فتح الرحمن في بيان هجر القرآن

محمود الملاح

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة فضيلة الشيخ الدكتور / سعيد بن مسفر القحطاني الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد أنزل الله عز وجل كتابه الكريم ليكون نوراً وهدى للناس وأوجب على عباده تلاوته وتدبره والعمل به، وتحكيمه وصبغ حياتهم بأحكامه في جميع شؤونهم عقيدة وعبادة وشريعة وسلوكاً وأخلاقاً، ويوم تمسكت الأمة بالكتاب الكريم وعملت به دانت لها الدنيا وعاشت حياة العزة والقوة ودخل الناس في دين الله أفواجاً لينعموا بالعيش في ظلاله الوارف. وما لبث الزمان يدور حتى فقدت الأمة عزتها وخسرت مكانتها، وأصبحت في ذيل الأمم؛ وما ظلمها الله ولكن كانت هي الظالمة حين أعرضت عن كتاب ربها وعنوان رقيها ورمز عزتها أعرضت عنه عملاً وتطبيقاً وأعرضت عنه تحاكماً وتحكيماً؛ وحق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل يوم القيامة: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان وقد تناول المصلحون من العلماء والدعاة بالبحث والتحذير والنهي والترهيب حتى تعود الأمة إلى القرآن الكريم ومنهم صاحبا الفضيلة الشيخ / أبو أنس محمد بن فتحي آل عبد العزيز، والشيخ / أبو عبد الرحمن محمود بن محمد الملاح في كتابهما المبارك (فتح الرحمن في بيان هجر القرآن) والذي تضمن بياناً شافياً لحكم هجر القرآن وأنواع الهجر وجمعا فيه أقوال أهل العلم في هذه المسألة المعتمدة على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة.

وإنني بهذه المناسبة لأدعو إلى اقتناء هذا الكتاب وقراءته في حلقات العلم ودروس القرآن وعقب الصلوات في المساجد وفي المجالس الخاصة لنعرف كيف نتعامل مع كتاب الله الكريم كما أدعو الله عز وجل للأخوين الفاضلين بأن يتقبل منهما هذا الجهد المبارك وأن يجزل لهما الأجر. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه،،، كتبه الشيخ الدكتور / سعيد بن مسفر القحطاني الداعية المعروف

مقدمة فضيلة الشيخ / عبد الله بن مانع الروقي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة فضيلة الشيخ / عبد الله بن مانع الروقي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد: فلقد اطلعت على كتاب (فتح الرحمن في بيان هجر القرآن) الذي أعده صاحبا الفضيلة / أبو عبد الرحمن محمود الملاح وأبو أنس محمد بن فتحي آل عبد العزيز، فوجدته مؤلفاً متقناً أفاد فيه مؤلفاه وأجادا في هذا الموضوع المهم، وسدا ثغرة في المكتبة الإسلامية ... وحسب علمي لم يسبق أن جمع فيه أحد قبلهما كجمعهما ... ومن أتى بعدهما فهو عالة عليهما ... وفي هذا الكتاب من النقول المتكاثرة، والتحقيقات المفيدة؛ ما يجعله من الكتب التي يتسابق إلى اقتنائها والاستفادة منها. فجزى الله مؤلفيه خيرا، ونفع بهما، ورزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله على خير خلقه ونبيه ومجتباه. والحمد لله رب العالمين. كتبه الشيخ / عبد الله بن مانع الروقي 8/ 6 / 1429 هـ

مقدمة فضيلة الدكتور / محمود بن أحمد الدوسري

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة فضيلة الدكتور / محمود بن أحمد الدوسري (مؤلف كتاب هجر القرآن العظيم: أنواعه وأحكامه) الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أكرم عباده المؤمنين وشرفهم بكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وجعله هدى ونوراً ورحمةً وفرقاناً وروحاً، وموعظةً وشفاءً، فهو أحسن الحديث، جعله بلاغاً وحجةً على الخلق أجمعين. فما أعظمه من كتاب، فهو عظيم لعظمة من تكلم به، وعظيم لمكانة من نزل به، وعظيم لمقام من أنزل عليه، وعظيم لخيريِّة من خوطب به، وعظيم لفضل الزمان، وحرمة المكان الذي نزل فيهما، وهو عظيمٌ بتشريعاته الشاملة، عظيم بمقاصده السامية، عظيمٌ في تأثيره وأثره، عظيم في لغته وبيانه، فيه الكمال المطلق؛ لأنه كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود، تكلم به حقيقةً، فله الحمد والمنة، وله الشكر والإنعام .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أعلى الله مكانته، وأعطاه الوسيلة، والفضيلة، وجعله الخاتم لرسله، والمنزَّل عليه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (52) سورة الشورى. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. لكن هذا القرآن العظيم زهد فيه كثيرٌ من المسلمين في شتى أنحاء المعمورة

- فضلاً عن غيرهم من أمم الأرض - ووقعوا في أنواع شتى من هجر القرآن؛ كهجر تلاوته، والاستماع إليه، وتعلمه وتعليمه، وتدبره، والعمل به، والاستشفاء به، والتحاكم إليه، والدعوة إليه ... وإن الاشتغال بالقرآن العظيم؛ والتعريف به، ونشره، وتحبيبه إلى النفوس، وتشويق الأفئدة إليه، والتبصير به ولفت الأنظار إليه، والتحذير من هجره، وإقامة الحجة به على الآخرين، لمن أفضل ما يشتغل به، وتنفق فيه الأوقات، وتبذل فيه الأموال، ويضحى فيه بالمهج. وإن من توفيق الله تعالى للشيخين الفاضلين / أبي عبد الرحمن محمود بن محمد الملاح وأبي أنس محمد بن فتحي آل عبد العزيز أن وجدا أنفسهما مشدودين ومندفعين في تحذير المسلمين من هجر القرآن الكريم, فنالا هذا الشرف في تأليف كتابهما القيم: (فتح الرحمن في بيان هجر القرآن) وهو بحقٍ أول كتاب تطرَّق لهذا الموضوع بالتفصيل حسب علمي، وقد أفدت منه إبان إعدادي لرسالة الدكتوراه: (هجر القرآن العظيم: أنواعه وأحكامه) فجزاهما الله خيراً، وجعله في موازين أعمالهما يوم القيامة. وصلى الله على نبينا الكريم وآله وصحبه أجمعين كتبه د / محمود بن أحمد الدوسري الداعية بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد حرر في 5/ 6 / 1429 هـ

مقدمة الطبعة الثالثة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الثالثة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن من نعم الله علينا أن وفقنا لتأليف كتاب (فتح الرحمن في بيان هجر القرآن) رغبةً في الأجر، وتحذيراً للأمة من الوقوع في هجر القرآن بأنواعه المتعددة، وحتى يكون دافعاً للتمسك بكتاب الله، والاستقامة على هديه، والعمل بتعاليمه وأوامره. ونحمد الله عز وجل فإن واقع كثير من الأمة يشهد بعودتها إلى تعلم كتاب الله وتلاوته, والتسابق إلى حفظه ومدارسته, وليس أدل على ذلك من الأعداد المتزايدة في حلقات حفظ القرآن الكريم, للبنين والبنات على اختلاف أعمارهم. ومما يشرح الصدر أن كتابنا هو أول كتاب في المكتبة الإسلامية تناول موضوع هجر القرآن الكريم بالدراسة المستفيضة كما شهد بذلك الكثير من أهل العلم والفضل الذين اطلعوا على الكتاب، وقد اعتمد عليه أحد الباحثين في رسالة الدكتوراه وهو د. محمود بن أحمد الدوسري في رسالته (هجر القرآن العظيم: أنواعه وأحكامه) , كما شهد بذلك في مقدمته, فإنه قد اعتمد خطة بحثه بصورة كبيرة من كتابنا ونقل أبحاثاً كاملة, مثل: مبحث أسباب هجر التلاوة, ونماذج من استماع القرآن ... وغيرها, وقد أعددنا تقريراً تفصيلياً عن ذلك يزيد صفحاته عن عشرين صفحة, لكننا أعرضنا عن ذكره هنا؛ مخافة الإطالة على القارئ, واكتفاء بما ذكره الدكتور في مقدمته, وبالاطلاع على فهرس الكتابين يتضح لكل ذي

عينين مدى استفادة الدكتور من الكتاب. نسأل الله أن ينفع بالكتابين ويكتب لهما القبول. وهذه الطبعة الثالثة لكتابنا وهي مزيدة ومنقحة وتتميز عن سابقتيها بما يلي: - زيادة بعض الأبحاث والفتاوى, كما في فتاوى في استماع القرآن, والاستعانة بالجن في العلاج, وتعريف التلاوة لغة واصطلاحاً ... وغيرها مما سيراه القارئ في موطنه. - إعادة التنسيق ومراعاة الفقرات وزيادة بعض العناوين الجانبية، وخاصة في باب هجر التلاوة. - تجنب الأخطاء المطبعية, وإحالة الكلام إلى مصدره حيث سقطت بعض الهوامش في الطبعة الثانية. وأخيراً: لا يشكر الله من لا يشكر الناس فإن الفضل بعد الله في إخراج الكتاب وإعداده ومراجعته إلى مجموعة من الأفاضل وعلى رأسهم: 1 - فضيلة الشيخ / محمد حسان - حفظه الله - حيث كان له أكبر الأثر في التشجيع على جمع مادة هذا الكتاب. 2 - فضيلة الشيخ / محمد صفوت الشوادفي - رحمه الله - رئيس تحرير مجلة التوحيد المصرية, الذي قام بمراجعة بعض أبحاث الكتاب, وقد وافته المنية قبل كتابة مقدمته. 3 - فضيلة الشيخ / إبراهيم بن محمد عبد العزيز - رحمه الله - صاحب دار أم القرى للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة.

4 - فضيلة الشيخ / محمد نبيه ضيف الله - حفظه الله - الواعظ بالأزهر الشريف والداعية المعروف بمحافظة الشرقية بمصر. 5 - فضيلة الشيخ / جمال عبد الرحمن, مدير شؤون القرآن والسنة بجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر. وغيرهم كثير؛ فجزى الله كل من ساعدنا بكلمة أو جهد أو دعاء، ونسأل الله أن ينفع بهذه الطبعة، وأن يكتب لها القبول, وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن في الدنيا والآخرة. كتبه أبو أنس محمد بن فتحي آل عبد العزيز أبو عبد الرحمن محمود بن محمد الملاح عصر الجمعة الموافق 23/ 6 / 1429 هـ الرياض - المملكة العربية السعودية

مقدمة الطبعة الأولى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70 - 71) سورة الأحزاب أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (¬1). إن الله - جل وعلا - أنزل إلينا كتاباً فيه خبر ما قبلنا، وحكم ما بيننا، ونبأ ما بعدنا، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجِرَ، ومن حكم به عدل، ومن ¬

(¬1) هذه خطبة الحاجة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بها خطبه ودروسه ومواعظه، للشيخ الألباني - رحمه الله - رسالة نافعة فيها فراجعها.

دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم (¬1). أنزل الله هذا القرآن ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (15 - 16) سورة المائدة لقد تمسك السلف الصالح بالقرآن الكريم، وحولوا تلك الآيات إلى منهج حياة متكامل، بأوامره يأتمرون، وبنواهيه ينتهون، بل حولوها إلى رجال تتحرك في واقع البشر؛ فكان القرآن مصدر عزهم وشرفهم وسيادتهم، ومن ثَمَّ جعلهم القرآن قادة وسادة للأمم بعد أن كانوا رعاة للإبل والغنم، ولكن شتان ما بين الخلف الطالح والسلف الصالح، فإننا نشهد هجراً للقرآن على جميع المستويات بشتى الأشكال: هجراً للتلاوة، والاستماع، والتدبر، والعمل، والتحاكم، ¬

(¬1) هذا حديث جميل المعنى، ولكن إسناده ضعيف، فيه الحارث الأعور، وهو لين، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب، ولعل أصله موقوف على عليّ - رضي الله عنه - فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي، وقد ضعفه الترمذي فقال: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول وفي الحارث مقال) قاله الألباني - رحمه الله - في تخريج الطحاوية ص (71)، وضعفه أيضاً في ضعيف الترمذي (554). وقال أبو إسحاق الحويني: ولا يصح الحديث موقوفاً أيضاً لعدم صحة الأسانيد بذلك. انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير تحقيق أبي إسحاق الحويني (1/ 149 - 150) الطبعة الأولى 1417 هـ، دار ابن الجوزي بالدمام.

سبب تأليف الكتاب

والتداوي والاستشفاء بالقرآن، حتى صدق على الكثير منا قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان فالذي يرفع الشكوى هو الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - والذي يشكى إليه هو الله رب العالمين، ويشكو قومه الذين هجروا القرآن، وأعرضوا عن ذكر الواحد الديان، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. سبب تأليف الكتاب: لقد هجر القرآن تلاوة .. وأعرض الكثير عن مذاكرته وحفظه، ومجالس تدارسه بالرغم من حرصهم الشديد على مطالعة الصحف والمجلات ليتابعوا بلهف وشوق أخبار من لا خلاق لهم من الساقطين والساقطات!!. لقد هجر القرآن استماعاً .. بل ارتبط استماع القرآن في أذهان كثير من المسلمين بالأحزان والسرادقات التي تقام للمآتم!! بل أقبل الناس على سماع اللهو والغناء والمزمار وهجروا قرآن العزيز الغفار!! لقد هجر القرآن تدبراً .. القرآن الذي لو أنزله الله على الجبال الرواسي الشامخات لتصدعت من خشية الله، إذا به يقرأ، وآيات الوعد والوعيد تسمع، ولكن قلوب قاسية، وأبدان جامدة، وعيون متحجرة، فلا قلب يخشع، ولا بدن يخضع، ولا عين تدمع!! لقد هجر القرآن عملاً .. فإذا بالقرآن الذي هو منهاج حياة متكامل يصير في واقع الناس آيات تقرأ عند القبور، ويهدى ثوابها للأموات، أو تصنع منه التمائم والأحجبة تعلق على صدور الغلمان والصبيان، أو يوضع في البيوت والمحلات والسيارات للحفظ والبركة!!

منهج الكتاب

لقد هجر القرآن تحاكماً .. ووقع المنكر الأعظم .. وذلك بتنحية كتاب الله عن الحكم بين الناس، واتهام الشريعة الإسلامية بالضعف والعجز والقصور والتخلف والرجعية .. وحل محلها القانون الوضعي وأقوال الرجال تحكم في الدماء والأموال والأعراض!! لقد هجر القرآن استشفاءً وتداوياً .. ولجأ بعض الناس إلى السحرة والعرافين والدجالين يطلبون منهم الشفاء والدواء لأمراضهم!!. ومن أجل هذا كله؛ استعنا بالله وحده في جمع مادة هذا الكتاب رغبة في الأجر، ونصحاً للأمة، وتحذيراً من هجر القرآن، وبيان عواقبه في الدنيا والآخرة لعله يكون دافعاً إلى العودة إلى القرآن الكريم مصدر العز والشرف والسيادة منهج الكتاب: ولقد اتبعنا منهجاً مرضياً - إن شاء الله - في جمع مادة هذا الكتاب، وقد جمعنا أقوال أهل العلم السابقين والمعاصرين ونسقنا بينها ورتبناها، وقد عزونا كل نقل إلى مصدره في هوامش الكتاب؛ مكتفين بذلك عن ثبت المراجع في آخر الكتاب. ولم نتدخل بأسلوبنا إلا في النزر اليسير إذا اقتضى الحال، وذلك لبيان غامض أو شرح ما خفي على القارئ، وقد عزونا الآيات القرآنية إلى مواضعها من كتاب الله موضحين اسم السورة، ورقم الآية، وخرجنا الأحاديث النبوية، ووضحنا درجتها من الصحة أو الضعف، معتمدين - في الغالب - على كتب علامة الشام ومحدث ديار الإسلام الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -؛ وذلك لسهولة التعامل مع كتبه والأخذ منها. لقد سمينا الكتاب بعد مشورة الإخوان (فتح الرحمن في بيان هجر القرآن).

والكتاب يتضمن تمهيداً وستة أبواب وخاتمة على النحو التالي: التمهيد: هجر القرآن (معناه - عاقبته - أنواعه). الباب الأول: هجر التلاوة. ... الباب الثاني: هجر الاستماع. الباب الثالث: هجر التدبر. ... الباب الرابع: هجر العمل. الباب الخامس: هجر التداوي والاستشفاء. الباب السادس: هجر التحاكم. ... والخاتمة: نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همنا وغمنا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا، وأن يوفقنا للعمل به، والتحاكم إليه. ونسأله - سبحانه وتعالى - أن ينفع بهذا الكتاب، ويكتب له القبول، وأن يجزي كل من ساهم في إخراجه خير الجزاء، وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ، أو زلل، أو تقصير فمنا، ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وجزى الله خيراً من رأى فيه خللاً فأرشدنا إليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. كتبه أبو أنس محمد بن فتحي آل عبد العزيز أبو عبد الرحمن محمود بن محمد الملاح

تمهيد هجر القرآن

تمهيد هجر القرآن وفيه فصلان: الفصل الأول: معنى هجر القرآن. الفصل الثاني: عاقبة هجر القرآن.

الفصل الأول معنى هجر القرآن

الفصل الأول معنى هجر القرآن

يتضح معنى هجر القرآن من خلال هذا العرض لأقوال العلماء والمفسرين في بيان قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله -: (واختلف أهل التأويل في معنى اتخاذهم القرآن مهجوراً، القول الأول: كان اتخاذهم ذلك هُجراً، قولهم فيه السيئ من القول، وزعمهم أنه سحر، وأنه شعر. عن مجاهد قوله: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان قال: يهجرون فيه بالقول، يقولون: هو سحر. وعن مجاهد أيضاً قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ ...} الآية. يهجرون فيه بالقول، قال مجاهد: وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} (67) سورة المؤمنون. قال: مستكبرين بالبلد سامراً مجالس تهجرون، قال: بالقول السيئ في القرآن غير الحق. عن إبراهيم في قوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} قال: قالوا غير الحق، ألم تر إلى المريض إذا هذى قال غير الحق. القول الآخر: بل معنى ذلك الخبر عن المشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولم يسمعوا به. قال ابن زيد في قول الله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ

مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان. لا يريدون أن يسمعوه، وإن دعوا إلى الله قالوا: لا. وقرأ: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (26) سورة الأنعام. قال: ينهون عنه، ويبعدون عنه. ترجيح ابن جرير الطبري: (قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بتأويل ذلك، وذلك أن الله أخبر عنه أنهم قالوا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) سورة فصلت. وذلك هجرهم إياه) (¬1). قال الإمام الألوسي البغدادي - رحمه الله -: (والمراد بالرسول نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم -، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتحقيق العدل والرد على نحورهم حيث كان ما حكى عنهم قدحاً في رسالته - صلى الله عليه وسلم - أن قالوا: كيت وكيت، وقال الرسول إثر ما شاهد منهم غاية العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه - عز وجل - والشكوى عليهم {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي} الذين حكى عنهم ما حكى من الشنائع {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ} الجليل الشأن المشتمل على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم: {مَهْجُورًا} أي متروكاً بالكلية، ولم يؤمنوا به ولم يرفعوا إليه رأساً ولم يتأثروا بوعيده ووعده، فمهجوراً من الهَجر بفتح الهاء بمعنى الترك وهو الظاهر، وروي ذلك عن مجاهد والنخعي وغيرهما، واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعهده بالقراءة فيه، وكان ذلك لئلا يندرج من لم يتعاهد القراءة فيه تحت ظاهر النظم الكريم، فإن ظاهره ذم الهجر مطلقاً وإن كان المراد به عدم ¬

(¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام ابن جرير الطبري (11/ 9) بتصرف طبعة دار الفكر، عام 1405 هـ.

القبول لا عدم الاشتغال مع القبول ولا ما يعمهما فإن كان مثل هذا يكفي في الاستدلال فذاك وإلا فليطلب دليلاً آخراً للكراهة. وأورد بعضهم في ذلك خبراً وهو " مَنْ تعلَّم القرآن وعلَّق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه " وقد تعقب هذا الخبر العراقي بأنه روي عن أبي هدبة وهو كذَّاب، والحق أنه متى كان ذلك مخلاً باحترام القرآن، والاعتناء به كَرِه، بل حرم وإلا فلا. وقيل: مهجوراً من الهُجر بالضم على المشهور أي الهذيان وفحش القول، والكلام على الحذف والإيصال أي جعلوه مهجوراً فيه إما عن زعمهم الباطل نحو ما قالوا أنه أساطير الأولين اكتتبها، وإما بأن هجروا فيه ورفعوا أصواتهم بالهذيان لما قرئ لئلا يسمع كما قالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (26) سورة فصلت. وفي هذه الشكوى من التخويف والتحذير ما لا يخفى فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا) (¬1). قال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله -: وفي المراد بقوله: {مَهْجُورًا} قولان: أحدهما: متروكاً لا يلتفتون إليه ولا يؤمنون به، وهذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: هجروا فيه، أي: جعلوه كالهذيان، ومنه يقال: فلان يَهْجُر في منامه، أي: يَهْذي، قاله ابن قتيبة، وقال الزجاج: الهُجْر: ما لا ينتفع به من القول ..). (¬2) ¬

(¬1) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للإمام الألوسي البغدادي (19/ 13 - 14) طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة 1405 هـ. (¬2) زاد المسير في علم التفسير للإمام ابن الجوزي (6/ 87 - 88) طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى.

قال الإمام الشنقيطي - رحمه الله -: (معنى هذه الآية الكريمة ظاهر، وهو أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - شكى إلى ربه هجر قومه وهم كفار قريش لهذا القرآن العظيم، أي تركهم لتصديقه والعمل به، وهذه شكوى عظيمة وفيها أعظم تخويف لمن هجر القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من عقائد، ويعتبر لما فيه من الزواجر والقصص والأمثال) (¬1). الخلاصة: مما سبق يتضح أن هجر القرآن يقع على المعاني الآتية: 1 - القول السيئ في القرآن، والزعم الباطل بأنه سحر أو شعر أو أساطير الأولين (قول مجاهد والنخغي وغيرهما). 2 - الإعراض والبعد عن القرآن، وعدم سماعه، ورفع أصواتهم بالهذيان إذا قرئ لئلا يسمع. (قول ابن زيد، وابن جرير). 3 - الترك كلياً: أي تركهم للإيمان به، وتركهم للعمل به، وكذلك عدم الالتفات إليه. (قول ابن عباس، ومقاتل). 4 - وسيأتي مزيد بيان لمعنى هجر القرآن عند ذكر أنواعه. ¬

(¬1) أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للإمام محمد الأمين الشنقيطي (6/ 48) طبعة دار الفكر.

الفصل الثاني عاقبة هجر القرآن

الفصل الثاني عاقبة هجر القرآن وفيه مبحثان: الأول: حكم هجر القرآن. الثاني: أنواع هجر القرآن.

تعال معنا - أخي الحبيب - لنتعرف على عاقبة من هجر القرآن، وأعرض عنه في الدنيا والآخرة: 1 - إن صاحب الهجر والإعراض من أعظم الناس ظلماً. 2 - يجعل الله على قلبه الأكنة - أغطية وغشاوة - حتى لا تفقه الحق، وعلى الآذان الوقر - الصمم المعنوي عن الرشاد -. 3 - صاحب الهجر من الضالين، وأخبر الله عن عدم اهتدائه أبداً إلى الحق. الدليل على هؤلاء قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (57) سورة الكهف 4 - انتقام الله من المعرضين عن القرآن، ووصفهم بالإجرام. قال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (22) سورة السجدة 5 - كون المعرض كالحمار قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (49 - 51) سورة المدثر 6 - ينذر الله من هجر القرآن ويتوعده بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (13) سورة فصلت

7 - المعيشة الضنك في الدنيا. قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} (124) سورة طه. إن مَنْ هجر القرآن يعيش معيشة ضنكاً، وهذه الكلمة صعبة في النطق كأنها تشير إلى صعوبة تلك الحياة. قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في بيان حال من هجر القرآن: (في الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبه يتردد فهذا من ضنك المعيشة .. وجاء أيضاً في تفسير الضنك بأنه الكسب الحرام، والعمل السيئ، والرزق الخبيث، وأنه عذاب القبر وضمته). (¬1) قال الإمام الشنقيطي - رحمه الله -: (وهذه الأقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً، والأولى شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة). (¬2) 8 - يحشر يوم القيامة أعمى. قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (124 - 126) سورة طه سبحان الله! يحشر من أعرض عن القرآن يوم القيامة أعمى، بعد أن كان بصيراً في الدنيا، لكنه ما نظر بعينه إلى القرآن فتلاه، وعمل بمقتضاه، لكنه أعرض عنه، وهجره، وتناساه؛ فصار كالأعمى الذي حرم نعمة البصر؛ لأن الجزاء من جنس العمل. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 173) بتصرف، طبعة المكتبة القيمة. (¬2) أضواء البيان للشنقيطي (4/ 595 - 596) طبعة مكتبة ابن تيمية.

قال مجاهد، وأبو صالح، والسدي: {أَعْمَى}: لا حجة له. وقال عكرمة: عُمِّيَ عليه كُلُّ شيء إلا جهنم. وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث، أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً، كما قال تعالى {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} (97) سورة الإسراء) (¬1). 9 - يسلكه الله عذاباً صعداً. قال تعالى: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (17) سورة الجن. قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (أي عذاباً مشقاً، شديداً، موجعاً، مؤلماً. قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد: {عَذَابًا صَعَدًا} أي مشقة لا راحة معها، وعن ابن عباس: جبل في جهنم، وعن سعيد بن جبير: بئر فيها) (¬2). لا إله إلا الله! مَنْ منا يقوى على هذا العذاب؟ فهل من توبة إلى الله؟. 10 - يقيض الله له قريناً من الشيطان. قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (36) سورة الزخرف (يقول تعالى: {وَمَن يَعْشُ} أي: يتعامى، ويتغافل، ويعرض {عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} والعشا في العين: ضعف بصرها، والمراد هنا: عشا البصيرة {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} قال تعالى: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا} (38) سورة النساء. أي هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ويهديه إلى صراط الجحيم، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 174) طبعة المكتبة القيمة. (¬2) تفسير ابن كثير (4/ 431).

فإذا وافى الله - عز وجل - يوم القيامة يتبرأ من الشيطان الذي وُكِّلَ به: {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (38) سورة الزخرف) (¬1). 11 - الحسرة والندامة يوم القيامة. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} (27 - 29) سورة الفرقان. 12 - وقوعه تحت شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان قال الإمام الشنقيطي - رحمه الله -: (وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال) (¬2). فكيف يكون حال من هجر القرآن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة؟ وإذا به يتجه مع المسلمين - وكله شوق وحنين - لرؤية النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - ليشرب من يده شربة هنيئة، لا يظمأ بعدها أبداً، فإذا به يفاجأ بالملائكة تطرده عن الحوض، وتبعده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمتي أمتي» فتقول الملائكة: إنك لا تدري ماذا أحدثوا من بعدك، فيدعو عليهم رسول الله بالهلاك والدمار فيقول: «سُحْقاً سُحْقاً». ¬

(¬1) المرجع السابق (4/ 128) بتصرف. (¬2) أضواء البيان (6/ 48) طبعة دار الفكر.

13 - حرمان شفاعة القرآن يوم القيامة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (¬1). وقال أيضاً: «القرآن حجة لك أو عليك» (¬2). بالله عليك كيف يشفع القرآن في رجل هجره، وأعرض عنه، وأقبل على غيره من كلام البشر يقرأه، أو يسمعه؟ فإن المحروم حقيقةً من حرم شفاعة القرآن يوم القيامة. 14 - يختم لمن هجر القرآن بسوء الخاتمة. إن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن الاستفادة منه فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن استغله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه. والإنسان يعيش على ما نشأ عليه، ويموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من وفقه الله إلى عمل صالح ثم يقبضه عليه، والشقي من حرم ذلك، ومنهم من هجر القرآن، ونسوق قصة واحدة على ذلك: قال الشيخ محمد حسان - حفظه الله -: (وهذه قصة رجل ينقلها إليَّ أحد إخواننا في المنصورة فيقول: لقد كان جاري لا يصلي، ومدمناً للغناء، وذكرته مراراً فلم يتذكر، فلما نام على فراش الموت صعدت إليه، ولا زال الغناء يسمع في ¬

(¬1) رواه مسلم عن أبي أمامة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم والترمذي وابن ماجة والنسائي عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -. انظر صحيح الترغيب رقم (184).

البيت، فقلت لأهله: اتقوا الله أبوكم يحتضر والغناء لا ينقطع ‍‍‍‍‍‍! ضعوا شريطاً للقرآن. يقول: فلما أخرجت شريط الغناء من الكاسيت، ووضعت شريطاً للقرآن، كشف الرجل الغطاء عن وجهه ونظر إليَّ، وقال: دع الغناء، فإنه ينعش قلبي ‍‍‍‍‍‍‍‍. ومات عليها. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (¬1). وبعد هل تريد - أخي الحبيب - أن تكون مع هؤلاء؟ ‍ وتكون منهم في يوم من الأيام؟ ‍‍‍ تتصف بأوصاف من هجر القرآن؟ ‍ وتحشر معهم يوم القيامة؟ هل تريد أن تكون في الدنيا: ظالماً، ضالاً، مجرماً، كالحمار، قريناً للشيطان، تعيش معيشة ضنكاً، ثم الخاتمة السيئة؟ ‍نعوذ بالله من الخذلان. أم تريد أن تكون في الآخرة: ممن يعذب في القبر، ويحشر أعمى يوم القيامة، ويكون من أهل الحسرة والندامة والحزن والأسف، وممن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، ويشكو منه، أو ممن يحرم من شفاعة القرآن، ثم العذاب الصعد الصعب الشاق في جبل في جهنم أو في بئر منها. نسأل الله السلامة والعافية. هل من توبة؟ ‍ يغفر الله بها الذنوب، ويستر بها العيوب، ويصلح بها فساد القلوب، ويبدل بها السيئات حسنات. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (53) سورة الزمر ¬

(¬1) الثبات حتى الموت ص (51) للشيخ الفاضل محمد حسان - حفظه الله - دار ابن رجب.

حكم هجر القرآن

يا مَنْ هجرت القرآن، تب إلى الله، والحق قافلة العائدين إلى الله، التي تزداد يوماً بعد يوم، ورافق أهل القرآن حتى تكون منهم، تفز بالسعادة في الدارين. حكم هجر القرآن سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم هجر القرآن؟ وهل هو حرام أم مكروه؟. فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد: أنزل الله القرآن للإيمان به وتعلمه وتلاوته وتدبره والعمل به وتحكيمه والتحاكم إليه والاستشفاء به من أمراض القلوب وأدرانها إلى غير ذلك من الحكم التي أرادها الله من إنزاله. والإنسان قد يهجر القرآن فلا يؤمن به ولا يسمعه ولا يصغي إليه، وقد يؤمن به ولكن لا يتعلمه، وقد يتعلمه ولا يتلوه، وقد يتلوه ولكن لا يتدبره، وقد يحصل التدبر ولكن لا يعمل به، فلا يحل حلاله ولا يحرم حرامه ولا يحكمه ولا يتحاكم إليه ولا يستشفي به مما فيه من أمراض في قلبه وبدنه، فيحصل الهجر للقرآن من الشخص بقدر ما يحصل منه من الإعراض كما سبق (¬1). فعلى العبد أن يتقي الله في نفسه وأن يحرص على الانتفاع بالقرآن في شتى وجوه الانتفاع، ويفوته من الخير بقدر ما يتصف به من الهجر). وإلى نفس المعنى وهو أن الهجر لا يأخذ حكماً واحداً، ولكن يختلف باختلاف الأشخاص، وعلى حسب ما فيه من الهجر، أشار الإمام ابن القيم - رحمه الله - ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/ 68، 69) من الفتوى رقم (8844) طبعة دار أولي النهى. الطبعة الأولى. .

أنواع هجر القرآن

فقال بعد ما ذكر أنواع هجر القرآن: (وإن كان بعض الهجر أهون من بعض). (¬1) وسيأتي مزيد بيان لحكم هجر القرآن عند ذكر أنواعه. أنواع هجر القرآن قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - موضحاً أنواع هجر القرآن في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان. يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي ...} الآية. وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) سورة فصلت. فكانوا إذا يتلى عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه، فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه، فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء، وأن يخلصنا مما يسخطه، ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه، آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب). (¬2) وبَيَّن الإمام ابن القيم - رحمه الله - أنواع هجر القرآن فقال: هجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. ¬

(¬1) الفوائد ص (112) طبعة الريان. (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 327) طبعة المكتبة القيمة.

والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به. وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان. وإن كان بعض الهجر أهون من بعض). (¬1) ومما سبق يتضح أن أنواع هجر القرآن والتي ستكون موضوع كتابنا - إن شاء الله - ستة أنواع: الأول: هجر التلاوة. الثاني: هجر الاستماع. الثالث: هجر التدبر. الرابع: هجر العمل. الخامس: هجر التحاكم. السادس: هجر التداوي والاستشفاء. (اعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره، ثم لم يحكم أمره؛ ولكن اقتصرنا من كل نوع على أصوله والرمز ¬

(¬1) الفوائد لابن القيم (112) طبعة الريان.

إلى بعض فصوله؛ فإن الصناعة طويلة والعمر قصير، وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير) (¬1). ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن للإمام الزركشي (1/ 32). دار الفكر، الطبعة الأولى.

الباب الأول هجر التلاوة

الباب الأول هجر التلاوة وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: أسباب هجر التلاوة. الفصل الثاني: صور من هجر التلاوة. الفصل الثالث: أحوال الناس مع القرآن الكريم. الفصل الرابع: فضل تلاوة القرآن الكريم. الفصل الخامس: آداب وأحكام تلاوة القرآن الكريم.

الفصل الأول أسباب هجر التلاوة

الفصل الأول أسباب هجر التلاوة

تمهيد

تمهيد لقد هجر كثير من الناس كتاب ربهم هجراً لم تعرفه الأمة من قبل، فإذا بالواحد منا - إلا مَنْ رحم الله - في هذه الأوقات لا نقول تمر عليه الساعات لكن الأيام والأسابيع بل الشهور، وهو لا يتذكر أنه فتح مصحفاً أو قرأ آيات من كتاب ربه - سبحانه وتعالى - على الرغم من حرصه الشديد على قراءة الجرائد والصحف والمجلات ليتابع بلهف وشوق أخبار من لا خلاق لهم من اللاعبين واللاعبات، والفنانين والفنانات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكم من بيوت خربة وصدور جوفاء تعيش بيننا ولا تدري عن هذا الخراب شيئاً. معنى التلاوة لغة واصطلاحًا التلاوة لغة: مصدر تلا الشيء يتلوه, وهذا المصدر مأخوذ من مادة (ت ل و) التي تدل بحسب وضع اللغة على معنى واحد هو الإتباع, يقال: تلوته إذا تبعته, ومنه تلاوة القرآن لأن القارئ يتبع آية بعد آية, ويختلف مصدر الفعل (تلا) باختلاف الشيء المتلو. يقول الراغب: تلا الشيء أي تبعهم متابعة ليس بينها ما ليس منها, وذلك

التلاوة اصطلاحا

يكون تارة بالجسم وتارة بالاقتداء في الحكم, والمصدر حينئذ هو التُّلُوُّ والتِّلْوُ, وتارة بالقراءة وتدبر المعنى, والمصدر في هذه الحالة هو (التلاوة). (¬1) وقال ابن منظور: تلوته أتلوه وتلوت عنه تلواً, كلاهما: خذلته وتركته, وتلوته تلواً: تبعته. يقال: ما زلت أتلوه حتى أتليته أي تقدمته وصار خلفي. وأتليته: أي سبقته، وتلوت القرآن: تلاوة: قرأته, وعمَّ به بعضهم كل كلام. وقوله عز وجل: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} قيل: هم الملائكة, وجائز أن يكون الملائكة وغيرهم ممن يتلون ذكر الله تعالى. وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} (121) سورة البقرة. معناه يتبعونه حق اتباعه ويعملون به حق عمله. وقوله عز وجل: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (102) سورة البقرة. قال عطاء: على ما تُحَدِّث وتَقُصُّ, وقيل: ما تتكلم به كقولك فلان يتلو كتاب الله أي يقرأه ويتكلم به (¬2). التلاوة اصطلاحاً: ويراد بترتيل القرآن: تلاوته تلاوة تبين حروفها ويتأنى في أدائها ليكون أدنى إلى فهم المعاني. والتلاوة عند القراء: قراءة القرآن الكريم متتابعاً كالأوراد والأسباع (¬3) ". ¬

(¬1) نضرة النعيم (4/ 1176) (¬2) لسان العرب (14/ 102 - 104) , ومقاييس اللغة (1/ 351) والمفردات للراغب ص75. (¬3) فتح الباري (8/ 707) , وكشاف اصطلاحات الفنون (1/ 224).

أسباب هجر التلاوة

أسباب هجر التلاوة إن أسباب هجر القرآن كثيرة ومتعددة تختلف من شخص لآخر وكذلك تختلف حسب نوع هجر القرآن وسيأتي بيان أسباب هجر كل نوع من أنواع هجر القرآن في مكانه ولكننا نذكر أهم الأسباب العامة التي تؤدي إلى هجر التلاوة وهي: أولاً: الجهل بفضل تلاوة القرآن الكريم. ثانياً: الانشغال بالدنيا. ثالثاً: الفتور وضعف الهمة. رابعاً: تقديم طلب العلوم الأخرى على القرآن. خامساً: الغزو الفكري والحرب المعلنة ضد القرآن. وسوف نتناول هذه الأسباب بشيء من التفصيل وذلك بعون الله وتوفيقه. أولاً: الجهل بفضل تلاوة القرآن الكريم: إن جهل الكثير من أبناء المسلمين بفضل تلاوة القرآن الكريم، والثواب المترتب عليه، من أكبر الدواعي لهجر تلاوة القرآن، وعدم الاعتناء بتحصيله، والمداومة على تلاوته. ولو يعلم المرء ما في هذا القرآن الكريم من الفضل العظيم، والثواب الجزيل، ومنزلة قارئه في الدنيا والآخرة؛ لجعله أنيسه آناء الليل وأطراف النهار، وما غفل عنه طرفة عين، ويكفي أن تعلم - أخي الحبيب - حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، بل ألف

حرف، ولام حرف، وميم حرف» (¬1) وحديث: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (¬2). قال خباب بن الأرت - رضي الله عنه -: (تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر, فإن كان يحب القرآن, فهو يحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -) (¬3). وقال بعض السلف لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا. قال: واغوثاه لمؤمن لا يحفظ القرآن فَبِمَ يترنم؟ فَبِمَ يتنعم؟ فَبِمَ يناجي ربه؟ ‍‍. وسيأتي مزيد بيان لفضائل تلاوة القرآن وسوره في الفصل الرابع من هذا الباب. ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم، والدارمي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (660)، وصحيح الجامع الصغير (6469). (¬2) (حديث صحيح) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح. ورواه أبوداود، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1317)، وصحيح الجامع (8122). (¬3) (سنده صحيح) أخرجه الطبراني في الكبير (ج9 / رقم 8657). قال الهيثمي في (المجمع) (7/ 165): رجاله ثقات. وقال أبو إسحاق الحويني: سنده صحيح. انظر تفسير ابن كثير - تحقيق الحويني (1/ 152).

ثانيا: الانشغال بالدنيا

ثانياً: الانشغال بالدنيا: إن الواقع الذي يعيشه بعض هذه الأمة من البعد عن الله، والجرأة على ما حرم الله، والتعامل بالربا، وغير ذلك من المعاصي والآثام؛ أوقعهم في المعيشة الضنك التي توعد الله بها أمثالهم قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (124 - 126) سورة طه فبدأ الناس يلهثون وراء الدنيا، ويواصلون الليل بالنهار، لسد تلك الاحتياجات الضرورية فضلاً عن الكمالية وقلما يجد أحدهم وقتاً يقرأ فيه القرآن أو يستمعه، فما أن يعود إلى بيته فيجد نفسه منهكاً متعباً يتمنى رؤية الفراش، فمثله كما روي ذلك عن النبي: - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبغض كل جعظري جواظ (¬1)، سخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بالدنيا، جاهل بالآخرة» (¬2). ولو يعلم هؤلاء الغاية التي خلقوا من أجلها - لتغير حالهم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (56 - 58) سورة الذاريات. - لوجب عليهم الاعتناء بما خلقوا له والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة، فإنها دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشرع انفصام لا موطن دوام، فملكها يفنى، وجديدها يبلى، وكثيرها يقل، وعزيزها يذل، وحيها يموت، وخيرها يفوت، ¬

(¬1) (جعظري): فظ غليظ متكبر، (جواظ): الجموع المنوع. انظر صحيح الجامع (1/ 382). (¬2) رواه البيهقي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1878) والسلسلة الصحيحة (195) وقد رأى الألباني ضعفه مؤخراً في السلسلة الضعيفة.

ثالثا: الفتور وضعف الهمة

ولهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العباد، وأعقل الناس فيها هم الزهاد، وصدق الله إذ يقول: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} (45) سورة الكهف فينبغي للعاقل أن يعمل للآخرة، ويسعى لها، وأن يأخذ من الدنيا بقدر ما يوصله إلى الآخرة قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص ولقد أحسن القائل: إن لله عباداً فطناً ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلمَّا علموا ... أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجةً واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا (¬1) ثالثاً: الفتور وضعف الهمة: إن الفتور وضعف الهمة من الأمراض التي تكاد تعصف بالكثير منا، فلا تكاد تجد من يحافظ على شيء، أو يهتم به _ إلا من رحم الله _، فما أن يمسك المرء المصحف يوماً حتى يتركه أياماً. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في شأن ضعيف الهمة: (لا شيء أقبح بالإنسان أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية، والعلوم النافعة، والأعمال ¬

(¬1) رياض الصالحين للإمام النووي (18) دار الفيحاء بدمشق، دار السلام بالرياض الطبعة الثالثة عشر حققه عبد العزيز رباح وأحمد يوسف الدقاق وراجعه الشيخ شعيب الأرناؤوط.

الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع، الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد، فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء) وقال أيضاً: (وهذا الصنف شر البرية، رؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الدار، ويغلون الأسعار، لا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، وينطقون ولكن عن الهوى ينطقون، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون ..) (¬1). ومن الأدوية النبوية لعلاج ضعف الهمة: المداومة على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها وإن قلت. عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة فقال: «مَنْ هذه؟» قالت: فلانة تذكر من صلاتها. قال: «مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا» وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه (¬2). قال الإمام النووي - رحمه الله -: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة للإمام ابن القيم (1/ 134) نقلاً عن كتاب علو الهمة للشيخ الفاضل محمد بن أحمد بن إسماعيل - حفظه الله - وننصح بقراءته فإنه كتاب نافع ومفيد. (¬2) رواه البخاري (ح43) كتاب الإيمان: باب (أحب الدين إلى الله أدومه).

رابعا: تقديم طلب العلوم الأخرى على القرآن

وقال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله -: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها (¬1)، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. ثانيهما: أن مداومة الخير ملازم للخدمة، وليس مَنْ لازم الباب في كل يوم وقتاً ما كمَنْ لازم يوماً كاملاً ثم انقطع. وزاد المصنف ومسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «ما دووم عليه وإن قل» (¬2) رابعاً: تقديم طلب العلوم الأخرى على القرآن: (إن عدم المنهجية في طلب العلم لدى كثير من طلاب العلم، وعدم التلقي عن العلماء؛ أدى إلى ذلك التخبط، وذلك الغبش الذي أصاب الكثير منهم، حتى قدموا كلام البشر على كلام رب البشر، وأقبلوا على حفظ المتون في شتى الفنون، وما حفظوا كلام الله الذي هو أساس العلوم، وما هكذا فعل السلف الصالح، ولا هذه طريقتهم في طلب العلم) (¬3). ¬

(¬1) قلنا: الحديث الوارد في ذلك ضعيف. عن أنس مرفوعاً: «عُرضت عليَّ أجور أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليَّ ذنوب أمتي، فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن، أو آية أوتيها رجل ثم نسيها». راجع ضعيف الترمذي (558) وضعيف أبي داود (71، 317) وكذلك ضعيف الجامع (5153). (¬2) فتح الباري للإمام الحافظ ابن حجر - رحمه الله - (1/ 127) طبعة الريان. (¬3) الكلمات الحسان فيما يعين على الحفظ والانتفاع بالقرآن لمحمد بن مصطفى بن أحمد بن شعيب ص (5) طبعة مكتبة آل ياسر، الطبعة الأولى.

دخل أحد فقهاء مصر على الإمام الشافعي - رحمه الله - في المسجد وبين يديه المصحف، فقال له الشافعي: (شغلكم الفقه عن القرآن! إني لأصلي العتمة وأضع المصحف في يدي فما أطبقه حتى الصبح) (¬1). قال شعبة بن الحجاج - رحمه الله - لأصحاب الحديث: (يا قوم إنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن) (¬2). وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله -: (الذي أرى في طلب العلم أن يبدأ الإنسان ولاسيما الشاب الصغير بحفظ القرآن العظيم قبل كل شيء، أرأيت لو أنك تكلمت في مجمع وتريد أن تستدل بالقرآن، وأنت لم تحفظه؛ إنك لا تتمكن من الاستدلال بالقرآن) (¬3). سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن الذي يقدم في الطلب حفظ القرآن أو العلم؟ فأجاب: (أما العلم الذي يجب على الإنسان عيناً كعلم ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن، فإن طلب العلم الأول واجب، وطلب الثاني مستحب، والواجب مقدم على المستحب، وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم في التعليم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن للإمام الزركشي (1/ 545) طبعة دار الفكر، الطبعة الأولى. (¬2) سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي (7/ 223). (¬3) الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات لابن عثيمين، إعداد وترتيب أبوأنس علي بن حسين أبولوز ص (96) طبعة دار المجد.

خامسا: الغزو الفكري والحرب المعلنة ضد القرآن

فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدعة من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم: من الكلام، أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، أو التقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلابد في هذه المسألة من التفصيل، والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين) (¬1). خامساً: الغزو الفكري والحرب المعلنة ضد القرآن: لما عجز أعداء الله عن السيطرة على بلاد المسلمين عن طريق الغزو العسكري، إذا بهم يلجؤون إلى حيل ماكرة، وطرق ملتوية؛ للقضاء على الإسلام والمسلمين عن طريق الغزو الفكري، وركزوا على إبعاد المسلمين عن كتابهم - القرآن الكريم - الذي منه يستمدون منهجهم، وأسلوب حياتهم، ويتضح ذلك من خلال تصريحات الأعداء المعلنة ومنها: ما قاله جلادستون - رئيس وزراء إنجلترا - وقد وقف في أواخر القرن الماضي في مجلس العموم البريطاني، وقد أمسك بيده القرآن المجيد وصاح في أعضاء البرلمان قائلاً: (إن العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر: أولهما: هذا الكتاب، وسكت قليلاً، بينما أشار بيده الأخرى نحو الشرق، وقال هذه الكعبة) (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 54 - 55) طبعة دار التقوى. (¬2) الحركات النسائية في الشرق ص (7).

وقال أيضاً: (مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان) (¬1). وقال أيضاً: (لن تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن) (¬2). وهذا اللورد كرومر يقول: (جئت لأمحو ثلاثاً: القرآن، والكعبة، والأزهر) (¬3) وكان الجندي الإيطالي يرتدي لباس الحرب قادماً لاحتلال بلاد الإسلام، وهو ينشد بأعلى صوته (يا أماه! أتمي صلاتك ... ولا تبكي ... بل اضحكي وتأملي ... ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني ... وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً ... لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة ... ولأحارب الديانة الإسلامية ... سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن ...) (¬4). وفي ذكرى مرور مئة عام على احتلال الجزائر قال الحاكم الفرنسي في الجزائر: (إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم) (¬5). ¬

(¬1) الإسلام على مفترق الطرق ص (39). (¬2) المرأة ومكانتها ص (12). (¬3) الخنجر المسموم للأستاذ أنور الجندي ص (29). (¬4) هذه الأنشودة المشهورة تسمى: (أغنية الفاشست) كانت جيوش إيطاليا الجرارة تترنم بها، وهي تسير مدججة بالسلاح في طرقات طرابلس وبرقة بصوت واحد. انظر الاتجاهات الوطنية (2/ 157). (¬5) القومية والغزو الفكري صـ (33)، انظر كتاب عودة الحجاب (1/ 93). وما بعدها للشيخ الفاضل / محمد بن أحمد بن إسماعيل - حفظه الله -.

واتخذوا في ذلك أساليب شتى منها: 1 - الازدراء بحفظة القرآن الكريم، والعلماء، والدعاة، وتصويرهم بصور قبيحة حتى يحال بينهم وبين مجتمعاتهم. 2 - السخرية من اللغة العربية - لغة القرآن الكريم -، ومهاجمتها من حين لآخر، ورفع شأن اللغات الأخرى؛ مما أدى إلى إهمال تدريسها في المراحل التعليمية المختلفة حتى نشأ جيل من أبناء المسلمين يجهل القراءة في المصحف، ولا يكاد يقرأ سطراً صحيحاً على الرغم من حصوله على أعلى الشهادات، وإتقانه العديد من اللغات الأخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. 3 - إغراق المجتمعات المسلمة بالحشد الهائل من الصحف والمجلات، التي تبعد عن الله، وتقرب من الشيطان، وتنشر الفاحشة والرذيلة، وأصدق وصف لها أنها (حمَّالة للكذب، قتَّالة للوقت). 4 - تدمير عقيدة المسلمين وأخلاقهم وذلك من خلال البث المباشر، والقنوات الفضائية، فضلاً عن البرامج الهدامة التي تعرض على شاشات التلفاز. 5 - صرف الناس عن القرآن والصلاة ومجالس العلم عن طريق الرياضة وبخاصة كرة القدم التي تحولت إلى عبادة! وليس أدل على ذلك من الولاء والبراء لهذه الأندية، فضلاً عن متابعة المباريات والحرص عليها - حتى ولو كانت في السحر - مع تضييع الصلاة.

الفصل الثاني صور من هجر التلاوة

الفصل الثاني صور من هجر التلاوة وفيه ستة مباحث: أولا: التلحين في القراءة. ثانيا: جمع القراءات في مجلس واحد. ثالثا: بدع قراءة الفاتحة. رابعا: بدعة أخذ الفأل من المصحف. خامسا: قراءة القرآن عند القبر. سادسا: قراءة القرآن للأموات.

أولا: التلحين في القراءة

هذه بعض الصور من هجر تلاوة القرآن الكريم نذكرها تحذيراً للمسلمين من الوقوع فيها أو العمل بها: أولاً: التلحين في القراءة: شاع في هذا الزمان بدعة قراءة القرآن على الألحان الموسيقية بل وقع في ذلك كثير من مشاهير القراء حتى سمعنا من بعضهم في الإذاعة عندما كان يُسْألُ عن سبب شهرته فأجاب: الفضل في ذلك يرجع إلى تعلم الألحان الموسيقية! ولقد تعلمت السلم الموسيقي من بعض الفنانين!. فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل. وإليك نقول من كلام العلماء في هذه المسألة. الإمام أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان: ما تعجبني وهو مُحْدَث. وفي رواية المروزي: القراءة بالألحان بدعة لا تسمع. الإمام الشافعي قال: لَمَّا ذُكِرَ له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها، فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان، وأنكر الأحاديث التي يُحتج بها في الرخصة في الألحان. وروى ابن القاسم، عن مالك، أنه سُئِلَ عن الألحان في الصلاة، فقال: لا

تعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم. ومَنْ رُوِيَت عنهم الكراهة: أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وغيرهم. وقال النووي في فتوى عن التلحين في القرآن: ذلك حرام يفسق به القارئ، ويأثم به المستمع، لأنه عدل عن النهج القويم. ونقل الفوراني من الشافعية الإجماع على التحريم فقال: إذا اختل بالتحسين شيء من الحروف عن مخرجه حَرُمَ بالإجماع. وقال القسطلاني في إرشاد الساري: (وقد عُلِمَ مما ذكرناه أن ما أحدثه المتكلفون بمعرفة الأوزان والموسيقى في كلام الله تعالى من الألحان والتطريب، والتغني المستعمل في الغناء بالغزل على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، من أشنع البدع، وأسوأ المنكرات، وأنه يوجب عليهم التعزير، وعلى سامعيهم النكير). قال الشيخ حسنين مخلوف - مفتي الديار المصرية سابقاً - (ومما لا ريب فيه أنه لن يكون مع رعاية توقيعات الغناء خشية، ولا رهبة، بل تكون القراءة لهواً ولعباً، ومَنْ أضل ممن اتبع هواه واتخذ آيات الله هزواً) (¬1) قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في مقدمة تفسيره بعدما ذكر كلاماً طويلاً عن حرمة القراءة بالألحان والغناء: (وهذا الخلاف إنما هو ما لم يفهم معنى القرآن بترديد الأصوات، وكثرة الترجيعات، فإن زاد الأمر على ذلك حتى لا يفهم معناه؛ فذلك حرام باتفاق، كما يفعل القُرَّاءُ بالديار المصرية الذين يقرءون أمام الملوك والجنائز، ¬

(¬1) القرآن آداب تلاوته وسماعه للشيخ حسنين مخلوف ص (12).

