا. * * * {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)}. [14] {وَأَكوَابٌ} هي أوانٍ كالأباريق، لا عرا لها ولا آذان ولا خراطيم. {مَّوضُوعَةٌ} بأشربتها مُعَدَّة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 681)، و"التيسير" للداني (ص: 222)، و"تفسير البغوي" (4/ 605)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 129 - 130).

[15]

{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)}. [15] {وَنمَاَرِقُ} وسائدُ {مَصْفُوفَةٌ} بعضُها إلى بعض. * * * {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)}. [16] {وَزَرَابِيُّ} بُسُطٌ عِراضٌ {مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة. * * * {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)}. [17] ثم أقام تعالى الحجة على منكري قدرته على بعث الأجساد؛ بأن وقفهم على مواضع العبرة في مخلوقاته، فقال: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ} نظرَ اعتبار {كَيْفَ خُلِقَتْ} والمراد: الجمال المعروفة؛ فإنها مع عِظَم خلقها طَيِّعة منقادة لما يراد منها، ويحمل عليها، وتنهض به، ولم يذكر الفيل؛ لأنه لم يكن بأرض العرب، فلم (¬1) تعرفه، ولا يحمل عليه عادة، ولا يُحْلب دَرُّه، ولا يؤمَن ضرُّه. * * * {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)}. [18] {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} بلا عَمَد. * * * {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)}. [19] {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} فهي راسخة لا تزول. ¬

_ (¬1) "فلم" ساقطة من "ت".

[20]

{وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)}. [20] {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} بُسطت للسير فيها، والاستقرار عليها، وقرنت الإبل مع السماء والجبال والأرض؛ لأن الآية نزلت استدلالًا على مخلوقات الله تعالى، وهم كانوا أشد ملابسة لهذه الأشياء من غيرها. * * * {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)}. [21] {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} ليس عليك إلا البلاغ. * * * {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}. [22] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} بمسلَّط تُكرِههم على الإيمان، ونسخت بآية السيف. قرأ هشام: (بِمُسَيْطِرٍ) بالسين، وحمزة: بين الصاد والزاي؛ بخلاف عن رواية خلاد، والباقون: بالصاد (¬1). * * * {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)}. [23] {إِلًاَ} استثناء منقطع، أي: لكن {مَنْ تَوَلَّى} عن الإيمان {وَكَفَرَ} بالقرآن. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 682)، و"التيسير" للداني (ص: 222)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 132).

[24]

{فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)}. [24] {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} عذابَ جهنم، والأصغرُ: ما عُذِّبوا به في الدنيا من الجوع والقتل والأسر. * * * {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)}. [25] {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} رجوعَهم. قرأ أبو جعفر: (إِيَّابَهُمْ) بتشديد الياء، مصدر أيَّبَ، وأصله أَوَّاب فَعّال، ثم قيل: أَيْواب، ثم قلبت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء، وقرأ الباقون: بتخفيفها (¬1)، أصله إِواب، قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها. * * * {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}. [26] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} جزاءَهم على أعمالهم، والحساب: المكافأة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 606)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 400)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 133).

سورة الفجر

سُورَةُ الفَجْر مكية على الأصح، وآيها: ثلاثون آية، وحروفها: خمس مئة وسبعة وستون حرفًا، وكلمها: مئة وسبع وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {وَالْفَجْرِ (1)}. [1] {وَالْفَجْرِ} هو انفجار الصبح كلَّ يوم، أقسم الله تعالى به كما أقسم بالصبح. * * * {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)}. [2] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هي العشر الأوائل (¬1) من ذي الحجة. روي عن يعقوب، وقنبل (¬2): الوقف بالياء على (لَيَالِي). * * * {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)}. [3] {وَالشَّفْعِ} الخَلْق، خُلقوا أزواجًا {وَالْوَتْرِ} قرأ حمزة، والكسائي، ¬

_ (¬1) في "ت": "الأول". (¬2) في "ت": "قنبل ويعقوب".

[4]

وخلف: بكسر الواو، والباقون: بفتحها (¬1)، ومعناهما: الفرد، وهو الله سبحانه؛ إذ هو الواحد محضًا، وسواه ليس كذلك. * * * {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)}. [4] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} مقبلًا ومدبرًا. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (يَسْرِي) بإثبات الياء وصلًا، وابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين، حذفت تخفيفًا، واجتزئ عنها بالكسرة لاعتدال رؤوس الآي؛ إذ هي فواصل كالقوافي، قال اليزيدي: الوصل في هذا وما أشبهه بالياء، والوقف بغير ياء، على خط المصحف (¬2). * * * {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)}. [5] {هَلْ فِي ذَلِكَ} المقسَمِ به {قَسَمٌ} مقنعٌ ومكتفى {لِذِي حِجْرٍ} أي: عقلٍ، فيزدجر وينظر في آيات الله، وسمي العقل حِجْرًا؛ لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 683)، و"التيسير" للداني (ص: 222)، و"تفسير البغوي" (7/ 604)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 137). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 683 - 684)، و"التيسير" للداني (ص: 222)، و"تفسير البغوي" (4/ 608 - 609)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 438)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 138 - 139).

[6]

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)}. [6] ثم توعد قريشًا (¬1)، ونصب المثلَ لها، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} هي قبيلة من عاد نسبوا إليه، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وهم قوم هود، سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم باسمه. * * * {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)}. [7] {إِرَمَ} عطف بيان لـ (عاد) على تقدير مضاف؛ أي: سبط إرم، ولم ينصرف؛ للتعريف والتأنيث، وإن جعل اسمَ رجل، فلم يُصرف لعجمته وتعريفه. {ذَاتِ الْعِمَادِ} ذات البناء الرفيع؛ أي: إن مدينتهم كانت ذات أساطين، وقيل: المراد بالعماد: الأعمدة؛ لأنهم كانوا أصحاب عمد وخيام، يطلبون الكلأ حيث كان، وقيل: إرم ذات العماد: اسمُ مدينتهم دمشقُ أو الإسكندرية. * * * {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)}. [8] {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} مثلُ قبيلتهم أو مدينتهم {فِي الْبِلَادِ}. روي أن شدَّاد بنَ عاد بنى مدينة عظيمة لم يُر مثلُها حسنًا وعظمًا، بناها في ثلاث مئة سنة، وعاش تسع مئة سنة، وملك جميع الأرض بعد موت ¬

_ (¬1) "ثم توعد قريشًا" زيادة من "ت".

[9]

أخيه شديد، فلما تم بناؤها، قصدها ليدخلها هو وأصحابه، فلما قربوا منها، صيح بهم، فهلكوا جميعًا (¬1). * * * {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)}. [9] {وَثَمُودَ} عطف على (عاد) {الَّذِينَ جَابُوا} قطعوا {الصَّخْرَ} واتخذوها بيوتًا {بِالْوَادِ} وادي القرى بالقرب من المدينة الشريفة من جهة الشام. قرأ ورش: (بِالْوَادِي) بإثبات الياء وصلًا، وابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا؛ بخلاف عن قنبل في الوقف، والباقون: بحذفها في الحالين (¬2). * * * {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)}. [10] وتعطف على (عاد) أيضًا {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} سمي بذلك؛ لأنه كان يَتِدُ أربعةَ أوتاد يشد إليها من يعذبه بأنواع العذاب. * * * {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)}. [11] {الَّذِينَ طَغَوْا} يعني: عادًا وثمود وفرعون {فِي الْبِلَادِ} عملوا في الأرض بالمعاصي والطغيان، وتجاوزوا الحدود. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 610). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 383)، و"التيسير" للداني (ص: 222)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 400)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 141).

[12]

{فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)}. [12] {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} بالكفر والقتل. * * * {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)}. [13] {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} يعني: لونًا من العذاب، واستعمل الصَّبُّ في السوط، لأنه يقتضي سرعة في النزول، وخصَّ السوط بأن يستعار للعذاب؛ لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره. * * * {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}. [14] وجواب القسم قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} يرى ويسمع، لا يعزُب عنه شيء، فيجازيهم بما يصدر منهم، واعترض بين القسم وجوابه قولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}، يخوف أهل مكة كيف أهلكهم، وكانوا أطول أعمارًا، وأشد قوة. * * * {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)}. [15] ونزل في كل كافر: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} اختبره {رَبُّهُ} بالنعمة {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} بكثرة المال {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} بما أعطاني، ودخلت الفاء في (فَيَقُولُ)؛ لما في (أَمَّا) من معنى الشرط. * * *

[16]

{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)}. [16] {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} بالفقر {فَقَدَرَ} قرأ أبو جعفر، وابن عامر: بتشديد الدال، والباقون: بتخفيفها (¬1)، ومعناهما: ضَيَّقَ. {عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} أذلني بالفقر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء في الحرفين، والباقون: بإسكانها فيهما، وقرأ نافع، وأبو جعفر: (أَكْرَمَني) (أَهَانَنِي) بإثبات الياء فيهما وصلًا، وخير فيهما أبو عمرو، وقياس قوله في رؤوس الآي يوجب حذفهما، وأثبتهما يعقوب، والبزي في الحالين، وقرأ الباقون: بحذفهما في الحالين (¬2). * * * {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)}. [17] {كَلَّا} ردعٌ للإنسان عن قوله: الغنى إكرام، والفقر إهانة، فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر، وأما إكرام الله، فهو بالتقوى، وإهانته، فبالمعصية، ثم أخبر بأعمالهم فقال: {بَل} فعلُهم أسوأ من قولهم، وأدلُّ على تهالكهم بالمال، وهو أنهم. {لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} بالإحسان إليه مع غناهم، واليتيم من بني آدم: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 612)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 400)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 142). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 684 - 685)، و"التيسير" للداني (ص: 223)، و"تفسير البغوي" (4/ 612)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 400 - 401)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 141 - 143).

[18]

هو الذي فقد أباه وكان غير بالغ، ومن البهائم: ما فقد أمه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ البيوتِ إلى الله تعالى بيتٌ فيه يتيمٌ يُكْرَم" (¬1). * * * {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)}. [18] {وَلَا تَحَاضُّونَ} أي: يحثون أنفسهم ولا غيرهم. {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وطعام في هذه الآية بمعنى: إطعام، وتقدم الكلام في الفقير والمسكين، والخلاف فيهما في سورة التوبة في ذكر الصدقات. * * * {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)}. [19] {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} أي: الميراثَ، أصلهُ وراث، قلبت الواو تاء؛ أي: ويأكلون كل ما يرثون. {أَكْلًا لَمًّا} أي: شديدًا، واللمُّ الجمع؛ لأنهم كانوا لا يُوَرِّثون النساء، ولا صغارَ الأولاد، وإنما كانوا يأكلون (¬2) جميعَ الميراث مع أموالهم، فيأكلونها جميعًا. * * * {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}. [20] {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} كثيرًا، فلا ينفقونه. قرأ أبو عمرو، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في "العيال" (2/ 809)، والطبراني في "المعجم الكبير" (13434)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف. انظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (8/ 160). (¬2) في "ت": "يلمون".

[21]

ويعقوب بخلاف عن الثاني: (يُكْرِمُونَ) و (يَحُضُّونَ) و (يَأْكُلُونَ) و (يُحِبُّونَ) بالغيب في الأربعة، والباقون: بالخطاب، وأثبت الألف بعد الحاء (تَحَاضُّونَ) مع فتح الحاء: أبو جعفر، والكوفيون، ويمدون للساكنين (¬1)، أصله: تَتَحاضَضُونَ، حذفت إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: لا يحضُّ بعضكم بعضًا عليه. * * * {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)}. [21] {كَلَّا} ردٌّ لأفعالهم هذه، وتوطئة للوعيد؛ أي: سيرون أن أفعالهم ليست على قوام {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} مرةً بعد مرة، ودكُّها: تسويتها؛ بذهاب جبالها، وهدم كل بناء عليها بالكلية، والناقة الدكاء: التي لا سنام لها. * * * {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}. [22] {وَجَاءَ رَبُّكَ} [قال الإمام أحمد: معناه: جاء أمرُ ربك] (¬2). {وَالْمَلَكُ} اسم جنس، يريد: جميع الملائكة؛ لأنهم ينزلون فيصطفون حول الأرض {صَفًّا صَفًّا} أي: صفًّا خلف صف، وهم سبعة صفوف، ونصبه على الحال. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 685)، و"التيسير" للداني (ص: 222)، و"تفسير البغوي" (4/ 613)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 200)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 144). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

[23]

{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)}. [23] {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} مزمومةً بسبعين ألفَ زِمام، كلُّ زمام بيد سبعين ألف ملك، لها زفير وتغيُّظ. قرأ الكسائي، وهشام، ورويس: (وَجِيءَ) بإشمام الجيم الضم، والباقون: بإخلاص الكسر (¬1). {يَوْمَئِذٍ} بدل من (يومئذ) قبلُ، وهما بدل من (إِذَا دُكَّت) العامل في (إِذَا). {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} الكافرُ عصيانَه وطغيانه، وينظر ما فاته من العمل الصالح. {وَأَنَّى لَهُ} ومن أين له نفعُ {الذِّكْرَى}. * * * {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)}. [24] ثم أخبر تعالى عنه أنه {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ} الخير والإيمان. {لِحَيَاتِي} هذه، وهي حياة الآخرة. * * * {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)}. [25] {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ} بالنار {عَذَابَهُ أَحَدٌ}. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 72)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 439)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 146).

[26]

{وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)}. [26] {وَلَا يُوثِقُ} بالسلاسل والأغلال {وَثَاقَهُ أَحَدٌ} قرأ الكسائي، ويعقوب: (يُعَذَّبُ) و (يُوثَقُ) بفتح الذال والثاء مجهولًا، أضيف الفعل إلى الكافر، فـ (أَحَدٌ) فاعل المجهول، والهاء في (عَذَابَهُ) و (وَثَاقَهُ) للكافر، والمراد به: الإنسان، وقيل: هو رجل بعينه، وهو أمية بن خلف، المعنى: لا يعذَّب أحدٌ مثلَ تعذيبه بالنار، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثلَ إيثاقه، وقرأ الباقون: بكسر الذال والثاء (¬1)، فالضمير لله تعالى، المعنى: لا يعذِّبُ أحدٌ أحدًا كعذاب الله، ولا يوثقه في السلاسل كإيثاقه تعالى. * * * {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)}. [27] ويقال للمؤمن عند الموت: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} أي: الآمنة التي لا تخاف، وهي التي اطمأنت بذكر الله. روي أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- سأل عن ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له (¬2): "إنَّ الملَكَ سيقولُها لك يا أبا بكرٍ عندَ موتك" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 222)، و "تفسير البغوي" (4/ 614)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 400)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 146 - 147). (¬2) "له" زيادة من "ت". (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" (30/ 191)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3430) عن سعيد بن جبير، قال ابن كثير في "تفسيره" (4/ 512): وهذا مرسل حسن.

[28]

{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)}. [28] {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} إلى أمره وإرادته. {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} عند الله، ونصبه على الحال. * * * {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)}. [29] {فَادْخُلِي فِي} عِدادِ {عِبَادِي} الصالحين. * * * {وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}. [30] {وَادْخُلِي جَنَّتِي} معهم، وقيل: هذا النداء يكون عند قيام الأجساد من القبور، فقوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} معناه: بالبعث من موتك ارجعي إلى الله، والله أعلم. وقد أحببت أن أتكلم في هذا المحل على صلاة الوتر (¬1)؛ لما فيه من المناسبة للسورة، فأقول وبالله التوفيق: الوتر واجب عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعند صاحبيه، وعند الأئمة الثلاثة -رضي الله عنهم- هو سنة، ووقته بين صلاة العشاء والفجر بالاتفاق، وصفته عند أبي حنيفة: ثلاثُ ركعات كالمغرب، لا يسلم بينهن، ويقنت في الثالثة قبل الركوع بعد أن يرفع يديه مكبرًا، وعند مالك: هو ركعة بعد شفع لا حدَّ له، منفصل منها بتسليمة، وعند الشافعي وأحمد: أقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة، وأدنى الكمال ثلاثٌ بتسليمتين، ويقنت في الثالثة بعد الركوع في النصف الأخير ¬

_ (¬1) "على صلاة الوتر" زيادة من "ت".

