فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن

الأنصاري، زكريا

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق الحمدُ للهِ ربّ العالمين، الذي كشف لعباده المتقين، عن أسرار كتابه المبين، وأطلعهم على دقائقِ كنوزه، وروائعِ آياتهِ، والصَّلاةُ والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، الذي خَصَّه اللَّهُ بالمعجزةِ الخالدة " معجزةِ القرآن " وعلى آله وأصحابه الأبرار الأطهار، والتابعين لهم بإِحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإِن كتاب " فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن " لشيخ الإِسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، من المخطوطات النادرة، والكتب النفيسة، التي يحتاج إليها طلبة قسم الدراسات العليا فرع " الكتاب والسنة " وقد بذل المؤلف - رحمه الله - قُصارى جهده، لتوضيح ما يلتبس من آيات القرآن الكريم، ليبرز لنا تلك الدرر النفيسة، والكنوز الثمينة، التي احتواها هذا الكتاب المجيد، وليكشف لنا عن دقائق أسرار القرآن، في تعبيره الرفيع، وبيانه المعجز.

وقد عثرت في " المكتبة المحمودية " بالمدينة المنوَّرة، على نسخةٍ مخطوطة، لهذا السِّفر القيم، كما رأيت في مكتبة " جامعة أمٍ القرى بمكة المكرمة، نسخةً مخطوطة أخرى لهذا الكتاب النفيس، ولكنها قد طُمست منها بعض العبارات، وقد اعتمدت عليها في تحقيق هذه المخطوطة، وقد اتضح لي نقص بعض الصفحات فيها، فاستعنت بالنسخة المصوَّرة من إسبانيا، التي اهديت إلى جامعة أم القرى تحت رقم 1385 من الجامعة الِإسلامية، أطلعني عليها بعض الإِخوة المسئولين في قسم المخطوطات، كما اطلعت على نسخةٍ أخرى في مكتبة " الحرم المكيّ " الشريف، وقد ساعدتني واستفدت منها للمقارنة بين النسخ الثلاث، عند غموض بعض العبارات، أو سقوطها، وأما ما طُبع من هذا الكتاب " فتح الرحمن " على هامش التفسير المسمًى " السراج المنير " للخطيب الشربيني فلم يكن كاملاً، وإِنما هو لبعض سورٍ كريمة، من أول سورة البقرة إلى نهاية سورة التوبة، وليس فيه شي " من التحقيق العلمي، الذي ينشده الباحث، ويسعى إليه المحقّق. وقد عملتُ عند تحقيق هذه المخطوطة، على ترقيم الآيات فيها، في كل سورةٍ من السور التي تناولتها، ليسهل على القارىء فهمُها واستيعابها، كما نبًهتُ إلى مكان الآية ورقمها في الآيات التي استشهد بها المؤلف، ووضعت بعض التعليقات الهامَّة في الحاشية، لا سيما إذا أتى المؤلف برأيٍ مرجوحٍ، أو قولٍ غريب في تفسير الآيات الكريمة، يخالف ما ذهب إليه الأئمة المحققون من أهل التفسير. وإنني أحمد الله عزَّ وجل أن يسر لي الطريق، وذلَّل الصعاب، لِإتمام هذا العمل المفيد، وأشكر " دار القرآن الكريم " لصاحبها الأخ الفاضل الأستاذ محمد بسام الأسطواني على جهودها في إخراج هذا السِّفر القيم، بهذا الرونق القشيب، كما أشكر جميع الِإخوة الذين ساعدوني في تحقيق هذه المخطوطة، ولا يفوتني أن أخصّ بالشكر الأخ الفاضل الوجيه الشيخ " عبد الله أبو الحسن " الذي ساهم بطباعة هذا الكتاب على نفقته

الخاصة، فطبع منه خمسة آلاف نسخة وقدَّمها هدية لطلاب العلم، وأساله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لخدمة دينه، إنه سميع مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الخامس عشر من شهر ربيع الأول 1402 هـ. وكتبه خادم الكتاب والسُّنة محمد علي الصابوني

بسم الله الرحمن الرحيم مُقدّمَة المؤلفِ الحمد لله الذي نور قلوبَ العارفين بكتابِهِ العظيم، وأطلعهم على خبايا الزوايا بالبرهان القويم، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ الأنام، وعلى آلِه وصحبِهِ البَرَرة الكرام. وبعد: فهذا مختصرٌ في ذكرِ آياتِ القرآنِ المتشابهاتِ، المختلفةِ بزيادةٍ، أو تقديمٍ، أو إبدال حرفٍ بآخر، أو غيرِ ذلك مع بيان سبب تكراره، وفي ذكر أنْموذجٍ من أسئلة القرآن العزيز وأجوبتها، صريحاً أو إشارةً، جمعتُه من كلام العلماء المحققين، ما فَتح اللَّهُ به من فيضِ فضلِهِ المتين، وسميته بـ: " فتحُ الرحمن بكشف ما يَلْتبسُ في القرآن ". واللهَ أسالُ أن ينفع به، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل.

سورة الفاتحة

سُورَة الفَاتِحة 1 - قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم) أي أبتدىءُ. وتقديرُ العامِل مؤخراً كما صنعتُ أولى من تقديمه ليفيد الاختصاص، والاهتمام بشأن المقدَّم. وإِنَّما قُدِّم في قوله " اقرأ باسم ربك " للاهتمام بالقرآن، لأن ذلك أوَّلُ سورةٍ نزلت. 2 - قوله تعالى: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كرره لأن الرحمة هي الِإنعامُ على المحتاج، وذكرَ في الآية الأولى المُنعِمَ دونَ المُنْعَمِ عليهم، وأعادها مع ذكرهم بقوله (رَبِّ العَاَلمينَ) الخ. فإِن قلتَ: الرحمنُ أبلغ من الرحيم فكيف قدَّمه؟ وعادةُ العرب في صفات المدح الترقّي من " الأدنى " إلى " الأعلى " كقولهم: فلانٌ عالمٌ نِحرير. . لأن ذكر الأعلى أوّلًا، ثم الأدنى، لم يتجدد بذكر الأدنى فائدة، بخلاف عكسه؟!

قلت: إن كانا بمعنى واحدٍ كندمان ونديم، كما قال الجوهري وغيره فلا إشكال، أو بأنَّ " الرحمن " أبلغ كما عليه الأكثر، فإِنما قدَّمه لأنه اسمٌ خاصٌ بالله تعالى كلفظ " الله ". 3 - قوله تعالى: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كرَّر (وَإِيَّاكَ) لأنه لو حذفه في الثاني لفاتت فائدة التقديم، وهي قطع الاشتراك بين العاملَيْن، إذ لو قال: " إِيَّاكَ نعبدُ ونستعينُ " لم يظهر أن التقدير إِيَّاكَ نعبدُ وإِيَّاكَ نستعين. . أو إِيَّاكَ نعبدُ ونستعينك!! فإِن قلتَ: إذا كان " نستعينك " مفيداً لقطع الاشتراك بين العامِلَيْن، فلِمَ عَدَلَ عنه مع أنه أخصرُ، إِلى " وإِيَّاكَ نستعين "؟ قلتُ: عَدَلَ إليه ليفيد الحصر بين العامليْن مع أنه أخصر. فإِن قلتَ: فلمَ قَدَّمَ العبادة على الاستعانة، مع أن الاستعانة مقدمة، لأن العبد يستعين اللَّهَ على العبادة ليُعينه عليها؟

قلتُ: الوَاوُ لا تقتضي الترتيبَ، أو المرادُ بالعبادةِ التوحيدُ وهو مقدَّم على الاستعانة على سائر العبادات. 4 - قوله تعالى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) . كرَّرَ " الصراط " لأنه المكان المهيَّأُ للسّلوك، فذكر في الأول المكان دون السَّالك، فأعاده مع ذكره بقوله (صراطَ الّذينَ أنعَمْتَ عليهم) الخ. . المصرَّح فيه بما يخرج " اليهود " وهم المغضوب عليهم، و " النصارى " وهم الضالُّون. فإِن قلتَ: المراد " بالصراط المستقيم " الِإسلامُ، أو القرآن، أو طريق الجنة كما قيل. . والمؤمنون مهتدون إلى ذلك، فما معنى طلب الهداية له، إذ فيه تحصيلُ الحاصل؟ قلتُ: معناه ثبِّتْنا وأَدِمْنا عليه مع الاستقامة كما في قوله (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا باللَّهِ) . فإِن قلتَ: ما فائدةُ دخول " لا " في قوله (وَلَا الضَّالين) مع أن الكلام بدونها كافٍ في المقصود؟ قلتُ: فائدتُه توكيدُ النفي المفاد من " غير "

سورة البقرة

سورة البقرة 1 - قوله تعالى: (الم) . كُرِّرَ في أوائل ستِّ سور. وزاد في " الأعراف " صاداً لقوله بعده (فَلَا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ منه. .) الآية. وفي " الرعد " راءً لقوله بعده (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّموَاتِ. .) الآية. واعلم أن حرف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر اللهُ بعلمه، وهي سِرُّ القرآن. وفائدة ذكرها طلبُ الِإيمان بها. وقيل: هي معلوماتُ المعاني، وعليه: فقيل: كل حرف منها أول اسم من أسماء الله.

فالألف من " الله " واللام من " اللطيف " والميم من " المجيد " والصادُ من " صادق " والرَّاءُ من " رءوف ". وقيل: هي أقسامٌ أقسم الله بها لشرفها. وقيل: غيرُ ذلك وأَنَّ تسميتَها حروفاً مجازٌ، وإِنما هي أسماءٌ مسمياتها الحروف المبسوطة. . وعليه فقيل: مُعْربة، وقيل: مبنيَّةٌ، وقيل: لا، ولا، وقد بيَّنت ذلك في غير هذا الكتاب. 2 - قوله تعالى: (لَارَيْبَ فِيهِ) أي لا شكَّ فيه. فإِن قلتَ: كيف نفى الرَّيْب، وكم ضالً ارتاب فيه؟ قلتُ: المراد أنه ليس محلًا للرَّيب، أو لا ريب فيه عند الله، ورسوله، والمؤمنين. أو ذلك نفيٌ بمعنى النَّهي، أي لا ترتابوا فيه لأنه من عند الله، ونظيره قوله تعالى (إِنَّ السَّاعةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فيها. .) .

فإِن قلتَ: كيف قال: (هُدَىً لِلمُتَّقِينَ) وفيه تحصيلُ الحاصل، لأن المتقين مهتدون؟ قلتُ: إنما صاروا متَّقينَ باستفادتهم الهُدَى من الكتاب، أو المراد بالهدى الثباتُ والدوام عليه. أو أراد الفريقين واقتصر على المتقين، لأنهم الفائزون بمنافع الكتاب، وللِإيجاز كما في قوله تعالى (سرابيلَ تقيكم الحرَّ. .) . 3 - قوله تعالى: (هُمْ يُوقِنُونَ) أي يعلمون. واليقينُ: العلمُ بعد أن لم يكن، ولهذا لا يُقال لعلم اللَّهِ يقينٌ. 4 - قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ) . فإِن قلتَ: لمَ ذَكرَ ذلك مع قوله قبلُ " هُدَىً للمُتَّقِينَ "؟ قلتُ: لأنه ذكر هنا مع " هُدىً " فاعِله، بخلاف ثَمَّ.

5 - قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) فإِن قلتَ: لِمَ حُذِفَ الواوُ هنا، وأُثْبتت في " يسَ "؟ قلتُ: لأن ما هنا جملةٌ هي خبر عن اسم " إنَّ " وما هناك جملةٌ عُطفت على أخرى. فإِن قلتَ: ما فائدةُ بعثةِ الرسل بعد قوله (سَوَاءٌ عليهم) الآية؟ قلتُ: لئلا يكون للناس حجة، أو لأنَّ الآية نزلتْ في قومِ " لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية " فبعثةُ الرسل انتفع بهَا آخرون فآمنوا. 6 - قوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) إن قلتَ: كيف قاله، مع أن المخادعة إنما تُتصوَّر في حقّ من تخفى عليه الأمور، ليتمَّ الخداعُ من حيث لا يعلم، ولايخفى على الله شيءٌ؟ قلت: المراد يخادعون رسول الله، إذْ معاملةُ اللَّهِ

معاملة رسوله، كعكسه لقوله تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ "، وقوله " مَنْ يُطِعِ الرَّسولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ "، أو سمَّى نفاقَهم خداعاً لشَبهِهِ بفعل المخادع. 7 - قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ) . إن قلتَ: كيف خصَّ الفساد بالمنافقين، مع أن غيرهم مفسدٌ؟ قلتُ: المرادُ بالفسادِ الفسادُ بالنفاق، وهم كانوا مختصَين به. 8 - قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ) . إن قلت: الاستهزاءُ من باب العَبَث والسخرية، وذلك قبيحٌ على الله تعالى ومنزَّه عنه؟ قلتُ: سمَّى جزاء الاستهزاء استهزاءً مشاكلةً كقوله " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا " والمعنى أن الله يجازيهم جزاء استهزائهم. 9 - قوله تعالى: (أو كصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) .

إِن قلتَ: ما فائدة قوله " من السَّمَاء " مع أن الصيِّبَ لا يكون إِلَّا منها؟ قلتُ: فائدتُه أنه عرَّف السماءَ، وأضاف الصيِّب إليها، ليدلَّ على أنه من جميع آفاقِ السَّماء، لا من أُفُقٍ واحد، إِذْ كُلّ - أفُق يُسمَّى سماءً، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى: " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأَرْضِ ". 10 - قوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابهُمْ فِي آذَانِهِمْ. .) . عبَّر بالأصابع عن أناملها، والمرادُ بعضها لأنهم إنما جعلوا بعض أناملها. 11 - قوله تعالى: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إنه لا أنداد له. فإِن قلتَ: المشركون لم يكونوا عالمين بذلك، بل كانوا يعتقدون أنَّ له أنداداً؟ قلتُ: المرادُ وأنتم تعلمون أن الأنداد لا تقدر على

شيءٍ ممَّا مرَّ قبل ذلك، أو وأنتم تعلمون أنه ليس في التوراة والِإنجيل جوازُ اتخاذ الأنداد. 12 - قوله تعالى: (فَأْتُوا بِسورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) إن قلتَ: لِمَ ذُكرت " مِنْ " هنا، وحُذفت في سورتَيْ " يونس " و " هود "؟ قلتُ: لأن " مِنْ " هنا للتَّبعيضِ، أو للتَّبْيينِ، أو زائدة على قول الأخفش، بتقدير رجوع الضمير في " مثلِه " إلى " مَا " في قوله: " مِمَّا نَزَّلْنَا " وهو الأوجه. والمعنى على الأخير: فأتوا بسورةٍ مماثلةٍ للقرآن، في البلاغة وحُسْنِ النَّظْم، وعلى الأوَّلَيْن: فأتوا بسورةٍ مما هو على صفته في البلاغة، وحُسن النَّظم، وحينئذٍ فكأنه منه، فحُسن الِإتيان بـ " مِنْ " الدالة على ما ذكر. بخلاف ذاكَ، فإِنه قد وصف السور بالافتراء، صريحاً في " هود "، وإِشارةً في " يونس " فلم يَحْسُنْ الإتيان بـ " مِنْ " الدالَّة على ما ذُكر، لأنها حينئذٍ تُشعر بأنَّ ما بَعْدها من جنس ما قَبْلَها، فيلزم أن يكون قرآناً وهو محالٌ. ويجوز جعلُ " مِنْ " للابتداء، بتقدير رجوع الضمير في " مثله " إلى عبدنا أي " محمد " والمعنى: فأتوا

بسورةٍ مبتدأةٍ من شخصٍ مثل محمد - صلى الله عليه وسلم -. 13 - قوله تعالى: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) . أي من غيره، وهو بهذا المعنى في جميع ماجاء منه في القرآن. وقد يستعمل بمعنى " قبل " كقولهم: المدينة دون مكة، ولا أقومُ من مجلسي دون أن تَجيء، ولا أفارفك دون أن تُعطيني حقَي. 14 - قوله تعالى: (فَاتَّقوا النَّارَ) . إن قلتَ: كيف عرَّف النَّار هنا، ونكَّرها في التحريم؟ قلت: لأن الخطاب في هذه مع المنافقين، وهم في أسفل النَّار المحيطة بهم، فعُرِّفت بلام الاستغراق، أو العهد الذهني، وفي تلك مع المؤمنين، والذي يُعذَّب من عصاتهم بالنَّار، يكون في جزءٍ من أعلاها، فناسب تنكيرها لتقليلها.

وقيل: لأن تلك الآية نزلت قبل هذه بمكة، فلم تكن النار التي وقودُها النَّاس والحجارة معروفةً فنكَّرها ثَمَّ، وهذه نزلت بالمدينة فعُرِّفَتْ، إشارةً إلى ما عرفوه أولاً. ورُدَّ هذا بأن " آية التحريم " نزلت بالمدينة بعد الآية هنا. 15 - قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. .) . إن قلتَ: كيف شرَطَ في دخول المؤمنِ الجنَّة العملَ الصالح، مع أن مجرَّد الإِيمان كافٍ في دخولها! ؟ قلتُ: المرادُ بالعمل الصالح: الإِخلاصُ في الإِيمان، أو الثبات عليه إلى الموت. (1) أو المرادُ بدخول الجنَّة دخولها مع الفائزين. 16 - قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِل فِي الَأرْضِ خَلِيفَةً. .) . أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً.

أو " آدم " بمعنى خليفة عني بأمري. أوخليفةً عن ملائكتي أو عن الجنّ. 17 - قوله تعالى: (اسْجُدُوا لآدَمَ) أي تكرمةً لا عبادة. 18 - قوله تعالى: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكلاَ. .) . إن قلتَ: لم قال هنا " وَكُلاَ " بالواو، وفي الأعراف " فَكُلاَ " بالفاء؟ قلتُ: لأنَّ " اسْكُنْ " هنا معناه استقرَّ، لكون " آدم " و " حواء " كانا في الجنة، والأكلُ يُجامع الاستقرار غالباً، فلهذا عطف بالواو الدَّالة على الجمع.

والمعنى: اجمعا بين الاستقرار والأكل. وفي الأعراف: معناه أدخل لكونِهما كانا خارجين عنها، والأكل لا يكون مع الدخول عادة بل عَقِبه، فلهذا عطف بالفاء الدالة على التعقيب. . وقد بسطت الكلام على ذلك في الفتاوى. 19 - قوله تعالى: (اهْبِطوا مِنْهَا. .) . كرَّر الأمر بالهبوط للتوكيد. أو لأن الهبوط الأول من الجنة، والثاني من السماء. أو لأن الأول إلى دار الدنيا، يتعادون فيها ولا يخلَّدون، والثاني إليها للتكليف، فمن اهتدى نجا، ومن ضلَّ هَلك. 20 - قوله تعالى: (فَمَنْ تَبعَ هدَايَ. .) . وفي " طه ": (فَمَنِ اتّبَعَ هدَايَ. .) . إن قلت: لِمَ عبَّر هنا بـ " تَبعَ " وَثَمَّ ب " اتَّبَع " مع أنهما بمعنى؟ قلت: جرياً على الأصل هنا، وموافقة لقوله " يومئذٍ

يتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ " ثَمَّ. ولأن القضيَّة لما بُنيت من أول الأمر على التأكيد بقوله تعالى: " وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ " ناسبَ اختصاصها بالزيادة المفيدة للتأكيد. 21 - قوله تعالى: (وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ. .) . إن قلتَ: لا تَغَاير بينهما، فكيف عطف أحدهما على الآخر؟ قلتُ: بل هما متغايران لفظاً كما في قوله تعالى: " أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ". أو لفظاً ومعنى، لأن المراد بلبسهم الحقَّ بالباطل، كتابتُهم في التوراة ما ليس فيها، وبكتمانهم الحقَّ قولُهم: لا نجد في التوراة صفة محمد. 22 - قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) .

إن قلتَ: ما فائدةُ ذكرِ الثاني، مع أنَّ ما قبله يُغني عنه؟ قلتُ: لا يُغني عنه، لأنَّ المراد بالأول: أنَّهم ملاقوا ثواب ربهم، على الصبر والصلاة. وبالثاني: أنّهم موقنون بالبعتْ، وبحصول الثواب على ما ذُكر. 23 - قوله تعالى: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ. .) . فإِن قلتَ: ما الحكمةُ في تقديم الشَّفاعة هنا، وعكسُه فيما يأتي؟ قلتُ: للِإشارة هنا إلى مَنْ ميلُه إلى حبِّ نفسه أشد منه إلى حبِّ المال، وَثَمَّ إلى مَنْ هو بعكس ذلك. 24 - قوله تعالى: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكمْ. .) . فإِن قلتَ: ما الحكمةُ في ترك العاطف هنا، وذكرِه في سورة إبراهيم؟

قلتُ: لأن ما هنا من كلام الله تعالى، فوقع تفسيراً لما قبله. وما هناك من كلام موسى وكان مأموراً بتعداد المِحَن في قوله: (وذَكِّرْهُمْ بأَيِّام اللهِ) فعدِّد المِحَن عليهم، فناسب ذكر العاطف. 25 - قوله تعالى: (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) . إن قلتَ: ما الحكمةُ في ذكر " كانوا " هنا وفي الأعراف، وفي حذفها في آل عمران؟ قلتُ: لأن ما في السورتين، إخبارٌ عن قومٍ ماتوا وانقرضوا، فناسب ذكرها، وما فى " آل عمران " مَتل ضربه تعالى لأعمالهم بقوله " مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ " إلى آخره. 26 - قوله تعالى: (وَإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا. .) .

فإن قلتَ: ما الحكمةُ في العطف بالفاء هنا، وفي الأعراف بالواو؟ قلتُ: لأنه عبَّر هنا بالدخول، وهو سريعُ الانقضاء، فلا يناسبه مجامعة الأكلِ له، وإنما يناسبه تعقيبه له، فعطف بالفاء. وعَبَّر بالأعراف بالسكون، أي الاستقرار وهو ممتدٌّ يجامعه الأكلُ، فعطف بالواو. 27 - قوله تعالى: (وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً. .) . إن قلتَ: لمَ قدَّمه على قوله " وَقُولُوا حِطَّةٌ " وعَكس في الأعراف؟ قلتُ: لأنه هنا وقع بياناً لكيفية الدخول المذكور قبله، بقوله: (وإذْ قُلْنَا ادْخلُوا هذهِ القَرْيةَ. .) بخلافه ثَمَ. 28 - قوله تعالى: (وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ)

إن قلتَ: لمَ ذكرَ هنا بالواو، وفي الأعراف بدونها؟ قلتُ: لأنَّ اتصالَه هنا أشدُّ، لِإسناد القول فيه إلى الله تعالى في قوله " وَإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا ". بخلافه ثَمَّ، فالأليقُ به حذفُ الواو ليكون استئنافاً. 29 - قوله تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. .) . إن قلتَ: هم لم يُبدِّلوا غير الذي قيل لهم، وإنما بدَّلوه نفسه، لأنهم قيل لهم قولوا " حِطَّةٌ " فقالوا: حنطة. قلتُ: بل بدَّلوا غير الذي قيل لهمِ، لأن معناه: فبدَّل الذين ظلموا قولًا قيل لهم، فقالوا قولاً غير الذي قيل لهم. وزاد في الأعراف " منهم " موافقةً لقوله قبله " وَمِنْ قَوْمِ موسى " ولقوله بعده " مِنْهمُ الصَّالِحونَ وَمِنْهمْ دُوْنَ ذَلِكَ ". 30 - قوله تعالى: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ

ظَلَمُوا. .) . عبَّر بدله في الأعراف بقوله: (فَأَرْسَلْنَا) لأنَ لفظ " الرسول " و " الرِّسالة " كثُر ثَمَّ، فناسب التعبير بأرسلنا. 31 - قوله تعالى: (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً. .) . عبَّر بدَلَه في الأعراف بقوله: (فَانْبجَسَتْ) والأول أبلغُ لأنه انصبابُ الماء بكثرة، والانبجاسُ: ظهورُ الماء، فناسب ذكر " الانفجار " هنا الجمعُ قبله بين الأكل والشرب، الذي هو أبلغ من الاقتصار على الأكل. 32 - قوله تعالى: (وَلَا تَعْثَوْا في الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) . إن قلتَ: العثُوُّ: الفسادُ، فيصير المعنى: ولا تفسدوا في الأرض مفسدين. قلتُ: لا محذور فيه، غايتُه أن " مُفْسِدينَ " حالٌ من فاعل " تَعْثَوْا " فهي حالٌ مؤكدة كما في قوله: " ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ " أو حالٌ مؤسِّسَة إذ " العُثُوُّ " لكونه التَّمادي في الفساد، أخصُّ من الفساد. فالمعنى - كما قال الزمخشري - لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم. 33 - قوله تعالى: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) . إن قلتَ: كيف قالوا: " على طَعامِ

واحدٍ " وطعامُهم كان طعاميْن: " المَنَّ " و " السَّلوى "؟ قلتُ: المرادُ بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدَّل، أو بالطَّعاميْن أنهما ضربٌ واحدٌ، لأنهما من طعام أهل التلذُّذ والتَّرف، أو أنهما كانا يؤكلان مختلطيْنِ. 34 - قوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَق) . عَرَّف الحقَّ هنا، ونكَّره في " آل عمران " و " النساء "!! لأنَّ ما هنا لكونه وقع أولاً إشارةً إلى " الحقِّ " الذي أذن الله أن يُقتل النَّفسُ به، وهو قوله: " وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ الَّلهُ إلاَّ بالحقِّ " فكان التعريف أولى، وهناك أُريد به " بغير حقٍّ " في معتقدهم ودينهم، فكان بالتنكير أولى. فإن قلتَ: قتلُ النبِّيينَ لا يكون إلّا بغير الحقِّ، فما فائد " ذلك؟

قلتُ: فائدتُه التصريحُ بصفةِ فعلهم القبيح، لأنه أبلغُ في الشناعة. فإن قلتَ: لمَ مكَّنَ الكافرين من قتلِ الأنبياءِ؟ قلتُ: كرامةً لهم، وزيادةً في منازلهم، كمن يُقْتلُ في الجهادِ من المؤمنين. 35 - قوله تعالى: (وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ. .) فإن قلتَ: لمَ قدَّم النَّصارى على الصَّابئين هنا، وعكَسَ في المائدة والحجِّ؟ قلتُ: لأن النصارى مقدَّمون على الصَّابئِين في الرتبة، لأنهم أهلُ كتابٍ، فقُدِّموا في " البقرة " لكونها أوَّلاً. والصَّابئون مقدَّمون على النَّصارى في الزمن، فقُدّموا في " الحّجِ "، ورُوعي في " المائدة " المعنيان، فقُدّموا في اللفظ وأُخِّروا في المعنى، إذِ التقديرُ:

والصابئون كذلك كما في قول الشاعر: فمنْ يَكُ أمْسَى في المدينةِ رَحْلُه فإنّي وَقَيارٌ بهَا لَغَريبُ إذِ التقديرُ: فإني لغريبٌ بها وقيارٌ كذلك. 36 - قوله تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) . فإن قلتَ: كيف أُمروا بذلك مع أنه ليس في وسعهم؟ قلتُ: هذا أمرُ إيجادٍ لا أمُر إيجابٍ، كقوله " كنْ فيكونُ ". 37 - قوله تعالى: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) . إن قلتَ: " بَين " تقتضي شيئين فأكثر، فكيف دخلت على " ذلك " وهو مفرد؟ قلتُ: " ذَلِكَ " يُشارُ به إلى المفرد، والمثنَّى، والمجموع، ومنه قولُه تعالى: " قُلْ بفضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمتِهِ فَبِذلك فَلْيفرحوا "

وقولُه: " وإنْ تَصْبروا وَتَتَّقوا فَإِنّ ذَلِكَ من عَزْمِ الأُمورِ " وقولُه: " زُيِّن للناسِ حبّ الشهوات من النساء والبنين. . . " ثم قال " ذلك متاعُ الحياةِ الدنيا ". فالمعنى: عَوَانٌ بين الفارض والبكر. 38 - قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ. .) . فإن قلتَ: ما فائدةُ ذكرِ اليدِ، مع أنَّ الكتابةَ لا تكون إِلَّا بها؟ قلتُ: فائدتُه تحقيقُ مباشرتهم ما حرَّفوه بأنفسهم، زيادةً في تقبيح فعلهم. 39 - قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسنَا النارُ إلَّا أَياماً مَعْدُودَةً) . إن قلتَ: لمَ قال هنا " معدودة " وفي آل عمران " معدود ات "؟

قلتُ: إشارة إلى الجمع بين الأصل والفرعِ، إذِ الأصلُ في الجمع بالألف والتَّاء إذا كان واحده مذكَّراَ، أن يُقتصر في الوصف على تأنيثه مفرداً كقوله تعالى " فيها سُرر مَرْفوعةٌ " وقد يأتي " سُرُرٌ مرفوعاتٌ " على الجمع، فهو فرع عن الأول، فذكر في " البقرة " على الأصل، لكونها أول، وفي " آل عمران " على الفرع. 40 - قوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلّاَ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) . فإن قلت: التولّي والإِعراضُ واحدٌ، فلمَ جُمع بينهُما؟ قلتُ: لا محذور فيه لأن قوله " وَأَنتمْ مُعْرضُونَ " حال من فاعل توليتم، فهي حالٌ مؤكَدة كما في قوله تعالى " ثمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرينَ ". أو مؤسسة إذِ المعنى: ثم وليتم عن الوفاء بالعهد، وأنتم معرضون عن النظر والفكر في عاقبة ذلك. 41 - قوله تعالى: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) .

فإن قلتَ: لمَ قالَ هنا " لَنْ " وفي الجمعة " لا "؟ قلتُ: لأنَّ " لَنْ " أبلُغ في النفي منْ " لا "، حتى قيل: إنَّها لتأبيد النفي، ودعواهم في البقرة بالغةٌ قاطعة، وهي كونُ الجنَّةِ لهم بصفة الخلوص، فناسب ذكْرُ " لَنْ " فيها. ودعواهم في " الجمعة " قاصرةٌ مردودة، وهي زعمهم أنهم أولياء الله، فناسبَ ذكرُ " لا " فيها. 42 - قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. .) . فإن قلتَ: لمَ خُصُّوا بالذّكر، مع دخولهم في الناس في قوله تعالى: " ولتجدنَّهم أحرصَ النَّاسِ على حَيَاةٍ "؟ قلتُ: لشدَّة حرصهم على الحياة، لِإنكارهم البعث. 43 - قوله تعالى: (بَلْ أَكْثَرُهُم لَا يُؤْمِنُونَ) . إن قلتَ: لمَ قال هنا " لا يؤمنون " وفي غيره " لا

يعقلون "، " لا يعلمون "؟ قلتُ: لَأنَّ الآية هنا نزلت في كفارٍ نقضَ بعضهم العهد، وجحد بعضهم الحقَّ، ولم يجتمع هذان الأمران في غير هذه السورة. 44 - قوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الملَكَيْن) أي من السِّحر، فهو معطوفٌ على السِّحر قبله، وسوَّغ عليه تغايُرهما لفظاً، والمَلَكان أنزلهما الله تعالى لتعليم السِّحر، ابتلاءً منه للناس. فإِن قلتُ: هذا يدلّ على جواز تعليم السحر، فلا يكون حراماً؟ قلتُ: الحرامُ تعليمُه ليُعمل به، لا ليُجتنب فإِنه جائزٌ، كما لو سُئل إنسانٌ عن الزِّنا، لزمه بيانه للسائل ليعرفه فيجتنبه. 45 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ. . . إلى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) .

إِن قلتَ: كيف أثبتَ لهم العلم أولًا مؤكداً بلام القَسَم، ونفاه عنهم آخراً؟ قلتُ: المثبتُ لهم علمهم بأنَّ من اختار السِّحر، ما له في الآخرة من نصيب، والمنفيُّ عنهم علمهم بحقيقة ما يصيرون إِليه فيها. أو المثبتُ لهم العلمُ مطلقاً، والمنفيُّ عنهم العقل، لأنه أصل العلم فإِذا انتفى انتفى. 46 - قوله تعالى: (لَمَتُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ) . أي من السِّحر، وهو خبرٌ لمثوبة. فإِن قلتَ: " خيرٌ " أفعلُ تفضيل، ولا خير في السِّحر؟ قلتُ: ليس " خيرٌ " هنا أفعل تفضيل، بل هو لبيان أنَّ المثوبة فاضلة كما في قوله تعالى " أَفَمَنْ يُلْقى في النَّار خيرٌ " كما يُقال: الرجوع إِلى الحقِّ خيرٌ من التَّمادي

في الباطل. أو هو أفعل تفضيل، وخاطبهم اللهُ على اعتقادهم أن تعلّم السِّحر خيرٌ، نظراً منهم إِلى حصول مقصودهم الدنيوي به. 47 - قوله تعالى: (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. .) . ذِكْرُ " مِنْ عندِ أنفسِهمْ " تأكيدٌ، إِذِ الحَسَد لا يكون إِلَّا من قِبل النَّفس. 48 - قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى. .) . قال ذلك هنا، وقال في آل عمران " قُلْ إِنَّ الهُدَى هُدَى اللَّهِ ". لأنَّ معنى الهُدَى هنا " القِبْلةُ "، لأنَّ الآية نزلت في تحويلها، وتقديره: قل إن قبلة الله هي الكعبةُ. ومعناه ثَمَّ " الدَّينُ " لقوله تعالى قَبلُ " ولا تُؤْمنوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ " وقوله تعالى " إن الدين عند الله الِإسلام ". 49 - قوله تعالى: (وَلَئِنِ أتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي

جَاءَكَ مِنَ العِلمِ. .) . إن قلتَ: ما الحكمة في ذكر " الَّذي " هنا، وذكرِ " ما " في قوله بعدُ: " مِنْ بعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ " وفي الرعد " بعدما جاءك من العلم "؟ قلتُ: المرادُ بالعلم في الآية الأولى " العلمُ الكاملُ " وهو العلمُ باللهِ وصفاتِه، وبأَنَّ الهدى هدى الله، فكان الأنسب ذكرُ " الذي " لكونه في التعريف أبلغُ من " ما ". والمراد بالعلم في الثانية والثالثة " العلمُ بنوعٍ " وهو في الثانية العلمُ بأن قِبلةَ الله هي الكعبةُ، وفي الثانية الحكم العربي، فكان الأنسب ذكرُ " ما ". ولقلةِ النوعِ في الثانية، بالنسبة إِليه في الثالثة، زيد قبلَ " ما " في الثانية " مِنْ " الدالةِ على التَّبعيض. 50 - قوله تعالى: (يا بني إِسرائيل اذكروا نعمتي. . . إِلى: شيئاً) . تكرَّر مع نظيرهِ قبلُ،

مبالغةً في النُّصْح. 51 - قوله تعالى: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِين وَالْعَاكِفِينَ. .) قاله هنا بلفظ " والعَاكِفينَ " وفي الحج بلفظ " والقَائِمينَ " والمرادُ منها المقيمون، وغايَرَ بينهما لفظاً، جرياً على عادة العرب من تفنُّنهم في الكلام. 52 - قوله تعالى: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمناً. .) . فإِن قلتَ: لم نكَّر البلد هنا وعرَّفه في إِبراهيم؟ قلتُ: لأن الدعوة هنا، كانت قبل جعل المكان بلداً دائم الأمنِ في الأول، وبلداً آمناً في الثاني. 53 - قوله تعالى: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولَاَ مِنْهُمْ) .

ذكره هنا وفي " الجمعة " بترك الأنفس إيجازاً، وذكرها في " آل عمران " في قوله: (إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهمْ) لأن الله تعالى منَّ على المؤمنين فيها، فجعله من أنفسهم ليكون موجب الجنة أظهر. ونظيرُه (لقدْ جَاءكمْ رَسولٌ منْ أَنْفُسِكُمْ) لمَّا وصفه بقوله (عرْيزٌ عليهِ ما عَنِتّمْ) الآية. جعله من أنفسهم، ليكون موجب الِإجابة والِإيمان به أظهر. 54 - قوله تعالى: (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) . إِن قلتَ: إِنَّ الموت ليس في قدرة الِإنسان حتَّى يُنهى عنه؟ قلتُ: النهيُ في الحقيقة، إِنما هوعن عدم إسلامهم حال موتهم، كقولك: لا تُصلِّ إِلَّا وأنتَ خاشعٌ، إِذِ النهيُ فيه إِنما هو عن ترك الخشوع حال صلاته، لا عن الصلاة. والنكتةُ في التعبير بذلك، إظهار أن موتهم لا على الِإسلام، موتٌ لا خير فيه، وأن الصلاة التي لا خشوع فيها كـ " لا صلاة "! 55 - قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا باللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِليْنا. .) .

إِن قلتَ: لمَ قال هنا " قُولُوا " و " إِلَيْنَا " وفي آل عمران " قُلْ " و " عَلَيْنَا "؟ قلتُ: لأن " إِلى " للانتهاء، وهو لا يختصُّ بجهة، والكتبُ منتهيةٌ إِلى المؤمنين بعد نزولها على الأنبياء، والخطابُ هنا للمؤمنين لقوله: (قولُوا آمَنَّا بالله) و " على " للاستعلاء وهو مختص بالأنبياء، وأفضلهم نبيُّنا وهو المخاطب ثَمَّ بقوله (قُلْ آمنا بالله) فكان الأنسب هنا وثَمَّ ما ذُكر. وكُرِّر " ومَا أنزلَ " لاختلاف المنزَّل إلينا، والمنزَّل على إبراهيم وما عُطف عليه. 56 - قوله تعالى: (وَمَا أوْتِيَ النَّبِيُّونَ. .) . ذكْرُ " مَا أوْليَ " هنا، وحذفُه في " آل عمران " اختصارٌ، كما هو الأنسب بالآخر. أو لأن الخطاب هنا عامٌّ، وثَمَّ خاصٌّ كما مرَّ فكان الأنسب ذكره في الأول،

وحذفُه في الثاني. فإِن قلتَ: لم قال هنا " وَمَا أوْتِيَ موسَى "، ولم يقل " وَمَا أُنْزِلَ إِلى موسى " كما قال قبل " وَمَا أً نْزِل إِلَى إِبْرَاهِيمَ "؟ قلتُ: للاحتراز عن كثرة التكرار. فإِن قلتَ: لمَ كرَّر " وَمَا أُوْتِيَ " هنا، وحذفه في آل عمران؟. قلتُ: إِنَّما حذفه ثَمَّ للاغتناء عنه بقوله قبله " لَمَا آتَيتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وحكْمَةٍ ". 57 - قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ. .) . فإِن قلتَ: إِن أُريد بـ " ما آمنتُمْ بِهِ " اللَّهُ تعالى، فاللَّهُ لا مِثْل له، أو دين الِإسلام فكذلك؟ قلتُ: القصدُ بالآية إنما هو التعجيزُ كما في قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مثلِهِ) أو كلمة " مثْلِ " زائدة للتوكيد كما في قوله " جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بمثْلِها " أو الباء زائدة كما في قوله " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ " و " مَا " مصدريَّةٌ والمعنى بمثل إيمان منَ آمنتم به وهو اللَّهُ، أو دينُ الِإسلام.

58 - قوله تعالى: (تِلْكَ أمَّة قَدْ خَلَتْ. .) ذكَرها مع أَنَّ مضمونَها معلومٌ لِكل مميِّز، للتنبيه على عِظَم العصيان واجتنابه، كما أنَّ قوله " لكُمْ دينكُم وليَ دين " ذُكر مع أنه معلومٌ، للتنبيه على أن الكفر ممَّا يعود بسوء العاقبة عليهم، وكرَّرها مبالغة في النصح، أو لأن " الأمَّة " في الأولى للأنبياء، وفي الثانية لأسلاف اليهود والنصارى. أو لأن الخطاب في الأولى لهم، وفي الثانية لنا تحذيراً عن الِإقتداء بهم. 59 - قوله تعالى: (ومَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتي كنْتَ عَلَيْهَا. .) إِن قلتَ: كيف قال " إِلّاَ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبعُ الرَّسُولَ " وهو لم يزل عالماً بذلك؟ قلتُ: هذا ونحوُه باعتبار التعلُّقِ، والمعنى: ليتعلَّق علْمُنا به موجوداً، أو المعنى: ليعلمَ رسولنا والمؤمنون، لأنهم أخصَّاؤه. أو لتميّز الثابت عن المتزلزل، كقوله " لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِن الطَّيِّبِ ". 60 - قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ. .) .

" كان " للماضي وهو هنا للحال، وتأتي في القرآن لخمسة معان: أ - للحال ومنه " إِنَّ الصَّلاةَ كانتْ عَلَى المؤمنينَ كِتَاباً مَوْفوتاً " و " كان الله بما يعملون بصيراً ". ب - وللماضي المنقطع ومنه " وكان في المدينةِ تِسْعةُ رَهْطٍ " وهو الأصل في معانيها. ب - وللاستقبال ومنه " وَيَخَافُونَ يوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ". د - وللدوام ومنه " وكانَ اللَّه عَلِيماً حَكِيماً ". هـ - وبمعنى صار ومنه " وَكان مِنَ الكَافِرين ". 61 - قوله تعالى: (فَلَنوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا. .) . فإِن قلتَ: هذا يقتضي عدم رضا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوجه إلى بيت المقدس، مع أن التوجه إليه كان بأمر الله؟ قلتُ: المراد بالرضا هنا رضا المحبة بالطبع، لا رضا التسليم والانقياد لأمر الله.

62 - قوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام. .) كُرِّر ثلاث مرَّات، لأن الأول في المَسجد الحرام، والثاني خارجه، والثالث خارج البلد، وعليها يُنزَّل قوله قبل كلٍّ منها " ومنْ حيثُ خرجت ". 63 - قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِتَابع قِبْلَتَهُمْ. .) أي اليهود والنصارى، ولكلٍّ منهما قبلة، لكنْ لمَّا كانت القبلتان باطلتيْن، كانتا في حكم البطلان واحدةً، فلهذا قال " قبلتَهم ". 64 - قوله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) قال في الأنعام مثله " فَلَا تَكُونَنَّ منَ المُمترينَ " وفي آل عمران " فلا تكنْ من الْممترينَ " بغير نون التوكيد. لأنَّ ما في " آل عمران " جاء على الأصل، ولم يكن فيها ما اقتضى إدخال نون التوكيد. بخلاف ما هنا، فإِنَّ قبله التوكيد بأَنَّ في قوله " أَنَّه الحقُّ من ربهم ".

65 - قوله تعالى: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَليْكُمْ حُجَّةٌ إِلّاَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. .) . إن قلتَ: كيف يكون للظالمين من اليهود حجَّةٌ على المؤمنين؟ قلتُ: حجَّتُهم قولُهم: ما تحوَّل محمدٌ عن الكعبة، إِلَّا أنه بدا له الرجوع إِلى قبلةِ آبائه، ويوشك أن يرجع إِلى دينهم.!! وهذا باطلٌ، وإِنما سُمِّي حجَّةً كقوله " حجَّتُهم داحضةٌ " لشبهه لها صورةً، فالمعنى إلا أن يقولوا ظلماَ وباطلًا، كقولك لرجلٍ: ما لكَ عندي حقٌ إِلاَّ أن تظلم أي إلا أن تقول الباطل. 66 - قوله تعالى: (وَلأًتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ. .) عطفٌ على قوله " لِئَلاَّ يكون للنَّاس عليكم حُجَةٌ ".

67 - قوله تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) . إن قلتَ: ما فائدةُ ذكرِ الثاني مع أن الأول يقتضيه؟ قلتُ: لا نسلِّم أنه يقتضيه، لأن المراد بالكفر ستر النِّعمة، والشّكرُ لا يقتضي عدمَه. 68 - قوله تعالى: (إلّاَ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا. .) تُرِك " مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ " هنا، وذكره في " آل عمران " لأنه لو ذكره هنا مع قوله قبله " من بعدما بينَّاه للنَّاس " للتبس أو لتكرَّر. 69 - قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين) . إن قلتَ: كيف قال: " والنَّاسِ أجمعين " وأهل دين من مات كافراً لا يلعنونه؟ قلتُ: المرادُ بالناس المؤمنون، أو هم وغيرهم. وأهل دينه يلعنونه في الآخرة، قال تعالى (ثمَّ يومَ القيامةِ يكفُرُ بعضُكُم ببعضِ ويلعنُ بعضُكم بعضاً. .) وقال (كُلَّما دخلتْ أمةٌ لَعَنَت أختَها) .

70 - قوله تعالى: (وَإلهكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ..) إن قلتَ: ما فائدة ذكرِ " إلهٌ " مع أن " واحدٌ " يُغني عنه؟ قلتُ: فائدتُه التصريحُ بالِإلهية المقصودة، وإن تضمَّنه قوله " واحدٌ " كما تضمَّن انفراده بالقدم، وبصفات ذاته، وبعدم التركيب. 71 - قوله تعالى: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ. .) خصَّهما بالذّكر لأنهما أعظم المخلوقات، وجمع السَّماءَ دون الأرض، للانتفاع بجميع آحادها، باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره، بخلاف الأرض إنما يُنتفع بواحدةٍ من آحادها وهي ما نشاهدها منها. 72 - قوله تعالى: (بَلْ نَتَّبعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. .) عبَّر هنا بـ " ما ألفينا " وفي " المائدة " وفي " لقمان " بـ " مَا وَجَدْنا " لأن " ألفى " يتعدَّى إِلى مفعولين دائماً، و " وَجَدَ " يتعدَّى إليهما تارة، وإِلى واحدٍ أخرى، كقولك: وجدتُ الضالَّةَ فهو مشترك،

وألفى خاصّ، فكان الموضع الأول أنسب به. 73 - قوله تعالى: (أَوَلَوْ كلمانَ أَبَاؤُهمْ لاَ يَعْقِلُونَ شيئاً وَلَايَهْتَدُونَ) . إن قلتَ: لم قال هنا " لا يعقلونَ " وفي المائدة " لا يعلمون "؟ قلتُ: لأن العلم أبلغ درجةً من العقل، بدليل وصف الله به دون العقل، ودعواهم ثَمَّ أبلغ من ههناِ، لقولهم ثَمَّ " حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا " وههنا " بل نتَبع ما ألفينا عليه آباءنا " فكان الأنسبُ نفيَ كلٍّ بما يناسبه. 74 - قوله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ. .) ظاهرُه تشبيهُ الكفًار بالراعي وليس مراداً. فإن قلتَ: فما وجهُه؟ قلتُ: فيه إضمارٌ تقديره: ومثَل واعظِ الذين كفروا كمثلَ الراعي.