ثانيا: جمع القراءات في مجلس واحد

ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز، ضل سعيهم، وخاب عملهم، فيستحلون بذلك تغيير كتاب الله، ويهونون على أنفسهم الاجتراء على الله بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه جهلاً بدينهم، ومروقاً عن سنة نبيهم، ورفضاً لسير الصالحين فيه من سلفهم، ونزوعاً إلى ما يزين لهم الشيطان من أعمالهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فهم في غيهم يترددون، وبكتاب الله يتلاعبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون) (¬1). ثانياً: جمع القراءات في مجلس واحد: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وأما جمعها - القراءات - في الصلاة، أو في التلاوة فهو بدعة مكروهة، وأما جمعها لأجل الحفظ والدرس فهو من الاجتهاد الذي فعله طوائف في القراءة) (¬2). قال الإمام النووي - رحمه الله -: (إذا ابتدأ بقراءة أحد القراء؛ فينبغي أن يزال على القراءة بها ما دام الكلام مرتبطاً، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة آخر من السبعة، والأَوْلى دوامه على الأُولى في هذا المجلس) (¬3). قال الشيخ محمود خليل الحصري - رحمه الله -: (إذا كان التواصي بالحق، والتناهي عن المنكر، من سنن الإسلام، فليعلم إخواننا القراء - وفقهم الله - أن الله - تعالى - قد حمَّلهم أمانة تلاوة كتابه، وألزمهم فيها التأدب بآدابه، والإتباع لسنة رسوله فيها، والنهي عما فيه إخلال بحقها، أو ابتداع فيها، والقراءة سنة ¬

(¬1) مقدمة تفسير القرطبي (1/ 16) طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب. وانظر تحقيق ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد (1/ 482 - 493) طبعة مؤسسة الرسالة. (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 404) طبعة دار التقوى للنشر والتوزيع. (¬3) التبيان في آداب حملة القرآن ص (68) طبعة مكتبة ابن عباس بالمنصورة.

ثالثا: بدع قراءة الفاتحة

مأثورة، وجعل جزاء تقصيرهم في ذلك مضاعفاً بقدر ما منحهم الله من العلم بأحكام التلاوة؛ لذلك أدعوهم - هداني الله وإياهم - إلى القيام بحق كتابه وترك ما اعتادوه في هذا العصر من الجمع بين القراءات في المحافل، فإنه كما نص عليه الأئمة الثقات، وهم القدوة في هذا الشأن، بدعة مستحدثة، غير معروفة، لا عند السلف، ولا عند الخلف) (¬1). ثالثاً: بدع قراءة الفاتحة: 1 - قراءة الفاتحة زيادة في شرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة لا أصل لها. وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب. ولم يقل اقرءوا عليه. 2 - قراءة الفاتحة بنية قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وهلاك الأعداء، بدعة لم يأذن بها الدين. 3 - قراءة الفاتحة بالسماح كما يفعله الفقراء، بدعة. 4 - قراءة الفاتحة عند شرط خِطْبة الزواج، واعتقادهم أن قراءتها عهد لا ينقض، أو بأنها بأربعة وأربعين يميناً، بدعة واعتقاد فاسد وجهل (¬2). 5 - قول بعضهم بعد قراءة القرآن: الفاتحة (¬3). ¬

(¬1) القرآن آداب تلاوته وسماعه ص (29). (¬2) السنن والمبتدعات لمحمد بن أحمد بن عبد السلام الشقيري - رحمه الله - ص (191 - 192) طبعة الريان. (¬3) بدع القراء القديمة والمعاصرة ص (21) طبعة مؤسسة قرطبة.

رابعا: بدعة أخذ الفأل من المصحف

6 - وقول بعضهم: (الفاتحة لروح فلان) (¬1). 7 - قراءة الفاتحة بعد الدعاء بدعة. (¬2) 8 - قراءة الفاتحة بعد الصلاة يعني الفريضة. (¬3) رابعاً: بدعة أخذ الفأل من المصحف: قال الشيخ محمد بن أحمد بن عبد السلام - رحمه الله -: (فمن ذلك أخذ الفأل والبخت من المصحف، ولا أدري ماذا يصنع صاحب البخت إن وقف على آية {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} (279) سورة البقرة، أو {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (15) سورة العلق، أو {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} (16) سورة العلق، أو {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (18) سورة العلق. مثلاً. وفي كتاب أدب الدنيا والدين (¬4) أن الوليد بن يزيد تفاعل يوماً في المصحف فخرج له قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (15) سورة إبراهيم، فمزق المصحف، وأنشأ يقول: أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني الوليد فلم يلبث إلا أياماً حتى قُتِلَ شر قِتْلَة، وصُلِبَ رَأْسُه على قصره، فنعوذ بالله فهذا فعل مذموم جداً، يجب تركه ومحاربته). (¬5) ¬

(¬1) أحكام الجنائز للألباني ص (7) طبعة مكتبة المعارف بالرياض. (¬2) فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/ 384) طبعة دار أولي النهى. (¬3) المرجع السابق (2/ 384). (¬4) كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ص (500 - 501) طبعة دار ابن كثير، دمشق. (¬5) السنن والمبتدعات ص (194 - 195) طبعة الريان.

خامسا: قراءة القرآن عند القبر

خامساً: قراءة القرآن عند القبر: قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -: (وقراءة القرآن عند زيارة المقابر، أو عندها، لا أصل له في السنة، إذ لو كانت القراءة مشروعة لفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمها أصحابه، لاسيما وقد سألته عائشة - رضي الله عنها - وهي من أحب الناس إليه، عما تقول إذا زارت المقابر، فعَلَّمها السلام والدعاء، ولم يعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن؛ فلو أن القراءة كانت مشروعة لما كتم ذلك عنها، كيف وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في علم الأصول، فكيف بالكتمان، ولو أنه - صلى الله عليه وسلم - علَّمهم شيئاً من ذلك لنُقِلَ إلينا، فإذ لم ينقل بالسند الثابت دل على أنه لم يقع. ومما يقوي عدم المشروعية قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» (¬1) فقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن القبور ليست موضعاً للقراءة شرعاً، فلذلك حض على قراءة القرآن في البيوت، ونهى عن جعلها كالمقابر التي لا يقرأ فيها، كما أشار في الحديث الآخر إلى أنها ليست موضعاً للصلاة أيضاً، وهو قوله: «صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً» (¬2)، أخرجه مسلم وغيره عن ابن عمر، وهو عند البخاري بنحوه، وترجم له بقوله: (باب كراهية الصلاة في المقابر) فأشار به إلى أن حديث ابن عمر يفيد كراهة الصلاة في المقابر، فكذلك حديث أبي هريرة يفيد كراهة قراءة القرآن في المقابر ولا فرق. ولذلك كان مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وغيرهم كراهة القراءة ¬

(¬1) رواه مسلم (780) والترمذي (2880). (¬2) أخرجه مسلم (2/ 187) وغيره عن ابن عمر.

عند القبور، وهو قول الإمام أحمد، فقال أبو داود في مسائله (¬1): وسمعت أحمد سئل عن القراءة عند القبر؟ فقال: لا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2): (ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة، وقال مالك: ما علمت أحداً يفعل ذلك، فعُلِمَ أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه). وقال شيخ الإسلام (¬3): (والقراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على المحتضر فإنها تستحب بـ يس). قال الألباني: لكن حديث قراءة (يس) ضعيف، والاستحباب حكم شرعي، ولا يثبت بالحديث الضعيف كما هو معلوم من كلام ابن تيمية نفسه في بعض مصنفاته) (¬4). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يجلس يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم - ثم ذكر حديث التلقين وبين ضعفه -) (¬5). وقال أيضاً: (هديه - صلى الله عليه وسلم - تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء، ويقرأ له القرآن، لا عند قبره، ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة) (¬6). ¬

(¬1) ص (158). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص (182). (¬3) الاختيارات العلمية ص (53). (¬4) أحكام الجنائز وبدعها للألباني ص (241 - 243) طبعة مكتبة المعارف بالرياض. (¬5) زاد المعاد (1/ 522). (¬6) المرجع السابق (1/ 527).

سادسا: قراءة القرآن للأموات

سادساً: قراءة القرآن للأموات: ذهب الجمهور إلى عدم وصول ثواب القراءة للأموات إذا كان بالأجرة، والمال المأخوذ على ذلك حرام، ويأثم الآخذ والمعطي. وقال الإمام الشافعي - رحمه الله - بعدم وصول ثواب قراءة القرآن بأجرة أو بغير أجرة وهو الصواب الذي ندين لله - تعالى - به، قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (39) سورة النجم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬1). وإذا كانت القراءة تصل إلى الموتى فما بال الأحياء لا يضعون آلات التسجيل على القبور يتلى فيها القرآن ليل نهار {فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (78) سورة النساء (¬2). قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ولا حَثَّهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنصٍ ولا إيماء، ولم يُنْقل ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - بسند صحيح، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء) (¬3) ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) انظر كتاب حكم القراءة للأموات هل يصل ثوابها إليهم؟ للشيخ محمد بن أحمد بن عبد السلام. (¬3) تفسير ابن كثير (4/ 258) طبعة المكتبة القيمة.

الفصل الثالث أحوال الناس مع القرآن الكريم

الفصل الثالث أحوال الناس مع القرآن الكريم

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -

لقد وضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أحوال الناس مع القرآن، وأثر القرآن فيهم فقال: " إن مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كالتمر لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر " (¬1). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: قوله: " طعمها طيب وريحها طيب " قيل: خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذا يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه، ثم قيل: الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة لأنه يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية، ويستخرج من حبها دهن له منافع وقيل: إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف حبه أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضاً من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة وجودة ¬

(¬1) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. الأترجة: فاكهة ذات رائحة طيبة. البخاري (5200) مسلم (797).

هضم ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات. ووقع في رواية شعبة عن قتادة كما سيأتي بعد أبواب (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به) وهي زيادة مفسرة للمراد وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي لا مطلق التلاوة، فإن قيل: لو كان كذلك لكثر التقسيم كأن يقال الذي يقرأ ويعمل وعكسه والذي يعمل ولا يقرأ وعكسه، والأقسام الأربعة ممكنة في غير المنافق وأما المنافق فليس له إلا قسمان فقط لأنه لا اعتبار بعمله إذا كان نفاقه نفاق كفر، وكأنه الجواب عن ذلك أن الذي حذف من التمثيل قسمان: الذي يقرأ ولا يعمل، والذي لا يعمل ولا يقرأ، وهما شبيهان بحال المنافق فيمكن تشبيه الأول بالريحانة والثاني بالحنظلة فاكتفي بذكر المنافق، والقسمان الآخران قد ذكرا. قوله: " ولا ريح فيها " في رواية شعبة " لها ". قوله: " ومثل الفاجر الذي يقرأ " في رواية شعبة " ومثل المنافق " في الموضعين. قوله: " ولا ريح لها " في رواية شعبة " وريحها مر " واستشكلت هذه الرواية من جهة أن المرارة من أوصاف الطعوم فكيف يوصف بها الريح؟ وأجيب بأن ريحها لما كان كريهاً استعير له وصف المرارة، وأطلق الزركشي هنا أن هذه الرواية وهم وأن الصواب ما في رواية هذا الباب " ولا ريح لها " ثم قال في كتاب الأطعمة لما جاء فيه " ولا ريح لها " هذا أصوب من رواية الترمذي " طعمها مر وريحها مر " ثم ذكر توجيهها وكأن ما استحضر أنها في هذا الكتاب وتكلم عليها فلذلك نسبها للترمذي. وفي الحديث فضيلة حاملي القرآن. وضرب المثل للتقريب للفهم، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه). (¬1) ¬

(¬1) فتح الباري (11/ 81) باب فضل القرآن على سائر الكلام.

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تعلموا القرآن، وسلوا الله به الجنة، قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله " (¬1). روى ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار: حدثنا بكر بن خنيس، عن ضرار بن عمرو، عن الحسن، قال: (قُرَّاءُ القرآنِ ثلاثة: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس، وقوم حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، واستدروا به الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم. ورجل قرأ القرآن، فبدأ بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه، فسهر ليله، وهملت عيناه، وتسربلوا بالخشوع، وارتدوا الحزن، وركدوا في محاريبهم، وحثوا في برانسهم، فبهم يسقي الله الغيث، وينزل المطر، ويرفع البلاء، والله لهذا الضرب في حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر) (¬2). عن إياس بن عمر قال: أخذ علي بن أبي طالب بيدي ثم قال: (إنك إن بقيت سيقرأ القرآن ثلاثة أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا، ومن طلب أدرك) (¬3). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (والناس في هذا أربع طبقات: الأولى: أهل القرآن والإيمان وهم أفضل الناس. والثانية: من عدم القرآن والإيمان. ¬

(¬1) (حديث صحيح) انظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم (285). (¬2) نقلاً عن كتاب الفرقان لابن الخطيب ص (97) طبعة مكتبة دار الكتب المصرية بالقاهرة، الطبعة الأولى (¬3) سنن الدرامي (2/ 526) برقم (3329) طبعة الريان.

هؤلاء هجروا تلاوة القرآن؟!

والثالثة: من أوتي قرآناً ولم يؤت إيماناً. والرابعة: من أوتي إيماناً ولم يؤت قرآنا. قالوا: فكما أن من أوتي إيماناً بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنا بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبراً وفهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر). (¬1) وبعد .. فمن أي الأقسام نحن، وما هو حالنا مع كتاب الله، نسأل الله أن يردنا إلى كتابه رداً جميلاً. هؤلاء هجروا تلاوة القرآن؟! إن المعرضين عن القرآن طوائف كثيرة منهم: (¬2) الطائفة الأولى: (بعض الأئمة) ويرجع هجر بعض الأئمة للقرآن وإعراضهم عنه إلى سببين هما: السبب الأول: الكتب التي يقرأونها ويتدارسونها والتي تمتلئ بالمسائل المنطقية والبيانية والفلسفية، وغيرها من القضايا الجدلية التي لا توصلهم إلى إدراك عظمة الله سبحانه وتعالى، ولا تحقق لهم الترغيب في الطاعة، والترهيب من المعصية، ولذلك ترى بعضهم - إلا مَنْ رحم الله - يخالف قوله فعله، بل أحياناً يتهاون في الطاعة، ويقع في المنكر، فهم المسئولون أمام الله عن ضياع هذه الأمة بسبب إعراضهم عن القرآن. فوالله لو ذاق هؤلاء طعم القرآن وحلاوته، ولذة مناجاة الله تعالى لما وقعوا في ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 338، 339) طبعة مؤسسة الرسالة. وقد ورد معناه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، انظر سنن الدارمي (3362). (¬2) مستفاد بتصرف من كتاب (السنن والمبتدعات) لمحمد بن أحمد بن عبد السلام ص (197 - 202) طبعة الريان.

الطائفة الثانية: بعض الأغنياء

محارم الله، ولأدى بهم إلى الجهاد في سبيله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وخصوصاً في عصرنا هذا الذي سالت فيه سيول الفتن والأباطيل، وكادت عواصف الملحدين والزائفين والمبتدعين تنسف أنوار الهداية المحمدية نسفاً، - لولا حفظ الله لهذا الدين - وهذا مقتضى القرآن والإيمان، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (15) سورة الحجرات. السبب الثاني: المرتبات الضخمة، والأموال الكثيرة التي تدفعهم إلى الاستزادة من متاع الدنيا الفاني من عقارات وسيارات وغيرها، وهذا يحتاج ضرورة إلى ضياع أكثر الأوقات، ونحن لا نريد أئمتنا فقراء ينشغلون بطلب الرزق عن طلب العلم، وكذلك لا نريد أن يشغلهم المال والمتاع عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نطالبهم بما يلي حفاظاً على عودة القرآن إلى حياة الأمة كما كانت من قبل. 1) الجمع بين العلم والعمل ليكونوا قدوة حسنة. 2) نشر علوم القرآن بين المسلمين. 3) إعلاء شأن أهل القرآن والدعوة إلى احترامهم وتوقيرهم. 4) الاهتمام بمكاتب تحفيظ القرآن بوقف الأموال للإنفاق عليها وتحسين أحوالها. 5) إرسال الدعاة والوعاظ إلى القرى والأرياف. 6) إنشاء المساجد في الأماكن التي تحتاج لذلك. الطائفة الثانية: بعض الأغنياء هؤلاء أطغتهم الأموال، وألهتهم الآمال، فكانوا ممن أو كمن قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (28) سورة إبراهيم. منعوا

الطائفة الثالثة: بعض قراء القرآن

الزكاة المفروضة والنفقات الواجبة والمندوبة، فعشوا عن القرآن الكريم، والذكر الحكيم، فسُلِّطَت عليهم الشياطين، يدعونهم إلى الشر، ويأمرونهم بالمنكر، وينهونهم عن المعروف، ويصدونهم عن الجمعة والجماعات، وسماع القرآن والمحاضرات، فهم يجاهدون في سبيل الشيطان بأموالهم وأنفسهم، معرضون عن الحق، وقد قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (36) سورة الزخرف. فيا أغنياء المسلمين: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (16) سورة الحديد. الطائفة الثالثة: بعض قُرَّاءُ القرآن: أقصد القُرَّاء الذين لا يقرؤون القرآن إلا لجمع حطام الدنيا، فيتلونه في سرادقات المآتم، وفي الختمات والليالي، وكثير منهم يتعلم القراءات لأجل التعيش، ولأجل أن يرغبوا فيه أكثر من غيره، ولو سألتهم عن معنى كلمة واحدة لعجزوا، وهؤلاء يصدق عليهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أكثر منافقي أمتي قراؤها» (¬1). الطائفة الرابعة: المتصوفة: والسبب في إعراض هؤلاء الناس عن القرآن إنما هو اشتغالهم بأحزاب مشايخهم، وبالبيارق والبازات، والليالي والختمات، والموالد والحضرات والمنامات، فترى الجماعات من الرجال والنساء - بزعم أنهم إخوة على الطريق - يطوفون حول المقامات، ويقدمون لها النذور، يذبحون لها الذبائح، ويعتقدون فيها جلب ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه أحمد، والطبراني، والبيهقي عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - وصححه الألباني في صحيح الجامع (1203).

الطائفة الخامسة: بعض المثقفين

النفع، ودفع الضر، ويطلبون منها المدد والولد، ويُقَبِّلُون الأعتاب، ويزعمون أن مَنْ قبل الأعتاب ما خاب، فهؤلاء قد انتكست فطرتهم، وضلت عقولهم، وخابت أعمالهم وخسرت، وصدق عليهم قول الله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (103 - 104) سورة الكهف. الطائفة الخامسة: بعض المثقفين: وهؤلاء قد شغلوا أنفسهم بقراءة الجرائد السياسية، والمجلات الفكاهية والهزلية، وكتب الحكايات والروايات، والقصص والأشعار، فتراهم يحفظون الكثير منها، ولا يحفظون قليلاً ولا كثيراً من علوم الإسلام، بل يعدون المقبلين على فهمها والعمل بها مجانين أو عقولهم متأخرة، وهؤلاء كل آية نزلت فيمن يعرضون عن ذكر الله تصفعهم على نواصيهم، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (57) سورة الكهف. الطائفة السادسة: بعض العامة: وهؤلاء يحفظ أحدهم مئة موال ومئة قصة وكثيراً من الأمثال والنوادر، ويذكر لك كل ما يسمعه من الحكايات ... ، ثم إذا خاطبته في حفظ شيء من القرآن ليصحح به صلاته يعتذر لك بعدم القراءة والكتابة، هذا جوابهم على الرغم أنني أعرف أناساً أميين يجيدون قراءة وكتابة اللغات الأجنبية، ولا يحسنون النطق (بسمع الله لمن حمده) ولا بالفاتحة، فالمسألة راجعة إلى العناية والاجتهاد، فلو اجتهد رجل أمي في حفظ ما يسمعه من أوامر الدين ونواهيه، ومن آيات القرآن وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبعض محافظته على التعاليم الأجنبية لحفظ شيئاً كثيراً، بل لو

الطائفة السابعة: جماعة اللهو والعبث

شاء حفظ القرآن كله، وألف حديث نبوي لكان ذلك سهلاً عليه جداً. وجماعة العميان أكبر شاهد على ذلك، ولكنهم أعرضوا ونأوا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور. واذكروا قول ربكم لنبيه: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} (99 - 102) سورة طه. الطائفة السابعة: جماعة اللهو والعبث إن طائفة من المجتمع - للأسف الشديد - تظن أنها خلقت بلا هدف وغاية، وكما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (115 - 116) سورة المؤمنون. فإذا بهم يقضون أوقاتهم بين اللهو والطرب، ولعب النرد والشطرنج، وتناول الخمور والمخدرات والمسكرات، وهذه الأشياء الخبيثة الملعونة قد أضرت وأفسدت أخلاق كثير من الشبان، بل والشابات، وكم خربت من بيوت كانت عامرات، فإلى الله المشتكى ومنه الهداية وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فاحذر أخي الحبيب. أن تكون من هؤلاء الذين هجروا القرآن الكريم، فإن عاقبة الهجر وخيمة، ونهايته أليمة. أما علم هؤلاء الذين هجروا قراءة القرآن الكريم فضله في الدنيا والآخرة ولذلك سوف نذكر طرفاً من هذه الفضائل ترغيباً لطالب الأجر والثواب.

الفصل الرابع فضل تلاوة القرآن الكريم

الفصل الرابع فضل تلاوة القرآن الكريم وفيه ثلاثة مباحث: أولاً: فضل تلاوة القرآن الكريم. ثانياً: الترغيب في قراءة سور وآيات مخصوصة. ثالثاً: أحاديث ضعيفة في فضل تلاوة القرآن الكريم للتحذير منها.

المبحث الأول: فضل تلاوة القرآن الكريم

المبحث الأول: فضل تلاوة القرآن الكريم: إن فضل تلاوة القرآن كثيرة لا تحصى ولو يعلم الناس ما في تلاوته من الفضائل لما تركوا كتاب الله من بين أيديهم، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار. ومن هذه الفضائل ما يلي: 1 - تلاوة القرآن الكريم تحصيل للأجر العظيم: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (29 - 30) سورة فاطر قال قتادة: كان مطرف بن عبد الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول {الم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (¬1). ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم والدارمي (331)، وصححه الألباني. راجع الصحيحة (حديث رقم 660) وصحيح الجامع (6345).

انظر - أخي الكريم - إلى الأجر العظيم لمن قرأ كتاب الله فالحرف بعشر حسنات والله يضاعف لمن يشاء فما بالك إذا قرأت سطراً أو صفحة أو ربعاً .. كم تحصل من الحسنات إذا أخلصت نيتك لخالق الأرض والسموات. وهذه إحصائية تقريبية لسورة الفاتحة والتي لا تستغرق تلاوتها أكثر من دقيقة وعلى الرغم من ذلك كم تحصل من الأجر والثواب، سورة الفاتحة (كلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مئة وثلاثة عشر حرفاً) (¬1) والحرف كما علمنا بحسنة والحسنة بعشر أمثالها أي المجموع 113 × 10 = 1130 حسنة ويضاعف الله لمن يشاء، هذا عن الفاتحة فما بالك إذا قرأ غيرها من السور، كم يحصل من الأجر والثواب. فلا إله إلا الله كم ضيع المسلمون من حسنات بتضييع الأوقات فيما لا يجدي ولا ينفع. عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالصُّفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم» فقلنا: يا رسول الله!، كلنا يحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله - عز وجل - خير له من ناقتين وثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل» (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 372) تحقيق إبي إسحاق الحويني. (¬2) رواه مسلم (803)، وأبو داود (1456)، وبطحان: موضع بالمدينة، والعقيق: واد بالمدينة، والكوماء: الناقة عظيمة السنام.

2 - تلاوة القرآن سبب لتنزل السكينة

2 - تلاوة القرآن سبب لتنزل السكينة: عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال: «تلك السكينة تنزلت للقرآن» (¬1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (¬2). فيا من تشكون من ضيق الصدور، ومن الاضطرابات والقلق والأرق، اعلموا أنه لا راحة لكم إلا في القرآن لأن سعادة القلوب في تلاوة كتاب علام الغيوب ولذلك قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (57) سورة يونس. 3 - كرامة قارئ القرآن. لقد رفع الله - جل وعلا - من شأن القرآن وقارئه، وأعطاه من الكرامة والمنزلة العالية ما لا يعطي لغيره وهذه الفضائل بعض منها: ¬

(¬1) البخاري (3614) ومسلم (795) واللفظ لمسلم. الشطن: الحبل. (¬2) رواه مسلم وأبوداود والترمذي مختصراً عن أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح (8/ 675) في تفسير السكينة: (.... عن وهب بن منبه: هي روح من الله، وعن الضحاك بن مزاحم قال: هي الرحمة، وعنه هي سكون القلب وهذا اختيار الطبري، وقيل هي الطمأنينة، وقيل الوقار، وقيل الملائكة ذكره الصغاني. والذي يظهر أنها مقولة بالاشتراك على هذه المعاني، فيحمل كل موضع وردت فيه على ما يليق به، والذي يليق بحديث الباب هو الأول).

أ - في الدنيا

أ - في الدنيا: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة. عن أبي الطفيل أن نافع بن الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان وكان قد استعمله على أهل مكة، فقال: له عمر: (مَنْ استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى. فقال: من ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟! فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض. فقال عمر: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين» (¬1). وصدق القائل: ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً ... فالناس موتى وأهل العلم أحياء ب - في القبر: عن هشام بن عامر قال: لما كان يوم أحد أُصِيبَ مَنْ أُصِيب من المسلمين، وأصاب الناس جراحات، فقلنا: يا رسول الله!، الحفر علينا لكل إنسان شديد، فكيف تأمرنا؟ قال: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر، ¬

(¬1) رواه مسلم (817).

جـ - في يوم القيامة

وقدموا أكثرهم قرآناً» قال: فكان أبي ثالث ثلاثة وكان أكثرهم قرآناً فَقُدِّمَ. (¬1) جـ - في يوم القيامة: عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقال لصاحب القرآن اقرأ، وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها» (¬2). قال الإمام الخطابي: وجاء في الأثر (أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة) فيقال للقارئ: ارتق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى (¬3) على أقصى درج الجنة في الآخرة، ومن قرأ جزءاً منه، كان رقيه في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة) (¬4). عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (¬5). ¬

(¬1) (إسناده صحيح) أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي وأحمد وابن ماجه مختصراً وقال الترمذي: حسن صحيح، وإسناده صحيح كما قال الترمذي وهو على شرط الشيخين. قاله الألباني في أحكام الجنائز ص (143) طبعة المكتب الإسلامي. (¬2) (حديث صحيح) رواه الترمذي (2915) وأبوداود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي: حديث صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع (8122) وصحيح أبي داود (1317). (¬3) الأولى أن يعبر بلفظ الحديث (ارتقى)؛ لأن كلمة (استولى) توحي بالقهر والغلبة والاستيلاء، وأهل الجنة ليسوا كذلك والله أعلم. (¬4) الترغيب والترهيب (2/ 315) طبعة الريان، وتحفة الأحوذي (8/ 187) طبعة دار الكتب العلمية، وقال الألباني: (وجملة القول أن إسناد هذا الأثر ضعيف والله أعلم). الصحيحة (5/ 283) طبعة مكتبة المعارف. (¬5) رواه مسلم (804).

عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه قال: فيشفعان» (¬1). عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما» (¬2). تفكر - أخي الحبيب - في يوم القيامة وبخاصة في ذل الخلائق وانكسارهم واستكانتهم انتظاراً لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة، وأنت فيما بينهم منكسراً كانكسارهم، متحيراً كتحيرهم، فكيف حالك وحال قلبك هنالك وقد بُدِّلت الأرض غير الأرض والسموات، وطمس الشمس والقمر، وأظلمت الأرض، واشتبك الناس وهم حفاة عراة غرلاً، وازدحموا في المواقف شاخصة أبصارهم، منفطرة قلوبهم، فتأمل يا مسكين! في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه والخجل والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار تعالى، وأنت عارٍ مكشوف ذليل متحير مبهوت منتظر ما يجرى عليك القضاء بالسعادة والشقاوة، وأعظم بهذه الحال فإنها عظيمة، واستعد لهذا اليوم العظيم شأنه، والقاهر سلطانه، القريب ¬

(¬1) (حديث حسن الإسناد) رواه أحمد (6626) وسنده ضعيف ولكن رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي وقال الألباني: (وقد وهما فإن شيخ ابن وهب وكذا ابن لهيعة فيه حيي بن عبد الله ولم يخرج له مسلم شيئاً ثم إنه تكلم فيه بعضهم بما لا ينزل حديثه عن رتبه الحسن إن شاء الله، وجملة القول: أن الحديث حسن الإسناد، والله أعلم) تمام المنة ص (394/ 395)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (973). (¬2) رواه مسلم (805). تقدمه: تسبقه، تحاجان: تشفعان.

أوانه، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد (¬1). وفي أثناء هذه الشدائد العظام كأني بسورة البقرة وآل عمران تأتيان في صورة سحابة عظيمة تظلان صاحبهما، وكأني بالقرآن يجيء يوم القيامة كالرجل الشاحب (¬2)، يأتي وقد أخذ بيد صاحبه ليشفع له عند الله ويقول يا رب إني أشهد لهذا الرجل بالصلاح والتقى، فقد كان في الدنيا لا يشغله شيء عن ذكرك وتلاوة كتابك، فقد كان يتلوه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك، يا رب لقد منعته من النوم بالليل فشفعني فيه، وعندها يأذن الله - جل وعلا - للقرآن أن يشفع في صاحبه في تلك اللحظات التي يتخلى فيها عن الإنسان أقرب الناس إليه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (34 - 37) سورة عبس. فيا حسرة على أولئك المحرومين الذين حرمهم الله من شفاعة القرآن لأنهم حرموا أنفسهم من تلاوته في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً. ¬

(¬1) البحر الرائق في الزهد والرقائق لأحمد فريد ص (288). (¬2) عن بريدة بن الحصيب مرفوعاً بلفظ (يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول لصاحبه أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك) رواه الدارمي وابن ماجة وأحمد وابن عدي والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، قال الألباني: (لكن الحديث حسن أو صحيح فإن له شاهداً) راجع السلسلة الصحيحة (2829).

المبحث الثاني: الترغيب في قراءة سور وآيات مخصوصة

المبحث الثاني: الترغيب في قراءة سور وآيات مخصوصة: هذه فضائل بعض السور والآيات لتكون حافزاً على قراءتها والمواظبة عليها: 1 - الفاتحة أعظم سورة في القرآن: عن أبي سعيد رافع بن المُعَلَّى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟» فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن. قال: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنزل الله عز وجل في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " (¬2). قال الباجي: يريد قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87) سورة الحجر. وسُمِّيَت بالسبع، لأنها سبع آيات والمثاني، لأنها تثنى في كل ركعة (أي تعاد)، وإنما قيل لها: (القرآن العظيم) على معنى التخصيص لها بهذا الاسم وإن كان كل شيء من القرآن قرآناً عظيماً، كما يقال في الكعبة (بيت الله) وإن كانت البيوت كلها لله، ولكن على سبيل التخصيص والتعظيم) (¬3). 2 - سورة البقرة حصن يمنع من الشيطان: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ¬

(¬1) رواه البخاري (5006) وأبوداود (1458). (¬2) (حديث صحيح) رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صفة الصلاة، صحيح النسائي (877) وصحيح الترمذي (2499). (¬3) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني ص (52) طبعة المكتب الإسلامي.

3 - آية الكرسي أعظم آية في القرآن

ينفر (¬1) من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة " (¬2). معنى (لا تجعلوا بيوتكم مقابر): أي مثل المقابر في عدم اشتغال من فيها من الموتى بالصلاة والقراءة أي: لا تكونوا كالموتى في ترك القراءة ونحوها. وأما عن فضل خواتيم سورة البقرة، عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَنْ قرأ بالآيتين في سورة البقرة في ليلة كفتاه " (¬3) قيل: كفتاه عن المكروه تلك الليلة، وقيل: كفتاه عن قيام الليل، وقيل: كفتاه عما ورد من الأدعية الكثيرة لأن الدعاء بما فيها متكفل لخيري الدنيا والآخرة. وقيل غير ذلك. 3 - آية الكرسي أعظم آية في القرآن: عن أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا المنذر!، أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟ " قلت: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، فضرب في صدري وقال: " لِيَهْنَكَ العلم أباالمنذر " (¬4). قال الإمام النووي - رحمه الله -: (وفيه منقبة عظيمة، ودليل على كثرة علمه، وفيه تبجيل العالم لفضلاء أصحابه، وجواز مدح الإنسان في وجهه إذا كان ¬

(¬1) ومعنى (ينفِر) بكسر الفاء أي: يصد ويعرض إعراضاُ بالغاً. (¬2) رواه مسلم (780) والترمذي (2880). (¬3) رواه البخاري (5008،5009)، ومسلم (808)، وأبوداود (1397)، والترمذي (2884). (¬4) رواه مسلم (810) ورواه أبوداود (1460) " ليهنك العلم " ليكن العلم هنيئاً لك، أبوالمنذر: كنية أبي بن كعب - رضي الله عنه -.

أ - دبر كل صلاة مكتوبة

في مصلحة، ولم يخف عليه الإعجاب ونحوه لكمال نفسه ورسوخه في التقوى) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي. وإنما ذكر الله في أول سورة الحديد، وآخر سورة الحشر عدة آيات لا آية واحدة) (¬2). ويستحب قراءة آية الكرسي في المواطن الآتية: أ - دبر كل صلاة مكتوبة: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت " (¬3). ب - أذكار الصباح والمساء: عن أُبَيّ بن كعب أن الجِّنيَّ قال له: (إذا قرأتها - يعني آية الكرسي - غدوة أُجرت مني حتى تمسي، وإذا قرأتها حين تمسي أجرت مني حتى تصبح) قال أُبَيُّ: فغدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك، فقال: " صدق الخبيث " (¬4) جـ - عند النوم: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الشيطان قال له: (إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية ¬

(¬1) شرح مسلم للنووي (6/ 95). (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 130). (¬3) (حديث حسن) أخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة) وغيره، وقد صححه ابن حبان، والمنذري، وابن حجر، والألباني. انظر السلسلة الصحيحة (972). (¬4) (حديث صحيح) أخرجه النسائي في اليوم والليلة (961) والطبراني (1/ 541) والحاكم (1/ 562) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (655).

4 - فضل سورة آل عمران

الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال لي: (لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح) وكانوا أحرص شيء على الخير. فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال: " صدقك وهو كذوب " (¬1). 4 - فضل سورة آل عمران: عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ... اقرءوا الزهراوين (¬2): البقرة وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان كأنهما غمامتان أو غيايتان (¬3)، أو كأنهما فرقان (¬4) من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة (¬5) " قال معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة السحرة. (¬6) عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب، في ثلاث سور من القرآن: في البقرة، وآل عمران، وطه ". قال القاسم بن عبد الرحمن: فالتمست ذلك فوجدت في سورة البقرة آية ¬

(¬1) رواه البخاري (5010) كتاب فضائل القرآن، وقد رواه قبل ذلك في الوكالة (2311) تعليقاً ووصله غيره. (¬2) قوله: «الزهراوين» قال الإمام النووي - رحمه الله -: (سميتا بذلك لنورهما، وهدايتهما، وعظيم أمرهما). (¬3) «الغيايتان»: مثنى غياية وهي كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه: كالسحابة، والغاشية، ونحوهما. (¬4) «فرقان»: قطعتان. والمعنى: أن ثوابهما يظله يوم القيامة كأنه غمامتان، أو كقطيع الطير وجماعته. (¬5) «لا تستطيعها البطلة»: قيل لا تستطيع قراءتها، وقيل: لا تستطيع النفاذ إلى قارئها. (¬6) رواه مسلم (804).

5 - سورة الكهف حصن يعصم من الدجال

الكرسي: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي سورة آل عمران {الم * اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1 - 2) سورة آل عمران، وفي سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} (111) سورة طه (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا هو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفى في الصفات بالتلازم لاكتفى بالحي) .. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسم {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}) (¬2). 5 - سورة الكهف حصن يعصم من الدجال: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَنْ حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال " (¬3). قال الإمام النووي - رحمه الله -: (قيل: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبرها لم يفتن من الدجال). ويستحب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَنْ قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين ¬

(¬1) (حديث صحيح) أخرجه ابن ماجه (3856)، والحاكم (1/ 506) وغيرهما. انظر السلسلة الصحيحة للألباني (746). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (18/ 311)، زاد المعاد (3/ 130). (¬3) رواه مسلم (809).

6 - سورة الفتح يحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الجمعتين " (¬1). وفي رواية " أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق " (¬2). 6 - سورة الفتح يحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لقد أُنْزِلَتْ عليَّ سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} (1) سورة الفتح" (¬3). عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لقد أُنْزِلَتْ عليَّ آية هي أحب إليَّ من الدنيا جميعاً: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} " (¬4). 7 - سورة تبارك تمنع من عذاب القبر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر" (¬5). عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت في صاحبها حتى غُفِرَ له وهي: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) سورة الملك" (¬6). 8 - سورة الكافرون تعدل ربع القرآن: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ¬

(¬1) (صحيح الإسناد) رواه النسائي في اليوم والليلة، والبيهقي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (738) والسلسلة الصحيحة (2651). (¬2) انظر صحيح الجامع (6471). (¬3) رواه البخاري (5012)، باب فضل سورة الفتح. (¬4) رواه مسلم (1786). (¬5) (حديث صحيح) انظر السلسلة الصحيحة (1140)، وصحيح الجامع (3643). (¬6) (حديث صحيح) رواه أبوداود (1400)، والترمذي (2893) وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1265)، وصحيح الجامع (3644).

9 - سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن

عدلت له بربع القرآن " (¬1). 9 - سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في فضل سورة الإخلاص: " والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ". وفي رواية: " أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟ " فشق عليهم ذلك. وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} ثلث القرآن " (¬2). قيل: سميت السورة بالإخلاص لأن الله أخلصها لنفسه فلم يذكر فيها غيره، وكما أنها تخلص قارئها من الشرك والتعطيل. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (والأحاديث بكونها تعدل ثلث القرآن تكاد تبلغ مبلغ التواتر) (¬3). وقد اختلف العلماء في تأويل ذلك على أقوال: أقربها ما نقله شيخ الإسلام عن أبي العباس، وحاصله أن القرآن الكريم اشتمل على ثلاثة مقاصد أساسية: أولها: الأوامر والنواهي ... ثانيها: القصص والأخبار لأحوال الرسل مع أممهم ... ثالثها: علم التوحيد وما يجب على العباد من معرفة الله بأسمائه وصفاته، وهذا هو أشرف الثلاثة. ¬

(¬1) (حديث حسن) رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6466). (¬2) رواه البخاري (5013، 5014، 5015)، وأبوداود (1458)، والنسائي (2/ 139)، ومثله عند مسلم من حديث أبي الدرداء مرفوعاً. (¬3) شرح العقيدة الواسطية ص (23) للدكتور / صالح بن فوزان الفوزان، الطبعة الخامسة، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإرشاد.

10 - فضل المعوذتين

ولما كانت سورة الإخلاص قد تضمنت أصول هذا العلم، واشتملت عليه إجمالاً صح أن يقال أنها تعدل ثلث القرآن. (¬1) عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرأ " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة " (¬2). 10 - فضل المعوذتين: عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " قد أنزل الله عليَّ آيات لم ير مثلهن قط {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} , {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} " (¬3). وعنه أيضاً قال: (أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة) (¬4). وعن عائشة - رضي الله عنها -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} , {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} , ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات) (¬5). ¬

(¬1) شرح العقيدة الواسطية ص (25، 26) تأليف العلامة / محمد خليل هراس - رحمه الله -، الطبعة الرابعة من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة. (¬2) (حديث صحيح) رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6472)، والسلسلة الصحيحة (589). (¬3) (حديث صحيح) رواه الترمذي (3606) وقال: حديث حسن. وهو عند البخاري تعليقاً، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2682). (¬4) (حديث صحيح) رواه أبوداود (1523)، والترمذي (3079)، وأحمد (4/ 201) انظر السلسلة الصحيحة (645)، (1514). (¬5) (متفق عليه) رواه البخاري (5017)، ومسلم (2192).

شبهة والرد عليها: وبعد معرفة هذه الفضائل لا يحق لأحد أن يهجر تلاوة القرآن. ولكن قد يأتي الشيطان إلى أحدنا ليصرفه عن القراءة والتلاوة ويحرمه من الخير والفضل ويوسوس له ويقول: إنك لا تعرف أو لا تحسن أحكام الترتيل فإذا قرأت بغير أحكامه فإنك آثم بل مأزور غير مأجور؟!! فإذا به ينصرف عن التلاوة وفي نفس الوقت يتكاسل عن تعلم الأحكام. والحق أن ترد كيد الشيطان في نحره، وتستمر في القراءة ولا تنقطع أبداً واجتهد في تعلم الأحكام على يد شيخ متقن، وضع نصب عينيك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول فيه: " الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به (¬1) مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران " (¬2). (ويمكنك إذا كنت لا تجيد قراءة القرآن أن تذهب إلى أقرب مسجد لتتعلم فيه كيفية التلاوة، وهناك طريقة سهلة، وهي أنك تأتي بشرائط القرآن المرتل، ثم تتابع مع الشريط في المصحف. وإذا لم يكن في إمكانك الحصول على تلك الشرائط، فيمكنك أن تسمع إلى محطة القرآن الكريم وتتابع مع القارئ في المصحف أيضاً.) (¬3). ¬

(¬1) «ماهر به»: مجيد لفظه على ما ينبغي بحيث لا يتشابه ولا يقف في قراءته. «مع السفر الكرام البررة»: مع الملائكة المطيعين في منازلهم في الآخرة. «يتتعتع فيه»: يتردد في قراءته. انظر هامش رياض الصالحين ص (327). (¬2) (متفق عليه) رواه البخاري (4937)، ومسلم (798) عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) كتاب ففروا إلى الله لأبي ذر القلموني ص (188) طبعة دار المنار.

المبحث الثالث أحاديث ضعيفة للتحذير منها

المبحث الثالث أحاديث ضعيفة للتحذير منها أولاً: أحاديث ضعيفة في فضل القرآن ثانياً: أحاديث ضعيفة في فضل قراءة القرآن عند المقابر ثالثاً: أحاديث ضعيفة في فضائل السور رابعاً: دعاء الحفظ الضعيف هذه بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضائل قراءة القرآن وسوره، اشتهرت بين الناس، وتداولها كثير من الوعاظ والخطباء على أنها صحيحة، نذكرها: بياناً لحالها من الضعف والوضع، حتى يكون الناس على بينة من ذلك؛ لأن في الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك ما يغني عن الضعيف والموضوع، وتحذيراً من القول على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغير علم، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار»، وقال أيضاً: «مَنْ يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار». أولاً: أحاديث ضعيفة في فضل القرآن 1 - عن علي بن أبي طالب مرفوعاً: «من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله، وحرم حرامه، أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد استوجب النار». (ضعيف جداً) ضعيف ابن ماجه (38)، ضعيف الترمذي (553) وضعيف الجامع (5761)، المشكاة (2141). 2 - عن سهل بن معاذ مرفوعاً: «مَنْ قرأ القرآن وعَمِلَ بما فيه، أُلبس والده تاجاً يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم،

فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟» (ضعيف) ضعيف أبي داود (315)، ضعيف الجامع (5762)، المشكاة (2139). 3 - عن أبي أمامة الباهلي مرفوعاً: «مَنْ قرأ ربع القرآن فقد أُوتِيَ ربع النبوة، ومَنْ قرأ ثُلُثَ القرآن فقد أُوتِيَ ثلث النبوة، ومَنْ قرأ ثلثي القرآن فقد أوتي ثلثي النبوة، ومن قرأ القرآن فقد أوتي النبوة». (موضوع) السلسلة الضعيفة (476). 4 - عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «يقول الله عز وجل: (مَنْ شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) ". (ضعيف) ضعيف الترمذي (562)، ضعيف الجامع (6435)، السلسلة الضعيفة (1335)، المشكاة (2136). 5 - عن سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: «اقرءوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا ..» جزء من حديث ضعيف ابن ماجه (281)، ضعيف الجامع (2025). 6 - عن حذيفة مرفوعاً: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم». (ضعيف) ضعيف الجامع (1067). 7 - عن أنس مرفوعاً: «مَنْ جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت». (موضوع) السلسلة الضعيفة (271). 8 - عن أنس مرفوعاً: «عُرضت عليَّ أجور أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليَّ ذنوب أمتي، فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن، أو آية أوتيها رجل ثم نسيها». (ضعيف) ضعيف الترمذي (558)،

ثانيا: أحاديث ضعيفة في فضل قراءة القرآن عند المقابر

ضعيف أبي داود (71)، ضعيف الجامع (3700). 9 - عن سعد بن عبادة مرفوعاً: «ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه، إلا لقي الله - عز وجل - يوم القيامة أجذم». أجذم: مقطوع اليدين. (ضعيف) ضعيف أبي داود (317)، ضعيف الجامع (5153)، المشكاة (2200). 10 - عن ابن عباس مرفوعاً: «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب». (ضعيف) ضعيف الترمذي (557) المشكاة (2135). 11 - عن ابن عباس قال: (قال رجل: يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الحال المرتحل». قال: وما الحال المرتحل؟ قال: «الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره. كلما حلَّ ارتحل». (ضعيف الإسناد) رواه الترمذي ح (2948) وقال: (هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بالقوي)، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (فهم من هذا بعضهم أنه إذا فرغ من ختم القرآن، قرأ فاتحة الكتاب وثلاث آيات من سورة البقرة؛ لأنه حلَّ بالفراغ، وارتحل بالشروع. وهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة (¬1). ثانياً: أحاديث ضعيفة في فضل قراءة القرآن عند المقابر 1 - " مَنْ دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفف الله عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات ". (حديث لا أصل له في شيء من كتب السنة)، السلسلة الضعيفة (1246). ¬

(¬1) إعلام الموقعين (4/ 251) طبعة دار الحديث.

ثالثا: أحاديث ضعيفة في فضائل السور

2 - «اقرءوا (يّس) على موتاكم». (ضعيف بل منكر)، ضعيف أبي داود رقم (683)، أحكام الجنائز ص (20). 3 - "مَنْ مَرَّ بالمقابر فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أُعْطِيَ من الأجر بعدد الأموات". حديث (باطل موضوع) أحكام الجنائز ص (245). 4 - قال الشعبي: "كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون القرآن ". (ضعيف الإسناد). أحكام الجنائز ص (244). 5 - "ما من مؤمن ولا مؤمنة يقرأ آية الكرسي ويجعل ثوابها لأهل القبور إلا لم يبق على وجه الأرض قبر إلا أدخل الله فيه نوراً، ووسِّعَ قبره من المشرق إلى المغرب، وأعطاه الله بعدد كل مَلَك في السموات عشر حسنات، وكتب الله للقارئ ثواب سبعين شهيداً " (موضوع). ثالثاً: أحاديث ضعيفة في فضائل السور 1 - سورة الفاتحة عن أبي أيوب مرفوعاً: "لمَّا نزلت {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وآية الكرسي و {شَهِدَ اللهُ} و {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى {بِغَيْرِ حِسَابٍ} تعلقن بالعرش وقلن: أنزلتنا على قوم يعملون بمعاصيك؟ فقال: "وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا يتلوكن عبد دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان فيه وأسكنته جنة الفردوس ونظرت إليه كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة " (موضوع) السلسلة الضعيفة (699).

2 - سورة البقرة

2 - سورة البقرة عن أبي هريرة مرفوعاً: "كل شيء سنام، وإن سنام القرآن البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي " (ضعيف) السلسلة الضعيفة (4633) ضعيف الجامع (5771). 3 - سورة آل عمران عن ابن عباس مرفوعاً: "مَنْ قرأ السورة التي يذكر فيها (آل عمران) يوم الجمعة، صلَّى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس". (موضوع) السلسلة الضعيفة (415)، ضعيف الجامع (5759). 4 - سورة الكهف عن أبي الدرداء مرفوعاً: "مَنْ قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عُصِمَ من الدجال ". (شاذ) والمحفوظ (عشر آيات). ضعيف الترمذي (542) ضعيف الجامع (5765). عن ابن عمر مرفوعاً: "مَنْ قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين". (إسناده غريب) تمام المنة (ص 324/ 325). 5 - سورة الرحمن " لكل شيء عروس، وعروس القرآن الرحمن ". (منكر) السلسلة الضعيفة (1350). 6 - سورة يّس عن أنس مرفوعاً "إن لكل شيء قلباً وإن قلب القرآن يّس، مَنْ قرأها فكأنما

7 - سورة الدخان

قرأ القرآن عشر مرات". (موضوع) ضعيف الترمذي (543) السلسلة الضعيفة (169)، ضعيف الجامع (5785). 7 - سورة الدخان عن أبي هريرة مرفوعاً: "مَنْ قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف مَلَك ". (موضوع) ضعيف الترمذي (544)، ضعيف الجامع (5766). وعنه أيضاً مرفوعاً: "مَنْ قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غُفِرَ له ". (ضعيف جداً) ضعيف الترمذي (545)، السلسلة الضعيفة (4632)، ضعيف الجامع (5767). 8 - سورة الواقعة عن ابن مسعود مرفوعاً: "مَنْ قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً". (ضعيف)، السلسلة الضعيفة (289، 290، 291)، ضعيف الجامع (5773). 9 - سورة الحشر عن أبي أمامة مرفوعاً: "مَنْ قرأ خواتيم الحشر من ليل أو نهار فَقُبِضَ في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة ". (ضعيف جداً) السلسلة الضعيفة (4631)، ضعيف الجامع (5770). عن معقل بن يسار مرفوعاً: "مَنْ قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وَكَّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومَنْ قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " (ضعيف)، ضعيف الترمذي (560)، ضعيف الجامع (5732).

10 - سورة الإخلاص والمعوذتين

10 - سورة الإخلاص والمعوذتين عن أنس مرفوعاً: "مَنْ قرأ كل يوم مائتي مرة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مُحِيَ عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دَيْن ". (ضعيف) ضعيف الترمذي (551)، السلسلة الضعيفة (300)، ضعيف الجامع (5783). عن أنس مرفوعاً: «مَنْ قرأ في يوم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} سبع مرات، أعاذه الله بها من السوء إلى الجمعة الأخرى». (ضعيف) السلسلة الضعيفة (4630) وضعيف الجامع (5764). رابعاً: دعاء الحفظ الضعيف عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه علي بن أبي طالب فقال: بأبي أنت وأمي! تفلت هذا القرآن من صدري، فما أجدني أقدر عليه. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا الحسن!، أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع بهن من علمته، ويثبت ما تعلمت في صدرك؟ "قال: أجل يا رسول الله! فعلمني. قال: "إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم ثلث الليل الآخر، فإنها ساعة مشهودة، والدعاء فيها مستجاب، وقد قال أخي يعقوب لبنيه: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (98) سورة يوسف. يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة. فإن لم تستطع، فقم في وسطها، فإن لم تستطع، فقم في أولها، فصل أربع ركعات، تقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة (يس)، وفي الثانية بفاتحة

الكتاب وحم (الدخان)، وفي الركعة الثالثة بفاتحة الكتاب وألم تنزيل (السجدة) وفي الركعة الرابعة بفاتحة الكتاب و (تبارك) المفصل فإذا فرغت من التشهد، فاحمد الله، وأحسن الثناء على الله، وصلَّ عليَّ وأحسن، وعلى سائر النبيين، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولإخوانك الذين سبقوك بالإيمان، ثم قل في آخر ذلك: اللهم ارحمني بترك المعاصي أبداً ما أبقيتني، وارحمني أن أتكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني. اللهم بديع السموات والأرض، ذا الجلال والإكرام، والعزة التي لا ترام ... إلى أن قال: يا أبا الحسن! تفعل ذلك ثلاث جُمَع، أو خمساً، أو سبعاً، تُجَب بإذن الله، والذي بعثني بالحق ما أخطأ مؤمناً قط". قال ابن عباس: فوالله ما لبث علي إلا خمساً، أو سبعاً، حتى جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في مثل ذلك المجلس، فقال: يا رسول الله! إني كنت فيما خلا لا آخذ إلا أربع آيات ونحوهن، فإذا قرأتهن على نفسي تفلتن، وأنا أتعلم اليوم أربعين آية ونحوها، فإذا قرأتها على نفسي، فكأنما كتاب الله بين عيني، ولقد كنت أسمع الحديث، فإذا أردته تفلت، وأنا اليوم أسمع الأحاديث، فإذا تحدثت بها لم أخرم منها حرفاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عند ذلك: "مؤمن ورب الكعبة أبا الحسن ‍". (حديث موضوع) السلسلة الضعيفة (3374) نقلاً من كتاب ضعيف سنن الترمذي حديث رقم (719).