من رمضان عند الشافعي، وعند أحمد: في جميع السنة كأبي حنيفة، ولا يقنت فيه عند مالك مطلقًا على المشهور من مذهبه، والقراءة عند مالك في الشفع مطلقةٌ غيرُ معينة، ويستحب عنده أن يقرأ في ركعة الوتر الإخلاص والمعوذتين، وعند الثلاثة: يستحب أن يقرأ في الأولى من الثلاث (¬1) بعد الفاتحة: {سَبِّحِ}، وفي الثانية: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة: الإخلاص والمعوذتين، وعند الشافعي: كقول مالك، وعند أبي حنيفة وأحمد: الإخلاص فقط، وتقدم ذكر مذهب مالك والشافعي في القنوت في صلاة الصبح في سورة البقرة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) "من الثلاث" زيادة من "ت".

سورة البلد

سُورَةُ البَلَدِ مكية في قول الجمهور، وقيل: مدنية، وآيها: عشرون آية، وحروفها: ثلاث مئة وستة وثلاثون حرفًا، وكلمها: اثنتان وثمانون كلمة. بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)}. [1] {لَاَ} صلة زائدة مؤكدة، المعنى {أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني: مكة. * * * {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)}. [2] {وَأَنْتَ حِلٌّ} أي: حلال في المستقبل {بِهَذَا الْبَلَدِ} أي: تصنع فيه ما تريد من قتل وغيره، ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم، وذلك أن الله سبحانه وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يفتح مكة على يده، وأن يحلها له، ففتحها، وأحلها الله له يوم الفتح حتى قاتل وقتل، وأمر بقتل ابن خَطَل وهو متلعق بأستار الكعبة، ومقبس بن صبابة، وغيرهما، فأحل دماء قوم، وحرم دماء قوم، فقال: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ"، ثم قال: "إنَّ اللهَ حرَّمَ مكة يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ، ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولن تحلَّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهار، فهي حرامٌ بحرمةِ اللهِ إلى يومِ

[3]

القيامة" (¬1)، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في دخولها بغير إحرام في سورة البقرة، وتعطف على {بِهَذَا الْبَلَدِ}. {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)}. [3] {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} يعني: آدم -عليه السلام- وذريته، وقيل: الوالد إبراهيم، والولد محمد عليهما السلام، فتتضمن السورة القسمَ به في موضعين. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)}. [4] وجواب القسم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} المرادُ: جنسُ الإنسان. {فِي كَبَدٍ} نَصَبٍ وشدة، يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}. [5] {أَيَحْسَبُ} أي: أيظنُّ {أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} لقوته. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، وحمزة: (أَيَحْسَبُ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (¬2). روي أن هذه الآية وما بعدها نزل في أبي الأَشَدَّين، واسمه أسيد بن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (15) من سورة الأعلى. (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 236)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 439)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 151).

[6]

كلدة الجمحي، وكان شديدًا قويًّا، يضع الأديمَ العُكاظي تحت قدمه فيقول: من أزالني عنه، فله كذا وكذا، فلا يُطاق أن يُنزع من تحت قدميه إلا قطعًا، ويبقى موضع قدمه، وقيل: نزلت في غيره (¬1). ... {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)}. [6] {يَقُولُ أَهْلَكْتُ} أنفقتُ {مَالًا لُبَدًا} أي: كثيرًا في عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قرأ أبو جعفر: (لُبَّدًا) بتشديد الباء على جمع اللابد، مثل راكِع ورُكَّع، وقرأ الباقون: بتخفيفها على جمع لبدة (¬2) ومعناهما: الكثرة؛ أي: ملتبدًا بعضُه فوق بعض، وكان قول هذا الكافر: أهلكت مالًا لبدًا كذبًا منه، فلذلك قال تعالى: ... {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)}. [7] {أَيَحْسَبُ} تقدم اختلاف القراء فيه، {أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أيظن أن الله عز وجل لم ير ذلك منه فيعلم مقدار ما أنفقه؟ قرأ أبو جعفر، ويعقوب: (يَرَهُ) باختلاس ضمة الهاء بخلاف عنهما، والباقون: بالإشباع (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 618)، و"تفسير الثعلبي" (10/ 207). (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 618)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 401)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 151). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 310 - 311)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 439)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 152).

[8]

{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)}. [8] ثم عدد تعالى على الإنسان نعمه التي تقوم بها الحجة، وهي جوارحه، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} يبصر بهما. ... {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)}. [9] {وَلِسَانًا} يتكلم به {وَشَفَتَيْنِ} يطبقهما على لسانه إذا أراد السكوت. ... {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}. [10] {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} بَيَّنا له طريق الخير والشر، وهذا قول الأكثر، والنجد: الطريق المرتفع، وقيل: المراد: ثَدْيا الأم. ... {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)}. [11] {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فهلَّا سلك الطريق التي فيها النجاةُ، والعقبة في هذه الآية على عرف كلام العرب: استعارةٌ لهذا العمل الشاق على النفس، من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل، وهي ما صَعُب منه، وكان صعودًا، والاقتحام: الدخول في الشيء بشدة. ... {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)}. [12] ثم بين ما هي، وعظم أمرها في النفوس، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}.

[13]

{فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}. [13] ثم فسر اقتحام العقبة بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} أعتقَها، ومن أعتقَ رقبةً، كان فداءه من النار. ... {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)}. [14] {أَوْ إِطْعَامٌ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: (فَكَّ) بفتح الكاف، (رَقَبَةً) بالنصب، (أَطْعَمَ) بفتح الهمزة والميم من غير تنوين ولا ألف قبلها، فعلان ماضيان، (فَفَكَّ رَقَبَةً) تفسير (لاقْتَحَمَ العَقَبَةَ)، و (أَطْعَمَ) عطف على (فَكَّ)، ويكون (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) اعتراضًا. وقرأ الباقون: برفع (فَكُّ) وخفض (رَقَبَةٍ) لإضافة (فَكُّ) إليها؛ لأنه مصدر مضاف إلى المفعول، (إِطْعَامٌ) بكسر الهمزة ورفع الميم مع التنوين وألف قبلها عطفًا على (فَكُّ) مصدر أَطْعَمَ (¬1). {فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي: مجاعة؛ من سَغِبَ: جاعَ. ... {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)}. [15] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} صاحبَ قرابة. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 686)، و"التيسير" للداني (ص: 223)، و"تفسير البغوي" (4/ 620)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 152).

[16]

{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)}. [16] {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أي: لصق بالتراب؛ لفقره، وتعطف على {اقْتَحَمَ}: ... {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)}. [17] {ثُمَّ كَانَ} ومعناه؛ أي: كان وقت اقتحامه العقبة. {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وليس المعنى أن يقتحم، ثم يكون بعد ذلك؛ لأن هذه القُرَب إنما تنفع مع الإيمان، والاقتحامُ من غيرُ مؤمن غير نافع. {وَتَوَاصَوْا} وصَّى بعضُهم بعضًا {بِالصَّبْرِ} على الإيمان، وعن المعاصي. {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} برحمة الناس. ... {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)}. [18] {أُولَئِكَ} الموصوفون بهذه الصفات {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي: اليمين. ... {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)}. [19] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} الشمال. ***

[20]

{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}. [20] {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} مطبقة عليهم أبوابها. قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، وخلف، وحفص عن عاصم: (مُؤْصَدَةٌ) بالهمز؛ من أَصَدْتُ البابَ: أطبقته، وقرأ الباقون: بإسكان الواو بغير همز (¬1)؛ من أوصدتُ ومعناهما واحد، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 223)، و"تفسير البغوي" (4/ 621)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 390)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 153 - 154).

سورة الشمس

سورة الشمس مكية، وآيها: خمس عشرة آية، وحروفها: مئتان وتسعة وأربعون حرفًا، وكلمها: أربع وخمسون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)}. [1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ضوءها إذا أشرقت، و (الضُّحَى) بضم الضاد والقصر: ارتفاع الضوء وكماله، وبفتح الضاد والمد: ما فوقَ ذلك إلى الزوال. ... {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)}. [2] {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} تبعَها طالعًا عند غروبها. ... {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)}. [3] {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} يعني: جلَّى الظلمة كناية عن غير مذكور؛ لكونه معروفًا، الواو الأولى للقسم، والباقي عطف عليها.

[4]

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)}. [4] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} يغشى الشمسَ حين تغيب، فتظلم الآفاق، و (إِذَا) معمولة القسم. ... {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)}. [5] {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} و (ما) في المواضع الثلاثة بمعنى الذي؛ أي: والذي بناها؛ يعني: خلقها. ... {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)}. [6] {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} بسطَها. ... {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)}. [7] {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} عدل خلقَها، والمراد: جميع النفوس، ونُكِّرت للتكثير. ... {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)}. [8] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فَهَّمَها خيرَها وشرَّها، وجعل لها قوة يصحُّ معها اكتسابُ الفجور، واكتسابُ التقوى. ***

[9]

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}. [9] وجواب القسم: {قَدْ أَفْلَحَ} فاز ببغيته. {مَنْ زَكَّاهَا} طَهَّرها بالطاعة، وتقدم مذهب ورش وحمزة في النقل في قوله. {قَدْ أَفْلَحَ} [الآية: 1] في أول سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. ... {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}. [10] {وَقَدْ خَابَ} خسر {مَنْ دَسَّاهَا} أخفاها وحقرها بالفجور والمعاصي، أصله: دَسَّسَها، أُبدلت السين الثانية ألفًا تخفيفًا. ... {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)}. [11] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} رسلَها {بِطَغْوَاهَا} بطغيانها، لما ذكر تعالى خيبة من دسَّ نفسه، ذكر فرقةً فعلت ذلك؛ ليُعتبر بهم، ويُنتهى عن مثل فعلهم، وهم قوم صالح. ... {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)}. [12] {إِذِ انْبَعَثَ} أي: بادرَ إلى عقر الناقة {أَشْقَاهَا} أشقى القبيلة، وهو قدارُ بن سالف، والانبعاث: هو الإسراع في الطاعة للباعث. ***

[13]

{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)}. [13] {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} هو صالح عليه السلام {نَاقَةَ} نصبه تحذيرًا {وَسُقْيَاهَا} عطف؛ أي: و (¬1) احذروا عَقْرَ الناقة ومنعَها من شربها، فتُعذَّبوا. ... {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)}. [14] {فَكَذَّبُوهُ} في قوله {فَعَقَرُوهَا} وقدم تعالى التكذيب على العقر؛ لأنه كان سبب العقر، وقوله: {فَعَقَرُوهَا} والعاقر واحد؛ لكونهم متفقين على ذلك، وتقدم ذكر القصة في سورة الأعراف. {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أي: دمر عليهم بالعذاب {بِذَنْبِهِمْ} أي: بسببه {فَسَوَّاهَا} فعمهم بالدمدمة، فلم يفلت منهم أحد. ... {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}. [15] {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي: عاقبتها، المعنى: فلا دَرَكَ على الله في فعله بهم {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (فَلاَ) بالفاء على العطف؛ أي: (فَكَذَّبُوهُ) (فَعَقَرُوهَا) (فَدَمْدَمَ) (فَلاَ يَخَافُ)، وكذا هي في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون: بالواو (¬2)، ¬

_ (¬1) الواو سقطت في "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 689)، و"تفسير البغوي" (4/ 626)، =

فمحل (لاَ يَخَافُ) حال؛ أي: وهو لا يخاف، وكذلك هي في مصاحفهم، وأمال رؤوسَ الآي في هذه السورة: ورش، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، واختص الكسائي دونهما بإمالة (تَلاَهَا)، و (طَحَاهَا) (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ = و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 401)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 163). (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 688)، و"التيسير" للداني (ص: 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 440)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 157).

سورة الليل

سورة الليل مكية، وقيل: مدنية، وقيل: فيها مدني، وآيها: إحدى وعشرون آية، وحروفها: ثلاث مئة حرف، وكلمها: إحدى وسبعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}. [1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: يغطِّي الأرضَ وجميع ما فيها بظلمته. ... {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)}. [2] {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي: ظهر وضَوَّأَ الآفاق. ... {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)}. [3] {وَمَا} أي: والذي {خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} يعني: آدم وحواء. ... {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)}. [4] وجواب القسم: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} جمع شتيت؛ أي: إن عملكم

[5]

لمختلفٌ، بعضُه في رضا الله، وبعضه في سخطه. ... {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)}. [5] ثم قسم تعالى السَّاعِين فقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} حقَّ الله {وَاتَّقَى} اللهَ تعالى. ... {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)}. [6] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} هي كلمة التوحيد. ... {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)}. [7] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} نهيئه للعمل الصالح، وهو الطاعة. ... {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)}. [8] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} بالنفقة في الطاعة {وَاسْتَغْنَى} بلذات الدنيا عن نعيم الآخرة. ... {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)}. [9] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} بلا إله إلا الله. ***

[10]

{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}. [10] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} نهيئه لعملٍ يستوجبُ به النارَ، وسميت العسرى؛ لإفضائها إلى العسر. قرأ أبو جعفر: (لِلْيُسُرَى) (لِلْعُسُرَى) بضم السين فيهما، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)}. [11] {وَمَا} نفي بمعنى ليس {يُغْنِي عَنْهُ مَالُه} الذي بخل به. {إِذَا تَرَدَّى} أي: سقط في النار. ... {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)}. [12] {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أي: تبيينَ طريق الهدى والضلالة، ثم كل أحد بعدُ يكتسب ما قُدر له. ... {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)}. [13] {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء. ... ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 170).

[14]

{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)}. [14] {فَأَنْذَرْتُكُمْ} يا أهل مكة {نَارًا تَلَظَّى} تلتهب. قرأ البزي, ورويس: (نَارًا تَّلَظَّى) بتشديد التاء وصلًا، والباقون: بتخفيفها (¬1). ... {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)}. [15] {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى}. ... {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)}. [16] {الَّذِي كَذَّبَ} النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. {وَتَوَلَّى} عن الإيمان، وهو أبو جهل، أو أمية بن خلف. ... {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)}. [17] {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى}. ... {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)}. [18] {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} يطلب أن يكون عند الله زاكيًا، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 690)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 440)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 172 - 173).

[19]

{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)}. [19] روي أن أمية بن خلف كان إذا حميت الظهيرة، يطرح بلالًا على ظهره ببطحاء مكة، ويضع على صدره صخرة عظيمة، ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، فيقول: أَحَدٌ أَحَد، فقال أبو بكر: اتق الله فيه، فقال له: أنت أفسدته، فأنقذْه مما هو فيه، فاشتراه وأعتقه، فقال المشركون: إنما فعل ذلك ليد كانت له عنده، فنزل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} يد يكافئه عليها (¬1). ... {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)}. [20] {إِلَّا} أي: بل هو مبتدأ، خبره (¬2): {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} وطلب رضاه. ... {وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}. [21] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} بما يعطيه الله في الآخرة من الثواب، هذه عِدَة من الله تعالى لأبي بكر رضي الله عنه. ومذاهب القراء في إمالة رؤوس الآي في هذه السورة كالتي قبلها، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 630)، و"تفسير القرطبي" (20/ 88). (¬2) "خبره" ساقطة من "ت".

سورة الضحى

سورة الضحى مكية، وآيها: إحدى عشرة آية، وحروفها: مئة وثمانية وخمسون حرفًا، وكلمها: أربعون كلمة. الكلام في التكبير: اختلف في سبب وروده، فروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انقطع عنه الوحي، فقال المشركون: قلا محمدًا ربُّه، فنزلت سورة {وَالضُّحَى} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُ أكبرُ"، وأمر أن يكبر إذا بلغ: {وَالضُّحَى} مع خاتمة كل سورة حتى يختم، فكبر شكرًا لله تعالى لما كذَّب المشركين (¬1)، وقيل: قال: الله أكبر تصديقًا لما أنا عليه، وتكذيبًا للكافرين، وقيل: فرحًا وسرورًا بنزول الوحي، وورد (¬2) في ذلك أقوال كثيرة غير ما تقدم. وأما من ورد عنه، فقد صح التكبير عن أهل مكة قرائهم وعلمائهم، ¬

_ (¬1) روى حديث التكبير عند بلوغ القارئ سورة الضحى: الحاكم في "المستدرك" (2325)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2077)، من طريق أبي الحسن البزي المقري. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (4/ 522): فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن، وكان إمامًا في القراءات، فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي، وقال: لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال: هو منكر الحديث. ثم قال بعد كلام: ولم يرو ذلك -أي: التكبير- بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف، والله أعلم. (¬2) في "ت": "وروي".