أو للأنعام: أو ومثَلُ الذينَ كفروا كمثل بهائم الراعي. أو ومثَلُ الذين كفروا في دعائهم الأصنامَ كمثل الراعي. 75 - قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لَغَيْرِ اللَّهِ. .) قَدَّم " بِهِ " هنا وأخَّره في المائدة، والأنعام، والنحل. لأن الباء للتعدية، كالهمزة والتشديد، فهي كالجزء من الفعل، فكان الموضع الأول أولى بها وبدخولها. وأخَّر في بقية المواضع، نظراً للمقصود فيها من ذكر المستنكر، وهو الذبح لغير الله، والحصر بـ " إنَّما " في المحرَّمات هنا متروكُ الظاهر، لما زاد في المائدة من " المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السَّبُع ". 76 - قوله تعالى: (فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ. .) ذكره هنا، وتركه في المواضع الثلاثة المذكورة آنفاً اقتصاراً، كما هو الأنسب بالآخر. 77 - قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قاله هنا، وقال في الأنعام " فإن ربَّك غفورٌ رحيمٌ " لأن لفظ الربِّ تكرَّر ثَمَّ مراتٍ، مع ذكر ما يحتاج إلى التربية، من الثمار، والحبوب، والحيوان، " من " الضأن والمعز والِإبل والبقر " في قوله " وَهُوَ الذِي أَنْشَأَ

جنَّاتٍ " الخ فكان ذكرُ الربِّ ثَمَّ أنسب. 78 - قوله تعالى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيامَةِ. .) . إن قلتَ: كيف نفى عنهم الكلام هنا وأثبته لهم في قوله " فوربك لنسألهم "؟ قلتُ: النفيُّ هنا الكلام بلطفٍ وإكرام، والمثبت ثَمَّ سؤال توبيخ وإهانة، أو في القيامة مواقفٌ، ففي موقفٍ لا يكلمهم، وفي موقفٍ يكلمهم. ومن ذلك آيةُ النفي المذكورة، مع قوله تعالى " ويوم نحشرهم جميعاً ثمَّ نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ". 79 - قوله تعالى: (إنْ نَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأقْرَبينَ. .) فيه عطفُ الخاصّ على العام، ونسخِ ما كانوا يفعلونه من الوصيّة للأبعد دون الأقرب، طلباَ للفخر والشَّرف. 80 - قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

إن قلتَ: لم خصَّ السِّميع بالذّكر هنا، والغفران فيما بعده؟ قلتُ: لقوله هنا، " بعد ما سمعه " وثَمَّ " فلا إثم عليه ". 81 - قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كمَا كتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. .) التشبيهُ في أصلِ الصَّوم لا في كيفيَّته، إذِ الإِفطارُ منه كان مباحاً من الغروب إلى وقت النَّوم فقط، ثم نُسخ بقوله تعالى " وكلوا واشربُوا حتَّى يتبيَّن لكُم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسْودِ من الفجر " الآية. 82 - قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ عَلَى سَفَرٍ. .) قيَّد بـ " منكم " هنا، وفي قوله " فمنْ كانَ منكُم مَرِيضاً أوْ بِهِ أذَىً منْ رأْسِهِ " وتركه في قوله " ومن كان مريضاً أو على سفر " اكتفاءً بقوله قبله " فمنْ شهدَ منكُم الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ ". فإن قلتَ: ما فائدة ذكرِ إعادة المريض والمسافر بعد؟ قلتُ: رفعُ توهُّمِ نسخ التخيير بين الصوم والفدية بعموم

قوله " فمن شهدَ منكم الشَّهْرَ فلْيَصُمْهُ ". أو أن آيتها الأولى نزلت في تخييرهما بين الصوم والفدية، والثانية في تخييرهما بين الصوم والِإفطار والقضاء. 83 - قوله تعالى: (مِنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ. .) صفة لهدىً وبيِّنات قبله، ومتعلِّقٌ بمحذوفٍ أي كونُ القرآن هدىً وبيِّناتٌ، من جملة هدى اللَّه وبيّناته، لكنْ عبَّر عن البيِّنات بالفرقان، لأن فيه زيادة معنى لازم للبيِّنات، وهو كونُه يفرق بين الحق والباطل، ولأن في لفظ الفرقان تواخي الفواصل. 84 - قوله تعالى: (أجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ. .) إن قلتَ: نجدُ كثيراً من الدَّاعين لا يُستجاب لهم؟ قلتُ: إنما لم يستجبْ لهم لانتفاء شرط الِإجابة، إذْ شرطُها طاعةُ الله، وأكلُ الحلالِ، وحضور القلبِ. أو لأنَّ الدَّاعي قد يعتقد مصلحته في إجابة دعوته،

واللَّهُ يعلم أن المصلحة فىِ تأخيرها. أويعطيه بدلها فقد روى الحاكم خبر " ما من مسلمٍ يدعو اللَّهَ تعالى بدعوةٍ، إلّا آتاه الله إيَّاها، أو صرف عنه من السُّوء مثلها، أو ادَّخر له من الأجر مثلها، ما لم يدعُ بإثم ". 85 - قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَما. .) . إنْ قلتَ: لِمَ قال هنا " فَلا تَقْربُوهَا " وقال في التي بعدها " فلا تعتدوها "؟. قلتُ: لأن الحدَّ هنا نهيٌ وهو قوله " ولا تُبَاشِروهنَّ " وما كان من الحدود نهياً، نُهيَ فيه عن المقاربة. والحدُّ فيما بعدُ أمرٌ، وهو بيان عدد الطلاق بقوله " الطَّلاقُ مرَّتَانِ " الآية، وما كان أمراً نُهيَ عنه عن الاعتداء وهو مجاوزة الحدِّ. 86 - قوله تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ. .) .

كلُّ ما جاء من السؤال في القرآن، أجيب عنه بـ " قُلْ " بلا فاءٍ، إلَّا في قوله في " طه " (ويسألونك عن الجبال فقل. .) الآية، فبالفاء، لأن الجواب في الجميع، كان بعد وقوع السؤال. وفي " طه " قبله إذْ تقديره: إن سئلتَ عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً (1) . 87 - قوله تعالى: (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ. .) . تُرك " كلًّه " هنا، وذكره في الأنفال، لأن القتال هنا معِ أهل ملَّةٍ فقط، وثَمَّ مع جميع الكفار، فناسب ذكرُه ثمَ. 88 - قوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ. .) إن قلتَ: ما فائدة ذكره بعد الثلاثة والسبعة، وذكر " كاملة " بعد قوله (تلكَ عَشَرَةٌ) ؟ قلتُ: فائدةُ الأول دفعُ تصحيف سبعةٍ

بـ " تسعة "، وتأكيدُ العلم بالعدد تفصيلًا وإجمالًا. وفائدة الثاني التأكيد كما في " حولينِ كاملين ". أو معناه كاملة في الثواب مع كونها متفرقة. أو واقعة بدلًا عن الهَدْيِ. 89 - قوله تعالى: (فَإِذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كمَا هَدَاكُمْ. .) . إن قلتَ: ما فائدةُ تكرار الذكر؟ قلتُ: فائدته التنبيه على إرادة الذِّكرِ، وزيادة فائدةٍ أخرى في الثاني وهي " كما هداكم " بمعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته. أو الِإشارة بالأول إلى الذكر باللفظ، وبالثاني إلى الذكر بالقلب. 90 - قوله تعالى: (ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ. .) . إن قلتَ: كيف عطف الِإفاضة، مع أنها الِإفاضة من عرفات؟ قلتُ: ثُمَّ للترتيب الِإخبار لا الزماني.

أو المراد بالإِفاضة الثانية، الِإفاضة من مزدلفة إلى مِنَى، لا من عرفات. 91 - قوله تعالى: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. .) . إن قلتَ: ما فائدة قوله فيها " وَمَنْ تَأَخَّر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ " مع أنه معلوم بالأوْلى ممَّا قبله؟ قلتُ: فائدتُه رفعُ ما كان عليه الجاهلية من أن بعضهم قائل بإثم المتعجل، وبعضهم بإثم المتأخر. أو المعنى: لا إثم على المتأخر في ترك الأخذ بالرخصة، مع أن الله يُحبُّ أن تؤتى رُخَصُه كما يحبُّ أن تُؤْتى عزائمُه. فإن قلتَ: التعجيلُ في اليوم الثاني، لا فيه وفي اليوم الأول، فكيف قال " في يومين "؟ قلتُ: المعنى في مجموع اليومين الصادق بأحدهما وهو الثاني، كما في قوله تعالى " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " وهما لا يخرجان إلا من الملح لا من العذب.

92 - قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الذِين خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) . قال ذلك هنا، وقال في آل عمران " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمَّا يعلمِ اللَّهُ الذين جاهدوا منكم " الآية. وفي التوبة " أم حسبتم أن تُتركوا ولمَّا يعلمِ اللَّهُ الذين جاهدوا منكم " الآية. غاير بما ذُكر في الثالثة، لأن الخطاب في الأولى للنبي والمؤمنين، وفي الثانية للمجاهدين، وفي الثالثة للمؤمنين. 3@ - قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ. .) . إن قلتَ: كيف طابق الجوابُ السؤال، لأنهم سألوا عن المُنْفَق، فأجيبوا ببيان المَصْرف؟ قلتُ: بل طابقه بقوله " مِنْ خيْرٍ " وزاد عليه بيان المصرف بما بعده، فالجوابُ أعمُّ، ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئِل عن الوضوء بماء البحر: " هو الطهُور ماؤُه، الحِلُّ ميتته ".

94 - قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. .) . ذكر " في الدنيا والآخرة " هنا، وتركه في آخر السورة، وفي الأنعام اختصاراً، للعلم به ممَّا هنا. 95 - قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. .) . بفتح التَّاء هنا، وبضمها في قوله " ولا تُنْكحوا المشركينَ ". لأن الأول من " نَكَحَ " وهو يتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ، والثاني من " أنْكَحَ " وهو يتعدَّى إلى اثنين، الأول في الآية " المشركين "، والثاني محذوفٌ وهو " المؤمنات ". 96 - قوله تعالى: (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا. .) . هو هنا بالتخفيف، من " أَمْسَك " وفي الممتحنة بالتخفيف والتشديد، لمناسبة تخفيف لما هنا ما قبله من

قوله " فإِمْسَاكٌ بمعْروفٍ " وقوله " فأمسكوهنَّ ". ومناسبة تخفيف وتشديد ما هناك ما قبله من قوله " لم يخرجوكم " وقولِه " أَنْ تَبَرُّوهُمْ " وخُفَف في الطلاق قولُه " فأمسكوهنَّ بمعروف " لمناسبة تخفيفه ما قبله من قوله " لا تُخرجوهنَّ من بيوتهنَّ ". 97 - قوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . فإن قلتَ: عزمُهم الطَّلاق ممَّا يُعلم لا ممَّا يُسمع، فكيف قال " إن الله سميع "؟ قلتُ: العازم على الشيء يُحدِّث به نفسه، وحديث النَّفس ممَّا يسمعه الله ووسوسة الشيطان، مع أن الغالب في عزم الطلاق المقاولة مع الزوجة. 98 - قوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ. .) . أفعل ههنا بمعنى فاعل. 99 - قوله تعالى: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ. .) .

قال " ذَلِكَ " هنا، وقال في الطلاق " ذَلِكُمْ يُوعَظُ به من كان يؤمن " لما كانت كاف " ذلكَ " لمجرد الخطاب، لا محل لها من الِإعراب، جاز الاقتصار على الواحدكما هنا، وكما في قوله تعالى " ثم عفونا عنكم من بعد ذلك " وجاز الجمع نظراً للمخاطبين كما في الطلاق. فإن قلتَ: لمَ ذكر " منكم " هنا، وترك ثَم؟ قلتُ: لترك ذكر المخاطبين هنا في قوله ذلك، واكتفى بذكرهم ثَمَّ فيه. 100 - قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَليْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ. .) . قال في هذه الآية " بالمعروف " وقال في الآية الأخرى " من معروفٍ " لأن التقدير في هذه: فيما فعلن في أنفسهن بأمر الله المعروف من الشرع. وفي تلك: فيما فعلن فى أنفسهن من فعلٍ من أفعالهنَّ معروف جوازه شرعاً. 101 - قوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ

أَحْيَاهُمْ. .) . إن قلتَ: هذا يقتضي موتَهُم مرتيْن، وهو منافٍ للمعروف أن موت الخلق مرةٌ واحدة؟ قلتُ: لا منافاة إذِ الموتُ هنا عقوبة مع بقاء الأجل، كما في قوله تعالى في قصة موسى " ثُمَّ بعثناكُمْ منْ بعدِ موتِكمْ ". وثَمَّ موتٌ بانتهاء الأجل، ولأنَّ الموت هنا خاصٌّ بقومِ، وثَمَّ عامٌ في الخلق كلِّهم، فيكون ما هنا مستثنى إظهارَاً للمعجزة. 102 - قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أكثرَ النَّاس لا يَشْكُرُونَ) . إنما ذكر لفظ الناس هنا وفي " يوسف " و" المؤمن " وتركه في " يونس " و " النَّمل ".

لأنَّ ما في الثلاثة الأولى، لم يتقدمه كثرة تكرر لفظ " الناس "، فناسب الإِظهار، وما في " يونس " تقدَّمه ذلك فناسب الإِضمار، لئلا تزيد كثرة التكرار، وما في " النمل " تقدَّمه إضمار الموحَى إليه ومخاطبته فناسب الِإضمار، وبعضهم أجاب بما فيه نظرٌ فتركتُه. 103 - قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ. .) . كرَّره بقوله " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ما اقتَتلُوا " تأكيداً، وتكذيباً لمن زعم أنَّ ذلك لم يكن بمشيئة الله. 104 - قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ. .) . أي بغير إذن الله لقوله تعالى " منْ ذَا الَّذي يشفعُ عنده إلَّا بإذنهِ "؟ وقوله " ولا تنفعُ الشَّفَاعةُ عندهُ إلّاَ لمنْ أَذِنَ لهُ ". أو لا شفاعة من الأصنام والكواكب التي يعتقدها الكفار. 105 - قوله تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

حصر الظلم في الكافرين، لأن ظلمهم أشدُّ، فهو حصر إضافيٌّ كما في قوله تعالى " إنَّما يخشَى اللَّهَ من عبادِهِ العلماءُ ". 156 - قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ. .) . عبَّر فيها بالمضارع لا بالماضي مع أن الِإخراج قد وُجد. . لمناسبة التعبير به قبله في قوله " فمنْ يكفُرْ بالطَّاغُوتِ وُيؤْمِنْ باللَّهِ " ولأنَّ المضارع يدلُّ على الاستمرار، فيدلُّ هنا على استمرار ما ضمنه الِإخراج من الله تعالى، في الزمن المستقبل في حقِّ من ذُكر. فإن قلتَ: كيف يَخرجُ الكفَّارُ من النور، مع أنهم لم يكونوا في نورٍ؟ قلتُ: لمقابلة ما ذُكر قبله في المؤمنين، ولأن الكفار هنا هم " اليهود " وقد كانوا مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لما يجدونه من نعته في كتبهم، فلما بُعث كفروا به. 107 - قوله تعالى: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ. .) ؟

أي بقدرتي على الِإحياء، قال له ذلك مع علمه بإيمانه بذلك، ليجيب بما أجاب به، فيعلم السامعون غرضه من طلبه لإحياء الموتى. 108 - قوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. .) . قاله مع أنَّ قلبَه مطمئنٌّ بقدرة الله تعالى على الإِحياء، ليطمئنَّ قلبُه بعلم ذلك عياناً كما اطمأنَّ به برهاناً. أو ليطمئنَّ بأنه اتخذه خليلاً، أو بأنه مستجاب الدعوة. 109 - قوله تعالى: (قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ. .) . خصَّ الطير بالذِّكر من سائر الحيوان، لزيادته عليه بطيرانه قيل: وكانت الأربعة: ديكاً، وطاووساً، ونسْراً، وغُراباً.

وفائدةُ التقييد بالأربعة في الطيرِ، وفي الأجبلِ بعده، الجمعُ بين الطبائع الأربع، في الطير بين مهاب الرياح من الجهات الأربع في الأجبل. 110 - قوله تعالى: (ثُمََ لا يتْبِعونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذَىً. .) . إن قلتَ: كيف مدح المنفقين بترك المنِّ، وقد وصف نفسه بالمنِّ، كما في قوله تعالى " لقد منَ اللَّهُ على المؤمنين "؟ قلتُ: المنُّ يقال للِإعطاء، وللاعتداد بالنعمة واستعظامها. والمراد في الآية المعنى الثاني. فإن قلتَ: من المعنى الثاني " بلِ اللَّهُ يَمنُّ عليكمْ أنْ هَدَاكم للِإيمان ". قلتُ: ذلك اعتدادُ نعمةِ الِإيمان، فلا يكون قبيحاً، بخلاف نعمة المال. على أنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى، ما هو مدحٌ في حقّه، ذمٌّ في حقِّ العبد، كالجبار، والمتكبّر، والمنتقمَ.

111 - قوله تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ. .) . فإن قلتَ: لمَ خصَّ النَّخيل والأعناب بالذِّكر، مع قوله بعد " له فيها منْ كلِّ الثَّمرات "؟ ْ قلتُ: لأنَّ النخيل والأعناب أكرم الشجر، وأكثرها منافع. 112 - قوله تعالى: (وَيُكفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سيِّئَاتِكُمْ. .) . ذكر " مِنْ " هنا خاصة، موافقةً لما بعدها في ثلاث آيات، ولأن الصَّدقات لا تكفِّر جميع السيِّئات. 112 - قوله تعالى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا. .) . فإن قلتَ: هذا يُفهم أنهم كانوا يسألون برفق، مع أنه قال: " يحسَبُهمُ الجَاهِلُ أغنياءَ من التَّعفُّفِ "؟ قلتُ: المرادُ نفيُ المقيّد والقيد جميعاً كما في قوله تعالى " لا ذَلُولٌ تُثيرُ الأرضَ " وقوله " اللَّهُ الذِي رَفَعَ السَّمواتِ بغيرِ عَمَدٍ ترونها ". 114 - قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأكلُونَ الرِّبَا. .) .

خصَّ الأكل بالذِّكر مع أنَّ غيره كاللّبس، والادّخار، والهبة كذلك، لأنه أكثرُ وأهمُّ انتفاعاً بالمال، إذْ لا بدَّ منه. أو أُريد بالأكل الانتفاعُ، كما يُقال: فلانٌ أكل ماله، إذا انتفع به في الأكل وغيره. 115 - قوله تعالى: (ذَلِكَ بَأنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا. .) . فإن قلتَ: كيف قالوا ذلكَ، مع أن مقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتَّفق على حِلِّه؟ قلتُ: جاء ذلكَ على طريق المبالغة، لأنه أبلغُ من اعتقادهم أن الربا حلالٌ كالبيع، كالتشبيه في قولهم: القمرُ وجهُ زيدٍ، والبحرُ ككفَه، إذا أرادوا المبالغة. أو أنَّ مقصودهم أنَّ البيع والربا يتماثلان من جميع

الوجوه، فساغ قياسُ البيع على الربا كعكسه. 116 - قوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَأوْلَئِكَ أصْحَابِ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن مرتكب الكبيرة كاَكل الربا لا يُخلَّد في النَار؟ قلتُ: الخلودُ يُقال لطول البقاء، وإن لم يكن بصيغة التأبيد، كما يُقال: خلد الأميرُ فلاناً في الحبس إذا أطال حبسه. أو المراد بقوله " وَمَنْ عَادَ " العائد إلى استحلال أكل الربا، وهو بذلك كافر، والكافرُ مخلد في النَّار على التأبيد. 117 - قوله تعالى: (وَأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . " خيرٌ لكم " أي من إنظار المعسر. فإن قلتَ: إنظارُ المعسِر واجبٌ، والتصدُّق عليه تطوُّعٌ، فكيف يكون خيراً من الواجب؟ قلتُ: التَّطوعُ المحصِّل للواجب، لِمَا اشتمل عليه من الزيادةِ كما هنا أفضلُ من الواجب، كما أن الزُّهد في

الحرام واجب، وفي الحلال تطوُّعٌ، والزهد في الحلال أفضل. 118 - قوله تعالى: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَاكسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) . قال فيه وفي الجاثية بـ " مَا كَسَبَتْ " وقال في آخر النحلِ (وتُوَفَّىِ كلُّ نَفْسِ مَا عَمِلَتْ) وفي آخر الزمر (وَوُفيَت كُلّ نفسٍ مَا عَمَلَتْ) . . موافقةً لما قبْل كلً منها، أو بعده، أو قبْله وبعده. إذْ ما هنا قبْله " أَنْفِقُوا من طَيِّباتِ ما كسبتُمْ " وبعده " لهَا مَاكَسَبَتْ وعليْها ما اكْتَسَبَتْ ". وقبله في آخر النَّحل " من عمل صالحاً. . . ولنجزينَّهم أجرَهُمْ بأحسنِ ما كانوا يَعْملونَ ". وبعده " ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ للذينَ عَمِلُوا السُّوءَ ". وقبل ما في الجاثية " ولا يُغْني عنهم ما كسَبُوا شيئاً ".

وبعد ما في الزمر " فنعمَ أجرُ العاملينَ ". 119 - قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ. .) . فإن قلتَ: ما فائدة قوله " بدينٍ " مع أنه معلوم من " تَدَاينتُمْ "؟ قلتُ: فائدتُه الاحتراز عن " الدَّيْن " بمعنى المجازاة، يقال: داينتُ فلاناً بالمودَّة، أي جازيتُه بها، وهو بهذا المعنى لا كتابة فيه ولا إشهاد. وقيل: فائدتُه رجوع الضمير إليه في قوله " فاكتبوه " إذْ لو لم يذكره لقال: فاكتبوا الدَّيْنَ، والأولُ أحسنُ نظماً. 120 - قوله تعالى: (أنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُما الأخْرَى. .) . قُرىء " تَذْكُرَ " بالتخفيف والتشديد. فإن قلتَ: كيف جعل " أنْ تَضِلَّ " علةً لاستشهاد المرأتين بدل رجل، مع أن علَّته إنما هو التذكير. قلتُ: بل علَّته " أن تَضِلَّ " لأن الضلال من إحداهما يكثر وقوعُه فصلح أن يكون علَّة لاستشهادهما،

وبتقدير عدم صلوحه فالتعليل " بأنْ تَضِلَّ " في الحقيقة إنما هو للتذكير، ومن شأن العرب إذا كانت للعلَّة عِلَّة، قدَّموا ذكر علَّة العِلَّة، وجعلوا العِلَّة معطوفة عليها بالفاء، لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة، كقولك: أعددتُ الخشبة أن يميل الجدار، فأدعمتُه بها، فالِإدعامُ علَّةٌ في إعداد الخشبة، والميْلُ علَّةُ الِإدعام. 121 - قوله تعالى: (وَإِنْ كنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجدُوا كاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَة. .) . فإن قلتَ: كيف شرط السفر في الارتهان مع أنه ليس بشرطٍ فيه؟ قلتُ: لم يذكره لتخصيص الحكم به، بل لكونه مظنة عوز الكاتب، والشاهد، الموثوق بهما. 122 - قوله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. .) . فإن قلتَ: ما فائدة ذكر القلب، مع أن الجملة موصوفة بالِإثم؟ قلتُ: لمَّا كان كتمانُ الشهادة هو إضمارُها في القلب، وإثمه مكتسباً بالقلب وبه، أسند الِإثم إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغُ، كما

يُقال: هذا ممَّا أبصرتْه عينايَ، وسمعتْه أذناي، وعلِمه قلبي. 123 - قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بهِ اللَّهُ. .) . إن قلتَ: كيف قال في الإِخفاء " يُحاسبْكُمْ به اللهُ " مع أن حديث النفس لا إثم فيه، للحديث المشهور فيه، ولأنه لا يمكن الاحتراز منه؟ قلتُ: ذلك منسوخ بقوله " لا يُكلفُ اللَّهُ نَفْساً إلّاَ وُسْعَها ". أو المرادُ بالِإخفاء: العزمُ القاطعُ، والاعتقادُ الجازم. أو ذلك إخبارٌ بالمحاسبة لا بالمعاقبة، فهو تعالى يُخبر العبادَ بما أخفوا وأظهروا، ليعلموا إحاطة علمه، ثم يغفر أو يُعذِّب فضلاً وعدلًا. 124 - قوله تعالى: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. .) . قدَّم المغفرة في هذه السورة وغيرها، إلا في " المائدة " فقدَّم العذاب، لأنها في المائدة نزلت في

حقِّ السارق والسارقة، وعذابُهما يقع في الدنيا فقدَّم العذاب، وفي غيرها قُدّمت المغفرة رحمةً منه للعباد، وترغيباً لهم إلى المسارعة إلى موجباتها. 125 - قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. .) . إن قلتَ: أيُّ فائدة في هذا الِإخبار مع أنَّ الأنبياء في أعلى درجات الِإيمان؟ قلتُ: فائدتُه أن يُبيِّن للمؤمنين زيادة شرف الِإيمان، حيث مدح به خوَّاصه ورسله، ونظيره في " الصَّافَّات " أنه ذكر في كل نبي " إِنَّهُ منْ عِبَادِنا المُؤْمنينَ ". 126 - قوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. .) . فإن قلتَ: كيف قال ذلك مع أن " بَيْنَ " لا تُضافُ إلاَّ إلى اثنين فأكثر؟ قلتُ: " أحَدٌ " هنا بمعنى الجمع الذي هو " آحاد " كما فى قوله تعالى " فما منكُمْ منْ أحَدٍ عنهُ حَاجِزينَ "

فكأنه قال: لا نُفرِّق بين آحادٍ من رسله. 127 - قوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكتَسَبَتْ. .) . " لها ما كَسَبَتْ " أي في الخير " وعليها مَا اكتَسَبَتْ " أي في الشَّرِّ. فإن قلتَ: ما الدليلُ على أن الأول في الخير، والثاني في الشرِّ؟ قلتُ: " اللامُ " في الأول و " عَلَى " في الثاني، لأنهما يستعملان في ذلك عند تقارنهما كما في هذه الآية، وكما في قوله " من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ". وقولهم: الدَّهرُ يومان: يومٌ لك، ويومٌ عليك. وقول الشاعر: على أنني راضٍ بأن أحملَ الهوى وأخفص منه لا عَليَّ ولا لِيَا

فإن قلتَ: لم خصَّ الكسب بالخير، والاكتساب بالشرّ؟ قلتُ: لأن الاكتساب فيه إعمال، والشرُّ تشتهيه النفس وتنجذب، فكانت أجد في تحصيله، بخلاف الخير، ولأن في ذلك إشارة إلى إكرامه تعالى وتفضّله على الخلق، حيث أثابهم على فعل الخير من غير جدٍّ واعتمال، ولم يؤاخذهم على فعل الشرِّ إلا بالجدِّ والاعتمال. " تَمَّتْ سُورَةُ البقرة "

سورة آل عمران

سورة آل عمران 1 - قوله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ. .) . إن قلتَ: كيف قال هنا " نَزَّل " ثم قال " وأَنْزَل " مرتين؟ قلتُ: للاحتراز عن كثرة التكرار. وخُصَّ المشدَّدُ بالأول لمناسبته " مصدِّقاً ". وقيل: لأن القرآن نزل منجَّماً، والتوراةَ والِإنجيل نزلا جملةً واحدة، فحيث عُبِّر فيه بـ " نَزَّل " أريد الأول، أو " أنزل " أريد الثاني. ورُدَّ الأولُ بقوِله " وقالَ الَّذِينَ كفَرُوا لَوْلَا نُزِّل عليهِ القُرآنُ جُمْلةً واحدةَ ". والثاني بقوله " وأنْزلَ الفُرقانَ " إن أُريد به القرآن. وبقوله " هو الذي أنزل عليك الكتاب ".

وبقوله " والَّذينَ يُؤْمنونَ بما أُنزلَ إِليكَ ". 2 - قوله تعالى: (مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. .) سمَّى ما مضى بأنه " بين يديه " لغاية ظهور أمره. 3 - قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) . قدَّم الأرضَ على السماء هنا وفي موضع من " يونس " و " إبراهيم " و " طه " و " العنكبوت ". . عكْسَ الغالبِ في سائر الآيات، لأن المخاطبين في الخمس كائنون في الأرض فقط، بخلافهم في غيرها كذا قيّد. 4 - قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ. .) . إن قلت: كيف قال ذلك و " مِنْ " للتبعيض، وقال في

هود " كِتَابٌ أُحْكِمتْ آيَاتُهُ " وهو يقتضي إحكام آياتِه كلّها؟ قلتُ: المرادُ بـ " المحكماتِ " هنا النَّاسخاتُ، أو العقليَّاتُ، أو ما ظهر معناها. كما أن المراد بـ " المتشابهات " المنسوخاتُ، أو الشرعيَّاتُ، أو ما كان في معناها غموضٌ ودقَّة. والمرادُ بقوله " أُحكِمتْ آياتُه " أن جميع القرآن صحيحٌ ثابت، مصونٌ عن الخَلَل والزَّلَل. ولا تنافي بين " متشابهاتٍ " وقوله (كتاباً متشابهاً " إذِ المرادُ بـ " متشابهاتٍ " ما مرَّ. . وبـ " متشابهاً " أنه يشبه بعضُه بعضاً في الصِّحَّة، وعدم التناقضِ، وتأييد بعضِه لبعضٍ.

5 - قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ) . قاله بلفظ الغَيْبَة، وقال في آخر السورة " إنك لا تُخْلِفُ المِيعَادَ " بلفظ الخطاب. . لأن ما هنا متَّصلٌ بما قبْلَه وهو قوله تعالى " ربنا إنك جامعُ النَّاسِ ليومٍ لا ريبَ فيهِ " اتصالًا لفظياً فقط. وما في آخرها متَصِلٌ بما قبْلَه وهو قوله " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " اتّصالاً لفظياً ومعنوياً، لتقدم لفظ الوعد. 6 - قوله تعالى: (كدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. .) . قال هنا وفي موضعٍ من الأنفال " كذبُوا " وفي آخر منها " كَفَرُوا " تفنُّناً، جرياً على عادة العرب في تفنُّنهم في الكلام. 7 - قوله تعالى: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ. .) .

أي ترى الفئةُ الكافرةُ المسلمةَ بمثليْ عدد نفسها، أو بالعكس على الخلاف. إن قلتَ: هذا ينافي قوله في الأنفال " وإذْ يريكموهُمْ إِذِ التقيتُم في أعينكُمْ قَليلاً وُيقلِّلُكُمْ في أعينِهمْ " إذ قضيَّتُه أن كلاً منهما ترى الأخرى قليلة؟ قلتُ: التقليلُ والتَّكثيرُ في حاليْنِ: قلَّلَ اللهُ المشركين في نظر المؤمنين، وعكسه أولاً، حتى اجترأت كلٌّ منهما على قتال الأخرى. ثمَّ كثر اللهُ المؤمنين في نظر المشركين لما التقتا، حتى جَبُنوا وفَشِلوا. وكثر الله المشركين في نظر المؤمنين، وأراهم إيَّاهم على ما هم عليه - وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين - ليعلموا صدق وعد الله في قوله " فإن يكنْ منكم مائةٌ صابِرَةٌ يَغْلبوا مائتين " فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغَزَاةِ وهي " غَزَاةُ بدرٍ " مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين. 8 - قوله تعالى: (شهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلّاَ هًوَ

والمَلَائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلّاَ هُوَ) . كرر فيها " لَا إِلهَ إِلَّا هوَ " لأن الأول قولُ اللَّهِ، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم. أو لأن الأول جرى مجرى الشهادة، والثاني مجرى الحكم بصحةِ ما شهدته الشّهودُ. وقال جعفر الصادق: الأول وصفٌ، والثاني تعليمٌ أي قولوا واشهدوا كما شهدت. 9 - قوله تعالى: (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) . إنْ قلتُ: التولّي والِإعراضُ واحدٌ - كما مرَّ في البقرة - فلم جَمَع بينهما؟ قلتُ: لأن المعنى يتولون عن الدَّاعي، وُيعرضون عمَّا دعاهم إليه وهو كتاب الله. أو يتولون بإِيذائهم، وُيعرضون عن الحقِّ بقلوبهم. أو كان الذي تولَّى علماؤهم، والذي أعرض أتباعهم.

15 - قوله تعالى: (بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) خصَّ الخير بالذِّكر - وإن كان بيده الشُّر أيضاً - لأن الكلام إِنما ورد فيه، ردًّا على المشركين فيما أنكروه، ووعد اللَّهُ به نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، ووعد النبي - صلى الله عليه وسلم - به الصحابة رضي الله عنهم. أو أراد الخير والشرَّ، واكتفى بأحدهما لدلالته على الآخر، كما في قوله تعالى " سَرَابيلَ تقيكم الحر. . " وإنما خصَّ الخير بالذكر لأنه هو المرغوب فيه. 11 - قوله تعالى: (تُولجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في الليْلِ. .) . أي تدخله فيه بأن يزيد كلٌّ منهما ما نَقَص من الآخر. 12 - قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) . كرَّره توكيداً للوعيد.

والأحسنُ - كما قال التفتازانيُّ - ما قيل: إِنَّه ذكره أولاً للمنع من موالاة الكافرين، وثانياً للحثِّ على عمل الخير، والمنع من عمل الشرِّ. 13 - قوله تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كالأنْثَى. .) إن قلتَ: ما فائدةُ ذكرهِ مع أنه معلومٌ؟ قلتُ: فائدته اعتذارها عمَّا قالته ظنّاً، فإِنهاظنَّت ما في بطنها ذكراً، فنذرتْ أن تجعله خادما لبيت المقدس، وكان من شريعتهم صحة هذا النَّذر في الذكور خاصة، فلمَّا خاب ظنُّها استحيتْ حيثُ لم يُقبَل نذرها فقالت ذلك، معتذرةً أنها لا تصلح لما يصلح له الذَّكَر من خدمة المسجد، فمنَّ الله عليها بتخصيص " مريم " بقبولها في النذر، دون غيرها من الِإناث فقال " فتقبَّلها ربُّها بقبولٍ حَسَنٍ ". 14 - قوله تعالى: (فَنَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَاب أنَّ اللَّهُ يُبَشَرُكَ بِيَحْىَ) . إن قلتَ: كيف نادت الملائكةُ زكريا وهو قائمٌ

يصلي، وأجابها وهو في الصلاة؟ قلتُ: المرادُ بالصلاة هنا الدُّعاءُ كقوله تعالى " ولا تَجَهرْ بصلاتك ". فإِن قلتَ: لمَ خصَّ " يحى " عليه السلام بقوله " مصدِّقاً بكلمةٍ من الله " مع أن كل واحدٍ من المؤمنين، مصدِّقٌ بجميع كلمات الله تعالى؟ قلتُ لأن معناه مصدِّقاً بـ " عيسى " الذي كان وجودُه بكلمة من الله تعالى وهو قولُه: كنْ من غير أبٍ في الوجود أو المرتبة، وكان تصديق يحى لعيسى أصدَق من تصديق كل أحدٍ به. 15 - قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ. .) . قدَّم هنا ذكر " الكِبَرِ " على ذكرِ المرأة، وعكس في " مريم " لأن الذَكَر مقدَّمٌ على الأنثى، فقدَّم كبَره هنا وأخَّر ثَمَّ لتتوافق الفواصل في " عتيّاً، وَسَوِيّاً، وعشيّاً، وصبيّاً " وغيرها.

فإِن قلتَ: كيف استبعد زكريا ذلك، ولم يكن شاكاً في قدرة الله تعالى عليه؟ قلتُ: إنما قال ذلك تعجباً من قدرة الله تعالى، لا استبعاداً. 16 - قوله تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. .) . قال في حقِّ زكريا " يَفْعَلُ " وفي حقِّ مريم بعدُ " يَخْلُقُ " مع اشتراكهما في بشارتهما بولدٍ. لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمرٍ خارق، بل نادرٍ بعيد فحسن التعبيرُ بـ " يفعل ". واستبعاد مريمُ كان لأمرٍ خارقٍ، فكان ذكر " الخلقِ " أنسب. 17 - قوله تعالى: (قَالَ آيَتكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَامً إِلاَ رَمْزاً. .) .

إن قلتَ: ما الجمعُ بين قوله هنا " ثلاثةَ أيامٍ " وقوله في مريم " ثلاثَ ليالً "؟ قلتُ: كلٌّ منهما مقيَّدٌ بالآخر، فلا بد من الجمع بينهما. 18 - قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ) . كرَّر " اصْطَفَاكِ " لأن الاصطفاء الأول للعبادة التي هي خدمة " بيت المقدس " وتخصيص مريم بقبولها في النَّذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثاني لولادة عيسى. 19 - قوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ. .) . قال هنا " ولدٌ " وفي مريم " غلامٌ ". لأن ذكر المسيح تقدَّم هنا وهو ولدها، وفي مريم تقدَّم ذكرُ الغلام. 20 - قوله تعالى: (وَمَا كنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أقْلَامَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. .) .

إن قلتَ: كيف نفى وجودَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمن مريم، مع أنه معلوم عندهم، وتَرَكَ ما كانوا يتوهمونه من استماعه ذلك الخبر من حُفَّاظه؟ قلتُ: لأنهم يعلمون أنه - صلى الله عليه وسلم - أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وإنما كانوا منكرين للوحي، فنفى اللَّهُ الوجودَ الذي هو في غاية الاستحالة، على وجه التهكّم بالمنكرين للوحي، مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية. 21 - قوله تعالى: (اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى أبْنُ مَرْيَمَ. .) . فيه التفاتٌ إذِ القياسُ " ابْنُكِ ". فإِن قلتَ: كيف قال " ابن مريم " والخطابُ معها، وهي تعلمُ أنَّ الولد الذي بُشِّرت بِهِ يكون ابنَها؟ قلتُ: لأن النَّاسَ يُنْسبون إلى الآباء، لا إلى الأمهات، فأُعلمتْ بنسبتهِ إليها أنه يُولد من غير أبٍ، فلا يُنسب إِلّاَ إلى أمه. 22 - قوله تعالى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) . إن قلتَ: أيُّ معجزةٍ لعيسى عليه السلام في تكليمه النَّاسَ كهلاً؟

قلتُ: معناه تكلُّمه في الحالتيْن بكلامِ الأنبياء، من غير تفاوت بين الطفولة والكهولة، التي يستحكم فيها العقل وتُنبَّأ فيها الأنبياء. وقال الزجَّاجُ: هذا أُخرج مخرج البشارة لمريم، ببقاء " عيسى " إلى وقتِ الكهولة. 23 - قوله تعالى: (أنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطينِ كهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ. .) الآية. نسبة هذه الأفعال إِلى عيسى، لكونه سبباً فيها ومعنى " بإِذن اللَّهِ " بإِرادته، وقال هنا " فأنفخُ فيهِ " وفي المائدة " فتنفخ فيها " بإِعادة الضمير هنا إلى الطير أو الطين، وفي المائدة إلى هيئة الطَّير، تفنُّناً جرياً على عادة العرب في تفنُّنهم في الكلام. وخَصَّ ما هنا بتوحيد الضمير مذكراً، وما في المائدة بجمعه مؤنثاً!! قيل: لأنَّ ما هنا إخبارٌ من عيسى قبل الفعل فوحَّده، وما في المائدة خطاب من الله له فى القيامة، وقد سبق من عيسى الفعلُ مرَّاتٍ فجمعه.

24 - قوله تعالى: (بإِذْنِ اللَّهِ. .) . ذُكر هنا مرتين بهذا اللفظ، وفي المائدة أربعاً بلفظ " بإِذني "!! لأنه هنا من كلام عيسى، وثمَّ من كلام الله. 25 - قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقيمٌ) . هو كقوله في مريم " وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبكمْ " وقال في الزخرف " إِنَّ اللَّهَ هو رَبِّي وربُّكمْ " بضمير الفعل، الدَّالَ على حصر المبتدأ في الخبر، بمعنى إن الله ربي لا أبَ كما زعمتِ النَّصارىَ، ولم يتقدَّم ذلك ما يغني عن الحصر، فحسن ذكرُ " هو " بخلافه في الأخْرَيَينِ، فإنه ذكر في آل عمران عشر آيات من قصة مريم وعيسى، وفي مريم عشرون آية منها، فأغنى ذلك فيهما عن ذكر " هو ". 26 - قوله تعالى: (وَاشْهَدْ بأَنَّا مُسْلِمُونَ) قال هنا بـ " أنَّا " وفي المائدة ب " أَنَّنَا " لأن ما فيها أول كلام الحواريين، فجاء على الأصل، وما هنا تكرارٌ له بالمعنى، فناسب فيه التخفيف، لأنَّ كلّا من التخفيف والتكرار فرعٌ، والفرع بالفرع أولى.

27 - قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ. .) . إن قلتَ: كيف قاله واللَّهُ رفعَه ولم يَتَوفَّه؟ قلتُ: لما هدَّده اليهودُ بالقتل، بشَّره الله بأنه لا يقبض روحه، إلّا بالوفاة لا بالقتل، والواوُ لا تقتضي الترتيب. أو إنّي متوفّي نفسك بالنوم من قوله تعالى " اللَّهُ يَتوفَّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها. . " ورافعك وأنت نائم لئلا تخاف، بل تستيقظُ وأنتَ في السَّماء آمن مقرَّب. 28 - قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كمَثَلِ آدَمَ. .) . إن قلتَ: كيف قاله وآدمُ خُلق من التراب، وعيسى من الهواء، وآدمُ خُلق من غير أب وأم، وعيسى خُلق من أم؟

قلتُ: المرادُ تشبيهه به فىِ الوجود بغير أبٍ، والتشبيهُ لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه. 29 - قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ. .) . إن قلتَ: لِمَ خصَّ أهل الكتاب بذلك، مع أن غيرهم منهم الأمينُ والخائنُ؟ قلتُ: إِنَّما خصَّهم باعتبار واقعة الحال، إذْ سببُ نزول الآية أن " عبد اللهِ بن سلام " أُودع ألفاً ومائتيْ أوقيةً من الذهب، فأدَّى الأمانةَ فيها، و " فنحاص بن عازوراء " أُودع ديناراً فخانه. ولأنَّ خيانة أهل الكتاب المسلمين، تكون عن استحلالٍ بدليل آخر الآية، بخلاف خيانة المسلم المسلمَ. 30 - قوله تعالى: (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي. .) أي عهدي. 31 - قوله تعالى: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّموَاتِ

وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن أكثر الِإنس والجنِّ كفرة؟ قلتُ: المرادُ بهذا الاستسلامُ والانقيادُ لما قدَّره عليهم، من الحياةِ والموتِ، والمرضِ والصّحةِ، والشقاءِ والسعادةِ، ونحوها. 32 - قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كفْراَ لَنْ تقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن المرتدَّ وإِن ازداد ارتداده مقبولُ التوبة؟ قلتُ: الآية نزلتْ في قومِ ارتدُّوا، ثم أظهروا التوبة بالقول، لسترِ أحوالهم، والكَفرُ في ضمائرهم. 33 - قوله تعالى: (قُلْ يَا أهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ

عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً. .) . قال ذلك هنا، وقال في الأعراف " من آمَنَ بِهِ وتبغونها عوجاً. . " بزيادة " بِهِ " و " الواو " جرياً هناك على الأصل، في ذكر " بهِ " لكونه معمولًا، وذكر " واو العطف " إذ مدخولها معطوفٌ على " توعِدُون " المعطوف عليه " تصدُّون " وجرياً هنا على موافقة " وَمَنْ كَفَرَ " في عدم ذكرِ " بِهِ ". وإِنما لم يذكر الواو هنا، لأنَّ " تَبْغونَها " وقع حالًا، والواو لا تزاد مع الفعل إذا وقع حالًا، كما في قوله تعالى " ولاتَمْننْ تَسْتَكْثِر ". 34 - قوله تعالى: (كنْتُمْ خَيْرَ أُمةٍ أخْرِجَتْ لِلناسِ. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، ولم يقل: أنتم خير أمةٍ؟ قلت: لأنَّ معناه: كنتم في سابق علم الله، أو في يومِ أخذِ الميثاق على الذرية. فاعلم بذلك أن كونهم خير أمّةٍ، صفةٌ أصليةٌ فيهم،

لا عارضةٌ متجدِّدة. أو معنى " كُنْتُمْ " وُجدتم، بجعل " كان " تامَة. 35 - قوله تعالى: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن غير الِإيمان لا خير فيه، حتى يُقال إن الإِيمان خيرٌ منه؟ قلتُ: ليس " خير " هنا أفعل تفضيل، بل هو خيرٌ. أو هو أفعل تفضيل، وإِيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مع إيمانهم بموسى وعيسى، خيرٌ من إيمانهم بموسى وعيسى فقط. 36 - قوله تعالى: (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ. .) . الآية. أي حرٌّ أو بردٌ شديدٌ. 37 - قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا. .) . وصف الحسنة بالمسِّ، و " السيِّئةَ " بالِإصابة، توسعةً في العبارة، وإِلاَّ فهما بمعنى واحد في الأمرين، قال تعالى " إنْ تُصبْك

حسنةٌ تسُؤْهم وإِنْ تُصبْك مُصيبةٌ يقولُوا قَدْ أَخَذْنَا أمرَنا مِنْ قَبلُ ". وقال تعالى: " ما أصابَكَ من حسنةٍ فمنَ اللَّهِ وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك ". وقال تعالى: " إذا مسَّه الشرُّ جَزُوعاً. وإِذَا مسَّه الخيرُ مَنُوعاً ". 38 - قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلّاَ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ. .) . هذه تخالف آية الأنفال في ثلاثة أمور: أ - لأنه ذكر في هذه " لكم " لتمام القصة قبلها، وتركها ثَمَّ إيجازاً أو اكتفاءً بذكرهِ له قبل في قوله " فاستجاب لكم ". ب - وقدَّم " قلوبكم " على " بِهِ " هنا، وعكس في

الأنفال ليزاوج بين الخطابيْن هنا في " لكمْ " و " قلوبكم ". ب - وذكر هنا وصفيْ " العزيز " و " الحكيم " تابعَيْن بقوله " العزيز الحكيم " وثَمَّ ذكرهما في جملة مستأنفة بقوله " إِنَ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ " لأنه لمَّا خاطبهم هنا، حسُن تعجيلُ بشارتهم بأنَّ ناصرهم عزيزٌ حكيمٌ. ولأنَّ ما هناك قصة " بدرٍ " وهي سابقة على ما هنا، فإِنها في قصة " أحد " فأخبر هناك بأنه " عزيزٌ حكيمٌ " وجعل ذلك هنا صفةً لأن الخبر قد سبق. 39 - قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبكُمْ. .) . أي إلى أسبابها كا لتوبة (1) . إن قلتَ: كيف قال ذلك وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " العجلةُ من الشيطان، والتأني من الرحمن "؟! قلتُ: استُثْني منه - بتقدير صحته - التوبةُ، وقضاءُ الدَيْن الحالِّ، وتزويج البكر البالغِ، ودفن الميت، وإِكرام الضيف.