الفصل الخامس آداب وأحكام تلاوة القرآن الكريم

الفصل الخامس آداب وأحكام تلاوة القرآن الكريم وفيه أحد عشر مبحثاً: 1 - آداب تلاوة القرآن الكريم. 2 - صفة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن. 3 - في كم يقرأ القرآن؟ 4 - أيهما أفضل القراءة من المصحف أم عن ظهر قلب؟ 5 - أيهما أفضل الجهر بالقراءة أم الإسرار؟ 6 - هل يجوز مس المصحف على غير طهارة؟ 7 - هل يجوز قراءة القرآن للجنب والحائض؟ 8 - سجود التلاوة وأحكامه. 9 - حكم نسيان القرآن. 10 - حكم تقليد صوت القارئ. 11 - حكم القراءة من المصحف في صلاة التراويح.

1 - آداب تلاوة القرآن

1 - آداب تلاوة القرآن هناك الكثير من الآداب التي ينبغي للقارئ أن يتأدب بها عند تلاوة كتاب الله - تعالى - وسوف نذكر طرفاً منها مجملاً ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب (التبيان في آداب حملة القرآن) للإمام النووي - رحمه الله - فإنه قد أجاد في ذلك وأفاض. 1 - الإخلاص: ينبغي للقارئ أن يقصد بتلاوة القرآن رضا الله - تعالى - وما عنده من الأجر والثواب، وأن لا يقصد به توصلاً إلى غرض من أغراض الدنيا من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند الناس، أو صرف وجوه الناس إليه، أو نحو ذلك. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة" (¬1) ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه أبوداود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم (100).

2 - الطهارة

2 - الطهارة: يستحب للقارئ أن يقرأ القرآن وهو على طهارة فإن قرأ مُحْدِثاً جاز بإجماع المسلمين والأحاديث فيه كثيرة معروفة، قال إمام الحرمين: ولا يقال ارتكب مكروهاً ولكن تارك للأفضل. 3 - السواك: يستحب للقارئ أن ينظف فاه بالسواك لأنه (مطهرة للفم ومرضاة للرب) (¬1). 4 - نظافة المكان: يستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار ولهذا استحب جماعة العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة أما القراءة في الطريق وعلى الراحلة ونحو ذلك فالصحيح أنها جائزة غير مكروهة إذا لم ينشغل القارئ عن قراءته، فإن انشغل عنها يكره مخافة الخلط. 5 - استقبال القبلة: يستحب للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة ويجلس متخشعاً بسكينة ووقار، وهذا هو الأكمل، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً أو في فراشة أو على غير ذلك من الأحوال جاز وله أجر ولكنه دون الأول. 6 - الاستعاذة والبسملة: فإن أراد الشروع في القراءة استعاذ بأي صيغة من صيغ التعوذ الواردة لقوله ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه البخاري في كتاب الصوم معلقاً بصيغة الجزم عن عائشة. وقال الحافظ في الفتح (4/ 188): (وصله أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان). وصححه الألباني في الإرواء (66).

7 - الترتيل

تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (98) سورة النحل. 7 - الترتيل: وينبغي أن يرتل قراءته لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) سورة المزمل. وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (121) سورة البقرة. وذلك لأن الترتيل أقرب إلى التوقير والاحترام وأشد تأثيراً في القلب ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب. 2 - صفة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في هديه - صلى الله عليه وسلم - في قراءة القرآن: (كان له - صلى الله عليه وسلم - حزب يقرأه، ولا يخل به (¬1)، وكانت قراءته ترتيلاً، لا هذاً (¬2) ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفاً (¬3)، وكان يقطع قراءته آية آية (¬4)،وكان يمد حروف ¬

(¬1) وأما حديث «أنه كان له حزب لا يخل به» رواه أبوداود (1393) في كتاب الصلاة، باب تحزيب القرآن، من حديث أوس بن حذيفة، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (297). (¬2) (هذاً): سرعة القراءة بغير تأمل. الفتح (8/ 708). (¬3) رواه أبوداود (1466)، والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح. وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (316)، ضعيف الترمذي (561)، وضعيف النسائي، المشكاة (1210) التحقيق الثاني. وصححه عبد القادر الأرناؤوط في تخريجه للتبيان ص (70). (¬4) قال أبوعمرو الداني في (المكتفى) (5/ 2): (وكان جماعة من الأئمة السالفين والقُرَّاء الماضين يستحبون القطع على الآيات وإن تعلق بعضهن ببعض). وقال الألباني: وهذه سنة أعرض عنها جمهور القراء في هذه الأزمان فضلاً عن غيرهم. هامش صفة الصلاة ص (51).

المد، فيمد الرحمن ويمد الرحيم (¬1)، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته، وربما كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه، ونفثه " (¬2) وكان تعوذه قبل القراءة .. وكان يقرأ القرآن قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً، ومتوضئاً، ومحدثاً، ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة (¬3) وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغنى به، ويرجع صوته به أحياناً كما رجع يوم الفتح في قراءته {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} (1) سورة الفتح. وحكى عبد الله بن المغفل ترجيعه آآ آثلاث مرات، ذكره البخاري ... وهذا الترجيع منه - صلى الله عليه وسلم - كان اختياراً لا اضطراراً لهز الناقة له) (¬4). هديه - صلى الله عليه وسلم - في القراءة في الصلاة: 1 - كان - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعة الأولى أكثر من الثانية. 2 - كان يبتدئ من أول السورة ويكملها في أغلب أحواله، وتارة يقسمها في ركعتين، وتارة يعيدها كلها في الركعة الثانية، وأحياناً يجمع في الركعة بين السورتين أو أكثر، وكان يقرن النظائر (¬5) من المفصل كثيراً. 3 - وكان يطيل القراءة أحياناً، ويقصرها أحياناً أخرى، وربما لعارض سفر ¬

(¬1) رواه البخاري ح (5046) عن أنس بن مالك. (¬2) (حديث سنده حسن) أخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه من حديث جبير بن مطعم وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وأخرجه أحمد وأبوداود والترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري. قاله الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد (1/ 482). (¬3) الحديث (ضعيف) انظر ضعيف الترمذي (22). (¬4) زاد المعاد لابن القيم (1/ 483 - 484) وانظر فتح الباري (8/ 448). (¬5) النظائر: السور المتماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو القصص. انظر (صفة الصلاة) للألباني ص (57).

أو سعال أو مرض أو بكاء صبي. 4 - وكانت تختلف قراءته باختلاف الصلوات، ولم يكن يلتزم سورة معينة في صلاة معينة في كثير من الأحوال غير صبح الجمعة فإنه كان يقرأ فيها {الم * تنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (1 - 2) سورة السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ} (1) سورة الإنسان (¬1)، وصلاة الجمعة والعيدين. 5 - وكان يجهر بالقراءة في صلاة الصبح والجمعة والعيدين، والاستسقاء، والكسوف، والأوليين من صلاة المغرب والعشاء، ويُسر بها في صلاة الظهر والعصر، وربما كان يسمعهم فيها الآية والآيتين وكان يسر تارة ويجهر أخرى في صلاة الليل. 6 - وكان يطيل في صلاة الفجر ما لا يطيل في غيرها في سائر الصلوات ثم الظهر ثم العصر والعشاء، ثم المغرب غالباً. ¬

(¬1) قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين، أو قراءة السجدة وحدها في الركعتين، وهو خلاف السنة، وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فُضل بسجدة، فجهل عظيم، ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة السجدة لأجل هذا الظن، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم ودخول الجنة والنار، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم، تذكيراً للأمة بحوادث هذا اليوم، كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة (ق) و (اقتربت) و (سبح) و (الغاشية)). زاد المعاد (1/ 210 - 211).

أما عن هديه - صلى الله عليه وسلم - في القراءة في الصلوات فهو كالآتي: 1 - صلاة الفجر: كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها أحياناً بطوال المفصل فربما قرأ الواقعة أو الطور أو {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، وربما قرأ ما بين الستين إلى المئة آية في الركعة أو الركعتين، وربما قرأ بقصار المفصل مثل {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}. 2 - صلاة الظهر: كان يطيلها أحياناً حتى أنه كانت تقام الصلاة فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته ثم يأتي والرسول - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يطولها، وربما قرأ قدر الثلاثين آية في الركعتين، وأحياناً كان يقرأ بـ {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ}، {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ونحوها من السور. 3 - صلاة العصر: وكانت قراءته فيها على النصف تقريباً من صلاة الظهر أي قدر خمس عشرة آية في كل ركعة أو في الركعتين جميعاً. 4 - صلاة المغرب: كان يقرأ فيها أحياناً بقصار المفصل حتى إنه لينصرف الواحد منهم ليبصر مواقع نبله وكان يقرأ أحياناً {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، وأحياناً بطوال المفصل وأواسطه، فربما قرأ بالطور، والمرسلات قرأ بها في آخر صلاة صلاها، وكان أحياناً يقرأ بطولى الطوليين (الأعراف). 5 - صلاة العشاء: كان يخفف فيها ما لا يخفف في غيرها، وكان ينهى عن إطالة القراءة فيها كما في حديث معاذ بن جبل، فتارة يقرأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وأشباهها من السور، وتارة {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} وكان يسجد بها. 6 - صلاة الجمعة: كان يقرأ فيها أحياناً بـ الجمعة والمنافقون، وتارة الجمعة والغاشية , وأحياناً الاعلى والغاشية.

3 - في كم يقرأ القرآن؟

7 - صلاة العيدين: كان يقرأ فيها أحياناً {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} والغاشية أو {ق} والقمر. 3 - في كم يقرأ القرآن؟ (¬1) أخرج الإمام البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن باب في كم يقرأ القرآن وقول الله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}. وأورد تحته حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقرأ القرآن في شهر " قلت: إني أجد قوة ... حتى قال: اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك " (¬2). وأخرج أبوداود أن عبد الله بن عمرو سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في كم يقرأ القرآن؟ قال: "في أربعين يوماً " ثم قال: " في شهر " ثم قال: " في عشرين " ثم قال: " في خمس عشرة " ثم قال: " في عشر " ثم قال: " في سبع " (¬3). وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يفقه مَنْ قرأ القرآن في أقل من ثلاث " (¬4). ¬

(¬1) تراجع هذه المسألة في الكتب الآتية: فتح الباري (8/ 712،717)، التبيان ص (46،50) طبعة البيان، فضائل القرآن لابن كثير، البرهان في علوم القرآن (1/ 554،555)، والإحياء للغزالي (1/ 325،326). (¬2) رواه البخاري (5054). (¬3) (حسن) رواه أبوداود (1395) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1261)، صحيح الجامع (1154)، السلسلة الصحيحة (1512). (¬4) (صحيح) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع (7743).

قال الإمام النووي - رحمه الله -: (وكان السلف - رضي الله عنهم - لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف - رضي الله عنهم -، أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل خمس ليال، وعن بعضهم في كل أربع ليال، وعن كثيرين في كل ثلاث ليال. وعن بعضهم ليلتين. وعن بعضهم في كل ليلة واحدة) (¬1). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (قوله: (باب في كم يقرأ القرآن) وقول الله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} كأنه أشار إلى الرد على من قال: أقل ما يجزئ من القراءة في كل يوم وليلة جزء من أربعين جزءاً من القرآن، وهو منقول عن إسحق بن راهوية والحنابلة، لأن عموم قوله تعالى {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} يشمل أقل من ذلك، فمن ادَّعى التحديد فعليه البيان) (¬2). وفي فتاوى اللجنة الدائمة: (ويشرع أن لا يتجاوز في ختمه للقرآن شهراً؛ لفعل السلف، ولكن لو ختمه في أكثر من شهر لا يُعد هاجراً لتلاوة القرآن). (¬3) قال الإمام النووي - رحمه الله -: (الاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان من أهل الفهم والتدقيق استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني وكذا من كان له شغل ¬

(¬1) التبيان للنووي ص (46) طبعة البيان بتصرف. (¬2) فتح الباري (8/ 713) طبعة الريان. (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة: المجموعة الثانية المجلد الثالث صـ 77

بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة استحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرأه هزرمة. والله أعلم) (¬1) وينبغي للمسلم ألا يقرأ القرآن في أقل من ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ذلك " (¬2). قال أبوالطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي - رحمه الله -: (وهذا نص صريح في أنه لا يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام) (¬3). وقال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: (أقول: هذا هو الصواب الموافق للسنة) (¬4). وأما ما ورد عن السلف في ختمهم للقرآن في أقل من ذلك مثل: ما ورد عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه جمع القرآن في ركعة يوتر بها وروى عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعة في الكعبة وتميم الداري وغيرهم من العلماء والصالحين. فهذا يحمل على ما ذكره ابن كثير في فضائل القرآن: فهذا وأمثاله محمول إما على أنه ما بلغهم في ذلك حديث مما تقدم، أو أنهم كانوا يفقهون، ويتفكرون فيما يقرءونه مع هذه السرعة، والله سبحانه وتعالى أعلم) (¬5). ¬

(¬1) التبيان ص (32) طبعة مكتبة الزهراء، الهزرمة: سرعة الكلام الخفي. (¬2) (حديث صحيح) انظر صحيح الجامع (7743). (¬3) عون المعبود شرح سنن أبي داود (4/ 187) المجلد الثاني طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى. (¬4) تخريج كتاب التبيان ص (49) طبعة البيان، دمشق، الطبعة الأولى. (¬5) فضائل القرآن لابن كثير.

وقال العلامة الألباني - رحمه الله -: (ولقد أحسن الإمام الترمذي برواية هذا الخبر والذي بعده (خبر عثمان، وسعيد) بصيغة التضعيف، لأن الركعة مهما طالت لا يمكن أن يقرأ فيها القرآن الكريم كاملاً، فضلاً عما في ذلك من مخالفته لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركوع والسجود والقيام، وحاشا لسيدنا عثمان أن يفعل مثل ذلك) (¬1). وقال سماحة العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: (... وبعض السلف قال: إنه يستثنى من ذلك أوقات الفضائل وأنه لا بأس أن يختم كل ليلة أو في كل يوم كما ذكروا هذا عن الشافعي وعن غيره، ولكن ظاهر السنة أنه لا فرق بين رمضان وغيره وأنه ينبغي له أن لا يعجل وأن يطمئن في قراءته وأن يرتل كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن عمرو فقال: "اقرأه في سبع " هذا آخر ما أمره به، وقال: " لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث "، ولم يقل إلا في رمضان، فحمله بعض السلف هذا على غير رمضان محل نظر. والأقرب - والله أعلم - أن المشروع للمؤمن أن يعتني بالقرآن ويجتهد في إحسان قراءته وتدبر القرآن والعناية بالمعاني ولا يعجل، والأفضل أن لا يختم في أقل من ثلاث، هذا هو الذي ينبغي حسب ما جاءت به السنة ولو في رمضان) (¬2) والخلاصة: مما سبق يتضح أن الأفضل للمسلم أن لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث لحديث النبي عليه الصلاة والسلام وأن لا يزيد عن شهر لفعل السلف الصالح رضوان الله عليهم. ¬

(¬1) ضعيف الترمذي للألباني ص (357). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9/ 416)

4 - أيهما أفضل القراءة من المصحف أم عن ظهر قلب؟

4 - أيهما أفضل القراءة من المصحف أم عن ظهر قلب؟ قال الإمام النووي - رحمه الله -: (قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب، لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة فتجتمع القراءة والنظر هكذا قاله القاضي حسين من أصحابنا وأبوحامد الغزالي وجماعة من السلف؛ ونقل الغزالي في الإحياء أن كثيرين من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يقرأون من المصحف ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف وروي ابن أبي داود القراءة في المصحف عن كثيرين من السلف ولم أر فيه خلافاً، ولو قيل: إنه يختلف باختلاف الأشخاص فيختار القراءة في المصحف لمن استوى خشوعه وتدبره في حالتي القراءة في المصحف وعن ظهر قلب، ويختار القراءة عن ظهر القلب لمن لم يكمل بذلك خشوعه ويزيد على خشوعه وتدبره لو قرأ من المصحف لكن هذا قولاً حسناً والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل) (¬1). 5 - هل الجهر بالقراءة أفضل أم الإسرار؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: الأول: الجهر أفضل. الثاني: الإسرار أفصل. الثالث: التفصيل وهو ما نميل إليه. قال أبوحامد الغزالي - رحمه الله -: (فالوجه في الجمع في هذه الأحاديث أن ¬

(¬1) التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي ص (55، 56) طبعة مكتبة الزهراء. وانظر البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 544 - 547)، فضائل القرآن للحافظ ابن كثير (62 - 64) والإحياء للغزالي (1/ 329) طبعة الريان، فتح الباري (8/ 696 - 697) طبعة الريان.

6 - هل يجوز مس المصحف على غير طهارة؟

الإسرار أبعد عن الرياء والتصنع فهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه، فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوش الوقت على مصلٍ آخر، فالجهر أفضل لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته من اللازم، ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر فيه، ويصرف إليه سمعه، ولأنه يرجو بجهره تيقظ نائم فيكون هو سبب إحيائه، ولأنه قد يراه بَطَّال غافل فينشط بسبب نشاطه ويشتاق إلى الخدمة، فمتى حضره شيء من هذه النيات، فالجهر أفضل، وإن اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر، وبكثرة النيات تزكو أعمال الأبرار، وتتضاعف أجورهم، فإن كان في العمل الواحد عشر نيات، كان فيه عشر أجور) (¬1). وفي فتاوى اللجنة الدائمة: (يراعى فيه الأصلح للقارئ من الجهر أو الأسرار مما يجمع قلبه على القراءة وتدبر معاني ما يتلوه من معاني القرآن الكريم. (¬2) 6 - هل يجوز مس المصحف على غير طهارة؟ ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز مس المصحف للمحدث مطلقاً سواء أكان حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر فمنعوا غير المتوضئ والجنب والحائض والنفساء من مس المصحف؛ واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) سورة الواقعة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمس القرآن إلا طاهر " (¬3). ¬

(¬1) إحياء علوم الدين للغزالي (1/ 329)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/ 547)، التبيان ص (58 - 59). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الثانية, المجلد الثالث, ص 80 (¬3) (حديث صحيح) صححه الألباني في صحيح الجامع (7780)، المشكاة (465) والإرواء (122) وقال: (وجملة القول: أن الحديث طرقه كلها لا تخلو من ضعف لكنه ضعف يسير إذ ليس في شيء منها من اتهم بالكذب، وإنما العلة بالإرسال أو سوء الحفظ وكثرة الطرق يقوي بعضها بعضاُ).

وفعل الصحابة رضي الله عنهم ومنهم سعد بن أبي وقاص كما رواه الإمام مالك في الموطأ كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الفرج عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص؛ أنه قال: كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت. فقال سعد: لعلك مسست ذكرك؟ قال: فقلت نعم. فقال: قم، فتوضأ. فقمت، فتوضأت، ثم رجعت. وأجاب عن ذلك القائلون بالجواز بأن الاستدلال بالآية الكريمة لا يسلم للقائلين بالمنع وذلك لأن جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الضمير في الآية في قوله: {لَّا يَمَسُّهُ} المقصود به الكتاب المكنون الذي في السماء، والمطهرون هم الملائكة، وهذا ما يشعر به سياق الآيات الكريمة، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ويؤيد ذلك قوله تعالى {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ}. أما الحديث " لا يمس القرآن إلا طاهر " فلفظ " طاهر " لفظ مشترك، يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولابد لحمله على معين من قرينه، والأحاديث التي احتجوا بها في المنع لا يثبت منها شيء. قال الإمام ابن حزم - رحمه الله -: (وأما مس المصحف فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه فإنه لا يصح

7 - هل يجوز قراءة القرآن للجنب والحائض؟

منها شيء لأنها إما مرسلة وإما صحيفة لا تسند وإما عن مجهول وإما عن ضعيف) (¬1) والذي نراه أن رأي الجمهور أولى وأحوط. والله أعلم. 7 - هل يجوز قراءة القرآن للجنب والحائض؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: يجوز لهذا ولهذا، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: لا يجوز للجنب، ويجوز للحائض. إما مطلقاً أو إذا خافت النسيان. وهو مذهب مالك وقول في مذهب أحمد وغيره. فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: " لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئاً " (¬2) وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين أحاديث ضعيفة. بخلاف روايته عن الشاميين، ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات، ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء، بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد، فيكبرن بتكبير المسلمين. وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت: تلبي وهي حائض، وكذلك ¬

(¬1) راجع المحلي لابن حزم (1/ 77 - 84) طبعة دار الفكر. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 478): (وأما حديث ابن عمر مرفوعاً فضعيف من جميع طرقه)، وقال عنه الألباني: (حديث منكر) راجع ضعيف الترمذي (18)، ضعيف ابن ماجه (130)، ضعيف الجامع (6364)، وإرواء الغليل (192).

بمزدلفة ومنى، وغير ذلك من المشاعر) (¬1). وإذا ثبت جواز القراءة للحائض، فإنه يثبت للجنب كذلك، وأما التفريق بينهما فلا دليل عليه. وأورد الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الحيض: باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت. وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية. ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله في كل أحيانه ... قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعاً لابن بطال وغيره: أن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة - رضي الله عنها -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن من جميع مناسك الحج إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء، ولم تُمْنَع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجنب لأن حدثها أغلظ من حدثه، ومنع القراءة إذا كان لكونه ذكراً لله فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان تعبداً فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره لكن أكثرها قابل للتأويل كما سنشير إليه، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري وابن المنذر وداود بعموم حديث: " كان يذكر الله على كل أحيانه" لأن الذكر أعم أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فُرِّقَ بين الذكر والتلاوة بالعرف ... وأما حديث علي رضي الله عنه: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه عن القراءة ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/ 460 - 461) طبعة دار التقوى.

8 - سجود التلاوة

شيء ليس الجنابة) رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة (¬1)، لكن قيل: في الاستدلال به نظر لأنه فعل مجرد فلا يدل على تحريم ما عداه، وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعاً بين الأدلة) (¬2). والخلاصة: أنه لم يثبت في منع الحائض أو الجنب من القراءة حديث صحيح صريح، فيبقى الأمر على البراءة الأصلية، وعلى الرغم من هذا فإننا نرى أن الأولى أن يكون الإنسان على طهارة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر " (¬3). 8 - سجود التلاوة هل يشترط لسجود التلاوة طهارة؟ وهل يُكبَّر إذا خفض ورفع سواء كان في الصلاة أو خارجها؟ وماذا يُقال في هذا السجود؟ وهل ما ورد من الدعاء صحيح؟ وهل يشرع السلام من هذا السجود إذا كان خارج الصلاة؟ الجواب: قال العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -: (سجود التلاوة لا تشترط له الطهارة في أصح قولي العلماء وليس فيه تسليم ولا تكبير عند ¬

(¬1) الحديث (ضعيف) قال النووي: (خالف الترمذي الأكثرون، فضعفوا هذا الحديث) وضعفه الإمام الشافعي وأحمد والبيهقي والخطابي والألباني في الإرواء (133،485)، تمام المنة ص (108 - 110)، وضعفه الترمذي (22). (¬2) فتح الباري (1/ 485 - 487) طبعة الريان. (¬3) (حديث صحيح) راجع السلسة الصحيحة (834).

الرفع منه في أصح قولي أهل العلم. ويشرع فيه التكبير عند السجود لأنه قد ثبت من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - ما يدل على ذلك. أما إذا كان سجود التلاوة في الصلاة فإنه يجب فيه التكبير عند الخفض والرفع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك في الصلاة في كل خفض ورفع وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1) ويشرع في سجود التلاوة من الذكر والدعاء ما يشرع في سجود الصلاة لعموم الأحاديث ومن ذلك: " اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين " (¬2) روى ذلك مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول هذا الذكر في سجود الصلاة وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا في سجود التلاوة بقوله: " اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وامح عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام " (¬3). والواجب في ذلك قوله: (سبحان ربي الأعلى) كالواجب في سجود الصلاة. ومازاد عن ذلك من الذكر والدعاء فهو مستحب، وسجود التلاوة في الصلاة، وخارجها سنة وليس بواجب لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث زيد بن ثابت ما ¬

(¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه مسلم ح (771) من حديث علي، ورواه أحمد من حديث عائشة وأبوداود والنسائي بإسناد حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (¬3) (حديث حسن) رواه الترمذي من حديث ابن عباس وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي , وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2710).

يدل على ذلك (¬1) وثبت عن عمر - رضي الله عنه - ما يدل على ذلك أيضاً. (¬2) والله ولي التوفيق (¬3). حكم سجود التلاوة في الأوقات المكروهة: قال الإمام الشوكاني - رحمه الله -: (روي عن بعض الصحابة أنه يكره سجود التلاوة في الأوقات المكروه، والظاهر عدم الكراهة، لأن السجود المذكور ليس بصلاة والأحاديث الواردة بالنهي مختصة بالصلاة) (¬4) سجود المستمع لسجود القارئ: من استمع إلى قارئ، فقرأ آية فيها سجدة؛ فالمستحب ألا يسجد المستمع حتى يسجد القارئ، لأنه بمثابة الإمام، وأما إن لم يسجد القارئ فلا يسجد المستمع. قال ابن مسعود لتميم بن حذلم - وهو غلام - فقرأ عليه سجدة فقال: اسجد، فأنت إمامنا فيها (¬5). ¬

(¬1) عن زيد بن ثابت قال: (قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد فيها) رواه البخاري (1073)، ورواه مسلم وأبوداود والترمذي. (¬2) حديث عمر: رواه البخاري (ح 1077) وفيه قال عمر: (يا أيها الناس إنما نَمُرُّ بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه) راجع الفتح (2/ 649). (¬3) تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام ص (129/ 130) تأليف الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - وأشرف على تجميعه وطبعه محمد بن شايع بن عبد العزيز الشايع. نشرة دار طيبة. الطبعة الثانية. (¬4) عون المعبود شرح سنن أبي داود (4/ 203،204) طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى. (¬5) رواه البخاري (2/ 647) باب من سجد لسجود القارئ معلقاً بصيغة الجزم، وقال الحافظ: (وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور من رواية مغيرة عن إبراهيم .. وقد رُوي مرفوعاً أخرجه ابن أبي شيبة من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم ورجاله ثقات إلا أنه مرسل). الفتح (2/ 648).

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) (¬1). وفرق بعض العلماء بين السامع والمستمع، لما ورد من الآثار ما يفيد ذلك، ومنها: قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: (إنما السجدة على من استمعها) (¬2). وعن سعيد بن المسيب أن عثمان مَرَّ بقاصٍ فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: (إنما السجود على من استمع ثم مضى ولم يسجد)، وعنه أيضاً أنه قال: قال عثمان: (إنما السجدة على مَنْ جلس لها واستمع) (¬3) وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (مَرّ سلمان على قوم قعود فقرأوا السجدة فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا) (¬4) قال الشافعي في البويطي: (لا أؤكده - السجود - على السامع؛ كما أؤكده على المستمع) (¬5) قال الإمام النووي - رحمه الله -: إذا سجد المستمع مع القارئ لا يرتبط به ولا ينوي الاقتداء به، وله الرفع من السجود قبله) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (1075). (¬2) رواه البخاري (2/ 648 الفتح) معلقاً بصيغة الجزم. (¬3) (الطريقان صحيحان) الأول رواه عبد الرزاق، والثاني رواه ابن أبي شيبة، الفتح (2/ 649) (¬4) (إسناده صحيح) رواه عبد الرزاق. الفتح (2/ 649). (¬5) فتح الباري (2/ 650). (¬6) التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص (101) طبعة مكتبة ابن عباس بالمنصورة.

9 - حكم نسيان القرآن

9 - حكم نسيان القرآن وردت آثار كثيرة تحث على تعاهد القرآن، والأمر باستذكاره وتلاوته، كما وردت آثار أخرى تحذر من نسيانه، والغفلة عنه، ومن ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت" (¬1). وحديث أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تعاهدوا القرآن، والذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عُقلها " (¬2) قال الحافظ ابن حجر: (الإبل المعقلة): أي المشدودة بالعقال وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير، شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الفرار، فما زال التعاهد موجوداً فالحفظ موجود كما أن البعير مادام مشدوداً بالعقال فهو محفوظ، وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفوراً، وفي تحصيلها بعد استكمان نفورها صعوبة). (¬3) واختلف السلف في نسيان القرآن، فمنهم من جعل ذلك من الكبائر، وأخرج أبوعبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفاً قال: (ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى. ¬

(¬1) رواه البخاري ح (5031). (¬2) رواه البخاري (ح 5033) ومعنى تفصياً: تفلتاً وتخلصاً، الفتح (8/ 700). (¬3) فتح الباري (8/ 697).

وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب)، ومن طريق أبي العالية موقوفاً: (كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه)، وإسناده جيد، ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه، ويقولون فيه قولاً شديداً. وقال الإمام القرطبي - رحمه الله -: (مَنْ حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه، فإذا أخلَّ بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك، فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد) (¬1). وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (124 - 126) سورة طه. (أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من نسيك {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (51) سورة الأعراف. فإن الجزاء من جنس العمل، وأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعداً عليه من جهة ¬

(¬1) فتح الباري (8/ 704،705) بتصرف.

10 - حكم تقليد صوت القارئ

أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك) (¬1). وقال أيضا: (فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان وعدم الاعتناء به فيه تهاون كبيروتفريط شديد نعوذ بالله به) 10 - حكم تقليد صوت القارئ قال الشيخ بكر بن عبد الله أبوزيد - رحمه الله -: (فاعلم أنه في عصرنا بدت ظاهرة عجيبة، لدى بعض القراء إذ أخذوا في التقليد والمحاكاة على سبيل الإعجاب والتلذذ، وتلقنه الطلاب وهم في دور التلقي ثم سرت هذه العادة فَتَكَوَّن من هذه الظاهرة ظاهرة المحاكاة والتقليد في الصوت، كل بحسب من أعجبه صوته، فعمروا المحاريب بالتقليد، وهم وقوف بين يدى الله تعالى، يؤمون المصلين، ليحرك الإمام نفوس المأمومين بصوت غيره، ويتلذذ السامعون بحسن أدائه فيه، بل وصل الحال إلى أن الإمام في التراويح، قد يقلد صوتين، أو ثلاثة، وهكذا، وقد سمعت في هذا عجبا، وصدق أبوالطيب المتنبي: وأسرعُ مفعولٍ فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضده ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 174) طبعة المكتبة القيمة ولقد ألفت في الوسائل المعينة على حفظ القرآن وتعاهده الكثير من الكتب منها: 1 - قصد السبيل إلى الجنان ببيان كيف تحفظ القرآن - إبراهيم عبد المنعم الشربيني. 2 - الكلمات الحسان فيما يعين على الحفظ والانتفاع بالقرآن - محمد بن مصطفى. 3 - الإيقاظ لتذكير الحفاظ بالآيات المتشابهة الألفاظ - جمال بن عبد الرحمن. 4 - عون الرحمن أبوذر القلموني. 5 - كيف تحفظ القرآن؟ د. عبد الرب نواب الدين.

وحيث إن هذا أمر إضافي في عبادة، والعبادات سبيلها الوقف على النص ومورده، بل هنا في أفضل الكلام (القرآن الكريم) وفي أفضل العبادات العملية (الصلاة) والمسلم مطالب بأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فالسؤال الوارد إذاً: ما حكم التعبد بتقليد صوت القارئ هل هو مطلوب شرعاً أو غير مطلوب؟ وإذا كان مطلوباً فما دليله؟ وما منزلته من قسمي الطلب: الوجوب والندب؟ وإن لم يكن مطلوباً فما حكمه؟ وما موقعه من قسمي النهي: التحريم والكراهة؟ والجواب: أن مجرد الصوت حسناً أو غير حسن، لم يعلق الله عليه حكماً، لا مدحاً، ولا ذماً، بل لا يجوز فيه ذمه إذا كان غير حسن، لأنه خلق الله، ولا اختيار للعبد فيه، وأن الصوت الطبيعي الحسن، نعمة على العبد، وأن النعم محن، فإن استعمله في الطاعة في قراءة كتاب الله تعالى كان ذلك أمراً مرغوباً فيه شرعاً، واستماعه مرغوب شرعاً، لا لذات الصوت لكن، لأنه يحمل كلام الله، ويحببه إلى النفوس ويوصل معانيه إلى القلوب، وأن من كان كذلك لم يمنحه الشرع حكماً مستقلاً لذات الصوت دون غيره. وأن تحريك الصوت للإنسان أمر طبعي، كما يتحرك كل إلى ما يناسبه من الأصوات وإنما التعبد أن يتحرك العبد إلى كلام الله وما فيه من العظة والعبرة، والتذكير بالمصير، وبالجنة والنار، وعظيم الحِكَم والأحكام، أما لو تحرك عند قراءة القرآن طرباً لمجرد حسن الصوت، دون ما يحمله من آيات القرآن الكريم، فهذا عشق مجرد من التعبد، لعدم ورود أمر التعبد عليه في الشرع المطهر. وإذا استقر عندك هذا المحصول الجامع لأحكام الصوت الحسن، بقي الوقوف على حكم هذه الظاهرة الحادثة:

(الافتتان بتقليد أصوات القراء، والقراءة بها في المحاريب بين يدى الله تعالى) عندئذ نقول: 1 - هذا أمر إضافي إلى التعبد في القراءة، فهذا التقليد (عبادة) ومعلوم أنه قد وجد المقتضي لهذا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعصر صحابته - رضي الله عنهم - فلم يُعلم العمل به عند أحد منهم - رضي الله عنهم - وقد عُلم في (الأصول): (أن ترك العمل بالشيء في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وجود المقتضى له يدل على عدم المشروعية). فالصوت الحسن في القراءة موجود في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأس الأمة في هذا نبينا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهذا المقتضى موجود، ولم يُعلم أن أحداً تقرب إلى الله بتقليد صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من صحابته، ولا من بعدهم، وهكذا. فدل هذا على عدم مشروعية هذا التقليد، وعُلِمَ به أن التقرب إلى الله تعالى بذلك التقليد والمحاكاة لأصوات القراء أمر مهجور، فالتعبد به أمر مُحْدَث، وقد نُهِينَا عن الإحداث في الدين. وقاعدة الشرع: أن كل أمر تعبدي مُحْدَث فهو: بدعة وكل بدعة ضلالة، وأن الشغف والتدين بحسن الصوت فحسب، والتلذذ به، كالتدين بعشق الصور، فهما في الابتداع والتحريم سواء. بل يضاف إلى المحاكاة للصوت الحسن، وأن فيها نوع تبعية مُذلة، والشرع يبني في النفوس: العزة، والكرامة، وترقية العقول، واستقلالها، وتمحض متابعتها لهدي النبوة لا غير. 3 - والشرع يدعو إلى تحسين القارئ صوته، وهذا أمر مشروع في حق مَنْ يملكه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وتطلبه بالتقليد والمحاكاة، تكليف بما لا

يسع العبد في طبعه، فهو غير مطلوب، وتكلف العبد ما لا يطيقه كمن يريد شبر البسيطة، وهذا يخالف الفطرة حساً، ويعاكسها عقلاً، ودين الإسلام دين الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم. 4 - واعلم أن المحدَث يتولد منه أمور محدثة، وهكذا تبدو المحدثات صغاراً، ثم تنمو، وتزداد، حتى تنقطع السبيل إلى سبل، وتغاب السنن. وقد تولد عن فتنة التقليد: 1 - إحياء البدعة المهجورة لدى المتصوفة (التعبد بعشق الصوت) ولقد كشف أهل السنة بدعيتها. 2 - الازدحام في المساجد التي سبيل إمامها المحاكاة والتقليد، وشد الرحال إليها وبخاصة في أيام رمضان ليصلي التراويح في مسجد إمامه (حسن الصوت) وفي هذا مخالفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " (¬1) 3 - تَكَرُّه النفوس للصلاة خلف إمام لا يستحسن صوته. 4 - انصراف مَنْ شاء الله مِنْ عباده عن الخشوع في الصلاة، وحضور القلب إلى التعلق بمتابعة الصوت الحسن لذات الصوت. وأنصح كل مسلم قارئ لكتاب الله تعالى وبخاصة أئمة المساجد أن يكفوا عن المحاكاة والتقليد في قراءة كلام رب العالمين، فكلام الله أَجَلُّ، وأعظم من أن ¬

(¬1) رواه البخاري ح (1189) ومسلم ح (1397).

11 - حكم القراءة من المصحف في صلاة التراويح

يجلب له القارئ مالم يطلب منه شرعاً زائداً على تحسين الصوت حسب وسعه لا حسب قدرته على التقليد والمحاكاة. وقد قال الله عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (86) سورة ص وليجتهد العبد في حضور القلب، وإصلاح النية فيقرأ القرآن محسناً به صوته من غير تكلف، وليجتنب التكلف من الأنغام، والتقعر في القراءة، والممنوع من حرمة الأداء) (¬1). 11 - حكم القراءة من المصحف في صلاة التراويح انتشر في هذا الزمان ظاهرة القراءة من المصحف في صلاة التراويح، وأصبحت سمة عامة لكثير من المساجد، مما أدى إلى تكاسل كثير من الأئمة الحفاظ عن المراجعة، فما حكم هذه الظاهرة؟ وهل يجوز قراءة الإمام من المصحف في القيام استدلالاً بإمامة ذكوان لعائشة - رضي الله عنها -؟ أم أنه من محدثات الأمور. الجواب: اختلف العلماء قديماً وحديثاً ما بين مانع ومجيز ولكل أدلته. ولقد سئل الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - فأجاب: (لا نرى ذلك، وما ذُكر عن ذكوان حادثة عين، لا عموم لها، وبإباحة ذلك لأئمة المساجد يؤدي بهم إلى ترك تعاهد القرآن والعناية بحفظه غيباً، وهذا خلاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها" (¬2). ¬

(¬1) بدع القراء القديمة والمعاصرة ص (28 - 58) بتصرف لفضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبوزيد، طبعة دار قرطبة. (¬2) رواه البخاري ح (5033) واللفظ له، ومسلم ح (791).

ومعلوم أن للوسائل حكم الغايات كقولهم ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب وما يؤدي إلى معصية فهو معصية ... وهكذا). وهذه الظاهرة عليها الكثير من المآخذ منها: 1 - أنه خلاف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول " صلوا كما رأيتموني أصلي " (¬1). 2 - أنه أيضاً خلاف لسنة الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا أن نتأسى بهم. 3 - أنه يميت الرغبة لدى الكثير في حفظ القرآن الكريم، التي خص الله بها هذه الأمة وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم إلا نظراً، فإذا طبقوه لم يحفظ ما فيه إلا الأنبياء، هذا وأكبر دافع وأقوى حافز للمسلم للقرآن للصلاة، فما دام يجوز القراءة من المصحف لماذا العناء والنصب؟ 4 - وبه - أيضاً - يهمل العمل بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليليني منكم أولو الأحلام والنُهى .. الحديث " (¬2) إذ لا حاجة لأن يقفوا خلف الإمام للفتح عليه. 5 - وكذا به لا يستطيع الإمام النظر إلى موضع السجود لتعلق نظره بصفحات المصحف. 6 - فيه نقص لتمام الطمأنينة والخشوع لانشغال الإمام بتقليب الصفحات وتقديمه أثناء القيام من المصحف للقراءة والتأخر والرجوع عندما يريد الركوع بل البعض يكون المصحف عن يمينه فتراه يشيح بوجهه عن المسجد الحرام بدلاً ¬

(¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه مسلم ح (432) وأحمد وأبوداود والترمذي.

من أن يصمد إليه وجهه صمداً، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (150) سورة البقرة. 7 - كثير من أهل العلم كره هذا الصنيع كما جاء ذلك عن مجاهد وعن الأعمش وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يؤم الرجل في المصحف كراهية أن يتشبهوا بأهل الكتاب، بل إن سليمان بن حنظل مَرَّ بقوم يؤمهم رجل في مصحف في رمضان على مشجب فرمى به). 8 - ما قاله ابن حزم في المحلى (ولا يحل لأحد أن يؤم وهو ينظر ما يقرأ به في المصحف لا في فريضة ولا نافلة، فإن فعل عالماً بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته وصلاة من ائتم به عالماً بحاله بأن ذلك لا يجوز وأما أبوحنيفة - رحمه الله - قال عن صلاته: أنها فاسدة). أما حجج من أجاز ذلك أهمها اثنتان: 1 - احتجاجهم بأنه لم يعد هناك من يحفظ القرآن فنقول لهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة بآية واحدة وهي قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118) سورة المائدة. كان بها يسجد وبها يركع وبها يقوم يقعد حتى يصبح .. الحديث (¬1). 2 - استدلالهم بصنيع مولى عائشة - رضي الله عنها - ذكوان بأنه كان يؤمها من المصحف في رمضان فنقول: أهذا الأمر كان من الدين؟ فهل عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت عنه وتجاهله؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! وإلا فما معنى قوله تعالى: ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه النسائي وابن خزيمة وأحمد وابن نصر والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. راجع صفة الصلاة للألباني ص (69).

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة. أما الأئمة الأعلام الذين أجازوا ذلك فإنهم قيدوه بقيد الاضطرار فهذا الإمام أحمد - رحمه الله - سئل هل يؤم في المصحف في رمضان؟ قال: ما يعجبني إلا أن يضطر إلى ذلك. وبه قال إسحاق. وقال قتادة عن سعيد بن المسيب في الذي يقوم في رمضان: إن كان معه ما يقرأ به في ليلة، وإلا فليقرأ في المصحف. وأما الحسن - رحمه الله - فقال: يقرأ بما معه ويردده ولا يقرأ من المصحف كما تفعل اليهود. (¬1) ومما سبق يتضح أن: الأولى أن يقرأ المسلم من حفظه ولو كان قليلاً يردده كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح من بعده، ولا يقرأ من المصحف في الصلاة إلا أن يضطر إلى ذلك. والله أعلم. ¬

(¬1) المقتصد في ترجمة الشيخ أبويوسف عبد الرحمن عبد الصمد بقلم إبراهيم بن حميد الساجر. وراجع كلام السلف عن القراءة من المصحف في الصلاة في كتاب المصاحف لابن أبي داود تحقيق سليم الهلالي ص (710 - 721) طبعة مؤسسة غراس للنشر والتوزيع ط الأولى 1427 هـ

الباب الثاني هجر استماع القرآن

الباب الثاني هجر استماع القرآن وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: استماع القرآن الكريم (معناه - فضله - آدابه - سبب هجره). الفصل الثاني: أقسام الناس في سماع القرآن. الفصل الثالث: نماذج من استماع القرآن الكريم. الفصل الرابع: صور من هجر استماع القرآن.

الفصل الأول استماع القرآن الكريم

الفصل الأول استماع القرآن الكريم وفيه أربعة مباحث: أولاً: معنى السماع. ثانياً: فضائل استماع القرآن. ثالثاً: آداب استماع القرآن الكريم. رابعاً: سبب هجر استماع القرآن.

أولا: معنى السماع

أولاً: معنى السماع السماع لغةً: قال ابن منظور - رحمه الله -: سمع: السَّمْعُ حسُّ الأذن، وفي التنزيل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق؛ وقال ثعلبُ: معناه: خلا له فلم يشتغل بغيره، وقد سمعه سَمْعاً وسِمْعاً وسَمَاعاً وسَمَاعة وسَمَاعية ... قال ابن السكيت: (السَّمْعُ) سَمْعُ الإنسان وغيره، ويكون واحداً وجمعاً، كقوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} (7) سورة البقرة. لأنه في الأصل مصدر قولك (سَمِعَ) الشيء بالكسر (سَمْعاً) و (سَمَاعاً) وقد يجمع على (أسماع) وجمع الأسماع (أسامع). وقوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} (81) سورة النمل. أي ما تسمع إلا من يؤمن بها، وأراد بالإسماع ههنا القبول والعمل بما يسمع، لأنه إذا لم يقبل ولم يعمل فهو بمنزلة من لم يسمع. وسَمَّعه الصوت وأسمعه: استمع له. وتَسَّمع إليه أي أصغى. وقد تأتي (سَمِعَ) بمعنى أجاب، ومن أمثلة ذلك: (سمع الله لمن حمده) أي

أجاب الله حمده وتقبله، وفي الحديث: (اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يُسمع) أي لا يستجاب ولا يعتد به فكأنه غير مسموع. والسميع: من صفاته عز وجل وأسمائه، لا يعزب عن إدراكه مسموع، وإن خفي، وسع سمعه الأصوات كلها، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}. وقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى} (80) سورة الزخرف. قال الأزهري: وهو سبحانه سميع ذو سمع بلا تكييف ولا يشبه بالسمع من خلقه ولا سمعه كسمع خلقه، ونحن نصف الله بما وصف به نفسه بلا تحديد ولا تكييف. ورجل سمَّاع إذا كان كثير الاستماع لما يقال وينطق به، قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} (42) سورة المائدة. فُسِّر قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} على وجهين: أحدهما: أنهم يسمعون لكي يكذبوا فيما سمعوا. الثاني: ويجوز أن يكون أنهم يسمعون الكذب ليشيعوه في الناس. والله أعلم بما أراد (¬1). السماع اصطلاحاً: قال الإمام ابن القيم: (وحقيقة السماع تنبيه القلب على معاني المسموع وتحريكه عنها طلباً أو هرباً، وحباً أو بغضاً) (¬2). ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور (6/ 363 - 365) بتصرف، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى. (¬2) (مدارج السالكين (1/ 517) انظر نضرة النعيم (6/ 2301)).

ثانيا: فضائل استماع القرآن

هل هناك فرق بين السماع والاستماع؟ نعم، فالاستماع يكون بحضور القلب مع سكون الجوارح بحيث يحصل التدبر؛ لذا يؤجر عليه صاحبه. وأما السماع فيكون بدون قصد ولا إرادة، لذا لا يترتب عليه أجر ولا إثم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فالرجل لوسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة، من غير قصد منه، كأن كان مجتازاً بطريق فسمع ذلك، لم يأثم، ذلك باتفاق المسلمين، ولو كان الرجل ماراً، فسمع القرآن، من غير أن يستمع إليه، لم يؤجر على ذلك، وإنما يؤجر على الاستماع الذي يقصد) (¬1). ثانياً: فضائل استماع القرآن إن فضائل استماع القرآن الكريم كثيرة، كما أن لتلاوة القرآن الأجر العظيم، فكن - أخي الحبيب - من المحافظين على تلاوته واستماعه، حتى تفوز بالأجر العظيم في الدنيا والآخرة، وتكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته. ومن هذه الفضائل: 1 - استماع القرآن سبب لرحمة الله - سبحانه وتعالى -: قال الله - عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف. قال - صلى الله عليه وسلم -: " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده " (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 212). (¬2) رواه مسلم (6726) وأبوداود والترمذي مختصراً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.

قال الليث: يُقَال: ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن، لقول الله جل ذكره: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف و (لعل) من الله واجبة. (¬1) قال الحسن البصري: إذا جلست إلى القرآن فأنصت له. (¬2) وقد اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية، وأن الأمر بالاستماع والإنصات في حق مَنْ؟ فمنهم مَنْ قال: في الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة، وآخرون قالوا: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة، وغيرهم قال: الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة وهذا اختيار ابن جرير الطبري (¬3). والذي يظهر والله أعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كان في الصلاة أشد مطلوباً لمكان القرب والتأثر. ¬

(¬1) فضائل القرآن وآداب التلاوة للإمام القرطبي ص (12) تحقيق د / أحمد حجازي السقا، نشر المكتب الثقافي. (تنبيه) لنا بعض الملاحظات على تحقيق الدكتور المذكور آنفاً للكتاب منها: 1 - لم يخرج الأحاديث النبوية، بل تركها كما هي، والكتاب به الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. 2 - ملأ الكتاب بالتعليقات التي تدل على منهجه الاعتزالي من تقديم العقل على النقل، وتأويل الصفات وتعطيلها. مثال: نفى الشفاعة يوم القيامة ص (11)، فسر (استوى) بمعنى (استولى) ص (25)، ويد الله بمعنى قدرة الله ص (26)، ونفى صفة الكلام لله ص (34) وغيرها. 3 - ينفي النسخ في القرآن ص (29) كما يشكك في الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والأحكام إن لم يكن يرده مطلقاً ص (51، 52، 96). (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 268 - 287) طبعة المكتبة القيمة. (¬3) المرجع السابق.

2 - استماع القرآن سبب لتحصيل الأجر العظيم وكما عرفنا أن مَنْ قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء، فإن الأجر لا يتوقف على التلاوة فحسب، بل إن استماع القرآن الكريم - إذا أخلص الإنسان نيته لله - من الأسباب المعينة على تكثير الحسنات، ومضاعفة الطاعات، ومن أفضل القربات. قال أبوهريرة - رضي الله عنه -: (مَنْ استمع إلى آية من كتاب الله تعالى كُتب له حسنة مضاعفة، ومَنْ تلاها كانت له نوراً يوم القيامة) (¬1). 3 - استماع القرآن سبب لهداية الإنسان لقد أوضح الله سبحانه وتعالى أن القرآن مصدر الهداية في الدنيا والاخرة، ومن تمسك به تلاوة واستماعاً وعملاً وتدبراً فلن يضل أو يشقى، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء. وإن استماع القرآن من الأعمال الصالحة التي بشر القرآن أصحابها بالهداية، ووصفهم بأنهم أصحاب العقول السليمة الراشدة فقال عز وجل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (17 - 18) سورة الزمر. ¬

(¬1) (ضعيف مرفوعاً، صحيح موقوفاً) رواه أحمد مرفوعاً (3/ 341) وضعفه المنذري في الترغيب (2/ 345)، وقال الحافظ العراقي في تخريج الاحياء (1/ 320): (وفيه ضعف وانقطاع) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5408)، وقال محقق التبيان ص (73): وفيه الحسن البصري مدلس ولم يصرح بالسماع وقد اختلف في سماعه من أبي هريرة، وعباد بن ميسرة ضعيف، فالحديث ضعيف مرفوعاً، صحيح موقوفاً) طبعة مكتبة ابن عباس المنصورة.

4 - استماع القرآن سبب لتحصيل النور عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (من استمع إلى آية من كتاب الله تعالى كانت له نوراً) (¬1). إن الاستماع إلى القرآن الكريم يكسب صاحبه نوراً في الدنيا: ينير له الطريق، ويبدد به الظلمات، ويكسب به الشبهات، ويقمع به الشهوات، ويقضي به على الضلالات، وكذلك يكسب صاحبه نوراً في الآخرة: يمشي به على الصراط، وينجو به من المهلكات حتى يفوز بجنة الله خالق الأرض والسموات، فمن دعاء المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (8) سورة التحريم. فوائد الاستماع: قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (فهذا السماع حادٍ يحدو القلوب، إلى جوار علام الغيوب، وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، وحرك يثير ساكن العزمات، إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات، ومنادٍ ينادي للإيمان، ودليل يسير بالركب في طريق الجنان، وداع يدعو القلوب بالمساء والصباح من قبل فالق الإصباح (حي على الفلاح، حي على الفلاح) .. فلم يعدم من اختار هذا السماع إرشاداً لحجة، وتبصرة لعبرة، وتذكرة لمعرفة، وفكرة في آية، ودلالة على رشد، ورداً على ضلالة، وإرشاداً من غيّ، وبصيرة من عمى، وأمراً بمصلحة، ونهياً عن ¬

(¬1) (صحيح الإسناد) رواه الدارمي في سننه برقم (3367) (وفيه رزين بن عبد الله بن حميد لم أقف على من ترجم له، وأما عنعنة ابن جريج فلا تضر عن عطاء لأنه قال: إذا قلت: قال عطاء، فهو سماع وإن لم أقل: سمعت، وقد تابع رزيناً عبد الرزاق (6012) فصح الإسناد). نقلاً عن تخريج التبيان ص (73) مكتبة ابن عباس المنصورة.