وصح أيضًا عن أبي جعفر، وأبي عمرو، وورد عن سائر القراء عند الختم، وهو سنة مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة والتابعين في الصلاة وخارجها، لكن من فعله، فحسن، ومن لم يفعله، فلا حرج عليه (¬1). وأما ابتداؤه، فاختلف فيه، فروي أنه من أول {أَلَمْ نَشْرَحْ} وروي أنه من أول {وَالضُّحَى}. واختلف أيضًا في النهاية، فروي أن انتهاءه آخر سورة الناس، وروي: أولها، وقد ثبت نصه عن الإمامين الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، ولم يستحبه الحنابلة؛ لقراءة غير ابن كثير، ولم أطلع على نص في ذلك لأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما. ولفظه: (الله أكبر (¬2)) في رواية البزي، وقنبل، وروي عنهما: التهليل قبل التكبير، ولفظة: (لا إله إلا الله والله أكبر)، والوجهان عنهما صحيحان جيدان مشهوران مستعملان. وصفة التكبير في رواية ابن كثير بين كل سورتين أربعة عشر وجهًا: الأول: قطعه عن آخر السورة، ووصله بالبسملة، ووصل البسملة في أول السورة الآتية، وهو {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} قف (الله أكبر) صل (¬3) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) صل {وَالضُّحَى}. ¬

_ (¬1) قال البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 371 - 372) بعد أن ذكر الأقوال السالفة: قال أحمد: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الختم حديث منقطع بإسناد ضعيف؛ وقد تساهل أهل الحديث في قبول ما ورد من الدعوات وفضائل الأعمال، متى ما لم تكن من رواية من يعرف بوضع الحديث أو الكذب في الرواية. (¬2) "أكبر" ساقطة من "ت". (¬3) قوله: "قف" و"صل" زيادة من "ت".

الثاني: قطعه عن آخر السورة، ووصله بالبسملة، والوقوف على البسملة، ثم الابتداء بأول السورة، وهو {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} قف (الله أكبر) صل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قف {وَالضُّحَى}. الثالث: وصله بآخر السورة، والقطع عليه، ووصل البسملة بأول السورة، وهو {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} صل (الله أكبر) قف (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) صل {وَالضُّحَى}. الرابع: وصله بآخر السورة، والقطع على البسملة، وهو {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} صل (الله أكبر) قف (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قف {وَالضُّحَى}. الخامس: قطع التكبير عن آخر السورة وعن البسملة، ووصل البسملة بأول السورة، وهو {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} قف (الله أكبر) قف (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) صل {وَالضُّحَى}. السادس: وصل التكبير بآخر السورة، والبسملة بأول السورة، وهو {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} صل (الله أكبر) صل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) صل {وَالضُّحَى}. السابع: قطع الجميع؛ أي: قطع التكبير عن السورة الماضية وعن البسملة، وقطع البسملة عن السورة الآتية، وهو: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} قف (الله أكبر) قف (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قف {وَالضُّحَى}. فهذه السبعة صفته مع التكبير، ويأتي مع التهليل مثل ذلك، وبقي وجه لا يجوز، وهو وصل التكبير بآخر السورة، وبالبسملة مع القطع عليها، وهو {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (الله أكبر) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بالوصل في الجميع، ثم يسكت على البسملة، ثم يبتدئ {وَالضُّحَى}، فهذا ممتنع

[1]

إجماعًا؛ لأن البسملة لأول السورة، فلا يجوز أن تجعل منفصلة عنها متصلة بآخر السورة قبلها. واعلم أن القارئ إذا وصل التكبير بآخر السورة، فإن كان آخرها ساكنًا، كسره للساكنين؛ نحو: (فَحَدِّثِ اللهُ أكبرُ)، و (فَارْغَبِ اللهُ أكبرُ)، وإن كان منونًا، كسره أيضًا للساكنين، وسواء كان الحرف المنون مفتوحًا أو مضمومًا أو مكسورًا، نحو: (تَوَّابًا اللهُ أكبرُ) و (لَخَبِيرٌ اللهُ أكبرُ)، و (مِنْ مَسَدٍ اللهُ أكبرُ)، وإن كان آخر السورة مفتوحًا، فتحه، وإن كان مكسورًا، كسره، وإن كان مضمومًا، ضمه، نحو: قولِه: (إِذَا حَسَدَ الله أَكبرُ)، (والنَّاسِ اللهُ أَكبرُ)، و (الأَبْتَرُ اللهُ أكبرُ)، وشبهه، وإن كان آخر السورة هاء كناية موصولة بواو، حذف صلتها للساكنين؛ نحو: (رَبَّهُ اللهُ أكبرُ) و (شَرًّا يَرَهُ اللهُ أكبرُ)، وأسقطت ألف الوصل التي في أول اسم الله -عز وجل- في جميع ذلك استغناءً عنها، والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالضُّحَى (1)}. [1] {وَالضُّحَى} هو سطوعُ الضوء وعِظَمُه، وتقدم ذكرُ وقته أول سورة الشمس، أقسم الله به، وأراد به النهارَ كلَّه؛ بدليل أنه قابله بالليل. ... {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)}. [2] فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} أقبل بظلامه.

[3]

{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}. [3] وجواب القسم: {مَا وَدَّعَكَ} ما قطعك (¬1) {رَبُّكَ} قطعَ المودَّعِ. {وَمَا قَلَى} أي: ما أبغضَكَ، وحذفت الكاف من قلاك؛ لدلالة الكلام. ... {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)}. [4] {وَلَلْآخِرَةُ} وما أعدَّ لك فيها من الكرامة {خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} لأن الآخرة باقية، والأولى فانية. ... {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}. [5] {وَلَسَوْفَ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ولأنت سوف. {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} في الآخرة عطاء {فَتَرْضَى}. عن ابن عباس، وعلي، والحسين: "هو الشفاعة" (¬2). و (سَوْفَ) إذا كان في قصة المؤمنين، فمعناه الوعد، وإذا كان في قصة المشركين، فمعناه الوعيد. وقال الأزرق (¬3): ومما يرضيه بعد إخراج كل مؤمن من النار ألَّا يسوءَهُ في أمه وأبيه، وإن منع من الاستغفار لهما، وأذن له في زيارة قبرهما في وقت دون وقت؛ لأنهما من أهل الفترة، وقال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ومن لم يقنعه هذا، فحظ المؤمن منهما الوقف ¬

_ (¬1) "ما قطعك" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 634). (¬3) في "ت": "الفهري".

[6]

فيهما، وألَّا يحكم عليهما بنار إلا بنص كتاب أو سنة أو إجماع الأمة، بخلاف ما ثبت في عمه أبي طالب (¬1). ... {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)}. [6] ثم عدَّد تعالى نعمه على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} مات أبوك {فَآوَى} أي: آواك إلى عمك بعد موت أبيك. ... {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}. [7] وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ} معناه: قد وجدك، ودليله عطف قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} عن معالم الشرع (¬2) {فَهَدَى} أي: فهداك إليها. ... {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)}. [8] {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} فقيرًا {فَأَغْنَى} فقنَّعك بما أعطاك من الغنائم والرزق. قال - صلى الله عليه وسلم - "ليس الغِنى عن كثرةِ العَرَض، ولكنَّ الغِنى غِنى النَّفْس" (¬3). ¬

_ (¬1) قلت: قد ثبت في "صحيح مسلم" (203) وغيره قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لذاك الرجل الذي أتى يسأل عن أبيه، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه في النار، ثم قال له: "إن أبي وأباك في النار". قال النووي في "شرح مسلم" (3/ 79): فيه أنه من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار. (¬2) في "ت": "الشرائع". (¬3) رواه البخاري (6081)، كتاب: الرقاق، باب: الغنى غنى النفس، ومسلم (1051)، كتاب: الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9]

{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)}. [9] ثم أوصاه باليتامى والفقراء، فقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} بأخذ ماله. ... {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)}. [10] {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} لا تزجر، فإما أن تطعمه، وإما أن ترده ردًّا لينًا. ... {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}. [11] {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} عليك بالنبوة وغيرها من الصلاح {فَحَدِّثْ} به الناس. قال - صلى الله عليه وسلم -: "التحدُّث بالنعم شكرٌ" (¬1). أمال رؤوس آي هذه السورة ورش، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، واختص الكسائي دونهما بإمالة (سَجَى) (¬2). وأما حكم صلاة الضحى، فهي سنة بالاتفاق، ووقتها إذا علت الشمس إلى قبيل وقت الزوال، وهي عند أبي حنيفة ركعتان، أو أربع بتسليمة، ¬

_ (¬1) رواه بهذا اللفظ: ابن أبي الدنيا في "الشكر" (ص: 25)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (44)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 690)، و"التيسير" للداني (ص: 223)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 440)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 179).

وعند مالك: لا تنحصر، وعند الشافعي وأحمد: أقلها ركعتان، واختلفا في أكثرها، فقال الشافعي: اثنتا عشرة، وقال أحمد: ثمان، وهو الذي عليه الأكثرون من أصحاب الشافعي، وصححه النووي في التحقيق، والله أعلم. * * *

سورة ألم نشرح

سورة ألم نشرح مكية، وآيها: ثماني آيات، وحروفها: مئة وحرفان، وكلمها: سبع وعشرة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)}. [1] عدَّد الله نعمه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - , فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وشرحُ الصدر المذكور هو تنويرُ قلبه بالحكمة، وتوسيعُه لتلقي ما يوحى إليه. ... {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)}. [2] {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} إثمك الماضي في الجاهلية، والوزر أصله: الثقل، فشبهت الذنوب به، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية قبل النبوة وزرهُ صحبةُ قومه، وأكلُه من ذبائحهم، ونحو هذا، وهذه كلها جرها المنشأ، وأما عبادة الأصنام، فلم يتلبس بها قط بإجماع الأمة (¬1)، وتقدم في الشورى. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 496).

[3]

{الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)}. [3] {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أثقلَه حتى سُمع له نقيض؛ أي: صوت، وقيل: المعنى: أنه حُفظ قبل النبوة منها، وعُصم، ولولا ذلك، لأثقلت ظهره. ... {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}. [4] {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} نَوَّهْنا باسمك بأنه إذا ذُكر الله، ذكرتَ معه، والاستفهام في كلها بمعنى التقرير؛ أي: قد فعلنا ذلك كله. ... {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)}. [5] {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ} أي: مع ما تراه من الأذى {يُسْرًا} فرجًا يأتي. ... {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}. [6] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} كرره مبالغة وتثبيتًا للخير، وذهب كثير من العلماء إلى أن مع كل عسر يسرين بهذه الآية؛ من حيث (العسرُ) معرف للعهد، فيكون الثاني الأولَ بعينه، و (اليسر) منكَّر، فالأولُ غيرُ الثاني، وقد روي في هذا التأويل حديثٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ" (¬1)؛ أي: لن يغلب عسرُ الدنيا يُسري الدنيا والآخرة. قرأ ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (3950)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (10013)، عن الحسن مرسلًا.

[7]

أبو جعفر: (الْعُسُرِ يُسُرًا) بضم السين في الموضعين، والباقون: بإسكانها (¬1). ... {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)}. [7] {فَإِذَا فَرَغْتَ} من الصلاة والعبادات {فَانْصَبْ} فاتعبْ فيما ينجيك من العذاب، والمعنى: أن يدأب على ما أُمر به، ولا يفتُرَ. ... {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}. [8] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} تضرَّعْ إليه، وتوكل عليه، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 216)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 187 - 188).

سورة التين والزيتون

سورة التين والزيتون مكية، وآيها: ثماني آيات، وحروفها: مئة وتسعة وخمسون حرفًا، وكلمها: أربع وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)}. [1] {وَالتِّينِ} هو الجبل الذي عليه دمشق {وَالزَّيْتُونِ} هو طور زيتا الجبل الذي ببيت المقدس من جهة المشرق، وذلك أن التين ينبت كثيرًا بدمشق، والزيتون بإيلياء، وقيل: المراد بالتين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يعصر، وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه تينًا أهدي إليه، فقال: "لو قلتُ إن فاكهةً نزلَتْ من الجنة، لقلت هذه؛ لأن فاكهةَ الجنة بلا عَجَم، فكلوا، فإنه يقطعُ البواسيرَ، وينفع من النِّقْرِسِ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "نعمَ السواكُ الزيتونُ من الشجرةِ المباركةِ، هي سواكي وسواكُ الأنبياء من قبلي" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الثعلبي في "تفسيره" (10/ 238)، وأبو نعيم في "الطب"، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، بإسناد مجهول، كما قال المناوي في "الفتح السماوي" (3/ 1108). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (678)، وفي "مسند الشاميين" (46) قال =

[2]

{وَطُورِ سِينِينَ (2)}. [2] {وَطُورِ سِينِينَ} هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى -عليه السلام- بلا خلاف، ومعنى سينين: حسن مبارك، وقيل: معناه: ذو الشجر. ... {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)}. [3] {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} أي: الآمن؛ يعني: مكة بلا خلاف؛ لأمن الناس فيها جاهلية وإسلامًا، أقسم الله بهذه الأشياء تشريفًا لها. ... {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)}. [4] وجواب القسم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} والمراد به: الجنس. {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أعدلِ قامة، وأحسن صورة، وذلك أنه تعالى خلق كل شيء مُنكبًّا على وجهه، إلا الإنسان. ... {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)}. [5] {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ} بعد القدرة والكمال {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلى الهرم وأرذل العمر حتى ينقضي عمره، ويضعف بدنه، ويذهب عقله. ... ¬

_ = الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 100): وفيه معلل بن محمد ولم أجد من ذكره. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 72).

[6]

{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)}. [6] {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} منهم, فإنه يكتب لهم بعد الهرم مثل حال الشباب. قال ابن عباس: "هم نفر رُدُّوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى عذرهم، وأخبر أن لهم أجرهم مثل الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم" (¬1)، فذلك قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} محسوب يمنُّ عليهم به (¬2)، وثبتت الفاء في (فَلَهُمْ) هنا، ولم تثبت في (لَهُمْ) آخر الانشقاق؛ جمعًا بين اللغتين. ... {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)}. [7] ثم قال إلزامًا للحجة، وتوبيخًا للكفار: {فَمَا يُكَذِّبُكَ} ما سببُ تكذيبك أيها الإنسان {بَعْدُ} أي: بعد هذا الدليل القاطع {بِالدِّينِ} بالحساب والجزاء، يقال: أكذبته: وجدتُه كاذبًا، وكذَّبته مشددًا: قلت له: كذبت. ... {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}. [8] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} بأفصل الفاصلين، فيفصل بينك وبين مكذبيك. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (30/ 244). وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 644). (¬2) "محسوب يمن عليهم به" زيادة من "ت".

قال قتادة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ هذه الآية، قال: "بَلَى، وأنا على ذلك من الشاهدين" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (30/ 250). وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 645). ورواه أبو داود (887)، كتاب: الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود، والترمذي (3347)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التين، من طريق إسماعيل بن أمية، عن أعرابي، عن أبي هريرة، به. قال الترمذي: إنما يروى بهذا الإسناد عن هذا الأعرابي عن أبي هريرة ولا يسمى.

سورة العلق

سورة العلق مكية، وآيها: تسع عشرة آية، وحروفها: مئتان وتسعة وعشرون حرفًا، وكلمها: اثنتان وسبعون كلمة، وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى على الأصح، وعليه الأكثر، وتقدم التنبيه عليه في سورة المدثر، نزل صدرها وهو خمس آيات إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} في غار حراء، كذا ورد به الحديث الصحيح، والترتيب في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي ذلك، والله أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أولُ ما بُدئ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحةُ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فَلَق الصبح، ثم حُبِّب إليه التحنُّثُ في غار حراء، فكان يخلو فيه، فيتحنَّثُ فيه الليالي ذوات العدد، ثم ينصرف، حتى جاءه الملَكُ وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني، ثم كذلك ثلاث مرات، فقال في الثالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}، قالت: فرجعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يرجُفُ فؤادُه" الحديث بطوله (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (160) كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

[1]

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}. [1] ومعنى الآية: {اقْرَأْ} هذا القرآن مفتتحًا {بِاسْمِ رَبِّكَ} كما قال {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41]، ودخلت الباء في بسم لتدل على الملازمة والتكرير، ولما ذكر الرب، وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أربابًا، جاء بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها، وهي قوله: {الَّذِي خَلَقَ}. ... {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)}. [2] ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه، فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} أي: جنس الإنسان (¬1) إدريسُ عليه السلام. {مِنْ عَلَقٍ} جمع علقة، وهي القطعة الصغيرة (¬2) من الدم، وخلقةُ الإنسان من أعظم العبر، وليس المراد آدم عليه السلام؛ لأنه خُلق من طين. ... {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)}. [3] ثم قال على جهة التأنيس: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} الذي لا يلحقه نقص، فليس هو كهذه الأرباب، فهو ينصرك ويظهرك. ... ¬

_ (¬1) "أي: جنس الإنسان" زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "اليسيرة".