45 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. .) . صرَّح بذكر الفاحشة مع دخولها في ظلم النفس، لأنَّ المراد بها نوعٌ من أنواع ظلم النفس، وهو الزنى، أو كلُّ كبيرة، وخصَّ بهذا الاسم تنبيهاً على زيادة قبحه. 41 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ. .) . أي يسترها. فإِن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنه قال: " وَإِذَا ما غضِبُوا همْ يَغْفِرون "؟ وقال: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيامَ اللَّهِ "؟ قلتُ: معناه: ومن يغفر الذنوب من جميع الوجوه إلا الله؟ وهذا لا يوجد من غيره. 42 - قوله تعالى: (وَنِعْمَ أجْرُ العَامِلِينَ) . ذكره بواو العطف هنا، وتركها في العنكبوت، لوقوع مدلولها هنا بعد خبرين متعاطفيْن بالواو، فناسب عطفُه بها ربطاً، بخلاف ما في العنكبوت إذْ لم يقع قبلَ ذلك

إلا خبرٌ واحد. كنظيره في الأنفال في قوله " نعم المولى ونعم النصير ". ونظير الأول قولُه في الحج " فنعم المولى " وإِن كان العطفُ فيه بالفاء. 43 - قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوْا. .) الآية. معطوف على مقدَّر، والتقديرُ: وتلكَ الأيامُ نداولها بينَ النَّاسِ، ليتعظوا وليعلم اللَّهُ الذين آمنوا. 44 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، وقد قال " ولقد جئتُمونا فُرَادى كما خَلَقْناكُم أوَّلَ مرَّة "؟ قلتُ: معناه يأتي به مكتوباً في ديوانه. أو يأتي به حاملَاَ إثمه.

45 - قوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي ذوو درجات. فإِن قلتُ: الضميرُ في " هم " يعودُ على الفريقينِ، وأهلُ النَّار لهم دركاتٌ لا درجات؟ قلتُ: الدَّرجات تُستعملُ في الفريقين، قال تعالى " ولكلٍ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا " وإِنِ افترقتا عند المقابلة في قولهم: المؤمنون في درجاتٍ، والكفَّارُ في دركاتٍ. 46 - قوله تعالى: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. .) قال ذلك مع أنهم كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما قتلوا أنبياء قطُّ، لكنهم لما رَضُوا بقتل أسلافهِم أنبياءهم، نُسب الفعلُ إليهم. 47 - قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ وَأنَّ اللَّهَ

لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ) . قاله هنا. . بجمع اليد، لأنه نزل في قومٍ تقدَّم ذكرهم، وقاله في الحج بتثنِيتها لأنه نزل في " النَّضر بن الحارث " أو في " أبي جهل " والواحد ليس له إلَّا يدان. 48 - قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ) . فإِن قلت: " ظلام " صيغة مبالغةٍ من الظلم، ولا يلزم من نفيها نفيه، مع أنه منفيٌّ عنه قال تعالى " ولا يظلمُ ربُّك أحداً "؟ قلتُ: صيغةُ المبالغة هنا لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم، كما في قوله تعالى " مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكم " إذِ التشديد فيه لكثرة الفاعلين، لا لتكرار الفعل. أو الصيغةُ هنا للنسبة، أي لا يُنسب إليه ظلمٌ، فالمعنى ليس بذي ظلمٍ. 49 - قوله تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. .) جوابُ الشرط محذوفٌ، إذْ لا يَصْلحُ قولُه "

فقد كُذِّب رسلٌ من قبلك " جواباً له، لأنه سابقٌ عليه. والتقديرُ: فإِن كذَّبوك فتأَسَّ بمن كُذّب من الرسل قبلك، فهو من إقامة السبب مقام المسبّب. 55 - قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ. .) أي أجسادها إذِ النّفْس لا تموت، ولو ماتت لَمَا ذاقت الموت في حال موتها، لأن الحياة شرِطٌ في الذوق وسائر الِإدراكات، وقولُه تعالى " اللَّهُ يتوفى الأنفس حين موتها " معناه حين موت أجسادها. 51 - قوله تعالى: (وَإِذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أوْتُوا الكِتَابَ لتُبيِّنُنَّهُ لِلنَاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ. .) . إنْ قلتَ: ما فائدةُ " ولا تكتمونه " بعد " لتبينُنَّه للنَّاس " مع أنه معلومٌ منه؟ قلتُ: فائدته التأكيدُ، أو المعنى لتبينُنَّه في الحال، ولا تكتمونه في المستقبل. 52 - قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ. .) .

إن قلتَ: هذا يقتضي خزيَ كلِّ من يدخُلها، وقولُه " يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ " يقتضي انتفاء الخزي عن المؤمنين فلا يدخلون النار؟ قلتُ: " أخزى " في الأول من " الخِزْي " وهو الإِذلالُ والِإهانة، وفي الثاني من " الخِزاية " وهي النَّكالُ والفضيحةُ، وكلُّ من يدخل النار يذلُّ، وليس كلُّ من يدخلها يُنكَّل به. فالمراد بالخزي في الأول الخلودُ. . وفي الثاني تَحلَّةُ القَسَم. أو التطهير بقدر ذنوب الداخل. 53 - قوله تعالى: (رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ. .) . إن قلتَ: المسموعُ النِّداءُ لا المنادي؟ قلتُ: لما قال " منادياً يُنادي " صار معناه: نداءَ منادٍ، كما يُقال: سمعتُ زيداً يقول كذا، أي سمعت قوله، فمنادياً مفعول سمع. و " يُنادي " حال دالَّةٌ على محذوف مضاف للمفعول. 54 - قوله تعالى: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا

سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) . فإِن قلتَ: كيف قال الثاني مع أنه معلومٌ من الأول؟ قلتُ: المعنى مختلفٌ، لأن الغُفران مجرَّد فضلٍ، والتكفير محو السيئات بالحسنات. 55 - قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ. .) . أي على ألسنتهم. فإِن قلتَ: ما فائدةُ الدُّعاء، مع علمهم أن الله لا يُخلف الميعاد؟ قلتُ: فائدتُهُ العبادةُ، لأن الدُّعاء عبادة، مع أن الوعد من الله للمؤمنين عام، يجوز أن يُراد بِهِ الخصوص، فسألوا الله أن يجعلهم ممن أرادهم بالوعد. 56 - قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كفَرُوا فِي البِلاَدِ) . النَّهيُ في اللفظ " للتقلُّب " وفي الحقيقة " للنبي " والمرادُ أمته. والقصدُ بذلك النَّهيُ عن الاغترار بالتقلُّب، ففي ذكر الغرور تنزيل السبب منزلة المسبَّب، والمنعُ عن السبب -

وهو غرور تقلُّبِهم له - منعٌ للمسبَّب وهو الاغترار بتقلبهم. والمراد بتقلبهم: تصرُّفهم في التجارات، والأموال، والانتقال بِها في البلاد متنعّمين، والفقيرُ إنما يتألم وينكسر قلبُه، إذا رأى الغنيَّ يتقلَّب ويتمتع بها، فلذلك ذكر التقلب. " تَمَّتْ سُورَةُ آل عمران "

سورة النساء

سُورَة النسِّاء 1 - قوله تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا. .) أي حواء. فإِن قلتَ: إذا كانت مخلوقةً من " آدمَ " ونحنُ مخلوقون منه أيضاً، تكون نسبتُها إليه نسبةَ الولد، فتكونُ أختاً لنا، لا أمّاً؟ قلتُ: خلقُها من آدم لم يكن بتوليد، كخلق الأولاد من الآباء فلا يلزم منه ثبوت حكم البنتية والأختية فيها. قوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) أى: إذا بلغوا وإن لم يسموا أيتاما بعد البلوغ، وإنما سموا أيتاما هنا لقرب عهدهم بالبلوغ ففيه مجاز الكون.

3 - قوله تعالى: (وَلاَ تَأْكلُوا أمْوَالَهُمْ إِلَى أمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً) أي مضمومة إليها. إن قلتَ: أكلُ مال اليتيم حرامٌ وإِن لم يُضمَّ إلى مال الوصيّ، فلم خصَّ النهي بالمضموم؟ قلتُ: لأن أكل مال اليتيم مع الاغتناء عنه أقبحُ، فلذلك خصَّ النهي به، ولأنهم كانوا يأكلونه مع الاغتناء عنه، فجاء النهي على ماوقع منهم. 4 - قوله تعالى: (وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ. .) أي سواء أكان الولد ذكراً أو أنثى. وما يأخذه الأب فيما إذا كان الولد " أنثى "، من الزائد على السدس، إنما يأخذه تعصيباً، والآيةُ إنما وردت لبيان الفرض. 5 - قوله تعالى: (وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ) ذكر " الواو " فيه هنا، وتركها في التوبة، موافقة لذكرها هنا قبله، في قوله تعالى " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ " وبعده

في قوله تعالى " وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ " وقوله تعالى " وله عذاب مهينٌ " بخلاف ذلك. 6 - قوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفاهُنَّ المَوْتُ. .) أي مَلَك الموتِ، إذ المتوفّي هو الموتُ، ولا يصحّ به المعنى بغير إضمار، إذ يصير المعنى حتى يميتهن الموتُ. 7 - قوله تعالى: (إِنمَا التّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ. .) أي إنما قبولُها عليه لا وجوبُها، إذْ وجوبُها إنما هو على العبد، وتوبةُ الله رجوعُه على العبد بالمغفرة والرحمة. فإِن قلتَ: لم قيَّد " بجهالةٍ " مع أن من عمل سوءً بغير جهالة، ثم تاب قُبلت توبتُه؟ قلتُ: المرادُ " بالجَهَالةِ " الجَهَالَةُ بقدر قُبح المعصية، وسوء عاقبتها، لا بكونها " معصية " و " ذَمًا "!! وكلُّ عاصٍ جاهلٌ بذلك حال معصيته، لأنه حمال

المعصية مسلوبٌ كمالَ العلم به، بسبب غلبة الهوى. 8 - قوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. .) . ليس المراد بـ " القريبِ " مقابلةُ البعيد، إذْ حكمهما هنا واحدٌ. بل المرادُ من قوله " مِنْ قَرِيبٍ " منْ قبل معاينةِ سبب الموت، بقرينة قوله تعالى " حتَّى إذَا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إني تُبْتُ الآن ". 9 - قوله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. .) . إن قلتَ: حرمةُ الأخذ ثابتة، وإِن لم يكن قد آتاها المسمَّى، بل كان في ذمَّته أو في يده؟ قلتُ: المرادُ بالِإيتاء: الالتزامُ والضَّمانُ، كما في قوله تعالى " إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ " أي التزمتم وضمنتم. 15 - قوله تعالى: (أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) .

إن قلتَ: كيف قال ذلكَ مع أن " البُهتانَ " الكذبُ مكابرةً، وأخذُ مهرِ المرأةِ قهراً ظلمٌ لا بُهتان؟ قلتُ: المراد بالبهتان هنا الظلم تجوُّزاً، كما قال به ابن عباس وغيرُه. وقيلَ: المرادُ أنه يرمى امرأته بِتهمةٍ، ليتوصل إلى أخذ المهر. 11 - قوله تعالى: (وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَاقَدْسَلَفَ. .) . إن قلتَ: المستثنَى منه مستقبلٌ، والمستثنى ماضٍ، فكيف صحَّ استثناؤه من المستقبل؟ قلتُ: " إِلّاَ " بمعنى " بعد " أو " لكنْ " كما قيل في قوله تعالى " لا يَذوقُونَ فيهَا المَوْتَ إِلاَّ المَوْتةَ الأولى " والاستثناءُ هنا كهوَ في قوله: وَلَاعَيْب فيهِمْ غَيرَ أنَّ سيوفَهُمْ بِهنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ والمعنى: إنْ أمكن كونُ فُلولِ السيوفِ من الكتائب

عيباً، فهو عيبٌ فيهم، فهو من باب التعليق بالمستحيل. 12 - قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) . إن قلتَ: كيف جاء بلفظ الماضي، مع أن نكاحَ منكوحةِ الأب، فاحشةٌ في الحال والاستقبال؟ قلتُ: " كَانَ " تُستعمل تارةً للماضي المنقطع نحو: كان زيدٌ غنيّاً. وتارةً للماضي المتَّصل بالحال نحو " وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ". . " وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَيءٍ عليماً " ومنه " إنه كان فاحشةً ". 13 - قوله تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ. .) ذكرُ " في حُجُورِكُمْ " جَرَى على الغالبِ، فلا مفهوم له، إذِ الربيبةُ الَّتي ليست في " الحَجْرِ " حرامٌ أيضاً، بقرينة تركِه في تركه: " فإِنْ لم تكونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عليكم ". 14 - قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ. .) .

إن قلتَ: ما فائدةُ ذلك مع أنه مفهوم من قوله " وأحِلَّ لكُمْ ما وَرَاءَ ذلكُمْ " ومن مفهوم قوله " منْ نِسَائِكُمُ اللَّاتي دخلتُمْ بِهِنَّ ". قلتُ: فائدتُه رفعُ توهُّمِ أنَ " قيْدَ الدخولِ " خرج مَخْرج الغالب، كما قيل: في حجوركم. 15 - قوله تعالى: (أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ. .) . اقتصر عليه هنا، لأنه في " الحرائر " المسلمات، وهنَّ إلى الخيانةِ أبعدُ من بقيةِ النساء. وزادَ بعدُ في قوله " مُحْصَناتٍ غيرَ مُسَافِحاتٍ ولا مُتخِذاتِ أخْدَانٍ " لأنه في " الِإماء " وهنَّ إلى الخيانة أقربُ من حرائر المسلمات. وزاد أيضاً في المائدة في قوله " محصنينَ غيرَ مُسَافحينَ " قولَه " ولا متَّخِذي أخدَانٍ " لأنه في " الكتابياتِ " الحرائر، وهنَّ إلى الخيانة أقرب من الحرائر المسلمات.

16 - قوله تعالى: (فَانْكِحُوهُنَّ بإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. .) أي الِإماء، ففي " آتُوهُنَّ " حذفُ مُضَافٍ، أي وآتوا مواليهنَّ أجورهنَّ، لأن مهورهنَّ إنما تُعطى لمواليهنَّ لا لهنَّ. فإِن أعطي لهنَّ بإذن مواليهنَّ فلا حذف. 17 - قوله تعالى: (فَإِذَا أحْصِنَّ. .) أي تزوجن. فإِن قلتَ: الِإحصانُ ليس قيداً، في وجوب تنصيف الحدِّ على الأمَةِ إذا زنت، بل هو عليها أحْصِنَتْ أوْ لا؟ قلتُ: ذكرُ الِإحصانِ خرج مَخْرج جواب سؤالٍ، فلا مفهوم له، إذِ الصحابة عرفوا مقدار حدِّ الأمة التي لم تتزوج، دون مقداره من التي تزوجت، فسألوا عنه فنزلت الآية. 18 - قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. .) اللامُ في " ليبيِّن " بمعنى " أن " كما في قوله تعالى " وأمرنا لنُسْلِم لربّ العالمين "

وقوله: " وأُمِرْتُ لَأعْدِلَ بَينَكُمْ " وقولِه: " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ " وقد قال في محلٍّ آخر " يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ ". 19 - قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً. .) أي أموال تجارة. خصَّ التِّجارة بالذِّكر عن غيرها كالهِبةِ، والصَّدقةِ، والوصيَّة، لأنَّ غالب التصرف في الأموال بها، ولأن أسباب الرزق متعلقة بها غالباً. 20 - قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كفَرُوا وَعَصُوا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الَأرْضَ. .) أي بأن يكونوا تراباً مثلها لعظم هوله، كما قال في الآية الأخرى " وَيَقُولُ الكافِرُ يا ليتني كنتُ تراباً ". 21 - قوله تعالى: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكمْ وَأيْدِيكُمْ. .) الآية. زاد في المائدة عليه " منه "، لأنَّ المذكور ثَمَّ جميعُ واجباتِ الوضوء والتيمُّم، فحسُنَ البيانُ والزِّيادةُ،

بخلاف ما هنا فحسُنَ التَّركُ. 22 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ. .) الآية. قال ذلك هنا، وقال في غيره " يا أهل الكتابِ " لموافقة التعبير هنا قبله وبعده " بالَّذينَ أُوْتُوا ". ولأنه تعالى استخفَّ بهم هنا قبلُ، وختم بعد بالطمس وغيره، بخلاف ذلك في غير هذا الموضع. 23 - قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. .) أي من العَالِمِ المتعمِّد. 24 - قوله تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ باللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) . ختم الآية مرَّة بقوله: " فقدِ افْتَرَى إثْماً عَظِيماً ". ومرَّة بقوله: " فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالَاَ بعيداً ". ولا تكرارَ فيه وإِن اشتركا في الضلال، لأن الأول نزل في اليهود، والثاني في كفارٍ لا كتاب لهم، وخصَّ ما نزل في " اليهود " بالافتراء، لأنهم حرَّفوا وكتموا ما في

كتابهم وذلك افتراء، بخلافه في الكفار الذين لا كتاب لهم. 25 - قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ. .) الآية. إن قلتَ: كيف ذمَّهم على ذلك، بما قاله ونهى عنه بقوله: " فَلَا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ " مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " واللَّهِ إنّي لأمينٌ في السماء، أمينٌ في الأرض " وقول يوسف عليه السلام: " قالَ اجْعَلْني عَلى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حفِيظٌ عَليمٌ "؟ قلتُ: إنما قال النبىُّ ما قاله حين قال المنافقون " اعْدِلْ في القسمة " تكذيباً لهم، حيثُ وصفوه بخلافِ ما كان عليه من العدل والأمانة. وإِنما قال " يوسف " ما قاله، ليتوصَّل إلى ما هو وظيفةُ الأنبياء، وهو إقامةُ العدل، وبسطُ الحقِّ. ولأنه عَلِمَ أنه لا أحد في زمنه أقوم منه بذلك العمل، فكان متعَيّناً عليه.

26 - قوله تعالى: (كلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا. .) أي بأن تُعاد إلى حالها الأول غيرَ منضجة أي متحرِّقة، فالمرادُ تُبدَّل الصفة لا الذَّاتُ، كما في قوله تعالى: " يومَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غيرَ الأرْضِ والسمواتُ ". 27 - قوله تعالى: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) . هو عبارةٌ عن المستلذِّ المستطيب كقوله تعالى " ولهمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرةً وعشيّاً " جرياً على المتعارف بين الناس، وإِلَّا فلا شمس في الجنة طالعة ولا غاربة، كما أنه لا بكرة فيها ولا عشيّة. 28 - قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ. .) الآية. إن قلتَ: هذا مدحٌ لمن يطيعُ اللَّهَ والرسول، وعادةُ العرب في صفات المدح، الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى، وهذا عكسُه؟

قلتُ: ليس هو من ذاك الباب، بل المقصودُ منه الإِخبارُ إجمالَاَ عن كون المطيعين للَّهِ ولرسوله، يكونون يوم القيامة مع الأشراف، وقد تمَّ الكلامُ عنه قوله " أنعمَ اللَّهُ عليهمْ " ثم فصَّلهم بذكر الأشرف فالأشرف بقوله " من النبيِّين " إلى آخره جرياً على العادة في تعديد الأشراف. ومثلُه " أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمر منكم " وكذلك " شهد اللَّهُ أنه لا إِله إلّا هو والملائكةُ وأولو العلم ". 29 - قوله تعالى: (إِنَّ كيْدَ الشَّيْطَانِ كانَ ضَعِيفاً) . إن قلتَ: كيف وصف فيه كيد الشيطان بالضعف، وفي قوله " إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ " وصف كيد النِّساءِ بالعِظَم، مع أن كيد الشيطان أعظم؟ قلتُ: المرادُ أن كيد الشيطان ضعيفٌ بالنسبة إلى نصرةِ الله أولياءَه، وكيدُ النساءِ عظيم بالنسبة إلى الرجال.

ْ30 - قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. .) الآية. جُمعِ بينه وبين قوله تعالى " قُلْ كُلٌّ من عندِ اللَّهِ " الواقع ردّاَ لقول المشركين " وإِن تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند الله. . " الآية. بأن قوله تعالى " قُلْ كُلٌّ من عند الله " أي إيجاداً. وقوله " ومَا أصابَكَ مِنْ سَيِّئَةً فمنْ نفسِكَ " أي كسباً. كما في قوله تعالى " وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبتْ أيديكم ". وبأن قوله " ما أصابك من حسنةٍ فمن الله " الآية حكايةُ قول المشركين (1) ، والتقدير: فما لهؤلاءِ القومِ لا يكادونَ يفقهونَ حديثاً فيقولون: ما أصابك؟ الآية. 31 - قوله تعالى: (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاَ كَثِيراً) . يدلُّ بمفهومه على أن في

قوله تعالى: القرآن اختلافاً قليلًا، وإِلَّا لما كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة، مع أنه لا اختلاف فيه أصلاً، إذ المرادُ بالاختلاف فيه: التناقض في معانيه، والتبايُن في نظمه. وأُجيبَ بأن التقييد بالكثرة، للمبالغة في إثبات الملازمة، أي لو كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، فضلاً عن القليل، لكنَّه من عند الله، فليس فيه اختلافٌ كثيرٌ ولا قليل. 32- قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) . إن قلتَ: كيف استثنى القليلَ، بتقدير انتفاء الفضل والرحمة، مع أنه لولاهما لاتَّبع الكلُّ الشيطان؟ قلتُ: الاستثناءُ راجعٌ إلى " أذاعوا به " أوِ إلى " لَعَلمَهُ الَّذِينَ يَسْتنبِطُونَهُ مِنهمْ " أو إلى " لاتبعتمُ الشَّيْطانَ " لكن بتقييد الفضل والرحمة بإِرسال الرسول، أي لاتبعتم الشيطانَ في الكفر والضلال، إِلّاَ قليلًا منكم كانوا يهتدون بعقولهم، إلى معرفة الله وتوحيده، " قِسِّ بن ساعدة " و " ورقة بن نوفل " قبل البعثة، والخطابُ في الآية للمؤمنين.

33 - قوله تعالى: (كلَّمَا رُدُّوا إِلَى الفِتْنَةِ) أي دُعوا إليها (أرْكِسُوا فيها) أي عادوا إليها، وقُلِبوا فيها أقبح قلب. 34 - قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّاَ خَطَأً. .) الآية. فإِن قلتَ: " إلَّا " هنا في قوله " إِلَّا خطأً " ما معناها؟ قلتُ: " إِلَّا " بمعنى " ولا " كما في قوله تعالى " إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَم " وقوله " لِئَلَّا يكونَ للنَّاسِ عليكُمْ حُجَّةٌ إِلّاَ الّذِينَ ظَلَمُوا منهُمْ ". 35 - قوله تعالى: (وفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال هنا " درجة " وقال في التي بعدها " درجاتٍ "؟

قلتُ: المرادُ بالأول تفضيلُهم على القاعدين بعذر، لأن لهم أجراً لكونهم من الغزاة بالهمَّة والقصد، ولهذا قال " وكُلَّاَ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى " أي الجنَّة. والمرادُ بالثاني تفضيلُهم على القاعدين بلا عذر، لأنهم مقصِّرون ومسيئون، فكان فضلُ الغزاة عليهم درجات، لانتفاء الفضل لهم. 36 - قوله تعالى: (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كنَّا مُسْتَضْععَفِينَ فِي الأرْضَ. .) الآية. إن قلتَ: هذا الجواب ليس مطابقاً للسؤال، بل المطابقُ له: كنَّا في كذا، أولم نكنْ في شيء؟ قلتُ: المرادُ بالسؤال توبيخُهم بأنهم لم يكونوا على الدِّين، حيثُ قدروا على الهجرة ولم يُهاجروا، فصار قول الملائكة " فيمَ كنتم " مجازاً عن قولهم: لمَ تركتُم الهجرة؟ فقالوا اعتذاراً عمَّا وُبِّخوا به " كُنَّا مستضعفين في الأرض ". 37 - قوله تعالى: (فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. .) الآية. أي ثبتَ وتحقَق، أو وجب بوعد الله

بقوله " إِنَّا لا نُضيعُ أجْر مَنْ أحسن عملَاَ ". 38 - قوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الَأرْضِ مُرَاغَماً) أي متحولًا يتحوَّلُ إليه، من " الرَّغام " وهو التُّراب، وسُمّيت المهاجَرةُ مراغمةً، لأن من يُهاجر يُراغم قومه، لما يجد في ذلك البلد من النّعمةِ والخير، ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه، الذين كانوا معه في بلده الأصليّ، فإِنه إذا استقام حالُه في البلد الأجنبيّ، ووصل خبرُه إلى أهل بلده، خجلوا من سوء معاملتهم له، ورغِمَتْ أنوفُهم بذلك. 39 - قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الَأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفتِنَكُمُ الَّذِينَ كفَرُوا. .) الآية. تقييدُ القصرِ بالخوف جرى على الغالب، فلا مفهوم له، إذْ للمسافر القصرُ في الأمن أيضاً. 40 - قوله تعالى: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ. .) الآية.

إن قلتَ: رجاءُ الفريقين مشتركٌ، إذِ الكفَّارُ يرجون الثواب في قتالهم المؤمنين، لاعتقادهم أنه قُرْبةٌ للَّهِ، كالمؤمنين في قتالهم الكفَّارَ؟ قلتُ: ممنوعٌ إذِ المرادُ بالكفَّار عبدةُ الأوثانِ، ونحوهم ممن لا يعتقد الجزاء، فاعتقادُهم فاسدٌ لبنائه على فاسد، فرجاؤهم وهميٌّ فهو كالمعدوم. 41 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوْءً أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. .) الآية المرادُ بعمل السُّوءِ ما دونَ الشِّركِ، وبظلم النَّفسِ الشِّرْكُ. أو بعمل السُّوءِ الذَّنبُ المتعدِّي ضررُه إلى الغير، وبظلم النفسِ الذنبُ القاصرُ عليه. 42 - قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضلُّوكَ. .) الآية. إن قلتَ: ظاهرهُ نفيُ وقوع الهَمِّ منهم بإِضلاله، والمنقولُ خلافُه؟ قلتُ: المرادُ بالهَمِّ المؤثِّرُ أي لَهمَّتْ هَمّاً يُؤثّر عندك. والمرادُ بالِإضلالِ الِإضلالُ عن الشريعة أي لهمَّتْ أن يضلوك عن دينك وشريعتك، وكلٌّ من هذين

الهمَّيْن لم يقع. 43 - قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى. .) قاله هنا بالِإظهار " يُشَاقِقْ " كنظيره في الأنفال، وقاله في الحشر بالِإدغام، لأن " أل " في اللَّهِ لازمة، بخلافها في الرسول، ولأن حركة الحرف الثاني في ذلك وإِن كانت لالتقاء الساكنَيْنِ كاللازمة لمجاورتها اللازم، فلزم الِإدغامُ في " الحشر " دون غيرها، وإِنما أظهر في الأنفال مع وجود لفظ " اللَّهِ " لانضمام الرسول إليه في العطف، لأن التقدير فيه أن الحرف الثاني اتَّصَل بالمتعاطفيْن جميعاً، إذِ الواوُ تُصيِّرهما في حكم شيءٍ واحد. 44 - قوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ. .) الآية. أي إن ماتَ مصرّاً عليه، فإِنْ تاب منه لم يُجْزَ به. 45 - قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كَونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ. .) الآية، أخَّر " للَّهِ "

بالقِسْطِ هنا، اهتماماً بطلب القِسْطِ أي العدل، وَعَكَسَ في المائدة، لأن " للَّهِ " فيها متعلِّقٌ بقوَّامين، لكون الآية ثَمَّ في الوُلاةِ بدليل قوله " ولا يجرمنكم شنئان قوم على أَلاَّ تعدِلوا " أي كونوا أيها الولاةُ قوَّامين في أحكامكمَ للَّهِ لا للنفع. 46 - قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمنوا آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ. .) الآية، أي داوموا على الِإيمانِ، إذْ لو حُمِل على ظاهرِه، لكان تحصيلاً للحاصل. 47 - قوله تعالى: (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ. .) الآية. سَمَّى ظفرَ المسلمين فتحاً، وظَفَر الكافرين نصيباً بعده، تعظيماً لشأن المسلمين، وتحقيراً لحظِّ الكافرينَ، لتضمُّنِ الأول نصرةَ دينِ اللَّه، وإِعلاء كلمته، ولهذا أضاف الفتحَ إليه تعالى، وحظُّ الكافرين في ظفرهم دنيويٌّ. 48 - قوله تعالى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً) كرَّره لتكرار الكفر منهم، فإِنهم كفروا

بموسى وعيسى وبمحمد - صلى الله عليه وسلم. 49 - قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ. .) الآية. إن قلتَ: اليهودُ الداخلون تحت أهل الكتاب، كانوا كافرين بعيسى، فكيف أقرُّوا بأنه رسولُ الله؟! قلتُ: قالوه استهزاءً كما قال فرعون " إِنَّ رسولكُمُ الَّذِي أُرْسِل إِليكم لَمَجْنُونٌ ". 55 - قوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ. .) الآية وصفُهم بالشكِّ لا يُنافي بعده وصفهم بالظنِّ، لأنَّ المراد بالشكِّ هنا " شكُّ الظنِّ " واستثناءُ الظنِّ من العلم في الآية منقطعٌ، فـ " إِلّاَ " فيها بمعنى " لكِنْ " كما في قوله تعالى " لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاَماً سَلاَماً " ونحوِهِ. 51 - قوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشهَد بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ. .) الآية.

إن قلتَ: كيف قال " أنزلَه بعلمِهِ " ولم يقل: بقدرته، أو بعلمه وقدرته، مع أنه تعالى لا يُنزل إلَّا عن علمٍ وقُدرة؟! قلتُ: معناه أنزله مُلتبساً بعلمه، أي عالماً به، أو وفيه علمُه أي معلومُه. 52 - قوله تعالى: (إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكلِمَتُهُ. .) الآية. فإِن قلتَ: كلامُه تعالى صفة قديمةٌ قائمةٌ بذاته، وعيسى مخلوقٌ وحادث، فكيف صحَّ إطلاقُ الكلمة عليه؟! قلتُ: معناه أن وجوده كان بكلمة الله تعالى، وهو قوله " كُنْ " من غير واسطةِ أبِ، بخلاف غيره من البشر سوى آدم، وإِنما خصَّ ذلكَ بعيسى لأنه جيء به للرد على من افترى عليه وعلى أمه مريم. " انتهت سورة النساء "

سورة المائدة

سُورة المَائِدَة 1 - قوله تعالى: (وَمَا أكَلَ السَّبُعُ إِلّاَ مَا ذَكيْتُمْ. .) الآية. أي وما أكل منه السَّبُع وهو الباقي، إذْ ما أكله السَّبُع عُدِم وتعذَّر أكله، فلا يَحْسُنُ تحريمُه. 2 - قوله تعالى: (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. .) الآية. حذفت الياء فيه، وفي قوله تعالى " واخشَوْنِ ولا تَشْتَروا بآياتي ثَمَناً قَليلاً " لفظاً وخطّاً. أما لفظاً ففي هذه لالتقاء الساكنيْنِ، وفي تلك فَتبَعاً لهذه. وأما خطّاً فتبعاً لحذفها لفظاً، وأثْبِتتْ فيما عدا ذلك عملاً بالأصل.

3 - قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الِإسْلَامَ ديناً. .) الآية جملةٌ مستأنفةٌ، لا معطوفةٌ على أكملتُ في قوله " اليومَ أكملتُ لكم دينكم " وإلَّا كان مفهومُ ذلك، أنه لم يرضَ لهم الِإسلام ديناً، قبل ذلك اليوم، وليس كذلك. 4 - قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مَنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ. .) الآية. إن قلتَ: ما فائدة ذكره بعد قوله " وما علمتم من الجوارحِ " والمكلِّب هو معلم الكلاب للصيد وفيه تكرارٌ؟ قلتُ: قد فُسِّر " المكلِّب " بأنه المُغْري للجارح فلا تكرار، وفي الآية إضمارٌ بقرينة قوله " فكلوا مما ذكر اسمُ الله عليه " أي ومَصِيدُ ما علَّمْتم من الجوارح، وإلّا فالجوارح لا تحلُّ وإن كانت معلَّمة. 5 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُر بِالِإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. .) الآية.

قياسُ قولِهِ " وَمَنْ يُؤْمنْ باللَّهِ " أن يُقالَ: وَمَنْ يكفرْ باللَّهِ، فالمرادُ بالكفر هنا الارتداد، والباءُ بمعنى " عَنْ " كما في قوله " سأل سائلٌ بعذابٍ واقع " أي ومن ارتدَّ عن الِإيمان. وقيلَ: المرادُ بالِإيمان المؤمَنُ به، تسميةً للمفعول بالمصدر، كما في قوله تعالى " أُحِلَّ لكم صيدُ البحر " أي مصيدُه. 6 - قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) . ثمِ قال تعالى " واتقوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خبيرٌ بما تعملون ". غايَر بينهما لأنَّ الأول وقع في النية، المأخوذة من آية التيمُّم والوضوء، والنيَّةُ محلُّها ذات الصُّدور، والثاني في العمل. 7 - قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةْ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) .

رفع أجر هنا ونصبَه في الفتح في قوله (وعدَ اللَّهُ الذينَ آمنوا وعملُوا الصَّالحاتِ منهمْ مغفرةً وأجراً عظيماً) موافقة للفواصل. ومفعولُ " وَعَدَ " هنا محذوفٌ تقديره خيراً. فإن قلتَ: كيف قال: وعملوا الصَّالحاتِ ولم يقل: وعملوا السِّيئات، معَ أن المغفرة إنما هي لفاعلِ السِّيئات؟! قلتُ: كلُّ أحدٍ ممَّن ليس بمعصوم، لا يخلو عن سيّئة وإن كان ممن يعمل الصالحات، فالمعنى أنَّ من آمن وعمل حَسناتٍ غُفرتْ له سيئاتُه كما قال تعالى: " إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ". 8 - قوله تعالى: (فَمَنْ كفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) . فإن قلتَ: كيف قال ذلكَ، مع أنَّ من كفر قبل ذلِكَ كذلك؟ قلتُ: نعمْ لكنَّ الكفر بعدما ذُكِرَ من النِّعَمِ أقبحُ ممَّا قبله.

9 - قوله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. .) الآية. وقال بعده (يُحرِّفون الكَلِمَ مِنْ بعدِ مواضعِهِ) لأن الأول في أوائل اليهود، والثاني فيمن كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي حرَّفوها بعد أن وضعها الله مواضعها، وعرفوها وعملوا بها زماناً. 10 - قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ. .) الآية. إن قلتَ: لمَ قال ذلك ولم يقل: ومن النَّصَارى. قلتُ: إنما قاله توبيخاً لهم، لأنهم كانوا كاذبين في دعواهم أنهم نصارى، ادِّعاءً منهم لنصرة اللَّهِ بعدما اختلفوا " نسطورية " و " يعقوبيّة " و " ملكانيَّة " أنصار الشياطين. 11 - قوله تعالى: (يَا أهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لكُمْ كثِيراً ممَّا كنْتُمْ تُخْفونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو

عَنْ كثِيرٍ. .) الآية. إن قلتَ: لمَ عَفَا، أي تَرَك كثيراً ممَّا أخفَوْه من كتابهم، مع أنه مأمورٌ ببيانه؟ قلتُ: إنما لم يبيِّنْه لأنه لم يُؤمر ببيانه، أولأن المأمور ببيانه ما يكون فيه إظهارُ حكمٍ شرعيّ، كصفته، وبعثته، والبشارة به، وآية الرجم، دون ما لم يكن فيه ذلك ممَّا فيه افتضاحُهم، وهتكُ أستارهم فيعفو عنه. 12 - قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمِْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانهُ) . إن قلتَ: كيف قال ذلكَ، مع أن العبد ما لم يهده الله لا يتَّبع رضوانه فيلزم الدَّورُ؟ قلتُ: فيه إِضْمارٌ تقديرُه: يهدي به اللَّهُ منْ علِم أنه يريد أن يتَّبع رضوانه، كما قال: " والَّذينَ جاهَدُوا فينَا لَنَهْدِينَّهمْ سُبُلَنَا) أي والّذين أرادوا سبيل المجاهدة لنهدينهم سبيل مجاهدتنا. 13 - قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالَأرْض

وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ) . فإن قلتَ: لمَ كرَّرها وختم الأولى بقوله (واللَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ) والثانية بقوله (وإليهِ المَصِيرُ) ؟ قلتُ: لأنَّ الأولى نزلت في النَّصارى، حين قالوا " إن اللَّهَ هو المسيحُ ابنُ مريم " فردَّ الله عليهم بقوله " وللَّهِ مُلْكُ السَّمواتِ والأرضِ " تنبيهاً على أنه مالكٌ لعيسى وغيره، وأنه قادرٌ على إهلاكه وإهلاك غيره. والثانيةُ: في اليهود والنَّصارى، حين قالوا " نحنُ أبناءُ اللَّهِ وأحبَّاؤُه " فردَّ الله تعالى بقوله " وللَّهِ مُلْكُ السَّمواتِ والأرضِ " تنبيهاً على أن الجميع مملوكون له ومصيرهم إليه، يُعذِّب من يشاء ويغفر لمن يشاء، ولو كان " عيسى " ابنه لم يملكه ولم يعذبه، إذِ الأب لا يملك ابنه ولا يعذّبه. 14 - قوله تعالى: (وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أبْنَاءُ اللَّهِ وَأحِبَّاؤُهُ. .) الآية.

فإن قلتَ: كيف أخبر الله عنهم أنَّهم قالوا: نحنُ أبناءُ اللَّهِ، مع أنه لم يُعرفْ أنَّهم قالوه؟! قلتُ: المرادُ بـ " أبناءُ اللَّهِ " خاصَّتُه كما يُقال: أبناءُ الدنيا، وأبناءُ الآخرة. وقيل: فيه إضمارٌ تقديره: نحنُ أبناءُ أنبياءِ اللَّهِ. 15 - قوله تعالى: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. .) الآية. إن قلتَ: كيف يصحُّ الاحتجاج عليهم به، مع أنهم ينكرون تعذيبَهم بذنوبهم، مدَّعين أن ما يُذنبون بالنَّهار يُغفرُ بالليل وبالعكس؟ قلتُ: هم مقرُّون بأنهم يُعذَّبون أربعين يوماً، مدة عبادتهم العجل في غيبة " موسى " عليه الصلاة والسلامٍ لميقات ربه كما قال تعالى " وَقَالُوا لَنْ تمسَّنَا النَّارُ إِلّاَ أَيَّاما معدودة ". 16 - قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. .) .

قال ذلك هنا، وقال في إبراهيم " وإذْ قَالَ موسَى لقَوْمِهِ اذكُرُوا " لموافقة ما قبله وما بعده من النِّداء، أو لأن التصريح باسم المخاطب مع حرف الخطاب يدلُّ على تعظيم المخاطَبِ به، وقد ذُكِرَ هنا نِعَمٌ جِسامٌ، وهو قوله " جَعَلَ فيكمْ أَنْبياءَ " فناسب ذكر " يا قومِ " بخلاف ذلك في إبراهيم. 17 - قوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِكُّمْ غَالِبُونَ) . هو من مقول الداخلين. فإن قلتَ: من أين عَلِما أنَّهم غالبون حتَّى قالا ذلك؟! قلتُ: من جهةِ وُثوقِهم بإخبار موسى عليه السلام بقوله " ادخلُوا الأرْضَ المقدَّسَةَ التي كَتَبَ اللَّهُ لكُمْ ". وقيل: عَلِمَا ذلكَ بغلبة الظنِّ، وما عهداه من صُنْعِ الله تعالى بموسى عليه السلام من قهر أعدائِهِ. 18 - قوله تعالى: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ. .) .

إن قلتَ: هذا يُنافي قوله قبْلُ " ادخلُوا الأرضَ المقدَّسةَ التي كَتَبَ اللَّهُ لكمْ "؟ قلتُ: لا منافاةَ لأنَّ المعنى: كتبَها لكم بشرط أن تُجاهدوا أهلها، فلمَّا أبَوْا حُرِّمتْ عليهم. أو كلٌّ منهما " عَامٌّ " أُريد بهِ " خاصٌّ " فالكتابة للبعض، وهم المطيعون، والتحريمُ على البعضِ، وهم العاصون. 19 - قوله تعالى: (واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ إِذْ قَرَّبَا قُرْ بَاناً. .) الآية. هو للجنس، والمرادُ إذْ قربا قربانينِ. 20 - قوله تعالى: (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ) . إن قلتَ: كيف يصحُّ جواباً لقوله " لأقْتُلنَّكَ "؟ قلتُ: لمَّا كان الحسدُ لأخيه على تقبُّل قربانه، هو الحاملُ له على توعُّده بالقتل، قال: إنما أتيتَ من قبَل نفْسِك، لانسلاخها من لباس التَّقوى، فلم يُتقبَّلْ قُربانُك.

21 - قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُؤَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ. .) الآية. أي بإثم قتلي، وإثمكَ الذي ارتكبتَه من قِبَلي، وهو توعُّدك بقتلي. فإن قلتَ: كيف قال " هابيلُ " لقابيلَ ذلكَ، مع أنَّ إرادةَ الشخصِ السُّوءَ، والوقوعَ في المعصية لغيره حرام؟! قلتُ: في ذلك إضمارُ " لا " تقديره: إني لا أريد أن تبوء بإِثمي، كما في قوله تعالى " تَاللَّهِ تَفْتَأ تَذْكُرُ يوسفَ " أي لا تفتأ، أو إضمارُ مضاف تقديره: إني أريد انتفاء أن تبوء كما في قوله تعالى: " وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ العِجْلَ " أي حبَّه. 22 - قوله تعالى: (فَأصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) إن قلتَ: هذا يقتضي أن " قابيل " كان تائباً، والنَّدمُ توبةٌ لخبرِ " النَّدَمُ تَوْبَةٌ " فلا يستحقُّ النَّارَ؟! قلتُ: لم يكن ندمُه على قتلِ أخيهِ، بل على حمْلهِ

على عنُقهِ، أو على عدم اهتدائه للدَّفن الذي تَعلَّمه من الغراب، أو على فقدِهِ أخاه، أو على قتلِ أخيه، لكنَّ مجرَّد النَّدمِ ليس بتوبةٍ، إذِ التوبةُ إنَّما تتحقق بالإِقلاع، وعزم ألَّا يعود، وتدارك ما يمكن تداركه. 23 - قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. .) الآية. إن قلتَ: كيف يكون قتلُ الواحدِ كقتل الكُلِّ، مع أن الجناية إذا تعدَّدت كانت أقبح؟! قلتُ: تشبيهُ أحد الشيئين بالآخر، لا يقتضي تساويهما من كلّ وجه، ولأن المقصود من ذلك المبالغةُ، في تعظيم أمر القتلِ العمدِ العدوانِ. أو لأن المعنى: من قَتَل نفساً بغير حقٍّ، كان جميع النَّاس خصومَه في الآخرة مطلقاً، وفي الدُّنيا إن لم يكن له وليٌ.

أو المعنى: من قَتَل نبيّاً، أو إماماً عادلًا، كان كمن قتل الناس جميعاً، من حيث إبطال المنفعة عن الكلّ. 24 - قوله تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الِإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الإِنجيل منسوخٌ بالقرآن؟! قلت: معناه " وليحكمْ أهل الِإنجيل بما أنزل اللَّهً فيه بما لم يُنسخ بالقرآن ". أو المعنى: لمَّا أنزلنا الِإنجيل قلنا: (وليحكمْ أهل الِإنجيل بما أنزل اللَّهُ فيه) . 25 -قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرونَ) . كرَّره ثلاث مراتٍ، وختم الأولى بقوله " الكَافِرونَ " والثانية بقوله " الظَّالمونَ " والثالثة بقوله " الفَاسِقونَ "!!

قيل: لأنَّ الأولى في حُكَّام المسلمين، والثانية في حُكَام اليهود، والثالثة في حُكّام النَّصارى. وقيلَ: كلُّها بمعنى واحد وهو " الكفرُ " عبَّر عنه بألفاظٍ مختلفة، لزيادة الفائدة، واجتناب التَّكرار. وقيل: " ومن لم يحكم بما أنزل اللَّهُ " إنكاراً له فهو كافرٌ، ومن لم يحكم بالحقِّ، مع اعتقاده للحقِّ، وحَكَم بضدِّه فهو ظالمٌ، ومن لم يحكم بالحقِّ جهلاً وحكم بضدِّه فهو فاسقٌ. وقيل: ومن لم يحكم بما أنزلَ اللَّهُ فهو كافرٌ بنعمة الله، ظالمٌ في حكمه، فاسقٌ في فعله. 26 - قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْض ذُنوبِهِمْ. .) الآية. قلت: أراد به عقوبتهم في الدُّنيا، على تولّيهم عن الِإيمان، بالسَّبْيِ، والجزية وغيرهما، وهذه العقوبة

منقطعة، بخلاف عقوبة الآخرة، فإنها على جميع الذنوب، من تولِّيهم عن الإِيمانِ، وعن جميع فروعهِ، ودائمةٌ لا تنقطع. 27 - قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْم يُوقِنُونَ) . ًإن قلتَ: لم خصَّ " الموقنين " بالذّكر، مع أنَّ أحسنيَّةَ حكمِ اللَّهِ لا يختصُّ بهم؟ قلتُ: لأنهم أكثر انتفاعاً بذلك من غيرهم، كنظيره في قوله تعالى: " إنَّمَا أنتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ". 28 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) . إن قلتَ: هذا يقتضي أنَّ منْ وادَّ أهلَ الكتابِ يكونُ كافراً، وليس كذلك؟! قلتُ: إنما قال ذلك مبالغةً في اجتناب المخالِفِ في الدِّينِ. أو لأن الآية نزلتْ في " المنافقين " وهم كفَّارٌ، وقولُه تعالى " إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمينَ " أي ما داموا

على ظلمهمِ، والمعنى: لا يهدي من سبق في علمه أنه يموت ظالماَ. 29 - قوله تعالى: (أذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين. .) " على " بمعنى اللّاَم، أو ضَمَّنَ الذلَّةَ معنى " العطف " فعدَّاها تعديته، كأنه قال: عاطفين على المؤمنين. 30 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَتوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ) المرادُ بالغلبة فيها، الغلبةُ بالحجَّة والبرهان، فإِنها مستمرَّةٌ أبداً، لا بالدَّوْلةِ والصَّوْلةِ، وإِلّاَ فقد غُلبَ حزبُ اللَّهِ غير مرَّة، حتَّى في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 31 - قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْد اللَّهِ. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن المثوبة مختصَّةٌ بالِإحسان؟

قلتُ: لا نُسلم اختصاصها بذلك لغةً، بل هي الجزاء مطلقاً، بدليل قوله تعالى " فأثابكم غمّاً بغمٍ " وقوله " هل ثُوِّبَ الكفَّارُ ما كانوا يفعلون "؟ أي هل جوزوا. غايته أن الثواب قد يكون خيراً، وقد يكون شرّاً، يُقصد به " التهكُّمُ والاستهزاءُ " كلفظ البشارة، لا اختصاص له لغةً بالخير، بل هو شاملٌ للشرِّ، قال تعالى " فبشرهم بعذاب أليم ". 32 - قوله تعالى: (وَلَوْ أنَّهُمْ أقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالِإنْجِيلَ ومَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَيِّهِمْ) وقضيَّتُه أنَّ إقامةَ الكتاب، توجبُ سعة الرِّزق والرخاء. فإِن قلتَ: ليس الأمر كذلك، لأنَّا نجد كثيراً من المؤمنين، ضيِّقي المعيشة في الدنيا؟ قلتُ: القضيَّةُ خاصةٌ بأهل الكتاب، لأنهم شكَوا ضيقَ الرزق، حتَّى قالوا " يدُ اللَّهِ مغلولةٌ " فأخبرهم الله أن ذلك التضييق عقوبة لهم، بعصيانهم وكفرهم، والله تعالىِ يجعل ضيق الرزق وسعته، نعمة في بعض عباده، ونقمةَ على الآخرين، فلا يلزم من توسيع الرزق الِإكرامُ، ولا من تضييقه الِإهانة.