ثالثا: آداب استماع القرآن الكريم

مضرة ومفسدة، وهداية إلى نور، وإخراجاً من ظلمة، وزجراً عن هوى، وحثاً على تقى، وجلاء لبصيرة، وحياة لقلب، وغذاء ودواء وشفاء، وعصمة ونجاة، وكشف شبهة، وإيضاح برهان، وتحقيق حق، وإبطال باطل ...) (¬1). ثالثاً: آداب استماع القرآن الكريم قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) سورة الأنفال. يذكر الله - تعالى - حال المؤمنين عند استماع آيات القرآن الكريم أنهم يُلقون إليها الأسماع في إصغاء وخشوع، وأدب وخضوع، وصمت وادِّكار، وتفكر واعتبار؛ مؤمنين بأن ما يسمعونه هو كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على سيد المرسلين, فوعاه قلبه، ونطق به لسانه، وبلغّه إلى أمته أداء للأمانة، وإبلاغاً للرسالة، فرقاناً بين الحق والباطل، هادياً إلى سبيل الرشاد، مبشراً بالوعد الصادق مَنْ أذعن له وأطاع، منذراً بالوعيد العدل مَنْ تمرد عليه وعصى، مذكراً بأيام الله وما خلا من قرون، ومضى من شئون، ذاكراً ما أعدَّ الله للمتقين من جنات وعيون، ونعيم مقيم، وما أعد للكافرين من نار موقدة، وعذاب دائم أليم. فترى المؤمنين عند تلاوته وسماعه قد خشعت أصواتهم لرهبته، ووجلت قلوبهم لخشيته، وذرفت عيونهم من مخافته، وأقبلوا على ربهم تائبين، ومن ذنوبهم مستغفرين، وفي رضاه طامعين، ومن غضبه وجلين. ذلك كان شأن الصحابة - رضوان الله عليهم -، والصدر الأول من المسلمين عند سماع القرآن وتلاوته وذلك ما تشير إليه الآية، في وصف المؤمنين أنهم إذا ¬

(¬1) مدارج السالكين لابن القيم (1/ 535) طبعة دار الجيل.

ذكر الله بصفات الجلال، وأنه القاهر فوق عباده، المنفرد بالقدرة والسلطان والقوة والجبروت - وجلت قلوبهم. وإذا تليت عليهم آياته، وفقهوا ما في ثناياها من معان وأحكام، وبشارة ونذارة، ووعد ووعيد، وعظات وأمثال - قوي يقينهم بالله، وأقبلوا على ما فيه رضاه، وأعرضوا عما يسخطه، ولا يرضاه كما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف. فإن الأمر بالاستماع والإنصات عند قراءته في الصلاة وخارج الصلاة أمر صريح، وقد جعله الله مناط الرحمة؛ ليُعلم أن اللغو عند قراءته والتصدية والمكاء، والجَلَبة والضوضاء من موانع الرحمة، ونعوذ بالله ممن يضل سعيه، فيحول بعمله بين نفسه ورحمة ربه. فأين نحن الآن من أسلافنا؟ وهم القدوة في الهدى، وقد اتخذنا القرآن أغاني فالقارئ يفنن في النغم والتلحين، ويخرج به عن سنن الترتيل وقواعد التجويد، ويعيد الآية عند استحسان السامعين للنغمة وطلبهم الإعادة، والسامع يستخفُّه الطرب، لا من معاني القرآن، بل من حسن التوقيع وموسيقى الشيطان، وأفانين الألحان؛ فيصيح في نهاية الآيات بكلمات الاستحسان، والثناء على القارئ والدعاء له، وطلب الإعادة منه، وغير ذلك مما يستحي المؤمن الوقور من ذكره، وكثيراً ما يكون ذلك في بيوت الله التي شرفها الله تعالى بإضافتها إليه، وجعل لها حُرمةً، وللدخول فيها والمكث بها آداباً وسنناً. وكيف نرجو الثواب، ونقصد التعبدَّ بالقراءة والسماع؟ والأمر على ما وصفنا: من حركات طائشة، وكلمات مرذولة، وصياح وضوضاء، واستحسان للنغمات، وإغراء بالمزيد منها، وطلب الإعادة للآية لحسن التوقيع، وانتهاكٍ لحرمة

المساجد، وتجاوز في القراءة للحدود المرسومة المروية عن القدوة وأئمة الهدى؟!. وأين الخشية من الله، والخوف عند تلاوة آية العذاب الذي تنخلع من هوله القلوب؟ والرهبة من آية الوعيد الذي يشق المرائر؟ وأين الخشوع والتفكر؟ وأين التوبة والاستغفار من الذنوب عند الذكر؟ (¬1). قال الشيخ عبد العظيم بن بدوي - حفظه الله -: (¬2) (ولقد أمر الله - سبحانه - النبيين وأتباعهم المؤمنين بالاستماع للوحي عند تلاوته ونهاهم عن الانشغال عن الاستماع لما يوحي بأي شيء ولو بتلاوة الوحى نفسه، قال تعالى لموسى عليه السلام: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (13) سورة طه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ عليه جبريل القرآن القرآن تعجل بالقراءة خلفه خشية النسيان، فقال الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (16 - 19) سورة القيامة. وقال للمؤمنين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، لأنه بالاستماع يحصل الفهم المؤدي للعمل. ومن أدب الاستماع: 1 - سكون الجوارح. 2 - وغض البصر. 3 - والإصغاء بالسمع. 4 - وحضور القلب. 5 - والعزم على العمل. ¬

(¬1) القرآن آداب تلاوته وسماعه لـ (حسنين محمد مخلوف) ص (24 - 26) مطبعة لجنة البيان العربي الطبعة الأولى 1958 م. (¬2) مجلة التوحيد ص (12 - 13) عدد ربيع الآخر 1417 هـ السنة (25).

فذلك هو الاستماع الذي يحبه الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه ولا يشغلها فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحضر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما فهم. قال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر (¬1). فإذا استمع العبد إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنية صادقة كما يحب الله أفهمه الله كما يحب، وجعل له في قلبه نوراً، وكان من أهل البشارة التي أمر الله نبيه أن يبشر بها: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر، وهكذا شهد الله لمن يحسن الاستماع إلى كتابه بالهداية والعقل، وذم الذين يسيئون الاستماع إلى الوحي وحكم عليهم بالضلال وشبههم بالأنعام، فقال {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} (16) سورة محمد. وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق. أي: أنه وجه سمعه، وأصغى حاسته إلى ما يتلى من الوحي وقلبه حاضر يفهم ما تسمعه الأذن، فإن السماع مع غفلة القلب سماع الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} , وهكذا تضمنت هذه الآية شروط الانتفاع بالقرآن والتأثر به وإفادتها السامعين بأوجز لفظ وأبينه وأدله ¬

(¬1) رواه الدارمي (1/ 107) بلفظ (يراد للعلم الحفظ والعمل والاستماع والإنصات والنشر). طبعة دار الريان.

رابعا: سبب هجر استماع القرآن

على المطلوب، فذكرت أنه لابد من محل قابل للتأثر، وهو القلب الحي، وأنه لابد من تحصيل شرط وهو إصغاء السمع وحضور القلب، وأنه لابد من انتفاء مانع يمنع من حصول الأثر وهو انشغال القلب وذهوله) (¬1). رابعاً: سبب هجر استماع القرآن من الأسباب الرئيسة لهجر استماع القرآن الكريم، استماع الغناء واللهو والمزمار، الذي أصبح سمة غالبة لكثير من المسلمين - إلا مَنْ رحم الله -. ولقد صرح بذلك العلامة ابن القيم - رحمه الله - فقال: (ومن مكايد عدو الله ومصائده، التي كاد بها مَنْ قَلَّ نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة. وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً. فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس، ففعل فيها ¬

(¬1) راجع شروط الانتفاع بالقرآن الكريم ص (9 - 11) من كتاب الفوائد لابن القيم. طبعة دار مكتبة الحياة.

أعظم ما يفعله حميا الكئوس فلغير الله، بل للشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق. حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزاً، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزاً، فطوراً يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسط الدمار. فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطرباً واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور الرحمن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك ساكناً، ولا أزعج له قاطناً، ولا أثار فيهم وجداً، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زنداً حتى تُلِيَ عليه قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زمراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟ وهذه الأحوال السنيات، عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدراً وشرعاً، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن أين هذا الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟ قال تعالى {وَإِذْ قُلْنَا

لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (50) سورة الكهف (¬1). وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في موضع آخر: (والسلف الصالح كانوا يجدون الأذواق الصحيحة المتصلة بالله في الأعمال الصحيحة المشروعة، وفي قراءة كتاب الله وتدبره واستماعه، وفي مزاحمة العلماء بالرُّكب، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الحب في الله، والبغض فيه، وتوابع ذلك فصار ذوق المتأخرين - إلا مَنْ رحم الله - في اليراع (القصبة التي يصفر بها الراعي) والدف والمواصيل والأغاني المطربة ومن الصور المستحسنة والرقص والزعقات، وتعطيل ما يحبه الله ويرضاه من عبوديته المخالفة لهوى النفوس، فشتان بين ذوق الألحان وذوق القرآن، وبين ذوق العود والطنبور، وذوق (المؤمنين) و (النور)، وبين ذوق الزَّمْر وذوق (الزُمَر)، وبين ذوق الناي وذوق (اقتربت الساعة وانشق القمر) وبين ذوق المواصيل والشبابات وذوق (يس) و (الصافات)، وبين ذوق غناء الشعر وذوق سورة (الشعراء)، وبين ذوق سماع المكاء والتصدية، وذوق (الأنبياء)، وبين الذوق على سماع تذكر فيه العيون السود والخصور والقدود، وذوق سماع سورة (يونس) و (هود)، وبين ذوق الواقفين في طاعة الشيطان على أقدامهم صواف وذوق الواقفين في خدمة الرحمن في سورة (الأنعام) و (الأعراف)، وبين ذوق الواجدين على طرب المثالث والمثاني، وذوق العارفين عند استماع (القرآن العظيم) و (السبع المثاني)، وبين ذوق أولي الأقدام ¬

(¬1) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم الجوزية (1/ 229 - 230) طبعة دار الحديث.

الصافات في حظيرة سماع الشيطان، وذوق أصحاب الأقدام الصافات بين يدي الرحمن. سبحان الله! هكذا تنقسم الأذواق والمواجيد، ويتميز خُلُقُ المطرودين من خُلُق العبيد، سبحان المُمدِّ لهؤلاء وهؤلاء من عطائه، والمفارق بينهم في الكرامة يوم القيامة فوالله لا تجتمع محبة سماع الشيطان وكلام الرحمن في قلب رجل واحد أبداً، كما لا تجتمع بنت عدو الله وبنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند رجل واحد أبداً) (¬1) (¬2). وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - موضحاً أقسام الناس في سماع القرآن والغناء. والناس في السماع أربعة أقسام: أحدها: مَنْ يشتغل بسماع القرآن عن سماع الشيطان. الثاني: عكسه (مَنْ يشتغل بسماع الشيطان عن سماع القرآن). الثالث: مَنْ له نصيب من هذا وهذا. الرابع: ليس له نصيب لا من هذا ولا من هذا. ¬

(¬1) عن المسْوَر بن مَخْرَمة قال: (إن علياً خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد أنكحت أبالعاص بن الربيع فحدثني فصدقني، وإن فاطمة بضعة مني، وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد. فترك علي الخطبة) رواه البخاري (3729) كتاب فضائل الصحابة باب ذكر أصهار النبي - صلى الله عليه وسلم - (7/ 107) فتح الباري طبعة الريان. (¬2) كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء لابن القيم، ص (107/ 108)، تحقيق ربيع بن أحمد خلف نشر مكتبة السنة، الطبعة الأولى.

فالاشتغال بسماع القرآن الرحماني حال السابقين الأولين وأتباعهم ومن سلك سبيلهم. والثاني: حال المشركين والمنافقين والفجار والفساق والمبطلين ومَنْ سلك سبيلهم. والثالث: حال مؤمن له مادتان: مادة من القرآن ومادة من الشيطان، وهو للغالب عليه منها. والرابع: حال الفارغ من ذوق هذا وهذا، فهو في شأن وأولئك في شأن) (¬1). ¬

(¬1) كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء لابن القيم ص (246).

الفصل الثاني

الفصل الثاني وفيه مبحثان: أولاً: أقسام الناس في سماع القرآن. ثانياً: فتاوى مهمة في استماع القرآن.

أولا: أقسام الناس في سماع القرآن

أولاً: أقسام الناس في سماع القرآن قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (¬1) (أصل السماع الذى أمر الله به هو سماع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - سماع فقه وقبول ولهذا انقسم الناس فيه أربعة أصناف: الأول: صنف معرض ممتنع عن سماعه. الثاني: صنف سمع الصوت ولم يفقه المعنى. الثالث: صنف فقه المعنى ولكنه لم يقبله. الرابع: الذى سمعه سماع فقه وقبول. فـ (الصنف الأول) صنف معرض ممتنع عن سماعه كالذين قال الله فيهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) سورة فصلت. و (الصنف الثاني) مَنْ سمع الصوت بذلك لكن لم يفقه المعنى قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (171) سورة البقرة. وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (16/ 8 - 15) طبعة دار التقوى.

هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (25) سورة الأنعام. وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} (43) سورة يونس. وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} (45 - 47) سورة الإسراء. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (57) سورة الكهف. وقوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} يتناول مَنْ لم يفهم منه تفسير اللفظ كما يفهم بمجرد العربية ومَنْ فهم ذلك لكن لم يعلم نفس المراد فى الخارج وهو من: (الأعيان) و (الأفعال) و (الصفات) المقصودة بالأمر والخبر بحيث يراها ولا يعلم أنها مدلول الخطاب: مثل مَنْ يعلم وصفاً مذموماً ويكون هو متصفاً به أو بعضاً من جنسه ولا يعلم أنه داخل فيه وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (22 - 23) سورة الأنفال. قال ذلك بعد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} (20) سورة الأنفال. فقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} لم يرد به مجرد إسماع الصوت لوجهين: (أحدهما) أن هذا السماع لابد منه ولا تقوم الحجة على المدعوين إلا به كما

قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (6) سورة التوبة، وقال: {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (19) سورة الأنعام، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء. و (الثانى) أنه وحده لا ينفع فإنه قد حصل لجميع الكفار الذين استمعوا القرآن وكفروا به كما تقدم، بخلاف إسماع الفقه فإن ذلك هو الذي يعطيه الله لمن فيه خير، وهذا نظير ما فى الصحيحين عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين " وهذه الآية والحديث يدلان على أن من لم يحصل له السماع الذى يفقه معه القول فإن الله لم يعلم فيه خيراً ولم يرد به خيراً وأن من علم الله فيه خيراً أو أراد به خيراً فلابد أن يسمعه ويفقهه إذ الحديث قد بين أن كل من يرد الله به خيراً يفقهه: فالأول مستلزم للثانى، والصيغة عامة، فمن لم يفقهه لم يكن داخلا فى العموم فلا يكون الله أراد به خيراً وقد انتفى فى حقه اللازم فينتفي الملزوم. وكذلك قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ} (22 - 23) سورة الأنفال. بين أن الأول شرط للثانى: شرطاً نحوياً، وهو ملزوم وسبب، فيقتضى أن كل من علم الله فيه خيراً أسمعه هذا الإسماع، فمن لم يسمعه إياه لم يكن قد علم فيه خيراً فتدبر كيف وجب هذا السماع، وهذا الفقه، وهذا حال المؤمنين، بخلاف الذين يقولون بسماع لا فقه معه، أو فقه لا سماع معه أعنى هذا السماع. وأما قوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} فقد يشكل على كثير من الناس, لظنهم أن هذا السماع المشروط هو السماع المنفي في الجملة الأولى، الذى كان يكون لو علم فيهم خيراً، وليس فى الآية ما يقتضى ذلك، بل ظاهرها وباطنها ينافي ذلك، فإن الضمير فى قوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} عائد إلى الضميرين فى

الصنف الثالث

قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ} , وهؤلاء قد دل الكلام على أن الله لم يعلم فيهم خيراً فلم يسمعهم إذن (لو) يدل على عدم الشرط دائماً وإذا كان الله ما علم فيهم خيراً فلو أسمعهم لتولوا وهم معرضون بمنزلة اليهود الذين قالوا سمعنا وعصينا وهم (الصنف الثالث). ودلت الآية على أنه ليس لكل مَنْ سمع وفقه يكون فيه خير بل قد يفقه ولا يعمل بعلمه فلا ينتفع به، فلا يكون فيه خيراً، ودلت أيضاً على أن إسماع التفهيم إنما يطلب لمن فيه خير، فإنه هو الذى ينتفع به، فأما مَنْ ليس ينتفع به فلا يطلب تفهيمه. و (الصنف الثالث) من سمع الكلام وفقهه لكنه لم يقبله ولم يطع أمره كاليهود الذين قال الله فيهم: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (46) سورة النساء. وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (75) سورة البقرة. إلى قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (78) سورة البقرة. أي تلاوة. فهؤلاء من الصنف الأول الذين يسمعون ويقرءون ولا يفقهون ولا يعقلون إلى قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} (88) سورة البقرة. كما قال فى تلك الآية: {لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (46) سورة النساء.

الصنف الرابع

وقال فى النساء: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (155 - 156) سورة النساء. إلى آخر القصة فأخبر بذنوبهم التى استحقوا بها ما استحقوه ومنها قولهم: {قُلُوبُنَا}. فعلم أنهم كاذبون فى هذا القول قاصدون به الامتناع من الواجب. ولهذا قال: {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه} و {طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فهي وإن سمعت الخطاب وفقهته لا تقبله ولا تؤمن به، لا تصديقا له ولا طاعة وإن عرفوه كما قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} (146) سورة البقرة. فـ {غُلْفٌ} جمع أغلف. وأما (غلف) بالتحريك فجمع غلاف، والقلب الأغلف بمنزلة الأقلف فهم ادعوا ذلك وهم كاذبون فى ذلك، واللعنة: الابعاد عن الرحمة، فلو عملوا به لرحموا، ولكن لم يعملوا به، فكانوا مغضوباً عليهم ملعونين، وهذا جزاء من عرف الحق ولم يتبعه، وفقه كلام الرسل ولم يكن موافقا له بالإقرار تصديقاً وعملاً. و (الصنف الرابع) الذين سمعوا سماع فقه وقبول فهذا هو السماع المأمور به كما قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (83) سورة المائدة، وقال تعالى: ... {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (1 - 2) سورة الجن، وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن

ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (29 - 31) سورة الأحقاف. وقال تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} (107 - 108) سورة الإسراء. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) سورة الأنفال. وقال {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (125) سورة التوبة. وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا * وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا} (83) سورة الإسراء. وكذلك قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (44) سورة فصلت. ومثله قوله: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (138) سورة آل عمران. فالبيان يعم كل من فقهه والهدى والموعظة للمتقين. وقوله: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} (20) سورة الجاثية. وقوله: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (1 - 2) سورة البقرة. وهنا لطيفة تزيل إشكالا يفهم هنا وهو أنه ليس من شرط هذا التقى المؤمن

ثانيا: فتاوى مهمة في استماع القرآن

أن يكون كان من المتقين قبل سماع القرآن فإن هذا: (أولاً): ممتنع؛ إذ لا يكون مؤمنا متقياً مَنْ لم يسمع شيئاً من القرآن. (ثانياً): أن الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط لا يجب أن يتقدمه تقدماً زمانياً كاستقبال القبلة فى الصلاة. (ثالثا): أن المقصود أن يبين شيئان: أحدهما: أن الانتفاع به بالاهتداء والاتعاظ والرحمة هو وإن كان موجباً له لكن لابد مع الفاعل من القابل، إذ الكلام لا يؤثر فيمن لا يكون قابلاً له، وإن كان من شأنه أن يهدى ويعظ ويرحم وهذا حال كل كلام. (الثانى): أن يبين أن المهتدين بهذا هم المؤمنون المتقون، ويستدل بعدم الاهتداء به على عدم الإيمان والتقوى، كما يقال: المتعلمون لكتاب بقراط هم الأطباء، وإن لم يكونوا أطباء قبل تعلمه، بل بتعلمه وكما يقال: كتاب سيبويه كتاب عظيم المنفعة للنحاة، وإن كانوا إنما صاروا نحاة بتعلمه، وكما يقال: هذا مكان موافق للرماة والركاب). ثانياً: فتاوى مهمة في استماع القرآن س: هل استماع القرآن الكريم في قوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف. يدل على الوجوب أو الاستحباب؟ ج - يشرع لكل مسلم عند سماع القرآن في غير الصلاة: أن ينصت له إعظاماً واحتراماً له؛ لينال رحمة الله سبحانه، ويتعظ بمواعظه ويعتبر بعبره، قال الله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف. وأن لا يعرض عن سماعه وينشغل عنه بغيره مع القدرة على الإنصات، ويتعمد ذلك فيتصف

بصفات كفار قريش الذين قال الله عنهم في إعراضهم عن سماع القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) سورة فصلت. وأما في الصلاة فيجب على المأموم أن ينصت عند سماع إمامه يقرأ في الصلاة الجهرية وفي صلاة الجمعة والخطبة والعيدين ونحو ذلك؛ ولما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا "، وأخرج أصحاب السنن نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويستثنى من ذلك قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية، وإن كان الإمام يقرأ؛ لوجوب قراءتها على كل من الأمام والمأموم والمنفرد؛ لمل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "، فيخصص هذا الحديث عموم الآية والحديث السابق فيوجوب الإنصات لقرءة القرآن؛ جمعاً بين الأدلة الثابتة الصحيحة، ولما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا خاف رسول الله في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: "لعلكم تقرؤون خلف إمامكم" قلنا نعم. قال: "لاتفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود بإسناد حسن. (¬1) س: ما حكم الاستماع إلى القرآن المذاع في الراديو؟ ج - الراديو آلة لا حكم لها في نفسها وإنما الحكم لما يذاع بها، وإن أذيع من الراديو قرآن أو بيان حق لشرائع الله أو مواعظ ترقق القلوب أو أخبار سياسية عادلة يعرف منها الناس أحوال العباد والبلاد ليكونوا على بينة من أمرهم ومما ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الثانية، المجلد الثالث (ص90)

يراد بهم، وليتخذوا لأنفسهم موقفاً سليماً ناجحاً ممن يواليهم ويعاديهم، أو أذيع منه أخبار تجارية يعرف منها الناس ما ينفعهم في حياتهم وفي معاشهم على غير هذا من المصالح كان السماع خيراً وقد يكون واجباً أحياناً. وإن أذيع منه غناء ماجن فيه تخنث أو استهتار، أو أذيع منه أخبار سياسية كاذبة هوجاء سداها قلب الحقائق والتلبيس على الناس ولحمتها بهرج للتهريج وإثارة العواطف بقول الزور والإثم والبهتان إلى مثل هذا من الرذائل كان ما أذيع باطلاً لا يليق بالمسلمين السكوت عنه ولا الاستماع له، اللهم إلا أن يكون من يستمع للأخبار الكاذبة أو الآراء المغرضة والأقوال المنحرفة ممن عندهم وعي ولهم في الأمة شأن ليقوموا بكشف زائفها وبيان دخنها، وقاية للأمة من قائليها، وصيانة لمن يخشى عليه أن ينخدع بزخرفها (¬1) س: ما حكم الاستماع إلى القرآن الكريم أثناء مزاولة العمل؟ ج: يجوز للإنسان أن يستمع للقرآن وهو يزاول عمله. (¬2) س: هل يجوز الاشتغال بعمل آخر سواء مذاكرة أو قراءة ... ويوجد في نفس المكان مسجل يقرأ القرآن؟ جـ - قال الشيخ: أبومحمد بن عبد السلام: (الاشتغال عن السماع بالتحدث بما لا يكون أفضل من الاستماع سوء أدب على الشرع، وهو يقتضي أن لا بأس بالتحدث للمصلحة) (¬3). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/ 130) طبعة دار أولي النهى. (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة المجموعة الثانية، المجلد الثالث (ص86) (¬3) البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 558) طبعة دار الفكر.

س: ما حكم استماع القرآن الكريم على غير طهارة؟ جـ - يجوز استماع القرآن على غير طهارة سواء كان الإنسان غير متوضئ أو جنباً أو كانت المرأة حائضاً أو نفساء، حيث لا نعلم دليلاً يمنع من ذلك، بل ورد من الأدلة ما يفيد عكس ذلك قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (6) سورة التوبة. فإذا كان المشرك يجوز له أن يسمع كلام الله؛ فمن باب أولى المسلم الموحد على أيه حال. ومن حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن (¬1). وقال العلامة ابن باز - رحمه الله - (... أما الاستماع لقراءة القرآن فلا حرج في ذلك للجنب، بل يستحب له ذلك؛ لما فيه من الفائدة العظيمة). (¬2) س: ما حكم الاستماع إلى تلاوة النساء في مسابقات القرآن الكريم التي تقام سنوياً في بعض البلاد الإسلامية؟ ج: لا أعلم بأساً في هذا الشيء إذا كان النساء على حدة والرجال على حدة، من غير اختلاط في محل المسابقة، بل يكُنَّ على حدة، مع تسترهن وتحجبهن عن الرجال. ¬

(¬1) رواه البخاري برقم (168) من مختصر صحيح البخاري للألباني. (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (29/ 97)

وأما المستمع فإذا استمع للفائدة والتدبر لكلام الله فلا بأس، أما مع التلذذ بأصواتهن فلا يجوز. (¬1). س: ما هو موقف المسلم عند سماع آية من المتشابه من الكتاب العزيز؟ جـ - عليه أن يقول ابتداءً كما قال الراسخون في العلم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (7) سورة آل عمران، ثم يسأل أهل الذكر لقول الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (7) سورة الأنبياء، وعليه أن يحذر من الذين يتبعون هذا المتشابه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: " إذا رأيت الرجل يتبع المتشابه ويترك المحكم فأولئك الذين سمى الله عز وجل فاحذروهم " (¬2). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (24/ 495). وانظر فتاوى اللجنة الدائمة (4/ 126) (¬2) أخرجه البخاري (4547) نقلاً عن: كتاب التسهيل لتأويل التنزيل سورة آل عمران لأبي عبد الله مصطفى العدوي. دار السنة، الطبعة الأولى.

الفصل الثالث نماذج من استماع القرآن الكريم

الفصل الثالث نماذج من استماع القرآن الكريم وفيه ستة مباحث: أولا: استماع الله سبحانه وتعالى. ثانيا: استماع الملائكة. ثالثا: استماع النبي - صلى الله عليه وسلم -. رابعا: استماع الكفار. خامسا: استماع الجن. سادسا: استماع النصارى.

أولا: استماع الله سبحانه وتعالى

أولاً: استماع الله سبحانه وتعالى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن يجهر به " (¬1). معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما أذن الله ... ". قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (قوله: " أن يتغنى " كذا لهم، وأخرجه أبونعيم من وجه آخر عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه بدون " أن " وزعم ابن الجوزي أن الصواب حذف " أن " وأن إثباتها وهم من بعض الرواة لأنهم كانوا يروون بالمعنى فربما ظن بعضهم المساواة فوقع في الخطأ لأن الحديث لو كان بلفظ "أن" لكان من الإذن بكسر الهمزة وسكون الذال بمعنى الإباحة والإطلاق، وليس ذلك مراداً هنا وإنما هو من الأَذَن بفتحتين وهو الاستماع وقوله: " أذن " أي: استمع، والحاصل ان لفظ أَذِن بفتحة ثم كسرة في الماضي وكذا المضارع مشترك بين الإطلاق والاستماع، تقول: أذنت آذن بالمد، فإن أردت الإطلاق، فالمصدر بكسرة ثم بسكون، وإن أردت الاستماع فالمصدر بفتحتين: ¬

(¬1) رواه البخاري (5023) ومسلم (1814) وأبوداود (1473) وأما حديث «إن الله لا يأذن لشيء من أهل الأرض إلا لأذان المؤذنين والصوت الحسن بالقرآن» فهو حديث موضوع راجع ضعيف الجامع للألباني (1672).

قلت: (الحافظ)

قال عدي بن زيد: أيها القلب تعلل بددن ... إن همي في سماع وأذن أي: في سماع واستماع .... قلت: (الحافظ): ومع ذلك كله فليس ما أنكره ابن الجوزي بمنكر بل هو موجه، وقد وقع عند مسلم في رواية أخرى كذلك ووجهها عياض بأن المراد الحث على ذلك والأمر به) (¬1). قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: (والأذن بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة غلط من وجهين: أحدهما: من اللغة، والثاني: من إحالة المعنى عن وجهه. أما اللغة فإن الأذن مصدر قوله: أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذن: إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (2) سورة الإنشقاق، بمعنى سمعت لربها وحُقَّ لها ذلك، كما قال عدي بن زيد: . . . . . . . . . . . . . ... إن همي في سماع وأذن (¬2). بمعنى، في سماع واستماع. فمعنى قوله: " ما أذن الله لشيء " إنما هو: ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن. وأما الإحالة في المعنى، فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون فيه انتهى كلام الطبري) (¬3). ¬

(¬1) فتح الباري (8/ 687) بتصرف. (¬2) وهو من أمالي ابن الشجري (2/ 36)، وديوان عدي ص (172). والددن: هو اللهو واللعب. (¬3) زاد المعاد (1/ 488).

قال الإمام النووي - رحمه الله -

قال الإمام النووي - رحمه الله -: ومعنى أذن في اللغة: الاستماع، ومنه قوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (2) سورة الإنشقاق (¬1). هكذا يتضح من خلال عرض أقوال أهل العلم أن معنى (ما أذن الله) أي ما استمع الله، ولكن ما معنى استماع الله؟ قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: (أصل الأَذَن بفتحتين أن المستمع يميل بأذنه على جهة مَنْ يسمعه، وهذا المعنى في حق الله لا يراد به ظاهره، وإنما هو على سبيل التوسع على ما جرى به عرف المخاطب، والمراد به في حق الله تعالى إكرام القارئ وإجزال ثوابه، لأن ذلك ثمرة الإصغاء. ووقع عند مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث: "ما أذن لشيء كأذنه " بفتحتين، ومثله عند ابن أبي داود من طريق محمد بن أبي حفصة عن عمرو بن دينار عن أبي سلمة، وعند أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث فضالة بن عبيدالله: " لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته " (¬2). قال الإمام النووي - رحمه الله -: (معنى أذن في اللغة: الاستماع، ومنه قوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}، قالوا: ولا يجوز أن تحمل ههنا على الاستماع بمعنى ¬

(¬1) التبيان ص (76) طبعة مكتبة ابن عباس، عون المعبود (4/ 241). (¬2) (حديث ضعيف) رواه ابن ماجه (1340) وأحمد (6/ 19) والحاكم (1/ 570 - 571) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال: بل هو منقطع. وضعفه الألباني. راجع ضعيف ابن ماجه (363)، السلسلة الضعيفة (2951).

قلنا

الإصغاء، فإنه يستحيل على الله تعالى، بل هو مجاز (¬1) ومعناه الكناية عن تقريبه للقارئ وإجزال ثوابه لأن سماع الله لا يختلف فوجب تأويله ...) (¬2). قلنا: غفر الله لعلمائنا الأجلاء (¬3) فقد صرفوا اللفظ عن ظاهره فوقعوا في التأويل، وكان الأولى بهم بعد أن أثبتوا أن الأذن هو الاستماع، أن يثبتوا ما يترتب عليه، وهو أن الله - سبحانه وتعالى - يسمع حقيقة أصوات عباده، وعلى وجه الخصوص أصوات قراء القرآن، سمعاً يليق بعظمته وجلاله واقتداره، لا يشابه ¬

(¬1) تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم يصرح به أحد من ائمة النحاة أهل اللغة كالخليل بن أحمد وسيبويه والكسائي والفراء وأمثالهم، وأبي عمرو بن العلاء وأبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي عمرو الشيباني وغيرهم، بل إن أول من تكلم منهم هو مَعْمر بن المثنى أبوعبيدة، صاحب (مجاز القرآن)، المعطل لأسماء الله الحسنى فجردها عن معانيها، فاعتقد في التعطيل ثم سن المجاز ليوهم خصومه بأنه دليل، قال شيخ الإسلام: (لا ريب أن هذا التقسيم موجود في كتب المعتزلة ومَنْ أخذ عنهم وشابههم وأكثر هؤلاء ذكروا هذا التقسيم، وأما من لم يكن كذلك فليس الأمر في حقه كذلك) مجموع الفتاوى (20/ 404)، راجع الأدلة على فساد هذا الرأي في كتاب (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز) للشنقيطي - رحمه الله -. (¬2) عون المعبود (4/ 241). (¬3) (موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول الصفات أو بعضها أو فوضوا في أصل معناها أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمه واسعة وجزاهم الله عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة السلف في القرون الثلاثة الذين شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السلف - رحمهم الله - سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك) (فتاوى اللجنة الدائمة) من فتوى رقم (5082).

صفات خلقه مثل سائر الصفات، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. كما صرح بذلك الحافظ المفسر العلامة ابن كثير - رحمه الله - حيث قال: (ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها وذلك أن يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم، وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك، وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم. كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها)، ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم. كما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} (61) سورة يونس. ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم. ومنهم مَنْ فسر الأذن هنا بالأمر، والأول أولى؛ لقوله: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن " أي يجهر به، والأذن: الاستماع؛ لدلالة السياق عليه، وكما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (1 - 2) سورة الإنشقاق أي: استمعت لربها وحُقَّ لها أن تستمع أمره وتطيعه، فالأذن ههنا هو الاستماع، ولهذا جاء في الحديث رواه ابن ماجه بسند جيد (¬1) عن فضاله بن عبيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَينة إلى قينته " (¬2) ¬

(¬1) الحديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه (1340) وأحمد (6/ 20) وغيرهم راجع السلسلة الضعيفة (2951). (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 258 - 259) تحقيق أبي إسحق الحويني.

ثانيا: استماع الملائكة

ثانيًا: استماع الملائكة إن الملائكة الكرام يحبون استماع القرآن الكريم، وتحف مجالسه، وأحياناً تتنزل لاستماعه والإنصات إليه، وقد وضحت الأدلة الصحيحة هذا الأمر وبينته بياناً شافياً، فمنها: استماع الملائكة لقرآن الفجر قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (78) سورة الإسراء. والمقصود بـ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}: قال مجاهد: صلاة الفجر. أي أن القرآن الذي يتلوه الإمام في صلاة الفجر تشهده الملائكة (ملائكة الليل وملائكة النهار)؛ ولذلك كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، أنه كان يطيل القراءة فيها أكثر من غيرها من سائر الصلوات، فكان يقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة آية. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح" يقول أبوهريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬1). عن أُسَيْد بن حُضَير - رضي الله عنه - قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه ¬

(¬1) رواه البخاري ح (4717) باب (إن قرآن الفجر كان مشهوداً). وأما حديث " إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بقراءته فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون إلى قراءته ويصلون بصلاته " هذا حديث منكر منقطع قاله الحافظ العراقي في تخريج إحياء علوم الدين (1/ 328) طبعة الريان.

مربوطة عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه، فلما اجْتَرَّهُ رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراه، فلما أصبح حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير" قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريباً، فرفعت رأسي فانصرفتُ إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثلُ الظُلَّة فيها أمثالُ المصابيح، فخرجتُ حتى لا أراها، قال: " وتدري ما ذاك؟ " قال: لا، قال: " تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم" (¬1). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: قوله: " اقرأ يا ابن حضير " أي كان ينبغي أن تستمر على قراءتك، وليس أمراً له بالقراءة في حاله التحديث، وكأنه استحضر صورة الحال فصار كأنه حاضر عنده لما رأى ما رأى، فكأنه يقول: استمر على قراءتك لتستمر لك البركة بنزول الملائكة واستماعها لقراءتك، وفهم أُسَيْد ذلك فأجاب بعذره في قطع القراءة أن تطأ الفرس ولدي، ودل سياق الحديث على محافظة أسيد على خشوعه في صلاته لأنه كان يمكنه أول ما جالت الفرس أن يرفع رأسه، وكأنه كان بلغه حديث النهي عن رفع المصلي رأسه إلى السماء فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب؛ ويحتمل أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته فلهذا تمادى به الحال ثلاث مرات. ووقع في رواية ابن أبي ليلى المذكورة " اقرأ أبا عتيك " وهي كنية أسيد. قوله: " دنت لصوتك " في رواية إبراهيم بن سعد " تستمع لك " وفي رواية ابن كعب المذكورة " وكان أسيد حسن الصوت" وفي رواية يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهاد ¬

(¬1) رواه البخاري (5018) ومسلم والنسائي.

استماع الملائكة القرآن من ثابت بن قيس - رضي الله عنه -

عند الإسماعيلي أيضاً " اقرأ أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود " وفي هذه الزيادة إشارة إلى الباعث على استماع الملائكة لقراءته. قال الإمام النووي - رحمه الله -: وفي هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة، كذا أطلق، وهو صحيح لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلاً والحسن الصوت، قال: وفيه فضيلة القراءة وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة. قلت (الحافظ ابن حجر): الحكم المذكور أعم من الدليل فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية ما لم يذكر، وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قارئ. وقد أشار في آخر الحديث بقوله: " ما يتوارى منه " إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الذي هو من شأنهم، وفيه منقبة لأسيد بن حضير، وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير الأمر المباح) (¬1). استماع الملائكة القرآن من ثابت بن قيس - رضي الله عنه - قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح؟ قال: "فلعله قرأ سورة البقرة" قال: فسئل ثابت؟ فقال: قرأت سورة البقرة. (¬2) ¬

(¬1) فتح الباري (8/ 682). (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 250) تحقيق أبي إسحق الحويني الذي قال في الهامش: (وعزاه الحافظ في الفتح (9/ 75) لأبي داود. وقال: من طريق مرسلة. وقال الحافظ ابن كثير في أول سورة البقرة: هذا إسناد جيد. إلا أن فيه إبهام. ثم هو مرسل).

استماع الملائكة القرآن من قارئه

استماع الملائكة القرآن من قارئه وبَيّنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الملائكة تحف مجالس القرآن تستمع وتنصت فقال: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" (¬1). عن علي - رضي الله عنه - قال: أمرنا بالسواك وقال: (إن العبد إذا قام يصلي أتاه مَلَكٌ فقام خلفه يستمع القرآن ويدنو، فلا يزال يستمع ويدنو حتى يضع فاه على فيه، فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف المَلَك) (¬2). ثالثاً: استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب استماع القرآن الكريم ويطلب من غيره أن يسمعه القرآن، ويقف أحياناً فترات طويلة ينصت ويستمع لقراءة أحد أصحابه من ذوي الأصوات الحسنة الجميلة. استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد صح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"اقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يارسول الله! اقرأ عليك وعليك أُنْزِل؟ قال:" إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} (41) سورة النساء. قال: " حسبك الآن" فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (6726) وأبوداود والترمذي وابن ماجه والنسائي في الكبرى وأحمد وغيرهم. (¬2) (صحيح لغيره) انظر السلسلة الصحيحة (1213). (¬3) رواه البخاري (14582) ومسلم وأبو داود وا لترمذي وأحمد وغيرهم.

قال ابن بطال: (يحتمل أن يكون أحب أن يسمعه من غيره ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل أن يكون ليتدبره ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو - صلى الله عليه وسلم - على أُبَيّ بن كعب لما تقدم في المناقب وغيرها (¬1) فإنه أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة ومخارج الحروف ونحو ذلك (¬2). وعن ابن مسعود قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وهو بين أبي بكر وعمر وإذا ابن مسعود يصلي وإذا هو يقرأ النساء فانتهى إلي رأس المائة فجعل ابن مسعود يدعو وهو قائم يصلي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اسأل تعطه، اسأل تعطه، ثم قال: مَنْ سَرَّه أن يقرأ القرآن غضاً كما أُنْزِل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد "، فلما أصبح غدا إليه أبو بكر - رضي الله عنه - ليبشره، وقال له: ما سألت الله البارحة؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لاينفد، ومرافقة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أعلى جنة الخلد. ثم جاء عمر - رضي الله عنه - فقيل له: إن أبا بكر قد سبقك، قال: يرحم الله أبا بكر ما سبقته إلى خير قط إلا سبقني إليه (¬3). ¬

(¬1) عن أنس بن مالك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيِّ:" إن الله أمرني أن اقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال: وسماني؟ قال: " نعم " فبكى. رواه البخاري (4959). (¬2) فتح الباري (8/ 718). (¬3) (حديث صحيح لغيره) رواه أحمد وأخرجه أبويعلي في مسنده والطبراني في الكبير وابن ماجة مختصراً، انظر الصحيح المسند من فضائل الصحابة لمصطفى بن العدوي ص (234)، وقال الألباني: إسناد حسن راجع السلسلة الصحيحة (2301).

استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه -

استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه - وعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: أبطأتُ على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة بعد العشاء ثم جئت فقال: " أين كنت؟ " قلت: كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد. قالت: فقام وقمت معه حتى استمع له ثم التفت إليَّ فقال: " هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا" (¬1). استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من أبي موسى - رضي الله عنه - وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " يا أباموسى، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " (¬2). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: قوله: " يا أبا موسى، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " كذا وقع عنده مختصراً من طريق بُرَيد، وأخرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة بلفظ «لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة ... " الحديث. وأخرجه أبويعلى من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه بزيادة فيه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة مَرَّا بأبي موسى وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضياً. فلما أصبح لقي أبوموسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا أباموسى، مررت بك" فذكر الحديث فقال: " أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيراً". ¬

(¬1) (إسناده صحيح ورجاله ثقات) رواه ابن ماجة وأخرجه أبونعيم في الحلية (1/ 371) والحاكم في المستدرك (3/ 225 - 226) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1100). (¬2) رواه البخاري (5048) ومسلم والترمذي وأحمد وغيرهم.

استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من الأشعريين - رضي الله عنه -

ولابن سعد من حديث أنس بإسناد على شرط مسلم (أن أبا موسى قام ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - صوته - وكان حلو الصوت - فقمن يستمعن، فلما أصبح قيل له، فقال: " لو علمت لحبرته لهن تحبيراً " ... قال الخطابي: قوله: " آل داود " يريد داود نفسه، لأنه لم ينقل أن أحداً من أولاد داود، ولا من أقاربه، كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي) (¬1). استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من الأشعريين - رضي الله عنه - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن. حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم، بالقرآن بالليل. وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار. ومنهم حكيم إذا لقى الخيل أو لقى العدو قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم ". (¬2) استماع النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من جبريل عليه السلام عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأنه جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة) (¬3). قال الحافظ ابن حجر: (أول نزول جبريل بالقرآن كان في شهر رمضان، وأن جبريل كان يعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن في شهر رمضان وفي ذلك حكمتان: إحداهما: تعاهده. ¬

(¬1) فتح الباري (8/ 711). (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه البخاري مع الفتح (1/ 40) طبعة الريان رواه مسلم (2307).

رابعا: استماع الكفار

والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ فكان رمضان ظرفاً لإنزاله جملةً وتفصيلاً وعرضاً وأحكاماً) (¬1). وقال أيضاً: (والمعارضة: مفاعلة من الجانبين كأن كلاً منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع) (¬2). رابعاً: استماع الكفار لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وحدهم الذين يستمعون القرآن، ويتأثرون به، بل العجيب أن الكفار والمشركين - على الرغم من كفرهم وشركهم - كانوا كذلك يحبون استماع القرآن، ويصغون إليه أحياناً؛ لما للقرآن من سيطرة على النفوس، وتأثير على القلوب. استماع زعماء قريش للقرآن روى البيهقي (¬3) أن جماعة من الكفار والمشركين كانوا يتسللون في ظلام الليل ليسمعوا القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بالليل في بيته، وقد أخذ كل واحد منهم مجلسه ليستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون القرآن، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر، إذا بهم يتفرقون فيجمعهم الطريق فيتساءلون أين كنتم؟ فيقولون: كنا نسمع القرآن من محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاوموا على ذلك وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا لمثل هذا، فلو رآكم بعض سفائكم لأوقعتم في نفسه ¬

(¬1) فتح الباري (8/ 621) بتصرف. (¬2) المرجع السابق (8/ 660). (¬3) رواه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 206) عن الزهري مرسلاً.

استماع الوليد بن المغيرة للقرآن

شيئاً، وتعاهدوا على عدم العودة إلى سماع القرآن مرة أخرى، وعلى الرغم من ذلك، تكرر منهم هذا الأمر مرتين بعد ذلك؛ لسيطرة القرآن على قلوبهم، وتأثرهم بآياته ولكن يمنعهم الكبر والحسد أن يؤمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتمنوا أن ينزل القرآن على عظيم من العظماء من القريتين (مكة والطائف) قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (31) سورة الزخرف. استماع الوليد بن المغيرة للقرآن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أباجهل فأتاه، فقال: يا عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً قال: لم؟ قال: ليعطوكه فأنت أتيت محمداً تعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر لما قال. قال: وماذا أقول، فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وأنه ليعلو ولا يعلى، وأنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قولك حتى تقول فيه قال: قف عني حتى أفكر فيه. فلما فكر، قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ...} [المدثر:11 - 30] (¬1). ¬

(¬1) رواه البيهقي في الدلائل وقواه (2/ 199) وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 506) وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجه وأقره الذهبي، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (1/ 323) (ورواه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس وسنده جيد). وصححه محقق سيرة ابن هشام رقم (368) طبعة مكتبة الصحابة، وقال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي: فالحديث ضعيف والله أعلم، راجع الصحيح المسند من أسباب النزول ص (225) طبعة مكتبة ابن تيمية الطبعة الرابعة.

استماع نساء المشركين وأبنائهم للقرآن

استماع نساء المشركين وأبنائهم للقرآن عن عروة بن الزبير؛ أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قالت: " لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشياً. ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين " (¬1). استماع عتبة بن ربيعة للقرآن عن محمد بن كعب القرظي قال: حُدِّثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيداً قال يوماً، وهو في نادي قريش!، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة - رضي الله عنه - ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد! قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابن أخي!، إنك منا حيث قد علمت من السطة (المنزلة الرفيعة) في العشيرة، والمكان في النسب، وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت بة جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من ¬

(¬1) رواه البخاري. راجع الفتح (1/ 476)

مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" قل يا أبا الوليد! أسمع " قال: يا ابن أخي!، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً (كانوا يُسمون التابع من الجن رئياً) تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوي منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه، قال: " أقد فرغت يا أباالوليد؟ ". قال: نعم، قال: "فاسمع مني" قال: أفعل، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (1 - 4) سورة فصلت ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبه أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما، يسمع منه، قم انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد (¬1)، ثم قال: " قد سمعت يا أباالوليد! ما سمعت، فأنت وذاك" فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أباالوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا ¬

(¬1) وذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (37) سورة فصلت.

الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُه مُلْكُكُم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. وفي رواية أخرى أن عتبه استمع حتى جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (13) سورة فصلت فقام مذعوراً، فوضع يده على فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنشدك الله والرحم! وذلك مخافة أن يقع النذير، وقام إلى القوم فقال ما قال (¬1). ومن هذا المنطلق - ألا وهو تأثير القرآن على النفوس، وسيطرته علي القلوب - بدأ الكفار والمشركون يخططون لصرف الناس عن استماع القرآن، حتى لايحولهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الظلمات إلى النور، فإذا بهم يتواصون فيما بينهم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ساحر، وأن قوله سحر يفرق بين الناس فلا يسمعوا منه شيئًا ¬

(¬1) (إسناده حسن) أخرجه ابن إسحق في المغازي (1/ 185) من سيرة ابن هشام بسند حسن عن محمد ابن كعب القرظي مرسلاً، ووصله عبد بن حميد وأبويعلى البغوي من طريق أخرى من حديث جابر - رضي الله عنه - تفسير ابن كثير (4/ 90 - 91) وسنده حسن إن شاء الله. قاله العلامة الألباني في تخريج فقه السيرة ص (116). وقال صاحب المنهج الحركي للسيرة النبوية في التعليق على حديث عتبة وموقف النبي - صلى الله عليه وسلم - معه: (لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحترم خصمه، ويتكلم معه بأدب بالغ، وتقدير جم، ويكنيه بكنيته، وبذلك يعلمنا أدب الحوار. وأهم نقطه فيه أن يتسع صدرنا لاستماع وجهة نظر الخصم، مهما كانت وجهة النظر هذه مرفوضة أو مقبولة عندنا، سامية أو منحطة لأننا بذلك نضمن أن يستمع خصمنا لنا، ويتسع صدره لوجهة نظرنا، وما لم نملك هذه الخاصية الهامة، فلن نربح الحوار مع عدونا .. (.

استماع الطفيل بن عمرو الدوسي للقرآن

مخافة أن يسحرهم بكلماته، وذلك حكاه القرآن عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) سورة فصلت. وأخذ الكفار يشيعون هذا الخبر في القبائل المجاورة، بل وفي الوفود التي تفد إلى مكة في مواسم الحج. استماع الطفيل بن عمرو الدوسي للقرآن وتحكى لنا كتب السيرة قصة رجل من اليمن من قبيلة دوس قدم مكة عام (11) من النبوة ألا وهو الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه - فاستقبله أهل مكة قبل وصوله إليها، وبذلو له أجل تحية وأكرم تقدير، وقالوا له: يا طفيل!، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرِّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئاً. يقول الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسفًا (قطناً)؛ فرقًا من أن يبلغني شيئ من قوله، قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا هو قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي، واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر ما يخفى علىَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإذا كان حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً رددته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فعرضت عليه قصة مقدمي، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكُرْسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت

استماع جبير بن مطعم للقرآن

له: اعرض عليَّ أمرك، فعرض عليَّ الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق (¬1). استماع جبير بن مطعم للقرآن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه). وفي رواية: فلما وصل قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (35) سورة الطور. كاد قلبي أن يطير (¬2). قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (وكان جبير لما سمع هذا بعد مشركاً على دين قومه وإنما كان قدم في فداء الأسارى بعد بدر، وناهيك بمن تؤثر قراءته في المشرك المصر على الكفر فكان هذا سبب هدايته: ولهذا كان أحسن القراءات ما كان بخشوع القلب) (¬3). ¬

(¬1) (خبر ضعيف) أورده ابن كثير في البداية نقلاً عن ابن إسحاق بغير سند وقال ابن كثير: هكذا ذكر ابن إسحق قصة الطفيل مرسلة بلا إسناد، وقال ابن حجر في الإصابة: ذكرها ابن إسحق في سائر النسخ بلا إسناد ... راجع تخريجها كاملاً في سيرة ابن هشام تحقيق مجدي فتحي السيد رقم (371) طبعة دار الصحابة. طنطا. وإنما ذكرناها هنا للدلالة والتنبيه على ضعفها، وذلك لاشتهارها بين الخطباء والوعاظ، وكذلك قصة إسلام عمر بن الخطاب المشهورة في قراءته لسورة طه بعدما اغتسل في بيت أخته فاطمة ... فهي قصة ضعيفة ومتنها منكر جداً، راجع تخريجها في كتاب السيرة النبوية الصحيحة د / أكرم ضياء العمري (1/ 180) طبعة. مكتبة العلوم والحكم. (¬2) متفق عليه: البخاري (2/ 247)، مسلم (463). (¬3) فضائل القرآن لابن كثير ص (175).