[4]

{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}. [4] ثم عدد نعمة الكتابة بالقلم على الناس، وهي موضع عبرة، وأعظم منفعة، فقال: {الَّذِي عَلَّمَ} الخطَّ {بِالْقَلَمِ} وأولُ من خط بالقلم إدريس عليه السلام (¬1). ... {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. [5] {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} والمراد: الجنس؛ أي: علمهم ما لم يكونوا عالمين به من مصالحهم وصناعاتهم. ... {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)}. [6] ونزل بعد ذلك في شأن أبي جهل بن هشام، وذلك أنه لما طغى؛ لغناه ولكثرة ناديه من الناس، فناصبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - العداوةَ، ونهاه عن الصلاة في المسجد {كَلَّا} ردٌّ على أقوال أبي جهل وأفعاله (¬2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ} أبا جهل (¬3) {لَيَطْغَى} ليتجاوز حدَّه كِبْرًا. ... {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)}. [7] {أَنْ} أي: لأن {رَآهُ} أي: رأى نفسه {اسْتَغْنَى} مفعول له؛ أي: ¬

_ (¬1) "إدريس عليه السلام" سقط من "ت". (¬2) رواه مسلم (2797)، كتاب: صفة القيامة الجنة والنار، باب: قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى}، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) "أبا جهل" زيادة من "ت".

[8]

يطغى لذلك. قراءة العامة: (رَآهُ) بالمد على وزن رَعَاهُ، وقرأ قنبل عن ابن كثير: (رَأَهُ) بالقصر على وزن رعه، لغة مشهورة بحذف الألف من يرى، لا لجازم، بل تخفيفًا، ولأن الفتحة تدل عليها (¬1)، والرؤية هنا بمعنى العلم لتعديها إلى مفعولين، الأول: الهاء، والثاني: (اسْتَغْنَى)، وتقدم اختلاف القراء في الفتح والإمالة في (رَآهُ) في سورة التكوير [الآية: 23]. ... {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)}. [8] {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ} أي: إلى حسابه وجزائه {الرُّجْعَى} أي: الرجوع. ... {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)}. [9] ونزل في أبي جهل ونهيِه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، وقولِه: لو رأيتُ محمدًا ساجدًا، لوطئتُ عنقه، فجاءه، ثم نكص على عقبه، فقيل له: ما لَكَ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار، وهولًا وأجنحة {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} (¬2). ... {عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)}. [10] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} ولفظ العبد وتنكيره للمبالغة في تقبيح النهي، والدلالة على كمال عبودية المنهي. ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 692)، و"التيسير" للداني (ص: 224)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 196). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا.

[11]

{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)}. [11] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ} المصلي {عَلَى الْهُدَى}. ... {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)}. [12] {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}. ... {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)}. [13] وجواب الشرط الأول محذوف؛ لدلالة جواب الشرط الثاني عليه في {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ} الناهي عن الصلاة. {وَتَوَلَّى} عن الإيمان. قرأ نافع، وأبو جعفر: (أَرَأَيْتَ) بتسهيل الهمزة التي بعد الراء، وعن ورش: إبدالها ألفًا، والكسائي: يسقطها أصلًا (¬1). ... {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)}. [14] وجواب الشرط الثاني: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} فعلَه، فيجازيه به. أمال رؤوس الآي من قوله (لَيَطْغَى) إلى قوله (يَرَى): ورش، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وافقهما على الإمالة: حمزة، والكسائي، وخلف، وفتحها الباقون (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 442)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 197). (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 224)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: =

[15]

{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)}. [15] {كَلَّا} ردعٌ للناهي، ثم توعَّده فقال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} الكافرُ عن تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم -. {لَنَسْفَعًا} لنأخذَنْ بشدَّة وقهر {بِالنَّاصِيَةِ} أي: ناصيته، وهي شعر مقدَّم الرأس، فيجر إلى جهنم ذليلًا، ورسمت (لَنَسْفَعًا) في المصحف بألف بعد النون. ... {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)}. [16] {نَاصِيَةٍ} بدل من {بِالنَّاصِيَةِ}، ثم وصفها بقوله: {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} مجازًا، والمراد صاحبها. قرأ أبو جعفر: (خَاطِيَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بالهمز. ... {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)}. [17] ولما نهى أبو جهل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، فانتهره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أتنهرني؟! فوالله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خَيْلًا جُرْدًا، ورجالًا مُرْدًا، وإنك لتعلم أن ما بها نادٍ أكثر مني، نزل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} (¬1) عشيرته، فلينتصر بهم. ¬

_ = 441)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 195). (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (10/ 246)، و"تفسير البغوي" (4/ 508).

[18]

{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)}. [18] {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} لإهلاكه، وهم زبانية جهنم؛ مأخوذ من الزَّبْن، وهو الدفع. ... {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}. [19] {كَلَّا} ردٌّ على قول الكافر وأفعاله {لَا تُطِعْهُ} لا تلتفتْ إلى نهيه وكلامه {وَاسْجُدْ} لربك {وَاقْتَرِبْ} أي: تقرَّبْ إلى الله بطاعته. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربه إذا سجدَ، فأكثروا من الدعاء في السجود" (¬1). وهذا محل سجود عند الثلاثة؛ خلافًا لمالك، وهم على أصولهم بالقول بالوجوب والسنية، كما تقدم اختلافهم ملخصًا عند سجدة مريم. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سجدْنا معَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬2)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (482)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) تقدم تخريجه.

سورة القدر

سورة القدر مدنية، وقيل: مكية، وآيها: خمس آيات، وحروفها: مئة وخمسة وعشرون (¬1) حرفًا، وكلمها: ثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}. [1] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} الضميرُ للقرآن، ولم يتقدم ذكرُه؛ لدلالة المعنى عليه. {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا جملةً، ثم نزل به نجومًا إلى الأرض على محمد - صلى الله عليه وسلم - في عشرين، أو ثلاث وعشرين سنة، وسميت ليلة القدر؛ لأنها تُقَدَّر فيها آجالُ العباد وأرزاقُهم، ويأتي الكلام عليها بعد انتهاء التفسير. ... {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)}. [2] ثم عجَّبَ الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ¬

_ (¬1) في "ت": "عشر".

[3]

لأنها ليلة تقدير الأحكام والأمور، يقدر الله فيها أمر السنة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة؛ لقوله {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]. ... {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)}. [3] روي أن رسول الله ذُكر له رجلٌ من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألفَ شهر، فعجب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وتمنى ذلك لأمته، فقال: "يا ربِّ جعلْتَ أمتي أقصرَ الأممِ أعمارًا، وأقلَّ أعمالًا"، فأعطاه الله ليلة القدر (¬1)، فقال: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: قيامُها والعبادةُ فيها. {خَيْرٌ مِنْ} عمل {أَلْفِ شَهْرٍ} ليس فيها ليلةُ القدر، وهي ثماثون سنة، وثلاثة أعوام، وثلث عام (¬2). وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمرَ لمعاوية: "إن الله تعالى أرى نبيَّه في المنام بني أمية ينزون على منبره نزوَ القردة، فاهتمَّ لذلك، فأعطاه الله ليلة القدر خير له ولذريته ولأهل بيته من ألف شهر" (¬3)، وهي مدة ملك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون أمر الناس هذا القدرَ من الزمان، ثم كُشِفَ الغيبُ أن كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي آخر ملوكهم هذا القدر من الزمان بعينه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 658). (¬2) "وثلث عام" ساقطة من "ت". (¬3) كذا ساقه ابن عطية في "المحرر الوجيز" (5/ 505)، وقد روى أبو يعلى في "مسنده" (6461)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الذهبي في "السير" (2/ 108) في ترجمة الحكم بن أبي العاص: ويروى في سبه أحاديث لم تصح. فذكر هذا الحديث منها.

[4]

{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)}. [4] {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} هو جبريل عليه السلام {فِيهَا} أي: في ليلة القدر. قرأ البزي (شَهْر تَّنَزَّلُ) بتشديد التاء حالة الوصل (¬1). {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: بأمره {مِنْ كُلِّ} أي: بكل {أَمْرٍ} من الخير والشر. ... {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}. [5] {سَلَامٌ هِيَ} أي: سلام على أولياء الله وأهل طاعته، وسميت سلامًا؛ لكثرة السلام فيها؛ لأن الملائكة لا تمر بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلَّمت عليه، فـ (حَتَّى) متعلقة بـ (سَلاَمٌ)؛ أي: إن الملائكة تسلم من غروب الشمس. {حَتَّى} أي: إلى وقت {مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي: طلوعه. قرأ الكسائي، وخلف: (مَطْلِعِ) بكسر اللام، والباقون: بفتحها (¬2)، وهما لغتان في مصدر طَلَع، والأزرق عن ورش على أصله في تفخيمها. عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبِه" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: 391)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 203). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 693)، و"التيسير" للداني (ص: 224)، و"تفسير البغوي" (4/ 659)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 203 - 204). (¬3) رواه البخاري (35)، كتاب: الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان، ومسلم =

والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان، وعامة الصحابة والعلماء على أنها باقية إلى يوم القيامة، وقد أبهمها الله -عز وجل- على الأمة؛ ليجتهدوا في الدعاء والعبادة لياليَ شهر رمضان؛ طمعًا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، واسمَه الأعظم في الأسماء، وأخفى قيامَ الساعة (¬1)؛ ليجتهدوا في الطاعات؛ حذرًا من قيامها. واختلف الأئمة فيها، فعند أبي حنيفة: هي في شهر رمضان تدور فيه، وعنه رواية تدور في كل السنة، وعند صاحبيه: هي منكَّرة؛ أي: غير معينة، ولكنها دائمة في شهر رمضان؛ أي: ثابتة لا تتقدم ولا تتأخر، وعند مالك: هي في شهر رمضان في العشر الأخير لتسع بقين، أو سبع أو خمس، وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين، أو الثالث والعشرين منه، وعند أحمد: هي في العشر الأخير منه، والوتر آكد، وأرجاه ليلة سبع وعشرين. وقد ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "شرح البخاري" (¬2) فيها خمسة وأربعين قولًا، ولخصها صاحب "الإنصاف" فيه: الأول: قد رفعت، والثاني: خاصة بسنة واحدة وقعت في زمنه عليه أفضل الصلاة والسلام، الثالث: خاصة بهذه الأمة، الرابع: ممكنة في جميع السنة، الخامس: تنتقل في جميع السنة، السادس: ليلة النصف من شعبان، ¬

_ = (760)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح. (¬1) "الساعة" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "فتح الباري" (4/ 262).

السابع: مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه، الثامن: أول ليلة منه، التاسع: النصف منه، العاشر: ليلة سبع عشرة، الحادي عشر: ثماني عشر، الثاني عشر: تسع عشر، الثالث عشر: حادي عشرين، الرابع عشر: ثاني عشرين، الخامس عشر: ثالث عشرين، السادس عشر: رابع عشرين، السابع عشر: خامس عشرين، الثامن عشر: سادس عشرين، التاسع عشر: سابع عشرين، العشرون: ثامن عشرين، الحادي والعشرون: تاسع عشرين، الثاني والعشرون: ليلة الثلاثين، الثالث والعشرون: أرجاها ليلة إحدى وعشرين، الرابع والعشرون: ثلاث وعشرين، الخامس والعشرون: سبع وعشرين، السادس والعشرون: تنتقل في جميع رمضان، السابع والعشرون: في النصف الأخير، الثامن والعشرون: في العشر الأخير كله، التاسع والعشرون: في أوتار العشر الأخير، الثلاثون: مثله بزيادة الليلة الأخيرة، الحادي والثلاثون: في السبع الأواخر، وهي الليالي السبع من آخر الشهر، الثاني والثلاثون: أو هي آخر سبع من الشهر، الثالث والثلاثون: منحصرة في السبع الأواخر منه، الرابع والثلاثون: في أشفاع العشر الأوسط والعشر الأخير، الخامس والثلاثون: مبهمة في العشر الأوسط، السادس والثلاثون: أول ليلة أو آخر ليلة، السابع والثلاثون: أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة، الثامن والثلاثون: في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني، التاسع والثلاثون: ليلة ست عشرة أو سبع عشرة (¬1)، الأربعون: ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة أو ¬

_ (¬1) "أو سبع عشرة" ساقطة من "ت".

إحدى وعشرين، الحادي والأربعون: ليلة تسع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، الثاني والأربعون: ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، الثالث والأربعون: ليلة اثنين وعشرين أو ثلاث وعشرين، الرابع والأربعون: ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين، الخامس والأربعون: الثالثة من العشر الأخير أو الخامسة منه، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 355 - 356).

سورة البينة

سورة البينة مكية على الأشهر، وقيل: مدنية، وآيها: ثماني آيات، وحروفها: أربع مئة وثلاثة أحرف، وكلمها: أربع وتسعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)}. [1] {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم اليهود والنصارى، وتعطف على {أَهْلِ} {وَالْمُشْرِكِينَ} وهم عبدة الأوثان، فـ (الذين) اسم كان، وخبرها {مُنْفَكِّينَ} أي: زائلين عما هم عليه من الدين. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} الحجة الواضحة، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: تمسكوا بدينهم إلى أن بُعث - صلى الله عليه وسلم -، فدعاهم إلى الإيمان، وأنقذهم من الضلال، وهذه الآية فيمن آمن من الفريقين. ... {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)}. [2] ثم فسر البينة فقال: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو} يقرأ (¬1) {صُحُفًا} كتبًا ¬

_ (¬1) "يقرأ" ساقطة من "ت".

[3]

{مُطَهَّرَةً} من الباطل والكذب، والمراد: يتلو مضمونَ مكتوبِ الصحف، وهو القرآن، لا نفس المكتوب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتلو عن ظهر قلبه؛ لأنه كان أميًّا، ولما كان تاليًا بلسانه ما في الصحف، فكأنه تلا الصحف. ... {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}. [3] {فِيهَا} أي: في {كُتُبٌ} أي: أحكام مكتوبة {قَيِّمَةٌ} مستقيمة. ... {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)}. [4] ثم بين تعالى أن اختلافهم إنما وقع بعد بعثه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: بعدما رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته، فلما جاء من العرب، حسدوه، واختلفوا في أمره، فآمن بعضهم، وكفر آخرون. ... {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}. [5] {وَمَا أُمِرُوا} هؤلاء الكفار {إِلَّا لِيَعْبُدُوا} أي: بأن يعبدوا {اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} لا يشركون به شيئًا {حُنَفَاءَ} مستقيمين؛ أي: ما أُمروا في كتابيهما إلا بهذا الوصف، و (مُخْلِصِينَ) و (حُنَفَاءَ) نصب على الحال من ضمير (يَعْبُدُوا).

[6]

{وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} وكون الزكاة مع الصلاة في هذه الآية مع ذكر بني إسرائيل فيها يقوي قول من قال: السورة مدنية؛ لأن الزكاة إنما فرضت بالمدينة. {وَذَلِكَ دِينُ} الملةِ {الْقَيِّمَةِ} أَي: المستقيمة. ... {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)}. [6] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} يوم القيامة. {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} والبرية: جميع الخلق؛ لأن الله تعالى برأهم؛ أي: أوجدهم بعد العدم. ... {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}. [7] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر: (الْبَرِيئَةِ) في الحرفين بالهمز والمد على الأصل؛ لأنه من برأ الله الخلق كما تقدم، وقرأ الباقون: بياء مشددة أبدل من الهمزة ياء تخفيفًا، ثم أدغمت في الياء (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 224)، و"تفسير البغوي" (4/ 662)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 442)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 208).

[8]

{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}. [8] {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ} أي: سُكْنى جنات {عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} والعدن: الإقامة والدوام، وقال ابن مسعود: "عدن: بطنانُ الجنة"؛ أي: وسطها (¬1). {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} تأكيدًا للخلود بالتأبيد {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [ورضاه: هو ما أظهره عليهم من أمارات رحمته وغفرانه] (¬2) {وَرَضُوا عَنْهُ} ورضاهم: هو الرضا بما قسم لهم من الأرزاق والأقدار. {ذَلِكَ} المذكور من الجزاء والرضوان {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وخص أهل (¬3) الخشية بالذكر؛ لأنها رأس كل بركة، تنهى عن المعاصي، وتأمر بالمعروف. قرأ قالون عن نافع بخلاف عنه: (رَبَّهُ) باختلاس ضمة الهاء حالة الوصل بالبسملة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (2/ 335)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (34033)، والطبري في "تفسيره" (10/ 181)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 840) وغيرهم. (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) "أهل" زيادة من "ت".