33 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَم تَفعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) . إن قلتَ: ما فائدته مع أنه معلومٌ أنه إذا لم يُبلِّغْ ما أُنزِل إِليه، لم يكن قد بلَّغ الرسالة؟ قلتُ: فائدته الحثُّ على تبليغ معايب اليهود، حتَّى لو فُرض كتمانُ حرفٍ واحد، كان في الِإثم ككتمان الجميع. أو الأمر بتعجيل التبليغ، لأنه كان عازماً على تبليغ جميع ما أنزل إليه، إلَّا أنه أخَّر البعض خوفاً على نفسه، مع بقاء العزم ويؤيده قوله تعالى " واللَّهُ يَعْصِمُكَ منَ النَّاسِ " أي من القتل، لا من جميع أنواع الأذى، كشجِّ الوجه، وكسْرِ الرباعية. أو لعلَّ الآية نزلت بعد أُحدٍ، لأن المائدة من أواخر ما نزل من القرآن!! 34 - قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ

المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم. .) الآية. كرر الآية، وختم هذه بقوله " إِنَّ اللَّهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ " والثانية بقوله (إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ ". لأن " اليعقوبيَّة " من النَّصارى، زعموا أنَ اللَّه تجلَّى في زمن على شخص " عيسى "، فظهرت منه المعجزاتُ، فصار إلهاً. والملكانية منهم زعموا أن الله اسمٌ يجمع " أمًّا، وابناً، وروح القُدُس " فصار كل منهم إلهاً واحداً، أخذاً من قوله تعالى " أأنتَ قلتَ للنَّاسِ اتَّخذوني وأمِّيَ إلهين من دون الله " فكرَّر الآية لذلك، وأخبر تعالى عنهم أنهم كلَّهم كفَّارٌ. 35 - قوله تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ) . المرادُ بالظَّالمين هنا المشركون، بقرينةِ ما قبله، إِذِ الظَّالمون من المسلمين لهم ناصرٌ، وهو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لشفاعته لهم يوم القيامة.

36 - قوله تعالى: (وَضَلوا عَنْ سَوَاءِ السَّبيلِ) . فائدةُ ذكره بعد قوله " قدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل " أن المراد بالضَّلال الأول ضلالُهم عن الِإنجيل، وبالثاني ضلالهم عن القرآن. 37 - قوله تعالى: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ. .) الآية. إن قلتَ: النَّهيُ عن المنكر بعد فعله لامعنى له؟! قلتُ: فيه حذف مضافٍ، أي كانوا لا يتناهون عن معاودة منكرٍ فعلوه، أو عن مثله، أو عن منكرٍ أرادوا فعله، أي لا يمتنعون، أو المعنى كانوا لا ينتهون عن منكر فعلوه، بل يُصِرُّون عليه. 38 - قوله تعالى: (وَلَكِنَّ كَثِيرا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) . أي من المنافقين أو اليهود. إن قلتَ: كلُّهم فاسقون، لا كثيرٌ منهم فقط؟! قلتُ: المرادُ بالفسقِ، فسقُهم بموالاة المشركين، ودسِّ الأخبار إليهم، لا مطلق الفسق، وذلك مخصوص

بكثيرِ منهم، وهم المذكورون في قوله تعالى قبل " تَرَى كثيراً منهْمَ يَتولَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ". 39 - قوله تعالى: (إِنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. .) الآية. إن قلتَ: هذه المذكورات من عملِ اللَّهِ، لا من عمل الشَّيطان؟! قلتُ: في الكلام إضمارٌ، أي تعاطي هذه الأشياء من عمل الشيطان. فإن قلتَ: مع هذا الِإضمار كيف قال " مَنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ "، وتعاطي هذه الأشياء من عمل الِإنسان، لا من عمل الشيطان؟! قلتُ: لمَّا كان تعاطي هذه الأشياء، بوسوسة الشيطان وتزيينه ذلك للفُسَّاقِ، صار كما لو أغرى رجلٌ رجلاً بضرب آخر فضربه، فإنه يجوز أن يُقال للمُغْري هذا من عملك. فإن قلتَ: لم خصَّ من الأشياء المذكورة " الخمر " و " الميسر " بالذّكر، في قوله " إِنَّما يريدُ الشَّيطانُ أن يُوقعَ

بينكمُ العَدَاوةَ والبَغْضاءَ في الخَمْرِ والميْسرِ "؟ قلتُ: خصَّهما بالذكر تعظيماً لأمرهما، ولأنّ ما ذُكر من العداوة والبغضاء بين النَّاس، يقع كثيراً بسببهما دون الباقي. وقيل: إنما خصَّهما بالذّكر بياناً للواقع، لأن الخطاب للمؤمنين بدليل قوله " يا أيها الَّذين آمنوا " وهم إنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر فقط. 45 - قوله تعالى: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالغَيْبِ. .) الآية، أي علم ظهور. 41 - قوله تعالى: (ومَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً. .) الآية. قيل: العمدُ ليس بشرطٍ، لوجوب الجزاء كما بيَّنتْه السّنَّةُ، وذكرُه في الآية بيانٌ للواقعِ، لأن الواقعة التي كانت سبب نزول الآية، كانت عمداَ فلا مفهوم له. 42 - قوله تعالى: (هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ. .) الآية

قيَّد بها تعظيماً لها، وإلَّا فالشَّرطُ بلوغُه الحرمَ. 43 - قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ. .) الآية، أي ما حرَّم أو ما شرع، ولا يصحّ تفسيرُه بـ " خَلَقَ " لأن الأشياء المذكورة خلقها اللَّهُ. 44 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. .) الآية. أي احفظوا أنفسَكُم، وقوموا بصلاحها. فإن قلتَ: ظاهرُ الآية يقتضي عدمَ وجوبِ الأمرِ بالمعروفِ، والنهي عن المنكرِ؟ قلتُ: لا نُسلِّمُ ذلك، فإنها إنما تقتضي أن المطيعَ، لا يُؤاخذ بذنوب المُضَلِّ. أو لأن الآية مخصوصةٌ بما إذا خاف الِإنسانُ، عند الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر،

على نفسه، أو عرضه، أو ماله. قوله تعالى: (قَالوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوب) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنهم عالمون بماذا أجيبوا؟ قلتُ: هذا جوابُ دهشةٍ وحيرة، حين تَطيشُ عقولُهم من زفرة جهنَّم. أو المعنى: لا علمَ لنا بحقيقةِ ما أجابوا به، لأنَّا لا نعلم إلَّا ظاهره، وأنتَ تعلمُ ظاهِرَه وباطنَه، بدليل آخر الآية. وقيل: المرادُ منه المبالغةُ في تحقيق نصيحتهم، كمن يقول لغيره: ما تقول في فلانٍ؟! فيقول: أنتَ أعلم به منّي، كأنَّه قيل: لا يحتاج فيه إلى شهادة لظهوره. 46 - قوله تعالى: (إِذْ قَالَ الحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ

مَرْيمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السمَاءِ. .) الآية. فإن قلتَ: كيف قال الحواريُّون ذلك - وهم خُلَّصُ أتباعِ عيسى - وهو كفرٌ، لأنه شك في قدرة الله تعالى وذلك كفر؟! (1) قلتُ: الاستفهامُ المذكورُ، استفهامٌ من الفعل، لا من القُدرة، كما يقول الفقير للغني القادر: هل تقدرُ أن تُعطيني شيئاً؟ وهذه تُسمَّى استطاعة المطاوعة، لا استطاعة القُدرة. والمعنى: هل يسهُل عليكَ أن تسأل ربك؟ كقولك لآخر: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وأنتَ تعلم استطاعته لذلك. فإن قلتَ: لو كان ما ذُكر مراداً، لما أنكر عليهم عيسى بآخر الآية؟ قلتُ: إنكارُه عليهم إنَّما كان لِإتيانهم بلفظٍ، لا يليق بالمؤمن المخلص ذكره.

47 - قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ. .) . إن قلتَ: كيف قال عيسى ذلك، مع أن كل ذي نفْسٍ فهو ذو جسم، لأن النَّفْس جوهرٌ قائمٌ بذاته، متعلِّقٌ بالجسم تعلُّق التدبير، واللَّهُ منزَّهٌ عن ذلك؟ قلتُ: النَّفْسُ كما تُطلق على ذلك، تُطلق على ذاتِ الشيء وحقيقته، كما يُقال: نفْسُ الذَّهبِ والفضَّةِ محبوبةٌ أي ذاتُهما، والمرادُ هنا الثاني. 48 - قوله تعالى: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَن اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْت فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ. .) . فإن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنه غير لهم أيضاً غير ما ذُكِر؟ قلتُ: معناه " ما قلت لهم فيما يتعلَّقُ بالِإله.

فإن قلتَ: عيسى حيّ في السَّماءِ، فكيف قال (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي "؟ قلتُ: المرادُ بالتوفّي النوم كمُا ما مرَّ، مع زيادة في قوله في آل عمران: " إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعكَ إِلَيَّ ". مع أنَّ السؤال إنَّما يتوجَّهُ، على قول منْ قال: إنَّ السؤال والجواب، وُجدا يوم رفعِه إلى السَّماء، وأمَّا من قال: إنهما يكونان يوم القيامة - وعليه الجمهورُ - فلا إشكال. 49 - قوله تعالى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. .) الآية، أي يوم القيامة. فإن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنَّ الصِّدقَ نافعٌ في الدُّنيا أيضاً؟ قلتُ: نفعُه بالنسبة إلى نفعِ يومِ القيامة، الذي هو الفوزُ بالجنَّة، والنَّجَاةُ من النَّار كالعَدَم. فإن قلتَ: إن أراد بالصِّدقِ صدقُهم في الآخرة،

فالآخرةُ ليست بدار عمل، أو في الدنيا، فليس مطابقاً لما ورد فيه، وهو الشهادة لعيسى بالصِّدق، بما يُجيب به يوم القيامة؟ قلتُ: أراد به الصِّدق المستمرَّ بالصادقين، في دنياهم وآخرتهم. " تَمَّتْ سُورَةُ المائدة "

سورة الأنعام

سُورَة الأَنعام 1 - قوله تعالى: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السموَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلمَاتِ والنُّورَ. .) جَمَع السَّماء دون الأرض، لِمَا مرَّ في البقرة. . وَجَمع الظّلمة دون النُّور، لأنها اسم جنس، والنُّورُ مصدرٌ، والمصدرُ لا يجمع. وقيل: لكثرة أسبابها، بخلاف النُّور. و" جَعَلَ " تأتي لخمسةِ معانٍ: فتأتي: بمعنى " خَلَقَ " كما هنا، وكما في قوله تعالى " وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا ". وبمعنى: " بَعَثَ " كما في قوله تعالى " وَجَعَلْنَا مَعَه

أَخَاهُ هَارونَ وَزيراً ". وبمعنى: " قال " كما في قوله تعالى " وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الذينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً ". وبمعنى: " بَيَّنَ " كما في قوله تعالى " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبياً " أي بيَّناهُ بحلاله وحرامه. وبمعنى " صَيَّر " كما في قوله تعالى " وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَةً " وقوله تعالى: " وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرينِ حَاجِزاً ". 2 - قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمواتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ. .) . فائدةُ: ذكرِ الجهر بعد السرِّ، مع أنه مفهومٌ منه بالأوْلى، المقابلةُ و " التأكيد " كما في قوله تعالى " فمنْ تَعجَّلَ في يَومَيْن فَلا إِثْمَ عليه ومن تأخَّر فلا إثم عليه " 3 - قوله تعالى: (فَقَدْ كذَّبُوا بِالَحقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأتِيهِمْ أنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهنرئُونَ) بَسَط هنا،

واختصر في الشعراء فقال: " فَقَدْ كذَّبُوا فسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا به يَسْتهْزِئُونَ " لأنَّ ما هنا سابقٌ على ما هناك، فناسب البسط هنا، والاختصارُ ثمَّ. 4 - قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْاكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ. .) الآية، قاله هنا وفي النحل، بلا عاطفٍ من واوٍ أو فاء عقب الهمزة، وفي الشعراء بواوٍ، وفي سبأ بفاء. . لأنَّ مثل هذا الكلام يأتي للِإنكار، فإِن اعتُبر فيه الاستدلال، لم يؤت بواوٍ ولا فاء، ليكون كالمستأنف. وإن اعتُبرتْ فيه المشاهدة أُتي بالواو والفاء، لتدلَّ الهمزة على الِإنكار، والواو أو الفاء على عطف ما بعدها، على مقدَّر قبلها يناسبه في المعنى، المناسب لمعنى ما قبل الهمزة، لكنَّ الفاء أشدُّ اتصالًا بما قبلها من الواو، والتقديرُ في الشعراء: " أكذَّبوا الرسُّلَ ولمْ يروْا "؟. وفي سبأ: " أكفَروا فلم يروْا "؟

5 - قوله تعالى: (قُلْ سيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا. .) الآية. قاله هنا بـ " ثمَّ " الدَّالة على التراخي، وفي غير هذه السورة بالفاء، الدَّالة على التعقيب، مع اشتراكهما في الأمر بالسير، لأن ما في هذه السورة، وقع بعد ذكر القرون، في قوله: " كَمْ أهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ " وقوله " وَأنْشَاْنَا مِنْ بَعْدِهمْ قَرْناً آخَرِينَ " فتعدَّدت القرونُ في أزمنةٍ متطاولة، فخُصَّت الآيةُ هنا بـ " ثُمَّ "، بخلاف ما في غير هذه السورة، إذْ لم يتقدَّمه شيءٌ من ذلك، فخُصَّت بالفاء. 6 - قوله تعالى: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) . خصَّ السَّاكن بالذِّكر دون المتحرك، لأن السَّاكنَ من المخلوقات، أكثرُ عدداً من المتحرّك. أو لأن كل متحرك يصير إلى السُّكون، من غير عكس. أو لأن السُّكون هو الأصل، والحركةُ حادثةٌ عليه. 7 - قوله تعالى: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ. .)

الآية. خَصَّ الإِطعام بالذِّكر، لأن الحاجة إليه أتمُّ. 8 - قوله تعالى: (قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكلبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْني وَبَيْنَكُمْ. .) إن قلتَ: كيف اكتُفي من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجواب بقوله " اللَّهُ شَهِيدٌ بَيني وبينكُمْ " مع أنَّ ذلك لا يكفي من غيره؟ قلتُ: لأنه قادر على إقامة الحجة، علم أنه شهيد له، وقد أقامها بقوله " وَأوحِيَ إِليَّ هَذَا القُرْآنُ لأنْذِركُمْ بِهِ " بخلاف غيره لا يقدر على ذلك. 9 - قوله تعالى: (وَمَنْ أظْلَمُ مَمنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أوْكَذَّبَ بآياتِهِ إِنَّه لا يُفْلحُ الظَّالمُونَ) . بدأ الآية هنا بالواو، وختمها بقوله: " إِنَّهُ لا يفْلِحُ الظالمونَ ". وبدأها في يونس بالفاء، وختمها بقوله: " إِنَّه لا يُفْلِحُ المجرمون ". لأن ما قبلها ثَمَّ سببٌ لها، ومعطوف بالفاء، ومذكورٌ فيه المجرمون، فناسب فيها ما ذكر، بخلاف ما هنا، فإِن

المتقدّم فيه معطوف بالواو، ولم يُذكر فيه المجرمون. 10 - قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا ما كُنَّا مُشْرِكينَ) . كذبوا في قولهم ذلك، مع معاينتهم حقائق الأمور، ظناً منهم أنهم يتخلَّصون به. فإِن قلت: كيف الجمعُ بين هذا وبين قوله " ولا يَكْتُمُون اللَّهَ حَدِيثاً "؟ قلتُ: في القيامة مواقف مختلفة، ففي بعضها لا يكتمون، وفي بعضها يكتمون، بل يكذبون ويحلفون، كما في قوله تعالى " فَوَربِّكَ لَنَساَلَنَّهُمْ أجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " مع قوله تعالى " فَيوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلَاجان " 11 - قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتمعُ إِلَيكَ. .) الآية. قال هنا " يَسْتمعُ " بالإِفراد، وفي يونس " وَمِنْهُمْ مَن يَسْتَمِعُونَ إِليْكَ " بالجمع، لأنَّ ما هنا نزل في قومٍ قليلين، وهم " أبو سفيان " و " النّضر بن الحارث " و " عتبة، وشيبة، وأمية، وأبيّ بن خلف " فنُزِّلوا منزلة الواحد، فأعيد الضميرُ على لفظ " مَنْ ". وما في " يونس " نزل في

جِميع الكفار، فناسب الجمع، فأعيد الضميرُ على معنى " من ". وإنما لم يُجمع ثَمَّ في قوله تعالى: " ومنهم من ينظر إليكَ " لأن الناظرين إلى المعجزات، أقلُّ من المستمعين للقرآن. 12 - قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النارِ. .) . وفي أُخْرى بعدها " وَلَوْتَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهمْ " لأنهم أنكروا وجود النَّار في القيامة، وجزاء ربهم وَنَكاَله فيها، فقال في الأولى " على النار " وفي الثانية " إذْ وقفُوا على ربهم " أي على جزاء ربِّهم، ونكاله في النَّار. 13 - قوله تعالى: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) . قاله هنا بدون " نموتُ ونحيا " وفي " المؤمنون " و " الجاثية " به، لأنهم في القيامة قالوه بموقفٍ ولم يقولوه بآخر، فأشار إلى الأمرين بما ذكر.

14 - قوله تعالى: (وَمَا الحَيَاةُ الدًّ نْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. .) الآية. قدَّم اللَّعب هنا وفي " القِتال " و " الحديد " وعكس في " الأعراف " و " العنكبوت " لأن اللَّعب زمنُ الصِّبا، واللَّهوُ زمنُ الشباب، وزمنُ الصبا مقدَّمٌ على زمنِ الشباب، فناسبَ إِعطاء المقدَّم للأكثر، والمؤخرّ للأقلّ. 15 - قوله تعالى: (وَلَلدارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أفَلَا تَعْقِلُونَ) ؟. خصَّ المتَّقينَ بالذِّكر، مع أنّ غيرهم كذلك، لأنهم الأصل وغيرُهم تبعٌ لهم، وقرىء هنا " وللدَّارُ الآخرِةُ " بلاميْنِ ثَانيهما مدغمةٌ في الدَّار، ورفع الآخرة بجعلها صِفةٌ للدار، وبإِضافة الدَّار إليها بلام واحدة، تبعاً لاختلاف المصاحف في ذلك. وفي " يوسف " بالوجه الثاني فقط تبعاً للمصاحف ".

16 - قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهلِينَ) . إن قلتَ: كيف قال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وهو أغلظُ خطاباً من قوله لنوحٍ " إِنّي أعِظُكَ أنْ تكُونَ مِنَ الجَاهِلينَ " مع أنَّ محمداَ - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ رتبةً؟ قلتُ: لأن نوحاً كان معذوراً بجهله بمطلوبه، لأنه تمسَّكَ بوعدِ الله تعالى، في إنجاء أهله، وظنَّ أنَّ ابنه من أهله. بخلاف محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معذوراً، لأنه كَبُر عليه كفرُهم، مع علمه أنَّ كفرهم وإيمانهم بمشيئة الله تعالى، وأنَّهم لا يهتدون إلَّا أن يهديهم الله تعالى. 17 - قوله تعالى: (وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) . إن قلتَ: ما فائدة ذكرِه، مع أنه مفهوم من قوله قبله: " والموتَى يَبْعثهُم اللَّهُ " لأنهم إذا بعثوا من

قبورهم، فقد رجعوا إليه بالحياة بعد الموت؟ قلتُ: ليس مفهوماً منه، لأن المراد به، وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء، وهو غير البعث الذي هو إحياءٌ بعد الموت. 18 - قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنَزِّلَ آيةِ. .) . وقع جواباً لقولهم: " لولا نُزِّل عليهِ آيةٌ من ربهِ ". فإن قلتَ: لو صحَّ جواباً له، لصحَّ من كلِّ من ادَّعى النبوَّة، وطولب بآيةٍ أن يُجيب بذلك؟! قلتُ: يلزم ذلك أن تَثْبُتَ نُبوَّتُه بمعجزة، كما ثبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بها، وإلّاَ فلا يصحُّ الجوابُ بذلك. 19- قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ. .) الآية، فائدةُ ذكْرِ " في الأرْضِ " بعد دابةٍ، مع أنها لا تكون إلَّا في الأرض، وِذكرِ " يطيرُ بجناحيْه " التأكيدُ، كما في قوله تعالى " لا تَتَخذُوا إلهَيْنِ اثْنَينِ "، أو زيادة التعميم والِإحاطة. 20 - قوله تعالى: (قُلْ أَرَأيْتَكُمْ إِنْ أتَاكمْ عَذَابُ

اللَّهِ. .) الآية. أي أرأيتم آلهتكم تنفعكُم إن أتاكم عذاب الله؟! وقد جَمَع في هذه الآية ونظيرتها بعدُ، بين علامتيْ خطابِ " التَّاءِ " و " الكافِ "، لمزيد الاهتمام للمراد، واَلذي هو الاستئصال بالهلاك، والتاءُ اسمٌ إجماعاً، والكافُ حرف خطابٍ عند البصريين. 21 - قوله تعالى: (فَأخَذْنَاهُمْ بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) . قال ذلك هنا، وقال في الأعراف " يَضَّرَّعُونَ " بالإِدغام. لأن ههنا وافق ما بعده، وهو قولُه " جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعوا " ومستقبلُ " تضرَّعوا " يتضرَّعون " لا غيرُ. 22 - قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) . كرَّره طلباً للرغبة في إيمان المذكورين، إِذِ التَّقديرُ: " انظُرْ كيفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ " أي يُعرضون عنها، فلا تُعرض عنهم، بل كرِّرْها لهم " لعلَّهم يفقهون " أي يفهمون.

وإنَّما ختَم الأولى بقوله " ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ " والثانية بقوله " لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ " لأن الِإعراض عن الشيءِ، أقبحُ من عدم فهمه، فوُصِفوا بالأول في الآية الأولى تَبَعاً لما وُصِفوا به قبلها من قسوة قلوبهم، ونسيانهم ما ذُكِّروا به وغيرهما، وذلك مفقودٌ في الثانية. 23 - قوله تعالى: (قُلْ لَا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ. .) الآية، كرَّر فيها " لكم " لعدم ذكره قبلها وبعدها، ولم يكرِّره في آية هود، اكتفاءً بذكره قبلها مرتين: في قوله " إني لكم نذيرٌ " وقوله " وما نرى لكم " وبعدها مرَّة في قوله " أن أنصحَ لكم ". 24 - قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمينَ) . تَرْكُ تعيينِ سبيلِ المؤمنين، لعلْمِهِ من تبيينِ سبيلِ المجرمين.

25 - قوله تعالى: (وَهُوَ الّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بَالنَّهَارِ. .) الآية، أي كسبتم فيه، وخصَّ النهارَ بالذّكر دون اللّيل، لأن الكسبَ فيه أكثرُ، لأنه زمنُ حركة الِإنسان، والليلُ زمنُ سكونه. 26 - قوله تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ. .) الآية، أي مولى جميع الخلق، وهذا لا ينافي قوله " وأنّ الكافرينَ لا مَوْلَى لهمْ " لأن المراد بالمولى هنا: المالكُ، أو الخالقُ، أو المعبودُ. . وثَمَّ النَّاصِرُ. 27 - قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. قَوْلُهُ الحَقُّ. .) الآية، خصَّ " قولُه الحقُّ " بيومِ القيامة، مع أنه لا يختصُّ به، لوجوده في الدنيا أيضاَ، لأن ذلك اليوم، ليس لغيره تعالى فيه قولٌ يُرجع إليه، بل قولُه فيه هو الحقُّ الذي لا يدفعه أحدٌ من العباد، لانكشافِ الغِطاء فيه. . ونظيرُه قولُه تعالى: " والأمرُ يومئذٍ للَّهِ " معَ أنَّ الأمرَ له في كل زمان. ومثلُ ذلك يأتي في قوله " ولهُ المُلْكُ يومَ يُنْفخُ في

الصُّورِ " وأمَّا ملكُ غيره في الدنيا، فهو إنما يكون خِلافةً عنه، وهبةً منه وإنعاماً، بدليل قوله تعالى في حقِّ " داود " عليه السلام: " وآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ والحِكْمَةَ ". 28 - قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. .) الآية. إن قلتَ: كيف ذكَر في معرض الامتنان من أولاده إسحاق " ولم يذكر معه " إسماعيلَ " بل أخَّره عنه بدرجاتٍ، مع أنه أكبرُ منه؟ قلتُ: لأن إسحاق وُهب له من حُرَّةٍ، وكانت عجوزاً عقيماً. . وإسماعيل من أمَةٍ فكانت المِنَّةُ في هبة إسحاقَ أظهرَ. وقيل: لأن القصد هنا ذكرُ أنبياءِ بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولادُ إسحاق، وإسماعيلُ لم يخرج من صلبه نبيٌّ إلا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -. 29 - قوله تعالى: (قُلْ لاَ أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إنْ هُوَ إلّاَ ذِكرَى لِلْعَالَمِينَ) قاله هنا بدون تنوين، وفي يوسف بالتنوين، لأنه ذكر هنا قبلُ قولَه " فلا تقعدْ بعد

الذِّكرى " بلا تنوين، فناسب ذكرُه هنا كذلك. 30 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرِةِ يُؤمِنُونَ بِهِ. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال في وصف القرآن ذلك، مع أن كثيراً ممن يؤمنُ بالآخرة، من اليهود، والنَّصارى وغيرهم لا يُؤمن به؟! قلتُ: معناه والذين يؤمنون بالآخرة إيماناً نافعاً مقبولًا، هم الذين يؤمنون به. 31 - قوله تعالى: (وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أوْ قَالَ أوحِيَ إِلَيَّ وَلَم يُوحَ إِليْهِ شَيء) الآية. إن قلتَ: كيف أفرده بالذَكر، مع دخوله في قوله قبلُ " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افتَرى علَى اللَّهِ كَذِباً. . "؟ قلتُ: إِنَّما أفرده بالذِّكرِ، لأنه لمَّا اختصَّ بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء، خُصَّ بالذّكر، تنبيهاً على مزيد العقاب فيه والإثم. 32 - قوله تعالى: (يُخْرِجُ الحَيَّ مِن الميِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ منَ الحَيِّ. .) الآية، قال ذلك هنا، وقال في "

آل عمران " و " يونس " و " الروم ": (وُيخرجُ الميِّتَ من الحيِّ) بالفعل. لأنَّ ما هنا وقع بعد اسم فاعل وهو " فالقُ ". . وقبْلَ اسمَيْ فاعل وهما: فالق، وجاعلُ، فناسَبَ ذكرُ " مخرج " لكونه اسم فاعل، وخُصَّ بالاسم لتكرّر الاسمين بعده. . وخصَّ " يُخرج الحيَّ " قبله بالفعل، إذْ لم يتقدَّمْه إلا اسمٌ واحدٌ. وما في بقية السُّور لم يقع قبله وبعده إلَّا أفعال، فناسب ذكرُه بالفعل. 33 - قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أنْشَأكمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. .) الآية. قاله هنا بلفظ " أنشأكم " وفي غير هذه السورة بلفظ " خلقكم " لأن ما هنا موافقٌ لقوله قبله " أنشأنا من بعدهم " ولقوله بعده " وهو الذي أنشأ جناتٍ " بخلاف البقية.

34 - قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ أنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . فائدة ذكر قوله: " خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعبدُوهُ " فيها بعد قوله " وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ " جعلُه توطئةً لقوله تعالى: " فَاعْبُدُوهُ " وأمَّا قولُه " وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ " فإنما ذُكر استدلالًا على نفي الولد. 35 - قوله تعالى: (لَا تُدْرِكهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) إن قلتَ: كيف خصَّ الأبصار في الثاني بالذكر، مع أنه تعالى يُدرك كل شيء؟! قلتُ: خصَّه بالذكر لرعاية المقابلة اللفظية، لأنها نوع من البلاغة. 36 - قوله تعالى: (أفَغَيْرَ اللَّهِ أبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أنْزَلَ اليكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً. .) إن قلتَ: كيف قال " إليكُمْ " ولم يقل " إليَّ " مع أنه تعالى إنما قال " وَأنْزَلَنْا إليكَ الكِتَابَ "؟

قلتُ: لما كان إنزالُه لأجل تبليغهم، كان كأنه أنزل إِليهم. 37 - قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفَتَرُون) . قاله هنا بلفظ الرّب، وبعده بلفطْ الله، لأنه هنا وقع بين آياتٍ فيها ذكرُ الربِّ مرَّات، وما بعدُ وقع بعد آياتٍ فيها ذكرُ اللَّهِ مرات، ولهذا ذكر لفظ " الله " قبلُ، في قوله تعالى " ولو شاء اللهُ ما أشركوا " وبعدُ، في قوله تعالى " لو شاءَ اللهُ ما أشركنا ". 38 - قوله تعالى: (إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ مَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِين) . قال ذلك هنا بلا " باء " وبالمضارع، موافقة لقوله بعدُ " الله أعلمُ حيثُ يجعل رسالته ". وقال في " النَّحل " و " النَّجم " و " ن ": "

بِمَنْ ضَلَّ " بزيادة الباء وبالماضي، عملًا بزيادة الباء في مفعول " أعلمُ " تقويةً له لضعفه، كما في قوله تعالى " وهو أعلمُ بالمهتدين " وقوله " وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى " وعملاً في الماضي بكثرة الاستعمال في قولهم: " أعلمُ بمن دبَّ وَدَرَجَ، وأحسنُ من قام وقعد، وأفضلُ من حجَّ واعتمر. وحيثُ حُذِفتِ الباءُ، أُضْمِر فعل من مادة " عَلِمَ " يعملُ في المفعول، لضعف " أَعْلَم " عن العمل بلا تقوية، وتقديره في الآية: يعلم من يَضِلّ. 39 - قوله تعالى: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . المزيِّنُ لهم هو اللهُ لقوله تعالى: " زيَّنا لهمْ أَعمالَهُمْ ". أو الشيطان لقوله تعالى: " وَزَيَّنَ لهُمُ الشيطانُ أَعمَالهم " وكلّ صحيح، فالتزيينُ من الله بالِإيجاد والخلق، ومن الشيطان بالإِغواء والوسوسة. 40 - قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإِنْسِ أَلمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ) الآية. فإن قلتَ: كيف قال ذلك، والرسُلُ إنما كانت من الإِنسِ خاصةً؟!

قلتُ: بل ومن الجن أيضاً على قول الضحاك ومقاتل، أنه أُرسل إليهم رسل، وأمَّا على قول غيرهما بمنع ذلك، فالمرادُ برسل الجنِّ، الذين سمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ولَّوْا إلى قومهمِ منذرين، كما قال تعالى: (وإذْ صَرَفْنا إليكَ نَفَراَ من الجنِّ يستَمعونَ القرآنَ. .) الآية. 41 - قوله تعالى: (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُم الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم أَنَّهُم كانُوا كافِرِينَ) كرَّرَ شهادتهم على أنفسهم، لاختلافها باختلاف المشهود به، لأن الأولى شهادتهم بتبليغ الرسل إليهم، والثانية شهادتهم بكفرهم. فإن قلتَ: شهادتهم بكفرهم تضمَّنتْ إقرارهم به، وهو منافٍ لجحدِهم في قوله حكاية عنهم " واللَّهِ رَبِّنَا ما كنَّا مُشْرِكينَ "؟! قلتُ: مواقفُ القيامة مختلفة، ففي موقفٍ أقرُّوا، وفي آخر جحدوا. أو المراد بشهادتهم: شهادةُ أعضائهم عليهم، حين

يُختم على أفواههم، كما قال تعالى (اليومَ نَخْتِمُ على أفواهِهم وتُكلِّمنا أيديهمْ وتشهدُ أرجلُهم بمَا كانُوا يَكْسِبون) . وبجحدهم: جحدُهم بأفواههم قبل أن يُختم عليها. 42 - قوله تعالى: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبة الدَارِ) . قاله هنا وفي مواضع بالفاء، لأنه وقع جواباً بالأمرِ قبله. وقال في أواخر " هود " بدون فاء، لأنه لم يتقدّمْه أمرٌ، فصار استئنافاً، أو صفة لـ " عاملٌ " أي إني عاملٌ سوف تعلمون. 43 - قوله تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذين قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْر عِلْمٍ. .) الآية.

إن قلتَ: ما فائدتُه بعد قوله " سَفَهاً " مع أن السَّفه لا يكون إلا بغيرِ علم؟! قلتُ: معنى قوله تعالى " بغير علْمِ " بغير حُجَّة. 44 - قوله تعالى: (قَدْ ضَلُّوا وَمَا كانُوا مُهْتَدِينَ) . فائدتُه بعد قوله " قَدْ ضَلًّوا " أنهم بعدما ضلُّوا، لم يهتدوا مرَّة أُخرى. 45 - قوله تعالى: (كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أثْمَرَ. .) إن قلتَ: ما فائدةُ ذكرِه بعد قوله " كلُوا من ثَمَرهِ) مع أنَّه معلومٌ أنه إنما يُؤْكل من ثمره إذا أثمر؟ قلتُ: فائدتُه نفيُ توهُّم توقًّف إباحة أكلهِ، على بُدُوِّ صلاحه. 46 - قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّاَ أن يَكُونَ مَيْتَةً) الآية، أي لا أجد

فيه محرَّماً، ممَّا كانوا يُحَرِّمونه في الجاهلية " إلَّا أنْ يَكُون مَيْتَةً " إلى آخره، وإلا ففي القرآن تحريمُ أشياء أُخَرَ غَيْرَ ذلك، كالرِّبا، وأكلِ مالِ اليتامى، ومالِ الغير بالباطلِ. 47 - قوله تعالى: (فَإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِين) فإن قلتَ: كيف قال في الجواب ذلك، مع أنَّ المحلَّ محلُّ عقوبة، فكان الأنسبُ أن يُقال: فقل ربُّكُمْ ذو عقوبة شديدة؟! قلتُ: إنما قال ذلك نفياً للاغترار بسعة رحمته، في الاجتراء على معصيته، وذلك أبلغُ في التهديد، معناه: لا تغتروا بسعة رحمته، فإنه مع ذلك لا يُرَدُّ عذابه عنكم. 48 - قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكنَا وَلَا آبَاؤُنا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ. .) الآية. قال ذلك هنا، وقال في النحل: (لَوْ شَاءَ

اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ منْ شيءٍ نحن ولا آباؤنا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيءٍ. .) . بزيادةِ " مِنْ دُونهِ " مرتين، وزيادة " نَحْنُ ". لأن الإِشراك يدلُّ على إثبات شريكٍ لا يجوز إثباته، وعلى تحريم أشياء من دون الله، فلم يحتج إلى " منْ دونهِ " فحُذِفَ، وتبعَهُ في الحذفِ " نحنُ " طرداَ للتخفيف. بخلاف العبادة فإنها غيرُ مستنكرة، وإنما المستنكرُ عبادةُ شيءٍ مع الله، ولا يدلُّ لفظها على تحريم شيء، كما دلَّ عليه " أشرك " فلم يكنْ بُد من تقييده بقوله " من دونه " وناسب استيفاءُ الكلام فيه زيادةُ " نحنُ " وظاهرٌ أنَّ زيادة ذكرِ التحريم في آية " لو شاءَ اللَّهُ ما أشركنا " تصريحٌ بما أفاده لفظ " أشركنا ". 49 - قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيَّاهُمْ) الآية، قال ذلك هنا، وقال في الإِسراء " وَلَا تَقتلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ نحنُ نرزقُهُم وَإيَاكُمْ ".

قدَّم هنا المخاطبين على الغائبين، وعكسَ ثَمَّ، لأن ظاهر قوله هنا " منْ إملَاقٍ " أي فقر، أن الِإملاق حاصلٌ للوالديْنِ المخاطبين، لا توقُّعُهُ فبُدىء بهم، وظاهر قوله ثَمَّ " خشيَةَ إملاق " أَن الِإملاق متوقّعٌ بهم وهم موسرون، فبُدىء بالأولاد، فما هنا يفيد النهي للآباء عن قتلِ الأولاد وإن تلبَّسوا بالفقر، وما هناك يُفيده وإن تلبَّسوا باليُسر. 55 - قوله تعالى: (وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلو كانَ ذَا قُرْبَى. .) الآية. إن قلتَ: لم خصَّ العدل بالقول، مع أن الفعل إلى العدل أحوج، فإن الضَّررَ الناشىء من الجور الفعلي، أقوى من الضَّرر الناشىء من الجور القوليِّ قلتُ: إنما خصَّه بالقول، ليُعلم وجوب العدل في الفعل بالأولى، كما في قوله تعالى " ولا تقُلْ لهما أُفٍّ ". 51 - قوله تعالى: (ذَلِكُمْ وَصَّاكمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) . ختم الآية الأولى بقوله " تعقلون "، والثانية بقوله

" تذكَّرون "، والثالثة بقوله " تَتَّقُونَ ". لأن الأولى اشتملت على خمسةِ أشياء عظام، والوصيَّةُ فيها أبلغ منها في غيرها، فختمها بما في الِإنسان من أعظم السجايا وهو " العقل " الذي امتاز به على سائر الحيوان. والثانية: اشتملت على خمسة أشياء يقبُحُ ارتكابُها، والوصيَّةُ فيها تجري مجرى الزجر والوعظ، فختمها بقوله " تذكَرون " أي تتعظون. والثالثة: اشتملت على ذكرِ الصِّراط المستقيم، والتحريض على اتباعه واجتناب مُنافيه، فختمها بالتقوى التي هي ملاكُ العمل، وخير الزَّاد. 52 - قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرَ ى. .) إن قلتَ: هو منافٍ لنحو قولِه تعالى: " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ " ولخبر " من عمل سيئة فعليه وزرها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة " (1) قلتُ: لا منافاةَ إذِ الوزرُ في الآيةِ الأولى، محمولٌ على

من لم يتسبَّبْ في الفعل بوجهٍ، وفيما عداها على من تسبَّب فيه بوجه كالأمر به، والدلالة عليه، فعليه وزرٌ مباشرته له، ووزرُ تسبُّبه فيه. 53 - قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ. .) الآية. قال ذلك هنا، وقال في " يونس " و " فاطر " (خَلَائِفَ فِي الَأرْضِ) لأن ما ههنا تكرَّرَ قبلَه ذكرُ المخاطبين مراتٍ، فعرَّفهم بالإِضافة، وما في السورتين جاء على الأصل، كما في قوله تعالى (إنِّي جاعِلٌ في الَأرْضِ خَلِيفَةً) وقوله: (وَأَنْفَقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه) . 54 - قوله تعالى: (إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال في الأعراف " إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقَابِ وإنَّه لَغَفُورٌ رحيمٌ " باللَّام في الجملتين، لأنَّ ما هنا وقع بعد قوله " مَنْ جَاءَ بالحسنة فلهُ عشرُ أمثالها " وقوله " وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " فأتى باللَّام المؤكدة في الجملة الثانية فقط، ترجيحاً للغُفران على سرعة العقاب.

وما هناك وقع بعد قوله " وأخذنا الَّذين ظَلَمُوا بعذابٍ بئيس " وقوله " فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين " فأتى باللَّام في الجملة الأولى، لمناسبة ما قبلها، وفي الثانية تَبَعاً للَّام في الأولى. فإن قلتَ: كيف قال " سريعُ العقابِ " مع أنه حليمٌ، والحليمُ لا يُعَجِّل بالعقوبة على من عصاه؟! قلتُ: معنى " سريع " شديدٌ، أو المعنى سريعُ العقاب إِذا جاء وقته. " انتهت سورة الأنعام "

سورة الأعراف

سُورَة الأعراف 1 - قوله تعالى: (كتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ منه) . أي ضيق من الكتاب أن تبلِّغه مخافة أن تُكذَّب، والنَّهيُ في اللفظ للحرَج، والمرادُ الخاطبُ، مبالغةً في النهي عن ذلك، كأنه قيل: لا تتسبَّبْ في شيء ينشأ منه حرجٌ، وهو من باب " لَا أرينَّك ههنا " النهيُ في اللفظ للمتكلَم، والمرادُ المخاطبُ، أي لا تكن بحضرتي فأراك، ومثلُه " فلا يَصُدَّنَّكَ عنها من لا يُؤْمِنْ بها ". 2 - قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) أي أردنا إهلاكها. 3 - قوله تعالى: (وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثقُلَتْ

مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) جَمَع ميزان القيامة مع أنه واحدٌ، باعتبار تعدُّد ما يُوزن به من الأعمال، أو باعتبار أنه يقوم مقام موازين كثيرة، لأنه يميز الذَّرة وما هو كالجبال. فإن قلتَ: الأعمالُ أعراضٌ فكيف تُوزن؟! قلتُ: يصيِّرها اللهُ أجساماً، أو الموزون صحائفُها 4 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أتى ب " ثُمَّ " الثانية وهي للترتيب، مع أنَّ الأمر بالسجود لآدم، كان قبل خلقنا وتصويرنا. لأن " ثُمَّ " هنا للترتيب الِإخباري، أو لتفاوت ما بين نعمتيْ السجود له وما قبله، لأن السجود له أكمل إحساناً، وأتمّ إنعاماً مما قبله.

أو المراد: ولقد خلقنا أباكم ثم صوَّرناه، بحذفِ مضافٍ. 5 - قوله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ) الآية، قال ذلك هنا، وقال في الحِجْر: " قال يا إبليسُ مالكَ أَلَّا تكونَ مع الساجدينَ ". وفي (ص) : " قال يا إبليسُ ما منعَكَ أن تسجدَ لما خلقت بيديَّ " بزيادة " يا إبليسُ " فيهما. لأن خطابه هنا قَرُبَ من ذكره، فحسن حذفُ ذلك، وفي تيْنِك لم يقرب منه قربه هنا، فحسُن ذكره. وأما قولُه هنا وفي (ص) " مَنَعَكَ " وفي الحِجْر " مَالَكَ " فتفنُّنٌ، جرياً على عادة العرب في تفنّنهم في الكلام. وقولُه " أَلَّا تسجد " قال ذلك بزيادة " لا " كما في قوله تعالى " لِئَلاَّ يعلمَ أهْلُ الكِتابِ " وقال في " ص " بحذفها، وهو الأصلُ، فزيادتها هنا لتأكيد معنى النَّفي في " مَنَعَكَ ".

أو لتضمين " مَنَعَك " حَمَلَك، وهي على الثاني ليست زائدةً في المعنى. 6 - قوله تعالى: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبرَ فِيها) أي في السماء. . خصَّها بالذِّكر لأنها مقرُّ الملائكةِ المطيعين، الذين لا يعصون اللَّهَ، وإلّاَ فليس لِإبليس أن يتكبَّر في الأرضِ أيضاً. 7 - قوله تعالى: (قَالَ أَنْظِرْني إلَى يَوْمِ يبعثونَ) قاله هنا بحذف الفاء، موافقةً لحَذفِ " يَا إبليس " هنا. - وقال في " الحِجْر " و " ص " بذكرها، موافقة لذكره ثَمَّ، لما تضمَّنه النداء من " أدعوك " وأناديك، كما في قوله تعالى " ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ". 8 - قوله تعالى: (قَالَ إنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ) قاله هنا بحذف الفاء موافقةً لحذفها في السؤال هنا. وقال في " الحجر " و " ص " بذكرها موافقةً لذكرها فيه ثَمَ.

فإن قلتَ: كيف أُجيبَ إبليس إلى الإِنظار، مع أنه إنما طلبه ليُفسد أحوال عباد اللَّهِ تعالى؟! قلتُ: لما في ذلك من ابتلاء العباد، ولما في مخالفته من أعظم الثواب. 9 - قوله تعالى: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَني لَأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمَ) . قال ذلك هنا بالفاء، وفي الحِجْر بحذفها، مع اتفاقهما في مدخول الباء. وقال في " صَ ": " فَبِعِزَّتِكَ " بالفاء، مع مخالفته لتيْنك في مدخول الباء. لأنَّ " الفاء " وقعت هنا في محلها، وفي " ص " لأنها متسببة عما قبلها، ولا مانع فحسنت، ولم تحسُن في " الحِجْر " لوقوع النِّداء ثَمَّ في قوله (رَبِّ بما أَغْوَيْتَني) والنداء يُستانف له الكلام وُيقطع، و " الباءُ " في المواضع الثلاثة للسببيَّة، أو للقَسَم، وما بعدها في " ص " موافقٌ لما بعدها في غيرها في المعنى، وإن خالفه لفظاً، فلا اختلاف في الحقيقة، إذ غوى اللهِ للشيطانِ يتضمَّنُ عزته تعالى.

15 - قوله تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوآتِهِما. .) . اللاَّم فيه " لامُ العاقبة " والصَّيرورة، لا " لامُ كيْ "، لأن الغرض إخراجهما من الجنَّة، لا كشف عورتهما، كما في قوله تعالى (فالتقطَهُ آلُ فِرعونَ ليكونَ لهمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) وقول الشاعر: لِدُوا للمَوْتِ وابْنُوا للخَرَاب فكلكمُ يَصير إلى التُّراب 11 - قوله تعالى: (كَمَا بَدَأكم تَعُودُونَ. .) إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنه تعالى بدأَنا أوَّلًا نطفةً، ثم عَلَقة، ثم مضغةً، ثم عظاماً، ثمَّ لحماً، ونحن نعودُ بعد الموتِ كذلك؟ قلتُ: معناه: كما بدأكم من تُرابِ، كذلك تعودون منه!! أو كما أوجدكم بعد العدم، كذلكَ يعيدكم بعده. .

فالتشبيهُ في نفسِ الِإحياءِ والخلق، لا في الكيفيَّة والترتيب. 12 - قوله تعالى: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيامة. .) الآية. إنْ قلتَ: كيف أخبر عن الزِّينة والطيِّبات، بأنهما للذينَ آمنوا في الحياة الدنيا، مع أنَّ المشاهدَ أنهما لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم؟ قلتُ: في الآية إضمارٌ تقديره: قل هي للذين آمنوا غير خالصةٍ في الحياة الدنيا، خالصةٌ للمؤمنين يوم القيامة. 13 - قوله تعالى: (فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) . قاله هنا وفي سائر المواضع بالفاء، إلَّا في " يونس " فبحذفِها، لأن مدخولها في غير يونس، جملةٌ معطوفةٌ على أخرى، مصدَّرة بالواو، وبينها

اتِّصالٌ وتعقيبٌ، فحسُنَ الِإتيان بالفاء، الدالة على التعقيب، بخلاف ما في يونس. وقولُه: في الآية " ولا يستقدمون " معطوفٌ على الجملة الشرطية، لا على جواب الشرط، إذْ لا يصحُّ ترتُّبه على الشرط.. 4 1 - قوله تعالى: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الميراث هو ما ينتقل من ميِّتٍ إلى حيٍّ، وهو مفقودٌ هنا؟! قلتُ: بل هو تشبيهُ أهل الجنة وأهل النَّار بالوارث والموروث عنه، لأن الله خلق في الجنَّة منازل للكفار، بتقدير إيمانهم، فمن لم يُؤمن منهم جُعل منزلُه لأهل الجنة. أو لأنَّ: دخول الجنة، لا يكون إلا برحمة الله تعالى لا بعمل، فأشبه الميراثَ، وإن كانت الدرجاتُ فيها بحسب الأعمال.