حادثة سجود المشركين عند استماع القرآن

حادثة سجود المشركين عند استماع القرآن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) (¬1). لم تكن علة سجود المشركين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك المقالة التي يقولون أن الشيطان ألقاها على لسان رسول الله وهو يتلو القرآن (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) (والغرانيق): الطير البيض المعروفة، واحدها: غرنوق، ويزعمون أن الأصنام ترتفع إلى الله كالطير البيض فتشفع عنده لعابديها، قبحهم الله ما أكفرهم، ومسألة الغرانيق مع استحالتها شرعاً، ودلالة القرآن على بطلانها لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب. قال ابن كثير: إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح. وقال الشوكاني: لم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه، وعن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل، وعن البيهقي أنه قال: هي غير ثابتة من جهة النقل، وقال ابن خريمة هذه القصة من وضع الزنادقة) (¬2). سبحان الله العظيم! لم يتمالك المشركون أنفسهم عندما تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - على مسامعهم سورة النجم كاملة إلا أن يخروا سجداً لله رب العالمين؛ وذلك لبلاغة القرآن وتأثيره على نفوسهم. فما بال المنتسبين إلى هذا الدين يسمعون القرآن ولا يحرك فيهم ساكنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ¬

(¬1) رواه البخاري (4862). (¬2) أضواء البيان للشنقيطي (5/ 286 - 288) وراجع كتاب العلامة الألباني (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق).

خامسا: استماع الجن

خامساً: استماع الجن لقد وردت الأدلة من القرآن والسنة الصحيحة على أن الجن يستمعون القرآن، بل ويتأثرون بسماعه، وبوعده ووعيده، حتى يدفعهم إلى الدعوة للقرآن والإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. استماع الجن للقرآن قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (1 - 2) سورة الجن. قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (يقول الله تعالى آمراً رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن، فآمنوا به، وصدقوه وانقادوا له) (¬1). قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (29 - 32) سورة الأحقاف. قال سيد قطب - رحمه الله -: (قصة النفر من الجن الذين استمعوا لهذا القرآن، فتنادوا بالإنصات، واطمأنت قلوبهم إلى الإيمان، وانصرفوا إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الله ويبشرونهم بالغفران والنجاة، ويحذرونهم الإعراض ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 428) طبعة المكتبة القيمة.

والضلال. سياقة الخبر في هذا المجال، بهذه الصورة، وتصوير مس القرآن لقلوب الجن هذا المس الذي يتمثل في قولهم: (أنصتوا) عندما طرق أسماعهم، يتمثل فيما حكوه لقومهم عنه، وفيما دعوهم إليه. كل هذا من شأنه أن يحرك قلوب البشر، الذي جاء القرآن لهم في الأصل وهو إيقاع مؤثر ولا شك، يلفت هذه القلوب لفتة عنيفة عميقة) (¬1). عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ (¬2)، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلتْ عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم، قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو والله الذي حال بينكم وبين ¬

(¬1) تفسير في ظلال القرآن (6/ 3269) طبعة دار الشروق. (¬2) سوق عكاظ: هو موسم معروف للعرب، بل كان أعظم مواسمهم، وهو نخل في واد بين مكة والطائف وهو إلى الطائف أقرب بينهما عشرة أميال، وهو وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء اليمن. قال البكري: أول ما أحدثت قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ولم تزل سوقاً إلى سنة تسع وعشرين ومائة، فخرج الخوارج الحرورية فنهبوها فتركت إلى الآن، وكانوا يقيمون به جميع شوال يتبايعون ويتفاخرون وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم لقول حسان: سأنشر إن رضيت لكم كلاماً ... ينشر في المجامع من عكاظ. راجع فتح الباري (8/ 539).

خبر السماء، فهناك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (1 - 2) سورة الجن. فأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن) (¬1). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وفي الحديث إثبات وجود الشياطين والجن وأنهما لمسمى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان، فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان. وفيه أن الصلاة في الجماعة شرعت قبل الهجرة. وفيه مشروعيتها في السفر. والجهر بالقراءة في صلاة الصبح، وأن الاعتبار بما قضي الله للعبد من حسن الخاتمة لا بما يظهر منه من الشر ولو بلغ ما بلغ، لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن لو لم يكونوا عند إبليس في أعلى مقامات الشر ما اختارهم للتوجه إلى الجهة التي ظهر له أن الحدث الحادث من جهتها، ومع ذلك فغلب عليهم ما قضى لهم من السعادة بحسن الخاتمة، ونحو ذلك قصة سحرة فرعون) (¬2). قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعد ما أورد الطرق والروايات التي تفيد استماع الجن للقرآن: (فهذه الطرق كلها تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى الجن قصداً فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله - عز وجل - وشرع الله تعالى لهم على لسانه ماهم محتاجون إليه في ذلك الوقت وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم كما قال ¬

(¬1) متفق عليه، راجع اللؤلؤ والمرجان ص (93) ح (259). (¬2) فتح الباري (8/ 543).

سجود الجن عند استماع القرآن

ابن عباس - رضي الله عنهما - (ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن ولا رآهم)، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - وأما ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه لم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم وإنما كان بعيداً منه ولم يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد سواه ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة، هذه طريقة البيهقي، وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود - رضي الله عنه - ولا غيره كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام أحمد وهي عند مسلم، ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى والله أعلم) (¬1). سجود الجن عند استماع القرآن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) (¬2). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: قوله (والجن) كأن ابن عباس استند في ذلك إلى إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - إما مشافهة له، وإما بواسطة، لأنه لم يحضر القصة لصغره، وأيضاً فهو من الأمور التي لا يطلع الإنسان عليها إلا بتوقيف، وتجويز أنه كشف له عن ذلك بعيد لأنه لم يحضرها قطعاً) (¬3). استماع الجن لسورة الرحمن عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن ليلة فكانو ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (8/ 166) طبعة المكتبة القيمة. (¬2) فتح الباري (8/ 480). (¬3) فتح الباري (2/ 645).

أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: "ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد" (¬1). قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: موضحاً حكمة اختيار سورة الرحمن لقراءتها على الجن (وقرأ عليهم (الجن) السورة التي فيها خطاب الفريقين (الإنس والجن) وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن) (¬2). وقال أيضاً في موضع آخر في معرض حديثه عن مؤمن الجن هل يدخل الجنة أم لا؟ (الصحيح أن مؤمني الجن كمؤمني الإ نس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف، لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (46 - 47) سورة الرحمن. فقد امتن الله تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد، فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازى مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى) (¬3). ¬

(¬1) (حديث حسن) رواه الترمذي (3522) وحسنه الأ لباني في صحيح سنن الترمذي (2624)، وفي السلسلة الصحيحة (2150) (¬2) تفسير ابن كثير (4/ 170) (¬3) تفسير ابن كثير (4/ 171) بتصرف يسير جداً.

سادسا: استماع النصارى

سادساً: استماع النصارى لقد أخبرنا القرآن أن النصاري استمعوا له، وتأثروا به، مما دفعهم إلى الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والدخول في الإسلام، بعدما فاضت أعينهم بالدمع مما عرفو من الحق. تأثر النصارى عند استماع القرآن قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (84) {فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} (82 - 85) سورة المائدة (¬1). لقد ضرب أولئك القوم المثل الصالح، والقدوة الحسنة، عند استماع القرآن، فلو نظرت إليهم لوجدتهم: ¬

(¬1) يستدل كثير من دعاة (التنوير) بهذه الآية على أن النصاري أقرب الناس مودة للمسلمين، وهذا استدلال باطل يغني بطلانه عن إبطاله، وإنما مثلهم كمن قرأ قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} و {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} واستدل بذلك على ترك الصلاة!! ولكن نقول بإكمال الآيات يتضح المعنى المراد ويزول اللبس والغموض، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}، وكذلك في الآيات التي معنا بإكمالها يتضح أن هؤلاء النصاري دفعهم الاستماع للقرآن إلى الإيمان ولذا قالوا {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.

استماع النجاشي وأساقفته للقرآن الكريم

1 - أهل التواضع وعدم الكبر. 2 - التدبر لما يسمع. 3 - البكاء والخشية عند استماع القرآن. 4 - الاستجابة السريعة، وذلك يتضح في سرعة إيمانهم بالله 5 - الدعاء الصالح بعد العمل الصالح. 6 - مراقبة الله في السر والعلن، ولذا وصفهم الله بالمحسنين 7 - جزاؤهم يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار. استماع النجاشي وأساقفته للقرآن الكريم وهذه قصة أخرى في استماع النصاري للقرآن، وتأثرهم به، ترويها لنا أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنهما - وذلك عندما هاجر المسلمون بدينهم إلى الحبشة فراراً من أذى الكفار والمشركين، ولكنه عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم، فاختارو رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص وعبد الله ابن أبي ربيعة - قبل أن يُسْلمَا - وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيرو على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه.

وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم ولكن رأى النجاشي أنه لابد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعاً، فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان، فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلو ابه في ديني أو دين أحد من هذه الملل؟ قال جعفر بن أبي طالب: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، نأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ماجاء من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على مَنْ سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال جعفر: نعم: فقال النجاشي: فاقرأه عليَّ. فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) فبكى والله النجاشي

حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعو ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا - يخاطب عمرو وعبد الله - فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون، فخرجا ... " (¬1). ¬

(¬1) (سنده صحيح) أخرجها ابن إسحق في المغازي (1/ 211 - 213) من ابن هشام وأحمد برقم (1740) من طريق ابن إسحق بسند صحيح، من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - قاله الألباني في تخريج فقه السيرة ص (154)، وقال الأرناؤوط: وهذا سنده صحيح، في تخريج زاد المعاد (3/ 29).

الفصل الرابع صور من هجر استماع القرآن

الفصل الرابع صور من هجر استماع القرآن وفيه ثلاثة مباحث: 1 - الصياح والغشي عند استماع القرآن. 2 - شرب الدخان في مجلس القرآن. 3 - استماع الغناء.

1 - الصياح والغشي عند استماع القرآن

1 - الصياح والغشي عند استماع القرآن قال الحافظ السيوطي - رحمه الله - في كتابه الأمر بالاتباع والنهي عن الإبتداع: (ومن ذلك البدع): الصياح والتغشي عند سماع القرآن والوعظ. وقد صح من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: «وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون» (¬1). ولم يقل صرخنا ولا غشينا، كما يفعله الجاهلون أهل البدع) قال محقق الكتاب: (قال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرىء عليه القرآن، وسمع ذكر الله، سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله، وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم. ما كان هذا صنيع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال عمر بن عبد العزيز: ذُكِرَ عند ابن سيرين الذين يُصْرَعون، إذا قرىء عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت، باسطاً رجليه، ثم يُقْرَأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه، فهو صادق. ¬

(¬1) (حديث صحيح): روه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وصححه الألباني في إرواء الغليل رقم (2455).

2 - شرب الدخان في مجلس القرآن

وأحوال الصحابه ومن تبعهم بإحسان: الخوف والوجل عند ذكر الله، وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، كأنهم بين يديه. فهذ وصف حالهم، وحكاية مقالهم، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم، ولا على طريقتهم، فمن كان مستناً، فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون، فهو من أخسهم حالاً، والجنون فنون) (¬1). 2 - شرب الدخان في مجلس القرآن (ومن العادات السيئة التي انتشرت بين الناس بلا نكير شرب الدخان في مجلس القرآن، على الرغم من أن المقام مقام عبادة لله تعالى بسماع كلامه، والتدبر في معانيه، ومقام تعلم وتفهم لأوامره ونواهيه، فكيف يعرض فيه العبد عن سيده، ويتشاغل عنه بشهوته؟! وينبغي أن يجتنب اللهو وشرب الدخان حال سماع القرآن من المذياع كما يجتنب ذلك حال سماعه من القارىء في المجلس، إذ لا فرق عندنا بين الحالين. فالمتلو فيهما قرآن، والمجلس مجلس سماعه وموطن عبادة لله. واللهو والشرب للدخان ملهاة عنها، وإعراض إلى مافيه حظ النفس وشهوتها) (¬2). ¬

(¬1) الأمر بالاتباع والنهي عن الإبتداع للسيوطي ص (274) تحقيق مشهور حسن آل سلمان، دار ابن القيم. (¬2) القرآن آداب تلاوته وسماعه لحسنين محمد مخلوف ص (19 - 20) بتصرف.

3 - الاستماع إلى الغناء

3 - الاستماع إلى الغناء قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (وقد تواتر عن الشافعي أنه قال: (خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير (¬1) يصدون به الناس عن القرآن). فإذا كان هذا قوله في التغبير، وتعليله أنه يصد عن القرآن - فليت شعري - ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر. قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم (¬2). قال الإمام المناوي: يا لها من صفقة في غاية الخسران حيث باع سماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والألحان، والجلوس على منابر الدر والياقوت بالجلوس في مجالس الفسوق. قال الإمام ابن القيم: فمن خواصه - أي الغناء - أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبداً. لما بينهما من التضاد. فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانية شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء بأمر بضد ذلك كله. (¬3) ¬

(¬1) التغبير: شعر في الزهد يغني به مغن أو ينشد به منشد، فيضرب بعض الحاضرين بعضاً أو نحوها على مخدة ونحوها على توقيع غنائه. ومن ذلك الأشرطة الكثيرة التي انتشرت، فيها الأناشيد مصحوبة بالدف وغيره، ويسمونها أناشيد إسلامية، وللأسف فإن بعضها قد اشتمل على أخطاء عقائدية وألفاظ غير شرعية، وقد صدت الناس عن سماع القرآن. فإنا لله وإنا إليه راجعون. راجع كتاب القول المفيد في بيان حكم الأناشيد للأخ عصام بن عبد المنعم المري. طبعة مكتبة الفرقان - الإمارات. (¬2) إغاثة اللهفان ص (177) طبعة المكتبة القيمة. (¬3) إغاثة اللهفان (1/ 193) طبعة المكتبة القيمة.

أدلة تحريم سماع الغناء 1 - قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (6) سورة لقمان. قال ابن مسعود: (واللهو هنا الغناء)، وكذلك قال عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وإبراهيم. 2 - قال تعالى: {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} (61) سورة النجم قال ابن عباس: هو الغناء، وكذلك قال مجاهد، يقول أهل اليمن: سمد فلان إذا غني. 3 - قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (64) سورة الإسراء قال مجاهد هو الغناء والمزامير. 4 - قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر (الفرج) والحرير والخمر والمعازف" (¬1)، والمعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. 5 - قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير" (¬2). وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير. 6 - قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل، وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا، وقال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب. ¬

(¬1) رواه البخاري (5268). (¬2) رواه أبوداود (3689)، ورواه ابن ماجه عن أبي مالك الأشعري (4020) واللفظ له.

7 - قال الحافظ السيوطي - رحمه الله -: ومن ذلك ما أحدث من السماع والرقص والوجد، وفاعل ذلك ساقط المرءوة، عاص لله ولرسوله، وهو محظور. وبعد فقد عرفت - أخي الحبيب - حكم استماع الغناء وأنه يجلب سخط الرحمن، فهل ترضى لنفسك بعد ذلك أن تكون من أصحاب الصفقات الخاسرة، فينبغي للعاقل أن ينصح نفسه وإخوانه ويحذرهم مكائد الشيطان، ولولا خوف الإطالة، لاستقصينا ماورد في ذلك، ولكن العاقل الفطن الموفق، من قبل نصح الناصح بأخصر عبارة عرف الحق، واتبعه بأدنى إشارة.

الباب الثالث هجر تدبر القرآن

الباب الثالث هجر تدبر القرآن وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: تدبر القرآن (معناه - حكمه - فوائده). الفصل الثاني: أسباب هجر تدبر القرآن وكيف أتدبر القرآن؟ الفصل الثالث: التدبر في القرآن والسنة وسير السلف الصالح.

الفصل الأول تدبر القرآن الكريم

الفصل الأول تدبر القرآن الكريم وفيه ثلاثة مباحث: أولاً: معنى التدبر. ثانياً: حكم التدبر. ثالثاً: فوائد تدبر القرآن وثمراته.

أولا: معنى التدبر

أولاً: معنى التدبر التدبر لغةً: كلمة التدبر في اللغة: مصدر فعله الماضي (تَدَبَّر) وهو فعل مزيد اشتق من الفعل الماضي (دَبَر)، ومضارعه (يَدْبُر)، والمصدر (دَبْراً، ودُبُوراً) (¬1). (الدُّبر) و (الدَّبُر) مخففاً ومثقلاً. و (التدبير) في الأمر: النظر إلى ما تؤول إليه عاقبته. (¬2) و (تدبر الأمر): رأى في عاقبته ما لم ير في صدره، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (68) سورة المؤمنون، أي: ألم يتفهموا ما خوطبوا به في القرآن (¬3). تدبر القرآن اصطلاحاً: قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: (وهو - أي تدبر القرآن -: التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك) (¬4). ¬

(¬1) دعوة لتدبر القرآن الكريم كيف ولماذا؟ مختار شاكر كمال ص (78). (¬2) مختار الصحاح الإمام الرازي ص (197 - 198) بتصرف، المطبعة الأميرية بالقاهرة. (¬3) القاموس المحيط للفيروز آبادي (2/ 84) طبعة دار الكتب العلمية. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ السعدي (2/ 112) تحقيق محمد زهري النجار، طبعة الرئاسة العامة للدعوة والإرشاد.

ثانيا: حكم التدبر

ثانياً: حكم التدبر إن تدبر القرآن الكريم من أجل الطاعات، وأفضل القربات، وأسمى العبادات؛ لأنه من خلاله يفهم الإنسان مراد الله - سبحانه وتعالى -؛ ولهذا قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص. قال العلامة السعدي - رحمه الله -: (أي هذه الحكمة من إنزاله؛ ليتدبر الناس آياته فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها ... وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة القراءة التي لا تحصل هذا المقصود) (¬1). قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: (وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ (¬2)، إذ لا يصح التدبر مع الهذ، قال الحسن: تدبر آيات الله اتباعها) (¬3). قال الإمام الزركشي - رحمه الله -: (كراهة قراءة القرآن بلا تدبر). تكره قراءة القرآن بلا تدبر، وعليه حُمِل حديث عبد الله بن عمرو: "لا يفقه مَنْ قرأ القرآن في أقل من ثلاث " (¬4). وقول ابن مسعود لمن أخبره أنه يقوم بالقرآن في ليلة: أهذاً كهذ الشعر (¬5). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الخوارج: " يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ¬

(¬1) تفسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي (6/ 418). (¬2) الهذ: سرعة القراءة بدون تأمل. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي (15/ 192) المجلد الثامن، طبعة مناهل العرفان. (¬4) (حديث صحيح) رواه أبوداود وأحمد والترمذي وابن ماجه، انظر صحيح الجامع (7743). (¬5) رواه البخاري (5043).

ولا حناجرهم" (¬1) ذمهم بإحكام لفظه، وترك التفهم لمعانيه) (¬2). قارئ القرآن الجاهل بمعانيه مأجور أداوم على قراءة القرآن لكنني لا أفهم معانيه .. فهل أثاب من الله على ذلك؟ قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله -: (القرآن الكريم مبارك كما قال الله - تعالى -: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص. فالإنسان مأجور على قراءته سواءً أفهم معناه أم لم يفهم ... لكن لا ينبغي للمؤمن أن يقرأ قرآناً مكلفاً بالعمل به دون أن يفهم معناه، فالإنسان لو أراد أن يتعلم الطب مثلاً ودرس كتب الطب فإنه لا يمكن أن يستفيد منها حتى يفهم معناها وتُشرح له، بل هو يحرص كل الحرص على أن يفهم معناها من أجل أن يطبقها، فما بالك بكتاب الله - سبحانه وتعالى - الذي هو شفاء لما في الصدور وموعظة للناس أن يقرأه الإنسان بدون تدبر وبدون فهم لمعناه ... ولهذا كان الصحابة - رضوان الله عليهم - لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، فالإنسان مثاب ومأجور على قراءة القرآن سواء أفهم معناه أم لم يفهم، ولكن ينبغي له أن يحرص كل الحرص على فهم معناه، وأن يتلقى هذا المعنى من العلماء الموثوقين، مثل: تفسير ابن جرير، وتفسير ابن كثير، وغيرهما ...) (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - انظر فتح الباري (12/ 295)، صحيح الجامع (8053). (¬2) البرهان في علوم القرآن للإمام الزركشي (1/ 538) طبعة دار الفكر. (¬3) فتاوى المرأة جمع وترتيب محمد المسند ص (225 - 226).

ثالثا: فوائد تدبر القرآن وثمراته

ثالثاً: فوائد تدبر القرآن وثمراته قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في فوائد تدبر القرآن الكريم: (فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التخفف من عناء اليوم الثقيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب، والعقبات الشاقة غاية التسهيل، وتنادي عليه كلما فترت عزماته، وونى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل. فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل، وتحدو به، وتسير أمامه سير الدليل. وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر، فاعتصم بالله، واستعن به، وقل حسبي الله ونعم الوكيل. وفي تأمل القرآن وتدبره، وتفهمه أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد). (¬1) قال العلامة السعدي - رحمه الله -: (فإن في تدبر القرآن: 1 - مفتاحاً للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير، وتستخرج منه جميع العلوم. 2 - وبه يزداد الإيمان في القلب، وترسخ شجرته. 3 - فإنه يُعَرِّفُ بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال، وما يتنزه عنه من سمات النقص. ¬

(¬1) للمزيد من الفائدة انظر مدارج السالكين (1/ 451).

4 - وبه يُعْرَفُ الطريق الموصلة إليه، وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه. 5 - وبه يُعْرَفُ العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. 6 - وكلما ازداد العبد تأملاً في القرآن ازداد علماً، وعملاً، وبصيرة. ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه يصل به العبد إلى درجة اليقين، والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، فترى الحكم والقصة والأخبار تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضاً؛ وبذلك يُعْلمُ كمال القرآن، وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور. فذلك قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء. أي: فلما كان من عند الله؛ لم يكن فيه اختلاف أصلاً) (¬1). قال سيد قطب - رحمه الله -: (تدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير) (¬2). (ومن فوائد تدبر القرآن: - معرفة الرب - عز وجل - ومعرفة عظيم سلطانه وقدرته والتلذذ بالنظر إليه يوم القيامة. - تحقيق العبودية لله - تعالى -. ¬

(¬1) تفسير الكريم المنان للشيخ السعدي (2/ 112 - 113) بتصرف. (¬2) في ظلال القرآن سيد قطب (6/ 3297) طبعة دار الشروق.

- فيه تربية للعقول. - فيه شفاء لما في الصدور. - الأجر الكثير والربح الوفير. - الهداية والتوفيق والنور، والراحة والطمأنينة. - ذكر الله للمتدبر، وغشيان الملائكة، ونزول السكينة والرحمة. - حصن من الشيطان) (¬1). فهذه بعض فوائد تدبر القرآن الكريم، وثمراته الزكية، فأين أنت منها؟ (فسبحان الله! ماذا حُرم المعرضون عن نصوص الوحي، واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر؟! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟! قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فِكْراً، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زُبَراً، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً؛ فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجوراً). (¬2) ¬

(¬1) انظر كيف نتدبر القرآن تأليف فواز أحمد زمرلي (82 - 90) طبعة دار البشائر الإسلامية. (¬2) مدارج السالكين (1/ 5)

الفصل الثاني هجر تدبر القرآن

الفصل الثاني هجر تدبر القرآن وفيه مبحثان: أولاً: أسباب هجر تدبر القرآن. ثانياً: كيف نتدبر القرآن الكريم؟

أولا: أسباب هجر تدبر القرآن الكريم

أولاً: أسباب هجر تدبر القرآن الكريم قل مَنْ يقرأ القرآن، وقل مِنْ هؤلاء القارئين مَنْ يتدبر القرآن، ويقف مع وعده ووعيده؛ حتى تتحقق له الدعوة إلى الطاعة، والزجر عن المعصية، فإذ بالقرآن - الذي لو أنزله الله على الجبال الرواسي الشامخات لتصدعت من خشية الله - إذا به يقرأ، وآيات الوعد والوعيد تسمع، ولكن قلوب قاسية، وأبدان جامدة، وأعين متحجرة، فلا قلب يخشع، ولا بدن يخضع، ولا عين تدمع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (مَنْ لم يقرأ القرآن فقد هجره، ومَنْ قرأ القرآن ولم يتدبره فقد هجره، ومَنْ تدبر القرآن ولم يعمل به فقد هجره) (¬1). وترجع (ظاهرة) هجر تدبر القرآن إلى أسباب كثيرة منها: 1 - الذنوب والمعاصي. 2 - ترك الدعاء 3 - الجهل باللغة العربية. 4 - التخلي عن موانع الفهم. 5 - هجر كتب التفسير. ¬

(¬1) كتاب ففروا إلى الله للشيخ أبي ذر القلموني ص (187) طبعة دار المنار.

أولا: الذنوب والمعاصي

وإليك بيان هذه الأسباب بشيء من التفصيل: أولاً: الذنوب والمعاصي من عقوبات الذنوب والمعاصي أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (14) سورة المطففين. قال العلماء: هو الذنب بعد الذنب حتى يطبع على قلب صاحبها فيكون من الغافلين، ويحرم من العلم؛ ولذلك قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد. فينبغي لمن أراد أن يتدبر القرآن أن يبتعد عن الذنوب والمعاصي (وبخاصة التي تتعلق بأدوات ووسائل التدبر: القلب والسمع واللسان والبصر. فاستخدام هذه الأدوات في الحرام يعرضها لعدم الانتفاع بها في الحق قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (25) سورة الأنعام. وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (5) سورة فصلت. فذكر الله غطاء القلب وهو الأكنة، وغطاء الأذن وهو الوقر، وغطاء العين وهو الحجاب، فالحجاب يمنع من رؤية الحق، والأكنة تمنعه من فهمه، والوقر يمنعه من سماعه) (¬1). لما جلس الإمام الشافعي - رحمه الله - بين يدي الإمام مالك - رحمه الله -، وقرأ عليه، أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه؛ فقال له: (إن الله - تعالى - قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية). ¬

(¬1) شفاء العليل ص (93)، والتفسير القيم ص (347).

ثانيا: ترك الدعاء

ومما ورد عن الشافعي - رحمه الله - قوله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاص ومما سبق يتضح أن الذنوب والمعاصي من أعظم الأسباب التي تحول بين العبد وتدبر القرآن الكريم (¬1). ثانياً: ترك الدعاء إن الدعاء سلاح المؤمن في جميع أموره، ولذلك فإن سير الأنبياء والصالحين مليئة بالأدعية الصالحة المستجابة، وكان السلف الصالح إذا استعصى عليهم فهم آية من كتاب الله وتدبرها، لجأوا إلى الله بالتضرع والدعاء مع تخير الأوقات المناسبة للإجابة، وسنذكر بعضاً من سيرهم في ذلك: يذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في سياق هجرة عمر بن الخطاب مع عياش بن ربيعة وهشام بن العاص - رضي الله عنهم - (ولقد حبس الكفار هشاماً عن الهجرة، واستطاع أبوجهل أن يرد عياشاً إلى مكة بعد حيلة ماكرة وخطة غادرة ... وقد كان شائعاً بين المسلمين أن الله لا يقبل ممن افتتن توبة، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وأنزل الله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (53 - 55) سورة الزمر. قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى ¬

(¬1) انظر لمزيد من الفائدة كتاب الداء والدواء للإمام ابن القيم - رحمه الله.

ثالثا: الجهل باللغة العربية

هشام بن العاص. قال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها وأصوب، ولا أفهمها؛ حتى قلت: اللهم فهمنيها؛ فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة) (¬1). وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول في دعائه دائماً: (اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني) فيجد الفتح في ذلك (¬2). فالزم - أخي الحبيب - الدعاء دائماً، وسل الله من فضله أن يرزقك فهم كتابه، وتدبر معانيه، وقل: (اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي) (¬3). ثالثاً: الجهل باللغة العربية إن الله - تعالى - أنزل القرآن الكريم بلغة العرب قال تعالى: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (103) سورة النحل، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (192 - 195) سورة الشعراء. قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات، ¬

(¬1) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (3/ 136 - 137) بتصرف، طبعة دار الكتب العلمية. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/ 38). (¬3) (حديث صحيح) أخرجه أحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً، انظر السلسلة الصحيحة (199).

وأبينها، وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات) (¬1). وبَيَّنَ اللهُ - تعالى - الحكمة من إنزاله بلغة العرب فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) سورة يوسف. {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (28) سورة الزمر. {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) سورة فصلت. وإذا كان العبد لا يعرف لغة العرب ولا أساليب كلامهم؛ فأنى له أن يفهم مقصود ربه - سبحانه وتعالى - أو يتدبر آيات القرآن الكريم) (¬2). ذكر الإمام القرطبي - رحمه الله -: (أن أعرابياً قدم المدينة فقال: مَنْ يقرئني مما أُنْزِلَ على محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى على الآية الكريمة: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (3) سورة التوبة. فقرأها عليه بالجر {وَرَسُولِهِ} - أي بالكسرة تحت اللام -، فقال الأعرابي: وأنا أيضاً أبرأ من رسوله، فاستعظم الناس الأمر. وبلغ ذلك عمر فدعاه، فقال: يا أعرابي! أتبرأ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فقال: يا أمير المؤمنين! قدمت المدينة فأقرأني رجل سورة براءة، فقلت: إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ما هكذا الآية يا أعرابي!. قال: فكيف يا أمير المؤمنين؟ فقرأها عمر عليه بالضم {وَرَسُولُهُ}. فقال الأعرابي: وأنا أبرأ مما برئ اللهُ ورسولُه منه. فأمر عمر ألا يُقْرِئُ الناس إلا عالمٌ بلغة العرب) (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 467) طبعة دار الفكر. (¬2) كيف يحفظ القرآن لإبراهيم الشربيني ص (81 - 82). (¬3) تفسير القرطبي (1/ 21).

رابعا: عدم التخلي عن موانع الفهم

كيف يفهم المسلم كتاب ربه، ويتدبره وهو لا يعرف قواعد اللغة العربية، ولا يميز بين الاسم والفعل والحرف، ولا الفاعل من المفعول، وغيرها مما يتوقف عليه فهم الخطاب، فمثلاً كيف يفهم قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (124) سورة البقرة. أو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28) سورة فاطر رابعاً: عدم التخلي عن موانع الفهم (وموانع الفهم كثيرة منها: 1 - أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، وعدم التفكر في معاني كلام الله - عز وجل -، بحيث يحرص كل الحرص على ترديد الحرف وتكراره وذلك لأن الشيطان يخيل إليه أنه لم يخرج الحرف من مخرجه، ولم يعطه حقه في النطق. 2 - أن يكون المسلم مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا إن سمع تفسيراً للآية غير ما سمع، إذا به يرده من غير تردد: مثل مَنْ عرف أن تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طه. أن معنى: {اسْتَوَى} استولى. واستقر ذلك في نفسه حتى صار عقيدة راسخة له، فإذا به لو عرف بعد ذلك أن معنى: {اسْتَوَى} ليس استولى وأنه خلاف الحق والصواب الذي عليه جمهور السلف الصالح، وأن معناها الحقيقي: استقر وعلا وارتفع، فإذ به يرد هذا المعنى الحق، ولا يقبله، وأحياناً يعادي ويبغض من يدعو إليه.

خامسا: هجر كتب التفسير

3 - أن يكون المسلم مُصِّراً على ذنب، أو متصفاً بكبر، أو مبتلى - في الجملة - بهوى في الدنيا، فإن ذلك يسبب ظلمة القلب وصدئه، وقد شرط الله الإنابة في الفهم والتذكير، فقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} (8) سورة ق. وقال عز وجل: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (13) سورة غافر. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (19) سورة الرعد. فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب؛ ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب) (¬1). خامساً: هجر كتب التفسير قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله -: (إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله - تفسيره - كيف يلتذ بقراءته) (¬2). كيف يتدبر القرآن من هجر كتب تفسير القرآن ولم يطالعها ويدارسها، ولم يعرف أسباب النزول ... وغيرها من علوم القرآن، وغالباً لا يسلم صاحب هذا المنهج من الخطأ في فهم الآيات، والاستدلال بها، والخطأ في العمل والتطبيق. عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: (كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فُضَالة بن عُبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم، حتى دخل عليهم فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة! فقام أبوأيوب الأنصاري فقال: (يا أيها الناس إنكم لتأولون هذه الآية هذا التأويل؛ وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا ¬

(¬1) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي (1/ 235 - 236) بتصرف، طبعة دار الريان. (¬2) مقدمة تفسير الطبري لمحمود شاكر (1/ 10).

لبعض سراً دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله - تبارك وتعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يرد علينا ما قلنا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (195) سورة البقرة. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال، وإصلاحها، وتَرْكنا الغزو، فما زال أبوأيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دُفِنَ بأرض الروم) (¬1). فتأمل - أخي الحبيب - كيف تأول بعض التابعين الآية على غير مراد الله، وهم من أفضل القرون، وأقرب إلى عصر التنزيل، فكيف بنا في هذا الزمان وقد صارت الألسن أقرب إلى لسان العجم منها إلى لسان العرب؛ فما أحوجنا - نحن المسلمين - إلى دراسة كتب التفسير ليحصل لنا فهم كلام الله - عز وجل - وبخاصة ما يسمى (التفسير بالمأثور) ومن أشهر هذه الكتب: تفسير الإمام الطبري، وتفسير الإمام البغوي، وتفسير الإمام ابن كثير، وتفسير الدر المنثور للسيوطي، وتفسير الإمام الشوكاني ... وإليك نماذج من كتاب الله - جل وعلا - يوهم ظاهرها التعارض، وبالرجوع إلى كتب التفسير يزول هذا الإشكال، ويُدْفَعُ هذا الإيهام والتعارض وصدق الله إذ يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء (¬2). ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2373)، والسلسلة الصحيحة للألباني (13). (¬2) راجع كتاب دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب للإمام محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -.

النموذج الأول: الهداية هدايتان

النموذج الأول: الهداية هدايتان: قال الله - تعالى - عن وصف رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (52) سورة الشورى. وقال في موضع آخر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص. في الآية الأولى أثبت الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الهداية، وفي الآية الثانية نفى عنه ذلك، فكيف نوفق بينهما؟ بالرجوع إلى كتب التفسير يتبين لنا أن الهداية هدايتان: أ - هداية الدلالة والإرشاد: وهذه هي المثبتة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو يهدي: أي يدل ويرشد ويبين الصراط المستقيم، والطرق الموصلة إليه، وكذلك القرآن الكريم، فقد قال - تعالى -: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء. ب - هداية التوفيق والسداد: وهذه هي المنفية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن غيره فهي خاصة بالله - عز وجل - فهو وحده الذي يوفق ويسدد من يستحق إلى الهداية والصلاح. النموذج الثاني: أين الله؟ قال تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (16) سورة الملك. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (84) سورة الزخرف. ويقول {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (3) سورة الأنعام. في الآية الأولى ذكر الله عن نفسه أنه في السماء، وفي الآيتين الثانية والثالثة ربما يفهم البعض منهما أن الله في السماء والأرض، ومن ثم في كل مكان! وبالرجوع إلى كتب التفسير يتضح أن الآية الأولى: تثبت عقيدة أهل السنة

ثانيا: كيف نتدبر القرآن الكريم؟

والجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة والصالحين أن الله - تعالى - في السماء كما أخبر مستوٍ على عرشه قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) سورة طه (¬1). وأما الآية الثانية: فلا علاقة لها بموضوع المكان، وإنما تتحدث عن العبودية لله - سبحانه وتعالى -، فإن لفظ {إِلَهٌ} تعني: المعبود بحق، فمعنى الآية إذن: أن الله معبود من في السماء كما أنه معبود مَنْ في الأرض. وأما الآية الثالثة: تتناول قضية العلم فمعناها: أن الله يعلم ما في السموات والأرض. ثانياً: كيف نتدبر القرآن الكريم؟ يتم ذلك من خلال طريقين: العلمي، والعملي. أولاً: الطريق العلمي: وذلك من خلال أن يعرف المسلم قيمة تدبر القرآن الكريم، وعِظَم مكانته، وكثرة فوائده، وأن تدبر القرآن سبيل إلى العلم النافع، والعمل الصالح، وطريق إلى حياة القلوب. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: فتدبر القرآن إن رمت الهدى ... فالعلم تحت تدبر القرآن (¬2) قال إبراهيم الخواص: (دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، خلاء البطن، قيام الليل، التضرع عند السحر، مجالسة الصالحين) (¬3). إن المحروم مَنْ حُرِمَ تدبر القرآن، وأُغْلِقَ عليه فهم آياته، ومعرفة معانيه، ¬

(¬1) راجع هذه المسألة في كتب العقيدة الواسطية وشروحها ومعارج القبول، والعلو للذهبي ومختصره للألباني. (¬2) القصيدة النونية لابن القيم: فصل في التفريق بين الخلق والأمر ص (41). (¬3) التبيان للإمام النووي ص (61) طبعة مكتبة ابن عباس.

ثانيا: الطريق العملي

قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فقه فيه، ولا خير في قراءة لا تدبر معها). تفكر عمرو بن مرة في مَثَل من أمثال القرآن فلم يتبين له معناه، فجعل يبكي، فسئل ما يبكيك؟ فقال: (إن الله - عز وجل - يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (43) سورة العنكبوت. وأنا لم أعقل المثل فلست بعالم فأبكي على ضياع العلم مني) (¬1). ثانياً: الطريق العملي: وذلك باتباع الخطوات الآتية: 1 - الالتزام بآداب التلاوة وبخاصة الإخلاص والطهارة والسواك والاستعاذة واختيار المكان المناسب ... وقد سبق ذكرها بشيء من التفصيل في هجر التلاوة. 2 - تفريغ القلب من الشواغل، والتخلي عن موانع الفهم وبخاصة الذنوب والمعاصي، والغفلة والكبر .. ، والعمل على صلاح القلوب وطهارتها عن طريق الذكر والتسبيح والاستغفار، والإنابة والتوبة، والتخلص من فضول الطعام والمنام والنظر والمخالطة. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (فإذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته، وألقِ سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه سبحانه لك على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن تمام التأثير، لما كان موقوفاً على مُؤَثِّرٍ مُقْتَضٍ، ومَحْلٍ قَابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه: تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه، وأدله على المراد. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير الآية 43 من سورة العنكبوت.

3 - ترتيل القرآن

فقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق. وهذا هو المؤثر. وقوله: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فهذا هو المحل القابل، والمراد به: القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال - تعالى -: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (69 - 70) سورة يس. أي: حَيّ القلب. وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: وَجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يُقَال، وهذا هو شرط التأثير بالكلام. وقوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: شاهد القلب حاضر غير غائب. قال ابن قتيبة: استمع لكتاب الله وأنت شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه. وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو: سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله. فإذا حصل المؤثر: وهو القرآن. والمحل القابل: وهو القلب الحي. ووجد الشرط: وهو الإصغاء. وانتفى المانع: وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه إلى شيء آخر , حصل الأثر: وهو الانتفاع بالقرآن والتذكر) (¬1). 3 - ترتيل القرآن، قال تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) سورة المزمل. إن ترتيل القرآن يساعد على تدبر الآيات، وفهم معانيها. ¬

(¬1) الفوائد للإمام ابن القيم ص (3 - 5) طبعة دار الكتب العلمية.

4 - ترديد الآية حتى يتحصل على التدبر

قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن كله). وعن مجاهد أنه سُئلَ عن رجلَين: قرأ أحدهما البقرة وآل عمران، والآخر قرأ البقرة وحدها، وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما سواء، قال: الذي قرأ البقرة وحدها أفضل) (¬1). وأكثر العلماء يستحبون الترتيل في القراءة ليتدبره القارئ ويفهم معانيه. عن حفصة - رضي الله عنها -: (كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول منها) (¬2). 4 - ترديد الآية حتى يتحصل على التدبر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة (¬3). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية يرددها حتى أصبح، الآية {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118) سورة المائدة (¬4). وقام قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - الليل لا يقرأ إلا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها لا يزيد عليها. (¬5) وعن تميم الداري - رضي الله عنه - أنه كرر هذه الآية حتى أصبح {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ ¬

(¬1) التبيان للإمام النووي ص (64 - 65) طبعة مكتبة ابن عباس. (¬2) رواه مسلم والترمذي. (¬3) (حديث صحيح) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (370). (¬4) (حديث صحيح) رواه أحمد (4/ 149) وذكره الألباني في صفة الصلاة. (¬5) رواه البخاري (الفتح 9/ 59).

5 - التفاعل مع الآيات، وإظهار الحزن والتأثر، أثناء القراءة

اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (21) سورة الجاثية. (¬1) 5 - التفاعل مع الآيات، وإظهار الحزن والتأثر، أثناء القراءة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله " (¬2). ولقد ورد في سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف (¬3) " اقرءوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا " فإن لم يتأثر الإنسان بالقراءة، وتبكي عينه، وتقشعر جوارحه، فعليه أن يتظاهر بالحزن والبكاء على الحرمان من ذلك، فإنه من أعظم المصائب. عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: (صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح (البقرة) فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح (النساء) فقرأها، ثم افتتح (آل عمران) فقرأها، يقرأ مسترسلاً، وإذا مَرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مَرَّ بآية سؤال سأل، وإذا مَرَّ بتعوذ تعوذ) (¬4). قال الإمام النووي - رحمه الله -: (يستحب هذا السؤال والاستعانة، والتسبيح لكل قارئ سواء كان في الصلاة أو خارج منها ...) (¬5). ¬

(¬1) (إسناده صحيح) رواه ابن أبي شيبة، هامش التبيان ص (62). (¬2) أخرجه ابن ماجه والدارمي. وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2202)، وضعفه البوصيري والعراقي، والحويني انظرتفسير ابن كثير (1/ 270). تحقيق الحويني. (¬3) راجع ضعيف ابن ماجه (281)، وضعيف الجامع (2025). (¬4) رواه مسلم وأبوداود والترمذي. (¬5) التبيان للإمام النووي ص (66).

الفصل الثالث المقامات العليا في التدبر

الفصل الثالث المقامات العليا في التدبر وفيه ثلاثة مباحث: أولاً: التدبر في القرآن الكريم. ثانيًا: تدبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثالثًا: تدبر القرآن في سير السلف الصالح.

أولا: التدبر في القرآن الكريم

أولاً: التدبر في القرآن الكريم لقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بتدبر القرآن الكريم في آيات كثيرة نستعرضها بشيء من التفسير والتوضيح. الحث على التدبر قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء. قال الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله -: (أفلا يتدبرون يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك، واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضاً للتصديق، وشهادة بعضه لبعضه بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله، لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض) (¬1). قال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله -: (قوله تعالى: {لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التناقض، قاله ابن عباس، وابن زيد، والجمهور. الثاني: الكذب، قاله مقاتل، والزجاج. ¬

(¬1) تفسير الطبري (8/ 567).

القلب وتدبر القرآن

الثالث: أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام، ومرذول، إذ لابد للكلام إذا طال من مرذول، وليس في القرآن إلا بليغ، ذكره الماوردي في جماعة) (¬1). القلب وتدبر القرآن قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد. قال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله -: {أَمْ} بمعنى: بل، وذكر الأقفال استعارة، والمراد أن القلب يكون كالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى، قال مجاهد: الران أيسر إلى الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد ذلك كله) (¬2). عن هشام بن عروة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: (تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد. فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله تعالى يفتحها أو يفرجها. فما زال الشاب في نفس عمر - رضي الله عنه - حتى ولي فاستعان به) (¬3). وتنكير القلوب: يتضمن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب مَنْ هم بهذه الصفة، ولو قال: أم على القلوب أقفالها، لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة. تهويل حال القلوب وتفظيع شأنها بإبهام أمرها في القساوة والجهالة، كأنه قيل: على قلوب منكرة لا يعرف حالها، ولا يقدر قدرها في القساوة. أو: لأن المراد بها قلوب بعض منهم، وهم المنافقون، فلم يحتج إلى تعريف القلوب، لأنه معلوم أنها قلوب من ذكر) (¬4). ¬

(¬1) تفسير زاد المسير لابن الجوزي (2/ 145) طبعة المكتب الإسلامي. (¬2) زاد المسير لابن الجوزي (7/ 408). (¬3) ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 180) طبعة المكتبة القيمة. (¬4) كيف نتدبر القرآن لفواز زمرلي ص (29 - 30) طبعة دار البشائر.

بركة القرآن الكريم

بركة القرآن الكريم قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص. قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة، والمآخذ العقلية الصريحة؛ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص. أي: ذو العقول وهي الألباب جمع (لُب) وهو العقل، قال الحسن البصري: والله ما تدبره بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله ما يُرَى له القرآن في خُلُقٍ ولا عَمَلٍ. رواه ابن أبي حاتم) (¬1) عظمة القرآن الكريم قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (21) سورة الحشر قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (يقول تعالى معظماً لأمر القرآن، ومبيناً علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه؛ لما فيه من الوعد الحق، والوعيد الأكيد: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه؛ لخشع وتصدع من خشية الله - عز وجل -، فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم؟! وتخشع وتتصدع من خشية الله؟! وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه؛ ولهذا قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 33).

تدبر القرآن من صفات المؤمنين

لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (74) سورة البقرة) (¬1). تدبر القرآن من صفات المؤمنين: قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (23) سورة الزمر. قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (وقوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي: هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله} لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه: أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات. الثاني: أنهم إذا تُلِيَتْ عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 342 - 343) بتصرف.

عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (2 - 4) سورة الأنفال، وقال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (73) سورة الفرقان. أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين، لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة، لا عن جهل ومتابعة لغيرهم. الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة - رضي الله عنهم - عند سماعهم كلام الله - تعالى - من تلاوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله، ولم يكونوا يتصارخون، ولا يتكلفون بما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية مالا يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة 0 قال عبد الرزاق: حدثنا معمر قال: تلا قتادة - رحمه الله -: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله - عز وجل - بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان. قال السدي: ({ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ} أي: إلى وعد الله، وقوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء} أي: هذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله: {وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}) (¬1). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 50 - 51).

عتاب من الله للمؤمنين

عتاب من الله للمؤمنين قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (16 - 17) سورة الحديد. قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (يقول تعالى أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله أي: تلين عند الذكر والموعظة، وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له، وتسمع له، وتطيعه. قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين) (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ} نهى الله - تعالى - المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول الأمل؛ بدلوا كتاب الله، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: في الأعمال، فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة. وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيه إشارة إلى أن الله - تعالى - يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى ¬

(¬1) رواه مسلم (8/ 465) طبعة المكتبة القيمة.

ثانيا: تدبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقرآن الكريم

بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة، المجدبة، الهامدة، بالغيث الهتان، الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويلج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكيم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال) (¬1). ثانياً: تدبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقرآن الكريم لقد بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدرجة العليا، والمقام الأسمى، في تدبر القرآن الكريم، وهذه بعض حالاته مع القرآن من صحيح السنة النبوية: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقرأ عليَّ القرآن " فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أُنْزِل؟ قال: " إني أحب أن أسمعه من غيري". فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا}، قال: " حسبك الآن ". فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان) (¬2). عن عطاء قال: (دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة - رضي الله عنها - فقال ابن عمير: حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فبكت، وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: " يا عائشة! ذريني أتعبد لربي "، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام، فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بلَّ حِجْره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، وجاء بلال ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 310 - 311) بتصرف. (¬2) رواه البخاري حديث رقم (4582)، انظر فتح الباري (8/ 99) طبعة الريان.

يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر ما فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} (190) سورة آل عمران (¬1). عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " شيبتني هود وأخواتها " (¬2). عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه -: يارسول الله!، قد شبت، قال: " شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت " (¬3). قال العلماء: (لعل ذلك لما فيهن من التخويف الفظيع، والوعيد الشديد؛ لاشتمالهن مع قصرهن على حكاية أهوال الآخرة، وفظائعها، وأحوال الهالكين والمعذبين، مع ما في بعضهن من الأمر بالاستقامة) (¬4). ثالثاً: تدبر القرآن في سير السلف الصالح ينبغي لمن أراد تدبر القرآن الكريم، وفهم معانيه، ومعرفة وأحكامه، أن ينظر في سير السلف الصالح، وأن يعرف أحوالهم مع القرآن الكريم؛ حتى يكون دافعاً قوياً له أن يتشبه بهم، فإن التشبه بالصالحين فلاح. ¬

(¬1) (حديث إسناده جيد) رواه ابن حبان، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (68). (¬2) (حديث إسناده جيد) انظر السلسلة الصحيحة للألباني (2/ 642). (¬3) (حديث صحيح) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2627)، والسلسلة الصحيحة (955). (¬4) جامع الأصول لابن الأثير (2/ 193) طبعة دار الفكر.

ثالثا: قصص سلفنا الصالح مع القرآن الكريم

وكما قال ابن الجوزي - رحمه الله -: (إن صدقت في طلابهم فانهض وبادر، ولا تستصعب طريقهم فالمعين قادر، تعرض لمن أعطاهم، وسل، فمولاك مولاهم، رُبَّ كنز وقع به فقير، ورُبَّ فضل اختص به صغير، علم الخضر ما خفي على موسى، وكُشِفَ لسليمان ما خفي على داود) (¬1). وسنذكر بعضاً من قصص سلفنا الصالح مع القرآن الكريم: 1 - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: (... وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك دمعه إذا قرأ القرآن) (¬2). 2 - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: عن عبد الله بن شداد بن الهاد يقول: سمعت عمر يقرأ في صلاة الصبح سورة يوسف، فسمعت نشيجه (¬3)، وإني لفي آخر الصفوف، وهو يقرأ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (86) سورة يوسف (¬4). 3 - عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -: عن نافع قال: (كان ابن عمر - رضي الله عنه - إذا قرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ¬

(¬1) المدهش للإمام ابن الجوزي ص (428) بتصرف، طبعة دار الكتب العلمية. (¬2) رواه البخاري (3905). (¬3) (النشيج): تردد البكاء في الصدر من غير انتحاب. انظر المعجم الوجيز ص (615). (¬4) مناقب عمر بن الخطاب للإمام ابن الجوزي ص (159) تحقيق حلمي بن إسماعيل الرشيدي، نشر دار العقيد للتراث بالإسكندرية.

4 - عباد بن بشر - رضي الله عنه -

فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (16) سورة الحديد. بكى حتى يغلبه البكاء. عن نافع مولى ابن عمر يقول: (ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (284) سورة البقرة ثم يقول: إن هذا الإحصاء شديد) (¬1). 4 - عباد بن بشر - رضي الله عنه -: نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بشِعْب في غزوة ذات الرقاع فقال: " مَنْ يحرسنا الليلة؟ " فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فباتا بفم الشِعب فاقتسما الليل للحراسة، فنام المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، فجاء رجل من العدو، فرأى الأنصاري، فرماه بسهم، فأصابه، فنزعه، واستمر في صلاته، ثم رماه بثانٍ، فصنع كذلك، ثم رماه بثالث، فانتزعه، وركع وسجد وقضى صلاته، ثم أيقظ رفيقه. فلما رأى ما به من الدماء قال له: لِمَ لا أنبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها. وأخرجه البيهقي في (الدلائل) من وجه آخر، وسمى الأنصاري المذكور: عباد بن بشر، والمهاجري: عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - والسورة: سورة الكهف. (¬2) 5 - الحسن البصري - رحمه الله -: قرأ الحسن هذه الآية {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (90) سورة النحل. ¬

(¬1) حلية الأولياء للإمام أبي نعيم (1/ 305)، طبعة دار أم القرى للطباعة والنشر بالقاهرة. (¬2) انظر فتح الباري (1/ 337) طبعة دار الريان، دلائل النبوة للبيهقي (3/ 378) طبعة دار الريان.

6 - الربيع بن خثيم - رحمه الله -

فقال: (إن الله جمع لكم الخير كله، والشر كله، في آية واحدة؛ فوالله ما ترك العدل والإحسان شيئاً من طاعة الله - عز وجل - إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً) (¬1). 6 - الربيع بن خثيم - رحمه الله -: عن عبد الرحمن بن عجلان قال: (بِتُّ عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام يصلي، فمرَّ بهذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} (21) سورة الجاثية. فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد) (¬2). 7 - مطرف بن عبد الله - رحمه الله -: قال مطرف بن عبد الله: (إني لأستلقي من الليل على فراشي، فأتدبر القرآن، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة، فإذا أعمالهم شديدة. {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (17) سورة الذاريات. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (64) سورة النمل، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر، فلا أراني فيهم. فأعرض نفسي على هذه الآية {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (42) سورة المدثر. فأرى القوم مكذبين. وأمُرُّ بهذه الآية {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا ¬

(¬1) حلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 158). (¬2) حلية الأولياء (2/ 112)، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - للربيع بن خثيم: (يا أبا يزيد! لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين) المرجع السابق (2/ 106).