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة مدنية، وقيل: مكية، وآيها: ثماني آيات، وحروفها: مئة وخمسة وخمسون حرفًا، وكلمها: خمس وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)}. [1] {إِذَا زُلْزِلَتِ} حُرِّكَت {الْأَرْضُ} بعنف لقيام الساعة {زِلْزَالَهَا} تحريكَها الشديد. ... {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)}. [2] {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} موتاها وكنوزها، فتُلقيها على ظهرها. ... {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)}. [3] {وَقَالَ الْإِنْسَانُ} الكافر {مَا لَهَا} زلزلت حتى أخرجت ما فيها؟! ... {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}. [4] {يَوْمَئِذٍ} بدل من (إِذَا)، والعامل في (إِذَا) جوابها، وهو:

[5]

{تُحَدِّثُ} الخلقَ {أَخْبَارَهَا} بأن تشهد بعمل العاملين عليها، فتشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها؛ بأن تقول: عمل (¬1) كذا وكذا يوم كذا وكذا. ... {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)}. [5] {بِأَنَّ} أي: تحدث بسبب أنَّ {رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أمرها بأن تخبر بما عليها. ... {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)}. [6] {يَوْمَئِذٍ} بدل من (يَوْمَئِذٍ) قبلُ {يَصْدُرُ النَّاسُ} ينصرفون من موقف الحساب بعد العرض. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ورويس عن يعقوب: (يَصْدُرُ) بإشمام الصاد الزاي (¬2) {أَشْتَاتًا} فرقًا مختلفين، فالمؤمنون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، ونصبه على الحال. {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} أي: جزاءها، واللام في (لِيُرَوْا) متعلقة بـ (يَصْدُرُ). ... {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)}. [7] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وزنَ نملةٍ صغيرة {خَيْرًا يَرَهُ}. ¬

_ (¬1) "عمل" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 242)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 211).

[8]

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. [8] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فيرى الخير كلَّه من كان مؤمنا، والكافر لا يرى في الآخرة خيرًا؛ لأنّ خيره قد عجل له في دنياه، وكذلك المؤمن أيضًا تعجل له سيئاته الصغائر في دنياه (¬1) في المصائب والأمراض ونحوها. قرأ هشام عن ابن عامر: (يَرَهْ) بإسكان الهاء في الحرفين، وروي عن أبي جعفر ثلاثة أوجه: الإسكان كهشام، واختلاس الضمة، وإشباعها، وروي عن يعقوب: الاختلاس والصلة، وقرأ الباقون: بالإشباع في الصلة (¬2). وروي أنّه كان بالمدينة رجلان، أحدُهما لا يبالي عن الصغائر يرتكبها، وكان الآخر يريد أن يتصدق، فلا يجد إِلَّا اليسير فيستحيي من الصَّدقة، فنزلت الآية فيهما؛ كأنّه يقال لأحدهما: تصدَّقْ باليسير؛ فإن مثقال ذرة الخير يُرى، وقيل للآخر: كف عن الصغائر؛ فإن مثقال ذرة الشر يُرى (¬3)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) "في دنياه" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 694)، و"الكشف" لمكي (2/ 386)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 311)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 212). (¬3) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 667)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 512)، و"تفسير القرطبي" (20/ 151).

سورة العاديات

سُوْرَةُ العَادِيَات مختلف فيها كالتي قبلها، وآيها: إحدى عشرة آية، وحروفها: مئة وثمانية وستون حرفًا، وكلمها: أربعون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)}. [1] {وَالْعَادِيَاتِ} هي خيل الغزاة؛ لأنّها تعدو بالفرسان {ضَبْحًا} وهو صوت أنفاسها عند العدو، ونصبها مصدر. روي أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - بعث خيلًا إلى بني كنانة سرية، فأبطأ أمرها حتّى أرجف بهم بعضُ المنافقين، فنزلت الآية معلمة أن خيله - صلّى الله عليه وسلم - قد فعلت جميع ما في الآيات (¬1). * * * {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)}. [2] {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} الخيل توري النارَ بحوافرها إذا سارت في الحجارة. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير القرطبي" (20/ 155).

[3]

{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)}. [3] {فَالْمُغِيرَاتِ} غاراتها (¬1) {صُبْحًا} الخيل تغير بفرسانها على العدو عند الصباح. قرأ أبو عمرو، وخلاد عن حمزة: بإدغام التاء في ضاد (ضَبْحًا)، وصاد (صُبحًا)، والباقون: بكسر التاء وإظهارها (¬2). * * * {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)}. [4] {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} أي: هَيَّجْنَ {بِهِ} بمكان سيرهن {نَقْعًا} غبارًا. * * * {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)}. [5] {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} دخلنَ به وسطَ جمع العدو، والفاء للعطف؛ أي: واللاتي عَدَوْنَ فأوريْنَ فأغرْنَ فأثرْنَ فوسطْنَ، وجواب القسم: * * * {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}. [6] {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود} لكفورٌ لنعم الله. عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "هل تدرون ما الكنودُ؟ قالوا: لا يا رسولَ الله، قال: هو الكفورُ الّذي يأكلُ وحده، ويمنعُ رِفْدَه، ويضرِبُ ¬

_ (¬1) في "ت": "ظرفها". (¬2) انظر: "التيسير" للداني (ص: 186)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 442)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 215).

[7]

عبدَه" (¬1)، وقد يكون في المؤمنين الكفورُ بالنعمة، فتقدير الآية: إنَّ الإنسان لنعمة ربه لكنود، وأرضٌ كنودٌ: لا تنبت شيئًا (¬2)، ويقال للبخيل: كنود. * * * {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)}. [7] {وَإِنَّهُ} أي: الإنسانَ {عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي: شاهدٌ على نفسه بذلك. * * * {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}. [8] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} المال {لَشَدِيدٌ} أي: لشديدُ الحبِّ له. * * * {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)}. [9] {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ} هو قُلِبَ وأُخْرِج {مَا فِي الْقُبُورِ} توقيف على المآل والمصير؛ أي: أفلا يعلم مآلَه فيستعدَّ له؟ وهذه عبارة عن البعث. * * * {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)}. [10] {وَحُصِّلَ} أُظْهِر {مَا فِي الصُّدُورِ} وكُشف؛ ليقع الجزاء عليه. ¬

_ (¬1) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (30/ 278)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7778)، وغيرهما من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وإسناده انظر: "علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/ 78)، و"المجروحين" لابن حبّان (1/ 212). (¬2) "شيئًا" زيادة من "ت".

[11]

قال - صلّى الله عليه وسلم -: "يُبْعثون على نِيَّاتهم" (¬1). * * * {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}. [11] {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} وهو تعالى خبير دائمًا، ولكن خصص يومئذ؛ لأنّه يوم المجازاة، وفي هذا وعيد مصرح، وجمع الكناية؛ لأنّ الإنسان اسم جنس، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (2012)، كتاب: البيوع، باب: ما ذكر في الأسواق، ومسلم (2884)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: الخسف بالجيش الّذي يؤم البيت، من حديث عائشة رضي الله عنها.

سورة القارعة

سُوْرَةُ الْقَارِعَةُ مكية، وآيها: عشر آيات، وحروفها: مئة وستون حرفًا، وكلمها: ست وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْقَارِعَةُ (1)}. [1] {الْقَارِعَةُ} هي القيامة نفسُها؛ لأنّها تقرع القلوبَ بهولها. * * * {مَا الْقَارِعَةُ (2)}. [2] {مَا الْقَارِعَةُ} تهويل وتعظيم لأمرها. * * * {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)}. [3] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} الكلام في ذلك وفي إعرابه كما تقدّم في (الحاقة). * * *

[4]

{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)}. [4] {يَوْمَ} ظرفٌ العامل فيه: القارعةُ {يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ} شبه البعوض الّتي تراها تتهافت في النّار {الْمَبْثُوثِ} المفرَّق، شبهوا به؛ لكثرتهم وانتشارهم واختلاطهم بعضِهم ببعض عند البعث. * * * {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)}. [5] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} كالصوف (¬1) {الْمَنْفُوشِ} والنفشُ (¬2): خلخلة الأجزاء وتفريقُها عن تراصِّها. * * * {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)}. [6] {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} رَجَحَتْ بالحسنات، وميزان القيامة بعمود وكِفَّتين؛ ليبين الله أمرَ العباد بما عدوه، ويتيقنوه، وجمعت الموازين للإنسان؛ لما كانت له موزونات كثيرة متغايرة. * * * {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)}. [7] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي: مرضية في الجنَّة. * * * ¬

_ (¬1) "كالصوف" زيادة من "ت". (¬2) "والنفس" زيادة من "ت".

[8]

{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)}. [8] {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} بعدم الحسنات. * * * {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)}. [9] {فَأُمُّهُ} أي: مسكنه {هَاوِيَةٌ} اسمٌ من أسماء جهنم، وهي المهواة. * * * {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)}. [10] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} المعنى: أيُّ شيء أعلمك ما الهاوية؟ قرأ حمزة، ويعقوب: (مَا هِيَ) بغير هاء في الوصل، وقرأ الباقون: بالهاء في الحالين؛ لثبوتها في المصحف، ونقلها، والهاء للسكت (¬1). * * * {نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}. [11] ثمّ فسر (الهاويةَ) فقال: {نَارٌ حَامِيَةٌ} شديدة الحرارة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 225)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 142)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 222).

سورة التكاثر

سُوْرَةُ التَّكَاثُرُ مكية، وآيها: ثماني آيات، وحروفها: مئة وتسعة عشر حرفًا، وكلمها: ثمان وعشرون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}. [1] {أَلْهَاكُمُ} شَغَلَكم {التَّكَاثُرُ} المباهاةُ والمفاخرة بكثرة الأموال والرجال عن طاعة الله. * * * {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)}. [2] {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فَعَدَدْتم قبور موتاكم، وذلك أن جماعة تفاخروا، فتعادُّوا الأحياء والأموال، وزاروا القبور فتعادُّوا الأموات تفاخرًا، فنزلت (¬1)، وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ، وقيل: معنى (حَتَّى زُرْتُمُ) يعني: متُّم ودُفنتم في المقابر. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 505).

[3]

{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)}. [3] {كَلَّا} زجرًا؛ أي: ليس الأمر بالتكاثر {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ تفاخركم إذا حل بكم الموت. * * * {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)}. [4] {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} كَرَّرَ الوعيدَ ثانيًا (¬1) تأكيدًا. * * * {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)}. [5] {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ} الأمرِ {الْيَقِينِ} وجواب (لَو) محذوف، تقديره: لو تعلمون ماذا يُفعل بكم يوم القيامة علمَ يقين لا شك فيه، لشغلكم عن التفاخر والتكاثر. * * * {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)}. [6] {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} القسمُ مضمر فيه، معناه: والله لَتَرَوُنَّ. قرأ ابن عامر، والكسائي: (لَتُرَوُنَّ) بضم التاء مجهولًا من أَريتُه الشيء (¬2). وقرأ الباقون: بفتح التاء (¬3)، وهي الأرجح؛ أي: ترونها بأبصاركم عن بعيد (¬4). ¬

_ (¬1) "ثانيًا" ساقطة من "ت". (¬2) "الشيء" ساقطة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 695)، و"التيسير" للداني (ص: 225)، و"تفسير البغوي" (4/ 676)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 225). (¬4) "عن بعيد" زيادة من "ت".

[7]

{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)}. [7] ثمّ كرر الرؤية تهويلًا لشأنها، فقال: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} الرؤية الّتي هي نفس اليقين بالمشاهدة، وذلك حين يؤتى بالصراط، فينصب بين جسري جهنم. * * * {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}. [8] {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ} أيها النَّاس {يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} في الدنيا. روي أنّها خمس: شبع بطن، وبارد الشراب، ولذة النوم، وظلال المساكن، واعتدال الخلق (¬1). وأكلَ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم - هو وبعض أصحابه رُطَبًا، وشربوا عليه ماءً، فقال لهم: "هذا من النعيم الّذي تُسألونَ عنه" (¬2)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (10/ 281). (¬2) رواه النسائي (3639)، كتاب: الوصايا، باب: قضاء الدِّين قبل الميراث، والترمذي (2369)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في معيشة أصحاب النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -، وقال: حسن صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

سورة العصر

سُوْرَةُ العَصْر مكية، وآيها: ثلاث آيات، وحروفها: أحد وسبعون حرفًا، وكلمها: أربع عشرة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ (1)} [1] {وَالْعَصْرِ} هو الدهر، وقيل: هو ما بعد الزَّوال إلى الغروب. * * * {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)}. [2] وجواب القسم: {إِنَّ الْإِنْسَانَ} اسمُ جنس {لَفِي خُسْرٍ} نقصانٍ وسوءِ حال، والمراد: الكافرُ العاملُ بغير طاعة الله؛ لأنّه استثنى بعده المؤمنين. * * * {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. [3] فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أي:

أوصى بعضهم بعضًا بالإقامة على التوحيد والإيمان {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على الطّاعة، وعن المعصية، فليسوا في خسران. وخطب ابن عبّاس -رضي الله عنهما- على المنبر فقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}: أبو جهل، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: أبو بكر، وعملوا الصالحات: عمر، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: عثمان، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: علي رضي الله عنهم" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الثعلبي" (10/ 284)، و"تفسير القرطبي" (20/ 180).

سورة الهمزة

سُوْرَةُ الهُمَزَة مكية، وآيها: تسع آيات، وحروفها: مئة وثلاثون حرفًا، وكلمها: ثلاث وثلاثون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)}. [1] {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} يعم الشرَّ والحزن، وقيل: هو اسم واد في جهنم. {لِكُلِّ هُمَزَةٍ} هو العَيَّابُ الطَّعَّان. {لُمَزَةٍ} بمعنى الأوّل، وأصل الهمز: الكسر، واللمز: الطعن، والمعنى: أنّه يكسر من أعراض المسلمين، ويطعن في أنسابهم، والهاء فيهما للمبالغة، نزلت فيمن كان يغتاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ويقع. * * * {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)}. [2] {الَّذِي جَمَعَ مَالًا} قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وروح عن يعقوب: (جَمَّعَ) بتشديد الميم، والباقون: بتخفيفها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 225)، و"تفسير البغوي" (4/ 682)، و"النشر في =

[3]

{وَعَدَّدَهُ} أحصاه، وجعله عُدَّةً لحوادث الدهر. * * * {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)}. [3] {يَحْسَبُ} لجهلهِ {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} في الدنيا، فلا يموت. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم (¬1)، وحمزة: (يَحْسَبُ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (¬2). * * * {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)}. [4] {كَلَّا} ردٌّ له عن حسبانه، ثمّ ابتدأ مقسمًا، تقديره: والله {لَيُنْبَذَنَّ} لَيُطْرَحَنَّ. {فِي الْحُطَمَةِ} من أسماء جهنم؛ لأنّها تحطم كلّ ما ألقي فيها؛ أي: تكسره. * * * {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)}. [5] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} ما النّار الّتي لها هذه الخاصية؟ ¬

_ = القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 403)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 233 - 234). (¬1) "وعاصم" زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 443)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 234).

[6]

{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)}. [6] ثمّ عظَّم شأنّها وأخبر أنّها {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} المسعَّرة (¬1). * * * {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)}. [7] {الَّتِي تَطَّلِعُ} تُشْرِف {عَلَى الْأَفْئِدَةِ} بإطلاع الله إياها، فتدخل في أجوافهم فتحرقها، فتكون أشدَّ لعذابهم؛ لأنّ الفؤاد محل العقائد والنيات. * * * {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)}. [8] {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} تقدَّم تفسيره واختلاف القراء فيه آخر سورة البلد. * * * {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}. [9] {فِي عَمَدٍ} جمع عمود. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: بضم العين والميم، والباقون: بفتحهما (¬2) {مُمَدَّدَةٍ} مطوَّلة، فتكون أرسخ من القصيرة. ¬

_ (¬1) في "ت": "العسرة". (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 697)، و"التيسير" للداني (ص: 225)، و"تفسير البغوي" (4/ 682)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 235).

قال ابن عبّاس: "أدخلهم في عمد، ومدت عليهم بعماد، في أعناقهم السلاسل، وسدت عليهم بها الأبواب؛ استيثاقًا على استيثاق، وزيادة في العذاب" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (30/ 295). وانظر: "تفسير البغوي" (4/ 682 - 683)، و"الكشاف" للزمخشري (4/ 803).