15 - قوله تعالى: (الَّذِين يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ) . قال ذلك هنا، وقال في هود " وهمْ بالآخِرةِ همْ كَافِرونَ " لأنَّ ما هنا جاء على الأصل، وتقديره: وهم كَافرون بالآخرة، فقدَّم " بالآخرة " رعايةً للفواصل. وما في هود، وقع بعد قوله تعالى (ويقولُ الأشهادُ هؤلاءِ الذينَ كَذَبوا على ربهم أَلَا لعنةُ اللَّهِ على الظَّالمينَ) والقياسُ عليهم، فلمَّا عَبَّر عنهم بالظَّالمين، التبسَ أنهم هم الذين كَذَبوا على ربِّهم أم غيرهُم، فقال: " وهمْ بالآخرةِ همْ كافرونَ " ليُعلم أنهم هم المذكورون لا غيرُهم. 16 - قوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعْدَ إضلاَحِهَا. .) الآية، أي بعد أن أصلحها اللَّهُ، بالأمر بالعدلِ، وإرسالِ الرسل. أو بعد أن أصلح اللَّهُ أهلَها، بحذف مضاف.

17 - قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمتِهِ.) الآية. قاله هنا: وفي " الروم " بلفظ المضارع. وقال في: ((الفرقان " و " فاطر ": أرسلَ بلفظ الماضي. لأنَّ ما هنا تقدَّمه ذكرُ الخوف والطَّمع في قوله تعالى: (وادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) وهما للمستقبل. وما في الروم، تقدَّمه التعبيرُ بالمضارع مرَّاتٍ في قوله تعالى: (ومن آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مبشِّرَاتٍ) الآية، فناسبَ ذكرُ المضارع فيهما. وما في " الفرقان " تقدَّمه التعبيرُ بالماضي مرَّاتِ، في قوله تعالى (أَلمْ ترَ إلىَ ربكَ كيفَ مدَّ الظِّلَّ) وتأخًّر عنه ذلك في قوله " وهو الذي مرج البحرين " الآية.

وما في " فاطر " تقدَّمه في أولها " فاطر " و " جاعل " وهما بمعنى الماضي، فناسب ذكرُ الماضي في السورتين. 18 - قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نوحاً إِلَى قَوْمِهِ. .) الآية. قاله هنا بغير واو، وقاله في " هود " و " المؤمنين " بواوٍ. لأنَّ ما هنا مستأنفٌ لم يتقدَّمه ذكرُ نبيٍّ، وما في هود تقدَّمه ذكرُ الأنبياء مرَّةً بعد أخرى، وما في المؤمنين تقدَّمه " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق " وقوله " وعليها وعلى الفُلك تُحملون " وكلّها بالواو، فناسب ذكرها فيهما. 19 - قوله تعالى: (قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ. .) . الآية قاله هنا في قصة " نوح " و " هود " بلا فاء، لأنه خرج مخرج الابتداء وإن تضمَّن الجواب، كما في قوله تعالى (قالوا نحنُ أعلمُ بمنْ فيها) بعد قوله (قال إن فيها لوطاً) . وقاله في " هود " و " المؤمنين " بالفاء، لأنه وقع

جواباً لما قبله، فناسبتْه الفاء. فإن قلتَ: كيف وصفَ الملَأ ب " الذين كفروا " في قصة هود، دون قصة نوحٍ عليهما الصلاة والسَّلام؟! قلت: لأنه كان قد آمنَ بهودٍ بعضُهم، فلم يكونوا كلهم قائلين له " إنا لنراكَ في سفاهة " بخلاف قوم نوحٍ، فإنه لم يكن فيهم من آمن به إذ ذاك. وَنُقِضَ بأنه تعالى، وصف أيضاً الملأ من قوم نوحٍ بالكفر في سورة هود. وأُجيب بجواز كون هذا القول وقع مرتين، المرة الثانية بعد إيمان بعضهم، بخلاف المرة الأولى. 25 - قوله تعالى في قصة نوح: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ. .) . قال فيها بلفظ المضارع في الجملة الثانية، مناسبة للمضارع في الُأولى، كما عطف الماضي على الماضي في قوله (لقدْ أبلغتكُمْ رِسَالَاتِ رَبَي ونصحتُ لكم) .

وقاله في قصة هود بلفظ اسم الفاعل، مناسبةً لاسم الفاعل قبله في قوله (وإنَّا لنظنُّكَ من الكاذبينَ) وبعده في قوله " أمينٌ ". وعبَّر في قصة " نوحٍ " و " هود " بالمضارع في الجملة الأولى، وفي قصة " صالح " و " شعيب " بالماضي فيهمِا، لأن ما في الأَوَّلَيْن وقع في ابتداء الرسالة، وما في الآخرَيْن وقع في آخرها. 21 - قوله تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمينَ) . قاله هنا مرتين، وفي العنكبوت مرَّةً، بالِإفراد. وقال في " هود " فأصبخوا في دِيَارِهمْ جَاثمينَ " مرتين بالجمع لأن ما في المواضع الأوَل، تقدَّمه ذكرُ الرِّجفة

أي الزلزلة، وهي تختصُّ بجزءٍ من الأرض، فناسبها الِإفراد. وما في الأخيرين، تقدَّمه ذكرُ الصَّيْحة، وكانت من السًماء، وهي زائدةٌ على الرجفة، فناسبها الجمعُ. 22 - قوله تعالى: في قصة صالح: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي) قال ذلك فيها بالتوحيد، وقاله في قصة شعب بالجمع.. لأن ما أمر به شعيبِّ قومَه من التوحيد، وإيفاء الكيل، والنًهي عن الصِّدِّ، وإقامة الوزنِ بالقسط، أكثرُ ممَّا أمرَ به صالحٌ قومه. أو لأن شعيباً: أُرسل إلى أصحاب الأيكة، وإلى مدين، فجُمعَ باعتبار تعدُّد الرسَل إليهم. . و " صالح " عليه السلام وحَّد باعتبار الجنس. فإن قلتَ: كيف قال صالح لقومه، بعد ما أخذتهم الرجفةُ وماتوا: " يا قومِ لقد أبلغتكُمُ رسالة ربي " الآية، ومخاطبةُ الحيِّ للميِّت لا فائدة فيه؟ قلتُ: بل فيه فائدة، وهي نصيحة غيره، فإن ذلك

يُستعمل عُرفاً فيما ذكر، لأن من نصح غيره فلم يَقبل منه حتى قُتل، ويراه ناصحُه فإنه يقول له: كم نصحتُك فلم تقبل حتى أصابك هذا!! حثًّا للسَّامعين له، على قبولهم النصيحة. 23 - قوله تعالى: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْم مُسْرِفُون) . عبَّر هنا بلفظ السَّرف والاسم، وفي " النَّمل " بلفظ الجهل والفعل تكثيراً للفائدة في التعبير عن المراد، بلفظيْن متساوييْن معنىً، إذْ كلُّ سَرَفٍ جهلٌ، وبالعكس، ورعايةً للفواصل في التعبير بالاسم والفعل، إذِ الفواصلُ هنا أسماء وهي: " العالمين، المرسلين، النَّاصحين " إلى آخرها. وفي النَّمل أفعال وهي: " يعلمون، يتقون، يبصرون " فناسب الاسم هنا، والفعلُ ثَمَّ. 24 - قوله تعالى: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلَّا أَنْ

قَالُوا أخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيتكُمْ. .) قاله هنا بالواو، وفي " النمل " وفي " العنكبوت " في الموضعيْن بالفاء. لأن ما هنا: تقدَّمه اسمٌ هو " مُسْرِفونَ " والاسم لا يناسبه التعقيبُ. وما في تَيْنِكَ تقدَّمه فعلٌ، هو " تجهلون " و " تقطعون " و " تأتون في ناديكُمُ المنكر "، والفعل يناسبُه التعقيبُ، فناسبَ ذكرُ الفاءِ الدَّالة عليه ثَمَّ، وذكرُ " الواو " هنا. 25 - قوله تعالى: (لَنُخْرِجنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتنَا. .) . فيه تغليبُ الجمعِ على الواحد، إذ منهم شعيبٌ، ولم يكن في ملَّتهم حتى يعود إليها، وكذا قول شعيب " إنْ عُدْنا في مِلَّتِكُمْ بعدَ إذْ نجَّانَا اللَّهُ منهَا " على أن " عادَ " تأتي بمعنى صار، كما في قوله تعالى (حتَّى عَادَ كالعُرْجونِ القَدِيمِ) والمعنى: إن صرنا في ملَّتكم.

26 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنوا بِمَا كذَّبُوا مِنْ قَبْلُ. .) . قاله هنا بحذف المعمول وهو " به ". . وفي " يونس " بإثباتِه تَبَعاً لما قبلهما في الموضعين. إذْ قبلَ ما هنا " ولكنْ كذَّبوا " وقبل ما في يونس " كذبوا بآياتنا " بإثباته. 27 - قوله تعالى: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبهمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) . مع قوله بعدُ (كذَلكَ يَطْبَع اللَّه عَلَى قُلوبِ الكَافِرينَ) . قاله هنا أولًا بالنون، وإِضمار الفاعل، وثانياً بالياء وإِظهار الفاعل، وقال في " يونس " بالنون والإِضمار. . لأن الآيتين هنا تقدمهما الأمران: الياء مع الإِظهار مرتين في قوله تعالى: (أفأمنوا مكر اللَّهِ

فلا يأمن مكرَ اللَّهِ إلا القومُ الخاسرونَ) والنون مع الِإضمار في قوله (أنْ لَوْ نشاءُ أَصَبْناهم بذنوبهم) فناسبَ الجمعُ بين الأمرين هنا. والآية ثَمَّ تقدَّمها النونُ مع الِإضمار فقط، في قوله " نجيناهم " " وجعلناهم " " ثمَّ بعثنا " فناسبَ الاقتصار على النون مع الِإضمار ثَمَّ. 28 - قوله تعالى: (قَالَ إنْ كنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأتِ بِهَا إنْ كنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) . إن قلتَ: لم قال فرعون هذا، بعد قوله " إن كنتَ جئتَ بآيةٍ "؟ قلتُ: معناه إن كنت جئتَ بآيةٍ من عند الله فأتني بها. فإن قلتَ: كيف قال تعالى هنا حكايةً عن السَّحرة الذين آمنوا وعن فرعون " قالوا آمنا بربّ العالمين. . إلى قوله " وتوفنا مسلمين " ثم حكى عنهم هذا في " طه " و " الشعراء " بزيادةٍ ونقصان، واختلاف ألفاظٍ في الألفاظ المنسوبة إليهم، والقصةُ واحدة، فكيف اختلفتا عبارتهم فيها؟ قلتُ: حكى الله ذلك عنهم مراراً، بألفاظ متساويةٍ

معنى، جرياً على عادة العرب فِى التفنًّن في الكلام، والحذفِ في محلٍّ، إحالةً على ذكره في محلٍّ آخر، وإنما خولف في ذلك، لئلا يُملَّ إذا تمحَّضَ تكرارُه. والحكمةُ في تكرار قصة موسى وغيرها من القصص، تأكيدُ التحدي، وإظهارُ الِإعجاز، ولهذا سمَّى الله القرآن " مثاني " لأنه تُثنَّى فيه الأخبارُ والقصص، أو إفادة الغائب عن المرَّة السابقة، فقد كان أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضرُ بعضُهم، ويغيبُ بعضُهم في الغزوات، فإذا حضر الغائبون، أكرمهم الله تعالى بإعادة الوحي، تشريفاً لهم. 29 - قوله تعالى: (قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) . إن قلتَ: كيف نسبَ القول هنا للملأ، ونسبه في الشعراء لفرعون في قوله تعالى " قَال للملأ حولَه إن هذا لساحرٌ عليمٌ "؟ قلتُ: قاله فرعون وهم، فحكى قوله ثَمَّ، وقولهم وحدهم أو معه هنا. 30 - قوله تعالى: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ

فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) . قاله هنا بحذف " بسحره " وقاله في الشعراء بإثباته، لأن الآية هنا بُنيتْ على الاختصار، ولأن ما قبل الآية هنا وهو " لساحر عليمٌ " يدلُّ على السحر، بخلاف الآية ثَمَّ. 31 - قوله تعالى: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِين) قاله هنا بلفظ " وأَرْسِلْ " وفي الشعراء بلفظ " وابْعَثْ " وهما بمعنى واحد، تكثيراً للفائدة في التعبير عن المراد، بلفظيْن متساوييْن معنىً. 32 - قوله تعالى: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيم) . قاله هنا وفي " يونس " بلفظ (سَاحِر) موافقةَ لما قبله، وهو " إنَّ هذا لَسَاحِرٌ عليم " هنا، و (إنَّه لا يفلحُ السَّاحِرونَ) في يونس. وقُرىء " بكل سَحَّار " موافقةً لما في الشعراء.

33 - قوله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذنَ لَكُمْ. .) . قاله هنا بلفظ " به " وقال في طه والشعراء بلفظ " له ". لأن الضمير هنا عائدٌ إلى ربِّ العالمين، وفي تَيْنِكَ إلى موسى، لقوله فيهما (إنَّهُ لَكبيرُكُمْ) . وقيل: " آمنتم بِهِ " و " آمنتُم له " واحد. 34 - قوله تعالى: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأتِنَا بِهِ مِنْ آيةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنَ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) . إن قلتَ: كيف سمَّوْا ذلكَ آيةً مع قولهم " لِتسْحرَنا بهَا "؟! قلتُ: إنما سمَّوْه آيةً استهزاءً بموسى، لا اعتقاداً أنه آية. 35 - قوله تعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كانُوا يَعرِشُونَ) . إن قلتَ: ما الجمعُ بينه وبين قوله في الشعراء (فَأخرجناهُم من جَنَّاتٍ وعُيونٍ) ؟ الآية. قلتُ: معنى " دمَّرْنا " أبطلنا ما كان يصنع فرعون

وقومه، من المكر والكيد بموسى عليه السلام " وَمَا كانُوا يعرِشُونَ " يبنون من الصَّرح، الذي أمر فرعون هامانَ ببنائه، ليصعد بواسطته إلى السَّماء. وقيل: هو على ظاهره من أنَّ معنى " دمَّرنا " أهلكنا، لأن اللَّه تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدَّة ثمَّ دمَّره. 36 - قوله تعالى: (وَفي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) . أي نعمةٌ عظيمةٌ، إن جعلتَ الإشارة راجعة إلى الإِنجاء في قوله تعالى " وإذْ أنجيناكُمْ مِنْ آلَِ فرعونَ ". أو محنةٌ عظيمةٌ، إن جعلتَ الِإشارة راجعة إلى قتل الأبناء، واستحياءِ النساء، في قوله تعالى " يُقتِّلون أبناءكُمْ ويستحيون نسائكم ". إذِ البلاءُ بين " النِّعمة " و " المِحنة " قال تعالى: (وَبَلَونَاهمْ بالحَسَنَاتِ والسيِّئاتِ) وقال: (ونبلوكُمْ بالشرِّ والخيرِ فتنةً وإلينَا تُرْجَعون)

37 - قوله تعالى: (وَوَاعدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناهَا بِعَشرٍ. .) الآية. فإن قلتَ: المواعدةُ كانتْ أمراً بالصَّومِ في هذا العدد، فكيف ذكرَ الليالي مع أنها ليست محلًا للصوم؟! قلتُ: العربُ في أغلب تواريخها، إنما تذكرُ الليالي، وإن أرادت الأيام، لأنَّ الليل هو الأصلُ في الزمان، والنَّهار عارضٌ، لأن الظُّلمة سابقةٌ في الوجود على النور، مع أن الليل ظرف لبعض الصوم وهي النيَّة، التي هي ركنٌ فيه. 38 - قوله تعالى: (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. .) . إن قلتَ: ما فائدتُه مع علمه ممَّا قبله؟ قلتُ: فائدتُه التوكيد، والعلمُ بأن العشر ليالٍ، لا ساعات، ورفعُ توهُّم أن العشر داخلة في الثلاثين، بمعنى أنها كانت عشريِن وأُتمَّت بعشر. 39 - قوله تعالى: (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ

وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنين. .) أي أنا أول من آمن من بني إسرائيل في زمني.. أو بأنك لا تُرى في الدنيا بالحاسَّة الفانية. 45 - قوله تعالى: (وَأمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِين) " بأحسنها " أي التوراة. إن قلتَ: كيف قال " بأحسنها " مع أنهم مأمورون بجميع ما فيها؟ قلتُ: معنى " بأحسنها " بحسَنها وكلُّها حسن. . أو أُمروا فيها بالخير، ونُهوا عن الشرِّ، وفعلُ الخير أحسنُ من ترك الشرِّ، أو أن فيها حسناً وأحسن، كالقَوَد والعفو، والانتصار والصبر، والمأمور به والمباح، فأُمروا بما هو الأكثر ثواباً. 41 - قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاَ جَسَداً لَهُ خُوَاز. .) ليس المرادُ من بعد زمنِ موسى، لأن اتخاذ قومه ذلكَ إنما كان في زمنه، بل المرادُ

من بعد ذهابه إلى الجبل، أو من بعد عهده إليهم أن لا يعبدوا غير الله. 42 - قوله تعالى: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي ندموا على عبادتهم العجل. إن قلتَ: كيف عبَّر عن الندم بالسُّقوط في اليد؟ قلتُ: لأن عادة من اشتدَّ ندمه على فائتٍ، أن يعضَّ يده غمّاً، كما في قوله تعالى (ويومَ يَعَضُّ الظَّالمُ على يديْهِ) فتصيرُ يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها. 43 - قوله تعالى: (وَلَمَّارَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً. .) . الآية. إن قلتَ: يعني غضبانَ عن أسف؟ قلتُ: لا، لأنَّ " الأسِفَ " الحزينُ، وقيل: الشديدُ الغضب. 44 - قوله تعالى: (أَخَذَ الألْوَاحَ وَفي نُسْخَتِهَا هُدَىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهمْ يَرْهَبُونَ) الجملة الثانية فيها حالٌ من الألواح، والمعنى: أخذ الألواحَ، والحالُ أن فيما نُسِخَ

فيها أي كُتب - هُدىً ورحمة. 45 - قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا النَّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) أي اتبعوا القرآن الذي أُنزل معه - أي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلت: القرآنُ لم ينزل مع النبي، بل عليه، وإنما نزل مع جبريل؟! قلتُ: " معه " بمعنى مقارناً لزمنه، أو بمعنى عليه، أو هو متعلقٌ باتَّبعوا أي اتبعوا القرآن كما اتَّبعه هو، مصاحبينَ له في اتباعه. 46 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ) خصَّ الصلاة بالذكر، مع دخولها فيما قبلهَا، إظهاراً لمرتبتها، لكونها عمادَ الدين، وناهيةً عن الفحشاء والمنكر. 47 - قوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكهُ يَلْهَثْ. .) الآية. فإن قلتَ: هذا تمثيلٌ لحال " بلعام " فكيف قال

بعده " سَاءَ مثلاً القومُ " ولم يُضرب إلا لواحد؟ قلتُ: المَثَلُ في الصُّورة وإن ضُرب لواحد، فالمرادُ به كفًارُ مكة كُلُّهم، لأنهم صنعوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، بسبب ميلهم إلى الدنيا، من الكيد والمكر، ما يُشبه فعل " بلعام " مع موسى. أو أنَّ " سَاءَ مثلاً القَوْمُ " راجعٌ إلى قوله تعالى (ذَلِكَ مثَلُ القَوْمِ " لا إلى أول الآية. 48 - قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ كالأنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ. .) . إن قلتَ: كيف جمع بين الأمرين؟ قلتُ: المرأد بالأول تشبيهه بالأنعام، في أصل الضلال لا في مقداره، وبالثاني في بيان مقداره. وقيل: المرادُ بالأول التشبيه في المقدار أيضاً، لكنْ المرادُ به طائفة، وبالثاني أخرى، ووجهُ كونهم أضلُّ من الأنعام، أنها تنقاد لأربابها، وتعرف من يُحسنُ إليها، وتجتنبُ ما يضرُها. . وهؤلاء لاينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم، من

إساءة الشيطان، الذي هو عدوُّهم. 49 - قوله تعالى: (إنْ أَنَا إلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ) . إن قلتَ: كيف خصَّ المؤمِنين بالذِّكرِ، مع أنه نذيرٌ وبشيرٌ للنَّاس كافة، كماقال تعالى (وما أرسلناكَ إلَّا كافّةً للنَّاسِ بشيراً ونذيراً) ؟ قلتُ: خصَّهم بالذّكر، لأنهم المنتفعون بالِإنذار والبشارة. 55 - قوله تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكاءَ فِيمَا آتَاهُمَا. .) الآية. إن قلت: كيف قال عن " آدم وحواء " ذلكَ، مع أن الأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر، فضلاً عن الشَرك الذي هو أكبرُ الكبائر؟! قلتُ: فيه حذفٌ مضافٍ، أي جعل أولادُهما شركاءَ له " فيما آتاهما " أي آتى أولادهما، بقرينة قوله تعالى:

(فتعالى اللهُ عما يُشركونَ) بالجمع. ومعنى إشراك أولادهما في آتاهُم اللهُ، تسميتهم أولادهم ب " عبد العُزَّى " و " عبد مناة " و " عبد شمس " ونحوها، مكان " عبد الله " و " عبد الرحمن " و " عبد الرحيم ". 51 - قوله تعالى: (قُلْ لاَ أَمْلكُ لِنَفْسِي نَفْعاً ولَا ضرًّا إلا مَا شَاءَ اللهُ. .) . قدَّم النَّفع هنا على الضُرِّ، وعكسَ في " يونس " لأن أكثر ما جاء في القرآن، من لفظيْ: الضُرِّ، والنفع معاً، جاء بتقديم الضُرِّ على النفع، ولو بغير لفظهما، كالطَّوْع والكُره في الوعد، لأن العابد يعبد معبوده، خوفاً من عقابه أولاً، ثمَّ طَمَعاً في ثوابه ثانياً، كما قال تعالى " يدعون ربَّهم خوْفاً وطَمَعاً "، وحيث تقدَّم النَّفع على الضُّرِّ، تقدَّمه لفظ تضمَّن نفعاً، وذلك في ثمانية مواضع: هنا وفي الرَّعدِ، وسبأ، والأنعامِ،

وآخر يونس، وفي الأنبياء، والفرقانِ، والشُّعراءِ " فقدَّم هنا النفع لموافقة قوله قبله " من يهدِ اللهُ فهو المهتدي " الآية. وقوله بعده (لاستكثرتُ من الخير وما مسَّني السُّوءُ) إذِ الهدايةُ والخير من جنس النفع، وقدَّم الضُرَّ في آخر يونس على الأصل ولموافقة قوله قبله " ما لا يضرُّهم ولا ينفعهم ". " تَمَّتْ سُورَةُ الأعراف "

سورة الأنفال

سورة الأَنفَال 1 - قوله تعالى: (إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية. أي خافت، والمراد بالمؤمنين هنا، وفي قوله بعدُ: (أولئِك همُ المؤمنونَ حقاً) الكاملون. 2 - قوله تعالى: (وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتهُمْ إيماناً وَعَلَى رَبِّهمْ يَتَوَكلُونَ) إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن حقيقة الإِيمان - عند الأكثر - لا تزيد ولا تنقص، كالِإلهية والوحدانية؟ قلتُ: المرادُ بزيادته آثارُه من الطمأنينة، واليقين، والخشية ونحوها، وعليه يُحمل ما نُقل عن الشافعي من أنه يقبل الزيادة والنقص. 3 - قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ

بِالحَقِّ) الآية، الكاف للتشبيه أي امضِ على ما رأيته صواباً، من تنفيل الغُزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك بالحق وهم كارهون) 4 - قوله تعالى: (لِيُحِق الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كرِهَ المُجْرِمُونَ) . إن قلتَ: فيه تحصيل الحاصل؟ قلتُ: لا، لأن المراد بالحقِّ الِإيمان، وبالباطل الشرك. فإن قلتَ: ما فائدة تكرار " ليُحقَّ الحقَّ " ْ هنا مع قوله قبلُ (ويريدُ اللهُ أنْ يُحقَّ الحقَّ بكلماتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِر ينَ) قلتُ: فائدتُه أنه أُريد بالأول، ما وعدَ اللهُ به في هذه الواقعة، من النَّصر والظفر بالأعداء، بقرينة قوله عقِبه " ويقطع دابرَ الكافرين ". وبالثاني تقوية الدّين، ونصرةُ الشريعة، بقرينة قوله

عقبه " وُيبطل الباطل " 5 - قوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) الآية إِن قلتَ: كيف نفى عن المؤمنين قتلَ الكفَّار، مع أنهم قتلوهم يوم بدر، ونفى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رميهم، مع أنه رماهم يوم بدر بالحصباء في وجوههم؟! قلتُ: نفيُ الفعل عنهم وعنه باعتبار الإِيجاد، إذ الوجد له حقيقة هو اللهُ تعالى، وإثباته لهم وله باعتبار الكسب والصورة. 6 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهَ ولا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأنتُمْ تَسْمَعُونَ) . ثنَّى في الأمر، وأفرَد في النهي، تحرُّزاً بالِإفراد عن الِإخلال بالأدب من النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن نهيه الكفار في قِرانه بين اسمه واسم الله تعالى، في ذكرهما بلفظٍ واحدٍ، كما رُوِيَ أن خطيباً خطبَ فقال: " من أطاعَ اللهَ ورسوله فقد رشدَ، ومن عصاهما

فقد غوى " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: بئس خطيبُ القوم أنت، هلّاَ قلتَ: ومن عصى اللهَ ورسوله فقد غوى أو أُفرد باعتبار عوده إلى اللهِ وحده، لأنه الأصل، مع أن طاعة الله، وطاعة رسوله متلازمتان. أو أنَّ الاسم الفرد يأتي في لغة العرب وُيراد به الاثنان والجمع، كقولهم: إنعام فلانٍ ومعروفُه يُغنيني، والِإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان، وعلى ذلك قوله تعالى " وَاللهُ ورسولُهُ أحق أن يرْضُوهُ ". 7 - قوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِم خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهمْ مُعرِضونَ) معناه: ولو علم الله فيهم إيماناً في المستقبل، لأسمعهم سماع فهمٍ وقبول، أو لأنطق لهم الموتى، يشهدون بصدق نبوَّتك كما طلبوا، ولو أسمعهم أو أنطق لهم الموتى، يشهدون بما ذُكر، بعد أن علم أن لا خير فيهم، لتولَّوْا وهم معرضون، لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره، وتقدَّم في البقر الكلام على الجمع بين التولّي والِإعراض.

8 - قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية. إن قلتَ: قد عذَّبهم اللهُ يومَ بدرٍ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيهم؟ قلتُ: المراد " وأنت فيهم " مقيمٌ بمكة، وتعذيبهم ببدر إنما كان بعد خروجه من مكة. أو المرادُ: ما كان الله ليعذبهم العذاب الذي طلبوه وهو إمطار الحجارة وأنت فيهم. 9 - قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ أَلّاَ يُعَذِّبَهُمْ اللهُ وَهُمْ يَصُدًّ ونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ) الآية. إن قلتَ: هذا يُنافي قولَه أولاً (وما كانَ اللهُ ليُعذِّبهم وأنت فيهمْ؟! قلتُ: لا منافاة، لأن الأول مقيَّدٌ بكونه - صلى الله عليه وسلم - فيهم، والثاني بخروجه عنهم.

أو المرادُ بالأول عذاب الدنيا، وبالثاني عذابُ الآخرة. 10 - قوله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْديةً) الآية، أي إلّاَ صفيراً وتصفيقاً. 11 - قوله تعالى: (وَإذْ يُريكُمُوهمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) الآية. إن قلتَ: فائدة تقليل الكفَّار في أعين المؤمنين ظاهرٌ، وهو زوال الرعب من قلوب المؤمنين، فما فائدةُ تقليل المؤمنين في أعين الكفار في قوله " وُيقلِّلكم في أعينهم "؟ قلتُ: فائدته أَلاَّ يبالغوا في الاستعداد لقتال المؤمنين، لظنِّهم كمال قدرتهم فيقدموا عليهم، ثُمَّ تفجؤهم كثرةُ المؤمنين، فيُدهشوا، ويتحيروا، ويفشلوا. 12 - قوله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الآية. أي لا تتنازعوا في أمر الحرب، بأن

تختلفوا فيه، وإلاَّ فالمنازعةُ في إظهار الحقِّ مطلوبة، كما قال تعالى: (وجادلْهُم بالّتي هيَ أحسنُ) . 13 - قوله تعالى: (إنّي أَخَافُ اللهَ واللهُ شَدِيدُ العِقَابِ) . إن قلتَ: كيف قال الشيطان ذلك، مع أنه لا يخافه وإلَّا لمَاَ خالفه وأضلَّ عبيده؟! قلتُ: قاله كذباً كما قاله قتادة، أو صدقاً كما قاله عطاءٌ، لكنَّه خالف عناداً. أو الخوف بمعنى العلم، كما في قوله تعالى: (إلَّا أنْ يَخَافَا أَلأَ يُقِيمَا حدودَ اللهِ) أي أعلمُ صدق وعد اللهِ نبيَّه النصر. 4 1 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) . جوابه محذوفٌ أي يَغْلِب، دلَّ عليه قوله تعالى: " فإنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ " أي غالبٌ. 15 - قوله تعالى: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ

قَبْلِهِمْ) الآية. كرَّره لأنَّ الأول إخبار عن عذابٍ، لم يمكَنِ اللهُ أحداً من فعله، وهو ضربُ الملائكة وجوههم وأدبارهم، عند نزعِ أرواحهم. والثاني: إخبارٌ عن عذاب مكَّن اللهُ النَّاس من فعلِ مثله، وهو الِإهلاك والِإغراق. أو معنى الأول " كدأبِ آلِ فرعون " فيما فَعَلوا، والثاني " كدأب آلِ فرعون " فيما فُعِلَ بهم. أو المرادُ بالأول كفرهم بالله، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء. 16 - قوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمنون) . إن قلتَ: ما فائدةُ " فهم لا يُؤْمنون " بعد ذكرِ ما قبله؟! قلتُ: مرادُه أن يُبَيّنً أنَّ شرَّ الدوابِّ هم الذين

كفروا، واستمروا على كفرهم إلى وقتِ موتهم. 17 - قوله تعالى: (فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ. .) الآيتين. حاصلُه أنَّ البعض منا يقاوم عشرة أعشاره منهم قبل التخفيف، ويقاوم ضعفه بعده. . وقد كرَّر كلًا من المعنييْن في الآيتين. وفائدةُ التكرارِ الدَّلالة على أن الحال مع الكثرة والقلة لا يختلف، فكما تَغلِبُ العشرون المائتين، تغلب المائةُ الألف، وكما تغلبُ المائةُ المائتين، يغلب الألفُ الألفين. 18 - قوله تعالى: (ترِيدونَ عَرَضَ الدُّنْيَا واللَّهُ يرِيدُ الآخِرةَ وَاللهُ عَزِيز حكِيمٌ) . " والله يريد الآخرة " أي ثوابها، وإلَّا فهو كما يريد الآخرة، يريد الدنيا وإلَّا فما وُجدتْ. 19 - قوله تعالى: (إن الَّذينَ آمنوا وَهَاجَروا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبيلِ اللهِ) . قدَّم هنا " بأموالهم وأنفسِهم " على قوله " في سبيلِ اللهِ " وَعَكَسَ في "

براءة " لأنَّ ما هنا تقدَّمه ذكر المال والأنفس، في قوله تعالى " تُريدون عَرَضَ الدُّنيا " وقولِه " لَوْلَا كتابٌ من اللهِ سَبَقَ لمَسَّكُمْ فيمَا أخذتُم " أي من الفداء، وقوله " فكلوا ممَّا غنمتم " وما في براءة تقدَّمه ذكر " في سبيل الله " فناسب تقديم " بأموالهم وأنفسهم " وتقديم " في سبيلِ اللهِ " ثَمَ. " تَمَّتْ سُورَةُ الأنفال "

سورة التوبة

سورة التَّوبة 1 - قوله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ) . إن قلتَ: لم ترك البسملة فيها دون غيرها؟ قلتُ: لاختلاف الصحابة في أنَّ " براءة " و " الأنفال " سورتان، أو سورةٌ واحدةٌ، نظراً لأن كلاًّ منهما نزل في القتال، فترك بينهما فُرْجة، عملًا بالأول، وتُركتْ البسملة عملًا بالثاني. أو لأنَّ البسملة أمانٌ، وبراءة فيها قتلُ المشركين ومحاربُتهم، فلا مناسبة بينهما. أو لأنَّ الأنفال، لمَّا تضمَّنت طلبَ موالاة المؤمنين، بعضهم بعضاً، وأن ينقطعوا عن الكفار بالكلِّية، وكان قولُه تعالى " براءةٌ منَ اللهِ ورسولِهِ إلى الَّذينَ عاهدتُمْ منَ

المشركين " - تقريراً وتأكيداً، لذلك تُركتْ البسملة بينهما. 2 - قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّر الَّذين كَفَرْوا بِعَذَابٍ أَلِيم) . كرَّره لأنَّ الأول للمكانِ، والثاني للزمان المذكور قبل، في قوله تعالى: " فَسِيحوا في الأَرضِ أربعَةَ أشْهُرٍ ". 3 - قوله تعالى: (فَإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزكاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ. .) . كرَّره لاختلاف جزاء الشرطِ، إذْ جزاء الشرط في الأول، تخليةُ سبيلهم في الدنيا، وفي الثاني أخوَّتُهم لنا في الدِّين، وهي ليست عين تخليتهم، بل سبُبها. 4 - قوله تعالى: (كيْفَ وَإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاًّ وَلاَ ذِمَّةً. .) . " إلّاً " أي قرابة " ولا ذمَّة " أي عهداً. كرَّر ذلك بإبدال الضمير بـ " مؤمنٍ " في قوله تعالى

(لا يرقُبون في مؤمنِ إلّاً ولا ذِمَّةً) لأن الأول وقع جواباً لقوله " وإنْ يَظْهَرُواَ " أي الكفار. والثاني وقع إخباراً عن تقبيح حالهم. 5- قوله تعالى: (وَإنْ نَكَثُوأ أيمانَهُمْ مِنْ بعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمّةَ الكُفْرِ) . خصَّ فيه " أئمة الكفر " بالذِّكر، وهم رؤساءُ الكفر وقادتهم، لأنهم الأصلُ في النكثِ، والطَّعْنِ في الدِّين. 6 - قوله تعالى: (وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابنُ اللهِ وقالتِ النّصارى المسيحُ ابن اللهِ. .) قائل ذلك في كلٍّ منهما بعضُهم، لا كلّهم، فـ " أل " فيهما للعهد، لا للاستغراق، كما في قوله تعالى: (إذْ قالت الملائكةُ يا مريمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ) الآية. إذِ القائل لها ذلك إنما هو جبرائيل عليه السلام. 7 - قوله تعالى: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. .) . فائدة قوله " بأفواههم " مع أن القول لا يكون إلَّا بالفم، الِإعلام بأن ذلك مجرَّد

قول، لا أصل له، مبالغة في الرَّدِّ عليهم. 8 - قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَق. .) الآية. فائدة ذكر " دين الحقِّ " مع دخوله في الهُدَى قبله، بيانُ شَرَفِهِ وتعظيمه، كقوله تعالى " حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى ". أو أنَّ المراد بالهدى القرآنُ، وبالدِّين الإِسلامُ. 9 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. .) . أفردَ الضميرَ، مع تقدُّم اثنين " الذهب والفضة " نظراً إلى عوده إلى الفضة لقربها، ولأنها أكثرُ من الذَّهب. أو إلى عوده إلى المعنى، لأن المكنوز دراهمُ ودنانير، ونظيرُه قوله " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ". 10 - قوله تعالى: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حرمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنفسَكمْ. .) .

إن قلتَ: لم خصَّ الأربعة الحُرُم بذلك، مع أن ظلم النفس منهيٌّ عنه في كل زمانٍ؟ قلتُ: لم يَخُصَّها به، إذِ الضمير عائدٌ إلى " اثنا عشر شهراً " كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، لا إلى الأربعة الحُرُم فقط. أو خصَّها به لقربها، أو لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية. 11 - قوله تعالى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْم الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا. .) . أي لا يستأذنوك في التخلُّفَ عن الجهاد. إن قلتَ: كيف قال ذلك، معِ أن كثيراً من المؤمنين، استأذنوه فِى ذلك لعذرٍ، أخذاً من قوله تعالى (إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمَنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ وَإذَا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه) . قلتُ: لا منافاة، لأن ذلك نفيٌ بمعنى النهي كقوله تعالى: (فلا رَفَثَ وَلَا فسوقَ ولا جدال في الحجِّ) أو هو

منسوخٌ كما قال ابن عباس بقوله " لم يذهبوا حتّى يستأذنوه ". أو المراد أنهم لا يستأذنوه في ذلك لغير عذر. 12 - قوله تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهمْ فَثَبطهُمْ وَقِيلَ اقْعدوا مَعً القَاعِدِينَ) . إن قلتَ: كيف أمرهم بالقعود عن الجهاد، مع أنه ذمهم عليه؟ قلت: إنما أمرهم بذلك أمر توبيخ، كقوله تعالى " اعملوا ما شِئْتمْ " بقرينة قوله " مع القاعدينَ " أي من النّساء، والصِّبيان، والزمنَى، الذين شأنُهم القعودُ في البيوت. أو الآمِر لهم إنما هو الشيطان بالوسوسة، أو بعضهم بعضاً. 3 1 - قوله تعالى: (لَوْ خَرَجوا فِيكمْ مَا زَادوكمْ إلَّا خَبَالَاَ وَلَأَوْضعوا خِلَالَكمْ. .) . فإن قلتَ: " إذا علم اللهُ أن المنافقين، لوخرجوا مع

المؤمنين للجهاد ما زادوهم إلَّا خبالاً أي فساداً، ولأوضعوا خلالهم أي لأسرعوا في السَّعي بينهم بالنميمة، فكيف أمرهم بالخروج مع المؤمنين؟ قلتُ: أمرهم بالخروج لِإلزامهم الحجَّة، ولإِظهار نفاقهم. 14 - قوله تعالى: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِين) . أي كافرين ولو بالنفاق، بقرينة قوله (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتُهم إلّاَ أَنَّهُمْ كفَرُوا باللهِ وَبِرَسولِهِ) . 15 - قوله تعالى: (إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) قاله هنا بالباء في المتعاطفين، وقاله ثانياً، وثالثاً بحذفها من المعطوف، لأن ما في الأول غاية التوكيد بقوله (وما مَنَعَهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلّاَ أنهم كفروا) فأكَّد المتعاطفين بالباء، ليكون الكلام على نسق واحد، بخلاف الثاني

والثالث، لم يتقدمهما ذلك. 16 - قوله تعالى: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. .) الآية. قاله هنا بالفاء، وقاله بعد بالواو. لأن الفاء تتضمَّنُ معنى الجزاء، والفعلُ قبلها في قوله " ولا يأتون الصَّلاة " وقوله " ولا يُنفقون " لكونه مستقبلَاَ، يتضمَّن معنى الشَّرط، فناسب فيه الفاء، وما بعدُ ذكر قبله " كفروا باللهِ ورسوله وماتوا وهم فاسقون " والفعلُ فيهما لكونه ماضياً، لا يتضمَّن معنى الشرط، فناسب فيه الواو، وقولُه (وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ) ذكره هنا بـ " لا " وفيما بعد بدونها، لما في زيادتها هنا من التوكيد المناسب لغاية التوكيد، بالحصر فيما قبلها، وذلك مفقودٌ فيما بعد. 17 - قوله تعالى: (إنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا. .) الآية. أضاف فيها الصَّدقات، إلى

الأصناف الأربعة الأولى بلام المُلْك، وإلى الأربعة الأخيرة بـ " في " الظرفية، للإِشعار بإطلاق المُلْك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأخيرة، حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها استرجع، بخلافه في الأولى، كما هو مقرَّرٌ في الفقه، وكُرِّر في الأخيرة في قوله " وفي سبيل الله " حثًّا على الإِعانة في الجهاد لشرفه. 98 - قوله تعالى: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. .) الآية. عدَّى الِإيمان إلى الله بالباء، لتضمُّنه معنى التصديق، ولموافقته ضدَّه وهو الكفر، في قوله تعالى (مَنْ كفَرَ بِاللهِ) . وعدَّاه إلى المؤمنين باللام، لتضمُّنه معنى الِإنقياد، وموافقةً لكَثير من الآيات، كقوله تعالى (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمنٍ لنا) وقوله (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) وقوله (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) ؟ وأما قوله تعالى في موضع (قال آمنتم لَهُ قبلَ أن آذن لَكُمْ) وفي آخر (آمنتم به) فمشتركٌ الدلالة، بين الِإيمان

بموسى والِإيمان بالله، لأن من آمنَ بموسى حقيقةً آمن بالله كعكسه. 19 - قوله تعالى: (أَلمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فيها..) خبرٌ عن المنافقين الذين سبق ذكرُهم مخلَّدون في النَّار، فلا يُشكل بأنَّ المؤمن العاصي لا يُخَلَّدُ في النَّار، 20 - قوله تعالى: (يَحْذَرُ المُنَافِقُون أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا في قُلُوبِهمْ. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن إنزال السورة إنما هو على النبي لا عليهم؟ قلتُ: " على " بمعنى " في " كما في قوله تعالى (واتَّبعوا ما تتلُوا الشَّياطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمان) أو أن الإِنزال هنا بمعنى القراءة عليهم. فإن قلتَ: الحذر واقع منهم على إنزال السورة، فكيف قال (إن الله مخرج ما تَحْذَرونَ) ؟ قلتُ: معناه إن الله مظهرٌ ما تحذرون ظهوره من نفاقكم، بإنزال هذه السورة، وهو المناسب لقوله

(تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) أو مظهرٌ ما تحذرون من إنزال هذه السورة. فإن قلتَ: " تُنَبئهم بما في قلوبهم " تحصيل الحاصل، لأنهم عالمون به؟ قلتُ: تنبِّئُهم بأسرارهم، وما كتموه، شائعةً ذائعة، وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم. 21 - قوله تعالى: (المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهم مِنْ بَعْض. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك هنا بـ " مِنْ " وقال في قوله (والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعضٍ) بلفظ " أولياء " مع أنَّ " مِنْ " أدلُّ على المجانسة، لاقتضائها البعضية، فكانت بالمؤمنين أولى، لأنهم أشدُّ تجانساً في الصفات؟! قلتُ: المراد بقوله " بعضهم من بعضٍ " على دين بعض، لأن " مِنْ " تأتي بمعنى " على " كما في قوله تعالى (وَنصَرْناهُ مِنَ القَوْمِ) وقوله (للِّذينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) أي يحلفون على عدم وطئهنَّ، والمرادُ بقوله

(بعضهُم أولياءُ بعضٍ) أنصارهم وأعوانهم في الدِّينِ، وعلى ذلك فكلٌّ من اللفظيْن يصلح مكان الآخر، لكن للولاية شرفٌ، فكانت أولى بالمؤمنين والمؤمنات. 22 - قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) أي المنافقون والمنافقاتُ حبطت أعمالهم في الدنياوالآخرة، أما حبطها في الدنيا، فمن حيثُ كيدهم ومكرُهم وخداعُهم، التي كانوا يقصدون بها إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يُتم نوره. وأما حبطُها في الآخرة، فمن حيثُ إن عباداتِهم وطاعاتِهم، أتوا بها رياءً وسمعةً ونفاقاً، فحبطت أعمالهم من الخبيثات المذكورات، حيث لم يحصُل بها غرضهم في الدنيا ولا في الآخرة وأمَّا عباداتُهم التي تجري بها أحكامُ المسلمين عليهم، كحقن دمائهم وأموالهم، فينفقون بها في الدنيا خالصةً ولا عبرة به. 23 - قوله تعالى: (وَمَا لهمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَليٍّ وَلَا نَصيرٍ) .