من قصص تدبر القرآن الكريم

وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (102) سورة التوبة، فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم) (¬1). من قصص تدبر القرآن الكريم: تدبر أعرابي: ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ من سورة المائدة حتى وصل إلى قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقال الأعرابي: ما هذا بكلام الله! فقال القارئ: أتكذب بكلام الله؟!. قال الأعرابي: لا. فرجع القارئ إلى حفظه، واسترجع، وقرأ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (38) سورة المائدة فقال الأعرابي: عَزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع) (¬2). تدبر جارية: ذكر الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره: (حكى الأصمعي (¬3) قال: ¬

(¬1) حلية الأولياء (2/ 198). (¬2) جلاء الأفهام للإمام ابن القيم ص (88) طبعة مكتبة المتنبي بالقاهرة. (¬3) (الأصمعي): هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع، أبو سعيد الأصمعي البصري، أحد الأعلام، قال عنه الشافعي: ما عَبَّر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. وولد عام (122 هـ)، وتوفي عام (215 هـ)، وقيل غير ذلك، راجع سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ 175).

(سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول: أستغفر الله لذنبي كله ... قَبَّلتُ إنساناً بغير حِلِّه مثل الغزال ناعماً في دَلِّه ... فانتصف الليل ولم أصلِّه فقلت: قاتلك الله! ما أفصحك!. فقالت: أو يُعَدُّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص، فجمع في آية واحدة بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين) (¬1). قلنا: الأمران هما: {أَرْضِعِيهِ}، {فَأَلْقِيهِ}. والنهيان هما: {وَلَا تَخَافِي}، {وَلَا تَحْزَنِي}. والخبران هما: {وَأَوْحَيْنَا}، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}. والبشارتان هما: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (7/ 251 - 252) طبعة مناهل العرفان.

الباب الرابع هجر العمل بالقرآن الكريم

الباب الرابع هجر العمل بالقرآن الكريم وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: العمل بالقرآن بين الترغيب والترهيب. الفصل الثاني: أسباب هجر العمل بالقرآن. الفصل الثالث: العمل بالقرآن في واقع السلف الصالح.

الفصل الأول العمل بالقرآن بين الترغيب والترهيب

الفصل الأول العمل بالقرآن بين الترغيب والترهيب وفيه أربعة مباحث: أولاً: اقتضاء العلم للعمل. ثانياً: وجوب العمل بالقرآن الكريم. ثالثاً: الترغيب في العمل بالقرآن الكريم. رابعاً: الترهيب من هجر العمل بالقرآن الكريم.

أولا: اقتضاء العلم للعمل

أولاً: اقتضاء العلم للعمل اعلم - رحمك الله - أن طلب العلم مما تتنوع فيه الأغراض، وتختلف فيه المقاصد والنيات، كما أنه وسيلة من الوسائل التي يتوصل بها الإنسان إلى الأهداف والغايات، فمن الناس مَنْ يطلب العلم لغرض دنيوي، وذلك بأن يكون له به جاه وهيبة، وشرف ومكانة، ومنزلة وكرامة، ومنهم من يبتغي به الرياسة والقيادة، والهيمنة والزعامة، ومنهم مَنْ يتوصل به إلى أغراض دنيئة، ومقاصد خسيسة، كحب السيطرة والاستبداد، والجدل والمباهاة والمماراة. وأسعد الناس بالعلم، وأحسنهم حظاً وأزكاهم، وأشرفهم منزلة عند الله من يطلبه لمرضاة الله، والعمل به، والاهتداء بنوره، والامتثال لأمره. عن إياس بن عامر قال: أخذ علي بن أبي طالب بيدي، ثم قال: (إنك إن بقيت، سيقرأ القرآن ثلاثة أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا، ومَنْ طلب به أدرك) (¬1) فالمقصود الأعظم من العلم ليس أن يتزين به الإنسان، ولا أن يتشرف بتحصيله وجمعه، ودراسته وروايته، وتحقيقه ونشره من غير أن يكون له رغبة في العمل به، والالتزام بمقتضاه. ¬

(¬1) رواه الدارمي (2/ 526). وهو ضعيف فيه إياس بن عامر ليس بالمعروف. راجع أخلاق حملة القرآن للآجري ص (41) تحقيق فواز أحمد زمرلي، طبعة دار الكتاب العربي.

ولقد ورد في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت. قال عباس الهمداني أبو أحمد - رحمه الله -: والذين يعملون بما يعلمون نهديهم الله لما لا يعلمون (¬1). قال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علماً لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} (282) سورة البقرة (¬2). عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسْألَ عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن شبابه فيمَ أبلاه» (¬3). قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لا يغرنكم مَنْ قرأ القرآن، فإنما هو كلام يتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به) (¬4). وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل). قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: (اعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 559). (¬2) تفسير القرطبي (13/ 324). (¬3) (حديث صحيح) رواه الترمذي، والدارمي، والطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب. (¬4) صحيح الترغيب والترهيب ص (58).

قال الخطيب البغدادي - رحمه الله -: (ثم إني موصيك يا طالب العلم! بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً. وقيل: العلم والد، والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل وما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم مادمت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما وإن قلَّ نصيبك منهما. والعلم يراد للعمل، كما العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم، كان العلم كلاًّ على العالِم، ونعوذ بالله من علم عاد كلاًّ، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غِلاً. قال بعض الحكماء: العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلاً به، أحب إليَّ من أدعه زهداً فيه. وقال بعضهم: وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا كتاركهما، وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر امرؤٌ لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثواء (¬1) قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، والله تعالى ¬

(¬1) ثوى: المكان، و - به يثوي ثِواءٌ وثُويّاً، بالضم، وأثوى به: أطال الإقامة به، أو نزل. راجع القاموس المحيط للفيروز آبادي ص (1268) طبعة مؤسسة الرسالة.

بالمرصاد، وإليه المرجع والمعاد {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (7_ 8) سورة الزلزلة. قال سهل بن عبد الله التستري - رحمه الله -: (الناس كلهم سكارى إلا العلماء، والعلماء كلهم حيارى إلا من عمل بعلمه). قال أبوعبد الله الروزباري - رحمه الله -: (العلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله - عز وجل -). وقد أحسن القائل: يا أيها الرجل المُعلم غيره ... هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم لاتنه عن خُلُق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تقبل إن وعظت ويقتدي ... بالقول منك وينفع التعليم تصف الدواء لذي السقام من الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم وأراك تلقح بالرشاد عقولنا ... نصحاً وأنت من الرشاد عديم وقال عبد الملك بن إدريس الوزير الكاتب: والعلم ليس بنافع أربابه ... مالم يفد عملاً وحسن تبصر سيَّان عندي علم من لم يستفد ... عملاً به وصلاة من لم يطهر فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها ... لا ترض بالتضييع وزن المخسر وأنشد محمد بن علي الأصبهاني لبعضهم: اعمل بعلمك أيها الرجل ... لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل والعلم زين وتقوى الله زينته ... والمتقون لهم في علمهم شغل

ثانيا: وجوب العمل بالقرآن الكريم

وحجة الله يا ذا العلم بالغة ... لا العلم ينفع فيها لا ولا الحيل تعلم العلم واعمل ما استطعت به ... لا يلهينك عنه اللهو والجدل فنعوذ بالله من علم لا يورث عملاً. ثانياً: وجوب العمل بالقرآن الكريم إن الهدف الأسمى، والغاية العظمى، من إنزال القرآن الكريم هو العمل به، واتباع أوامره، ولذا فقد ورد الأمر في كتاب الله بوجوب العمل به في مواضع عدة من كتاب الله - جل وعلا - منها. الدليل الأول: قال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (106) سورة الأنعام قال ابن كثير - رحمه الله -: (يقول تعالى آمراً رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولمن اتبع طريقته: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي: اقتد به، واقتف أثره، واعمل به، فإن ما أوحي إليك من هو الحق الذي لا مرية فيه، لأنه لا إله إلا هو) (¬1). قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: (قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} يعني القرآن، أي: لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل اشتغل بعبادة الله) (¬2). الدليل الثاني: قال تعالى في سورة الأعراف: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 169). (¬2) تفسير القرطبي (7/ 55).

الدليل الثالث

قال القرطبي - رحمه الله -: (قوله تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} يعني الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (7) سورة الحشر. وقالت فرقة: هذا أمر يعم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته. والظاهر أنه أمر لجميع الناس دونه. أي: اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه. ودلت الآية على ترك اتباع الآراء مع وجود النص) (¬1). قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (أي: اقتفوا آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه، {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} أي: لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره) (¬2). الدليل الثالث: وقال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (109) سورة يونس قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (وقوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ} أي: تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك، واصبر على مخالفة من خالفك من الناس. {حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ} أي: يفتح بينك وبينهم. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي: خير الفاتحين بعدله، وحكمته) (¬3). ¬

(¬1) تفسير القرطبي (7/ 145). (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 269). (¬3) تفسير ابن كثير (2/ 571).

الدليل الرابع

الدليل الرابع: قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (55) سورة الزمر. قال الإمام القرطبي - رحمه الله - (... {أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ} هو القرآن وكله حسن، والمعنى ما قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته. وقال السدي: الحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه) (¬1). الخلاصة: مما سبق من الآيات وغيرها كثير، يدل دلالة واضحة على وجوب اتباع القرآن والعمل به، وهي إما آيات صريحة جاءت بفعل الأمر (اتبعوا) وهو دال على الوجوب بلفظه، وإما بأمر الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، باتباع ما أوحي إليه وهو القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكما هو معلوم أن الأمر للنبي أمر لأمته مالم يأت تخصيص له - صلى الله عليه وسلم -. فتأمل - أخي الحبيب - أين نحن من العمل بالقرآن في حياتنا وواقعنا؟ فهل من توبة صادقة وعودة محققة إلى مصدر العز والشرف؟ حتى نفوز بالسعادة في الدارين، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (123) سورة طه. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (15/ 236).

ثالثا: الترغيب في العمل بالقرآن الكريم

ثالثاً: الترغيب في العمل بالقرآن الكريم لقد ورد في فضل العاملين بالقرآن الكريم، المتبعين له، المتمسكين بهديه، كثير من الفضائل بعضها في الدنيا، وبعضها في الآخرة ومن ذلك: 1 - العمل بالقرآن الكريم سبب للهداية في الدنيا والآخرة: قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه - رحمهم الله - {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ...} (17) سورة الزمر نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر، وسلمان الفارسي - رضي الله عنهم - والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ثم قال عز وجل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ...} أي: يفهمونه ويعملون بما فيه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} أي: المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والاخرة. (¬1) قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقال: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه الله يوم القيامة سوء الحساب. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 53).

2 - العمل بالقرآن سبب للفلاح في الدنيا والآخرة

2 - العمل بالقرآن سبب للفلاح في الدنيا والآخرة: قال تعالى: {... فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف. قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وقوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ} أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلغاً إلى الناس {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي في الدنيا والآخرة. روى الدارمي بسنده عن أبي موسى - رضي الله عنه -: (إن هذا القرآن كائن عليكم وزرا، اتبعوا هذا القرآن، ولا يتبعنكم القرآن، فإن من تبع القرآن يهبط به في رياض الجنة) (¬1). 3 - العمل بالقرآن سبب للرحمة في الدنيا والآخرة: قال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (155) سورة الأنعام. قال الإمام الطبري - رحمه الله -: (يعني جل ثناؤه بقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى نبينا محمد - {فَاتَّبِعُوهُ} يقول: فاجعلوه إماماً تتبعونه وتعملون بما فيه أيها الناس قال تعالى: {وَاتَّقُواْ} يقول: واحذروا الله في أنفسكم أن تضيعوا العمل بما فيه وتتعدوا حدوده وتستحلوا محارمه ... وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يقول: لترحموا فتنجوا من عذاب الله وأليم عقابه). (¬2) ¬

(¬1) سنن الدارمي ج2 ص 526 ح3328. (¬2) تفسير الطبري (8/ 92) طبعة دار الفكر.

4 - العمل بالقرآن سبب للشفاعة في الآخرة

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره، والعمل به، والدعوة إليه، ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين). (¬1) قلنا: لا يخفى أن (لعل) محققة الوقوع لأنها من الله، فالرحمة في الدنيا والآخرة لمن اتبع القرآن وعمل به. 4 - العمل بالقرآن سبب للشفاعة في الآخرة: عن النواس بن سمعان الكلبي قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران " وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق. أو كأنهما حزقان (¬2) من طير صواف تحاجان عن صاحبهما " (¬3). فهذا الحديث يبين أن العاملين بالقرآن في الدنيا يشفع لهم القرآن يوم القيامة. 5 - العمل بالقرآن سبب لتكفير الذنوب وإصلاح البال: قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (2) سورة محمد. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 280). (¬2) حزقان: جماعتان، الحزق والحزيقة الجماعة من كل شيء. ابن الأثير في النهاية (1/ 364) دار الكتب العلمية. (¬3) رواه مسلم كتاب الصلاة باب فضل سورة البقرة ح 1843 (1338)، الترمذي في فضائل القرآن (2883) باب ما جاء في سورة آل عمران ج8 ص 161، مسند أحمد (16979).

قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} لم يخالفوه في شيء، قال سفيان الثوري: {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم، وقيل: أي أن القرآن هو الحق من ربهم، نسخ به ما قبله. {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: ما مضى من سيئاتهم قبل الإيمان. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: شأنهم، عن مجاهد وغيره. وقال قتادة: حالهم. وابن عباس: أمورهم. والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم. وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم ... وهو على هذا التأويل محمول على صلاح دينهم). (¬1) قال الإمام الشنقيطي - رحمه الله -: (أي غفر لهم ذنوبهم، وتجاوز لهم عن أعمالهم السيئة {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحاً لا فساد معه) (¬2) قال الإمام الطبري - رحمه الله -: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}: وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه، وفي الآخرة أن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه. (¬3) هذه هي الثمرات الزكية والفضائل المرضية، وحسن الجزاء في الدنيا والآخرة للعاملين بالقرآن الكريم، المتمسكين بأوامره، فهل من مشمر عن ساعد الجد لنيل تلك الدرجات، والفوز برضا رب البريات. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (16/ 191). (¬2) أضواء البيان (7/ 245). (¬3) تفسير الطبري (26/ 39) طبعة دار الفكر.

رابعا: الترهيب من هجر العمل بالقرآن الكريم

رابعاً: الترهيب من هجر العمل بالقرآن الكريم يدور القرآن الكريم بين الترغيب والترهيب ليصل العبد بذلك إلى الله رب العالمين {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء. فكما ورد الترغيب في العمل بالقرآن الكريم، ورد كذلك الوعيد الشديد والتهديد الأكيد في الدنيا والآخرة لمن ترك العمل بالقرآن الكريم، فلا يحل حلاله، ولا يحرم حرامه، ولا يأتمر بأمره، ولا ينته عن نهيه، فمن ذلك أن: 1 - هاجر العمل بالقرآن الكريم له مثل السوء: قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) سورة الجمعة. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (فقاس من حملة كتابه - سبحانه - ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له، ولا تحكيم له وعمل بموجبه، كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها، وحظه منها حمله على ظهره ليس إلا، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره. فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته) (¬1). 2 - هاجر العمل بالقرآن الكريم يعذب في قبره إلى قيام الساعة: روى البخاري من حديث سمرة بن جندب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها: "فانطلقنا ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 150) طبعة دار الحديث.

3 - هاجر العمل بالقرآن الكريم وقود النار يوم القيامة

حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه، قلت: (من هذا؟) قالا: انطلق". وفي آخر الحديث: "والذي رأيته يُشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة " (¬1) فانتبه أيها القارئ العزيز. 3 - هاجر العمل بالقرآن الكريم وقود النار يوم القيامة: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن، يقولون: مَنْ أقرأ منا؟ مَنْ أعلم منا، ومنْ أفقه منا؟ " ثم قال لأصحابه: " هل في أولئك من خير؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار " (¬2). 4 - هجر العمل بالقرآن الكريم سبب من أسباب الفتنة وعلامة من علامات الساعة: عن علقمة عن عبد الله قال: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، إذا ترك منها شيء قيل تركت السنة. قالوا: ومتى ذلك؟ قال: إذا ذهبت علماؤكم وكثرت جهلاؤكم، وكثرت قراؤكم وقلت فقاؤكم، وكثرت ¬

(¬1) رواه البخاري كتاب الجنائز (3/ 296). (¬2) (حديث حسن). رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد لا بأس به، ورواه أبويعلى والطبراني أيضاً من حديث العباس بن عبد المطلب. وقال الألباني (حسن) انظر صحيح الترغيب والترهيب ص (52).

أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين) (¬1). وكل ذلك حاصل في زماننا فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

(¬1) رواه الدارمي (1/ 76).

الفصل الثاني أسباب هجر العمل القرآن الكريم

الفصل الثاني أسباب هجر العمل القرآن الكريم وفيه ثلاثة مباحث: أولا: العادات والتقاليد. ثانياً: الخوف من الدنيا والحرص عليها. ثالثاً: فتنة الأئمة المضلين.

أولا: العادات والتقاليد

أولاً: العادات والتقاليد: إن من أهم أسباب هجر العمل بالقرآن الكريم في أي زمان ومكان التمسك بالعادات والتقاليد والمحافظة عليها وعدم التحرر من رقها. يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (104) سورة المائدة قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه، وترك ما حرمه، قالوا يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك. قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (104) سورة المائدة. أي لا يفهمونه حقاً، ولا يعرفونه ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونه والحالة هذه، لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً). (¬1) إنها العبارات والكلمات التي قيلت للرسول المصطفى والنبي المجتبى - صلى الله عليه وسلم -، هي هي نفسها التي تقال لكل من دعا إلى الله ورسوله في كل عصر ومصر، وصدق الله إذ يقول: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (53) سورة الذاريات. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 112).

ثانيا: الخوف على الدنيا والحرص عليها

فتلك هي الحجة للتنصل من أحكام الله تعالى، وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وترك العمل بالقرآن، وتنحيته عن واقع الناس. إنه التقليد الأعمى والجمود، بل هو الكفران والجحود. لو نظرت - أخي الحبيب - إلى واقع الناس اليوم لوجدت ذلك واضحاً جلياً في كثير من النماذج والصور لهجر العمل بالقرآن الكريم بسبب العادات والتقاليد منها على سبيل المثال: قضية التبرج والسفور التي أصبحت سمة من سمات نساء هذا العصر حتى أصبح الحجاب غريباً بين نساء المسلمين. فلو دعوت إحداهن إلى الحجاب والطهر والعفاف لتعللت بأن النساء كلهن على هذا، أو أنها لم تقتنع به! أو أنه يخالف العصر والتقدم!! وغيرها من حيل الشيطان. ثانياً: الخوف على الدنيا والحرص عليها: لقد كانت الحجة منذ القديم، في ترك العمل بالقرآن الكريم هي ما ذكره الله - جل وعلا - في محكم التنزيل وهو أصدق القائلين. قال الله تعالى: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (57) سورة القصص. قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: (يقول تعالى مخبراً عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ويتخطفونا أينما كنا. قال تعالى مجيباً لهم: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا} يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين وحرم

معظم آمن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم آمناً لهم في حال كفرهم وشركهم ولا يكون آمناً لهم وقد أسلموا وتابعو الحق؟) (¬1). يقول سيد قطب - رحمه الله -: (وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله، والسير على هداه، ويشفقون من أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية!! إن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}. فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان). (¬2) فيا من تحرصون على الدنيا وزينتها، وعلى المنصب والجاه والسلطان وعلى الوظيفة والكراسي الزائلة، اعلموا أن الرزق بيد الله، وأن الحمى في جناب الله، يقول تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (22) سورة الذاريات. ويقول تعالى في موضع آخر: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (175) سورة الأعراف. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (فشبه سبحانه من آتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به، واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدراً، وأخسها نفساً، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً، ... وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة - مع وفور علمه - ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 523). (¬2) في ظلال القرآن.

ثالثا: فتنة الأئمة المضلين

بالكلب في حال لهثه سر بديع، وهو أن الذي هذا حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته، واتباعه هواه، إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال انزعاجه وتركه). (¬1) ثالثاً: فتنة الأئمة المضلين ومن الأسباب القوية في صرف الناس عن العمل بالقرآن الكريم وأحكامه وتعاليمه، الأئمة المضلون الذي يحلون ما حرم الله، ويلبسون على الناس أمورهم. ورأينا منهم من يبارك الفجور والعرى، وإشاعة الفاحشة بين الناس، ثم هو يخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه. قال ميمون بن مهران - رحمه الله -: (لو صلح أهل القرآن صلح الناس) (¬2) وصدق الله إذ يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) سورة الجمعة. يقول سيد قطب - رحمه الله -: (إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله، فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان، ولينتهي في المسخ إلى مرتبة الحيوان!. ولقد رأينا من هؤلاء - والعياذ بالله - في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه، أو كمن يعض بالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 151) طبعة دار الحديث. (¬2) رواه أبونعيم في الحلية (4/ 93) نقلاً من أخلاق حملة القرآن للآجري ص (51) تحقيق فواز أحمد زمرلي طبعة دار الكتاب العربي.

إياه أحد المتسابقين معه في الحلبة!. فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا!. (¬1) وقد بين النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - حال الأمة مع الأئمة المضلين: عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " (¬2). وصدق النبي الكريم إذ يقول: " أشد ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان" (¬3). وما أكثرهم في هذه الأمة لا كثرهم الله. وصدق القائل: زَلْةُ العَالمِ، زَلْةُ العَالَمِ. وصدق الشاعر إذ يقول: رأيت الذنوب تميت القلو ... ب وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلو ... ب وخير لنفسك عصيانها وهل بدل الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها ¬

(¬1) في ظلال القرآن (¬2) رواه البخاري مع فتح الباري (1/ 234) كتاب العلم حديث رقم (100)، ومسلم كتاب العلم حديث رقم (6670). (¬3) السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني حديث رقم (1267).

الله نسأل أن يصلح أئمتنا ويوفقهم للعمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويقودوا الأمة إلى ما فيه صلاح دينها ودنياها إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الفصل الثالث العمل بالقرآن الكريم في واقع السلف الصالح

الفصل الثالث العمل بالقرآن الكريم في واقع السلف الصالح وفيه نماذج من عمل الصحابة بالقرآن الكريم

تمهيد

تمهيد: إن من يطلع على أصول السلف الصالح يرى عجباً من العجب، أقواماً يقبلون على القرآن إقبال الظمآن على الماء البارد، يتلون آياته ويتدبرونها، وينفذون أحكامه ويؤمنون بمتشابهه، ويعملون بمحكمه، ويتأثرون بما فيه من الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، فيخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً كان الواحد منهم إذا قرأ القرآن لا يشغله عنه شاغل، ولا يجذبه عنه جاذب، وقد روي عنهم في ذلك الأعاجيب. أما تطبيقهم لآيات القرآن وسرعة استجابتهم لله، وتغلغلها في قلوبهم فيشهد لذلك كثير من الحوادث التي جرت لهم. ألا إن التاريخ لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسمو، ثم نذروا لها حياتهم على نسق تناهي في الجسارة والتضحية والبذل كما شهد في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لقد جاءوا الحياة في أوانهم المرتقب، ويومهم الموعود .. فحين كانت الحياة تهيب بمن يجدد لقيمها الروحية شبابها وصوابها، جاء هؤلاء وراء رسولهم الكريم - صلى الله عليه وسلم - مجددين وناسكين، وحين كانت تهيب بمن يضع عن البشرية الرازحة أغلالها، ويحرر وجودها ومصيرها، جاء هؤلاء وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثواراً ومحررين، كيف أنجز أولئك الأبرار كل هذا الذي أنجزوا في بضع سنين؟! كيف شادوا بالقرآن

نماذج من عمل الصحابة بالقرآن الكريم

الكريم وآياته عالماً جديداً يهتز نضرة ويتألق عظمة ويتفوق اقتداراً؟! (¬1) كل ذلك يرجع لفضل الله - جل وعلا - ثم لتمسكهم بكتاب الله علماً وعملاً فقد كانوا أشد الناس إيماناً بالتنزيل وتصديقاً لكتاب رب العالمين. وسوف نتركك أخي الكريم لتتابع نماذج أعظم ثلة ظهرت في التاريخ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة. نماذج من عمل الصحابة بالقرآن الكريم أولاً: نماذج عامة: 1 - الصحابة كلهم مستجيبون لله ورسوله عاملون بالقرآن الكريم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ (¬2) فإني لقائم أسقي أباطلحة وفلاناً وفلاناً. إذا جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: ما ذاك؟ فقال: حُرمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس؟ قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل) (¬3). فانظر - رحمنا الله وإياك - إلى حال صحابة النبي الكريم وسرعة استجابتهم ¬

(¬1) انظر رجال حول الرسول. لخالد محمد خالد (¬2) الفضيخ: هو شراب يُتخذ من البُسْر المفضوخ: أي المشدوخ. قاله ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 406). (¬3) رواه البخاري، فتح الباري (8/ 126) طبعة الريان كتاب التفسير باب (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم).

2 - نساء الصحابة عاملات بالقرآن الكريم

لأمر رب العالمين، وحال كثير من هذه الأمة وبعدهم عن العمل بهذا الدين. انظر كيف انتشرت المحرمات، وكثرت المنكرات، من شرب الدخان والمخدرات، وأنواع المسكرات، وآيات الله تتلى ليل نهار، ولا رجوع ولا توبة ولا استغفار إلا من رحم الله العزيز الغفار، فإنا لله وإنا إليه راجعون. عن البراء - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى - أو صلاها - صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمرَّ على أهل مسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت) (¬1). فانظر إلى سرعة استجابتهم، فلله درهم؛ ولذا استحقوا أن يرضى عنهم ربهم. 2 - نساء الصحابة عاملات بالقرآن الكريم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (31) سورة النور. شققن مروطهن فاختمرن بها). ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن خثيم عن صفية قالت: (ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن، فقالت: إن نساء قريش لفضلاء، ولكن والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً بكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أُنْزِلَتْ سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها، فأصبحن يصلين الصبح ¬

(¬1) رواه البخاري - فتح الباري (8/ 20) طبعة الريان.

ثانيا: نماذج خاصة

معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان) (¬1). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الجمع بين الروايتين: (ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نساء الأنصار بادرن إلى ذلك). فليت نساء المسلمين اليوم تقرأ هذه النماذج، فطالما سمعوا آيات الله تتلى آناء الليل وأطراف النهار، ولكن آيات الله في واد، وهن في واد فإلى الله المشتكى، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثانياً: نماذج خاصة: 1 - صديق الأمة وخليفة رسول الله لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - من أشد الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - تصديقاً لكتاب الله، وإيماناً بالتنزيل، ومن أسرعهم استجابة لله ورسوله، والنماذج من حياته كثيرة. فمن ذلك ما أورده البخاري بسنده من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في حديث الإفك الطويل. (... فلما أنزل الله براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22) سورة النور. ¬

(¬1) فتح الباري (8/ 347) كتاب التفسير باب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}.

2 - فاروق الأمة والخليفة العادل

قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً ...) (¬1). فانظر - رحمنا الله وإياك - كيف أن مسطح بن أثاثة خاض مع من خاض في عِرْضِ أم المؤمنين ومع ذلك ما أن نزلت الآية حتى استجاب أبو بكر لأمر الله وأعاد النفقة التي كان ينفق على مسطح، لأن هدفهم هو رضوان الله تعالى والجنة. فشتان شتان ما بين السلف الصالح والخلف اليوم، من العداوات لأتفه الأسباب، وإطالة الخصام بدون أسباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 2 - فاروق الأمة والخليفة العادل عمر بن الخطاب وما أدراك ما عمر، عمر فاروق هذه الأمة أول من لقب بأمير المؤمنين، الخليفة العادل، الذكي العبقري، المحدث الملهم، عمر الذي وافق ربه في مواضع كثيرة، عمر الذي كان ينزل القرآن مؤيد لرأيه، عمر الذي ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه. عمر الذي أعز الله به الإسلام، عمر الذي توفي رسول الله وهو عنه راض، عمر الباب الحائل دون الفتنة، عمر الوقاف عند حدود الله. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحُرِّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباباً. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه. ¬

(¬1) رواه البخاري - فتح الباري (8/ 309) كتاب التفسير حديث (4750) طبعة الريان.

3 - أبو طلحة الأنصاري

قال ابن عباس: فاستأذن الحُرُّ لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحرُّ: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها وكان وقافاً عند حدود الله). (¬1) فليت الأمة اليوم تكون وقافة عند حدود الله، إذا ذكروا تذكروا حتى تعود الأمة إلى عزها ومجدها، فلن يصلح هذه الأمة اليوم إلا بما صلح به أولها. 3 - أبو طلحة الأنصاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كان أبوطلحة الأنصاري أكثر الأنصار بالمدينة نخلاً، وكان أحب ماله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما أنزلت {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبوطلحة قال: يا رسول الله إن الله يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بخ! ذلك مال رايح، ذلك مال رايح. وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ". قال أبوطلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمه. قال عبد الله بن يوسف وروح بن عبادة (بخ! ذلك مال رايح) حدثني يحيى بن ¬

(¬1) رواه البخاري - فتح الباري (8/ 155) كتاب التفسير حديث (4642) طبعة الريان.

يحيى قال: قرأت على مالك (مال رايح). (¬1) قال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث: وممن عمل بالآية ابن عمر. فروى البزار من طريقه أنه قرأها (يعني ابن عمر) قال: فلم أجد شيئاً أحب إلى من مرجانة - جارية لي رومية - فقلت: هي حرة لوجه الله، فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها). قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فإن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك. ألا ترى أباطلحة حين سمع الآية لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينّة لذلك. فإنهم يحبون أشياء كثيرة ... وأعتق ابن عمر نافعاً مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار قالت صفية بنت أبي عبيدة: أظنه تأول قول الله عز وجل {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. وروى شبل عن أبي نجيح عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتح مدائن كسرى، فقال سعد بن أبي وفاص: فدعا بها عمر فأعجبته، فقال إن الله عز وجل يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فأعتقها عمر - رضي الله عنه -. وروى عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خثيم قالت: كان إذا جاءه السائل يقول لي: يا فلانة أعطي السائل سكراً فإن الربيع يحب السكر. ¬

(¬1) رواه البخاري - فتح الباري (8/ 71) ح (4554) كتاب التفسير طبعة الريان.

4 - أبو الدحداح والعذق الرداح

قال سفيان يتأول قوله جل وعز {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. وروي عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أنه كان يشتري أعدالاً من السكر ويتصدق بها. فقيل له: هلا تصدقت بقيمتها؟ فقال: لأن السكر أحب إليَّ فأردت أن أنفق مما أحب. وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون). (¬1) 4 - أبو الدحداح والعذق الرداح روى الإمام أحمد في مسنده من طريقه أنه لما نزل قول الله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (245) سورة البقرة قال أبوالدحداح: يا رسول الله!، وإن الله يريد منا القرض؟ قال: " نعم يا أبا الدحداح ". قال: أرني يدك يا رسول الله!. فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي (بستان) فيه ستمائة نخلة. وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبوالدحداح فنادها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك. قال: أخرجي فقد أقرضته ربي - عز وجل -. قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح!. ونقلت منه متاعها وصيبانها. وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كم من عذق رَدَاح (¬2) في الجنة لأبي الدحداح " (¬3). فانظر - رحمنا الله وإياك - كيف استقرت الآخرة في قلوبهم، فهانت عندهم الدنيا، يسمع أبوالدحداح الآية فيتصدق بستمائة نخلة. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (4/ 128). (¬2) عذقٌ رَدَاحٌ يعني: النخلة العظيمة بحملها. لسان العرب (2/ 447) طبعة دار الفكر. (¬3) رواه أحمد في المسند (3/ 346) وابن أبي حاتم.

5 - ثابت بن قيس من أهل الجنة

وليس العجب من فعل أبي الدحداح، ولكن العجب كل العجب من سرعة استجابة أم الدحداح ودعائها بالربح والقبول. ولو أن رجلاً فعل قريباً من هذا في زماننا لرفعت عليه زوجته دعوى قضائية مطالبة بالحجر على زوجها بالسفه والجنون، ولانتشر خبره في الجرائد، وفضحته زوجته على رؤوس الأشهاد - إلا مَنْ رحم الله -. 5 - ثابت بن قيس من أهل الجنة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (2) سورة الحجرات. كان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزيناً. ففقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالك؟ قال أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار. فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه بما قال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا، بل هو من أهل الجنة ". قال أنس - رضي الله عنه - فكنا نراه يمش بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنط ولبس كفنه، فقال: بئسما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قُتِلَ - رضي الله عنه -. (¬1) ¬

(¬1) رواه أحمد في المسند واللفظ له، ومسلم نحوه.

6 - معقل بن يسار بين السمع والطاعة

هكذا كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين إذا سمعوا آيات الله ظنوا أنها ما أنزلت إلا فيهم، وما تخاطب إلا هم أما نحن فشتان ما بيننا وبينهم نسمع آيات الله ونظن أنها نزلت لغيرنا، فكان هذا حال السلف وهذا حالنا فإلى الله المشتكى!. 6 - معقل بن يسار بين السمع والطاعة قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ...} (232) سورة البقرة. عن معقل بن يسار أنها نزلت فيه. قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ...} فقلت: الآن أفعل يا رسول الله!، قال: فزوجها إياه. وفي رواية أبي مسلم الكجي من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن (فسمع ذلك معقل بن يسار فقال: سمعاً لربي وطاعة، فدعا زوجها فزوجها إياه) (¬1). لو نظرت - أخي الحبيب - إلى واقعنا لوجدت الكثير من المشاكل، إنما هي مشاكل عائلية نتيجة خلافات تافهة بسيطة، ولكن عناد الأب أو الأخ غالباً ما يؤدي إلى تفاقمها، مما يؤدي إلى إنهيار الأسر، وتصدع البيوت وتفكك الأواصر والعلاقات. ¬

(¬1) رواه البخاري - فتح الباري (9/ 89) حديث (5130) طبعة الريان.

7 - زينب بنت جحش أم المؤمنين - رضي الله عنها -

ولو توفر لدينا السمع والطاعة لأوامر القرآن الكريم كما توفر لدى السلف الصالح لما امتلأت المحاكم بالقضايا والشوارع بالمتشردين. فإلى العمل بالقرآن الكريم يا عباد الله. 7 - زينب بنت جحش أم المؤمنين - رضي الله عنها - عن قتادة قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب وهي - بنت عمته - وهو يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت، فأنزل الله - تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب. فرضيت وسلمت. (¬1) هذه بعض النماذج المشرقة من عمل السلف الصالح بالقرآن الكريم، وهذا غيض من فيض، وقطر من بحر، والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تسطر، ولكن اللبيب تكفيه الإشارة، والسعيد من وعظ بغيره. ¬

(¬1) رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح. قاله الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 92. طبعة دار الريان للتراث عام 1407 هـ.

الباب الخامس هجر التداوي والاستشفاء بالقرآن الكريم

الباب الخامس هجر التداوي والاستشفاء بالقرآن الكريم وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: المرض - أنواعه - وعلاجه. الفصل الثاني: الصرع - أدلته - أنواعه - أسبابه. الفصل الثالث: الرقية - حكمها - أقسامها - بدع المعالجين. الفصل الرابع: صور من هجر التداوي والاستشفاء بالقرآن الكريم.

الفصل الأول المرض

الفصل الأول المرض وفيه سبعة مباحث: أولاً: تعريف المرض. ثانياً: أنواع المرض. ثالثاً: ماذا يعني المرض عند المسلم؟ رابعاً: الأمر بالتداوي. خامساً: الدعاء من أنفع الأدوية. سادساً: القرآن علاج وشفاء. سابعاً: أحاديث ضعيفة وردت في فضل التداوي بالقرآن.

أولا: تعريف المرض

أولاً: تعريف المرض: (المرض) هو ما خرج بالكائن الحي عن حد الصحة والاعتدال. (المريض): مَنْ به مرض أو نقص أو انحراف. ويقال: قلب مريض: ناقص الدين، ورأي مريض: ضعيف أو فيه انحراف عن الصواب. جمع المريض، والمريضة: مَرْضَى أو مِرَاض. (¬1) ثانياً: أنواع المرض: (¬2) قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: (المرض نوعان: 1 - مرض القلوب. 2 - مرض الأبدان. ومرض القلوب نوعان: أ - مرض شبهة وشك. ب - مرض شهوة وغي. قال تعالى في مرض الشبهة: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} (10) سورة البقرة. ¬

(¬1) المعجم الوجيز ص (578)، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم بمصر، سنة 1410 هـ. (¬2) انظر الكتب الآتية: زاد المعاد (4/ 5 - 12) طبعة الرسالة، فتح الباري (10/ 108، 140) طبعة الريان، إغاثة اللهفان (19 - 21) طبعة دار الحديث.

وقال تعالى في حق مَنْ دُعِيَ إلى تحكيم القرآن والسنة، فأبى وأعرض: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (49) سورة النور. فهذا مرض الشبهات والشكوك. وأما مرض الشهوات: قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (32) سورة الأحزاب. فهذا مرض شهوة الزنا، والله أعلم. وأما مرض الأبدان: قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (61) سورة النور. وذكر مرض البدن في الحج (¬1) والصوم (¬2) والوضوء (¬3) لسر بديع يبين لك عظمة القرآن والاستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: 1 - ضبط الصحة. 2 - الحمية عن المؤذي. 3 - استفراغ المواد الفاسدة. فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة. ¬

(¬1) قوله تعالى:} فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ {(196) البقرة. (¬2) قوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (184) سورة البقرة. (¬3) قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} (43) سورة النساء.

ثالثا: ماذا يعني المرض عند المسلم؟

ثالثاً: ماذا يعني المرض عند المسلم؟ إن الناظر في الشريعة الإسلامية يجد أن المرض عند المسلم يعني أموراً عدة منها: 1 - المرض عقوبة: إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ... فإذا رأيت البلاء في الأجساد، فإنك إنما ترى أثر بعض الذنوب التي قدمتها أيدي الناس ... فما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى. قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما من سيئات تقدمت لكم، {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}، أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ}) (61) سورة النحل (¬1). وتعجيل العقوبة في الدنيا من فضل الله ورحمته بعباده المؤمنين، فهذا خير من أن تجتمع على العبد الذنوب فتطرحه في النار ... ولا يعني ذلك تَمنَّي المرض، بل نسأل الله العافية، فإن أُصِبْتَ شكرت؛ لعلمك أنها رحمة وعدل ... رحمة إذ عُجِلَ لك ذلك في الدنيا، وعدل إذ أنه ما أصابك إلا بذنب مما كسبت يداك. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 116) طبعة المكتبة القيمة.

2 - المرض كفارة

2 - المرض كفارة: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مصيبة تصيب المسلم - وفي رواية: ما من وجع أو مرض يصيب المؤمن - إلا كَفَّرَ الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها " (¬1). وعن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما يصيب المسلم من نصبٍ (تعب) ولا وَصَبٍ (مرض) ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله بها خطاياه ". (¬2) ومن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتَّ الله عنه خطاياه كما تحاتَّ ورَقُ الشجر " (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يَلْقَى الله وما عليه خطيئة " (¬4). عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا اشتكى المؤمن أخلصه الله كما يخلص الكير خبث الحديد " (¬5). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل ¬

(¬1) رواه البخاري (5640). (¬2) رواه البخاري (5641، 5642). (¬3) رواه البخاري (5647). ومعنى (تحات): سقوط الورق عن الغصن. (لسان العرب:2/ 22) (¬4) (صحيح) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5815). (¬5) (صحيح) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا في (المرض والكفارات). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح 1257 طبعة المكتب الإسلامي. .

3 - المرض منزلة ودرجة

مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفك غالباً من ألم بسبب مرض أو هم أو نحو ذلك مما ذكر، وإن الأمراض والأوجاع والآلام - بدنية كانت أو قلبية - تكفر ذنوب مَنْ تقع له ... وظاهره تعميم جميع الذنوب، لكن الجمهور خصُّوا ذلك بالصغائر لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " ... ما اجتنبت الكبائر " فحملوا المطلقات الواردة في تكفير السيئات على هذا المقيد ... ويحتمل أن يكون معنى هذه الأحاديث التي ظاهرها التعميم أن المذكورات صالحة لتكفير الذنوب، فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب، ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة المرض وخفته ... ثم المراد بتكفير الذنب ستره، أو محو أثره المترتب عليه من استحقاق العقوبة) (¬1). 3 - المرض منزلة ودرجة: عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله يقول: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه (عينيه) فصبر عوضته منهما الجنة " (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أُعْطِيَ فشكر، وابْتُلِيَ فصبر، وظَلَم فاستغفر، وظُلِمَ فغفر، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " المبطون شهيد، والمطعون شهيد " (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يرد الله به خيراً يُصب منه " (¬5). ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 113) بتصرف، طبعة الريان. (¬2) رواه البخاري (5653). (¬3) (سنده حسن) أخرجه الطبراني بإسناد حسن، الفتح (10/ 114). (¬4) (صحيح) رواه مالك، وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (39، 40) طبعة المكتب الإسلامي. (¬5) رواه البخاري (5645)، انظر صحيح الجامع (6610). طبعة المكتب الإسلامي.

رابعا: الأمر بالتداوي

فَعُلِمَ من مجموع هذه الأحاديث أن المرض منزلة من الله - عز وجل - وخير أراده لعبده، قد ينال العبد به عند الله درجة، وقد ينال به شهادة، وقد يحصل له به الأمن والهداية، بل وقد يبلغه إلى الجنة ... فيا عبد الله!، يا مَنْ ابتلاك الله بألم أو مرض، اعلم أن مولاك إنما ابتلاك ليكفر سيئاتك، ابتلاك ليختبر صبرك، ليضاعف أجرك .. ، ابتلاك ليرفع درجتك .. فهلاَّ صبرت واحتسبت؟ فقد جاء في الحديث " وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء " (¬1). رابعاً: الأمر بالتداوي: عن جابر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله - عز وجل - " (¬2). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " (¬3). عن أسامة بن شريك، قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت الأعراب، فقالوا: يارسول الله! أنتداوى؟. قال: " نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله - عز وجل - لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد "، قالوا: وما هو؟ قال: " الهَرَمُ " (¬4) ¬

(¬1) (صحيح) أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (144)، صحيح ابن ماجه (3250). (¬2) أخرجه مسلم (2204) في السلام: باب لكل داء دواء واستحباب التداوي. (¬3) أخرجه البخاري (5678)، وابن ماجه (3439). (¬4) (إسناده صحيح) أخرجه أحمد (4/ 278)، وابن ماجه (3436)، وأبوداود (3855)، والترمذي (1395) وصححه الأرناؤط في زاد المعاد (4/ 13)، وصححه الألباني في غاية المرام (179).

قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه مَنْ علمه، وجهله مَنْ جهله" (¬1). ويستفاد من الأحاديث ما يلي: (¬2) 1 - إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال مَنْ أنكرها، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وتقديره، وأنها لا تنجح بذواتها بل بما قدره الله فيها. 2 - قوله " لكل داء دواء " على عمومه حتى يتناول الأدوية القاتلة، والتي اعترف حذاق الأطباء بأنه لا دواء لها، وأقروا بالعجز عن مداواتها ... ، وكما فيها أيضاً تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على طلب الدواء والتفتيش عنه، وفي ذلك فتح لباب الرجاء. 3 - الأمر بالتداوي لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها. بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطِّلُها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتمادُ القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، وتوكله عجزاً. ¬

(¬1) (حديث صحيح) أخرجه أحمد (278)، وابن ماجه (3438)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (451). (¬2) انظر زاد المعاد (4/ 14 - 17)، فتح الباري (10/ 141 - 142).

أنواع الطب: قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: والطب نوعان: 1 - طب القلوب ومعالجته: وهذه خاصة ومسلمة بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه سبحانه وتعالى. 2 - طب الجسد. أ - منه ما جاء في المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل الرقية والدعاء. ب - ومنه ما جاء عن غيره - صلى الله عليه وسلم -، وغالبه راجع إلى التجربة. ثم هو نوعان: 1 - نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش. 2 - نوع يحتاج إلى فكر ونظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرج عن الاعتدال، وهو إما حرارة أو برودة. وغالب معرفته بتحقيق الأسباب والعلامة) (¬1). حكم التداوي: اختلف العلماء في التداوي: هل مباح وتركه أفضل، أم مستحب أم واجب؟ فالمشهور عن أحمد: الأول، والمشهور عند الشافعية: الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم: أنه مذهبهم، ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبوالمظفر، قال: (ومذهب أبي حنيفة: أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب). قال: ومذهب مالك: أنه يستوي فعله وتركه، فإنه قال لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه. (¬2) ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 140) بتصرف يسير. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 90، 91) بنحوه.

خامسا: الدعاء من أنفع الأدوية

قال شيخ الإسلام: (ليس بواجب عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد). (¬1) والذي يظهر - والله أعلم - أن التداوي من الأمراض يعتريه الأحكام التكليفية الخمسة: 1 - الوجوب: عند تحقق الشفاء التام وخوف الهلاك والتلف. 2 - الندب: عند غلبة الظن في تحقق الشفاء ودفع المرض. 3 - الإباحة: مثل كثير من الأمراض التي لا تسبب هلاكاً ولا يتوقع منها تلف. 4 - الكراهة: مثل الكي. 5 - التحريم: مثل التداوي بالمحرم كالتداوي بالخمر والسحر ونحو ذلك. خامساً: الدعاء من أنفع الأدوية: قال الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62) سورة النمل. وقال أيضاً: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر. وقال أيضاً: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186) سورة البقرة. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (¬2) (والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (24/ 269). (¬2) الداء والدواء ص (10 - 11 - 12) تحقيق محمد عبد الملك الزغبي، طبعة مكتبة فياض بالمنصورة.

البلاء، ويدفعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن كما روى الحاكم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرفوعاً: "إن الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السموات والأرض" (¬1). وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ". (¬2) وفيه أيضاً من حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ". (¬3) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير ولم يقل بذلك إلا شذوذ، والأحاديث الصحيحة ترد عليهم، وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة ليست في التداوي بغيره، لما فيه من ¬

(¬1) (الحديث موضوع) انظر السلسلة الضعيفة للألباني (179). (¬2) (حسن) رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم في مستدركه عن عائشة وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7739). (¬3) (حسن) إلا الجملة الأخيرة " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " ضعيف، راجع السلسلة الصحيحة (154).

سادسا: القرآن علاج وشفاء

الخضوع والتذلل للرب سبحانه، بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة اتكالاً على ما قدر، فيلزم ترك العمل جملة، ورَدُّ البلاء بالدعاء كرد السهم بالقوس، وليس من شروط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رمي بالسهم، والله أعلم). سادساً: القرآن علاج وشفاء: قال الإمام ابن القيم - رحمه الله: (قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (82) سورة الإسراء والصحيح: أن (من) هاهنا، لبيان الجنس لا للتبعيض، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (57) سورة يونس. فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وما كل أحد يُؤهَّل يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداءُ أبداً. وكيف تقاوم الدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال، لَصدَعَهَا، أو على الأرض لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا في القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه). (¬1) وقال ابن القيم في تعليقه على الفاتحة: (وحق لسورة تشمل على هذين الشفاءين: الأبدان والأرواح أن يستشفي بها من كل مرض. ولقد جربت ذلك في نفسي وفي غيري أموراً عجيبة، ولاسيما في مدة المقام بمكة فإنه كان يعرض لي آلامٌ مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني في الطواف فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها ¬

(¬1) زاد المعاد (4/ 352) بتصرف. طبعة الرسالة.

سابعا: أحاديث ضعيفة وردت في فضل التداوي بالقرآن

على محل الألم، فكأنه حصاة تسقط، ولقد جربت ذلك مرات عديدة). (¬1) سابعاً: أحاديث ضعيفة وردت في فضل التداوي بالقرآن: هذه بعض الأحاديث التي اشتهرت على الألسنة وسطرت في الكتب وتناقلها الخطباء نذكرها هنا للتحذير منها وبيان حالها؛ لأن في الأحاديث الصحيحة الواردة غنية عن الضعيف وحتى لا نقع تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يقل عليَّ ما لم أقل فهو أحد الكاذبين ". 1 - عن علي مرفوعاً: " خير الدواء القرآن ". (ضعيف)، ضعيف ابن ماجه (774، 767)، ضعيف الجامع (2885). 2 - حديث " خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم ". (لا أصل له) السلسلة الضعيفة (557). 3 - عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: " عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن ". (ضعيف مرفوعاً، صحيح موقوفاً) السلسلة الضعيفة (1514)، ضعيف الجامع (3765). 4 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل عن أبيه، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي وجع. فقال: " ما وجع أخيك؟ ". قال: به لمم (اللمم: طرق من الجنون يلم بالإنسان ويعتريه). قال: " فابعث به إليَّ ". ¬

(¬1) راجع كتاب الداء والدواء ص (9) طبعة دار المنار.

فجاء، فجلس بين يديه، فقرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: فاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول سورة البقرة، وآيتين من وسطها {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (163 - 164) سورة البقرة. حتى فرغ من آخر سورة البقرة. وآية من أول سورة آل عمران {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ...} (18) سورة آل عمران. وآية من سورة الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ...} {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (116) سورة المؤمنون. وآية من سورة الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} (3) سورة الجن. وعشر آيات من سورة الصافات من أولها، وثلاثاً من سورة الحشر، وقل هو الله أحد، والمعوذتين. (إسناده ضعيف جداً) أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (632)، والطبراني في الدعاء (1080)، من طريق أبي جناب يحيى بن أبي حية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل عن أبيه وهذا (إسناد ضعيف جداً) فيه علتان: الأولى: جهالة الرجل وأبيه. الثانية: يحيى بن أبي حية، ضعفوه لكثرة تدليسه. راجع كتاب (صحيح الأذكار وضعيفه) للنووي، بقلم سليم عيد الهلالي، المجلد الأول ص (354 - 355) طبعة مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة المنورة.

والحديث ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (778) طبعة المكتب الإسلامي.

الفصل الثاني الصرع

الفصل الثاني الصرع وفيه خمسة مباحث: أولاً: تعريف الصرع. ثانياً: الأدلة على إثبات الصرع. ثالثاً: أنواع الصرع. رابعاً: أسباب الصرع. خامسًا: أسباب انتشار ظاهرة الصرع.

تمهيد

تمهيد: إن الصرع، والمس، والسحر من الأمور التي انتشرت في هذا الزمان بصورة كبيرة، حتى اختلط على كثير من الناس التفريق بين الصرع الجني والصرع الطبي، وبينهما وبين الوهم الذي يدعيه الكثير من المرضى للهرب من مشكلاتهم الخاصة. وفي هذا الفصل تفصيل لهذه المسألة في ضوء الكتاب والسنة. أولاً: تعريف الصرع: قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (هي علة تمنع الأعضاء الرئيسية عن انفعالها منعاً غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصباً بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثاني يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجاً إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها). (¬1) ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 119) طبعة الريان.

ثانيا: الأدلة على إثبات الصرع

ثانياً: الأدلة على إثبات الصرع: لقد وردت الأدلة من القرآن الكريم على أن الصرع أمر واقع وحقيقي، ولا ينكره إلا مكابر ومعاند. أولاً: الأدلة من القرآن: قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (275) سورة البقرة قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: (في هذه الآية دليل على فساد مَنْ أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس). (¬1) قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} الآية. أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشياطين له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً). (¬2) ثانياً: الأدلة من السنة: 1 - عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فأدع الله لي. قال: " إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ". فقالت: أصبر. فقالت إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (2/ 223) طبعة دار الفكر. (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 326) طبعة المكتبة القيمة.

عن ابن جريج أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر، تلك المرأة الطويلة السوداء، على ستر الكعبة (¬1). قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث فضل مَنْ يُصْرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجح وأنفع من العلاج بالعقاقير) (¬2). 2 - عن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: لما استعملني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: " ابن أبي العاص " قلت: نعم يا رسول الله!. قال: " ما جاء بك؟ " قلت: يا رسول الله! عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي. قال: " ذاك الشيطان. ادنه " فدنوت منه فجلست على صدور قدمي قال: فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال: " اخرج عدو الله " فعل ذلك ثلاث مرات ثم قال: " الحق بعملك " قال: فقال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد. (¬3) قال العلامة الألباني - رحمه الله -: (وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ويدخل فيه ولو كان مؤمناً صالحاً) (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه، واللفظ للبخاري، (¬2) الفتح (10/ 120). (¬3) (حديث صحيح) أخرجه ابن ماجة (3548) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2918). (¬4) السلسلة الصحيحة (6/ 1002) طبعة مكتبة المعارف بالرياض.