سورة الفيل

سُوْرَةُ الفِيْل مكية، وآيها: خمس آيات، وحروفها: سبعة وتسعون حرفًا، وكلمها: ثلاث وعشرون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ روي أن الحبشة ملكوا اليمن بعد حِمْيَر، فلما صار الملك إلى أبرهة منهم، وكان نائب النجاشي بصنعاء، بنى كنيسة عظيمة، وقصد أن يصرِف حجَّ العرب إليها، ويُبطل الكعبة الحرام، فجاء شخص من العرب وأحدث في تلك الكنيسة، فغضب أبرهة لذلك، وسار بجيشه ومعه الفيل، وهي فيل النجاشي بعثه إليه بسؤاله، وكان فيلًا لم يُر مثلُه عِظَمًا وجسمًا وقوة، وكان يقال له: محمود، قصد مكّة ليهدم الكعبة، فلما وصل إلى الطائف، بعث الأسودَ بنَ مقصود إلى مكّة، فساق أموال أهلها، وأحضرها إلى أبرهة، وأرسل أبرهة إلى قريش، فقال لهم: لستُ أقصد الحرب، بل جئت لأهدم الكعبة، فقال عبد المطلب: والله ما نريدُ حربه، هذا بيت الله، فإن منع عنه، فهو بيته وحرمه، وإن خلَّى بينه وبينه، فو الله ما عندنا مِن دفع، ثمّ انطلق مع رسول أبرهة إليه، فلما استأذن على عبد المطلب، قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش، فأذن له أبرهة وأكرمه، ونزل عن سريره وجلس معه،

وسأله عن حاجته، فذكر عبد المطلب أباعِرَه الّتي أُخذت له، فقال له أبرهة؛ إنِّي كنت أظن أنك تطلب مني أن لا أخرب الكعبةَ الّتي هي دينُك، فقال عبد المطلب: أنا ربُّ الأباعر فأطلبُها، وللبيت ربٌّ يمنعه، فأمر أبرهة بردِّ الأباعر عليه، فأخذها عبد المطلب وانصرف إلى قريش، ولما قرب أبرهة من مكّة، وتهيأ لدخولها بجيوشه، ومقدمها الفيل، بقي كلما قَبَّل فيلَه مكّة، ينام ويرمي نفسه إلى الأرض، ولم يسر، فإذا قبَّلوه غيرَ مكّة، قام يهرول. وبينما هم كذلك، إذ أَرسل عليهم طيرًا أبابيل أمثالَ الخطاطيف، مع كلّ طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه، فقذفتهم بها، وهي مثل الحِمِّص والعَدَس، فلم تصب منهم أحدًا إِلَّا هلك، وليس كلَّهم أصابت، ثمّ أرسل الله تعالى سيلًا، فألقاهم في البحر، والذي سلم منهم ولَّى هاربًا مع أبرهة إلى اليمن يتبدر الطريق، وصاروا يتساقطون بكل مَنْهَل، وأصيب أبرهة في جسده، وسقطت أعضاؤه، ووصل إلى صنعاء كذلك ومات، ولما وقع ذلك، خرجت قريش إلى منازلهم، وغنموا من أموالهم شيئًا كثيرًا، وكان هذا عام مولد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في نصف المحرم، وولد - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأوّل، فبين الفيل وبين مولده الشريف خمس وخمسون ليلة، وهي سنة ستة آلاف ومئة وثلَاث وستين من هبوط آدم -عليه السّلام- على حكم التوراة اليونانية المعتمدة عند المؤرخين، وبين قصة الفيل والهجرة الشريفة النبوية ثلاث وخمسون سنة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 688).

[1]

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}. [1] قال الله تعالى مُعَجِّبًا من قصتهم، مخاطبًا نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {أَلَمْ تَرَ} أي: تعلم {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} نُسبوا إليه؛ لأنه كان مقدَّمهم. * * * {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)}. [2] {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ} مكرَهم فيما أرادوا من تخريب الكعبة. {فِي تَضْلِيلٍ} تضييع وإبطال. * * * {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)}. [3] {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا} لها خراطيمُ كخراطيم الطير، وأَكُفُّ كأكفِّ الكلاب، وكانت سودًا {أَبَابِيلَ} جماعات في تفرقة يتبع بعضُها بعضًا. * * * {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)}. [4] {تَرْمِيهِمْ} أَي: الطيرُ {بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيل} طينٍ مطبوخ بالنار، فصاحت الطيور، ورمتهم بالحجارة، وبعث الله ريحًا فضربت الحجارة، فزادتها شدة، فما وقع حجر على رجل إِلَّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره. * * *

[5]

{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}. [5] {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ} ورق الزرع، وهو التبن {مَأْكُولٍ} أكلته الدواب فراثَتْه فيبس وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم تفرق أجزاء الروث، والله أعلم. * * *

سورة قريش

سُوْرَةُ قُرَيْش مكية، وآيها: أربع آيات، وحروفها: أربعة وستون حرفًا، وكلمها: سبع عشرة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)}. [1] {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} اللام متصلة بما قبلها، والمعنى: فجعلهم كعصف؛ أي: أهلك الله أصحاب الفيل؛ لتتألف قريش، ويؤيده أنّهما في مصحف أبي بن كعب سورة واحدة. (لإِلَافِ) بهمزة مكسورة بعد اللام من غير ياء بعد الهمزة مثل: لِعِلاف مصدر أَلِفَ ثلاثيًّا، يقال: ألف الرَّجل إلفًا وَإِلافًا، وقرأ أبو جعفر: (لِيْلَافِ) بياء ساكنة من غير همز على وزن دينار، وقرأ الباقون: بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة على وزن لِعِيلاف. * * * {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)}. [2] {إِيلَافِهِمْ} بدل من لإيلاف، قرأ أبو جعفر: (إِلَافِهِمْ) بهمزة مكسورة من غير ياء على وزن عِلافِهم، ووجهها أن تكون مصدرَ ثلاثي؛

[3]

كقراءة ابن عامر الأوّل، وقرأ الباقون: (إِيلَافِهِمْ) بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة على وزن عِيلافهم (¬1). {رِحْلَةَ} نصب بـ (إِيَلافِهِمْ) مفعول به، أصل الرحلة: السير على الراحلة، ثمّ استعمل لكل سير، المعنى: أهلك أصحاب الفيل؛ لتبقى قريش وما ألفوا من رحلة. {الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} لئلا يقدم أحد على أذاهم إذا سافروا، وكان لهم رحلتان: في الشتاء إلى اليمن، لأنّه أدفأ، وفي الصيف إلى الشّام للتجارة، وسائر أغراضهم يستعينون بها على المقام بمكة، وسموا قريشًا تشبيهًا لدابة تكون في البحر يقال لها: قرش، تقهر دواب البحر، وتأكلهم ولا تؤكل، وتعلو ولا تُعلى، فشبهوا بها لشدتهم ومنعتهم، وقريش من ولد النضر بن كنانة، ومن لم يلده، فليس بقرشي، فمعنى الآية: لأنّ فعل الله بقريش هذا، ومكَّنهم من الفهم هذه النعمة. * * * {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)}. [3] {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} وذكرُ البيت هنا متمكن؛ لتقدم حمايته في السورة قبلُ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 225)، و"تفسير البغوي" (4/ 691)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 403)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 243).

[4]

{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}. [4] {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} لأنّهم قاطنون بواد غير ذي زرع، عرضة للجوع والجدب لولا لطف الله تعالى. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} فجعلهم بحرمة البيت مفضَّلين على العرب، يأمنون والناس خائفون، ولولا فضل الله تعالى في ذلك، لكانوا بمدرج المخاوف، وقيل: أمنهم من خوف الجذام، فلا يصيبهم جذام ببلدهم، والله أعلم. * * *

سورة الماعون

سُوْرَةُ الْمَاعُون مكية، وقيل: مدنية، وقيل: نصفها مكي ونصفها مدني، وآيها: سبع آيات، وحروفها: مئة واثنا عشر حرفًا، وكلمها: خمس وعشرون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)}. [1] {أَرَأَيْتَ} المعنى: هل عرفت {الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي: بالجزاء والحساب. قرأ نافع، وأبو جعفر: (أَرَأَيْتَ) بتسهيل الهمزة الثّانية بين بين، وقرأ الكسائي: بحذفها، والباقون: بتحقيقها (¬1)، المعنى: إن لم تعرفه. * * * {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)}. [2] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} يدفعه عن حقه بعنف؛ لأنّهم ما كانوا يورِّثون الصغار. ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 397 - 398)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 444)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 249).

[3]

{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)}. [3] {وَلَا يَحُضُّ} نفسَه ولا غيرَه {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وتقدم الكلام عليه في سورة الفجر. * * * {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)}. [4] {فَوَيْلٌ} تقدّم تفسيره في أول (الهُمَزَة) {لِلْمُصَلِّينَ}. * * * {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)}. [5] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} مؤخِّروها عن وقتها. * * * {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)}. [6] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} هم المنافقون، يتركون الصّلاة إذا غابوا عن النَّاس، ويصلونها إذا حضروا. * * * {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}. [7] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} الزكاةَ المفروضةَ، وقيل عاريَّةَ المتاع. واتفق الأئمة على عدم جواز تأخير الصّلاة عن وقتها لمن وجبت عليه بغير عذر. واتفقوا على أن من جحد وجوبها كفر، وقُتل مرتدًا، ومن تركها تهاونًا

وكسلًا، دُعي إلى فعلها، فإن أبي، فعند أبي حنيفة يحبس أبدًا حتّى يصلّي، وقيل: يضرب حتّى يسيل الدِّم، وعند الثّلاثة: يقتل. واختلفوا، فقال أحمد: يقتل كفرًا، وقال مالك والشّافعيّ: يقتل حدًّا. ووقت قتله عند الشّافعيّ: إذا ضاق وقت الصّلاة الأولى، وأخرجها عن وقت الضّرورة، وعند أحمد: إذا ترك صلاة، وتضايق وقت الّتي بعدها، وعند مالك: لا يرخص له بتأخيرها عن وقتها، فإن أتى بها، وإلا قتل. وأمّا الزَّكاة إذا منعها جاحدًا وجوبَها وهو جاهل؛ كحديث إسلام ونحوه، عُرِّفَ وبُصِّر، فإن لم يُقر، قُتل كفرًا بعد استتابته بالاتفاق. واختلفوا فيمن منعها بخلًا أو تهاونًا، فقال أبو حنيفة: يأخذها الإمام كرهًا، ويضعها موضَعها، وقال مالك والشّافعيّ: يُعَزَّر، وتؤخذ منه، وافقهما أحمد، وقال: إنَّ غيب ماله، أو كتمه، ولم يمكن أخذها، استُتيب ثلاثة أيّام، فإن تاب وأخرج، وإلا قتل حدًّا، والقتل من مفردات مذهبه؛ خلافًا للثلاثة، والله أعلم.

سورة الكوثر

سُوْرَةُ الكَوْثْر مكية، وآيها: ثلاث آيات، وحروفها: اثنان وأربعون حرفًا، وكلمها: عشر كلمات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}. [1] {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} اسم نهر في الجنَّة. روى أنس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أُنزلت علي آنفًا سورة، وقرأها، ثمّ قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنّه نهر وَعَدَنيه ربي، هو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيتُه عددُ النجوم، فيختلج العبدُ منهم، فأقول: ربِّ إنّه مني، فيقول: ما تدري ما أحدثَ بعدَك" (¬1). * * * {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}. [2] {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} صلاة العيد يوم النَّحر، وتقدم الكلام على صلاة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (400)، كتاب: الصّلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة.

[3]

العيدين والخلاف فيهما في سورة البقرة. {وَانْحَرْ} البدن بمنى، وقيل: إنَّ ناسًا كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فأمر الله نبيه أن يصلّي وينحر لله تعالى. وتقدم في سورة الحجِّ حكم الأضحية، والمجزئ منها، والأفضل، واختلاف الأئمة في ذلك، وفي ذبح الكتابي لها، وغير ذلك من أحكامها. وأمّا وقت الأضحية، فأوله عند أبي حنيفة: طلوع الفجر يوم النَّحر، إِلَّا أن أهل المصر لا يضحون قبل صلاة العيد، بخلاف أهل القرى، وعند مالك: بعد الصّلاة والخطبة، ولا يجوز لأحد أن يذبح قبل الإمام متعمدًا إن كان الإمام ممّن يظهر النَّحر، وإلا فلينحر النَّاس وقتَ ذبحه، أو ذبح أقرب أئمة البلدان إليهم، وعند الشّافعيّ: وقتها إذا طلعت الشّمس يوم النَّحر، ثمّ مضى قدرُ ركعتين وخطبتين خفيفتين، وعند أحمد: يوم العيد بعد الصّلاة أو قدرها، وأيام النَّحر عند الشّافعيّ: يوم النَّحر، وأيام التّشريق الثّلاثة، وعند الأئمة الثّلاثة: يوم النَّحر، ويومان من أيّام التّشريق. * * * {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}. [3] {إِنَّ شَانِئَكَ} مبغضك. قرأ أبو جعفر: (شَانِيكَ) بياء مفتوحة، والباقون: بالهمز (¬1) {هُوَ الْأَبْتَرُ} الأقلُّ الأذلُّ. روي أن العاص بن وائل كان إذا ذُكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوه؛ فإنّه ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/ 396)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 253).

رجل أبتر لا عقبَ له، فإذا هلك، انقطع ذكره، فأنزل الله السورة (¬1). وكوثر بناء مبالغة من الكثر، ولا محالة أن الّذي أعطى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من النبوة والحكمة والعلم بربه، والفوز برضوانه، والشرف على عباده، هو أكثر الأشياء وأعظمها، فكأنّه يقال في الآية: إنا أعطيناك الحظَّ الأعظمَ، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن إسحاق في "السيرة" (5/ 252)، عن يزيد بن رومان. وروى الطّبريّ في "تفسيره" (30/ 329) عن قتادة وابن زيد نحوه.

سورة الكافرون

سُوْرَةُ الكَافِرون مكية، وآيها: ست آيات، وحروفها: أربعة وتسعون حرفًا، وكلمها: ست وعشرون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (¬1)}. [1] {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} سبب نزولها أن جماعة من المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اعبد آلهتنا سنة، ونعبدُ ربك سنة، فقال: "معاذَ الله أن أشرك به غيره"، قال: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد آلهك، فقال: "حتّى أنظر ما يأتي من ربي"، فأنزل الله السورة، فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثمّ قرأها عليهم حتّى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك، وآذْوه وأصحابَه (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وتسمى هي والإخلاص: المقشقشتان؛ أي: المبرئتان من النفاق. (¬2) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (30/ 331)، والطبراني في "المعجم الصغير" (751)، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

[2]

{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)}. [2] ومعنى {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لا أعبد الأصنام الّتي تعبدون. * * * {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)}. [3] {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} هو الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لإشراككم به، واتخاذكم معه الأصنام، فإن زعمتم أنكم تعبدونه، فأنتم كاذبون؛ لأنكم تعبدونه مشركين به. * * * {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)}. [4] {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} و (ما) هنا مصدرية، وكذا في الّذي بعده؛ أي: لا أعبد مثل عبادتكم. * * * {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)}. [5] {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: لا تعبدون مثلَ عبادتي الّتي هي توحيد، تلخيصه: أنّه - صلى الله عليه وسلم - نفى أن يكون على مثل حالهم، أو يكونوا على مثل حاله، وهذا التّرتيب ليس بتكرار، بل هو بارع الفصاحة، وفيه التأكيد والإبلاغ. قرأ هشام عن ابن عامر: (عَابِدٌ) و (عَابِدُونَ) في الحرفين بالإمالة، والباقون: بالفتح (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 699)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 444)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 257).

[6]

{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}. [6] ثمّ زاد الأمرَ بيانًا وتبرؤًا منهم بقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} الشركُ. {وَلِيَ دِينِ} الإسلامُ. قرأ نافع، وهشام، وحفص، والبزي بخلاف عنه: (وَلِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (¬1)، وقرأ يعقوب: (دِينِي) بإثبات الياء في الحالين، والباقون: بحذفها فيهما (¬2)، وفي هذه الألفاظ مهادنة ما، وهي منسوخة بآية القتال، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التيسير" للداني (ص: 225)، و "تفسير البغوي" (4/ 704)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 257). (¬2) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 404)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 257).