إن قلتَ: لمَ خصَّص الأرض بالذكر، مع أنهم لا وليَّ لهم في الأرض ولا في السماء، ولا في الدنيا ولا في الآخرة؟! قلتُ: لمَّا كانوا لا يعتقدون الوحدانية، ولا يصدِّقون بالآخرة، كان اعتقادهم وجود الوليّ والنَّصير، مقصوراً على الدنيا، فعبَّر عنها في الأرض. أو أراد بالأرض أرض الدنيا والآخرة. 24 - قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) الآية. إن قلتَ: لم خصَّ السَّبعين، مع أنهم لا يُغفر لهم أصلاً، لقوله تعالى (سَوَاءٌ عَلَيْهِم أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) ولأنهم مشركون، واللِّه لا يَغفر أن يُشرك به؟ قلتُ: لأن عادة العرب جرتْ بضرب المثل في الآحاد بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، استكثاراً ولا يريدون الحصر. فإن قلتَ: لو كان المراد ذلك، لما خفيَ على

أفصح العرب، وأعلمهم بأساليب الكلام، حتى قال لما أُنزلت هذه الآية: لأزيدنَّ على السبعين، لعلَّ اللهَ أن يغفرلهم. قلتُ: لم يَخْفَ عليه ذلك، وإنما أراد بما قال إظهار كمال رأفته، ورحمته بمن بُعث إليهم، وفيه لطفٌ بأمته وحثٌّ لهم على المراحم، وشفقة بعضهم على بعض، وهذا دأبُ الأنبياء عليهم السلام، كما قال إبراهيم عليه السلام (وَمَنْ عَصَانِي فَإنَّكَ عْفورٌ رحيم) . 25 - قوله تعالى: (وَطُبعَ عَلَى قُلُوبهمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُون) . قاله هنا بالبناء للمفعول، َ وقال بعده (وَطَبَعَ اللَّهُ على قلوبهم فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) بالبناء للفاعل، لأن الأول تقدَّمه مبنيٌّ للمفعول وهو قوله " وَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ " والثاني تقدَّمه ذكر الله مرَّاتٍ، فناسب بناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، ليناسب الفاعل ما قبله، ثم ختم كلًا منهما بما يناسُبه، فقال في الأول " لا يفقهون " وفي الثاني " لا يعلمون " لأنَّ العلم فوق الفقه أي الفهم. 26 - قوله تعالى: (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ

ثُمٌ ترَدُّونَ إلى عَالِم الغَيْبِ والشَّهَادَةِ) قاله هنا بـ " ثُمَّ " بحذف " والمؤمنون ". وقاله بعدها بالواو، وبذكر " والمؤمنون ". لأنَّ الأول في المنافقين، ولا يطَّلع على ضمائرهم إلَّا الله، ثم رسولُه بإطلاع اللهِ إياه عليها. والثاني في المؤمنين، وطاعاتهم وعباداتْهم ظاهرةٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، وختم الأول بقوله " ثُمَّ تُرَدُّونَ " ليفيد قطعه عمَّا قبله، لأنه وعيد. . وختم الثاني بقوله " وستردُّون " ليفيد وصله بما قبله لأنه وعدٌ، فناسب في الأول " ثُمَّ " وحذفَ " والمؤمنون " وفي الثاني " الواو " وذكر " والمؤمنون ". فإن قلتَ: السِّينُ في " سَيَرَى اللهُ " للاستقبال، والرؤيةُ بمعنى العلم، والله تعالى عالمٌ بعملهم حالًا ومآلًا، فكيف جمع بينهما؟! قلتُ: معناه في حقِّ الله، أنه سيعلمه واقعاً مآلًا، كما علمه غيرَ واقع حالًا، لأن الله تعالى يعلم الأشياء على

ما هي عليه، فيعلم الواقع واقعاً، وغير الواقع غيرَ واقع، أمَّا في حقّ الرسولِ فهو على ظاهره. 27 - قوله تعالى: (الَأعْرَابُ أَشَدُّ كفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّاَ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْرلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ. .) فإن قلتَ: وصفَ العربِ بأنهم جاهلون بذلك، يُنافي صحَّة الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم، على كتاب اللَّهِ وسنَّة نبيه؟! قلتُ: لا منافاة، إذْ وصفُهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن، لا في ألفاظه، ونحن لا نحتجّ بلغتهم في بيان الأحكام، بل في بيان معاني الألفاظ، لأن القرآن والسُّنَّة جاءا بلغتهم. 28 - قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. .) الآية، الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلتَ: كيف نفى عنه علمه بحال المنافقين هنا، وأثبته له في قوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القَوْلِ)) ؟

قلتُ: آيةُ النَّفي نزلت قبل آية الِإثبات فلا تنافي. 29 - قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) الآية. أي خلطوا كلاَ منهما بالآخر. 30 - قوله تعالى: (وَالنَّاهُون عَنِ المنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنينَ) . إن قلتَ: لمَ عَطفَه دون ما قبله من الصِّفاتِ؟ قلتُ: لأنه وقع بعد سبع صفاتٍ، وعادةُ العربِ أن تُدخلَ الواو بعد السَّبعة. 31 - قوله تعالى: (وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إلَّا كتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَل صَالِحٌ. .) الآية. قال ذلك هنا، وقال بعد: (إلَّا كتِبَ لَهُمْ) بدون " عمل صالح "!! لأنَّ ما هنا مشتمل على ما هو من عملهم وهو قوله: (ولا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغيظُ الكُفَّارَ) إلى آخره، وعلى ما ليس من عملهم وهو قوله (ذَلِكَ بأنَّهُمْ لا يُصيبهُمْ ظمَأٌ) إلى آخره، فتفضَّل اللهُ بإجرائه مجرى عملهم في الثواب، فناسبَ

ذلك زيادةُ قوله " به عملٌ صالحٌ " ولهذا عمَّ عقِبَه في قوله (إنَّ اللهَ لا يضيع أجرَ المحسنينَ) . وما ذُكرَ في الآية الثانية، مختصٌّ بما هو من عملهم وهو قوله (ولا يُنْفِقُونَ نفقةً صغيرةً) إلى آخره، ليُكتب لهم ذلك بعينه، ولهذا خصَّهم عقِبه في قوله: (ليَجْزِيَهُمُ الله أحسنَ ما كانوا يعملونَ) . وقولُه " أحسن " أي بأحسن، والمراد بحَسَن عملهم، إذ لا يختصُّ جزاؤهم بأحسن عملهم. . أو المراد ليجزيهم أحسن من الذي كانوا يعملون. " تَمَّتْ سُورَةُ التوبة "

سورة يونس

سورة يونس 1 - قوله تعالى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً. .) قال ذلك هنا، وقال في هود: " إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ " لأن ما هنا خطابٌ للمؤمنين والكفار، بقرينة ذكرهما بعدُ، وما في " هود " خطابٌ للكفار فقط، بقرينةِ قوله قبله: " وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ". 2 - قوله تعالى: (يُفَصلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ) خصَّ التفصيل بالعلماء، مع أنه تعالى فصَّل الآيات للجهلاء أيضاً، لأنَّ انتفاعهم بالتفصيل أكثر. 3 - قوله تعالى: (وَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي القَومَ المُجْرِمِينَ) .

قاله هنا بالواو تَبَعاً لها في قوله " وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ " وقاله في مواضع أخر، بالفاء للتعقيب، على أصلها. 4 - قوله تعالى: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أدْرَاكم بِه. .) الآية. إن قلت: كيف قال النبيُّ ذلك، مع أن الله تعالى أنكر على الكفّار احتجاجهم بمشيئته في قولهم: " لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا "، ولهذا لا ينبغي لمن فعل معصيةً، أن يحتجَّ بقوله: لو شاء الله ما فعلتُها؟! قلتُ: إنَما قال النبيُّ ذلك، بأمر الله تعالى له فيه، بقوله: " قلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ. . " وللعاصي أن يَحتحَّ بذلك إذا أمرَ اللَّهُ به. 5 - قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفعُهُمْ. .) الآية.

إنْ قلتَ: كيف نفى عن الأصنامِ الضُرَّ والنفع هنا، وأثبتهما لها في قوله في الحجّ: " يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ". قلتُ: نفيُهما عنها باعتبار الذَّات، وإثباتُهما لها باعتبار السبب. 6 - قوله تعالى: (فَلَمَّا أنْجَاهُمْ إذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقّ) . . الآية. إن قلتَ: ما فائدةُ قوله " بغيرِ الحقِّ " بعد قوله " يبغون " مع أن البغيَ - وهو الفسادُ من قولهم: بَغَى الجرْحُ أي فسد - لا يكونُ إلّاَ بغير حق؟ قلتُ: قد يكون الفسادُ بحقٍّ، كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار، وهدم دورهم، وإحراقِ زرعهم، وقطعِ أشجارهم، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببني قريظة. 7 - قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاة الدُّنْيَا كمَاءٍ أنْزَلْنَاهُ مِن السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَات الأرْض. .) والآية إن قلتَ: لمَ شبه الحياة الدنيا بماء السَّماءِ، دون ماءِ الأرض؟ قلتُ: لأنَّ ماء السَّماءِ - وهو المطرُ - لا تأثير لكسبِ

العبد فيه، بزيادةٍ أو نقصٍ، أو لأنَّه يستوي فيه جميعُ الخلائق، بخلافِ ماء الأرض فيهما، فكان تشبيهُ الحياةِ به أنسبَ. 8 - قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ والْأَرضِ. . إلى قوله: فسَيَقُولُونَ اللَّهُ) إن قلتَ: هذا يدل على أنهم معترفون بأنَّ الله هو الخالقُ، الرازقُ، المدبِّرُ، فكيفَ عبدوا الأصنام؟! قلتُ: كلُّهُم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنامَ، عبادةَ اللَّهِ تعالى، والتقرُّبَ إليه، لكنْ بطرقٍ مختلفةٍ. ففرقةٌ قالت: ليستْ لنا أهليَّةٌ لعبادةِ اللَّهِ تعالى، بلا واسطة لعظمتِهِ، فعبدْنَاها لتقرِّبنا إليه تعالى، كما قال حكايةً عنهم " ما نعبدهم إِلَاّ ليُقَرِّبونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى ". وفرقةٌ قالت: الملائكة ذَوُو جاهٍ ومنزلةٍ عند الله، فاتَّخذنا أصناماً على هيئة الملائكة، ليقرِّبونا إلى اللَّهِ. وفرقةٌ قالت: جعلنا الأصنام قبلةً لنا في عبادة الله تعالى، كما أنَّ الكعبة قبلةٌ في عبادته. وفرقةٌ اعتقدتْ أنَّ على كل صنمٍ شيطاناً، موكَّلاً بأمر الله، فمن عَبَدَ الصَّنم حقَّ عبادته، قضى الشيطانُ

حوائجَه بأمر الله، وإلّاَ أصابه الشيطانُ بنكبةٍ بأمرِ الله. 9 - قوله تعالى: (قلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُم يُعِيدُهُ. .) الآية. إن قلتَ: كيفَ قال ذلك، مع أنهم غيرُ معترفين، بوجود الِإعادة أصلاً؟! قلتُ: لمَّا كانت الِإعادةُ، ظاهرةَ الوجود لظهور برهانها، وهو القدرةُ على إعدامِ الخَلْقِ، والِإعادةُ أهون بالنسبةِ إلينا، لزمهم الاعترافُ بها، فكأنهم مسلَّمون وجودها، من حيثُ ظهورُ الحجَّةِ ووضوحُها. 10 - قوله تعالى: (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهمْ ثُمََ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى ما يفعَلُونَ) . رتَّب شهادته على فعلهم، على رجوعهم إليهِ فيِ القيامة، مع أنه شهيدٌ عليهم في الدنيا أيضاً، لأن المراد بما ذُكِرَ نتيجتُه، وهو العذابُ والجزاءُ، كأنه قال: ثمَّ اللَّهُ معاقبٌ، أو مجازٍ على ما يفعلون. 11 - قوله تعالى: (قُلْ أرَأيْتُمْ إِنْ أَتَاكمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أوْ نَهَاراً. .) الآية.

إن قلت: لمَ قال " بياتاً " ولم يقل: ليلاً، مع أنه أكثرُ استعمالاً، وأظهرُ مطابقةً مع النَّهار؟ قلتُ: لأنَّ المعهود في الاستعمال، عند ذكر الِإهلاكِ والتهديد، ذكرُ البَيَاتِ، وإن قُرِنَ به النَّهار. 12 - قوله تعالى: (ألاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا في السَّمَوَاتِ وَالْأرْض. .) الآية. قاله هنا بلفظ " ما " ولم يكرِّرْه، وقاله بعدُ بلفظ " مَنْ " وكرَّره، لأنَّ " ما " لغير العقلاء، وهو في الأوَّل المالُ، المأخوذُ من قوله تعالى: " لافْتَدَتْ بِهِ "، ولم يكرِّر " ما " اكتفاءً بقوله قبله: " وَلَوْ أنَّ لكلِّ نفْسِ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَت بِهِ ". و" مَنْ " للعقلاء، وهم في الثاني قومٌ آذَوْا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فنزل فيهم " ولا يَحْزُنْكَ قولُهُمْ " وكرَّر " مَنْ " لأن المرادَ مَنْ في الأرض، وهم القومُ المذكورون، وإنما قدَّم عليهم " مَنْ في السَّماء " لعُلوِّها، ولموافقة سائرِ الآيات،

سوى ما قدَّمتُه في " آل عمران "، وذكر في قوله بعد: " لَهُ مَا في السَّمَواتِ وَمَا فِي الأرْضِ " بلفظ " ما " وكرَّر لأن بعض الكفار قالوا " اتَّخذَ اللَّهُ ولداً " فقال تعالى " لهُ ما في السمواتِ وما في الأرض " (أي اتخاذ الولد إنما يكون لدفع أذى، أو جلب منفعة، واللَّهُ مالكُ ما في السموات والأرض) فكان المحلُّ محلّ " ما " ومحلّ التكرار، للتعميم والتوكيد. فإن قلتَ: لمَ خصَّ " ما في السموات وما في الأرضِ " بالذِّكر، مع أنه تعالى مالكٌ أيضاً للسَّموات والأرض وما وراءهما؟ قلتُ: لأنَّ في السمواتِ والأرض الأنبياءَ، والملائكةَ، والعلماءَ، والأولياء، ومن يعقلُ فيهم أحقُّ بالذِّكر، مع أن غيرهم مفهومٌ بالأوْلى. 13 - قوله تعالى: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيَامة. .) الآية. إن قلتَ: هذا تهديدٌ، فكيف ناسبَه قولُه بعدُ " إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ على النَّاسِ "؟

قلتُ: هو مناسبٌ لأنَّ معناه: إنَّ اللَّهَ لذو فَضْلٍ على النَّاس، حيثُ أنعم عليهم بالعقلِ، وإرسالِ الرُّسلِ، وتأخيرِ العذابِ، وفتح باب التوبة، أي كيف تفترون على اللَّهِ الكذبَ مع تضافر نِعَمِه عليكم؟! 14 - قوله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ. .) الآية. إن قلتَ: كيف جَمعَ الضميرَ، مع أنه أفرَدَ قبلُ في قوله: " وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منه من قرآن " والخطابُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -؟! قلتُ: جَمعَ ليدُلَّ على أنَّ الأمَّة، داخلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما خُوطب به قبلُ، أوجمعَ تعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قولهِ تعالى " يَا ايُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ". 15 - قوله تعالى: (وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. .) أي لكَ لستَ مرسلاً، فالمقولُ محذوفٌ كنظيره في " يس "، والوقفُ على " قولُهُمْ " فيهما لازمٌ،

ويمتنع الوصلُ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - منزَّهٌ عن أن يُخاطبَ بذلك. 6 1 - قوله تعالى: (إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) . قال ذلك هنا، وقال في سورة المنافقين " وَللَّهِ العِزَّةُ ولرسُولِهِ وللمؤمنينَ " لأن المراد هنا، العزَّةُ الخاصَّة باللَّهِ وهي: عزَّةُ الِإلهيّة، والخلقِ، والِإماتةِ، والِإحياءِ، والبقاءِ الدائم، وشبْهِهَا. وهناكَ العزَّةُ المشتركةُ، وهي في حقِّ اللَّه تعالى: القدرةُ، والغلبةُ. وفي حقِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -: عُلُوُّ كلمتِه، وَإظهارُ دينه. وفي حقِّ المؤمنين: نصرُهم على الأعداء. 17 - قوله تعالى: (قَالَ مُوسَى أتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أسِحْرٌ هَذَا. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال موسى إنهم قالوا: أسحرٌ هذا؟ بطريق الاستفهام، مع أنهم إنما قالوه بطريق الِإخبار المؤكَّدِ، في قوله تعالى: " فَلَمَّا جاءهُمُ الحقُّ من عندِنَا

قالُوا إنَّ هَذَا لسِحْرٌ مُبِينٌ "؟! قلتُ: فيهِ إضمارٌ تقديرُه: أتقولونَ للحقِّ لمَّا جاءكِم، إنَ هذا لسحرٌ مبينٌ؟ ثم قال لهم: أسحرٌ هذا؟ إنكاراً لما قالوه، فالاستفهامُ للِإنكار، من قول " موسى " لا من قولهم. 18 - قوله تعالى: (فَمَا آمَنَ لمُوسَىِ إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهمْ أنْ يَفْتِنهُمْ. .) قاله هنا بضمير الجمع، لعودِه إلى الذُّريَّة، أو القوم، لتقدّمهما عليه، بخلافِ بقية الآيات، فإنه بضمير المفرد، لعودِه إلى فرعونَ. 19 - قوله تعالى: (وَأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأخِيهِ أنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) . ثَنَّى ضميرَ المأمور فيها، لعوده إلى موسى وأخيه، للتصريح بهما. وَجَمعه ثانياً، لعوده إليهما مع قومهما، لأن كلاً

منهم مأمورٌ بجعل بيته قبلةً يصلِّي إليها، خوفاً من ظهورها لفرعون. وأفرده ثالثاً لعوده إلى موسى، لأنه الأصلُ المناسبُ تخصيصُه بالبشارة لشرفها. 20 - قوله تعالى: (قَالَ قَدْ أجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا. .) الآية. إنْ قلتَ: لمَ أضافَ الدعوةَ إليها، مع أنها إنما صدرت من موسى عليه السلام، لآية " وقال موسى ربَّنَا إنكَ آتيتَ فرعونَ وَمَلأهُ زينةً. . " الآية؟ قلتُ: أضافهما إليهما لأن " هارون " كان يؤمِنُّ على دعاء موسى، والتأمينُ دعاءٌ في المعنى، أو لأن هارون دعا أيضاً مع موسى، إلَّا أنه تعالى خص موسى بالذِّكر، لأنه كان أسبقَ بالدعوة، أو أحرص عليها. 21 - قوله تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْألِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ. .)

إن قلتَ: " إنْ " للشك، والشكُّ في القرآن منتفٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - قطعاً، فكيف قال اللَّهُ ذلك له؟! قلتُ: لم يقل له، بل لمنْ كان شاكّاً في القرآن، وفي نبوَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينافيه قولُه " ممَّا أنزلنا إليكَ " لوروده في قولهِ " وأنزِلنا إليكم نوراً مبيناً " وقوله " يَحْذَرُ المنَافِقون أنْ تُنزَّلَ عليهمْ سُورَةٌ ". وقيلَ: الخطابُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيرُه، كما في قوله تعالى " يا أيها النبيُّ اتَّقِ اللَّهَ ولا تطِعِ الكافِرِينَ والمنافقين ". أو المرادُ إلزامُ الحجَّةِ على الشاكِّينِ الكافرين، كما يقول لعيسى عليه السلام " أأنتَ قلتَ للنَّاسِ اتَّخِذُوني وأمِّيَ إلهيْنِ منْ دُونِ اللَّهِ "؟ وهو عالمٌ بانتفاء هذا القول منه، لِإلزام الحجَّة على النصارى. 22 - قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كلّهُمْ جَمِيعاً. .) الآية.

فائدةُ ذكرِ " جميعاً " بعد " كُلُّهُمْ "، مع أنَّ كلاًّ منهما يفيد الإِحاطةَ والشمولَ، الدِّلالةُ على وجود الإيمان منهم، بصفة الاجتماع الذي لا يدلُّ عليه " كلّهم " كقولك: جاء القوم جميعاً أي مجتمعين، ونظيرُه قوله تعالى: " فسَجَدَ الملَائِكَةُ كلُّهُمْ أجْمَعُونَ ". 23 - قوله تعالى: (وَأمِرْتُ أنْ أكونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) . قال ذلك هنا، موافقةً لقوله قبلُ: " كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ". وقال في النَّمل: " وأمِرْتُ أنْ أكونَ منَ المُسْلِمينَ " موافقةً لقوله قبلُ: " فهم مُسْلِمُونَ ". 24 - قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فلا رادَّ لفضْلِهِ. .) الآية.

إن قلتَ: لمَ ذكرَ المسَّ في الضُّرِ، والِإرادةَ في الخير؟! قلتُ: لاستعمال كلٍّ من المسِّ، والِإرادة، في كلٍّ من الضُرِّ والخير، وأنه لا مُزيل لما يصيب به منهما، ولا رادَّ لما يريده فيهما، فأوجزَ الكلامَ بأن ذكَرَ المسَّ في أحدهما، والِإرادةَ في الآخرِ، ليَدُلَّ بما ذَكَرَ على ما لم يذْكَرَ، مع أنه قد ذَكَرَ المسَّ فيهما في سورة الأنعام. " تَمَّتْ سُورَةُ يونس "

سورة هود

سورة هود 1 - قوله تعالى (وَأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أجَلٍ مُسَمَّىً. .) . " ثُمَّ " للترتيب " الإِخباري لا الوجودي " إذِ التوبةُ سابقة على الاستغفار. أو المعنى: استغفروا ربكم من الشِّرك، " ثُمَّ تُوبُوا " أي ارجعوا إليه بالطاعة. إن قلتَ: نجدُ من لم يستغفرِ اللَّهَ ولم يَتُبْ، يمتِّعُه اللَّهُ متاعاً حسناً إلى أجلِهِ، أي يرزُقُه ويوسِّعُ عليهِ كما قال ابنُ عباس، أو يُعمِّره كما قال ابن قتيبة، فما فائدةُ التقييدِ بالاستغفار والتوبة؟! قلتُ: قال غيرهما: المتاعُ الحسنُ - المقيَّدُ بالاستغفارِ والتوبةِ - هو الحياةُ في الطَّاعةِ والقناعة، ولا

يكونانِ إلّاَ للمستغفِر التَّائب. 2 - قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا. .) الآية. لم يقل " على الأرض " مع أنه أنسبُ بتفسير الدابة لغةً، لأنها ما يدبُّ على الأرض، لأنَّ " في " أعمُّ مِنْ " عَلَى " لأنها تتناول من الدوابِّ ما على ظهرِ الأرض، وما في بطنها. وقيل: " في " بمعنى " على " كما في قوله تعالى (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوع النَّخْلِ) وقولِهِ (أمْ لهمْ سُلَّمٌ يَسْتمعُونَ فِيهِ) وظاهرٌ أنَّ تفسير الدابة بما يَدبُّ على الأرض، يتناول الطير، فلا يَرِدُ أنَّ الآية، لا تتناول الطير في ضمان رزقه. فإن قلتَ: " عَلَى " للوجوب، واللَّهُ تعالى لا يجبُ عليه شيءٌ؟

قلتُ: المرادُ بالوجوب هنا " وجوبُ اختيار لا وجوبُ إلزامِ " كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غُسْلُ يومِ الجمعةِ واجبٌ علَى كلِّ محتَلم " وكقولِ الِإنسان لصاحبه: حقُّك واجبٌ عليَّ. أو " عَلى " بمعنى " مِنْ " كما في قوله تعالى: " الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ " 3 - قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَن ذَهَبَ السّيِّئَاتُ عَنى) قاله هنا، وقال في " فصِّلت ": (وَلَئِنْ أذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) بزيادة " منَّا " و " مِنْ "، لأنه ثَمَّ بَيَّن جهة الرحمة، بقوله: " لا يَسْأَمُ الِإنْسَانُ منْ دُعَاءِ الخَيْرِ " فنايسبَ ذكرُ " منَّا " وحذَفَه هنا اكتفاءً بقوله قبلُ: " وَلَئِنْ أذقْنَا الِإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ". وزاد " من " ثَمَّ، لأنه لمَّا حدَّ الرحمة وجهَتَها، حدَّ ألظَّرْف بعدها لتَتَشَاكلا في التحديد، وهنا لمَّا أهمل

الأول، أهمل الثاني ليَتَشاكلا. 4 - قوله تعالى: (فَلَعَلكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ. .) الآية. إنما قال " ضَائِقٌ " ولم يقل: ضيِّقٌ، لموافقة قوله قبلَه: " تاركٌ "، وليدلَّ على أنه ضِيقٌ عارضٌ لا ثابت، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أوسعَ النَّاسِ صدراً. ونظيرُه قولُك: زيد سائدٌ وجائد، تريد حَدَثَ فيه السيادةُ والجودُ، فإنْ أردتَ وصفه بثبوتهما، قلتَ: زيد سيِّدٌ وجواد. 5 - قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ. .) . أي مثله في الفصاحة والبلاغة، وإلَّا فما يأتون به مُفْترى، والقرآنُ ليس بمفترى. أو معناه: مفترياتٍ كما أنَّ القرآنَ - في زعمكم - مُفْتَرى!! فإِن قلتَ: كيف أفردَ في قوله " قُلْ " ثمَّ جَمَعَ في

قوله " فإن لم يستجيبوا لكم "؟ قلتُ: الخطابُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما، لكنَّه جَمَعَ في " لكم " تعظيماً، وتفخيماً له، ويعضُده قولُه في سورة القصص: (فإنْ لمْ يَسْتَجيبُوا لكَ) . أو الخطابُ في الثاني للمشركين، وفي " يَسْتَجِيبُوا " لِـ " مَنِ اسْتَطَعْتُمْ " والمعنى: فأتُوا أيها المشركون بعشر سورٍ مثلِهِ، إلى آخره، فإن لم يستجبْ لكم من تدعونه، إلى المظَاهرةِ على معارضتِهِ لعجزهم " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " وبالنظر إلى هذا الجواب، جُمِعَ الضميرُ في " لم يستجيبوا لكم " هنا، وأفردَ في القَصَص. فإن قلتَ: قال في سورة يونس " فَأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ " وقد عجزوا عنه، فكيفَ قال هنا: " فَأتُوا بعشر سُوَرٍ مِثْلِهِ "؟! قلت: قيل: نزلتْ سورةُ هودٍ أولَاَ، لكنْ أنكره المبرّد وقال: بل سورةُ يونس أولاً، قال: ومعنى قوله في سورة يونس " فأتوا بسورةٍ مثلِهِ " أي في الِإخبار عن الغيب، والأحكامِ، والوعدِ والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في

سورة هود: إنْ عجزتم عن ذلك، فأتوا بعشر سور مثلهِ في البلاغة، لا في غيره مما ذُكرَ، وما قاله هو المتَّجِه. هذا وتحريرُ الأول، مع زيادة أن يُقال: إنَّ الِإعجاز وقع أولاً بالتحدِّي بكل القرآن في آية " قُل لَئِن اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ " فلمَّا عجزوا تحدَّاهم - بعشر سورٍ، فلما عجزوا تحدَّاهم بسورة، فلما عجزوا تحدّاهم (1! - بدونها بقوله: " فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مثلِهِ ". 6 - قوله تعالى: (لَا جَرَمَ أنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ) . قال ذلكَ هنا، وقال في النَّحل: " هُمُ الخاسرون " لأنَّ ما هنا نزل في قومٍ صدُّوا عن سبيل الله، وصدُّوا غيرهم، فضلُّوا وأضلُّوا.. وما هناكَ نزل في قومِ صدُّوا عن سبيل الله، فناسب في الأول " الأخسرون " وفَي الثاني " الخاسرون ". 7 - قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ. .) . قال هنا بتقديم " رحمةً " على الجارّ والمجرور،

وعكس بعدُ في قوله " وآتاني منه رحمةً " وفي قوله " ورزقني منه رزقاً حسناً " ليوافق كلٌّ منهما ما قبله، إذِ الأفعال المتقدمة هنا وهي: " ترى، ونرى، ونظنُّ " لم يفصل بينها وبين مفاعيلها جار ومجرور، والفعلُ المتقدِّم بعدُ، وهو " كان " في الثاني و " نَفْعَلَ " في الثالث، فَصَل بينه وبين مفعوله جار ومجرور، إذ خبرُ " كان " كالمفعول. فإن قلتَ: لمَ قال في الأوَّلَيْن " وآتاني " وفي الثالث " ورزقني "؟! قلتُ: لأنَّ الثالث تقدَّمه ذكرُ الأموال، وتأخَّر عنه قولُه " رزقاً حسناً " وهما خاصَّان، فناسبهما قولُه " ورزقني " بخلاف الأوَّليْن فإنه تقدَّمهما أمور عامة، فناسبها قوله، " وآتاني ". 8 - قوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ لَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أجْرِيَ إِلّاَ عَلَى اللَّهِ. .) .

إن قلتَ: لمَ قال هنا حكايةً عن نوحٍ بلفظ " مالاً " وقاله بعدُ حكايةً عن هودٍ بلفظِ " أجراً "؟! قلتُ: توسعةً في التعبير عن المراد بمتساوييْن، ولأن قصَّةَ نوحٍ وقع بعدها " خزائنُ " والمالُ بها أنسَبُ. فإن قلتَ: لم قال في الأولى " ويا قوم " بالواو، وفي الثانية " يا قوم " بدونها؟ قلتُ: لطول الكلام، الواقع بين الندائين في قصة نوح، وقصر ما بينهما في قصة هود، فناسب ذكرُ الواو في الأول لتوصيل ما بعدها بما قَبْلَها. 9 - قوله تعالى: (قَالَ لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ. .) الآية. الاستثناءُ فيه منقطعٌ، لأن من رحمه اللَّهُ معصومٌ لا عاصم. أو متَّصلٌ لأن معنى من رحمَ الراحمُ - وهو اللَّهُ - فكأنه قيل: لا عاصم إلا اللَّه. أو لأنَّ عاصماً بمعنى معصوم، كـ " مَاءٍ دَافِقٍ "،

و (عيشةٍ راضية) 10 - قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أقْلِعِي. .) الآية. إن قلتَ: هما لا يعقلان فكيف أُمِرا؟ قلتُ: الأمرُ هنا أمرُ " إيجادٍ " لا أمرُ " إيجاب "، فلا يُشترط فيه فهمٌ ولا عقل، لأنَّ الأشياء كلَّها منقادةٌ للَّهِ تعالى، ومنه قوله تعالى: " إِنَّما أمرُنا لِشَيْءٍ إذَا أرَدْنَاهُ أنْ نقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " وقوله: " فَقَالَ لها وللأرْضِ ائتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً قَالَتا أتَيْنَا طَائِعِينَ ". 11 - قوله تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أهْلِي. .) الآية. قاله هنا بالفاء، وقال في مريم في قصة زكريا " إذْ نَادَى ربَّهُ نِدَاءً خفياً قال ربّ " بلا فاء. . لأنه أريد بالنداء هنا إرادتُه، فهي سببٌ له، فناسبت الفاء الدالة على السببيَّة، وهناك لم يُردْ ذلكَ، فناسب تركُ الفاء. 12 - قوله تعالى: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ. .) الآية.

إن قلتَ: هود كان رسولًا، فكيف لم يُظْهِرْ معجزةً؟! قلتُ: قد أظهرها وهي " الريحُ الصَّرْصَرُ " ولا يُقبل قولُ الكفَّار في حقه. قال بعضهم: أو إنَّ الرسول إنما يَحْتاج إلى معجزة، إذا كان صاحب شَريعة، لتنقادَ أمتُه إليها، إذْ في كل شريعةٍ أحكام غير معقولة، فيحتاج الرسولُ الآتي بها إلى معجزةٍ، تشهد بصحة صدقه، وهودٌ لم يكن له شريعةٌ، وإِنَّما كان يأمر بالعقل، فلا يَحْتاج إلى معجزة، لأنَّ الناسَ ينقادون إلى ما يأمرهم به، لموافقته للعقل. والمعتمدُ الجوابُ الأول، ولا يلزم من عدم إظهاره معجزةً، عدمُها في نفس الأمر، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ إلّاَ وقد أوتيَ منَ الآياتِ، ما مثلُه آمَن عليهِ البشرُ. .) . وقولُهم " ما جئتنا ببيِّنةٍ " كقول غيرهم " إنْ هُوَ إلّاَ رجل بهِ جِنَّة " " إنَّ هذا لساحر عليم ".

13 - قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) . قاله في قصة " هود " و " شعيب " بالواو، وفي قصة " صالح " و " لوط " بالفاء، لأن العذاب في قصة الأوَّليْن تأخَّر عن وقت الوعيد، فناسبَ الإِتيانُ بالواو، وفي قصة الأخيرين وقع العذابُ عقب الوعيد، فناسبَ الِإتيان بالفاء، الدَّالةِ على التعقيب. 14 - قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ مَا أرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ. .) الآية جوابُ الشرط محذوفٌ، إذِ الِإبلاع ليس هو الجواب، لتقدّمِه على تولِّيهم، وإنما هو متعلَّقُ الجوابِ، والتقديرُ: فقل لهم: قد أبلغتكُم. 15 - قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِنْ عَذَابٍ

غَلِيظٍ) . كرَّر التنجية، لأنَّ المراد بالأولى: تنجيتُهم من عذاب الدنيا، الذي نَزَلَ بقوم هود، وهي " سَمُومٌ " أرسلها اللَّهُ عليهم، فقطَّعتهم عُضْواً عُضْواً. وبالثانية: تنجيتُهم من عذاب الآخرة (1) ، الذي استحقَّه قوم هودٍ بالكفر. 16 - قوله تعالى: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ. .) الآية. قاله هنا بذكر " الدنيا " وقال في قصة موسى بعد " وَاتْبِعُوا في هذِهِ لَعْنَةً " بحذفها، اختصاراً واكتفاءً بما هنا. 17 - قوله تعالى: (وَأخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) . قاله هنا في قصة صالح، بلا " تاء " وقاله بها بعدُ في قصة شعيب، وكلٌّ صحيح، لكنْ اختصَّ الثاني بها، لأنَّ قوم شعيب وقع الِإخبار عن عذابهم، بثلاثة ألفاظٍ مؤنثة

الأعراف، والعنكبوت " فأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ " وهنا " الصيحةُ " وفي الشعراء " الظُلَّة " - وقعت لهم الثلاثة في ثلاثةِ أوقات. 18 - قوله تعالى: (فَأسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ منَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحدٌ إلّاَ امرأتَكَ. .) استثنى فيها " إلّاَ امْراتَكَ " ولم يستثنها منها في الحِجْر اكتفاءً باستثنائها ثَمَّ قبله في قوله: " إِنَّا لَمنَجُّوهُمْ أجْمَعِينَ إِلَّا امْراتَهُ ". 19 - قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُصُوا المِكْيَالَ والمِيزَانَ إِنِّي أرَاكمْ بِخيْرٍ. .) الآية. هذا النَّهيُ يتضمَّن الأمر بالِإيفاء، وصرَّح به بعدُ في قوله (وَيَا قَوْمِ أوْفُوا المِكْيالَ والمِيزَانَ بِالقِسْطِ) وهو يتضمَّنُ النهي عن النقص، ففي ذلك تأكيدٌ على الحثِّ على عدم البَخْس، وعلى الحثَ على العدل، وقدَّمَ النَّهيَ على الأمر، لأنَّ دفع المفاسد آكدُ

من جلبِ المصالح. 20 - قوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بإِذْنِهِ. .) الآية. مُقَيدٌ لقوله تعالى: (يَوْمَ تَأتي كُل نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي بإذن الله، ولا يُنافي ذلك قوله تعالى (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ. وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) . لأنَ في يوم القيامة مواقفَ، ففي بعضها لا يُؤذن لهم في الكلام، فيُكفُّون عنه، وفي بعضها يُؤذنُ لهم فيه، فيتكلمون. 21 - قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِى وَسَعِيد) . إن قلتَ: " مِنْ " للتبعيض، ومعلومٌ أن الناس كلهم، إما شقى أوسعيد، فما معنى التبعيض؟! قلتُ: التبعيضُ صحيح لأنَ أهلَ القيامة ثلاثةُ أقسام: أ - قسم شقى، وهم أهلُ النَار. ب - وقسمٌ سعيدٌ، وهم أهلُ الجنَة. ج - وقسمٌ لا شقي ولا سعيدٌ، وهم أهل

الأعراف، وإن كان مصيرُهم إلى الجنة، كما قاله قتادة وغيره. 22 - قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموَاتُ وَالأرْض. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنَّ السمواتِ والأرضَ يَفْنيان، وذلكَ يُنافي الخلودَ الدائم؟! قلتُ: هذا خرج مَخْرج الألفاظ، التي يُعَبِّر العرب فيها عن إرادة الدوام، دون التأقيت، كقولهم: لا أفعل هذا ما اختلفَ الليلُ والنَّهارُ، وما دامتِ السمواتُ والأرضُ، يريد لا يفعلُه أبداً. أو أنهم خوطبوا على معتقدهم أنَّ السمواتِ والأرضَ لا يفنيان. أو أن المراد سمواتُ الآخرة وأرضُها، قال تعالى: " يوم تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرضِ والسَّمواتُ " وتلك دائمة لا تفنى. إن قلتَ: إذا كان المرادُ بما ذُكر الخلودُ الدائم، فما معنى الاستثناء في قوله " إلَّا ما شاء ربُّك "؟ قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب أهل النار

(1) ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، لأن أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده، بل يُعذَّبون بالزمهرير، وبأنواع أخَرَ من العذابِ، وبما هو أشدُّ من ذلك، وهو سَخَطُ اللَّهِ عليهم. وأهلُ الجنة لا يُخلَّدون في نعيمها وحده، بل يُنعَّمون بالرضوان، والنظرِ إلى وجهِه الكريم، وغير ذلك، كما دلَّ عليه قوله تعالى (عَطَاءً غيرَ مَجْذُوذٍ) . أو " إلّاَ " بمعنى غير، أي خالدين فيها ما دامت السَّمواتُ والأرضُ، غير ما شاء اللَّهُ من الزيادة عليهما، إلى ما لا نهاية له. أو " إلَّا " بمعنى الواو، كقوله تعالى (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ) . 23 - قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأهْلُهَا مُصْلِحُونَ) . قاله هنا بصيغة " لِيُهْلِكَ " لأنه لمَّا ذكر قولَه " بِظُلْمٍ " نفى الظُّلم عن نفسه، بأبلغ لفظٍ يُستعمل في النفي، لأنَّ اللام فيه لام الجحود، والمضارعُ يُفيد الاستمرار، فمعناه: ما فعلتُ الظُّلمَ فيما مضى، ولا

أفعله في الحال، ولا في المستقبل، فكان غايةً في النفي. وقاله في القصص، بدون ذكر " بظلمٍ "، فاكتفى بذكر اسم الفاعل، المفيد للحال فقط، وإن كان يُستعمل في الماضي، والمستقبل مجازاً. 24 - قوله تعالى: (وَكلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ. .) الآية. إن قلتَ: ما الجمعُ بينه وبينِ قوله تعالى " وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ "؟ قلتُ: معناه كلُّ نبأٍ نقصُّه عليك من أنباء الرسل، هو ما نثبت به فؤادك، ف " ما " في موضع رفعٍ خبر مبتدأ محذوف، فلا يقتضى اللفظُ قصَّ أنباء جميع الرسل. 25 - قوله تعالى: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ. .) . أي في هذه الأنباءِ، أو الآيات، أو السورة.

خَصَّها بالذِّكر، تشريفاً لها، وإن كان قد جاءه الحقُّ في جميع السُّوَر، كقوله تعالى: (حَافِطوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى. .) . والتعريف ب " في هذه الحقُّ " إما للجنس، أو للعهد، والمرادُ به: البراهينُ الدالة على التوحيد، والعدل، والنُبُوَّة. " تَمَّتْ سُورَةُ هود "

سورة يوسف

سورة يوسف 1 - قوله تعالى: (وَالشَمْسَ وَالقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) . ذِكرُ الرؤيةِ ثانياً، جواباً لسؤالٍ مقدَّر من " يعقوب " عليه السلام، كأنه قال ليوسف بعد قوله: " إِنِّي رأيتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ والقمَرَ " كيفَ رأيتها؟ سائلًا عن حال رؤيتها، فقال مجيباً له: رأيتُهم لي ساجدين. وقيل: ذكره توكيداً، وجمع الكواكب في قوله " رأيتُهُمْ لي سَاجِدِينَ " جمع العقلاء، لوصفه لها بما هو من صفات العقلاء وهو السجود، كقوله تعالى: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكنكُمْ لاَ يَحْطِمنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ. .) . 2 - قوله تعالى: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطْرَحُوهُ

أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أبِيكُمْ. .) الآية. هذا قولُ إخوة يوسف. إن قلتَ: كيف قالوا ذلك وهم أنبياءُ؟! قلتُ: لم يكونوا أنبياءَ على الصحيح (1) ، وبتقدير أنهم كانوا أنبياءَ، إنما قالوا ذلك قبل نبوِّتهم. والجوابُ بأن ذلك من الصغائر، أو بانهم قالوه في صغرهم ضعيفٌ. 3 - قوله تعالى: (أرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نَرتَعْ وَنَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (2) . إن قلتَ: كيف قالوا ذلك، مع أنهم كانوا بالغينَ عاقلين، وأنبياء أيضاً على قول؟ وكيف رضي يعقوب بذلك منهم على قراءة النون؟! قلتُ: كان لعبُهم المسابقة والمناضلة، يؤيده

" إنَّا ذهبنا نستبقُ "، وسمَّوه لعباً لأنه في صورة اللَّعب. قال الفخر الرازي: وُيرَدُّ على أصل السؤال أن يُقال: كيف يتورَّعون عن اللَّعب، وهم قد فعلوا ما هو أعظم حرمةً من اللَّعب وأشدُّ، وهو إلقاءُ أخيهم في الجُبِّ على قصد القتل إ! قلتُ: لم يكن وقتَ إلقاء أخيهم يوسف في الجبِّ، وقتُ طلب تورّعهم عن اللَّعب ولا قتله، وأصلُ السؤال إنما وقع على طلب التورًّع المتقدِّم على الِإلقاء، لكنْ يُطلب الجوابُ عن إلقائهم له في الجب من أن ذلك من المعاصي؟ وُيجابُ بما مرَّ في الجواب عن قولهم " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً "!! 4 - قوله تعالى: (وَأوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِئَنَّهُمْ بِأمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشعُرُونَ) . " وأوحينا إليه " أي وحيَ إلهام لا وحيَ رسالة، لأنه يومئذٍ لم يكن بالغاً، ووحيُ الرسًالةِ إنما يكونُ بعد الأربعين. 5 - قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أشدهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلماً وَكَذَلِكَ نَجْزي المُحْسِنِينَ) . قاله هنا بدون "

واستوى " وقال في القصص به، لأن يوسف أوحيَ إليه في الصغر، و " موسى " أوحي إليه بعد أربعين سنة، فقولُه " واستَوَى " إشارة إلى تلك الزِّيادة. 6 - قوله تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ..) الآية. وحَّد الباب هنا، وجمعه قبلُ في قوله " وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ " لأن إغلاقَ الباب للاحتياط لا يتمُّ إلَّا بإغلاق الجميِع، وأمَّا هروبه منها فلا يكون إلَّا إلى باب واحد، حتى لو تعدَّدت أمامه لم يقصد منها أوَّلًا إلّا لأول، فلهذا وحَّد البابَ هنا وجَمَعه ثَمَّ. 7 - قوله تعالى: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)) . كرر " لعلَّ " رعايةً للفواصل، إذْ لو قال: لعلِّي أرجع إلى الناس فيعلموا بحذف النون، جواباً لـ " لعل " لفاتت الرعاية.

8 - قوله تعالى: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) . إن قلتَ: كيف قال ذلكَ، مع أن الأنبياء عليهم السَّلام أعظمُ النَّاسِ زُهْداً في الدُّنيا، ورغبةً في الآخرة؟! قلتُ: إنما طلبَ ذلكَ ليتوصَّل به، إلى إمضاءِ أحكام الله تعالى، وإقامة الحقِّ، وبسط العدل ونحوِه، ولعلْمِه أنَّ أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك. 9 - قوله تعالى: (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأخٍ لَكُمْ مِنْ أبِيكُمْ. .) . قاله هنا بالواو، وقاله بعدُ بالفاء، لأنه ذكر هنا أول مجيئهم إلى يوسف، فناسبته الواو، الدَّالةُ على الاستئناف. وذُكر بعدُ عند انصرافهم عنه، عطفاً على " لمَّا دخلوا " فناسبته الفاء الدَّالةُ على الترتيب والتعقيب.

15 - قوله تعالى: (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)) . إن قلتَ: كيف جاز ليوسف أن يأمر المؤذن بأن يقول ذلك، مع أنَّ فيه بهتاناً، واتِّهامَ من لم يسرقْ بأنه سَرَق؟! قلتُ: إنما قاله " توريةً " عما جرى منهم مجرى السرقة، من فعلهم بيوسف ما فعلوا أولًا. أو كان ذلك القولُ من المؤذِّن، بغير أمر يوسف عليه السلام. أو أنَّ حكم ذلك حكم " الحِيَل الشَّرعيةِ " التي يُتوصل بها إلى مصالح دينيَّة، كقوله تعالى لأيوب: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ) ، وقول إبراهيم في حقِّ زوجته: " هي أختي " لِتَسْلَم من يد الكافر.

11 - قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) . " مِنْ رَوْحِ اللَّهِ " أي من رحمته " إِلَّا القَومُ الكَافِرُونَ ". إن قلتَ: منَ المؤمنينَ منْ ييأسُ من روْحِ اللَّهِ، لشدَّةِ مصيبته، أو كثرةِ ذنوبه، كما في قصة الذي أمر أهله إذا مات أن يحرقوه. (1) الحديث ثم إنَّ اللَّهَ تعالى غفرَ له؟! قلتُ: إنما ييأس من رَوْحِ اللَّه الكافرُ، لا المؤمنُ عملاً بظاهر الآية، فكلُّ من أيِسَ من روْح اللهِ فهو كافرٌ، حتَّى يعود إلى الِإيمان، ولا نُسلَم أن صاحبَ القصَّةِ مات آيساً، ولم يسمح له الرجوع عن وصيَّته. 12 - قوله تعالى: (فَلَمَّا أنْ جَاءَ البَشِيرُ ألْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً. .) الآية. قال هنا وفي العنكبوت

آخراً في قوله تعالى " ولمَّا أن جاءت رسلنا لوطاً " بذكر " أن ". وقال في هود: " ولمَّا جاءت رسلُنا لُوطاً " وفي العنكبوت أولًا " ولمَّا جاءت رسلُنَا إبراهيمَ بِالبُشْرَى " بحذفها بنيَّتها على جواز الأمرين. والقولُ بأنَّ ذكرَ " أنْ " يدلُّ على وقوع جواب " لمَّا " حالَاَ، بخلاف ما إذا حُذفت، يُرَدُّ بأنَّ آية هود، وآية العنكبوت، التي ذُكرَ فيها " أنْ " متَّحدتان شرطاً وجواباً، مع أنَّ " أنْ " ذُكرت في إحداهما، وحُذفت من الأخرى. إلَا أن يُقال إنها إذا لم تُذكر، لم يلزم وقوعُ جواب " لما " حالَاَ. 13 - قوله تعالى: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً. .) الآية. إن قلتَ: كيف جاز لهم أن يسجدوا ليوسف، والسجودُ لغير الله حرامٌ؟! قلتُ: المرادُ أنهم جعلوه كالقِبْلَةِ، ثم سجدوا للهِ تعالى، شكراً لنعمة وُجْدَان يوسف، كما تقول: سجدتُ وصلَّيتُ للقِبْلة.

واللَّامُ للتعليل (1) أي لأجله سجدوا للَّهِ، ومنه قوله تعالى " رأيتُهم لي سَاجِدينَ " أي إنما سجدتْ للَّهِ، لأجل مصلحتي، والسعي في إعلاء منصبي. 14 - قوله تعالى: (وَقَدْ أحْسَنَ بِي إِذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ) . إن قلتَ: لمَ ذكر " يوسف " عليه السلام، نعمةَ الله عليه في إخراجه من السجن، دون إخراجه من الجبِّ، معِ أنه أعظم نعمةً، لأن وقوعَه في الجبِّ كان أعظمَ خَطَراَ؟! قلتُ: لأن مصيبة السجن كانت عنده أعظم، لطول مدَّتها، ولمصاحبته الأوباش وأعداءَ الدينِ فيه، بخلاف مصيبة الجبِّ، لقِصَر مدَّتها، ولكون المؤنس له فيه جبريل عليه السلام، وغيره من الملائكة. أو لأن في ذكر الجُبِّ " توبيخاً وتقريعاً " لِإخوته، بعد قوله: " لا تَثْرِيبَ عليكُمُ اليَوْمَ ". 15 - قوله تعالى: (أنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَألْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ) .