ثالثا: أنواع الصرع

3 - عن يَعْلَى بن مُرَّة - رضي الله عنه - قال: لقد رأيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً ما رآها أحد قبلي، ولا يراها أحد بعدي: لقد خرجت معه في سفر، حتى إذا كنا ببعض الطريق، مررنا بامرأة جالسة، معها صبي لها، فقالت: يا رسول الله!، هذا صبي أصابه بلاء، وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال:" ناولنيه "، فرفعته إليه، فجعلته بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغر فاه، فنفث فيه ثلاثاً، ثم قال: " بسم الله أنا عبد الله، اخسأ عدو الله " ثم ناولها إياه، فقال: " ألفينا في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل " قال: فذهبنا، ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث. فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما فعل صبيك؟ " فقالت: والذي بعثك بالحق، ما حسسنا منه شيئاً حتى الساعة، فاجتزر هذه الغنم، قال: " انزل فخذ منها واحدة ورد البقية ... " (¬1) ثالثاً: أنواع الصرع: قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (الصرع صرعان: الأول: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية. الثاني: صرع من الأخلاط الرديئة، وهو الذي يتكلم الأطباء في سببه وعلاجه. أما صرع الأرواح: فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك أبقراط في بعض ¬

(¬1) (إسناده جيد) رواه أحمد والحاكم وصصحه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني بعد أن ساق طرق الحديث: (وبالجملة فالحديث بهذه المتابعات جيد) السلسلة الصحيحة، (1/ 797).

رابعا: أسباب الصرع

كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة. وأما الصرع الذي يكون من الأرواح، فلا ينفع هذا العلاج. وأما صرع الأخلاط: فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعاً غير تام). رابعاً: أسباب الصرع: عرفنا أن الصرع قسمان: صرع من قبل الجن، وآخر من قبل المرض، ولكل واحد منهما أسبابه التي تختلف عن الآخر. أولاً: أسباب الصرع الجني: ويمكن تلخيص أسباب مس الجن للإنس فيما يلي: 1 - (عشق الجني للإنسية، أو عشق الجنية للإنسي. 2 - ظلم الإنسي للجني، بصب ماء ساخن عليه، أوبالوقوع عليه من مكان عالٍ، وغير ذلك. 3 - ظلم الجني للإنسي، كأنه يمسه دون سبب، ولا يتسنى له ذلك، إلا في حالة من هذه الحالات الأربع: أ - الغضب الشديد. ب - الخوف الشديد. جـ - الإنكباب على الشهوات. د - الغفلة الشديدة. (¬1) 4 - قلنا: ويمكن أن يمس الجني الإنسي بدون سبب ويكون الإنسي مؤمناً ¬

(¬1) وقاية الإنسان من الجن والشيطان (74 - 75) لوحيد عبد السلام بالي. طبعة مكتبة الصحابة. الطبعة العاشرة.

ثانيا: أسباب الصرع الطبي

صالحاً، مثل: عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -، والمرأة السوداء وأنه يقع كنوع من الإبتلاء والاختبار؛ إما لتكفير الذنوب أو لرفع المنزلة والدرجة في الآخرة. والله أعلم. ثانياً: أسباب الصرع الطبي: (الصرع من أقدم الأمراض المعروفة، ومع تقدم الطب تبين أن السبب هو وجود بؤرة في مكان ما في المخ تصدر شحنة كهربائية زائدة، ويتمثل المرض في نوبة هياج عصبي تبدأ تلقائياً، وتنتشر في أجزاء الجسم، ثم تنتهي دون أي تدخل خارجي، وليس بالضرورة أن يغيب الشخص عن الوعي. وتظهر آثاره بشكل معين في رسام المخ الكهربائي. أسباب المرض في الطفولة: 1 - التشنجات المصاحبة للحميات، وهي من أهم الأسباب ما بين (2 - 5) سنوات. 2 - إصابات الرأس قبل الولادة. 3 - الالتهاب السحائي أو وجود خراج بالمخ. 4 - نزيف داخلي. 5 - أمراض التمثيل الغذائي مثل نقص الكالسيوم في الدم. 6 - التسمم بالرصاص. 7 - بعض حالات التخلف العقلي. الأسباب في البالغين: 1 - الأورام المختلفة داخل المخ. 2 - أمراض الأوعية الدموية بالمخ الناتجة من ضغط الدم المرتفع، أو نزيف

خامسا: أسباب انتشار ظاهرة الصرع

داخلي، أو جلطة. وكلها من أهم الأسباب لمن هم فوق سن الخمسين. 3 - إصابات الدماغ. 4 - الالتهابات المختلفة للمخ وأغشيته. 5 - بعض أنواع السموم خصوصاً إدمان الكحولات). (¬1) خامسًا: أسباب انتشار ظاهرة الصرع: إن الناظر في أحوال الناس في الآونة الأخيرة يسمع كلاماً كثيراً عن حالات الصرع الذي انتشر انتشاراً واسعاً في جميع المستويات والطبقات، حتى أصبحت من جملة الظواهر التي يعاني منها المسلمون، والواضح أن هناك أسباباً كثيرة أدت إلى هذه الظاهرة، منها: 1 - الوهم: (الوهم مرض نفسي خبيث، وقد كان لخوف الناس من الجن والشيطان دور كبير في حصول هذا الوهم، وبدأ كثير من الناس يربط بين مرض معين أصابه، أو مشكلة في حياته، أو خلافات زوجية عادية أو حادثة معينة حدثت له، وبين أمور أخرى، فأخذ يقلب في ذاكرته عن سبب هذه المشكلة، أو تلك الخلافات، فاعتقد أن فلاناً من الناس قد أصابه بعين، أو أنه وقع يوماً ما فأصابه الجن بالمس، ثم يحكي أعراضاً يُحس بها. وفي الحقيقة: إن مرض الوهم إذا أصاب الإنسان، كان أخطر من المرض ¬

(¬1) الصرع الأسباب وطرق التشخيص والعلاج مقال بمجلة التوحيد للدكتور عادل راشد ص (41 - 34) العدد (9) السنة (21).

2 - الفراغ

الحقيقي، لأن مس الجن يزول بفضل الله أمام الرقية بالقرآن الكريم، أما مرض الوهم فهو في دَوَّامة لا تنتهي، والحقيقة أن المترددين على المعالجين بالقرآن الكريم نسبة كبيرة منهم مرضى بالوهم والقلة القليلة مَنْ به مس من الجن.) (¬1). 2 - الفراغ: قال الحسن البصري: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. إن الفراغ والخواء قد ملأ القلوب، فوجد الشيطان فيها أرضاً خصبة، فصال وجال، وبذر وزرع وحصد. إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة 3 - كثرة كتب الجن والشياطين: إن الناظر في المكتبات الإسلامية يجد العشرات، بل المئات من الكتب التي تتحدث عن الجن والشيطان، وحالات المس والصرع، والحسد، والربط ... ، وغيرها من القضايا المختلفة، فضلاً عن انتشار أشرطة المعالجين بين الناس، وكذلك الإعلان عن مراكز العلاج الروحاني أو العلاج بالقرآن الكريم في كثير من الصحف والمجلات، وتبني بعض الأحزاب السياسية لهذا الموضوع؛ لرفع رصيدها الشعبي بين الناس. 4 - حب الاستطلاع: إن حب الاستطلاع والتشوق إلى معرفة الأخبار الغريبة، والحكايات العجيبة، وبخاصة مما يتعلق بالغيب، ومن الأمور التي يقبل عليها الناس؛ ولذلك ¬

(¬1) الصرع أسبابه وعلاجه للدكتور / سعيد عبد العظيم (49 - 52) بتصرف طبعة دار الإيمان الأسكندرية.

5 - جهل كثير من المعالجين

أشبع القرآن الكريم هذه الناحية بالحديث عن الغيبيات كالملائكة والجن والجنة والنار ... وغيرها. (¬1) 5 - جهل كثير من المعالجين: إن جهل كثير من المعالجين بحقيقة الجن والشياطين والأمراض العضوية أدى إلى عدم التفريق بينها مما زاد من حجم المشكلة وأدى إلى تفاقمها وسنعرض لشيء من أخطائهم في المباحث القادمة - إن شاء الله -. ¬

(¬1) وقفة مع الجن للدكتور / محمد أحمد إسماعيل المقدم محاضرة مسجلة على (4) أشرطة تسجيلات دار بلال الأسكندرية.

الفصل الثالث الرقية الشرعية

الفصل الثالث الرقية الشرعية وفيه خمسة مباحث: أولاً: تعريف الرقية الشرعية. ثانياً: حكم الرقية وشروطها. ثالثاً: أقسام الرقى. رابعاً: بعض الرقى لعلاج الصرع والسحر والحسد وسائر الأمراض. خامساً: بدع وأخطاء المعالجين.

أولا: تعريف الرقية الشرعية

أولاً: تعريف الرقية الشرعية: (الرقية: العوذة، معروفة، قال رؤبة: فما تركا من عوذة يعرفانها ... ولا رقية إلا بها رقياني (¬1) والعوذة والمعاذات والتعويذ: الرقية ما يُرْقَى به الإنسان من فزع أو جنون، لأنه يُعَاذ بها وقد عوَّذه، يقال: عوذت فلاناً بالله، وبأسمائه، وبالمعوذتين، إذا قلت: أعيذك بالله، وبأسمائه من كل ذي شر) (¬2). ثانياً: حكم الرقية وشروطها: الرقية مشروعة، وجائزة، دل على ذلك أحاديث كثيرة منها: 1 - عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة (¬3) فقال: " استرقوا لها فإن بها النظرة " (¬4). ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور (13/ 332) طبعة دار صادر بيروت. (¬2) المرجع السابق (3/ 499) نقلاً عن الرقي على ضوء الكتاب والسنة. د. علي العلياني ص (7). (¬3) السفعة: سواد في الوجه، وقيل لون يخالف لون الوجه. الفتح (10/ 212). (¬4) رواه البخاري (5739) والمراد بالنظرة: أنها أصيبت بالعين سواء من الجن أو الإنس، الفتح (10/ 213).

2 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسده). (¬1) قال العلامة الألباني - رحمه الله -: عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وامرأة تعالجها أو ترقيها فقال: " عالجيها بكتاب الله " (¬2). (وفي الحديث مشروعية الترقية بكتاب الله تعالى، ونحوه مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرقي ... وأما غير ذلك من الرقى فلا تشرع، لاسيما ما كان منها مكتوباً بالحروف المقطعة، والرموز المغلقة، التي ليس لها معنى سليم ظاهر، كما ترى أنواعاً كثيرة منها في الكتاب المسمى بـ (شمس المعارف الكبرى) ونحوه). (¬3) شروط الرقية الجائزة: قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: 1 - أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته. 2 - وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره. 3 - وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. واختلفوا في كونها شرطاً، والراجح أنه لابد من اعتبار الشروط المذكورة، ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: ¬

(¬1) رواه مسلم (2199). (¬2) (إسناده صحيح) ابن حبان (14119)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1931). (¬3) السلسلة الصحيحة (4/ 566).

ثالثا: أقسام الرقى

يا رسول الله كيف ترى ذلك؟ قال: " اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " وله من حديث جابر نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرقى، فجاء آل عمرو ابن حزم فقالوا: يا رسول الله! إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، قال: فَعَرضُوا عليه فقال: " ما أرى بأساً، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه ") (¬1). قال العلامة الألباني - رحمه الله -: (وفي الحديث استحباب رقية المسلم بما لا بأس به من الرقى وذلك ما كان معناه مفهوماً مشروعاً، وأما الرقى بما لا يعقل معناه من الألفاظ فغير جائز. قال المناوي: وقد تمسك ناس بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، وإن لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف الماضي أن ما يؤدي إلى شرك يمنع، وما لا يعرف معناه لا يؤمن أن يؤدي إليه، فيمنع احتياطاً). (¬2) ثالثاً: أقسام الرقى: تنقسم الرقى إلى قسمين بهذه الاعتبارات: أولاً: باعتبار الراقي. ثانياً: باعتبار الزمن. ويتضح هذا التقسيم من خلال العرض الآتي: أولاً: باعتبار الراقي وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - أن يرقي الإنسان نفسه، وتعتبر هذه من أفضل المنازل، وأقربها للقبول، وذلك لأن المريض هو المضطر والله سبحانه وتعالى يقول: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 206). (¬2) السلسلة الصحيحة للألباني (1/ 844). الطبعة الجديدة مكتبة المعارف.

إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62) سورة النمل. والرقية كالدعاء تماماً، لكنها دعاء خاص بطلب الشفاء، فالأولى أن يدعو الإنسان لنفسه، وأن يرقي نفسه، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186) سورة البقرة. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر. وفي رقية الإنسان لنفسه فوائد منها: 1 - كمال الإتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان إذا اشتكى هو أو أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات. 2 - أكمل للتوكل وتعلق القلب بالله. 3 - أقرب إلى إجابة الدعاء لأن العبد الداعي هو المضطر. 4 - أدعى للسلامة من الانخداع ببعض الدجالين. 5 - أحفظ للنساء وأدعى لصيانتهن من التعرض للرجال الأجانب. (¬1) 6 - رجاء أن يكون الشخص من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب. 2 - أن يرقي الإنسان غيره: وذلك أن يرى الإنسان شخصاً تظهر عليه علامات المرض، فيرقيه من قبل نفسه، بدون أن يطلب المريض منه ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ استطاع منكم أن ¬

(¬1) رسالة السحر والعين والرقية منها لفهد بن سليمان القاضي ص (13، 14).

ينفع أخاه فليفعل ". (¬1) ومثلما فعل جبريل عليه السلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما اشتكى فرقاه جبريل من غير طلب من الرسول - عليه الصلاة السلام - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! اشتكيت. قال: " نعم ". قال بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك. (¬2). ولقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المريض أن يطلبوا الرقية له، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمر - أن يسترقي من العين. (¬3) وقال أيضاً: لما رأى في بيت أم سلمة جارية في وجهها سفعة: " استرقوا لها فإن بها النظرة " (¬4). قال العلامة الألباني في بيان معنى " استرقوا ": (أي أطلبوا الرقية لها لا لكم). (¬5) 3 - أن يطلب المريض من غيره أن يرقيه: لقد مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لا يطلب الرقية من غيره، لكمال توكله على الله - عز وجل - فقال في وصف السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: "أنهم لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون " (¬6) والإسترقاء هو ¬

(¬1) مسلم (2199). (¬2) رواه مسلم ح (2186). (¬3) رواه البخاري (5738). (¬4) رواه البخاري (5739). (¬5) كيف يعالج المصروع محاضره للألباني. تسجيلات القدس. جدة. (¬6) متفق عليه،. رواه البخاري (5739). ومسلم (2197).ولفظة (لا يرقون) شاذة. راجع السلسلة الصحيحة للألباني ح (244). رواه البخاري (5739). ومسلم (2197).

ثانيا: أقسام الرقي باعتبار الزمن

طلب الرقية من الغير، والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن. (¬1) عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ اكتوى أو استرقى؛ فقد برئ من التوكل " (¬2). قال العلامة الألباني - رحمه الله -: (وفيه كراهة الأكتواء والإسترقاء: أما الأول؛ فلما فيه من التعذيب بالنار، وأما الآخر؛ فلما فيه من الاحتياج إلى الغير فيما الفائدة فيه مظنونة غير راجحة، ولذلك كان من صفات الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. كما ثبت في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عند الشيخين) (¬3) وقال أيضاً: (قال أهل العلم: لأن طلبك الرقية من غيرك علاج غير ناجح غالباً، أو قد ينجح، إذن في هذه الحالة يحسن بالمسلم أن يتوكل على الله، ولذلك أنهى الحديث بقوله: " وعلى ربهم يتوكلون ") (¬4). ثانياً: أقسام الرقي باعتبار الزمن: تنقسم الرقي باعتبار الزمن إلى قسمين: أ - رقية لدفع البلاء قبل وقوعه، ومن أدلتها: 1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ الحسن ¬

(¬1) فتح المجيد ص (84) طبعة مؤسسة قرطبة. (¬2) (صحيح) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وابن ماجة والحاكم. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (244). (¬3) السلسلة الصحيحة (1/ 490). (¬4) كيف يعالج المصروع.

رابعا: بعض الرقى لعلاج الصرع والسحر والحسد وسائر الأمراض

والحسين، ويقول: " إن أباكما يُعَوِّذُ بها إسماعيل وإسحق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة " (¬1). 2 - عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ قال في أول يومه أو في أول ليلته بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء في ذلك اليوم أو في تلك الليلة " (¬2). ب - رقية لدفع البلاء بعد وقوعه ومن أدلتها: 1 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذتين، فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي. (¬3) 2 - عن عثمان بن أبي العاص الثقفي - رضي الله عنه - أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: بسم الله، ثلاثاً، وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " (¬4). رابعاً: بعض الرقى لعلاج الصرع والسحر والحسد وسائر الأمراض: 1 - الرقي من القرآن الكريم: 1 - القرآن كله شفاء لقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (82) سورة الإسراء. ¬

(¬1) رواه البخاري (3371). (¬2) (صحيح) رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (3120). (¬3) رواه مسلم (2192). (¬4) رواه مسلم (2202).

2 - الرقى النبوية

2 - سورة الفاتحة. 3 - سورة الإخلاص. 4 - المعوذتان. 5 - آية الكرسي. ومن الأدلة على ذلك: قال البخاري - رحمه الله -: باب الرقى بالقرآن الكريم والمعوذات: وذكر حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه - في المرض الذي مات فيه - بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيده نفسه لبركتها) (¬1). وعن ابن عابس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا ابن عابس ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال:" قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ". (¬2) 2 - الرقى النبوية: 1 - عن عبد العزيز قال: (دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا حمزة اشتكيت. فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى. قال: اللهم رب الناس، مذهب الباس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، شفاءً لا يغادر سقماً) (¬3). 2 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للمريض: " بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفي سقيمنا، بإذن ربنا " (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري (5735). (¬2) (صحيح) رواه أحمد والنسائي. وصححه الألباني في السلة الصحيحة ح (11044). طبعة المكتب الإسلامي. (¬3) صحيح البخاري (5742). (¬4) صحيح البخاري (5745).

خامسا: بدع وأخطاء المعالجين

3 - عن عثمان بن أبي العاص الثقفي، أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك. وقل: بسم الله، ثلاثاً. وقل: سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ". (¬1) 4 - عن محمد بن المنكدر قال: (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه أهاويل يراها في المنام. فقال: " إذا أويت إلى فراشك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه وعقابة، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون " (¬2). 5 - عن أبي سعيد، أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: " نعم " قال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك. من شر كل نفسِ أو عين حاسد الله يشفيك. باسم الله أرقيك. (¬3) خامساً: بدع وأخطاء المعالجين: (دخل أمر العلاج بعض الشباب الذين لم تستو سوقهم في الاستقامة، ولم ينضج علمهم في الفقه، وأخذوا يعالجون بالقرآن بزعمهم متشبهين بأحمد بن حنبل وابن تيمية - رحمهما الله - وهم لم يتموا حفظ القرآن بعد، بل وقد لا يعرفون نواقض الوضوء، أو أركان الصلاة أو شروط صحتها فضلاً عن غيرها من أمور دينهم، فغاية أمر أحدهم أنه حفظ الرقية أو قرأ كتاباً أو كتابين ثم بدأ يعالج، فإذا ¬

(¬1) صحيح مسلم (2202). (¬2) (صحيح) السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني - رحمه الله - ح (11044) طبعة المكتب الإسلامي. (¬3) صحيح مسلم (2186).

أولا: الحوار مع الجن وتصديقهم

بهم يقعون في المحظورات وهم لا يدرون - لجهلهم - فانتشرت البدع في علاجهم، وكثرت الخرافات، وسبب ذلك أمران: الأول: جهل المعالج بأمور الدين. الثاني: تصديق الجني في كل ما يخبر به؛ لأنه أحياناً يقدم الجني نصائح للمعالج فيقول مثلاً: إن حالة كذا اقرأ لها آيات كذا، أو اكتب القرآن بطريقة معينة ثم افعل به كذا وكذا مثلاً، فيأخذ المعالج بنصيحة الجن، مما حدا بكثير منهم أن يقعوا في المحظورات) (¬1). ومن هذه المخالفات والمحظورات: أولاً: الحوار مع الجن وتصديقهم: لقد كثر الحوار مع الجن وسؤالهم عن الكثير من الأشياء مثل: اسمه وسنه وديانته وتصديق الناس لذلك؛ مما أدى إلى كثير من المفاسد والمخالفات، متناسين أن الجن ليس مصدراً لتلقي العلم، لأن الغالب في كثير من الجن الكذب لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة - رضي الله عنه - " صدقك وهو كذوب "، بالإضافة لمخالفته هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه الحالات. قال العلامة الألباني - رحمه الله -: (لقد كان الذين يتولون القراءة على المصروعين أفراداً قليلين، صالحين فيما مضى، فصاروا اليوم بالمئات، وفيهم بعض النسوة المتبرجات فخرج الأمر عن كونه وسيلة شرعية - لا يقوم به إلا الأطباء عادة - إلى أمور ووسائل أخرى لا يعرفها الشرع ولا الطب معاً، فهي - عندي - نوع من الدجل والوساوس يوحي به الشيطان إلى عدوه الإنسان {وَكَذَلِكَ ¬

(¬1) وقاية الإنسان من الجن والشيطان ص (9) طبعة. مكتبة الصحابة - الطبعة العاشرة.

جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (112) سورة الأنعام. وهو نوع من الاستعاذة بالجن التي كان عليها المشركون في الجاهلية المذكورة في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (6) سورة الجن. فمن استعان بهم على فك السحر - زعموا - أو معرفة هوية الجني المتلبس بالإنسي أذكر هو أم أنثى؟ مسلم أو كافر؟ وصدقه المستعين به ثم صدقه الحاضرون عنده، فقد شملهم جميعاً وعيد قوله - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد " وفي حديث آخر " لم تُقْبَلْ له صلاة أربعين ليلة" رواه مسلم وغيره وهو مخرج في غاية المرام رقم (284) والحديث الذي قبله صحيح انظر الإرواء (2006) فينبغي الانتباه لهذا، فقد علمت أن كثيراً ممن ابتلوا بهذه المهنة هم من الغافلين عن هذه الحقيقة، فأنصحهم - إن استمروا في مهنتهم - أن لا يزيدوا في مخاطبتهم على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" اخرج عدو الله " مذكراً لهم بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (¬1). وقد ترتب على هذه الحوارات مع الجان الكثير من المفاسد منها: 1 - الفتنة والوقيعة بين الناس، عندما يزعم الجن أن فلاناً هو الذي صنع السحر وذلك أمام الحاضرين مما يؤدي إلى إلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين، فكم من أرحام قُطِّعَتْ، وبيوت خُرِّبت، وأُسَر هُدِّمت، بسبب ذلك، وإلى الله المشتكى. ¬

(¬1) السلسلة الصحيحة للألباني (6/ 1009 - 1010) طبعة مكتبة المعارف بالرياض.

ثانيا: الاستعانة بالجن في العلاج

2 - تمكين الجني المتلبس ببدن الإنسي بالبقاء أطول مدة ممكنة لترك قراءة القرآن والأذكار النبوية. ثانياً: الاستعانة بالجن في العلاج: قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله -: (الاستعانة بالجن سواءً أكانوا مسلمين أم غير مسلمين وسيلةً من وسائل الشرك، والاستعانة معناها: طلب الإعانة؛ ولهذا فمن المتقرر عند أهل العلم أنه لايجوز طلب الإعانة من مسلمي الجن؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يطلبوا ذلك منهم، وهم أولى أن تخدمهم الجن، وأن تعينهم. وأصل الاستعانة بالجن: من أسباب إغراء الإنسي بالتوسل إلى الجني، وبرفعة مقامه، وبالاستمتاع به، وقد قال - جل وعلا -: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} (128) سورة الأنعام. فحصل الاستمتاع - كما قال المفسرون - من الجني بالإنسي: بأن الإنسي يتقرب إليه، ويخضع له، ويذل، ويكون في حاجته، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن يخدمه الجني، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبحٌ من الإنسي للجني، وتقربٌ بأنواع العبادات، أو بالكفر بالله - جل وعلا - والعياذ بالله، بإهانة المصحف، أوبامتهانه أو نحو ذلك؛ ولهذا نقول إن تلك الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز، فمنها ماهو شرك - كالاستعانة بشياطين الجن - يعني: الكفار - ومنها ماهو وسيلةٌ إلى الشرك، كالاستعانة بمسلمي الجن. وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن الجن قد تخدم

الإنسي. وهذا المقام فيه نظر وتفصيل؛ ذلك أنه - رحمه الله - ذكر في آخركتاب النبوات: أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أمرهم، ونهاهم، أي: بالأوامر، والنواهي الشرعية، أما طلب خدمتهم وطلب إعانتهم: فإنه ليس من سجايا أولياء الله، ولا من أفعالهم قال: مع أنه قد تنفع الجن الإنس، وقد تقدم له بعض الخدمة ونحو ذلك، وهذا صحيح من حيث الواقع. فالحاصل أن المقام فيه تفصيل: فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة من الجني المسلم، فهذا وسيلة إلى الشرك، ولا يجوز أن يعالج عند أحد يعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين. وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه، فإن هذا قد يحصل، لكن لم يكن هذا من خلق أولياء الله، ولا مماسخره الله - جل وعلا - لخاصة عباده، فلا يسلم من هذا حاله من نوع خلل جعلت الجن تكثر من خدمته، وإخباره بالأمور، ونحو ذلك. فالحاصل: أن هذه الخدمة إذا كانت بطلب منه، فإنها لاتجوز، وهي نوع من أنواع المحرمات؛ لأنها نوع استمتاع، وإذا كانت بغير طلبٍ منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين ويستعيذ بالله من شر مردة الجن؛ لأنه قد يؤدي قبول خبرهم، واعتماده، إلى حصول الأنس بهم، وقد يقوده ذلك الاستخدام إلى التوسل بهم والتوجه إليهم - والعياذ بالله - فإذا تبين ذلك: فإن خبر الجن عند أهل العلم ضعيف، لايجوز الاحتجاج به عند أهل الحديث، وذكر ذلك أيضاً الفقهاء. وهذا صحيح؛ لأن البناء على الخبر وقبوله: هو فرعٌ عن تعديل المخبر، والجني غائب، وعدالته غير معروفة، وغير معلومة عند السامع، فإذا بنى الخبر عمَّن جاءه به من الجن وهو لم يرهم، ولم يتحقق عدالتهم إلا بما سمع من خطابهم

- وهي لا تكفي - فإنه يكون قد قبل خبر من يحتمل أنه فاسق؛ ولهذا قال الله - جل وعلا -: {ياأيها الذين آمنوا إن جائكم فاسق بنبإٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات. والذين يقبلون إخبار الجن، وإعلام الجن لهم ببعض الحوادث، تحصل منهم مفاسد متنوعة كثيرة .... فهذه المسألة يجب على طلاب العلم أن يسعوا في إنكارها وبذل الجهد في إقامة الحجة على من يستخدم الجن، ويتذرع بأن بعض العلماء أباح ذلك، والواقع أن هذا العمل وسيلة من وسائل الشرك بالله - جل وعلا - واقرؤوا أول كتاب ((تاريخ نجد)) لابن بشر، حيث قال إن سبب دخول الشرك إلى قرى نجد أنه كان بعض البادية إذا أتى وقت الحصاد أو أتى وقت خرف النخيل، فإنهم يقطنون بجانب تلك القرى ومعهم بعض الأدوية والأعشاب فإذا كانوا كذلك فربما سألهم بعض جهلة تلك القرى حتى حببوا إليهم بعض تلك الأفعال المحرمة من جراء سؤالهم وحببوا إليهم بعض الشركيات أوبعض البدع حتى فشا ذلك بينهم فبسب هؤلاء المتطببين الجهلة، والقراء المشعوذين انتشر الشرك - قديماً - في الديار النجدية وما حولها، كما ذكر ابن غنَّام. وقد حصل أن بعض مستخدمي الجن، كثر عنده الناس، فلما رأى من ذلك، صار يعالج علاجاً نافعاً، فزاد تسخر الجن له، حتى ضعف تأثيره، فلما ضعف تأثيره ولم يستطع مع الحالات التي تأتيه للقراءة أوللعلاج شيئاً: صار تعلقه بالجن أكثر، ولا زال ينحدر مافي قلبه من قوة اليقين، وعدم الاعتماد بقلبه على الجن، حتى اعتمد عليهم شيئاً فشيئاً، ثم حرفوه - والعياذ بالله - عن السنة، وعما يجب أن يكون في القلب من توحيد الله، وإعظامه، وعدم استخدام الجن في

ثالثا: استرضاء الجن والذبح له

الأغراض الشركية، فجعلوه يستخدم الجن في أغراض شركية وأغراض لاتجوز بالاتفاق). (¬1) ثالثاً: استرضاء الجن والذبح له: وفي هذه الطريقة يقوم المعالج باسترضاء الجني الصارع، فيلبي له جميع طلباته، فأحياناً يطلب منه ذبح حيوان أو لبس ذهب أو شرب دخان أو غيرها من الأمور المحرمة. وسبب حرمة هذه الطريقة - والله أعلم - عدة أمور: 1 - أن الذبح للجن شرك بالله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله مَنْ ذبح لغير الله " (¬2) والتداوي بالشرك والكفر لا خلاف بين العلماء في تحريمه، ولا يجوز التداوي به باتفاق. 2 - لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، حيث يطيع الجنيَّ ويلبس الذهب - إن كان رجلاً - أو يشرب الدخان، وهي من الأمور المحرمة شرعاً. 3 - تلبية هذه الرغبات تزيد الجني طغياناً وكفراً وعتواً وتمرداً؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (6) سورة الجن (¬3). رابعاً: الاعتماد على التجربة: وَسَّع المعالجون الباب في علاج الصرع الجني، ويستخدمون طرقاً تختلف من شخص لآخر، بزعم أنها مجربة، ونافعة أيضاً، ولذلك كثيراً ما تسمع عن هذه ¬

(¬1) التمهيد لشرح كتاب التوحيد صـ (615 - 619). للشيخ / صالح بن عبد العزيز آل الشيخ. ط دار التوحيد، الطبعة الأولى. (¬2) رواه مسلم (1978) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬3) انظر عالم الجن والشياطين لعمر سليمان الأشقر ص (143 - 144) وقاية الإنسان ص (107).

الوسائل المجربة: 1 - القراءة على الماء والوضوء منه، والاغتسال به، والتوسع في ذلك. 2 - الدهن بالزيت في مواضع معينة. 3 - استعمال البخور والخرز وتعليقه. 4 - إخافة الجني وإيذائه وسجنه وحرقه وقتله!! فتارة يستعملون الضرب والخنق، وتارة يحرقون بدن المصروع في أجزاء معينة، وإظلام المكان .. ، وبعضهم يدخلون المريض على بعض الحيوانات كالذئب مثلاً لإخافة الجني - زعموا - وغيرها كثير. 5 - القراءة على الجماعات من الناس في وقت واحد لكسب الوقت، وذلك باستخدام مكبرات الصوت في المساجد، مع التركيز على آيات معينة ومحدودة بزعم أنها آيات الرقية. قال العلامة الألباني - رحمه الله -: (ليس كل تجربة نافعة يدل على شرعية هذه الوسيلة وإلا فتح لنا هذا باباً واسعاً من الدجل والبدعة والخرافة، بل من الشرك أحياناً. الذين يتوسلون بالأنبياء والأولياء الصالحين، ويتضرعون عند قبورهم ويطلبون منهم قضاء حوائجهم يقولون جربنا مراراً وتكراراً حتى إنه سُطِّر في الكتب قبر (معروف) الترياق المجرب، وهذا هو المسجل تاريخياً، والمعروف عند الناس عملياً. (¬1) ... أنا أقول نجاح التجربة لا يكفي في الدلالة على شرعيتها، لابد ¬

(¬1) مثل ما كتبه الشيخ / محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في (الكلمات النافعة في شأن الحيوان يحبس فيه البول، أو الغائط، فيطاف به قبور المشركين فيبرأ، ولا يصلح ذلك دليلاً على صلاح صاحب القبر، إنما يفسره أهل العلم بأنهم يعذبون في قبورهم، فيسمع الحيوان صراخاً إذا اقترب من القبر فيرتاع لذلك، فتهتز أمعاؤه وأحشاؤه، فتطرد ما فيها، فيبرأ، لا دليل في ذلك على صلاح، بل هو دليل كفر وشرك وفساد) مجلة التوحيد ص (19).

أن يكون هناك دليل يؤيد الشرعية، وإلا فلا. قال سائل: التوسل عبادة محضة تحتاج إلى دليل، أما التداوي الأصل فيه المشروعية والجواز، والأصل فيه عدم التقيد، فما جوابكم على هذا التفريق؟ قال العلامة الألباني: (هذا الكلام أراه صحيحاً لو كان الأمر متعلقاً بمعالجة أمور لا تتعلق بالغيب، لا تتعلق بما يقال اليوم بما وراء المادة، والجن من هذا القبيل، فلا أرى هذا من هذا حتى نقول بالموافقة). (¬1) قال الشيخ محمد صفوت نور الدين - رحمه الله -: (ما يفعله كثير من الناس من ضرب أو خنق أو كي، وإسراف في استخدام ذلك، يخرجون بذلك عن الشرع الذي جاء، ويستدلون بما لا يصلح لذلك دليلاً، كقول منسوب للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهم يعلمون أن الضرب، أو الخنق ليس المؤثر، إنما المؤثر هو ذكر الله - سبحانه وتعالى - والدعاء، فما لهم ينتقلون من الأعلى إلى الأدنى، وينتقلون مما يعلم بالشرع نفعه إلى ما يخشى وقوع ضره، فيتأثر المريض بذلك الضرب والخنق، ولو كان الضرب هو المؤثر لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر مَنْ يجلد المصروع لا مَنْ يرقيه) (¬2). ¬

(¬1) كيف يعالج المصروع للألباني. (¬2) مجلة التوحيد ص (20 - 21) العدد (8) السنة (24).

خامسا: التفرغ للرقية

خامساً: التفرغ للرقية: (لقد تفرغ كثير من المعالجين للرقية، وقصروا أوقاتهم على القراءة على المرضى، ووسعوا دورهم واستعدوا للزائرين، ورتبوا لهم مواعيد كما تفعل المستشفيات المتخصصة تماماً، واتخذوا هذا العمل حرفة لهم، وذلك لكثرة ما يدره عليهم من دخل مادي كبير. وهذه الصورة يترتب عليها مفاسد كثيرة منها: 1 - يظن الناس أن لهذا القارئ بعينه خصوصية، بدليل كثرة زحام الناس عليه، وتطغى حينئذ أهمية القارئ على أهمية المقروء وهو كلام الله، وكل ذريعة تضعف ثقة الناس بالقرآن ينبغي أن تسد ولا تفتح. 2 - قد يتوهم القارئ نفسه أن الشياطين تخاف منه، وتخرج من المصروعين فيظن أنه من الأولياء الأبرار ويصيبه العجب والكبر ونحو ذلك. 3 - لقد اشتهر كثير من الصحابة بإجابة الدعاء كسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وبعض التابعين كأويس القرني - رحمه الله - ومع هذا لم يؤثر أن المسلمين تزاحموا على أبوابهم أفواجاً إثر أفواج لطلب الدعاء مع حاجة المسلمين إلى إجابة دعائهم في صلاح دينهم ودنياهم. 4 - إن المتفرغ للرقية على الناس فيه مشابهة بالذي يتفرغ للدعاء للناس، فالرقية والدعاء من جنس واحد، فهل يليق بطالب علم أن يقول للناس تعالوا إليّ ادع لكم!! فضلاً عن تعطيلها سنة رقية المريض لنفسه، وطلبه الشفاء من الله). (¬1) ¬

(¬1) راجع كتاب الرقى على ضوء الكتاب والسنة ص (75 - 89) فإنه قد أفاض وأجاد طبعة دار الوطن.

سادسا: التوسع في أخذ الأجر على الرقية

سادساً: التوسع في أخذ الأجر على الرقية: توسع القائمون على العلاج في أخذ الأجر على الرقية، مما أدى إلى ظهور صور مرفوضة: 1 - المطالبة بمبالغ كبيرة أحياناً. 2 - يرفض أن يرقي إلا بعد أن يدفع أهل المريض الأجر. 3 - التعمد في تكرار الجلسات، وإطالتها، حتى يأخذ أجراً عن كل جلسة. 4 - ادعاء بعضهم أنه لا يأخذ أجراً، ولكنه في المقابل يبيع للمريض الماء المقروء عليه المخلوط ببعض الأعشاب!! بمبالغ طائلة، كل هذه الأمور على الرغم من عدم تحقق الشفاء في غالب الحالات، مما أدى إلى ظهور المعالجين بصورة سيئة، وأنهم (ماديون) أو (انتهازيون). ويستدل أصحاب هذا الرأي بما ورد في السنة الصحيحة مثل حديث أبي سعيد الخدري، وحديث عم خارجة بن الصلت، وغيرهما مما يفيد جواز أخذ الأجرة على الرقية، ولكن الناظر إلى هذه الأحاديث يجد أن الصحابة لم يأخذوا أجراً على الرقية إلا بعد تحقق الشفاء التام ففي حديث أبي سعيد: (فقرأ عليه أم الكتاب، حتى برأ كأنما نُشِّطَ من عقال، قال: فأوفوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه) (¬1)، وفي الحديث الآخر: (فرقيته بفاتحة الكتاب، فبرأ، فأعطوني مئة شاة) (¬2) ولذلك نرى - والله أعلم - أن يقيد الأجر على الرقية بتحقق الشفاء التام. ¬

(¬1) (متفق عليه) البخاري (2276)، مسلم (2201)، انظر شرح الحديث في فتح الباري (4/ 529) طبعة الريان. (¬2) (حديث صحيح) رواه أبوداود (3896، 3901) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3901).

سابعا: علاج النساء

سابعاً: علاج النساء: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " (¬1) لقد استطاع الشيطان عن طريق النساء أن يوقع المعالجين في الكثير من المخالفات الشرعية بحجة أنهم معالجون كالأطباء - زعموا! - أنهم مضطرون لذلك! ومن هذه المخالفات ما يلي: 1 - النظر للنساء أثناء العلاج ليعرف نوع الجن - بزعمه - أو ما يسمى (بالكشف بالنظر) (¬2). 2 - وضع يده على جسم المريضة، وأحياناً يقوم بدهن بعض جسمها بالزيت!. 3 - القراءة على المريضة بدون وجود محرم معها؛ مما أدى إلى الخلوة المحرمة. 4 - كشف العورات، وانتهاك الأعراض والحرمات. وذلك كله بسبب جهلهم أن (الاضطرار إنما يقع في الأسباب المادية، فقد يضطر الطبيب فيجرح المريض، أو يستأصل منه عضواً، أو يشق له جلداً، أو يصف له الدواء المر، أو يكشف له عورة، أو يلمس له موضعاً لا يحل له لمسه، أو ينظر إلى امرأة لا تحل له؛ لأنه لا سبيل لتشخيص المرض، أو وصف الدواء، أو العلاج إلا بذلك، فهو مضطر، فيرتكب الضرر الأدنى دفعاً للضرر الأكبر، أما الأسباب ¬

(¬1) (متفق عليه) البخاري (5096)، ومسلم (2740). (¬2) زعم صاحب المنهج القرآني ص (51 - 55) أن طريقة الكشف بالنظر فريدة في بابها!! وأنها من فضل الله عليه!! وجاءت بنتائج عجيبة!! وأثناء علاجه لامرأة أمرهاأن تنظر إليه بعينيها ... وأخذ ينظر إليها.!!.

ثامنا: الابتداع في الأذكار

الشرعية: فهي دعاء لله، وطلب منه سبحانه، وذلك لا يسبب اضطراراً، فلا تجوز فيه معصية - وإن صغرت -، بل يحرص فيه على الطاعة التي تعين على رفع الدعاء، فلا تجوز خلوة بغير محرم، ولا نظر إليها، ولا لمس لها، ولا غير ذلك من المخالفات الشرعية). (¬1) ثامناً: الابتداع في الأذكار: (كثير من كتب العلاج بالقرآن قيدت الأذكار التي أطلقها الشرع بعدد محدود، أو أطلقت المقيد من هذه الأذكار، فنجد في بعض هذه الكتب أن الذكر أو الآية مثلاً تقال (20) مرة أو (100) مرة (¬2). ولم يثبت ذلك في نصوص الشريعة، وقد يحد المؤلف حداً من عنده كما في كتاب: (إثبات علاج جميع الأمراض بالقرآن الكريم) فبعد ما ذكر المؤلف آيات الشفاء في القرآن قال: تكتب في طبق صيني أبيض بدون نقوش بالزعفران وماء ورد ثم تمحى بماء ويسقى للمريض فإنه يشفى في وقته بإذن الله تعالى!!.ولا ندري من أين أتى بهذه التقيدات؛ فكتابة الآيات على مثل هذا النحو مختلف فيه بين العلماء، ومن قال بجواز ذلك، فما هو دليله على أن الطبق لابد وأن يكون من الصيني الأبيض غير المنقوش؟!. ماذا لو تأخر الشفاء، ولم يشف المريض في وقته؟. هذا مثل من أمثلة عديدة لو نقلناها من مصادرها لطال بنا الحديث، ثم بعض هذه الكتب، وبعض من يعالج أيضاً يذكر آيات وسور تقرأ بعدد معين محدد لأمراض معينة مثل: السرطان والروماتيزم ¬

(¬1) حول الجن وتلبيسه مقال لفضيلة الشيخ محمد صفوت نور الدين - حفظه الله - مجلة التوحيد ص (20) العدد (8) السنة (24). (¬2) انظر المنهج القرآني ص (80، 100، 101، 127، 128، ...).

والأمراض الجلدية وأمراض الصدر (¬1) فمن أين أتى بهذا التحديد. هل قرأ هذا التوصيف في كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟) (¬2). وأخيراً: هذه صيحة تحذير وصرخة نذير للمعالجين بالقرآن أن يتقوا الله - سبحانه وتعالى - في السر والعلن وأن يتقيدوا بما جاء في القرآن والسنة الصحيحة وألا يستخفنهم الشيطان فيلقي بهم في مهاوي الضلالة والبدعة والشرك. قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النور. ¬

(¬1) مثل كتاب دليل المعالجين بالقرآن الكريم الرياض محمد سماحة - سامحه الله -، فكن على حذر منه. (¬2) الرقية النافعة للأمراض الشائعة د. سعيد عبد العظيم ص (23 - 24) طبعة دار الإيمان الأسكندرية.

الفصل الرابع صور من هجر التداوي والاستشفاء بالقرآن الكريم

الفصل الرابع صور من هجر التداوي والاستشفاء بالقرآن الكريم وفيه خمسة مباحث: أولاً: إتيان السحرة والعرافين. ثانياً: تعليق التمائم. ثالثاً: الاستشفاء بالقبور والأضرحة. رابعاً: إتيان الكنائس. خامساً: حرز أبي دجانة.

أولا: إتيان السحرة والعرافين

لما هجر الناس كتاب الله - جل وعلا - في باب التداوي والاستشفاء ضلوا ضلالاً بعيداً، ولجأوا إلى غير الله رب العالمين يلتمسون منهم الشفاء والدواء لأمراضهم، فخاب ظنهم، وضل سعيهم في الدنيا والآخرة، وهذه بعض الصور من هجر التداوي والاستشفاء التي تدل على الجهل وسوء المعتقد نذكرها تحذيراً لأمة القرآن منها. أولاً: إتيان السحرة والعرافين: لجأ كثير من الناس إلى السحرة والعرافين يطلبون منهم الشفاء لأمراضهم، وفك أعمالهم من السحر، وعلاج مصروعهم ... ، ومما لا شك فيه أن هذه الطريقة مخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمور الآتية: 1 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن النُّشرة؟ فقال: " هي من عمل الشيطان " (¬1). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه أحمد وأبوداود وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4/ 733).

أحدهما: قيل بسحر مثله، هو الذي من عمل الشيطان. وعليه يحمل قول الحسن (لا يحل السحر إلا ساحر). فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله في المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة. فهذا جائز. (¬1) 2 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أتى عَرَّافاً فسأله عن شيء، لم تُقْبَلْ له صلاة أربعين ليلة " (¬2) وقال أيضاً: " مَنْ أتى كاهناً فَصَدِّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنْزَل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). لقد ترتب على إتيان العرافين أمران هما: 1) الكفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وهما الكتاب والسنة. 2) لا تقبل للمرء صلاة أربعين ليلة. 3 - قال تعالى: {... وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ...} (102) سورة البقرة. وقال أيضاً: {... وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (69) سورة طه. فبين الله تعالى أن طريق السحرة إلى الضلال والإفساد والضر وعدم الفلاح. 4 - ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - بيان حكم الساحر في الشريعة الإسلامية، وهو القتل، فلو كان للساحر منفعة، لم يأمر بقتله. عن جندب بن كعب - رضي الله عنه - قال: (حد الساحر: ضربه بالسيف) (¬4). ¬

(¬1) فتح المجيد ص (397) طبعة مؤسسة قرطبة. (¬2) رواه مسلم (2230). (¬3) (حديث صحيح) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في الإرواء (2006). (¬4) (ضعيف مرفوعاً، صحيح موقوفاً) رواه الترمذي (1460) وقال: (هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، إسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه، والصحيح عن جندب موقوفاً)، راجع ضعيف الترمذي للألباني (244)، والسلسلة الضعيفة (1446).

عن بجالة بن عبده قال: (كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة). (¬1) علامات يعرف بها الساحر: (إذا وجدت علامة واحدة من هذه العلامات في أحد المعالجين فهو ساحر بلا أدنى ريب، وهذه العلامات هي: 1 - يسأل المريض عن اسمه واسم أمه. 2 - يأخذ أثراً من آثار المريض (ثوب - قلنسوة - منديل - فانيلة ...) وما يعرف (بالثمل). 3 - أحياناً يطلب حيواناً بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض، أو يرمي به في مكان خرب. 4 - كتابة الطلاسم، وتلاوة العزائم غير المفهومة. 5 - إعطاء المريض (حجاباً) يحتوي على مربعات بداخلها حروف أو أرقام. 6 - يأمر المريض أن يعتزل الناس مدة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسميها العامة (الحجبة). 7 - أحياناً يطلب من المريض ألا يمس ماء مدة معينة غالباً تكون أربعين يوماً، وهذه العلامة تدل على أن الجني الذي يخدم هذا الساحر نصراني. 8 - يعطي المريض أشياء يدفنها في الأرض. ¬

(¬1) رواه البخاري (3156).

ثانيا: تعليق التمائم

9 - يعطي المريض أوراقاً يحرقها ويتبخر بها. 10 - أحياناً يخبر الساحر المريض باسمه واسم بلدته ومشكلته التي جاء من أجلها. 11 - يكتب للمريض حروفاً مقطعة في ورقة (حجاب) أو في طبق من الخزف الأبيض ويأمر المريض بإذابته وشربه. فإن علمت أن الرجل ساحر فإياك والذهاب إليه وإلا انطبق عليك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ") (¬1). ثانياً: تعليق التمائم: التمائم: جمع تميمة، وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام ونحوه، خوفاً من العين، وكانت التمائم منتشرة في الجاهلية فلما جاء الإسلام أبطلها ونهى عنها: عن عبد الله بن مسعود - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الرقى والتمائم والتوله شرك " (¬2) وذلك عندما دخل على امرأته فرأى عليها حرزاً من الحمرة، فقطعه قطعاً عنيفاً، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، ثم ذكر الحديث. عن عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل إليه رهط، فبايع تسعة، ¬

(¬1) الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار لوحيد بالي ص (46 - 47) طبعة مكتبة التابعين. الطبعة العاشرة. (¬2) (حديث صحيح) رواه أحمد وأبوداود وابن ماجة وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2972) وبين أن قصة اختلاف زينب امرأة عبد الله بن مسعود إلى اليهودي كي يرقيها منكرة، راجع السلسلة الصحيحة (6/ 1166).

وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله!؛ بايعت تسعة وتركت هذا؟ قال: " إن عليه تميمة، فأدخل يده، فقطعها، فبايعه وقال: مَنْ علق تميمة؛ فقد أشرك " (¬1) قال العلامة الألباني - رحمه الله -: (ولا تزال هذه الضلالة فاشية بين البدو والفلاحين وبعض المدنيين ومثلها الخرزات التي يضعها بعض السائقين أمامهم في السيارات يعلقونها على المرآة! وبعضهم يعلق نعلاً في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها وغيرهم يعلقون نعل فرس في واجهة الدار والدكان؛ كل ذلك لدفع العين - زعموا -، وغير ذلك مما عمّ وطم بسبب الجهل بالتوحيد وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بُعِثَتْ الرسل وأُنْزِلَت الكتب إلا من أجل إبطالها والقضاء عليها، فإلى الله المشتكى، من جهل المسلمين اليوم، وبعدهم عن الدين) (¬2) أما إذا كانت التميمة من القرآن، والأدعية النبوية، فقد اختلف العلماء فيها بين الجواز والمنع، والصحيح أن يُمْنَع أن يعلق شيئاً من القرآن لوجوه ثلاثة: الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم. الثاني: سدُّ الذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك. الثالث: أنه إذا عُلِّق فلابد أن يمتهنه المُعَلِّق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك. (¬3) ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (492). (¬2) السلسلة الصحيحة (1/ 890) الطبعة الجديدة. (¬3) فتح المجيد ص (156) طبعة مؤسسة قرطبة.

ثالثا: الاستشفاء بتربة القبور

ثالثاً: الاستشفاء بتربة القبور: (ويقع ذلك من الجاهلين على أنواع مثل أخذها، ومسح الجلد بها، أو التمرغ على القبور أو الاغتسال بها مع الماء أو شربها ... إلخ. وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب القبر أنه ينفع ويضر حتى عدوا ذلك إلى تربته التي دفن فيها وبعضهم يعديه إلى التربة التي وضعت عليها جنازته). (¬1) ووصل الأمر بهم إلى أن جعلوا لكل قبر خاصية، فهذا القبر لإخراج الجن، والآخر لقضاء الحوائج، وغيره لشفاء الأمراض ... وكذلك الاستشفاء بالأحجار والأشجار والآبار والعيون يطلبون منها الشفاء لأمراضهم. رابعاً: إتيان الكنائس: (انتشرت مصيبة كبرى في بعض الدول العربية لاسيما مصر، وهي الذهاب إلى القساوسة في الكنائس لعلاج المس والسحر؛ فيأمرهم القساوسة بلبس الصليب، فيفعلون ذلك ابتغاء الشفاء بزعمهم، ثم يقرءون عليهم ترانيم معينة، ويعطونهم أوراقاً فيها شرك عظيم). (¬2) (ومن قبيح جهال النساء أنهن يذهبن إلى القسيس بماري جرجس أو بدير العريان بمعصرة حلوان أو غيرهما يطلبن منه حجاباً للنظرة أو حجاباً لوقاية ابنها من الحسد والنكد، وأن هذا البلاء المبين، وإنما كان يكفي هذه الجاهلة المسكينة أن تقرأ المعوذتين أو الفاتحة على ولدها وتستريح من هم وعناء السفر والمصاريف) (¬3). ¬

(¬1) مختصر معارج القبول - هشام بن عبد القادر آل عقدة ص (143 - 144) الطبعة الثالثة. (¬2) وقاية الإنسان من الجن والشيطان ص (7) الطبعة العاشرة. (¬3) السنن والمبتدعات ص (297) طبعة دار الريان.