سورة النصر

سُوْرَةُ النَّصْر مدنية، وآيها: ثلاث آيات، وحروفها: تسعة وسبعون حرفًا، وكلمها: تسع عشرة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لما صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا عام الحديبية على وضع الحرب على النَّاس عشر سنين كما تقدّم في سورة الفتح، دخل بنو بكر بن عبد مناف في عقد قريش، ودخل بنو خزاعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت بينهما حروب في الجاهلية، فعدَتْ بنو بكر على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكّة يقال له: الوتير، وتظاهرت قريش مع بني بكر، وأعانوهم بالرجال والسلاح بعد أن وعدوهم، ووافوهم متنكرين، فبيتوا خزاعة ليلًا، فقتلوا منهم عشرين، ثمّ ندمت قريش على ما فعلوا، وعلموا أن هذا نقض العهد الّذي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في طائفة من قومه، فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستعينين به، فوقف عمرو عليه وهو جالس في المسجد، وأنشده أبياتًا يسأله أن ينصره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نُصِرْت يا عَمْرَو بنَ سالمِ"، ثمّ قدم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره، فقال: "كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد العقد، ويزيد في المدة"، فكان كذلك، ثمّ قدم أبو سفيان المدينة، فدخل

على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين زوجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طَوَتْه عنه، فقال: ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني؟ قالت: بل هو فِراشُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنت رجل مشرك نجس، قال: والله لقد أصابك بعدي يا بنية شر. ثمّ خرج وأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فكلمه، فلم يردَّ عليه شيئًا، فذهب إلى أبي بكر، ثمّ إلى عمر، ثمّ إلى علي -رضي الله عنهم- على أن يكلموا النّبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره، وتشفَّع بهم، فلم يفعلوا، فقال لعلي: يا أبا الحسن! إنِّي أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال: والله لا أعلم شيئًا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين النَّاس، والحقْ بأرضك، قال: أو ترى ذلك يغني عني شيئًا؟ قال: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها النَّاس! إنِّي قد أجرتُ بين النَّاس، ثمّ ركب بعيره وانطلق. فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ فقص شأنه، وأنّه قد (¬1) أجار بين النَّاس، قالوا: فهل أجاز محمّد ذلك؟ قال: لا، قالوا: والله إنَّ زاد الرَّجل على أن لعب بك. ثمّ أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد، وأمر أهله أن يجهزوه، ثمّ أعلم النَّاس أنّه يريد مكّة، وقال: "اللَّهُمَّ خُذِ العيونَ والأخبارَ عن قريش حتّى نَبْغَتَهم في بلادهم"، ثمّ مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسفره، واستخلف على المدينة كلثوم بن الحصين الغفاري، فخرج لعشرة مضين من شهر رمضان، ومعه المهاجرون والأنصار، وطوائف من العرب، فكان جيشه عشرة آلاف، فصام وصام ¬

_ (¬1) "قد" زيادة من "ت".

النَّاس معه، حتّى إذا كان بالكديد، وهو الماء الّذي بين قديد، أفطرَ، وبلغ ذلك قريشًا، فخرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، وكان العباس -رضي الله عنه- أسلم قديمًا، وكان يكتم إسلامه، فخرج بعياله مهاجرًا، فلقي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالجحفة، أو بذي الحليفة. ثمّ حضر أبو سفيان على يدي العباس إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أستأمن له، فأسلم هو وحكيم وبديل، وممن أسلم يوم الفتح: معاوية بن أبي سفيان، وأخوه يزيد، وأمه هند بنت عتبة، وكان معاوية يقول: إنّه أسلم يوم الحديبية، فكتم إسلامه من أبيه وأمه، وقال العباس: يا رسول الله! إنَّ أبا سفيان يحب الفخر، فاجعل له شيئًا يكون في قومه فقال: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِن، ومن دخلَ المسجدَ فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمنٌ، ومن دخلَ دارَ حكيمِ بنِ حزام فهو آمنٌ". ثمّ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُركز رايةُ سعد بن عبادة بالحجون لما بلغه أنّه قال: اليومَ يومُ الملحمة، اليومَ تُستحل الكعبة، فقال: "كذبَ سعدٌ، ولكن هذا يوم يعظِّمُ اللهُ فيه الكعبةَ، ويومٌ تُكْسى فيه الكعبة"، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكّة من كداء في بعض النَّاس، وكل هؤلاء الجنود لم يقاتلوا؛ لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القتال؛ إِلَّا أن خالد بن الوليد لقيه جماعة من قريش، فرموه بالنبل، ومنعوه من الدخول، فقاتلهم خالد، فقُتل من المشركين ثمانية وعشرون رجلًا، فلما ظهر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، قال: "ألم أَنْهَهُ عن القتال؟ "، فقالوا له: إنَّ خالدًا قوتل فقاتل، وقُتل من المسلمين رجلان، ودخل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من كداء على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يُرَجِّع.

وكان فتح مكّة يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة الشريفة، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصّلاة، ثمّ خرج إلى هوازن وثقيف، وتقدم اختلاف الأئمة في حكم فتحها، هل هو صلح أو عَنوة؟ وحكمُ بيع دورها في سورة الحجِّ. ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة، كان على الكعبة ثلاث مئة وستون صنمًا، قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص، فجاء ومعه قضيب، فجعل يومي إلى كلّ صنم منها، فيخرُّ لوجهه، فيقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، حتّى مر عليها كلِّها، وكان على رأسه - صلى الله عليه وسلم - عِمامة سوداء، فوقف على باب الكعبة وقال: "لا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَه، صدقَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه، ألَّا إنَّ كلّ مأثورة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدميَّ هاتين، إِلَّا سدانةَ الكعبة، وسقايةَ الحاج"، ثمّ قال: "يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ "، قالوا جميعًا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: "أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} الآية [يوسف: 92]، ثمّ قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فأعتقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ طاف بالبيت سبعًا على راحلته، واستلم الركن بمِحْجَن كان في يده، ودخل الكعبة، ورأى فيها الشخوص على سورة الملائكة، وصورةَ إبراهيم (¬1) وفي يده الأزلامُ يستقسم بها، فقال: "قاتَلَهُمُ الله! جعلوا شيخنا يستقسِمُ بالأزلام، ما شأنُ إبراهيمَ والأزلام؟! "، ثمّ أمر بتلك الصور فطُمست، وصلَّى في البيت، ثمّ جلس على الصفا، وعمرُ بنُ الخطّاب أسفلَ منه يأخذ على النَّاس، وبات النَّاس على السمع والطاعة لله ورسوله، ¬

_ (¬1) من قوله: "وتعلو ولا تعلى" (ص: 439) إلى هنا سقط من "ش".

[1]

فبايع الرجال ثمّ النِّساء، ولما جاء وقت الظهر، أذن بلال -رضي الله عنه- على ظهر الكعبة، وقام علي -رضي الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسولَ الله! اجمع لنا الحجابةَ مع السقاية صلَّى الله عليك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أين عثمانُ بنُ طلحة؟ "، فدُعي له، فقال: "هاكَ مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بِرٍّ ووفاء، وقال: خذوها تالدةً خالدةً، لا ينزِعُها منكم إِلَّا ظالم، يا عثمان! إنَّ الله استأمنكم على بيته، فكلوا ممّا يصلُ إليكم من هذا البيت بالمعروف" (¬1). * * * {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}. [1] قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ} لكَ يا محمدُ على من عاداك وناوأك {وَالْفَتْحُ} هو فتح مكّة والطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن. * * * {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)}. [2] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} نصب على الحال من فاعل (يَدْخُلُونَ) أي: جماعات متفرقة؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكّة، جاءه العرب من أقطار العرب طائعين بعد أن كانوا يدخلون واحدًا واحدًا، واثنين اثنين، وما مات - صلى الله عليه وسلم - وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (5/ 42)، و"الثقات" لابن حبّان (2/ 32)، و"تفسير البغوي" (4/ 705 - 707).

[3]

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}. [3] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد، حامدًا له عليه {وَاسْتَغْفِرْهُ} ترجية عظيمة للمستغفرين. {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} لمن استغفر، فإنك حينئذ (¬1) لاحق به، وذائق الموت كما ذاق مَنْ قبلك من الرسل، وعند الكمال يُترقب الزَّوال. قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "لما نزلت هذه السورة، علم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قد نُعيت إليه نفسه" (¬2)، وكان - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها يكثر من قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه (¬3)، فعاش بعدها سنتين، لم يُرَ ضاحكًا مستبشرًا (¬4)، وحج - صلى الله عليه وسلم - فنزل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فعاش أحدًا وثمانين يومًا، فنزل: {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 176]، فعاش خمسين يومًا، فنزل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، فعاش خمسة وثلاثين يومًا، فنزل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، فعاش أحدًا وعشرين يومًا، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل، وفرغ من جهازه يوم الثلاثاء، ودفن ليلة الأربعاء في سنة إحدى عشرة من الهجرة الشريفة، وكان مرضه ثلاث عشرة ¬

_ (¬1) "حينئذ" ساقطة من "ت". (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 344). وروى البخاريّ (4685) من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما نحوه. (¬3) رواه مسلم (484)، كتاب: الصّلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬4) ذكره الثعلبي في "تفسيره" (10/ 321) عن مقاتل.

ليلة، ودفن في الموضع الّذي توفاه الله فيه، وله ثلاث وستون سنة، ولم يترك درهمًا ولا دينارًا. قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "لما كانَ اليومُ الّذي دخلَ فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعني: المدينة أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الّذي مات فيه، أظلمَ منها كلُّ شيء - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) وشَرَّفَ وكَرَّم. * * * ¬

_ (¬1) رواه التّرمذيّ (3618)، كتاب: المناقب، باب: في فضل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: صحيح، وابن ماجه (1631)، كتاب: الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم -، وابن حبّان في "صحيحه" (6634)، وغيرهم.

سورة المسد

سُوْرَةُ المَسَدْ مكية، وآيها: خمس آيات، وحروفها: أحد وثمانون حرفًا، وكلمها: ثلاث وعشرون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}. [1] {تَبَّتْ} أي: خسرت {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: هو، أخبر عن يديه والمراد بهما: نفسُه؛ على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله، وأسند ذلك إلى اليدين؛ من حيثُ اليدُ موضع الكسب والربح، وأبو لهب هو عبدُ العزى بنُ عبد المطلب، وهو عم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكني لشهرته بكنيته دون اسمه (¬1). قرأ ابن كثير: (لَهْبٍ) بإسكان الهاء، والباقون: بفتحها (¬2)، وهما لغتان، ولا خلاف في الحرف الثّاني أنّه بالفتح. (وَتَبَّ) فالأول دعاء، والثّاني خبرة كقولهم: أهلكه الله تعالى، وقد هلك. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 751). (¬2) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 700)، و"التيسير" للداني (ص: 225)، و"تفسير البغوى" (4/ 715)، و "معجم القراءات القرآنية" (8/ 265).

[2]

وسبب نزولها: لما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه إليه، وقال لهم: "إِنِّي نَذيرٌ لكم بينَ يَدَي عذابٍ شديدٍ"، قال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا دعوتنا (¬1)؟! وروي أنّه أخذ حجرًا ليرميه، فافترقوا عنه، فنزلت السورة (¬2). * * * {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)}. [2] {مَا أَغْنَى} (ما) نافية؛ أي: ما يغني {عَنْهُ مَالُهُ} أي: ما يدفع عنه عذابَ الله ما جمعَ من المال، وكان صاحب مواشي {وَمَا} أي: والذي {كَسَبَ} من عَرَض الدنيا من عقار ونحوه، وقيل: المراد بما كسب: بنوه، فكأنّه قال: ما أغنى عنه مالُه وولده. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ ما كَسَبَ الرَّجلُ من عملِ يدِه، وإن ولدَ الرجلِ من كَسْبِه" (¬3). * * * {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)}. [3] ثمّ أوعده بالنار فقال: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} صاحبةَ تلهُّب وتوقُّد. ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (4687)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} من حديث ابن عبّاس. (¬2) انظر: "تفسير البيضاوي" (5/ 544). (¬3) كذا ساقه ابن عطية في "المحرر الوجيز" (5/ 534)، وعنه نقله المصنِّف رحمه الله. وقد رواه أبو داود (3528)، كتاب: الإجارة، باب: في الرَّجل يأكل من مال ولده، والنسائي (4449)، كتاب: البيوع، باب: الحث على الكسب، وابن ماجه (2137)، كتاب: التجارات، باب: الحث على المكاسب، من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ: "إنَّ أطيب ما أكل الرَّجل من كسبه، وولده من كسبه".

[4]

{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)}. [4] وتعطف على ضمير {سَيَصْلَى} {وَامْرَأَتُهُ} أمُّ جميل بنتُ حرب أختُ أبي سفيان {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: الخطايا. وقال ابن عبّاس: كانت تجيء بالشوك، وتطرحه في طريق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وطريق أصحابه؛ لتعقرَهم بذلك، فسميت: حمالة الحطب. قرأ عاصم: (حَمَّالَةَ) بالنصب على الذم؛ كقوله: {مَّلْعُوْنِيْنَ}، وقرأ الباقون: بالرفع (¬1)، وله وجهان: أحدهما: سيصلى هو وامرأتهُ حمالةُ الحطب، والثّاني: وامرأته حمالةُ الحطب في النّار أيضًا. * * * {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}. [5] {فِي جِيدِهَا} عنقها {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعًا، وأصله من المَسْد، وهو الفتل الشديد، فبينا هي ذات يوم حاملة حزمة، فأعيت (¬2)، فقعدت على حجر تستريح، فأتاها ملَكٌ فجذبها من حلقها (¬3)، فأهلكها الله (¬4)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 700)، و"التيسير" للداني (ص: 225)، و"تفسير البغوي" (4/ 717)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 266 - 267). (¬2) "فأعيت" زيادة من "ت". (¬3) في "ت": "خلفها". (¬4) لفظ الجلالة "الله" لم يرد في "ت"، وانظر "تفسير الثعلبي" (10/ 327).

سورة الإخلاص

سُوْرَةُ الإخْلاص مختلف فيها، وآيها: أربع آيات، وحروفها: سبعة وأربعون حرفًا، وكلمها: خمس عشرة كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. [1] عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-: أن المشركين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفة الله (¬1) -سبحانه وتعالى عما يقول الكافرون (¬2) -، فنزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ} (¬3) (هو) ضمير الشأن {اللَّهُ أَحَدٌ} معناه: واحد فرد من جميع جهات الوحدانية، ليس كمثله شيء، وهو ابتداء، و (اللَّهُ) ابتداء ثان، و (أَحَدٌ) خبره، والجملة خبر الأوّل. * * * {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}. [2] {اللَّهُ الصَّمَدُ} الّذي لا جوف له؛ لأنّه تعالى ليس بجسم ¬

_ (¬1) في "ت": "نسب ربه". (¬2) في "ت": "الجاهلون". (¬3) انظر: "تفسير الثعالبي" (4/ 450)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 536).

[3]

ولا مركب؛ لأنّه لو كان مركبًا، لكان له باطن، والصمد في كلام العرب: السَّيِّد الذي يُصمد إليه في الأمور، و (اللهُ الصَّمَدُ) ابتداء وخبر، والقراءة وصلًا (أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) منونًا مكسورًا لالتقاء الساكنين، وكان أبو عمرو في أكثر الروايات عنه يسكت عند (هُوَ اللهُ أَحَد)، وزعم أن العرب لا تصل مثل هذا، وروي عنه أنّه قال: وصلُها قراءة موضوعة (¬1)، وروي عنه أنّه قال: أدركت القراء كذلك يقرؤونها (قُلْ هُوَ اللهُ أَحد)، وإن وصلت، نونت، وروي عنه أنّه قال: أحبُّ إليَّ إذا كان رأس آية أن يسكت عندها، وذلك لأنّ الآية منقطعة ممّا بعدها، مكتفية بمعناها، فهي فاصلة، وبها سميت آية، وأمّا وقفهم كلهم، فيسكتون على الدال (¬2). * * * {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)}. [3] {لَمْ يَلِدْ} لعدم المجانسة؛ لأنّه لم يكن له من يجانسه فيتوالد (¬3) {وَلَمْ يُولَدْ} لأنّ كلّ مولود محدَثٌ وجسمٌ، وهو تعالى ليس بجسم ولا محدَث، وهو رد على إشارة الكفار في النسب الّذي سألوه. * * * {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}. [4] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا} خبر (كان)، وأسمها {أَحَدٌ} قرأ حفص عن عاصم: (كُفُوًا) بضم الفاء وفتح الواو من غير همز، وقرأ حمزة، ¬

_ (¬1) في "ت": "محدثة". (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (5/ 536). (¬3) في "ت": "فيتوالد".

ويعقوب، وخلف: بإسكان الفاء مع الهمز، وإذا وقف حمزة، أبدل الهمزة واوًا مفتوحة اتِّباعًا للخط، وقرأ الباقون: بضم الفاء مع الهمز (¬1)، وكلها لغات صحيحة، ومعناها: المثل، المعنى: لا أحد يكافئه، ولا يماثله في شيء ما، وقد احتوت هذه السورة على كلّ صفاته تعالى. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثلثَ القرآن" (¬2)؛ لما فيها من التّوحيد، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 702)، و"التيسير" للداني (ص: 226)، و"تفسير البغوي" (4/ 720)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 272). (¬2) رواه مسلم (811)، كتب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-.