إن قلتَ: كيف قال يوسف ذلك، مع علمه بأنَّ كل نبيٍّ لا يموت إلّاَ مسلماً؟ قلتُ: قاله إظهاراً للعبودية والافتقار، وشدَّة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة، وتعليماً للأمة، وطلباً للثواب. 16 - قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الِإيمان والشرك لا يجتمعان؟ قلتُ: معناه: وما يؤمنُ أكثرُهم بأن اللَّهَ خالقُه ورازقُه، وخالقُ كل شىءٍ قولًا، إلا وهو مشرك بعبادة الأصنام فعلاً. أو أن المراد به المنافقون، يؤمنون بألسنتهم قولًا، ويشركون بقلوبهم اعتقاداً. 17 - قوله تعالى: (أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. .) . قاله هنا، وفي الحج، وفي آخر غافر بالفاء، وقاله

في الروم، وفاطر، وأول غافر بالواو. لأن ما في الثلاثة الأول، تقدّمه التعبير في الِإنكار بالفاء في قوله هنا " أفامنوا أن تأتيهم غاشية " وفي الحج " فهي خاوية على عروشها " وفي آخر غافر " فَأيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ "؟ وما في الثلاثة الأخيرة، تقدَّمه التعبيرُ بالواو في قوله في الروم: " أو لم يَتَفَكَّروا في أنْفسِهمْ " وفي فاطر " أو لَمْ نعَمَركمْ مَا يَتَذَكَّرُ فيهِ مَنْ تَذَكَّرَ " وفي أول غافر " وانْذِرْهمْ يَوْمَ الآزِفَةِ " " وما تُخْفي الصُّدور " " واللَّه يَقْضِي بِالحقِّ والَّذِينَ يَدْعونَ منْ دُونهِ لَا يَقْضُون بِشيءٍ ". " تَمَّتْ سُورَةُ يوسف "

سورة الرعد

سورة الرعد 1 - قوله تعالى: (إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ) . ختم الآية هنا بـ " يَتَفَكَّرُونَ " وختمها بعد بـ " يَعْقِلُونَ "، لأن التفكُّر في الشيء سببٌ لتعقُّله، والسبب مقدَّم على المسبَّب، فناسَب تقدم التفكر على التعقُّل. 2 - قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمواتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلكَ هنا، وقال في الحج (ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ في السَّمواتِ وَمَنْ في الأرْضِ. .) . وفي النَّحل (ولّلهِ يَسْجُدُ مَا في السَّموَاتِ

وَمَا فِي الأرْضِ. .) ؟! قلتُ: لأنه هنا ذكر العلوَّيات، من الرَّعد، والبرق، والسَّحاب، ثم الملائكة بتسبيحهم، ثم الأصنام والكفار، فبدأ بذكر " مَنْ في السَّموات " ليقدّم ذكرهم، وأتبعهم من في الأرض، ولم يذكر " مَنْ " استخفافاً بالأصنام والكفار. وفي الحج تقدَّم ذكر المؤمنين وسائر الأديان، فقد ذكر " مَنْ في السَّمواتِ " لشرفهم، ثم قال " وَمَنْ في الأرْضِ " ليقدّم ذكر المؤمنين. وفي النَّحل: تقدَّم ذكرُ ما خلقه الله عامًّا، ولم يكن فيه ذكرُ الملائكةِ والرعد، ولا الِإنس بالتصريح، فاقتضت الآية ُ " ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ " فقال في كلِّ آيةٍ ما يناسبها. 3 - قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ. .) قاله هنا، وفي القَصَص،

والعنكبوتِ، والرُّومِ، بلفظ " اللَّهُ " وفي الِإسراء، وفي سبأ في موضعين بلفظ الرب، وفي الشورى بإضممار لفظ " الله " وبزيادة " له " في العنكبوت، وفي ثاني موضعيْ سبأ، موافقةً لتقدم تكرر لفظ " الله " في السور الأربع، ولتقدّم تكرر لفظ الربّ في المواضع الثلاثة، ولتقدم تكرّر الِإضمار في الشورى. وزاد في العنكبوت " من عباده " و " له " موافقةً لبسْطِ الكلام على الرزق المذكور فيها صريحاً. وزاد في القَصَص " مِنْ عِبَادِهِ " موافقةً لذلك، وإن كان لفظ الرزق فيه تضمناً.

وزَادَ " له " في ثاني موضعَيْ سبأ، لأنه نزل في المؤمنين، وما قبله في الكافرين. وحذف لفظ " الله " في غير العنكبوت، وفي أول موضعَيْ سبأ اختصاراً. 4 - قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)) . إن قلتَ: كيف طابقَ هذا الجوابُ قولهم (لَوْلَا أنْزِلَ عَلَيْهِ آيةٌ مِنْ رَبِّهِ "؟ قلتُ: المعنى قل لهم: إنَّ اللَّهَ أنزل عليَّ آياتٍ ظاهرة، ومعجزاتٍ قاهرة، لكنَّ الِإضلال والهداية من اللَّهِ، فأضلَّكم عن تلك الآيات، وهَدَى إليها آخرين، فلا فائدةَ في تكثيرِ الآياتِ والمعجزاتِ. أو هو كلام جرى مجرى التعجب من قولهم، لأن الآيات الباهرة المتكاثرة، التي ظهرت على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانت أكثَر من أن تشتبه على العاقل، فلمَّا طلبوا بعدها آياتٍ أخَر، كان محلَّ التعجب والِإنكار، فكانَّه قيل لهم: ما أعظم عنادكم!! إن الله يُضلّ من يشاء، كمن كان على صنيعكم، من التَّصْميم

على الكفر، فلا سبيل إلى هدايتكم، وإنْ أنزلت كلُّ آية!! ويهدي من كان على خلاف صنيعكم. 5 - قوله تعالى: (أفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. .) الآية. إن قلتَ: كيف طابَق قوله عقبه " وجعلوا للَّهِ شركاء قل سَمُّوهم "؟ قلتُ: فيه محذوفٌ تقديره: أفمن هو رقيبٌ على كل نفسٍ، صالحةٍ وطالحةٍ، يعلمُ ما كسبتْ من خيرٍ وشرٍّ، كمن ليس كذلك؟ من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع؟ ويدل له قوله تعالى: " وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ " ونحوُه قولُه تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلِإسْلاَمِ) تقديره: كمنْ قَسَا قَلبُه؟ يدلُّ له قوله: (فويلٌ للقاسية قلوبُهم من ذَكرِ اللَّهِ) . 6 - قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أشْرِكَ بِهِ. .) . إن قلتَ: كيف اتصل هذا بقوله قبله: " وَمِن الأحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ "؟

قلتُ: هو جوابٌ للمنكرين معناه: قل إنما أُمرت فيما أنزل إلي، بأن أعبد الله ولا أشرك به، فإِنكاركُم لبعضه إنكارٌ لعبادة الله وتوحيده. 7 - قوله تعالى: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المَكرُ جميعاً. .) . إن قلتَ: كيف أثبتَ لهم مكراً ثم نفاه عنهم بقوله " فللَّهِ المكُر جميعاً "؟. قلتُ: معناه إن مكر الماكرين مخلوقٌ له، ولا يضرُّ إلا بإرادته، فإِثباتُه لهم باعتبار الكسب، ونفيُه عنهم باعتبار الخلق. " تَمَّتْ سُورَةُ الرعد "

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم 1 - قوله تعالى: (وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنِ لَهُمْ. .) . إن قلتَ: هذا يقتضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث إلى العرب خاصة، فكيف الجمعُ بينه وبين قوله: (قُلْ يا أَيُّها النَّاسُ إِنِّي رسولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً) ؟ وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً للنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ؟ قلتُ: أرسل إلى النَّاس كافةً بلسان قومه وهم العرب، ونزولُه بلسانهم مع الترجمة لباقي الألسُنِ كافٍ، لحصول الغرض بذلك، ولأنه أبعدُ عن التحريف والتبديل، وأسلمُ من التنازع والاختلاف.. 2 - قوله تعالى: (يَدْعُوكُمْ لِيْغفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ

وَيُؤَخِّرَكمْ إِلىَ أجَلٍ مُسَمَّىً. .) " مِنْ " زائدة، إذِ الِإسلامُ يُغفر به ما قبله، أو تبعيضيَّة لِإخراج حقّ العباد. 3 - قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكلِ المُؤْمِنُونِ) . قال ذلك هنا، وقال بعده (وَعَلَى اللَّهِ فليتوكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ) . لأن الِإيمان سابق على التوكل. 4 - قوله تعالى: (لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كسَبُوا عَلَى شَيْءٍ. .) . قدَّم " مِمَّا كسبوا " على ما بعده، لأن الكسب هو المقصود بالذِّكر، بقرينة ما قبله، وإن كان القياسُ عكسُ ذلك كما في البقرة، لأن " على شيءٍ " صِلة " لِيَقْدِرُونَ " و " مِمَّا كَسَبُوا " صفَةٌ لشيءٍ. 5 - قوله تعالى: (وَأنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ. .) . قاله هنا بدون " لكم " وقاله في النمل بذكر " لكم " اكتفاءً هنا بذكره بعد، لا سيما وقد ذُكر مكرَّراً.

6 - قوله تعالى: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَاسِ. .) . إن قلتَ: كيف جعل الأصنام مضلَّةَ، والمضِلًّ ضارٌّ، وقد نفى عنهم الضرر بقوله: " وًيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَالَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ "؟! قلتُ: نسبةُ الِإضلال إليها مجاز، من باب نسبة الشيء إلى سببه، كما يُقال: فتنتهم الدنيا، ودواءٌ مُسْهِل، فهي سببٌ للِإضلال، وفاعلُه حقيقةً هو اللَّهُ تعالى. 7 - قوله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ) . إن قلتَ: كيف استغفرَ إبراهيم عليه السلام لِوَالديْهِ وهما كافرانِ، والاستغفارُ للكافر حرامٌ؟! قلتُ: المعنى: واغفرْ لوالديَّ إن أسلما، أو أراد

بهما آدم وحواء. . 8 - قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالِمُونَ. .) الآية. إن قلتَ: كيف يحسبه النبي - صلى الله عليه وسلم - غافلًا، وهو أعلمُ الخلْقِ باللَّهِ؟! قلتُ: المرادُ دوام نهيه عن ذلك، كقولهِ تعالى: (ولَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكينَ) وقولِهِ: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) . ونظيرُه في الأمر قولُه تعالى: (يَا أَيُّها الذينَ آمَنُوا آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ) . أوهو نهيٌ لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - ممَّن يحسبه غافلاً، لجهلِهِ بصفاته تعالى. " تَمَّتْ سُورَةُ إبراهيم "

سورة الحجر

سورة الحجر 1 - قوله تعالى: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) . إن قلتَ: كيف وصفوه بالجنون، مع قولهم: " نُزِّلَ عليهِ الذِّكْرُ " أي القرآن، المستلزمُ ذلكَ لاعترافهم بنبوَّته؟! قلتُ: إنما قالوا ذلكَ استهزاءً وسُخرية، لا اعترافاً، كما قال فرعون لقومه: (إنَّ رسولكُمُ الَّذِي أرْسِلَ إِليكُمْ لَمَجْنُونٌ) . أو فيه حذف: أي يا أيها الذي تدَّعى أنَّكَ نزل عليك الذِّكرُ. 2 - قوله تعالى: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيى وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوَارِثُونَ) .

إن قلتَ: كيف قال ذلك، والوارثُ من يتجدَّدُ له المُلْكُ، بعد فناءِ المورِّث، واللَّهُ تعالى لم يتجدَّدْ له مُلْكٌ، لأنه لم يزل مالكاً للعَالَم؟! قلتُ: الوارثُ لغةً هو الباقي بعد فناءِ غيره، وإن لم يتجدَّدْ له مُلْك، فمعنى الآية: ونحن الباقون بعد فناء الخلائق، أو إنَّ الخلائق لمَّا كانوايعتقدون أنهم مالكون، ويسمون بذلك أيضاً مجازاً ثم ماتوا، خلُصت الأملاكُ كلُّها للَّهِ تعالى عن ذلك التعلق، فبهذا الاعتبار سُمِّي وارثاً. ونظيرُ ذلك قولُه تعالى (لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) ، والمُلْكُ له أزليٌّ وأبديٌّ. 3 - قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) . قال ذلك هنا بتعريف الجنسِ، ليناسب ما قبلَه من التعبير بالجنس، في قوله تعالى " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الِإنْسَانَ " " والجَانَّ خَلَقْنَاهُ " " فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ ". وقال في " ص ": (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتي إِلى يَوْمِ الدِّين) . بالإِضافة، ليناسب ما قبله من قوله " مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بَيَدِيَّ "؟.

4 - قوله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) . قاله هنا يزيادة " إِخْوَاناً " لأنه نزل في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقاله في غير هذه السورة بدونهم، لأنه نزل في عامَّة المؤمنين. 5 - قوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُواسَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) . حذف منه قبل قال اختصاراً، قولَه في هود " قالَ سلامٌ " وفي هود (قالوا سَلاَماً قال سَلاَمٌ فما لبث أن جَاءَ بعجلٍ حنيذٍ. فلمَّا رأى أيديَهمْ لا تَصِلُ إليهِ نكرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنهُمْ خِيفَةً) فحُذف للدلالة عليه. 6 - قوله تعالى: (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَم عَلِيمً) . " لا تَوْجَلْ " أي لا تخف، وبه عبَّر في هود

توسعةً في التعبير عن الشيءِ الواحدِ بمتساوييْن، وخصَّ ما هنا بالأول لموافقته قولَه: " إنا منكمْ وَجِلُونَ " وما في هود بالثاني لموافقتهِ قولَه: " خِيفَةً ". 7 - قوله تعالى: (إلّاَ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إنَّهَا لَمِنَ الغَابِرِينَ) . إسنادُ التقديرِ إلى الملائكةِ مجازٌ، إذِ المقدِّر حقيقةً هو الله تعالى، وهذا كما يقول خواصُّ المَلِكِ: دبَّرنا كذا، وأمرنا بكذا، والمدَبِّر، والآمرُ هو الملِكُ، وفي ذلك إظهارٌ لمزيد قربهم بالملك. 8 - قوله تعالى: (إنَّ في ذلِكَ لأيَاتٍ لِلْمُتَوسِّمِينَ. وإنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ. إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنينَ) . إن قلتَ: كيف جمع الآية أولًا، ووحَّدها ثانياً، والقصَةُ واحدةٌ؟! قلت: جمع أولًا باعتبار تعدُّد ما قصَّ من حديث لوطٍ، وضيف إبراهيم، وتعرُّض أهلِ لوطٍ لهم، وما كان من إهلاكهم، وقلب المدينة على من فيها، وإمطار الحجارة على من غاب عنها. ووحَّد ثانياً: باعتبار وحْدَةٍ قرية قوم لوط، المُشار

إليها بقوله: " وَإنَّهَا لَبِسبِيلٍ مُقِيمٍ ". 9 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ كذَّبَ أَصحَابُ الحِجْرِ المُرسَلِينَ) . " الحِجْر " اسمُ واديهم أو مدينتهم. فإن قلتَ: أصحابهُ وهم قومُ صالحٍ، إنما كذبوا صالحاً، لأنه المُرْسلُ إليهم، لا المُرْسَلينَ كلَّهُم؟! قلتُ: من كذَّب رسولًا واحداً، كذَّب جميع الرُّسل، لاتفاقهم في دعوة النَّاس إلى توحيد اللَّهِ تعالى. 10 - قوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُون) إن قلتَ: كيف قال ذلك هنا، وقال في الرحمن (فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنسٌ وَلَا جَانٌّ) ؟ قلتُ: لأن في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يُسألون، وفي بعضها لا يُسألون، وتقدَّم نظيرُه في هود. أو لأن المراد هنا أنهم يُسألون سؤال توبيخٍ، وهو لم فعلتم أو نحوه، وثَمَّ لا يُسألون سؤال استعلامٍ واستخبار. " تَمَّتْ سُورَةُ الحِجْر "

سورة النحل

سورة النحل 1 - قوله تعالى: (وَلَكُمْ فيها جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) . قدَّم الِإراحة على السَّرح، مع أنها مؤخرة عنها في الواقع، لأن الأنعام وقت الِإراحة - وهي ردّها عشاءً إلى مَرَاحه أجملُ وأحسنُ من سَرْحها، لأنها تُقبِل مالئةَ البطون، حافلةَ الضُّروع، متهاديةً في مشيها، بخلاف وقت سرْحِها، وهو إخراجُها إلى المرعى. 2 - قوله تعالى: (إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وحَّدَ الآية في هذه السورة في خمسة مواضعَ

، نظراً لمدلولها. وَجَمَعَها في موضعين لمناسبة قوله قبلها " والنُّجومُ مُسَخَراتٌ بِأَمرِهِ ". 3 - قوله تعالى: (وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ لَتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ) . قاله هنا بتأخير " فيه " عن " مواخرَ " وبالواو في " ولتبتغوا "، وقاله في " فاطر " بتقديم " فيه " وحذف الواو، جرياً هنا على القياسِ، إذِ " الفُلْكُ " مفعول أول لترى، و " مواخرَ " مفعولٌ ثانٍ له، و " فيه " ظرفٌ وحقُّه التأخيرُ، والواوُ للعطفِ على لام العلة، في قوله: " لتأكلوا منه لحماً طرياً " وحَذَفَ الواوَ، لعدم المعطوف عليه هنا. 4 - قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَرُونَ) . هذا من عكس التشبيه، إذْ مقتضَى الظاهر العكسُ، لأن الخطابَ لعُبَّادِ الأوثان حيثُ سموها آلهةً، تشبيهاً به تعالى، فجعلوا غيرَ الخالقِ كالخالق، فَخُولف

في خطابهمِ، لأنهم بالغوا في عبادتها، حتَّى صارت عندهم أصلَا في العبادة، والخالقُ فرعاً، فجاء الِإنكار على وَفقِ ذلك، ليفهموا المراد على معتقدهم. إن قلتَ: المرادُ بـ " مَنْ لَا يَخْلُقُ " الأصنام، فكيف جيء ب " مَنْ " المختصَّة بأولي العلمِ؟! قلتُ: خاطبهم على معتقدهم، لأنهم سمَّوها آلهةً وعبدوها، فأجروها مجرى أولي العلم، ونظيرهُ قولُه تعالى (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشونَ بِهَا) الآية. 5 - قوله تعالى: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثون) . إن قلتَ: ما فائدةُ قوله في وصف الأصنام " غيرُ أحياءٍ " بعد قوله " أمواتٌ "؟ قلتُ: فائدتُه أنها أمواتٌ لا يَعْقبُ موتَها حياةٌ، احترازاً عن أمواتٍ يعقبُ موتَها حياةٌ، كالنُّطَفِ، والبيض، والأجسادِ الميتة، وذلك أبلغُ في موتها، كأنه قال: أمواتٌ في الحالِ، غيرُ أحياءٍ في المآل. 6 - قوله تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) .

إن قلتَ: كيف عابَ الأصنام بأنهم لا يعلمون، مع أنَّ المؤمنين كذلك؟ قلتُ: معناه وما تشعر الأصنام متى تبعث عُبَّادها؟ فكيف تكونُ آلهةً مع الجهل؟ بخلاف المؤمنين فإنهم يعلمون أنه يوم القيامة. 7 - قوله تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلّونَهُمْ) أي ليحملوا أوزار كفرهم مباشرةً، ومِثلَ أو بعضَ أوزارِ كفرِ مَنْ أضلُّوهم، بتسبّبهم في كفرهم. . ف " مِنْ " زائدة، أو تبعيضيَّة. وأمَّا قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فمعناه وزراً لا مَدْخل لها فيه، ولا تعلُّق له بها بتسبُّب ولا غيرِه. ونظيرُ هاتين الآيتين، سؤالاً وجواباً، قولُه تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ..) . 8 - قوله تعالى: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ

بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)) قال فيه وفي الجاثية " مَاعَمِلُوا " وفي الزُّمر " مَا كَسَبُوا " موافقةً لِمَا قبلَ كلٍّ منها، أوبعد، أوقبله وبعده، إذْ ما هنا قبله " ما كُنَّا نَعْمَلُ منْ سُوءٍ " و " تعملون " مرَّتين. وقبْلَ ما في الجاثية " ما كنتم تعملون " و " عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " وبعده " سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ". وقبلَ ما في الزمر " وذُوقُوا ما كنتُمْ تَكْسِبونَ " وبعده " فَمَا أَغْنَى عنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ". 9 - قوله تعالى: (إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كنْ فَيَكُون) . إن قلتَ: هذا يدلُّ على أنَّ المعدوم شيءٌ، وعلى أنَّ خطابَ المعدومِ جائزٌ، مع أنَّ الأول منتفٍ عند أكثرِ العلماء، والثاني بالِإجماع. قلتُ: أما تسميتُه " شيئاً " فمجازٌ بالأول، وأمَّا الثاني

فلأنَّ ذلِكَ خطابُ تكوين، لا خطابُ إيجاد، فيمتنع أن يكون المخاطب به موجوداً قبل الخطاب، لأنه إنما يكون بالخطاب. 95 - قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ مِنْ دَابَّةٍ. .) ، تجوَّزَ بالسجود عن الانقياد، فيما لا يعقل، والسُّجودِ على الجبهة فيمن يعقل، ففيه جمعٌ بين الحقيقة والمجاز، وإنَّما لم يُغَلِّب العقلاء من الدَّواب على غيرهم، كما في آية (واللهُ خَلَقَ كلَّ دَابَّة مِنْ مَاءٍ) لأنه أراد هنا عموم كلِّ دابة، ولم يقترنْ بتغليب، فجاء ب " ما " التي تعمُّ النوعين، وفي تلك - وإن أراد العموم - لكنَّه اقترن بتغليبٍ، وهو ذكرُ ضميرِ العقلاء، في قوله " فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي " فجاء ب " مِنْ " تغليباً للعقلاء. 11 - قوله تعالى: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلًّمونَ) . قاله هنا، وفي الروم بالتَّاء،

بإضمار القول، أي قل لهم: تَمتَّعوا، كما في قوله تعالى: (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكمْ إلَى النَّارِ) وقوله (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) . وقال في العنكبوت) : (وَلِيَتَمتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُون) باللام والياء، على القياسِ، إذْ هو معطوف على اللّام ومدخولها في قوله " لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ " ومدخولُها غائبٌ. 12 - قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ. .) " ما ترك عليها " أي على الأرض، قال ذلك هنا، وقال فى فاطر: (بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَةٍ) . تركَ لفظ " ظهر " هنا، احترازاً عن الجمع بين الظائين: في ظهرها، وظلمهم، بخلافه في فاطر، إذْ لم يُذكر فيها " بظلمهم ". فإن قلتَ: الآية تقتضي مؤاخذةَ البريءِ، بظلم

الظَّالم، وذلكَ لا يحسُنُ من الحكيم؟! قلتُ: المرادُ بالظُّلمِ هنا: الكفرُ، وبالدَّابةِ: الدابَّةُ الظالمة وهي الكافرُ، كما نُقِل عن ابن عباس رضي الله عنهما. 10 -قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. .) قاله هنا بحذف " مِنْ " لعدمِ ذكرها قبله، وليوافق حذفُها بعده من قوله " لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَعِلْمٍ شَيْئاً ". وقاله في العنكبوت بإثباتها، ليوافق التعبيرُ بها في قوله قبلُ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ من نَزَّل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) . وأثبتها فىِ قولِهِ في الحج (لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ علْمٍ شَيْئاً) ليوافقَ التعبيرُ بها قبلُ في قوله (فَإنَّا خَلَقْنَاكمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ من نُطْفَةٍ) الآية. 14 - قوله تعالى: (وَإنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ. .) الآية. قاله هنا بإفراد

الضمير مذكَّراً، وفي المؤمنين " بطونها " بجمعه مؤنثاً، نظراً هنا إلى أن الأنعام " مفردٌ " كما نقله الزمخشري عن سيبويه، وثَمَّ إلى أنه " جمعٌ " كما هو الشائع. 15 - قوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً. .) الآية. أي من جنسكم، كما قال تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ. .) الآية. 16 - قوله تعالى: (أفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) . قاله هنا بزيادة " هُمْ " وفي العنكبوت بدونها. لأن ما هنا اتَصل بقوله: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً) إلى آخره، وهو بالخطاب، ثم انتقل إلى الغَيْبَة فقال: (أفبالباطلِ يُؤْمنون وبنعمةِ اللهِ هم يكفرونَ " فلو ترك " هم " لالْتَبستِ الغَيْبةُ بالخطاب، بأن تُبْدل الياءُ تاءً.

17 - قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّموَاتِ وَالَأرضِ شَيْئاً وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) . غَلَّبَ فيهِ مَنْ يَعْقِلُ، على مَنْ لا يَعْقل، فعبَّر بالواو والنُّون، إذْ في مَنْ يُعْبَدُ، مَنْ يعقِلُ 3 العُزَير، والمسيح، ومن لا يَعْقِلُ كالأصنام، وأفردَ " يملكُ " نظراً إلى لفظ " مَا " وجمع نظراً إلى معناها، كما قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وَالَأئعامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَؤوا عَلَى طهُورِه) . فإن قلتَ: ما فائدة نفي استطاعة الرزق، بعد نفي ملكه؟! قلتُ: ليس في " يستطيعون " ضميرُ مفعولٍ هو الرِّزقُ، بل الاستطاعةُ منفيَّةٌ عنهم مطلقاً، في الرِّزق وغيره، وبتقدير أنَّ فيه ضميراً، لا يلزم من نفي المُلْكِ نفيَ استطاعته، لجواز بقاء الاستطاعة على اكتساب المُلْك، بخلافِ هؤلاء فإنهم لا يملكون، ولا يستطيعون أن يملكوا.

18 - قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. .) الآية. فائدة ذكره " مَمْلوكاً " بعد قوله " عَبْداً " الاحترازُ عن الحُرّ فإنه عبدُ اللَّهِ تعالى، وليس مملوكاً لغيره، وفائدة " لا يَقْدِرُ عَلَى شيْءٍ " بعد قوله " مملوكاً " الاحترازُ عن المأذون له، والمكاتَبِ، لقدرتهما على التّصرف استقلالاً. 19 - قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) . إن قلتَ: لمَ جَمَع ولم يُثَنِّ، مع أنَّ المضروبَ به المثلُ اثنان: مملوكٌ، ومَنْ رَزَقه اللَّهُ رزقاً حَسَناً؟! قلتُ جُمع باعتبار جِنْسَيْ المماليك، والمالِكين. أو نظراً إلى أن أقلَّ الجمع اثنان. 25 - قوله تعالى: (وَمَا أمْرُ السَّاعَةِ إِلّاَ كلَمْحِ البَصَرِ أوْ هُوَ أقْرَبُ. .) .

إن قلتَ: " أوْ " للشَّكِّ، وهو على اللَّهِ مُحَالٌ، فَما معنى ذلك؟ قلتُ: " أو " هنا بمعنى الواو، أو للشكِّ بالنسبة إلينا، أو بمعنى " بَلْ " ونظيرُ ذلكَ قولُه تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) ، وقولُه: " فَهِيَ كَالحِجَارةِ أوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ". . وأُورِد على الأخير أنَّ " بل " للإضراب، وهو رجوعٌ عن الِإخبار، وهو على الله محال. . وُيجاب بمنع أنه مُحَال، بناءً على جواز وقوع النسخ في الأخبار، وهو جائزٌ عند الأشاعرة مطلقاً، خلافاً للمعتزلة فيما لا يتغيَّر. 21 - قوله تعالى: (وَجَعَلَ لكم سَرَابيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ) " سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحرَّ " أي والبرد، وإنما حَذَفه لدلالة ضدِّه عليه، كما في قوله تعالى (بِيَدِكَ الخَيْرُ) أي والشرُّ. وخصَّ الحرَّ، والخيرَ بالذِّكر، لأن الخطابَ بالقرآن

أول ما وقع بالحجاز، والوقايةُ من الحَرِّ، أهمُّ عند أهله، لأن الحرَّ عندهم أشدُّ من البرد، والخيرُ مطلوبُ العبادِ من ربهم دون الشَرِّ. 22 - قوله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ) . إن قلتَ: بل كلُّهم كافرون؟! قلتُ: المرادُ بالأكثرِ هنا الجمعُ. 23 - قوله تعالى: (وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أشْرَكوا شُرَكَاءَهُمْ قالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ

شرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كلنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِك) . إن قلتَ: ما فائدةُ قولهم ذلك، مع أنه تعالى عالمٌ بهم؟! قلتُ: لما أنكروا الشِّركَ بقولهم (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَاكنَّا مًشْرِكينَ) عاقبهم اللَّه بإصماتِ ألسنتهم، وأنطقَ جوارِحهم، فقالوا عند معاينة آلهتهم: " رَبَّنا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا ". فأقرُّوا بعد إنكارهم طلباً للرحمة، وفراراً من الغضب، فكان هذا القولُ على وجه الاعتراف منهم بالذنب، لا على وجهه إعلام من لا يعلم، أو أنهم لما عاينوا عظيم غضب الله، قالوا ذلك رجاء أن يُلزِم اللَّهُ الأصنامَ ذنوبهم فيخفَّ عنهم العذاب. 24 - قوله تعالى: (فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القَولَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) . " فَألْقَوْا " أي الشركاء كالأصنام " إليهِمُ القَوْلَ " فُسِّر القولُ بقوله: " إِنَّكُمْ لَكَاذِبونَ " أي في قولكم: إنكم عبدتمونا.! فإن قلتَ: لمَ قالت الأصنامُ للمشركين ذلك، مع أنهم كانوا صادقين فيه؟!. قلتُ: قالوه لهم لتظهر فضيحتهم، حيثُ عبدوا من لا يعلمُ بعبادتهم. فإن قلتَ: كيف أثبت للأصنام نُطقاً هنا، ونفاه عنها في قوله في الكهف: " فدَعَوْهُمْ فلمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ "؟!

قلتُ: المثبتُ لهم هنا، النُّطقُ بتكذيب المشركين، في دعوى عبادتهم لها، والمنْفِيُّ عنها في الكهفِ النُّطقُ بالِإجابةِ إلى الشفاعة لهم، ودفع العذاب عنهم، فلا تَنَافي. 25 - قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) . إن قلتَ: إذا كان كذلكَ، فكيف اختلفتِ الأئمةُ في كثيرٍ من الأحكام؟! قلتُ: لأن أكثر الأحكام ليس منصوصاً عليه فيه، وبعضُها مستنبطٌ منه، وطُرُق الاستنباطِ مختلفة، فبعضُها بالِإحالة إمَّا على السُنَّة، بقولهِ تعالى " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا " وقولِه: " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى " أو على الِإجماع بقوله تعالى " فاعتبرُوا يَا أوْلي الأبْصَارِ " والاعتبارُ: النَّظَرُ والاستدلالُ اللَّذان يحصل بهما القياسُ. 26 - قوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهُمْ بِأحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .

قاله هنا بلفظ " ما " وفي الزُّمر بلفظ " الذي " موافقةً في كلٍّ منهما لما قَبْلَه، إذْ قبل ما هنا (إنَّماعِندَ اللَّهِ هو خير لكم) وقوله (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ) وقبل ما هناك (أسَوَأَ الَّذي كَانُوا يَعْمَلون) وقوله (وَالَّذي جَاءَ بِالصِّدْقِ) . 27 - قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا. .) الآية. كرَّر فيها وفي قوله بعدُ: (ثمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذينَ عَمِلُوا السُّوءَ بجهالة) الآية. " إنَّ رَبَّكَ " لطول الكلام بين اللفظين، قيل: ومثلُه: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذَا مِتُّمْ وَكنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) . 28 - قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَفْسِها. .) الآية. إن قلتَ: ما معنى إضافةِ النَّفس إلى النفسِ، مع أن النَّفسَ لا نَفْسَ لها؟ قلتُ: النفس تُقال للروح، وللجوهر القائم بذاته،

المتعلق بالجسم، تعلّق التدبير، ولجملةِ الإِنسان، ولعينِ الشيءِ وذاتِهِ، كما يُقال: نفسُ الذهب والفضَّة محبوبةٌ أي ذاتُهما. فالمرادُ بالنفس الأولى الِإنسانُ، وبالثانيةِ ذاتُه، فكأنه قال: يوم يأتي كلُّ إنسان يُجادل عن ذاتِه، لا يهمُّه شيءٌ آخر غيره، كلٌّ يقولُ: نفسي، نفسي. 29 - قوله تعالى: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) . قاله هنا بحذف النون، وفي النَّمل بإثباتها، تشبيهاً لها بحروف العِلَّة، وخصَّ ما هنا بحذفها موافقةً لقوله قبلُ (قَانِتاً للَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكينَ) ولسبب نزول هذه الآية، لأنها نزلت تسليةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين قُتل عمُّه " حمزة " ومُثِّل به، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لأفعلنَّ بهم ولأصنعنَّ، فأنزل الله تعالى: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرينَ) الآية، فبالغ في الحذف ليكون ذلك مبالغةً في التسلية، وإثباتُها في النمل، جاء على القياس، ولأن الحُزْن ثَمَّ، دون الحزْنِ هنا. " تَمَّتْ سُورَةُ النحل "

سورة الإسراء

سورة الإسْرَاء 1 - قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا. .) . قال " بعبده " دون نبيِّه أوحبيبه، لئلا تضِلَّ به أمَّتُه، كما ضلَّت أمَّةُ المسيح، حيث دعته إلهاً. أو لأن وصفه بالعبودية، المضافةِ إلى الله تعالى أشرف المقامات، وقال " ليلاً " مُنَكَّراً، ليدلَّ على قِصَر زمن الِإسراء، مع أنَّ بين مكة وبيت المقدس، مسيرة أربعين ليلةً، لأن التنكيرَ يدلُّ على البعضيَّة. والحكمةُ في إسرائه - صلى الله عليه وسلم - من بيت المقدس، دون مكة، لأنه محشرُ الخلائق، فيطؤه بقدمه ليسهل على أمته يوم القيامة، وقوفهم ببركة أثر قدمه. أو لأنه مجمعُ أرواح الأنبياء، فأراد الله أن يُشرِّفهم بزيارته - صلى الله عليه وسلم -.

أو أُسريَ به منه، ليشاهد من أحواله وصفاته، ما يُخبر به كفار مكة، صبيحة تلك الليلة، فيكون إخباره بذلك مطابقاً لما رأوْا، وشاهداً ودليلاً على صدقه في الإِسراء. 2 - قوله تعالى: (الَّذِي بَارَكنَا حَوْلَهُ. .) . هو أعمُّ من أن يُقال: باركنا عليه، أو فيه، لإِفادته شمول البركة، لما أحاط بالمسجد من أرض الشام بالمنطوق، وللمسجد بمفهوم الأولى. 3 - قوله تعالى: (إِنْ أحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أسَأْتُمْ فَلَهَا. .) الآية. " فَلَها " اللَّامُ للاختصاص، أو بمعنى " عَلَى "، كما في قوله تعالى: " وَيخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّداً ". 4 - قوله تعالى: (وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) . قال ذلك هنا بلفظ " كبيراً "، وقاله في الكهف بلفظ " حَسَناً "، موافقةً للفواصل قبلهما وبعدهما.

5 - قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلَ. .) . إن قلتَ: لمَ ثَنَّى الآية هنا، وأفردها في قوله (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَها آيَةً) ؟ قلتُ: لتباين اللَّيلِ والنَّهارِ من كل وجه، ولتكررهما، فناسبهما التثنيةُ، بخلاف " عيسى " مع أمِّه، فإنَّه جزءٌ منها، ولا تكرر فيهما، فناسبهما الإفرادُ. 6 - قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً. .) . أي مضيئة لأن النَّهار لا يُبصِر. 7 - قوله تعالى: (اقْرَأْ كتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) . لا يُنافي قوله تعالى: (وَكفَى بِنَا حَاسِبِينَ) لأن في يوم القيامة مواقف مختلفة، ففي موقفٍ يَكِلُ اللَّهُ حسابهم

إلى أنفسهم، وعلمُه محيطٌ به، وفي موقفٍ يحاسبُهم هو تعالى. وقيل: هو الذي يحاسبُهم لا غيرُ، وقولُه (كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي يكفيك أنك شاهدٌ على نفسك بذنوبها، فهو توبيخٌ وتقريعٌ، لا تفويضُ حسابِ العبدِ إلى نفسه. وقيل: من يريدُ مناقشته في الحساب، يُحاسبه بنفسه، ومن يريد مسامحته يَكِلُ حسابَه إليه. 8 - قوله تعالى: (وَإِذَا أرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقوا فِيهَا. .) الآية. " أمرنا مترفيها " أي أردنا منهم الفسق، أو أمرناهم بالطاعة، أو كثَّرناهم ففسقوا، يُقال: أمَرتُه، وآمَرتُه، بالقصر والمَدِّ بمعنى كثَّرته. وقيَّد بالمترفين وإن كان الأمرُ لا يختصُّ بهم، لأن صلاحهم أو فسادهم، مستلزمٌ لصلاح غيرهم أو فساده.

9 - قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُريدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ. . .) الآية. إن قلتَ: قضيَّتُه أنَّ من لم يتركِ الدنيا يكونُ من أهل النار، وليس كذلك؟! قلتُ: المراد من لِم يُردْ بإسلامه وعبادته إلَّا الدنيا، وهذا لا يكون إلّاَ كافراَ، أو منافقاً. 15 - قوله تعالى: (وَمَا كانَ عَطَاءُ رَبِّك مَحْظُوراً) أي ممنوعاً. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنَّا نشاهد الواحدَ، لا يقدر على دانقٍ، وآخرُ معه الألوف؟! قلتُ: المراد بالعطاء هنا الرِّزقُ، واللهُ سوَّى في ضمانه بين المطيع والعاصي من العباد، فلا تفاوت بينهم في أصل الرزق، وإنما التفاوتُ بينهم في مقادير الأملاكِ، وإنما لم يمنع الكفَّارَ الرّزقَ، كما منعهم الهدايةَ، لأنَّ في منعهِ له هلاكَهم، وقيامَ الحجة لهم، بأن يقولوا: لو أمهلتنا ورزقتنا، لبقينا أحياءَ فآمنَّا.

ولأنم لو منعهم الرزق لكان قد عاجَلهم بالعقوبة، ولكان ذلك من صفاتِ البخلاء، واللَّهُ منزَّه عن ذلك، لأنه حليمٌ كريمٌ. ولأن إعطاء الرزق لجميع العبادِ عدلٌ، وعدلُ اللهِ عامٌّ، وهِبةُ الهدايةِ فضلٌ، والفضلُ بيدِ اللَّهِ يؤتيه من يشاء. 11 - قوله تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ لتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولَاَ) . قال ذلك هنا، ثم قال: (ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ لتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُورًا) ثم قال: (لا تجعلْ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَتُلْقَى في جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) . ولا تكرار فيها، لأنَّ الأولى في الدنيا، والثالثة في الآخرة. والخطابُ فيهما للنبي - صلى الله عليه وسلم - على الراجح والمرادُ به غيرهُ، كما في آية " إمَّا يبلغنَّ عندك الكِبَر أحدُهُما أو كلاهما ". وأما الثانية فخطابٌ للنبى - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، وهو المرادُ به، وذلك أن امرأة، بعثتْ صبيَاً إليه مرة بعد أُخرى، سألته قميصاً، ولم يكن عليه ولا له قميصٌ غيره، فنزعه

ودفعه إليه، فدخل وقتُ الصلاة فلم يخرج في الحين، فدخل عليه أصحابه فرأوه على تلك الصِّفة، فلاموه على ذلك، فأنزل الله " فتقعد مَلُوماً " أي يلومك النَّاس " محْسُوراً " أي مكشوفاً، وقيل: مقطوعاً عن الخروج إلى الجماعة. (1) 12 - قوله تعالى: (إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) الآية. فائدة ذكر " عِنْدَكَ " أنهما يكبران في بيته وكنفه، ويكونان كَلاًّ عليه، لا كافل لهما غيره، وربَّما ناله منهما من المشاقِّ، ما كان ينالهما منه في حال الصِّغَر. 3 1 - قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَساَء سَبِيلاً) ، هو أعمُّ من أن يُقال: " ولا تَزْنُوا " ليفيد النَّهيَ عن مقدِّمات الزِّنا، كاللَّمس والقُبلة بالمنطوق، وعن الزِّنا بمفهوم الأَولى. 14 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلَّا نُفوراً) .

قال ذلك هنا بحذف " للنَّاسِ " اكتفاءً بذكره قبلُ، بلفظ " وكلَّ إنسانٍ أَلْزمناه طائرهُ في عُنُقِهِ ". وقاله بعدُ بذكره، ليتميَّز عن الجنِّ، لجريان ذكرهما معاً قبل. وقُدِّمَ على " في هذا القرآن " هنا في الآية الثانية، اهتماماً بالتمييز المذكور، وبالنَّاس لأنهم الأصلُ في التكليف ولهذا اقتصر عليهم في غالب الآيات كقوله " يا أيها النَّاسُ " وقوله " من بعدما بيَّناه للنَّاس " وقوله " الذي أنزل فيه القرآنُ هدىً للنَّاس ". وعَكَسَ في الكهف لمناسبة قولِه قبلُ " مَا لِهَذا الكِتَابِ لا يُغادِرُ صَغيرةً وَلَا كبيرةً "؟ 15 - قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّموَاتُ السَّبْعُ وَالأَرضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) الآية. ضمير " فيهنَّ " عائد إلى السمواتِ والأرض، والتسبيحُ - وهو التنزيهُ - شاملٌ التسبيح بلسان المقال، كما في المؤمنين، وبلسان الحال

كما في سائر الموجودات، إذْ كلّ موجود يدلُّ على قدرته تعالى، وفي ذلك جمعٌ بين الحقيقة والمجاز، وهو جائزٌ عند الشافعي رضي الله عنه. فإن قلتَ: يمنع من شموله للثاني قوله (ولكنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأنه مفقوهٌ لنا؟ قلتُ: الخطاب فيه للكفَّار، وهم لمِ يفقهوا تسبيحَ الموجودات، لأنهم أثبتوا للُّه شركاً، وزوجاَ، وولداً، بل هم غافلون عن أكثر دلائل التوحيد، والنبوّة، والمعاد. 16 - قوله تعالى: (وَقَالُوا أئِذَا كنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أعادها بعينها آخر السورة، وليس تكرارا، لأن الأولى من كلامهم في الدنيا حين أنكروا البعث، والثانية من كلام الله تعالى، حين جازاهم على كفرهم وإنكارهم البعث فقال: (مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ كلَّمَا خَبَت زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) الآية. وقال هنا: (ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا) وفي الكهف (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا) بزيادة "

جهنم " اكتفى هنا بالإشارة، ولتقدم ذكر جهنم وهي - وإن تقدَّمت في الكهف - لم يكتف بالِإشارة، بل جمع بينها وبين العبارة، لاقتران الوعيد بالوعد بالجنات في قوله (إنَّ ائَذين آمنوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ كانَتْ لهمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْس نُزُلاً) ليكون الوعد والوعيد ظاهريْنِ للمستمعين. 17 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ فضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورَا) . إن قلتَ: لمَ خصَّ " داود " بالذّكر؟ قلتُ: لأنه اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء، وهو الرسالةُ، والكتابةُ، والخطابةُ، والخلافةُ، والملْكُ، والقضاءُ، في زمن واحد، قال تعالى (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ) وقال (يَا دَاوُدُ إنا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحكُمْ بين النَّاسِ بِالحق. .) . فإن قلتَ: لمَ نكَّر الزَّبور هنا، وعرَّفه في قوله:

" ولقد كتبنا في الزبور "؟ قلتُ: يجوز أن يكون الزبور من الأعلام التي يستعمل ب " أل " وبدونها، كالعباس، والفضل. أو نكَّرهُ هنا بمعنى آتيناه بعض الزُّبر وهي الكتب، أو أراد به ما فيه ذكرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزبور، فسمَّى بعض الزَّبور زبوراً، كما سمَّى بعض القرآن قرآناً في قوله تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) . 18 - قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا َالَّذِين زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) . قاله هنا بالضمير لقرب مرجعه، وهو الرَّبُّ في قوله " وربُّك أعلمُ ". وقال في سبأ (قُلِ ادْعُوا الَّذين زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) بالِإسم الظاهر، لبعد مرجع الضمير لو أُتي به، والمرادُ فيهما: قل ادعوا الذين زعمتموهم آلهةً من دون الله أي غيره لينفعوكم بزعمكم. فإن قلتَ: كيف قال " من دونه " مع أن المشركين

ما زعموا غير الله إلهاً دون الله، بل مع الله على وجه الشركة؟ قلتُ: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديره: قل ادعوا الذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء. 10- قوله تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذَّب بها الأولون. .) ، أي وما منعنا أن نرسل رسولًا، بالآيات التي اقترحها أهل مكة على النبيء - صلى الله عليه وسلم -، كجعل الصفا ذهباً، وإزالةِ جبالِ مكة ليزرعوا، إلا تكذيب الأولين بها أي بآياتٍ اقترحوها على رسلهم لمَّا أرسلناها فأهلكناهم، ولو أرسلناها إلى هؤلاء لكذَّبوا بها واستحقوا الِإهلاك، وقد حكمنا بإمهالهم ليتم أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّا لا نعجل بالعقوبة. فإن قلتَ: كيف قال " وَمَا مَنَعَنَا " الخ مع أنه تعالى لا يمنعه عن إرادته مانعٌ؟ قلتُ: المنعُ هنا مجازٌ عن الترك، كأنه قال: وما كان سببُ تركِ الإِرسال بالآيات، إلَّا تكذيب الأولين. 20 - قوله تعالى: (وآتينا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً. .)