خامسا: حرز أبي دجانة

خامساً: حرز أبي دجانة: يقول الصحابي الجليل أبودجانة - رضي الله عنه - (شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله بينما أنا مضطجع في فراشي إذ سمعت في داري صريراً كصرير الرحى ودوياً كدوي النحل، ولمعاً كلمع البرق فرفعت رأسي فزعاً مرعوباً، فإذا أنا بظل أسود تدلى، يعلو ويطول في صحن داري، فأهويت إليه، فمسست جلده فإذا جلده كجلد القنفذ، فرمى في وجهي مثل شرر النار، فظننت أنه قد أحرقني وأحرق داري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عامر دارك سوء يا أبا دجانة، ورب الكعبة مثلك يؤذي يا أبا دجانة، ثم قال: " ائتوني بداوة وقرطاس (ورقة) " فأتى بهما فناوله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقال: " اكتب أبا الحسن "، قال: وما أكتب؟ قال: " اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذا كتاب من محمد رسول الله رب العالمين إلى مَنْ طرق الباب من العُمار والزوار .... " إلخ. لقد حكم علماء الحديث وأئمة الإسلام على هذا الحديث بأنه (موضوع). قال ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 169): (هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده مقطوع (يعني: منقطعاً) وليس في الصحابة من اسمه موسى أصلاً، وأكثر رجاله مجاهيل لا يعرفون). وكذا نقله ابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 324، 325)، والسيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/ 348)، والفتنى الهندي في تذكرة الموضوعات (212). وقال الصغاني: حرز أبي دجانة: موضوع. وقال الذهبي في السنن (1/ 245): (وحرز أبي دجانة شيء لم يصح ما أدري مَنْ وضعه).

وقال البيهقي: وقد رُوي في حرز أبي دجانة حديث طويل، وهو موضوع لا تحل روايته) (¬1). وإنما ذكرنا حرز أبي دجانة للتحذير منه، وبيان درجته، والذي دفعنا إلى ذلك أننا قرأنا في بعض الكتب التي تتناول علاج المس الشيطاني، ويوصي مؤلف هذا الكتاب باستعماله بخاصة بعد نجاح تجربته!!. قال: (هذه الرسالة (حرز أبي دجانة) تحتوي على خطاب يوضع خلف باب المنزل الذي يرى فيه بعض التخيلات، وقد أفادت التجربة نجاحها مع قراءتها جهراً في المكان بعد آية الكرسي ثلاث ليال متوالية؟!!. وقال أيضاً (ونوجه ذهن المعالج أن يصف رسالة أبي دجانة مع معظم حالات السحر؟! لأنها مكملة للأذكار!! حتى يتكامل البرنامج العلاجي للمسحور والممسوس!! أو مَنْ يجدون في منازلهم أصواتاً غريبة أو تحركات مريبة!!) (¬2). ويلحق بحرز أبي دجانة ما تشتهر بين الناس بالعهود السليمانية وهي عبارة عن أذكار مخترعة وأوراد غريبة ورسومات وأشكال غير واضحة يزعمون أنها تدفع العين والمس والصرع وأنها عهود أخذها سليمان عليه السلام على الجن، فكن - أخي الحبيب - على حذر من هذه الخرافات وابتعد عن الدجل والمشعوذة والجأ إلى كتاب الله فإن فيه الشفاء التام لجميع الأمراض والأسقام إذا توكلت على الملك العلام. ¬

(¬1) راجع مجلة التوحيد ص (37) العدد (6) السنة (23)، والسنن والمبتدعات ص (296). (¬2) انظر كتاب (المنقذ القرآني لإبطال السحر وعلاج المس الشيطاني!! ص (76 - 77) طبعة دار الفضيلة.

الباب السادس هجر التحاكم بالقرآن الكريم

الباب السادس هجر التحاكم بالقرآن الكريم وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: أسباب الحكم بغير ما أنزل الله. الفصل الثاني: وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية. الفصل الثالث: الحكم بغير ما أنزل الله في الميزان. الفصل الرابع: صور من تحكيم الشريعة الإسلامية.

الفصل الأول أسباب الحكم بغير ما أنزل الله

الفصل الأول أسباب الحكم بغير ما أنزل الله وفيه أربعة مباحث: أولاً: الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية. ثانياً: انعدام الإيمان وضعفه. ثالثاً: الجمود الفكري والتعصب المذهبي. رابعاً: عقبة أعداء الإسلام.

لقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أول عروة من الإسلام تنقض هي الحكم بما أنزل الله فقال في حديثه: " لتنقضن عرى الإسلام عروةً عروةً أولهن نقضاً الحكم وآخرهن نقضاً الصلاة " (¬1). ولقد وقع ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هجر الحكم بالشريعة وحل مكانها في معظم البلاد العربية والإسلامية الحكم بالقوانين الوضعية وأقوال الرجال في الدماء والحقوق والأعراض. والناظر إلى واقع المسلمين يجد أن أسباباً كثيرة وراء هذه الظاهرة منها (¬2): 1 - الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية. 2 - انعدام الإيمان وضعفه. 3 - الجمود الفكري والتعصب المذهبي. 4 - عقبة أعداء الإسلام. ¬

(¬1) رواه الحاكم في المستدرك. (¬2) للمزيد من الفائدة انظر الكتب الآتية: 1 - معوقات تطبيق الشريعة للدكتور / عمر بن سليمان الأشقر. 2 - معوقات تطبيق الشريعة للشيخ / مناع القطان. 3 - أسباب الحكم بغير ما أنزل الله للدكتور / صالح السدلان.

أولا: الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية

والآن مع شرح مجمل لهذه الأسباب: أولاً: الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية: الذي يطلع على أحوال العالم الإسلامي يجد (أن أكثر المسلمين اليوم يتوارثون الإسلام توارثاً تقليدياً، وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم؛ لهذا فشا الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية لدى الكثير من أبناء الأمة الإسلامية قيادات وشعوباً، حتى أصبح منهم لا يعرف من دينه إلا اسمه: فلا يعرف أحكامه وعقائده، ولا أخلاقه وآدابه) (¬1). (وإني لأعتقد أننا لم نترك أحكام الشريعة الإسلامية إلا لجهلنا بها، وقعود علمائنا أو عجزهم عن تعريفنا بها، ولو أن كل مسلم عرف واجبه نحو الشريعة لما تأخر عن القيام به، ولتسابقنا في العمل لخدمة الشريعة، وتطبيق أحكامها) (¬2). العوامل التي أدت إلى الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية: 1 - مناهج الدراسة في معظم البلاد الإسلامية بالتعليم العام شملتها موجة التغريب، فانطمست فيها معالم المواد الدينية ولا تشمل خطتها سوى مادة واحدة لا يزيد نصيبها عن ساعة أو ساعتين في الأسبوع وذلك حتى المرحلة الثانوية أما في الجامعة فلا تكاد تجد لها أثراً يذكر إلا في بعض التخصصات الشرعية واللغوية على الرغم من تدريس اللغة الأجنبية والحرص على إتقانها. ¬

(¬1) أسباب الحكم بغير ما أنزل الله ونتائجه لفضيلة الشيخ د. صالح بن غانم السدلان، طبعة دار المسلم. 1415 هـ. (¬2) الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه لعبد القادر عودة طبعة مؤسسة الرسالة، 1401 هـ - 1981 م.

2 - تقصير بعض العلماء وطلبة العلم والدعاة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ارتكبت المظالم، واستحلت المحارم، وأريقت الدماء، وانتهكت الأعراض، وظهر الفساد في الأرض، ونفذت القوانين الوضعية في بلاد الإسلام، وعطلت الشريعة الإسلامية، وطال هذا الأمر بالمسلمين حتى ظن كثير من المسلمين أن ما نحن فيه من مخالفات هو الإسلام الصحيح. 3 - وسائل الإعلام بشتى أشكالها صارت أدوات هدم ووسائل تدمير فهي تعرض ما يفسد الأخلاق وينشر الرذيلة ويخرب العقيدة ويقوض مفهوم الأسرة بنشر الشبهات والشهوات أمام المسلمين (¬1). نماذج من الجهل بأحكام الشريعة: وهي نماذج متعددة تشمل العديد من طوائف المجتمع منها: 1 - ما نراه في كثير من البلاد الإسلامية (¬2) حول القبور والأضرحة يطلبون من أصحابها جلب النفع ودفع الضر ويعتقدون أنهم يكشفون الكربات ويدفعون البليات. 2 - طالب بالمرحلة الثانوية سئل من الخليفة الرابع من الخلفاء الراشدين؟ فأجاب: أنه علي بن أبي بكر؟! وبمن تزوج؟ قال: تزوج من هاجر عليها السلام؟!!. 3 - جامعي يستغرب اسم سورة الحديد؟! وآخر يقرأ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (ألف لام ميم) ثم يكمل السورة، وآخرون من ¬

(¬1) مقومات تطبيق الشريعة الإسلامية لمناع القطان نشر مكتبة وهبة الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م. (¬2) يبلغ زوار قبر السيد البدوي بمصر ما يقارب من مليوني مسلم!!.

ثانيا: انعدام الإيمان وضعفه

خريجي الجامعة يُسْأَلون أين الله؟ فيقولون: في كل مكان!. 4 - (طلب المحامي من القاضي في إحدى البلاد العربية تطبيق الحكم الشرعي في القضية، فوافق القاضي على ذلك، ولكنه طلب من المحامي أن يملي عليه الحكم الشرعي، ليحكم به، لأنه يجهله، فإذا بالمحامي يجيب أنه الآخر لا يعرف الحكم الشرعي في هذه القضية) (¬1). ثانياً: انعدام الإيمان وضعفه: بَيَّنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسئولية كل راعٍ عن رعيته وأنه مسئول عنها يوم القيامة أحفظ ذلك أم ضيع؟ فقال: " ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته: فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته " (¬2). إن تحكيم الشريعة ليس أمراً يخص الحكام والولاة فحسب كما يظن الكثير، بل هو مسئولية كل مسلم ومسلمة أن يطبق أحكام الإسلام على نفسه أولاً، ثم أهل بيته، ثم يدعو الناس إليها ويحثها على الالتزام بها (¬3). ¬

(¬1) سمعتها من فضيلة الشيخ / صفوت الشوادفي - رحمه الله - في إحدى محاضراته. (¬2) متفق عليه. (¬3) قال العلامة الألباني - رحمه الله -: (فعلى المسلمين كافة وبخاصة منهم من يهتم بإعادة الحكم الإسلامي أن يبدأ من حيث بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما نكني عنه بكلمتين خفيفتين: (التصفية والتربية) ... إذن لابد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام كما بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لكن نحن الآن لا نقتصر على التعليم، لأنه دخل الإسلام ما ليس منه وما لا يمت إليه بصلة، بل دخل عليه ما كان سبباً في تهدم الصرح الإسلامي فلذلك كان من الواجب على الدعاة أن يبدؤوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه والشيء الثاني أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفى) مجلة السلفية ص (42) العدد (6) 1422 هـ.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (6) سورة التحريم. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب. ولو طبق كل منا تعاليم الإسلام وأحكامه وآدابه لقامت فينا دولة الإسلام يحكمها القرآن والسنة كما قال أحد الدعاة (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم). (أما أن لا يتجاوز الإيمان الادِّعاء، أو لا يتجاوز النطق بكلمة الإيمان، فإذا فَتَّشْتَ عن مدلوله في نفس مُدَّعِيهِ، لا تجده شيئاً، فمثل هذا الإيمان لا يُحَرِكُ ساكناً، ولا يُنْتِجُ أثراً، ولا يُشْعِرُ صاحبه بحلاوته، وإنما هو إيمان اعتراه فتورٌ أو موتٌ، ويتبع هذا - والعياذ بالله - المرضُ القلبيُّ الذي يجعل المريضَ معرضاً عن حكم الله وحكم رسوله، ويقبل على حكم البشر مع قصوره، وثبوت عجزه، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} (47 - 48) سورة النور. (¬1) ¬

(¬1) أسباب الحكم بغير ما أنزل الله للدكتور صالح السدلان ص (7) بتصرف.

ثالثا: الجمود الفكري والتعصب المذهبي

ثالثاً: الجمود الفكري والتعصب المذهبي: قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - واصفاً فتنة التقليد التي أصابت العالم الإسلامي: (تالله إنها فتنة عَمَّت فأعْمَتْ، وَرَمت القلوبَ فأَصَمَّت، ربا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير، واتُّخِذَ القرآنُ لأجلها مهجوراً، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطوراً، ولما عَمّت بها البلية، وعَظُمَت بسببها الرزية، بحيث لا يعرف الناس سواها، ولا يعدون العلم إلا إياها، فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون، ومُؤْثِره على ما سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد) (¬1). (والذي زاد الطين بلة جمود المتفقه المفتين والمعلمين والواعظين على نصوص كتب متبوعيهم المتأخرين بدون تبصر وإعمال روية ورجوع إلى أصول الشريعة وأقوال السلف، وجهلهم بمقتضى الزمان والعمران، ونفورهم من كل جديد بدون أن يزنوه بميزان الشريعة، ومناوأتهم المجددين بدون إصغاء إلى براهينهم، ومكافحتهم العلوم العقلية والكونية، وتحذير الناس من دراستها، وتحجرهم على غيرهم الاستهداء من الكتاب والسنة لزعمهم أن ذلك كله مخالف للدين، لجهلهم بحقيقة الدين، لأن هذه الشريعة الغراء السمحة تسير مع العلم جنباً إلى جنب، واسعة تسع قواعدها العامة كل جديد من مقتضيات الزمان والعمران، لأنها محض رحمة وسعادة. وأغرب من هذا أن هؤلاء الجامدين من أُسَرَاء التقليد لا يتأثمون من مداهنة الحكام والتجسس لهم، وغشيان ولائمهم التي يتخللها من المنكرات ما تقطع ¬

(¬1) إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 7 - 8).

الشريعة بتحريمه، وتوقيعه المقررات المستمدة من القوانين الوضعية، أو الأوضاع الإدارية، أو الاستحسان الكيفي حرصاً على رواتبهم التي يتقاضونها من خزينة الحكومة، أو تعزيزاً لجاههم ومكانتهم، ويتورعون من الاجتهاد في نازلة نزلت بالمسلمين لأنها غير منصوص عليها بصريح العبارة في كتب المتأخرين من متبوعيهم. فنجم عن تورعهم هذا هجر الشريعة والاستعاضة عنها بالقوانين وتشتت شمل المسلمين ... ، وخُيِّلّ إلى الجاهلين بالشريعة أنها عقبة كؤود في سبيل الرقي والتجدد والسعادة) (¬1). (ومن الثابت تاريخياً أن القوانين الأوربية نقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة وقد طلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه، لأن التعصب المذهبي منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صورها، فضحوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كل بمذهبه، والتعصب له وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحق لهم أن يبكوا عليها حتى تعود) (¬2). (إن أهم الانحرافات والمآخذ والعيوب التي أصابت المذاهب الفقهية في القرون المتأخرة، والتي نأخذها عليها وندعو لإصلاحها هي: 1 - مخالفة النصوص الثابتة من الكتاب والسنة تعصباً للمذهب، وتقديم الرأي المحض أحياناً عليها. ¬

(¬1) عمدة التحقيق للشيخ / محمد سعيد الباني (من 210 - 212) بتصرف. (¬2) الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ص (27).

2 - امتلاؤها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، والاحتجاج بها واستنباط الأحكام منها. 3 - تقديم أقوال العلماء المتأخرين على أقوال الأئمة والمتقدمين. 4 - الانحباس في مذهب واحد، وعدم الاستفادة من علم المذاهب الأخرى، وجهود رجالها وكتبهم تعصباً للمذهب. 5 - خلو كثير من الكتب المذهبية من الأدلة الشرعية، ورغبة الكثيرين عن دراسة الكتاب والسنة إليها. 6 - شيوع التقليد والجمود، وإقفال باب الاجتهاد. 7 - الخوض في المسائل الخيالية، والانشغال بالافتراضات السخيفة. 8 - فتح باب الحيل المحرمة للتخلص من التكاليف الشرعية. 9 - نشر الخلاف والانقسام بين المسلمين، والتسبب في وقوع الفتن والكوارث بينهم. 10 - تدخل الظروف والمصالح السياسية في انتشار بعض المذاهب وانحسار أخرى. 11 - الأخذ بجزء من النص دون الجزء الآخر. 12 - مخالفتهم في الفروع لما قرروه بأنفسهم في الأصول. 13 - الوقوع في أخطاء اجتهادية فاحشة. 14 - التشدد في بعض المسائل مما فيه عنت كبير على الناس. 15 - فساد طريقة التأليف، والتعقيد في الأسلوب.

رابعا: عقبة أعداء الإسلام

16 - مخالفة المقلدين للمذاهب لما هو مذكور في كتبهم أنفسهم) (¬1). فهذه دعوة إلى العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: (أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد) (¬2). وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: (لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا) (¬3). وينطبق كثير مما سبق من حيث التعصب المذموم الذي يؤدي إلى الفرقة والخلاف على حال الكثير من الجماعات الإسلامية على الساحة نسأل الله أن يجمع كلمتهم على كلمة التوحيد. رابعاً: عقبة أعداء الإسلام: ومن الممكن أن نقسم الأعداء التي تقف حاجزاً لمنع تطبيق الشريعة إلى ما يلي: 1 - دعاة على أبواب جهنم. 2 - عقبة الحكام. 3 - عقبة الكفار. والآن مع هذه الأقسام بشيء من التفصيل. ¬

(¬1) بدعة التعصب المذهبي وآثارها الخطيرة في جمود الفكر وانحطاط المسلمين للشيخ / محمد عيد العباسي - حفظه الله - ص (137 - 138) طبعة المكتبة الإسلامية - الطبعة الثانية 1406 هـ - 1986 م. (¬2) انظر صفة الصلاة للألباني - رحمه الله - ص (24 - 34). (¬3) المرجع السابق.

1 - دعاة على أبواب جهنم

1 - دعاة على أبواب جهنم: أناس من بني جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، يعيشون بيننا، يعملون ليلاً ونهاراً للصد عن سبيل الله، ومنع تحكيم القرآن والسنة بين المسلمين، فهم كما أخبر عنهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "دعاة على أبواب جهنم مَنْ أجابهم قذفوه فيها" (¬1). فهم يمثلون طائفة المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (4) سورة المنافقون. استطاع أعداء المسلمين استقطاب مجموعة كبيرة من أبناء المسلمين عن طريق البعثات الخارجية والشهادات العلمية فهم يمثلون الطابور الخامس لهدم الإسلام ونشر الشبهات حوله وذلك من باب سياسة (لن يكسر الشجرة إلا جذع منها) والواقع يشهد بكثير من النماذج التي كان لها أكبر الأثر في تغيير مسار الأمة المسلمة نحو الانحراف عن تطبيق الشريعة (¬2). (وما أرى مثل هؤلاء من ذوي الأبصار المطموسة، والبصائر المعكوسة، إلا مثل الجُعْل يتأذى من رائحة المسك والورد الفَوَّاح، ويحيا بالعُذرة والغائط في المُسْتَرَاح، فسحقاً لأمثال هذه العقول سُحْقاً، ومُحْقاً لهن اللهم مُحْقاً) (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) راجع كتاب عودة الحجاب لمحمد أحمد إسماعيل المجلد الثاني. (¬3) تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن للشيخ / أبي هبة الله إسماعيل الأسعردي الأزهري السلفي ص (56) تحقيق سليم الهلالي طبعة مكتبة الصحابة الطبعة الأولى 1413 هـ.

2 - عقبة الحكام

2 - عقبة الحكام: (أكثر الحكام في ديار المسلمين - إلا مَنْ رحم الله - يرون الإسلام وشريعة الإسلام عقبة في سبيل التطور والتقدم والرقي، وسبيل التقدم عندهم الأخذ بالحضارة الغربية والقوانين الأوربية. عندما سنحت الفرصة لبعضهم خلع الإسلام من جذوره في البلاد التي حكمها، وأبرز الحكام الذين يضرب بهم المثل في هذا مصطفى كمال الذي حكم تركيا باسم (أتاتورك) فإنه عندما استلم مقاليد الحكم، ألغى الخلافة الإسلامية، وطرد خليفة المسلمين من البلاد، ونبذ الشريعة الإسلامية، وألغى منصب شيخ الإسلام، وألغى المحاكم الشرعية، وألغى المدارس الدينية، وحدد عدد المساجد التي يجوز الصلاة فيها، وحَّول مسجد أيا صوفيا إلى متحف، وحَّول مسجد الفاتح إلى مستودع. وألغى الكتابة بالحروف العربية والأرقام العربية وحَّرم الكتابة بها، وألزم الكتابة بالحروف اللاتينية، ومنع الأذان بالعربية، وألزم الشعب التركي بلبس القبعة الأوربية وخلع الطربوش التركي من فوق رأسه. حتى القرآن ترجمه وفرض قراءته دون الأصل العربي) (¬1). ترى كيف فعل حاكم ظالم بشعب مسلم كانت بلاده هي مصدر هداية ومنبع نور وعاصمة الخلافة الإسلامية فصارت كما ترى في أسوأ حال. 3 - عقبة الكفار: (أعظم عقبة تحول دون تطبيق الشريعة الإسلامية هي جهود أعداء ¬

(¬1) معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية للأشقر ص (49 - 50).

الإسلام، وهي جهود هائلة بذلها أعداء الإسلام لإقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم في ديار المسلمين وإحلال القوانين الوضعية محلها، وقد كان واضحاً لقادة الصليبيين والشيوعيين واليهود ومفكريهم أهمية زلزلة عقيدة الإسلام في نفوس المسلمين، وأهمية إزاحة التعاليم الإسلامية والقوانين الإسلامية من مناهج التعليم والمحاكم التي تقضي بين المسلمين في ديار الإسلام) (¬1). ومن الطرق التي اتبعوها إثارة الشبهات حول الشريعة الإسلامية أنها جامدة وقاصرة ولا تواكب العصر الحاضر وأن لا علاقة له بالحكم وغيرها (¬2). ¬

(¬1) المرجع السابق ص (23). (¬2) انظر هذه الشبهات والرد عليها في الكتب الآتية: 1 - تحكيم الشريعة ودعاوي الخصوم د / صلاح الصاوي. 2 - الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه عبد القادر عودة (42 - 52). 3 - أسباب الحكم بغير ما أنزل الله د / صالح السدلان ص (21 - 52).

الفصل الثاني وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية

الفصل الثاني وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية

وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية

إن الناظر في القرآن الكريم يجد أن الآيات التي تدل على وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية مستفيضة وبأساليب متعددة ولكنا نقتصر على هذه الآيات من باب الدلالة على هذا الأمر فقط. الدليل الأول: قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (49 - 50) سورة المائدة. قال سماحة الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: (وإن القارئ لهذه الآية والمتدبر لها يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله أُكَّدَ بمؤكدات ثمانية: الأول: الأمر به في قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. الثاني: أن لا يكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال، وذلك في قوله: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ}. الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، بقوله سبحانه {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}.

الرابع: أن التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم، موجب للعقاب الأليم، قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}. الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله، فإن الشكور من عباد الله قليل، يقول تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}. السادس: وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه حكم الجاهلية، يقول تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}. السابع: تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها، يقول عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا}. الثامن: أن مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها، وأتمها وأعدلها، وأن الواجب الانقياد له، مع الرضا والتسليم، يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. (¬1) قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (ينكر تعالى على مَنْ خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام ¬

(¬1) وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه للعلامة ابن باز ص (12 - 14) الطبعة السادسة 1418 هـ.

الدليل الثاني

أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير) (¬1). الدليل الثاني: قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء. قال العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: (وقد نفي الله - سبحانه وتعالى - الإيمان عن مَنْ لم يُحَكِمّوُا النبيَّ فيما شجر بينهم نفياً مؤكداً بتكرار أداة النفي والقسم قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}. ولم يكتف - تعالى وتقدس - منهم بمجرد التحكيم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يُضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}. والحرج: الضيق بل لابد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب. ولم يكتف - تعالى - أيضاً هنا بهذين الأمرين حتى يضموا إليها التسليم، وهو كمال الانقياد لحكمه - صلى الله عليه وسلم - بحيث يخلون ههنا من أي تعلق بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم تسليم، ولهذا أكد ذلك المصدر المؤكد، وهو ¬

(¬1) المرجع السابق ص (384).

الدليل الثالث

قوله جل شأنه: {تَسْلِيمًا} المبين أنه لا يكتفي ههنا بالتسليم، بل لابد من التسليم المطلق) (¬1). الدليل الثالث: قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ...} (105) سورة النساء. قال الإمام الطبري - رحمه الله -: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَابَ} يعني القرآن {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} لتقضي بين الناس فتفصل بينهم {بَيْنَ النَّاسِ}. (¬2) ويقول ابن عطية - رحمه الله -: ({بِمَا أَرَاكَ اللهُ} معناه على قوانين الشرع؛ إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة) (¬3). الدليل الرابع: قال الله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (62) سورة الأنعام. قال العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: ({ثُمَّ} بعد الموت والحياة البرزخية وما فيها من الخير والشر {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} أي: الذي ¬

(¬1) تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ص (5 - 6). (¬2) تفسير الطبري (9/ 175) تحقيق شاكر. (¬3) المحرر الوجيز (4/ 245) نقلاً عن الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه للدكتور / عبد الرحمن المحمود ص (61 - 62) طبعة دار طيبة الطبعة الأولى 1420 هـ.

الدليل الخامس

تولاهم بحكمه القدري، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير، ثم تولاهم بأمره ونهيه، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء، ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات، ويعاقبهم على الشرور والسيئات، ولهذا قال: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} وحده لا شريك له {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} لكمال علمه وحفظه لأعمالهم، بما أثبته في اللوح المحفوظ، ثم أثبتته ملائكته في الكتاب الذي بأيديهم، فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وهو القاهر فوق عباده، وقد اعتنى بهم كل الاعتناء في جميع أحوالهم، وهو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي - فأين للمشركين العدول عن من هذا وصفه ونعته، إلى عبادة مَنْ ليس له من الأمر شيء، ولا عنده مثقال ذرة من النفع ولا له قدرة وإرادة؟!. أما والله لو علموا حلم الله عليهم وعفوه ورحمته بهم، وهم يبارزونه بالشرك والكفران، ويتجرؤون على عظمته بالإفك والبهتان، وهو يعافيهم ويرزقهم، لانجذبت دواعيهم إلى معرفته، وذهلت عقولهم في حبه، ولمقتوا أنفسهم أشد المقت، حيث انقادوا لداعي الشيطان، الموجب للخزي والخسران، ولكنهم قوم لا يعقلون) (¬1). الدليل الخامس: قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (26) سورة ص. ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص (260) تحقيق د / عبد الرحمن معلا اللويحق. طبعة مؤسسة الرسالة

الدليل السادس

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله: (هذه وصية من الله - عز وجل - لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. روى ابن أبي حاتم عن إبراهيم أبي زرعة - وكان قد قرأ الكتاب - أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت الكتاب الأول، وقرأت القرآن وفقهت، فقلت: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قلت: يا أمير المرمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟! إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. وقال عكرمة: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} هذا من المقدم والمؤخر، لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا. وقال السدي: لهو عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب. وهذا القول أمشى على ظاهر الآية. والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب) (¬1). الدليل السادس: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء. ¬

(¬1) المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير ص (1172 - 1173) طبعة دار السلام بالرياض بإشراف الشيخ / صفي الرحمن المباركفوري.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: ({أَطِيعُوا اللَّهَ} أي: اتبعوا كتابه {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أي: خذوا سنته {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} أي: فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله. كما تقدم في الحديث الصحيح: " إنما الطاعة في المعروف " (¬1). وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذا أمر من الله - عز وجل - بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر، وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خير: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: أحسن عاقبة ومآلاً، كما قال السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء. وهو قريب) (¬2). ¬

(¬1) انظر فتح الباري (13/ 130). (¬2) المصباح المنير ص (303).

ثمرات تطبيق الشريعة الإسلامية

ثانياً: ثمرات تطبيق الشريعة الإسلامية: من الثمرات المباركة لتطبيق الشريعة الإسلامية ما يلي: 1 - (خير وسيلة للقضاء على الجريمة، والإجرام، والتجربة خير برهان على ذلك. 2 - ومتى قضى على الجريمة أو اختنقت فإن الأمر يستقر، وتتوفر في البلاد روح السكينة والطمأنينة. 3 - وحينما يقل الإجرام والجرائم تتوفر أيد عاملة فتتجه إلى الإنتاج بدل أن كانت تتجه إلى الإفساد والعدوان. 4 - وبذلك يتوفر الرخاء وتتسع أرزاق البلاد. وفي هذا تصديق واقعي لما يفهم من أن إقامة الحد خير للبلاد وللعباد من أن يمطروا أربعين صباحاً (¬1). 5 - وكذلك يصير المجتمع مستقراً هادئاً، ولا قلاقل فيه ولا اضطرابات. 6 - تسعد الأمة - حكامها ومحكوموها - باستجابتها لأمر الله تعالى ورسوله وفي ذلك حياة طيبة لها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (24) سورة الأنفال. ¬

(¬1) ومصداق ذلك في كتاب الله الكريم: قوله تعالى: - {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} (16) سورة الجن. - {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (96) سورة الأعراف. - {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} (66) سورة المائدة.

7 - هذا فضلاً من أن إقامة الحدود تعتبر نوعاً من العبادة لله تعالى - بامتثال أمره والاحتكام إلى شرعه - وهذه العبادة هي الغاية السامية التي من أجلها خلق الله الجن. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات. 8 - وقد يكون من نافلة القول أو من المقرر الذي لا منازعة فيه أن في إقامة الحدود: أ - احترام لحق الحياة، وحق الدماء. ب - صيانة للأنساب، وطهارة للأعراض. جـ - حفظ للأموال وللممتلكات من العدوان عليها. د - وقاية للعقل من الخلل، وللأخلاق من الفساد. هـ - تقديس للدين ولما أمر الله أن يقدس ويصان) (¬1). تجربة واقعية في العصر الحاضر: قال الأستاذ / عبد القادر عودة - رحمه الله -: (فأما التجربة الكلية: فقد بدئ بها في (مملكة الحجاز) حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ الأمن والنظام، ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلاً في الحجاز، بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم، وشناعة الإجرام. ¬

(¬1) أثر تطبيق الحدود في المجتمع للأستاذ / الغزالي خليل عيد ص (195 - 196) من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام بالرياض 1396 هـ أشرفت على طباعته ونشره: إدارة الثقافة والنشر بالجامعة عام 1404 هـ.

فقد كان المسافر فيه كالمقيم لا يأمن على ماله ولا على نفسه في بدو أو حضر في ليل أو نهار. وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لتأمين سلامتهم ورد الاعتداء عنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة ولا القوات الحجازية بقادرة على إعادة الأمن وكبح جماح العصابات ومنعها من سلب الحجاج أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم، وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور حتى طبقت الشريعة الإسلامية. فانقلب الحال بين يوم وليلة، وساد الأمن بلاد الحجاز وانتشرت الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين، وانتهى عهد الخطف، والنهب وقطع الطريق، وأصبحت الجرائم القديمة أخباراً تروى، فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الإجرام عن الحجاز أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام، فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة ليبلغ حتى يجد كيسه كما فقد منه، معروضاً للتعرف عليه، وهذا يترك عصاه في الطريق فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة لرفع العصا من مكانها، وهذا يفقد أمتعته وييأس من ردها ولا يبلغ عنها، ولكنه يجد الشرطة يبحثون عنه ليردوا إليه ما فقد منه، وبعد أن كان الأمن يعجز عن حفظه قوات عسكرية عظيمة من الداخل، وقوات عسكرية كبيرة من الخارج أصبح الأمن محفوظاً بعدد يسير من الشرطة المحليين) (¬1). ¬

(¬1) التشريع الجنائي في الإسلام (1/ 712 - 713). نقلاً عن الأستاذ / الغزالي خليل عيد في بحثه أثر تطبيق الحدود في المجتمع (194).

قال فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في رسالة الجهاد 1411 هـ: (أُشهِدُ اللهَ تعالى على ما أقول وأشهدكم أيضاً أنني لا أعلم أن في الأرض اليوم من يطبق من شريعة الله ما يطبقه هذا الوطن أعني المملكة العربية السعودية وهذا بلا شك من نعمة الله علينا فلنكن محافظين على ما نحن عليه اليوم لأنني لا أدّعي الكمال وأننا في القمة بالنسبة لتطبيق شريعة الله. لا شك أننا نخل بكثير منها ولكننا خير - والحمد لله - مما نعلمه من البلاد الأخرى). (¬1) انظر - رحمنا الله وإياك - إلى الآثار المباركة لتطبيق الشريعة في المملكة العربية السعودية بالإضافة إلى نعمة الأمن والأمان ترى رغد العيش والخيرات الكثيرة، والنعم الوافرة. ¬

(¬1) انظر كتاب وجوب طاعة السلطان في غير معصية الرحمن بدليل السنة والقرآن ص (54) إعداد محمد بن ناصر العريني، الطبعة الثانية.

الفصل الثالث الحكم بغير ما أنزل الله في الميزان

الفصل الثالث الحكم بغير ما أنزل الله في الميزان وفيه أربعة مباحث: أولاً: خطورة التكفير. ثانياً: أقوال علماء الإسلام في تحكيم القوانين. ثالثاً: أحوال الحاكم بغير ما أنزل الله. رابعاً: الآثار السيئة المترتبة على الحكم بغير ما أنزل الله.

خطورة التكفير

أولا: خطورة التكفير ونحن إذ نتكلم عن خطورة التكفير فإننا لا ندافع بذلك عن أنظمة فاسدة أو قوانين جائرة، ولكننا نخاف على إخواننا أن يذهب بهم الحماس المفرط إلى مخالفة مذهب أهل السنة والجماعة فيقعوا فيما وقعت فيه الخوارج المارقة؛ فقد كانت مسألة الحكم والحاكمية سبب فسادهم وضلالهم، لذا فإننا نذكر أنفسنا وإخواننا فإن الذكرى تنفع المؤمنين. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قال الرجل لأخيه: (يا كافر) فقد باء بها أحدهما " (¬1). وعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك " (¬2). قال الشيخ الدكتور / غانم بن صالح السدلان - حفظه الله -: (إن مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من مهمات المسائل العلمية الواقعية، كُتِبَ فيها رُكام من الكتيبات والرسائل، أغلبها الأعم انتصار لتصورات سابقة، أو استجابة لحماسة طاغية، وإن مسألة خطيرة كهذه، دعت الحاجة الملحة للكتابة فيها يجب أن تبحث بإخلاص ¬

(¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه البخاري.

وتجرد وموضوعية على منهاج سلف الأمة في فهم نصوص القرآن والسنة) (¬1). قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -: (والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه، لأن في ذلك محذورين عظيمين: أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم والمحكوم عليه في الوصف الذي نبذه به. الثاني: الوقوع فيما نبذ به أخاه إن كان سالماً منه ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كَفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما» وفيه عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك حار عليه» وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين: أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق. الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي موانعه) (¬2). ¬

(¬1) الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير ص (5) للدكتور / خالد العنبري طبعة مكتبة الفرقان - الإمارات - الطبعة الرابعة 1421 هـ. (¬2) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (87 - 92) لابن عثيمين - رحمه الله - طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الطبعة الثانية 1407 هـ. وانظر الكتب الآتية: 1 - ظاهر التبديع والتفسيق والتكفير وضوابطها للشيخ / صالح الفوزان، نشر دار النجاح. 2 - مظاهر الأخطاء في التكفير أسباب ذلك وعلاجه للشيخ / صالح السدلان، نشر دار بلنسية. 3 - الحكم بغير ما أنزل الله أنواعه وأحكامه. للشيخ الدكتور: عبد الرحمن بن صالح المحمود.

أقوال علماء الإسلام في تحكيم القوانين

أقوال علماء الإسلام في تحكيم القوانين (¬1): هذا بعض ما قاله علماء الإسلام المعتبرين على مدار القرون تسليم كف بكف وكابر عن كابر .. في تأويل آيات الحكم بغير ما أنزل الله، من الصدر الصالح وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى التابعين كعكرمة وغيرهما ... من أئمة التفسير والأثر إلى علماء الملة المعاصرين الذين شهدوا على العصر، وشهد لهم بالعلم والصلاح - رحم الله الجميع -. 1 - روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، قال: مَنْ جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومَنْ أقر به، ولم يحكم به فهو ظالم فاسق (¬2). 2 - قال القرطبي: وقال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله، أي معتقداً ومستحلاً له) (¬3). وكذلك قال السدي وإبراهيم النخعي (¬4). 3 - وقال مجاهد في هذه الآيات الثلاث: من ترك الحكم بما أنزل الله رداً لكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق (¬5). ¬

(¬1) راجع مجلة السلفية ص (45 - 47) العدد (6) لعام 1422 هـ. (¬2) صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (179). وأخرجه ابن جرير في تفسيره: (10/ 357) وابن المنذر وغيرهم). (¬3) الجامع للأحكام القرآن (6/ 190). (¬4) انظر تفسير الطبري (10/ 356 - 357). (¬5) مختصر تفسير الخازن (1/ 310).

4 - وقال عكرمة: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به فقد كفر، ومَنْ أقر به، ولم يحكم به فهو ظالم فاسق (¬1). قال الخازن وهو قول ابن عباس - أيضاً -. 5 - وهو اختيار الزجاج (¬2). 6 - وقال شيخ المفسرين الطبري: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب مَنْ قال: (نزلت هذه الآيات في كُفَّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات فيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى. فإن قال قائل: فإن الله - تعالى ذكره - قد عَمَّ بالخبر بذلك عن جميع مَنْ لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلتها خاصاً؟ قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرين، وكذلك القول في كل مَنْ لم يحكم بما أنزل جاحداً به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس (¬3). 7 - وقال أبوالسعود: أي مَنْ لم يحكم بذلك مستهيناً منكراً. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. (¬4). 8 - وقال النسفي: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} مستهيناً به لاستهانتهم به (¬5). ¬

(¬1) مختصر تفسير الخازن (1/ 310). (¬2) مختصر تفسير الزجاج (1، 310). (¬3) تفسير الطبري (10/ 358). (¬4) تفسير أبو السعود (2/ 64). (¬5) تفسير النسفي (10/ 285).

9 - وقال أبو بكر الجصاص: وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لا يخلو من أن يكون مراده الشرك والجحود، أو كفر النعمة من غير جحود، إن كان المراد جحود حكم الله، أو الحكم بغيره مع الإخبار بأن حكم الله فهذا كفر يخرج عن الملة، وفاعله مرتد وإن كان قبل ذلك مسلماً. وعلى هذا تأوله مَنْ قال: إنها أنزلت في بني إسرائيل وجرت فينا يعنون: (أن من جحد حكم الله، أو حكم بغير حكم الله ثم قال: إن هذا حكم الله فهو كافر، كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا). وإن كان المراد به كفر النعمة، فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود، فلا يكون فاعله خارجاً من الملة. والأظهر هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله). 10 - وقال شارح الطحاوية: (وهنا أمر يجب التفطن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً إما مجازياً وإما كفراً أصغر وذلك حسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مُخَيَّر فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعَلِمَه في هذه الوقعة، وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاصٍ، ويُسَمَّى كفراً مجازياً، أو كفراً أصغر) (¬1). ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية (323، 324).

11 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله هو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى، كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر، فإن كثيراً من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً) (¬1). 12 - وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً، وقال ههنا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا) (¬2). 17 - (*) وقال علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي - رحمه الله -: (كفر الحاكم بغير ما أنزل الله بقيد الاستهانة والجحود له، هو الذي نحاه كثيرون ¬

(¬1) منهاج السنة النبوية (5/ 130). (¬2) تفسير القرآن العظيم (2/ 337). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع (17) بعد (12)

وآثروه عن عكرمة وابن عباس) (¬1). 18 - وقال صاحب المنار - رحمه الله -: (وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم، وتركوا - بالحكم بها - بعض ما أنزل الله عليهم، فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته، فإنه يصدق عليهم ما قاله الله في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله: - فمَنْ أعرض عن الحكم بحد السرقة، أو القذف، أو الزنى، غير مذعن له لاستقباحه إياه، وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعاً. - ومَنْ لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط. - فإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفاراً أخذاً بظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، ويستلزم الحكم بتكفير القاضي الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين، فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعافهم، فإنها وضعت بإذنهم، وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها .. أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، بل لم يقل به أحد (قط)!!! (¬2). ¬

(¬1) محاسن التأويل (6/ 1998). (¬2) تفسير المنار (6/ 405 - 406).

19 - وقال العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: (واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق، كل واحد منها أطلق في الشرع مراد به المعصية، ... {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معارضة للرسل، وإبطالاً لأحكام الله، فظلمه وفسقه وكفره كلها مخرج عن الملة. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معتقداً أنه مرتكب حراماً، فاعل قبيحاً، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج من الملة) (¬1). 20 - وقال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ - رحمه الله تعالى -: (.. وجاءت السنة بأن الطاعة في المعروف، وهو ما أمر الله به ورضيه من الواجبات والمستحبات. وإنما يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم، وكذلك سوالف البادية وعاداتهم الجارية، فمَنْ استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها فهو كافر، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر، لأنهم فهموا أن تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، ولكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة ..) أ. هـ (¬2). ¬

(¬1) أضواء البيان (2/ 104). (¬2) عن كتاب منهاج التأسيس والتقديس، للعلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، (70 - 71).

21 - وقال المفتي العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة العربية السعودية الأسبق - رحمه الله -: (وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله من تحكيم شريعته، والتقيد بها، ونبذ ما خالفها من قوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي من حكم بها أو حاكم إليها معتقداً صحة ذلك وجوازه فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملة) أ. هـ (¬1). 22 - وقال العلامة الشيخ السعدي - رحمه الله -: (فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفراً ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه، وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد .. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم وفسق دون فسق، فهو ظلم أكبر عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له) (¬2). 23 - وقال العلامة الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: (فقد اطلعت على الجواب المفيد القيم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وفقه الله المنشور في صحيفة (المسلمون) (نقلاً عن المجلة السلفية) الذي أجاب به فضيلته على من سأله عن (تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل) فألفيتها كلمة قيمة أصاب فيها الحق وسلك فيها سبيل المؤمنين وأوضح - وفقه الله - ¬

(¬1) فتاواه (1/ 80). (¬2) تيسير الكريم الرحمن (2/ 396 - 397).

أحوال الحاكم بغير ما أنزل الله

أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن غيره من سلف الأمة ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وهو الصواب. وقد أوضح - وفقه الله - أن الكفر كفران أكبر وأصغر فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنى أو الربا أو غيرها من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفراً أكبر وظلم ظلماً أكبر وفسق فسقاً أكبر ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفراً أصغر وظلمه ظلماً أصغر وهكذا فسقه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "، أراد بهذا - صلى الله عليه وسلم - الفسق الأصغر والكفر الأصغر وأطلق العبارة تنفيراً من هذا العمل المنكر. أحوال الحاكم بغير ما أنزل الله: قال العلامة ابن باز - رحمه الله -: (من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أمور: 1 - مَنْ قال: أنا أحكم بهذا لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية، فهو كافر كفراً أكبر. 2 - ومَنْ قال: أنا أحكم بهذا لأنه مثل الشريعة الإسلامية فالحكم بهذا جائز، وبالشريعة الإسلامية جائز، فهو كافر كفراً أكبر. 3 - ومن قال أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل ولكن

الآثار السيئة المترتبة على الحكم بغير ما أنزل الله

الحكم بغير ما أنزل الله جائز فهو كافر كفراً أكبر. 4 - ومن قال: أنا أحكم بهذا وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز، ويقول الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل أو يفعل هذا الأمر أو يفعل هذا الأمر صادر عن أحكامه فهو كافر كفراً أصغر ولا يخرج من الملة ويعتبر من أكبر الكبائر) (¬1). سئلت اللجنة الدائمة للبحوث في المملكة العربية السعودية السؤال التالي: س: مَنْ لم يحكم بما أنزل الله هو مسلم أم كَفَرَ كُفْراً أكبر وتقبل منه أعماله؟ الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ... وبعد: ج - قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لكن إن استحل ذلك واعتقده جائز فهو كفر أكبر وظلم أكبر، وفسق أكبر يخرج من الملة، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم ويعتبر كافراً كفراً أصغر، وفاسقاً فسقاً أصغر لا يخرجه من الملة، كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة. أ. هـ. (¬2) الآثار السيئة المترتبة على الحكم بغير ما أنزل الله: قد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم لتسعد به البشرية من خلال تطبيق أحكامه وتنفيذ ما جاء فيه، ولما أعرض الناس عنه - إلا مَنْ رحم الله - وحكموا ¬

(¬1) التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال (72 - 73). (¬2) راجع مجلة السلفية ص (44) العدد (6) لعام 1422 هـ.

أقوال الرجال في الأموال والأعراض والدماء نزل بهم عقاب الله من سخط وغضب وها هي بعض الآثار المترتبة على الحكم بغير ما أنزل الله في واقع الناس: 1 - فساد عقيدة التوحيد بين المسلمين، وانتشار مظاهر الشرك في بلاد الإسلام حيث يُذْبَحُ لغير الله ويُنْذَر ويُطْلَبُ جلبُ النفع ودفع الضر من الأولياء والصالحين ... 2 - انتشار المذاهب العلمانية والكفرية بين أبناء المسلمين والانتساب لها والعمل في صفوفها. 3 - ظهور البدع في الدين والأقوال والأعمال المحدثة في العبادات التي قلما يسلم منها مسلم إلا من اتبع الدليل من الكتاب والسنة الصحيحة بفهم السلف الصالح. 4 - السخرية والاستهزاء بشريعة الإسلام ومَنْ يدعو إليها ويطبقها في واقع الحياة، بل وصل الحال في بعض الأحيان إلى السخرية من الله - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً - ومن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن القرآن الكريم. 5 - صارت الغلبة والمكانة لأهل الكفر والنفاق وصارت بلاد الإسلام كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " قالوا: فمن قلة يومئذ؟ قال: " لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا وكراهية الموت " (¬1). وهكذا عندما نحيت الشريعة الإسلامية عن واقع الحياة نُكَّسَتْ معها راية الجهاد في سبيل الله فأصاب المسلمين الذل والصغار، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما ¬

(¬1) (حديث صحيح) رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (956).

جُعِلَ رزقي تحت ظل رمحي، وجُعِلَ الذلُّ والصغارُ على مَنْ خالف أمري ". 6 - تعطيل تطبيق الحدود الشرعية كعقوبة ربانية لبعض الذنوب والمعاصي مما أدى إلى الكثير من العواقب الوخيمة ومنها: أ - اجتراء الناس على محارم الله ومواقعتهم لحمى الله، والله يغار أن تنتهك محارمه أو يعتدى على حماه. فترى الحوادث والجرائم تكثر بشكل مذهل وبنسبة عظيمة متزايدة عاماً بعد عام، وهذا ما يلمس واضحاً من واقع أرقام الإحصائيات الرسمية للجرائم والجنايات في الأقطار والبلاد المبتلاة بتلك الأنظمة والقوانين سواءً من البلاد غير الإسلامية أو بلاد المسلمين التي تطبق القوانين الوضعية. ب - انتشار الخوف وظاهرة القلق والاكتئاب مما ترتب عليه انتشار العيادات النفسية، وارتفاع نسبة الانتحار، والإفراط في شرب الخمور والمسكرات والتدخين. جـ - انعدام الروح الجماعية في الأسرة والمجتمع وشدة بروز الروح الفردية والأنانية. د - انقسام المجتمع إلى طبقات اجتماعية متفاوتة بدرجة كبيرة جداً في نظام المعيشة، وارتفاع معدل الفقر والبطالة بين الناس. 7 - إهمال الشعائر الإسلامية وعدم الحرص على إقامتها بين الناس مثل: الصلاة عمود الدين فترى أعداداً لا حصر لها من المسلمين لا يدخلون المساجد ولا يعرفون شيئاً من أحكام الصلاة، وكذلك الزكاة فقد عطلت ولم تقم الحكومات على جمعها وتوزيعها على مصارفها الشرعية، حتى لم تعنف تاركها ومانعها، فضلاً عن قتاله كما فعل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مع مانعي الزكاة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

وقال: (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه). 8 - عدم الاستقرار، والتفرق والاختلاف، والتنازع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وإذا خرج ولاة الأمور عن الحكم بغير ما أنزل الله، وقع بأسهم بينهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم " وهذا من أعظم أسباب تغير الدول كما جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه، فإن الله يقول في كتابه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (40 - 41) سورة الحج. فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم) (¬1). ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (35/ 388).

الفصل الرابع صور من تحكيم الشريعة الإسلامية

الفصل الرابع صور من تحكيم الشريعة الإسلامية

النموذج الأول

هذه بعض النماذج المشرفة، والصور النيرة لتحكيم شرع الله - عز وجل - في الدماء والأموال والأعراض، ونبذ ما خالفه من حكم الجاهلية: النموذج الأول: عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - أنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أنشدك بالله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه - نعم، فاقض بيننا، وائذن لي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قل، فقال: إن ابني كان عسيفاً (¬1) على هذا، فزنى بامرأته، وإني أُخْبرْتُ: أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني: أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم: رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلده مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت. (¬2) ¬

(¬1) العسيف: الأجير. (¬2) متفق عليه.

النموذج الثاني

ما يستفاد من الحديث: 1 - خطر العمال والخدم في البيوت بلا رقيب، مما ينتج عن ذلك الأخطاء الشرعية كما حدث في هذه القصة، والواقع يشهد لذلك بكثير من الأحداث والقصص. 2 - رد الأحكام التي تخالف شرع الله - عز وجل -، وعدم قبولها، حتى ولو اصطلح الخصمان على الرضى بها كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الرجل ورد عليه الوليدة والغنم (¬1). 3 - القضاء بحكم الله من الكتاب والسنة في فاحشة الزنا: المحصن: الرجم، وغير المحصن: جلد مائة وتغريب عام. وتنفيذ ما يترتب على ذلك الحكم الشرعي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت). النموذج الثاني: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا له: أن امرأة منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تجدون في التوراة، في شأن الرجم؟ " قالوا: نفضحهم ويُجْلدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم , فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده، ¬

(¬1) ترى في كثير من الجلسات العرفية بين الناس أن هدفها هو رضى الطرفين فتجدهم يحكمون في مثل قضايا الزنا والقذف .. وغيرها بميلغ من المال يعطى للخصم دون النظر إلى حكم الله - عز وجل - في ذلك.

النموذج الثالث

فإذا فيها آية الرجم، قال: صدقت يا محمد، فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجما. قال: فرأيت الرجل: يجناً (¬1) على المرأة يقيها الحجارة) (¬2). ويستفاد من الحديث: - أن العلماء لهم دور كبير في تطبيق أحكام الله - عز وجل - أو تعطيل الشريعة، ولإخفاء أحكام الله وعدم إظهارها كما فعل علماء اليهود، ومن شابههم من علماء المسلمين. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (15) سورة المائدة. النموذج الثالث: عن عائشة - رضي الله عنها - (أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليها إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكلمه أسامة. فقال: " أتشفع في حد من حدود الله؟ " ثم قام فاختطب، فقال: " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف: أقاموا عليه الحد، وايم الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ") (¬3). ما يستفاد من الحديث: 1 - (في هذا الحديث: دليل على امتناع الشفاعة في الحد، بعد بلوغه السلطان. ¬

(¬1) يَجْنَأ: أي يميل. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه.

2 - تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى، وبيان أنه من أسباب هلاك الأمم السابقة) (¬1). ¬

(¬1) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد ص (632) طبعة دار الجيل تحقيق / أحمد شاكر الطبعة الثانية 1416 هـ.

الخاتمة

الخاتمة وفي نهاية الكتاب لعلنا نكون بذلك قد وضحنا بشيء من التفصيل معنى هجر القرآن وأنواعه وما يشتمل عليه من مباحث وأحكام، ونأمل أن نكون قد وفقنا إلى تحقيق ما يلي: 1 - العودة إلى القرآن الكريم مصدر العز والشرف. 2 - بيان ظاهرة هجر القرآن في واقع الناس (الأسباب والعلاج). 3 - أن يجعل المسلم له ورداً يومياً للتلاوة. 4 - أن يستمع وينصت المسلم إلى القرآن الكريم رجاء الرحمة. 5 - أن يتدبر المسلم القرآن ويفقه مراد الله - عز وجل - ويقف عند عجائبه. 6 - أن يحول المسلم القرآن الكريم إلى واقع حياة متكامل بأوامره يأتمر، وبنواهيه وزواجره ينزجر. 7 - أن يتداوى ويستشفي المسلم بالقرآن الكريم ويجعله الدواء لأمراض قلبه وبدنه. 8 - ألا يتحاكم المسلم إلا إلى الكتاب والسنة ويترك القوانين والشرائع الوضعية. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو زلل أو نسيان فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وحسبنا أنا أردنا الخير والنصح للأمة. وسبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. كتبه أبو أنس محمد بن فتحي آل عبد العزيز أبو عبد الرحمن محمود بن محمد الملاح

§1/1