سورة الفلق

سُوْرَةُ الفَلَقْ مدنية، وآيها: خمس آيات، وحروفها: ثلاثة وسبعون حرفًا، وكلمها: ثلاث وعشرون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ روي أن بنات لَبيد بنِ الأعصم اليهودي كنَّ ساحرات، وهن اللواتي سحرْنَ مع أبيهن (¬1) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعَقَدْنَ له إحدى عشرة عقدة، فروي أنّه لبث فيه ستة أشهر، واشتد عليه، حتّى إنّه ليُخَيَّلُ إليه أنّه فعلَ الشيءَ وما فعلَه، وكان تسلُّط السحرِ على ظاهره وجوارحِه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، فأنزل الله إحدى عشرة آية بعدد العقد هُنَّ المعوذتان، وأمره أن يتعوذ بهما، فجعل كلما يقرأ آية، انحلت عقدة، ووجد - صلى الله عليه وسلم - خفة حتّى انحلت عنه العقدة الأخيرة، فقام كأنما أنشط من عقال (¬2). {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}. [1] فقال تعالى (¬3): {قُلْ أَعُوذُ} أستجير {بِرَبِّ الْفَلَقِ} الصُّبح؛ لأنّ ¬

_ (¬1) "أبيهن" ساقطة من "ت". (¬2) انظر: "تفسير الثعلبي" (10/ 338)، و"روح المعاني" للألوسي (30/ 283). وروى قصة سحر لبيدٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: البخاريّ (5433)، كتاب: الطب، باب: السحر، ومسلم (2189)، كتاب: السّلام، باب: السحر، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) في "ت": "قوله تعالى".

[2]

عموده يتفلَّق بالضياء عن الظلام، ومنه: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96]. * * * {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)}. [2] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (ما) بمعنى الّذي يعمُّ كلَّ موجود له شر. وقرأ بعض المعتزلة القائلين بأن الله لم يخلق الشر (مِنْ شَرٍّ) بالتنوين (¬1) (ما خَلَقَ) على النَّفْي، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، فالله (¬2) خالقُ كلِّ شيء. * * * {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)}. [3] {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ} هو القمر {إِذَا وَقَبَ} خسفَ واسودَّ. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، فأشار إلى القمر، فقال: يا عائشة! تعوَّذِي بالله من شرِّ هذا؛ فإن هذا الغاسِقُ إذا وَقَبَ" (¬3). * * * {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)}. [4] {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} السواحر اللواتي ينفثْنَ في عقد ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (8/ 530)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 277). (¬2) في "ت": "الله". (¬3) رواه الترمذي (3366)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المعوذتين، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 61)، وغيرهما.

[5]

الخيط إذا رَقَيْن. قرأ رويس عن يعقوب بخلاف عنه: (النَّافِثَاتِ) بألف بعد النون وكسر الفاء مخففة من غير ألف بعدها، وقرأ روح عن يعقوب أيضًا بخلاف عنه: (النُّفَاثَاتِ) بضم النون [وتخفيف الفاء جمع نُفاثة، وهو ما أنفثته من فيك، وقرأ الباقون: بتشديد الفاء وفتحها وألف بعدها من غير ألف بعد النون (¬1)، وأجمعت المصاحف على حذف الألفين، فاحتملتها] (¬2) القراءات، والكلُّ مأخوذ من النفث، وهو شبهُ النفخ يكون في الرقية، ولا ريقَ معه، فإن كان معه ريق، فهو الثفل، يقال منه: نفث الراقي ينفُث وينفِث -بالضم والكسر-، فالنفاثات في العقد -بالتشديد-: السواحر على مراد تكرار الفعل والاحتراف به، والنفاثات تكون للدفعة الواحدة من الفعل ولتكراره أيضًا، فالقراءات كلها ترجع إلى شيء واحد، ولا تخالف الرسم. * * * {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}. [5] {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أظهر حسده، وعمل بمقتضاه، والحسد أخبثُ الطبائع، وهو تمني زوال النعمة عن مستحقها، سواء كانت نعمة دين أو دنيا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "الحسدُ يأكلُ الحسنات كما تأكلُ النارُ الحطبَ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 404 - 405)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 277). (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت". (¬3) رواه أبو داود (4903)، كتاب: الأدب، باب: في الحسد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإسناده ضعيف. انظر: "فيض القدير" للمناوي (3/ 125).

وقد روي عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنّه قال: "الحاسدُ مُضادٌّ لقضائي، جاحِدٌ لنَعْمائي" (¬1). قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: "ما رأيت ظالمًا أشبهَ بمظلومٍ من الحاسد، غَمٌّ دائم، ونفسٌ متتِابع" (¬2). وأول ذنب عُصي الله تعالى به في السَّماء: حسدُ إبليس لآدم، فأخرجه من الجنَّة، فطرد (¬3)، وصار به شيطانًا رجيمًا، وفي الأرض: حسدُ قابيل لأخيه هابيل، فقتله. وعين الحاسد في الأغلب لا تضر، قال بعضهم: كلّ أحد يمكن أن ترضيه إِلَّا الحاسد؛ فإنّه لا يُرضيه إِلَّا زوالُ النعمة عنك. وأنشد بعضهم: فَكُلٌّ أُداريهِ على حسبِ حالِهِ ... سِوى حاسدٍ (¬4) فَهْيَ الّتي لا أَنالُها وكيفَ يُداري المرءُ حاسدَ نعمةٍ ... إذا كانَ لا يُرضيه إِلَّا زَوالهُا قال الحسين بن الفضل: ذكر الله تعالى الشرور في هذه السورة، ثمّ ختمها بالحسد؛ ليظهر أنّه أخس طبع (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الحكيم التّرمذيّ في "نوادر الأصول" (4/ 19)، عن وهب بن منبه. (¬2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (6635) لكن عن الخليل بن أحمد. (¬3) "فطرد" زيادة من "ت". (¬4) في "ت": "حاسدي". (¬5) انظر: "تفسير الثعالبي" (4/ 453).

[قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَّا حسدَ إِلَّا في اثنتين: رجلٍ أتاه الله مالًا، فسَلَّطَهُ على هلكته في الحق، ورجلٍ آتاه الله حكمةً، فهو يقضي بها، ويُعَلِّمُها" (¬1)] (¬2). وروي أن المراد بالحاسد إذا حسد: اليهود؛ فإنهم كانوا يحسدون النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (73)، كتاب: العلم، باب: الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم (816)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".

سورة الناس

سُوْرَةُ النَّاسِ مدنية، وآيها: ست آيات، وحروفها: ثمانون حرفًا، وكلمها عشرون كلمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}. [1] {قُلْ أَعُوذُ} قرأ ورش عن نافع في السورتين: بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وهو اللام، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزة مع إسكان اللام قبلها (¬1) {بِرَبِّ النَّاسِ} الّذي يملك عليهم أمورَهم، وهو إلههم ومعبودهم، وخُصُّوا بالذكر وإن كان ربَّ كلّ مخلوق (¬2)؛ تشريفًا لهم. * * * {مَلِكِ النَّاسِ (2)}. [2] {مَلِكِ النَّاسِ}. ¬

_ (¬1) "قبلها" زيادة من "ت". وانظر: "مختصر القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: 183)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 281). (¬2) "وإن كان رب كلّ مخلوق" زيادة من "ت".

[3]

{إِلَهِ النَّاسِ (3)}. [3] {إِلَهِ النَّاسِ} عطف بيان لربِّ؛ لأنّه قد يقال لغيره: ربُّ النَّاس؛ كقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وقد يقال: ملكُ النَّاس، وأمّا إلهُ النَّاس، فمختصٌّ به تعالى، لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان، وتكرير النَّاس؛ لما في الإظهار من مزيد البيان، وعطف البيان للبيان، فكأنّه مَظِنَّة للإظهار دون الإضمار. * * * {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)}. [4] {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} اسم من أسماء الشيطان، سمي به؛ لكثرة ملابسته إياه، وهو أيضًا ما توسوس به شهواتُ النفس وتسوِّلُه. {الْخَنَّاسِ} الكثيرِ التأخرِ، له رأس كرأس الحية، يحتم على القلب، فإذا ذكرَ العبدُ ربه، خنس؛ أي: تأخر، فإذا غفل عن ذكر الله، رجع فوضع رأسه على ثمرة القلب، فمنَّاه وحدَّثه. * * * {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)}. [5] {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} إذا غفلوا عن ذكر ربهم، والوسوسة: الصوت الخفي. * * * {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}. [6] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يعني: يدخل في الجني، ويوسوس له؛

كما يفعل بالإنسي، وقيل: هو بيان لمن يوسوس؛ لأنّ الشيطان إنسي وجني؛ لقوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]؛ أي: من شر وسوسة الإنس والجن، ويعضد هذا القول قول ابن عطية رحمه الله: ويظهر أيضًا أن يكون قوله: (وَالنَّاسِ) يراد به من يوسوس بخدعه من البشر، ويدعو إلى الباطل، فهو في ذلك كالشيطان (¬1). وسمي الجن جنًّا؛ لاجتنانهم؛ أي: استتارهم، والناسُ ناسًا؛ لظهورهم؛ من الإيناس، وهو الإبصار، كما سموا بشرًا؛ من البشرة، وهو وجه الجلد. قرأ أبو عمرو، والكسائي: بإمالة فتحة النون من (النَّاسِ) (¬2) حيث وقع هذا الاسم مجرورًا في جميع القرآن، وروي عن الأوّل: الفتح، والوجهان صحيحان عنه من رواية الدوري، وقرأ الباقون: بالفتح (¬3)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" (5/ 540). (¬2) "النَّاس" زيادة من "ت". (¬3) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: 703)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 446)، و"معجم القراءات القرآنية" (8/ 281).

فصل في ختم القرآن العظيم

فَصْلٌ فِي خَتْمِ القُرآنِ العَظِيْمِ روي عن ابن كثير -رحمه الله- أنّه كان إذا انتهى في آخر الختمة إلى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} قرأ سورة {الحمد لله رب العالمين}، وخمسَ آياتٍ من أول سورة البقرة على عدد الكوفي، وهو إلى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ لأنّ هذا يسمى الحالَّ والمرتَحِلَ، ومعناه: أنّه حلَّ في قراءته آخر الختمة، وارتحل إلى ختمة أخرى، وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين في قراءة ابن كثير وغيرها. وورد النص عن الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- أنّه إذا قرأ سورة النَّاس، يدعو عقب ذلك، فلم يستحب أن يصل ختمته بقراءة شيء، وروي عنه قول آخر بالاستحباب (¬1). وقد ورد الحديث الشريف عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أفضلُ الأعمالِ الحالُّ المُرْتَحِلُ" (¬2). وروي عن ابن عبّاس: "أن رجلًا قال: يا رسول الله! أيُّ الأعمال ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 458) وقال: ولعلّه لم يثبت فيه عنده أثر صحيح يصير إليه. (¬2) انظر تخريج الحديث الآتي.

أفضل؟ قال: "عليكَ بالحالِّ المرتحل" قال: وما الحالُّ المرتحلُ؟ قال: "صاحب القرآن، كلما حلَّ ارتحل" (¬1). وروي أيضًا عن ابن عبّاس بزيادة، وهي: يا رسول الله! وما الحالَّ المرتحل؟ قال "فتح القرآن وختمه، صاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله، كلَّما حلَّ ارتحلَ" (¬2). وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "أنّه أمر عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يدعو عند ختم القرآن بهذا الدُّعاء، وهو: "اللهمَّ إنِّي أسأَلُكَ إخباتَ المُخْبِتين، وإخلاصَ الموقنين، ومرافقة الأبرار، واستحقاق حقائق الإيمان، والغنيمةَ من كلِّ بِرّ، والسلامةَ من كلّ إثم، ووجوبَ رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والفوزَ بالجنة، والخلاصَ من النار" (¬3). وروي عن مجاهد: أن الدُّعاء عند ختم القرآن مستجاب. وعن سفيان بن حبيب بن عميرة: إذا ختم الرَّجل القرآن، قَبَّلَ الملَكُ بين عينيه (¬4)، وبلغَ ذلك الإمامَ أحمدَ، فاستحسنه. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2948)، كتاب: القراءات، باب: (13)، وقال: حديث غريب، وإسناده ليس بالقوي، والحاكم في "المستدرك" (2088)، وغيرهما من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما بلفظ: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الحال المرتحل". قال: وما الحال المرتحل؟ قال: "الّذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حلَّ ارتحل". (¬2) انظر تخريج الحديث المتقدم. (¬3) رواه ابن النجار في "تاريخه" عن زر بن حبيش -رضي الله عنه- كما في "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 344). (¬4) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 618).

وعن الإمام البخاريّ أنّه قال: "عندَ كلِّ ختمِ دعوةٌ مستجابة" (¬1). ونص الإمام أحمد على استحباب الدُّعاء عند الختم، وكذا جماعة من السلف، فيدعو بما أحب مستقبلَ القبلة، رافعًا يديه، خاضعًا لله -عَزَّ وَجَلَّ-، خاشعًا بين يديه، محسنًا التأدُّبَ مع الله تعالى، ولا يتكلف السجع في الدُّعاء، بل يجتنبه، ويثني على الله -عَزَّ وَجَلَّ- قبل الدُّعاء وبعده، ويصلّي على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو وهو متيقن الإجابة، ويمسح وجهه بيديه بعد فراغه من الدُّعاء. قال الشّيخ أبو سليمان الداراني - رحمه الله -: إذا سألتَ الله حاجةً، فابدأ بالصلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ ادع بما شئت، ثمّ اختم بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فإن الله سبحانه بكرمه يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما (¬2). قال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السَّماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح، فأركانه: حضور القلب، والرقة، والاستكانة، والخشوع، وتعلّق القلب بالله وقطعه من الأسباب، وأجنحته: الصدق، ومواقيته: الأسحار، وأسبابه: الصّلاة على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمّد، وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهمَّ صلِّ على جميع الأنبياء والمرسلين، حسبنا الله ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 12). (¬2) انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لملا علي القاري (3/ 20). (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" (2/ 311).

* قال جامعه الفقير إلى رحمة ربه عبدُ الرّحمن بنُ محمّد العمريُّ الحنبلي، ستره الله بحلمه، ولطف به في مواقع قضائه وقدره: جمعته بالمسجد الأقصى الشريف -شرفه الله وعظَّمه- بقبة موسى -عَمَرها الله بذكره- تجاه باب السلسة أحدِ أبواب المسجد الشريف في نحو ثمانية عشر شهرًا، وكان الفراغ منه في بكرة يوم الجمعة الغراء، السابع من شهر رمضان المعظم قدره وحرمته من شهور سنة أربع عشرة وتسع مئة، ثمّ بيضته بالمحل الشريف المشار إليه، وكان الفراغ من تبييضه عند أذان الظهر من يوم الأحد الثّاني (¬1) والعشرين من شهر شوال المبارك سنة سبع عشرة وتسع مئة من الهجرة الشريفة النبوية المحمدية، على صاحبها أفضل الصّلاة والسلام، والتحية والإكرام، والحمد لله وحده، وصلّى الله على من لا نبيَّ بعده، ورضي الله عن أصحابه وأولاده وأزواجه وذريته وأهل بيته أجمعين (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) "الحادي" في "ت". (¬2) جاء في آخر النسخة الخطية "ت": "وقد وافق الفراغ من هذا الكتاب في ثامن عشر شهر رمضان المعظَّم قدرُه من شهور سنة ست عشرة وألف، أحسن الله ختامها، على يد أضعف العباد، الراجي عفوَ مالك المحامد، الفقير يحيى بن حامد، وذلك بالمسجد الأقصى الشريف المعظَّم قدرُه، نسأله حسن الخاتمة، والموت على الإسلام، إنّه قريب مجيب من دعاه، وما توفيقي إِلَّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين". (¬3) يقول الفقير إلى الله تعالى: نور الدِّين بن صلاح الدِّين طالب الدومي الحنبلي: تم الفراغ من النظر الأخير في تحقيق هذا الكتاب المبارك في ليلة الجمعة التّاسع من ذي القعدة سنة 1429 هـ، وذلك في مكتبتي العامرة، في مدينة دومة الزاهرة، من أعمال غوطة دمشق، من بلاد الشّام، حامدًا ومصليًّا ومسلمًا على النّبيّ محمّد وآله وصحبه، والحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات.

§1/1