أي دالَّة كما يُقال: الدليل مرشدٌ وهادٍ. فإن قلتَ: ما وجهُ ارتباط هذا بما قبله؟ قلتُ: لمَّا أخبر بأن الأولين كذَّبوا بالآيات المقترحة، عينَّ منها " ناقةَ صالح " لأن آثار ديارهم الهالكة باقيةٌ في بلاد العرب، قريبةٌ من حدودهم، يُبصرها صادرُهم وواردُهم. 21 - قوله تعالى: (فَظلمُوا بِهَا. .) أي بالناقة الباءُ ليست للتعدية، لأن الظلم يتعدَّى بنفسه، فالمعنى: فظلموا أنفسهم بقتلها أي بسببه. 22 - قوله تعالى: (وَمَا نُرْسِل بِالآياتِ إلّاَ تَخْوِيفاً) . إن قلتَ: هذا يدل على الِإرسال بالآيات، وقوله قبلُ " وما منعنا أن نرسل بالآيات " يدلُّ على عدمه؟! قلتُ: المرادُ بالآياتِ هنا: العِبَرُ، والدَّلالاتُ، وفيما قبلُ: الآياتُ المقترحة. 23 - قوله تعالى: (والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ)

إن قلتَ: ليس في القرآن لعنُ شجرةٍ؟ قلتُ: فيه إضمارٌ تقديره: والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن. أو معناه: الملعونُ آكلوها وهم الكَفَرةُ، أو الملعونةُ بمعنى المذمومة، وهي مذمومة في القرآن بقوله تعالى: (إن شجرةَ الزَّقومِ طعامُ الأَثيمِ) وبقوله تعالى: (طَلْعُهَا كأنهُ رءوسُ الشَياطِينِ) . أو الملعونة بمعنى المبعدة، لأن اللعنَ لغةً: الطَّرْدُ والِإبعادُ. وهذه الشجرة مبعدةٌ عن مكانِ رحمة الله تعالى وهو الجنة، لأنها في قعر جهنم، وهذا الِإبعادُ مذكورٌ في القرآن بقوله تعالى " إنها شجرةٌ تخرجُ في أصلِ الجحيم ". 24 - قوله تعالى: (قَالَ أرَأيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَي. .) . قاله هنا بتكرير الخطاب، كنظيره في " أرأيتكم " في الأنعام، لدلالته على أن المخاطَب به أمرٌ عظيم،

وهو هنا كذلك، لأنه - لعنهُ اللهُ - ضمِنَ بقوله " لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيتَهُ إِلَّا قَلِيلاً " إغواءَ أكثرهم. 25 - قوله تعالى: (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) إن قلت: لم خصهم بذلك مع أن أصحاب الشمال كذلك إذا نظروا إلى ما في كتابهم من الفضائح والقبائح أخذهم من الحياء والخل والخوف ما يوجب انقباض ألسنهم من إقامة الحروف فتكون قراءتهم كلا قراءة، وأمر أصحاب اليمين على العكس، وأما قوله " ولا يضلمون فتيلا " فعائد إلى كل الناس لا إلى أصحاب اليمين خاصة، وإنما خصهم بذلك لأنهم يعلمون أنهم لا يظلمون ويعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال فإنهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون. وقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ

جَاءَهُمُ الْهُدَى. .) الآية. قال ذلك هنا، وقاله في الكهف بزيادة " ويستغفروا ربَّهم " لأن المعنى هنا: ما منعهم عن الِإيمان بمحمد، إلَّا قولُهم: " أبعثَ الله بشراً رسولًا "؟ هلَّا بعثَ مَلَكاً إ! وجهلوا أن التَّجانس يورث التَّوانس، والتغايرَ يورثُ التنافر. والمعنى في الكهف: ما منعهم عن الإِيمان والاستغفار، إلا إتيانُ سنة الأوَّلين، فزاد فيها (وَيسْتَغْفروا رَبَّهُمْ " لاتصاله بقوله " سُنَّةَ الأوَّلينَ " وهم قومُ نوحٍ، وهود، وصالح، وشعيب، حيث أمروا بالاستغفار. فنوحٌ قال: " اسْتَغْفِرُوا ربَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ". وهود قال: " وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُم تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجَيبٌ ". وشعيب قال: " وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) .

27 - قوله تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بينِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كان بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) . قال ذلك هنا بتقديم " شهِيداً " على " بيني وبينكم " وقاله في العنكبوت بالعكس. . لأن ما هنا جاء على الأصل من تقديم المفعول، وما في العنكبوت جاء على خلاف الأصل، ليتَّصل وصف الشهيد به، وهو قوله تعالى (ويعلمُ ما في السمواتِ والأرض) . 28 - قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ. .) . قال ذلك هنا بلفظ " قادر " وفي الأحقاف بلفظ " بقادرٍ " وفي يس " أوليس الذي خلق السمواتِ والأرضَ بقادرٍ ". . لأن ما هنا خبر " إن "، وما في يس خبر " ليسَ " وخبرها تدخلُه الباء، وما في الأحقاف خبرُ " إنَّ " وكانَ القياسُ عدمُ دخول الباء فيه، لكنَّها دخلته تشبيهاً لـ " لَمْ " بـ " ليس " في النفي. 29 - قوله تعالى: (قَال لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ

إِلَّا رَبُّ السَّموَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ. .) . إن قلتَ: كيف قال موسى عليه السلام لفرعون ذلك، مع أن فرعون لم يعلم ذلك، لأنه لو علم ذلك لم يقل لموسى عليه السلام " مسحوراً " بل كان يؤمن به؟! قلتُ: معناه لقد علمتَ لو نظرتَ نظراً صحيحاً، ولكنك معاندٌ مكابرٌ، تخشى فواتَ دعوى الألوهية لو صدَّقتني.! 35 - قوله تعالى: (وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) . أي هالكاً، أو ملعوناً، أو خاسراً. فإن قلتَ: كيف قال له " لأظُنُّكَ " مع أنه يعلم أنه مثبورٌ؟! قلتُ: الظنُّ هنا بمعنى العلم، كما في قوله تعالى " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ".

وإنما عبَّر بالظنِّ، ليُقَابل (قولَ فرعونَ له: " لأظنُّكَ يا موسى مسحوراً " كأنه قال: إذا ظننتني مسحوراً، فأنا أظنُّك مثبوراً. 31 - قوله تعالى: ((يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً. .) الآية. كرَّره لأن الأول واقعٌ في حال السجود، والثاني في حال البكاء، أو الأول واقعٌ في قراءة القرآن، أو سماعه، والثاني في غير ذلك. " تَمَّتْ سُورَةُ الِإسراء "

سورة الكهف

سورة الكهف 1 - قوله تعالى: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَه عِوَجاً. قَيِّماً. .) . إن قلتَ: ما فائدة ذكره " قيّماً " بعد قوله " ولم يجعلْ له عِوَجاً " لأنَّ نفي العِوَج يستلزم الِإقامة؟! قلت: فائدئه التأكيد في وصف كتاب الله العظيم، أو معنى " قَيِّماً " أنه قائمٌ على الكتب السماوية كلِّها، مصدِّقاً لها، ناسخاً لبعض شرائعها. ونُصب " قيِّماً) بمقدَّرٍ تقديره: لكنْ جعَلَه قيِّماً. 2 - قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) . أي لنعلمه علم ظهورٍ ومشاهدة.

3 - قوله تعالى: (وَيَقولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كلْبُهُمْ. .) " وثامنُهم " الواو فيه زائدة، وقيل: مستأنفةٌ، وقيل: واوُ الثمانية كما في قوله تعالى (وَفُتِحَت أَبْوَابُهَا) وقال الزمخشري وغيرُه: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الصفة الواقعة حالاً فى المعرفة، تقول: جاءني رجلٌ ومعه آخر، ومررتُ بزيد وبيده سيفٌ، ومنه قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتابٌ معلوم) . وفائدتُها توكيدُ اتّصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتّصالها أمرٌ ثابتٌ مستقرٌّ. 4 - قوله تعالى: (واتلُ ما أوحيَ إليك من كتاب ربك لا مبدِّل لكلماته. .) . أي من البشر، وإلا فاللهُ يبدلها، قال تعالى: " ما ننسخ من آيةٍ أو نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِهَا ")

وقال: " وإذا بدَّلنا آيةً مكان آيةٍ " الآية. 5 - قوله تعالى: (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر. .) . إن قلتَ: في هذا إباحةُ الكفر؟! قلتُ: لا، لأن هذا إنما ذُكر تهديداً لهم، بناءً على أن الضمير في " شَاءَ " لـ " مَنْ " وعليه الجمهور. أو المعنى: فمن شاء الله إيمانه آمنَ، ومن شاء كفره كَفَر، بناءً على أن الضمير فيه " للَّهِ " كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. 6 - قوله تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ. .) الآية. إن قلتَ: لبسُها في الدنيا حرامٌ على الرجال، فكيف وعد اللهُ بها المؤمنين في الجنة؟ قلتُ: عادةُ ملوكِ الفرسِ والروم، لبسُ الأساور والتيجان، دون مَنْ عداهم، فلذلك وعد اللهُ المؤمنين

بها لأنهم ملوكُ الآخرة. 7 - قوله تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. .) الآية. أفردها بعد تثنيتها ليدلَّ على الحصر، أي لا جنة له غيرها، ولا نصيب له في جنة غيره، ولم يقصد جنَّةً معيَّنةً من الجنَتين، بل جنس ما كان له في الدنيا. 8 - قوله تعالى: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً) . إن قلتَ: كيف قال الكافر ذلك وهو يُنكر البعث؟ قلتُ: معناه: ولئن رُددتُ إلى ربي على زعمك، ليعطينِّي هناكَ خيراً منها، ونظيره قولُه تعالى في فصِّلت (وَلَئِنْ رُجِعْت إلَى رَبِّي إنَّ لِي عِنْدَهُ للحسْنَى) وعبَّر هنا بـ " رُدِدْتُ " وثَمَّ بـ " رُجِعت " توسعةً في التعبير عن الشيء بمتساويين.

9 - قوله تعالى: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) . فائدةُ ذكرِ " أَنَا " في مثل ذلك، حصر الخبر في المبتدأ، كما في قوله تعالى: " إنّي أَنَا ربُّكَ " وقوله: " إنِّي أنَا الله ". 10 - قوله تعالى: (هنَالِكَ الوَلَايَة لِلَّهِ الحَقِّ هوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) . " خَيْرٌ " هنا ليست على بابها، إذْ غير الله لا يثيب، ولا تحمد طاعته في العاقبة ليكون الله خيراً منه ثواباً وعقباً، أو ذلك على سبيل الفرضِ والتقدير. 11 - قوله تعالى: (وَحَشَرْنَاهمْ فَلَمْ نغَادِرْ مِنْهمْ أحَداً) . أتى به ماضياً، مع أن ما قبله مضارعين وهما: " ويوم نسيِّر الجبالَ وتَرَى الأرضَ بارزةً " ليدلَّ على أنَّ حشرهم، كان قبل السّير والبروز، لِيُعاينوا تلك الأهوال والعظائم، كأنه قال: وحشرناهم قبل ذلك.

12 - قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لهَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرةً وَلَا كبيرَةً إلاَّ أَحْصَاهَا) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الصغائر تُكفَّر باجتناب الكبائر، لقوله تعالى: " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تنْهَوْن عنه نُكَفِّرْ عنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ "؟! قلتُ: الآيةُ الأولى في حقِّ الكافرين، بدليل قوله " فترى المجرمين " والثانيةُ في حقِّ المؤمنين، لأن اجتناب الكبائر لا يتحقَّق مع الكفر. أو يُقال: الأولى في حقِّ المؤمنين أيضاً، لكن يجوز أن يُكتب الصغائر، ليشاهدها العبد يوم القيامة، ثم يُكفَّرعنه فيعلم قَدْر نعمةِ العفوِ عليه. 13 - قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلّاَ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجنِّ. .) . إن قلتَ: هذا يدلُّ على أن " إبليس " من الجنِّ، وهو منافٍ لقوله تعالى في البقرة: " وإذْ قُلْنَا للملاَئِكَة اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبليسَ " فإِنه يدلُّ على أنه من الملائكة؟

قلتُ: في ذلك قولان: أحدهما: أنه من الجنّ لظاهر هذه الآية، ولأن له ذريةً كفرة بل أكفر الكفرة. بخلاف الملائكة لا ذرية لهم، ولا يعصون الله ما أمرهم، لأنهم عقولٌ مجردة لا شهوةَ لهم، ولا معصيةَ إلَّا عن شهوة، فالاستثناءُ في تلك الآية منقطعٌ. وثانيهما وهو المختارُ (1) أنه من الملائكة، قبل أن يعصي الله تعالى، فلمَّا عصاه مسخه شيطاناً، ورُوي ذلك عن ابن عباس، كما رُوي عنه أيضاً أنه كان من خُزَّانِ الجنة، وهم جماعةٌ من الملائكةِ يسمَّون الجنَّ، ف " كان " بمعنى صار. أو المعنى كان في سابق علمه تعالى، أو من الجنّ الذين هم من الملائكة، فالاستثناءُ متَّصلٌ، ولا منافاة بين الآيتين.

14 - قوله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوني وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الشيطان وذريته، ليسوا أولياء بل أعداء، لأن الأولياء هم الأصدقاء؟! قلتُ: المرادُ بالولاية هنا، اتِّباعُ النَاسِ لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي، فالموالاةُ مجازٌ عن هذا، لأنه من لوازمها. 15 - قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْهَا. .) . قاله هنا بالفاء، الدالة على التعقيب، لأن ما هنا في الأحياء من الكفَّار، فإنهم ذُكِّروا فأعرضوا عَقِب ما ذكِّروا، وقاله في السجدة ب " ثمَّ " الدالة على التراخي، لأن ما هناك في الأموات من الكفار، فإنهم ذُكّروا مرَّة بعد أخرى، ثم أعرضوا بالموتِ فلم يؤمنوا. 16 - قوله تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَامَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا

حُوتَهُمَا. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن النَّاسي " يوشع " وحده؟ قلتُ: نسبةُ النسيانِ إليهما مجازٌ، أو المرادُ أحدهما، كنظيره في قوله تعالى (يَخْرجُ منهما اللُّؤْلُؤُ والمَرْجَانُ) . وقيل: نسيَ " موسى " بفقده الحوتِ، و " يوشع " أن يُخبره بخبره. 17 - قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا. .) الآية. قاله بغير فاءٍ، وقال بعد: " حتَّى إذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ " بالفاء، لأنه جعل خَرْقها جزاءَ الشرط، فلم يحتج للفاء، وجعل قتل الغلام من جملة الشرط، فعطفه عليه بالفاء، وجزاء الشرط قوله " قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكيَّةً بغيرِ نفسٍ ". 18 - قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) .

قاله بلفظ " الِإمْرِ " لأنه للعجب، والعجب كما يكون في الخير، يكون في الشرِّ، وقاله بعد في قتل الغلام بلفظ " نُكْراً " لأنه لا يكون إلا في الشرّ، وقتلُ النفسِ أعظمُ من مجرَّد خرق السفينة، فناسب كلٌّ ما هو فيه، ولذلك قال في خرق السفينة " ألَمْ أقُلْ إنَّكَ " بحذف " لك " وفي قتل الغلام " ألمْ أقُلْ لكَ إنَّكَ " بذكره، ولأن في ذكره، قصدَ زيادة المواجهة، بالعتاب على تركِ الوصيَّةِ مرَّة ثانية. 19 - قوله تعالى: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) . جاء بالأول بالتاء " تَسْتَطِعْ " على الأصل، وفي الثاني " تَسْطِعْ " بحذفها تخفيفاً لأنه الفرعُ، وعَكَس ذلك في قوله " فَمَا اسْطَاعُوا أن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً " لأن مفعول الأول اشتمل على حرفٍ، وفعل وفاعل، ومفعول، فناسبه الحذف تخفيفاً، بخلاف مفعول الثاني فإنه اسم واحد، وهو قوله " نقباً " فناسبه البقاءُ على الأصل. 20 - قوله تعالى: (أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكينَ

يَعْمَلُونَ في البَحْرِ فَأَرَدْت أَن أَعِيبَها. .) . قاله الخَضِرُ في خرقِ السفينة، وقال في قتل الغلام " فَأردْنَا أنْ يُبْدلَهُمَا ربًّهُما خَيْراً منْهُ " وفي إقامةِ جدارِ اليتيمينِ " فَأرَادَ ربًّكَ أنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ". لأنَّ الأول في الظاهر إفسادٌ محضٌ، فأسنده إلى نفسه. وفي الثالث إنعامٌ محضٌ، فأسنده إلى ربه تعالى. وفي الثاني إفسادٌ من حيثُ القتلُ، وإنعامٌ من حيثُ التبديلُ، فأسنده إلى ربِّه ونفسه، كذا قيل في الأخيرة. والأوجهُ فيه ما قيل: إنه عبَّر عن نفسه فيه بلفظ الجمع، تنبيهاً على أنه من العِظَام في علوم الحكمة، فلم يُقْدِم على القتل إلَّا لحكمة عالية. 521 - قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ. .) .

إن قلتَ: الشمس في السَّماءِ الرابعة (1) ، وهي بقدر كرة الأرض مائةً وستين، أو وخمسين، أو وعشرين مرَّة، فكيف تَسَعها عينٌ في الأرضِ تغرب فيها؟ قلتُ المرادُ وجدها في ظنّه، كما يرى راكبُ البحر، الشمسَ طالعةً وغاربةً فيه، " فذو القرنين " انتهى إلى آخر البُنيانِ في جهة الغَرْب، فوجد عيناً واسعة، فظنَّ أن الشمس تغربُ فيها. فإن قلتَ: " ذو القرنين " كان نبياً، أو تقياً حكيماً، فكيف خفي عليه هذا حتى وقع في ظنِّ ما يستحيلُ وقوعُه؟ قلتُ: الأنبياء والحكماءُ لا يبعد أن يقع منهم مثل ذلك، ألا ترى إلى ظنِّ موسى فيما أنكره على الخضِر، وأيضاً فاللَّه قادرٌ على تصغير جُرْم الشمس، وتوسيع العينِ وكرة الأرضِ، بحيث تسع عينُ الماء

(1) عينَ الشمس، فلمَ لا يجوز ذلك، ولم يُعلم به لقصور عقولنا عن الِإحاطة بذلك!! 22 - قوله تعالى: (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً) . أي قَدْراً لحقارتهم، وليس المرادُ فلا ننصبُ لهم ميزاناً، لأن الميزانَ إنما يُنصبُ ليوزن به الحسناتُ، في مقابلته السيئات، والكافر لا حسنةَ له، وأما قوله تعالى (وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) فهو فيمن غلبتْ سيئاتُه على حسناته من المؤمنين، فإنه يدخل النار لكنْ لا يُخلَّد فيها. " تَمَّتْ سُورَةُ الكهف "

سورة مريم

سورة مريم 1 - قوله تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقوبَ. .) . أي يرث العلم والنبوة لا المال، لخبر " نحن معاشرَ الأنبياء لا نورثُ ما تركناه صدقة ".. وورث يتعدَّى بنفسه وب " مِنْ " وقد جُمع بينهما في الآية، وقيل: " مِنْ " للتبعيض لا للتعدية، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء، وعلى الأول المرادُ من " آل يعقوب " الأنبياء، لأنهم الذين لا يورِّثون إلَّا العلم والنبوَّة. 2 - قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أنَّى يَكُونُ لِي غلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً.) الأية. إن قلتَ: كيف استبعد زكريا ذلك وأنكره؟ قلتُ: لم يفعله إنكاراً، بل ليُجاب بما أجيب به عن

طلبه الولد، وهو قولُه تعالى: " يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّركَ بِغُلَام اسمُه يَحْىَ " فيزدادُ الموقنون إيقاناً، ويرتدع المبطلون. أو قاله: تعجُّبَ فرحٍ وسرورٍ، لا تعجُّبَ إنكارٍ واستبعاد، ويعقوب المذكور هو أبو " يوسف " وقيل: هو أخو زكريا، وقيل: هو أخو عمران أبي مريم عليه السلام. 3 - قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لي آيةً. .) أي علامة. فإن قلتَ: كيف طلب العلامة على وجود الولد، بعدما بشَّره اللَّهُ تعالى؟ قلتُ: ليبادر إلى الشكر، ويتعجل السرور، إذِ الحملُ لا يظهر في أول العلوق، فأراد معرفته أول وجوده، فجعل الله آية وجوده عجزَه عن كلام الناس. 4 - قوله تعالى: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً) . قال ذلك هنا، وقال بعده " ولم يجعلني جباراً شقياً " لأن الأول في حق " يحى " والثاني في حقّ "

عيسى " عليهما السلام. 5 - قوله تعالى: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً) قاله هنا: في قصَّة " يحى " منكَّراً، وقال بعدُ في قصة " عيسى ": (والسَّلَامُ عليَّ يومَ وُلدتُ) ومعرَّفاً، لأن الأول من الله، والقليلُ منه كثيرٌ، والثاني من عيسى و " أل " للاستغراق، أو للعهد كما في قوله تعالى: (كما أرسَلْنا إلى فرعَونَ رسُولَاَ. فَعَصى فرعونُ الرَّسولَ) أي ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحى موجَّه إليَّ. 6 - قوله تعالى: (فَأرْسَلْنَا إِلَيْها رُوحَنَا. .) أي جبريل. فإن قلتَ: كيف قال ذلكَ، مع اتفاق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة، ولهذا قالوا في قوله " وأوحينا إلى أُمّ موسى " أنه وحيُ إلهام، وقيل: وحي منام. قلتُ: لا نسلِّم أن الوحي لم يُنزَّل على امرأة، فقد قال مقاتل في قوله تعالى " وأوحينا إلى أمِّ موسى " أنه كان وحياً بواسطة جبريل، والمتَّفقُ عليه إنما هو وحي

الرسالة، لا مطلق الوحي، والوحيُ هنا إنما هو ببشارة الولد لا بالرسالة. 7 - قوله تعالى: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً) . إن قلتَ: كيف قالت مريم ذلك، مع أنه إنما يُتعوَّذ من الفاسق لا من التقيِّ؟ قلتُ: معناه إن كنتَ ممن يتَّقي اللَّهَ، فأنتَ تنتهي عني بتعوذي باللَّهِ منك. وقيل: ظنَّته رجلًا اسمُه " تقيٌّ " - وكان فاجراً - فتعوَّذتْ منه. (1) 8 - قوله تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكيّاَ) بتقدير إنما أنا رسولُ ربِّكِ، يقول لكِ: أرسلتُ رسولًا إليكِ لأهب لكِ، فيكون حكاية عن الله، لا من قوِل جبريل، وقُرِىء " لِيَهَبَ لَكِ " أي ليهب ربُّكِ لكِ غلاماَ، أو بإسناد الهبة إلى جبريل مجازاً، أي لأكون سبباً في هبة الولد، بواسطة نفخي في درعها، فهو من قول جبريل.

9 - قوله تعالى: (وَلَمْ يَمْسَسْني بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بَغِيّاً) . لم تقل: بغيَّةً، لما قاله ابن الأنباري من أنَّ " بغيّاً " غالب في النساء، وقلَّ ما يقول العرب: رجلٌ بغي، فتركوا التاء فيه إجراءً له مجرى حائض، وعاقر. أو هو: " فعيل " بمعنى فاعل، فتركوا التاء فيه كما في قوله تعالى: " إنَّ رحمةَ اللَّهِ قريب من المحسنينَ ". . أو لموافقة الفواصل. 10 - قوله تعالى: (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيّاً) مرتَّبٌ على مقدَّرٍ بينه وبين الشرط تقديره: فإما ترينَّ من البشر أحداً، فيسألك الكلام، فقولي إني نذرتُ الآية، وبهذا سقط ما قيل من أن قولها " فلن أكَلَم اليومَ إنسيّاً " كلامٌ بعد النذر، إذ هو بهذا التقدير من تمام النذر لا بعده. 11 - قوله تعالى: (وَأوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) . إن قلتَ: كيف امر بذلك مع أنه كان طفلاً، وخطابُ التكليفِ إِنما يكون بعد البلوغ والتمييز؟

قلت: ذلك لا يدلُّ على أنه أوصاه بأداء ذلك في الحال، بل أوصاه في الحال بالأداء بعد البلوغ والتمييز، أو أن الله صيَّره عقب ولادته بالغاً مميِّزاً، بدليل قوله تعالى " إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثلِ آدمَ " فكما أنه تعالى خلق آدم تاماً كاملاً دفعةً، فكذا القول في " عيسى " عليهما السلام، وهو أقرب إلى ظاهر قوله (مادمتُ حياً) ، فما أوصاه بذلك إلا بعد بلوغه وتمييزه. فإن قلتَ: الزكاة إنما تجب على الأغنياء، وعيسى لم يزل فقيراً، لابساً كساءً مدة مكثه في الأرض، مع علمه تعالى بحاله، فكيف أوصاه بها؟! قلتُ: المراد بالزكاة هنا تزكيةُ النفس وتطهيرها من المعاصي، لا زكاة المال. 12 - قوله تعالى: (وإنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) . قال ذلك هنا، وقال في الزخرف " وإنَّ اللَّهَ هوَ ربِّي وربُّكُمْ " بزيادة " هو " لأنه تعالى ذكر قصة عيسى عليه السلام هنا مستوفاة، فأغنى ذلك عن التأكيد، بخلافه ثَمَّ، ولذلك قال هنا: " فويلٌ للذينَ كفروا " وفي

الزخرف " فويلِّ للذين ظلموا " إِذِ الكفرُ أشدُّ قبحاً من الظلم، فكان وصفُ من ذُكر بالكفر، في المحلِّ الذي استوفى فيه قصة عيسى، أنسبَ بالمحلّ الذي أجمل فيه قصَّته. وقال هنا: " أَسْمِعْ بهمْ وأَبْصِرْ " وعكَسَ في الكهف، لأن معناه هنا أنه تعالى ذكر قصص الأنبياء، فاسمعْها وتدبَّرْها، واستعملْ النظر فيها ببصيرتك، ومعناه في الكهف أنه تعالى له غيبُ السمواتِ والأرض، فاجعلْ بصيرتك في الفكر في مخلوقاته، وتدبَّرها بحيثُ تصلُ إلى معرفته، واسمِع لصفاته ووحِّدْهُ، فناسب تقديم السمع هنا، والبصرِ ثمَّ. 13 - قوله تعالى: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) . إن قلتَ: الاستغفارُ للكافر حرامٌ، فكيف وعد إبراهيم عليه السلام أباه، بالاستغفار له مع أنه كافرٌ؟ قلتُ: معناه سأسال اللَّهَ لك توبةً، تنال بها مغفرته يعني الِإسلامَ، والاستغفارُ للكافر بهذا الوجه جائزٌ، كأن يقول: اللهم وفِّقْه للِإسلام، أوتبْ عليه واهده. أو أنه

وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار للكافر. 14 - قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ. .) . أي الذي يلي يمين موسى، حين أقبل من مَدْين. 15 - قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً) . إن قلتَ: هارون كان أكبر من موسى، فما معنى هبته له؟ قلتُ: معناه أن الله تعالى أنعم على موسى عليه السلام، بإجابتهِ دعوتَه فيه، حيثُ قال: " واجعلْ لي وَزِيراً منْ أهلي. هارونَ أخي " الآية، فمعنى هبته له، جعلَه عضداً له وناصراً ومعيناً. 16 - قوله تعالى: (إِلّاَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شيْئاً) قاله هنا: وقال في الفرقان " وعمل عملاً صالحاً " لأنه تعالى أوجز هنا في ذكر المعاصي، فأوجز في التوبة،

وأطال ثَم فأطال. 7 1 - قوله تعالى: (لَقَدْ أحْصَاهُمْ وَعَذَهُمْ عَداً) . إن قلت: ما فائدة ذكر العدِّ بعد الِإحصاء، مع أن الاحصاء هو العدُّ أو الحصرُ، والحصرُ لا يكون إلا بعد معرفة العدد؟ قلت: له معنى ثالث، وهو العلمُ كقوله تعالى " وأحصى كل شيءٍ عدداً " أي علم عدد كل شيء، فالمعنى هنا: لقد علمهم، وعدهم عدّاً. " انتهت سورة مريم "

سورة طه

سورة طه 1 - قوله تعالى: (وَهَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكثُوا. .) الآية. إن قلتَ: كيف حكى الله تعالى قول موسى عليه السلام لأهله، عند رؤية النَّار هنا، وفي النمل، والقَصَص بعباراتٍ مختلفة، وهذه القصة لم تقع إلاَّ مرَّة واحدة، فكيف اختلفت عبارة موسى فيها؟! قلتُ: قد مرَّ في الأعراف في قصة موسى عليه السلام، مثلَ هذا السؤال، مع جوابه، وجوابُه ثَمَّ يأتي هنا. 2 - قوله تعالى: (فَلَمَّا أتَاهَا نُودِيَ يا مُوسَى إِنِّي أنَا

رَبُّكَ. .) الآية. قاله هنا وفي القَصَص بلفظ " أتى " وفي النمل بلفظ " جاء " لأنهما وإن كانا بمعنى واحد، غاير بينهما لفظاً، توسعةً في التعبير عن الشيء بمتساويين. وخُصَّ " أتى " بهذه السورة لكثرة التعبير بالِإتيان فيها، و " جاء " بالنمل لكثرة التعبير بالمجيء فيها، وأُلحق ما في القصص بما في " طه " لفور ما بينهما، أي من حيثُ قوله هنا " يا موسى إني أنا ربُّك " وقوله في القصص " يا موسى إني أنا اللَّهُ " وإن اختلف محلهما، بخلاف ذلك في النمل.. 3 - قوله تعالى: (إِن السَّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أخفِيهَا لِتُجْزَى كل نفسٍ بِمَا تَسْعَى) . قاله هنا: وفي " الحج " بحذف لام التأكيد، وقاله في " غافر " بإِثباتها، لأنها إنما تُزاد لتأكيد

الخبر، وتأكيدُه إنما يُحتاجُ إليه، إذا كان المخبَرُ بهِ شاكّاً في الخبر، والمخاطبون في " غافر " هم الكفَّار، فأكَّد فيها باللّاَم بخلاف تَيْنكَ. 4 - قوله تعالى: (فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) . ضميرُ " عنها " و " بها " للساعة، والمنهيُّ ظاهراً من لا يؤمن بها، وحقيقةً موسى عليه السلام، إذ المقصودُ نهيُ موسى عن التكذيب بالسَّاعة. 5 - قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) ؟ إن قلتَ: ما فائدةُ سؤالهِ تعالى لموسى، مع أنه أعلمُ بما في يده؟! قلتُ: فائدتُه تأنيسُه، وتخفيفُ ما حصل عنده من دهشةِ الخطاب، وهيبة الِإجلال، وقت التكلم معه، أو اعترافه بكونها عَصَا، وازدياد علمه بذلك، فلا يعترضه شكّ إذا قلبها الله ثعباناً، أنها كانت عصى ثم انقلبت ثعباناً بقدرة الله تعالى. 6 - قوله تعالى: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أتَوَكَّأُ عَلَيْهَا

وَأَهُشّ بِهَا عَلَى غَنَمِي. .) الآية. هو جواب موسى - عليه السلام - فإن قلتَ: لمَ زاد عليه " أتوكأ عليها وأهشُّ بها على غنمي ولي فيها مآربُ أخرى "؟. قلتُ: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه سُئل سؤالاً ثانياً: ما تصنعُ بها؟ فأجاب بذلك. أو ذكرَ ذلك خوفاً من أنْ يُؤمرَ بإِلقائها، كما أُمِرَ بإِلقاءِ النَّعلين، أو لئلا يُنسبَ إلى التَّعب في حملها، مع المقام مقامُ البسطِ، للتلذُّذِ بالكلام مع الربِّ تعالى، ولهذا بَسَط في نفس الجواب، إذ كان يكفي فيه أن يقول: عصا. 7 - قوله تعالى: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيةً أُخْرَى) . جعل هنا الجناح مضموماً إليه، وفي القصص مضموماً في قوله: (واضمُمْ إليك جناحَك) لأن المراد به هنا، ما بين العضد إلى الِإبط من اليد اليُسرى، وبه

ثَمَّ ذلك من اليد اليمنى، فلا تنافي. 8 - قوله تعالى: (إِذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) . قال ذلك هنا، وقال في الشعراء (وإذْ نَادَى ربُّكَ مُوسَى أَنِ ائتِ القَوْمَ الظَّالمين. قومَ فِرْعَوْنَ) وفي القصص (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلِإهِ) . اقتصر في " طه " على فرعون، لأنَّه الأصلُ بالنسبة إلى قومه، مع سبقِ طه. واكتفى في " الشعراء " بذكره في الإِضافة، عن ذكره مفرداً. وجمع بينهما: في " القصص " ليوافق قولَه: " فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ " في التَّعدد. 9 - قوله تعالى: (وَاحْلُل عُقْدَةً مِنْ لِسَاني. يَفْقَهُوا قَوْلِي) . قال ذلك هنا، وقال في " الشعراء ": (وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَاني) . وفي " القَصَص ": (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أفْصَحُ

مِنَي لِسَاناً) . صرَّح: بعقدة اللسان في " طه " لسَبْقها، وَكنَّى عنها في الشعراء بما يقربُ من الصَّريح، وفي القصص بكنايةٍ مبهمة، لدلالة تلك الكناية عليها. 10 - قوله تعالى: (إِذْ أوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) . إن قلتَ: هذا مجملٌ فما فائدتُه؟ قلتُ: فائدتُه الِإشارةُ إلى أنه ليس كلُّ الأمور، مما يُوحى إلى النساء، كالنبوَّةِ ونحوها، أو التعظيمُ والتفخيمُ أولاً، كما في قوله تعالى " فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى " والبيانُ ثانياَ بقوله (أنِ اقْذِفيهِ فِي التَّابُوتِ فاقذفيه في اليمِّ) . 11 - قوله تعالى: (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أمِّكَ كي تَقَرَّ عَيْنُهَا ولا تَحْزَنَ. .) الآية. قاله هنا بلفظ الرَّجع، وقال في " القصص ": " فَرَدَدْنَاهُ " بلفظ الردِّ، لأنهما وإن اتَّحدا معنى، لكنْ خُصَّ الرجعُ بما هنا، ليقاوم ثِقَل الرجع، خفَّةَ فتح الكاف، والردُّ بالقصص لتقاومَ خِفَّةُ الردِّ ثِقَلَ ضَمَّةِ الهاء،

وليَوافقَ قوله " إنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ". 12 - قوله تعالى: (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً. .) قاله هنا بلفظ " سَلَكَ " وقاله في الزخرف بلفظ " جَعَلَ " لأن لفظ السُّلوك مع السُّبُل أكثرُ استعمالًا من " جَعَل " فخص به " طه " لتقدمها، وب " جَعَل " الزخرف، ليوافق التعبيرُ به قبله مرَّة، وبعده مراراً. 13 - قوله تعالى: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) . أخَّر موسى عن هارون، مع أنَّ هارون كان وزيراً له، لموافقة الفواصل. 14 - قوله تعالى: (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) - أي لا يموتُ فيها موتاً متصلاً، ولا يحيا حياةً متصلة، بل كل ما مات في مدة العذاب، أعيد حياً ليدوم العذاب، وإنما قدرنا ذلك، لأن الموت والحياة لا يرتفعان عن الشخص.

15 - قوله تعالى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً في البَحْرِ يَبَساً لَا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى) أي لا تخاف إدراك فرعون، ولا تخشى غَرَقاً في البحر، وإلَّا فالخوفُ والخشيةُ مترادفان، وغَايَر بينهما لفظاً، رعايةً للبلاغة. 16 - قوله تعالى: (وَأضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) . إن قلتَ: صدرُهُ يُغني عن عَجُزه، فكيف ذكر العَجُز؟ قلتُ: المعنى وما هداهم بعد ما أضلَّهم، فإِن المضلَّ قد يهدي بعد إضلاله، أو ما هدى نفسه، أو أضلهم عن الدِّينِ، وما هداهم طريقاً في البحر. 17 - قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ. .) . إن قلتَ: المواعدةُ كانت لموسى عليه السلام لا لهم، فكيف أضيفت إليهم؟ . قلتُ: لمَّا كانت لِإنزالِ كتابٍ لهم، فيه صلاح دنياهم وأُخراهم،

أضيفت إليهم لهذه الملابسة. 18 - قوله تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى) ؟ إن قلتَ: هذا سؤال عن سبب العجلة، فإِن موسى لما واعده اللَّهُ تعالى، حضورَ جانبِ الطور لأخذ التوراة، اختار من قومه سبعين رجلًا يصحبونه إلى ذلك، ثم سبَقهم شوقاً إلى ربه تعالى، وأمرهم بلَحاقه، فعوتب على ذلك، فكيف طابقَ الجوابُ في الآية السؤال؟ قلتُ: السؤال تضمَّن شيئين: إنكارَ العَجَلة، والسؤالَ عن سببها، فبدأ موسى بالاعتذار عمَّا أنكره تعالى عليه، بأنه لم يوجد منه إلا تقدّمٌ يسيرٌ، لا يُعتدُّ به عادةً، ثمَّ عقَّب العذر بجواب السؤال عن السبب بقوله " وعجلتُ إليك ربِّ لترضى ". 19 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِي وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) : " فنسي " أي ترك، ولهذا قال بعد ذلك " وعصى آدم ربَّه فغوى ".

20 - قوله تعالى: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى) . إن قلتَ: الخطابُ لآدم وحواء، فكيف قال: " فَتْشقَى " دون فَتشَقيا؟ قلتُ: قال ذلك لأن الرجل قيِّمُ امرأته، فشقاؤه يتضمَّن شقاءها، كما أن سعادته تتضمن سعادتها. أو قاله رعايةً للفواصل، أو لأنه أراد بالشَّقاءِ: الشَّقاءَ في طلب القوت، وإصلاح المعاش، وذلك وظيفةُ الرجل دون المرأة. 21 - قوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) . إن قلتَ: هل يجوز أن يُقال: كان آدمُ عاصياً، غاوياً، أخذاً من ذلك؟ قلتُ: لا، إذ لا يلزم من جواز إطلاق الفعل، جواز إطلاق اسم الفاعل، ألا ترى أنه يجوز أن يُقال: تباركَ اللَّهُ، دون متبارك، ويجوز أن يُقال: تابَ اللهُ على آدم دون تائب!!

22 - قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عن ذِكْرِي فَإنَّ لى مَعِيشةً ضَنْكاً. .) الآية. أي حياةً في ضيقٍ وشدَّة. فإِن قلتَ: نحنُ نرى المعرضين عن الِإيمان، في أخصب عيشة؟! قلتُ: قال ابن عباس المراد بالعيشة الضَّنْكِ: الحياة في المعصية، وإن كان في رخاءٍ ونعمة. . ورُوي أنها عذابُ القبر، أو المرادُ بها عيشة في جهنم. 23 - قوله تعالى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأجَلٌ مُسَمَّىَ) . الكلمةُ: قولُه تعالى " سبقتْ رحمتي غضبي ". أو قوله تعالى: (وما كان اللَّهُ ليُعذِّبهمْ وأنتَ فيهِمْ. .) أو قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رحمةً

للعالمين) . يعني لعالمي أمته، بتأخير العذاب عنهم، وفي الآية تقديمٌ وتأخير أي (ولولا كلمةٌ سبقت من ربك وأجلٌ مسمَّى) لكان العذاب لزاماً أي لازماً لهم كما لزم الأمم التي قبلهم. 24 - قوله تعالى: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) . إن قلتَ: كيف جمع بين هذين، مع أن أحدهما يُغني عن الآخر؟ قلتُ: المرادُ بالأول السالكون، وبالثاني الواصلون. أو بالأول الذين ما زالوا على الصراط المستقيم، وبالثاني الذين لم يكونوا على الصراط المستقيم ثم صاروا عليه. أو بالأول أهل دين الحقِّ في الدنيا، وبالثاني المهتدون إلى طريق الجنة في العقبى (1) ، فكأنه قيل: ستعلمون من الناجي في الدنيا، والفائز في الآخرة " تَمَّتْ سُورَةُ طه "

سورة الأنبياء

(1) سورة طه آية (135) . سورة الأَنبياء 1 - قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غفْلَةٍ مُعْرِضونَ) . إن قلتَ: كيف وصف الحسابَ بالقرب، وقد مضى من وقت هذا الِإخبار، أكثرُ من تسعمائة عام ولم يوجد؟ قلتُ: معناه إنه قريبٌ عند الله، وإن كان بعيداً عندنا كقوله تعالى: " إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً " وقوله: " وإنَّ يَوْماً عند رَبِّكَ كأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدوُّنَ ". أو إنه: قريبٌ بالنسبة إلى ما مضى من الزمان. أو إن المراد: قربه لكل واحدٍ في قبره، ويؤيده خبرُ " من ماتَ قامتْ قيامته ". 2 - قوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ

إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) . قاله هنا: بلفظ " من ربِّهم " وفي الشعراء بلفظ " منَ الرحمنِ ". لأن " الرَّبَّ " يأتي مضافاً، بخلاف " الرحمنِ " لم يأتِ مضافاً غالباً. ولموافقة ما هنا قوله بعد: " قالَ ربِّي يعلَمُ القَوْلَ " وموافقة ما في الشعراء قوله بعد: " وإنَّ ربَّكَ لهوَ العزيزُ الرحيمُ " إذِ الرحمنُ والرحيم أخوان) . فإن قلتَ: كيف وصف الذِّكرَ بالحدوث، مع أن الذكرَ الآتي هو القرآنُ، وهو قديمٌ؟ قلتُ: المرادُ أنه مُحدَثٌ إنزالُه، أو أنه ذكرٌ غيرُ القرآن، وأُضيف إلى الربِّ، لأنه آمرٌ به وهادٍ له. 3 - قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن النجوى المسَّارةُ؟! قلتُ: معناه بالغوافي إخفاءِ المسَّارة، بحيثُ لم يفهم أحدٌ تناجيهم ومسارَتهم، تفصيلاً ولا إجمالًا.

4 - قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحي إِلَيْهِمْ. .) . قاله هنا: بحذف " مِنْ " تَبَعاً لحذفها من قوله قبلُ " ما آمنتْ قبلَهم منْ قريةٍ " وقاله بعدُ بذكرها، جرياً على الأصل. 5 - قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكرِ إِنْ كنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . أمرَ مشركي مكة بأن يسألوا " أهل الذِّكر " أي أهل الكتاب، عمَّن مضى من الرسل، هل كانوا بشراً أم ملائكة. فإن قلتَ: كيف أمرهم بذلك، مع أنهم قالوا " لن نُؤْمِنَ بهذَا القرآنِ ولا بالذي بينَ يديْهِ "؟ قلتُ: لا مانع من ذلك، إذِ الِإخبار بعدم الِإتيان بشيءٍ، لا يمنع أمره بالِإتيان به، ولو سُلِّم فهم وإن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب، لكنِ النَّقلُ المتواترُ من أهل الكتابِ في أمرٍ، يُفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم، ولمن لا يؤمنُ به.

6 - قوله تعالى: (ولا يَسْتَحْسِرُونَ) أي: يَعْيون. 7 - قوله تعالى: (وَجَعَلْئَا مِنَ المَاءِ كلَّ شَيْءٍ حَيً. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، الشَّاملَ لقوله في النور " واللَّهُ خَلَقَ كلَّ دابَّةٍ مِنْ مَاءٍ " مع أنَّ لنا أشياء أحياء، لم تخلق من الماء، وهم: الملائكةُ، والجنُّ، وآدمُ، وناقة صالح! ؟ إذِ الملائكةُ خُلقت من نورٍ، والجنُّ من نار، وآدمُ من تراب، وناقة صالح من حجرٍ لا من ماء؟! قلتُ: أرادُ به البعضُ كما في قوله تعالى:، (وأُوتيتْ من كلِّ لشَيْءٍ) وقوله: (وَجَاءَهمُ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) . أو الكلُّ مخلوقون من الماء، لأن الله خلقَ قبل خلقِ الِإنسانِ جوهره، ونظر إليها نظر هيبةٍ فاستحالت ما ماءً، فخلق من ذلك الماء جميع المخلوقات. أو خلقههم من الماء، إمَّا بواسطةٍ أو بغيرها، ولهذا قيل: إنه تعالى خلق الملائكةَ من ريحٍ خلقها من الماءِ، والجنَّ من نارٍ خلقها من الماء، وآدَم من ترابٍ خلقه من الماء.

8 - قوله تعالى: (كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكمْ بالشَرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) . أي إلى الجنة أو النَّار. قال ذلك هنا بالواو، موافقةً للتعيين بها، فيما زاده هنا بقوله " ونبلوكم بالشَّرِّ والخَيْر فتنةً " وقال في العنكبوت بـ " ثُمَّ " لدلالتها على تراخي الرجوع، المذكور عن بلوى الدنيا ولم يقع بينهما تعبيرٌ بواو - ثم ما زاده هنا اختصاراً. 9 - قوله تعالى: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) . قاله استهزاءً وتهكُّماً بمن سفهوه، وإلَّا ففاعلُه هو نفسُه. أو أنه لما كان الحامل له على الفعل، تعظيمُهم للأصنام، وكان كبيرها أبعث له على الفعل، لمزيد تعظيمهم له، أسند الفعلُ إليه لأنه السبب فيه. 10 - قوله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى

إِبْرَاهِيمَ) . إن قلتَ: كيف خاطب النار مع أنها لا تعقلُ؟! قلت: خطابُ التَّحويل والتَّكوين، لا يختصُّ بمن يعقل كما مرَّ، قال تعالى: (يَا جِبَالُ أَوِّبي مَعَهُ وَالطَّيرَ) وقال: " فقَالَ لَهَا وللَأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً " وقال: " وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ". 11 - قوله تعالى: (وَأَرَادُوا بِهِ كيْداً فَجَعَلْنَاهُم الأخْسَرِينَ) . قاله هنا: بلفظ " الأخسرين " وفي الصَّافات بلفظ " الأسفلين ". لأنَّ ما هنا تقدَّمه أنَّ إبراهيم كادَهم، وأنهم كادوه، وأنه غلبهم في الكيْدِ، فخسرت تجارتهم حيث كسر أصنامهم، ولم يبلغوا من إحراقه مرادهم، فناسب ذكر " الأخسر ين ". وما في الصافات: تقدَّمه " قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلُقْوهُ فِي الجَحِيمِ " فأجَّجوا ناراً عظيمةً، وبنوْا بنياناً عظيماً، ورفعوا إبراهيم إليه ورموه منه إلى أسفل، فرفعه الله إليه،

وجعلهم في الدنيا من الأسفلين، وردّهم في العقبى أسفل سافلين، فناسبَ ذكرُ الأسفلين. 12 - قوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُرُّ وَأنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ختم القصَّة هنا بقوله " رحمةً من عندنا " وختمها في " ص " بقوله " رحمةً منَّا " لأنَ أيوب بَالَغ هنا في التضرُّعِ بقوله " وأنتَ أرحمُ الراحمين " فبالغ تعالى في الِإجابة، فناسب ذكر " من عندنا " لأنَّ عندنا يدلّ على أنه تعالى، تولَّى ذلك بنفسه، ولا مبالغة في " ص " فناسب ذكرُ " منَّا " لعدم دلالته على ما دلَّ عليه " عندنا ". 13 - قوله تعالى: (فَنَفَخْنَا فِيهَا. .) . أي في جَيْبِ درعها، بحذف مضافين، ولهذا ذكَّر الضمير في " التحريم " فقال: " فنفخنا فيه " (1) . 14 - قوله تعالى: (وَأَنَا رَ بُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. وَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كلٌّ إلينا رَاجِعُونَ) .

قال ذلك هنا، وقال في المؤمنين (وَأَنَا رَبُّكُمْ فاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا) لأن الخطاب هنا للكفار، فأمرهم بالعبادة التي هي التوحيدُ، ثمِ قال " وتقطَّعُوا " بالواو " لا بالفاء، لأن مدخولها ليس مرتباَ على ما قبلها، بل هو واقع قبله، ومن قال: الخطابُ مع المؤمنين، فمعناه: دوموا على العبادة. والخطابُ ثَمَّ للنبيِّ وأمته، بدليل قوله قبل (يا أيها الرسلْ كلوا من الطيبات. . الآية. والأنبياءُ وأمَّتُهم مأمورون بالتقوى. . ثم قال " فتقطَّعوا أمرهم " بالفاء، أي ظهر منهم التقطُّع بعد هذا القول، والمرادُ أمتُهم. 15 - قوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أهْلَكْنَاهَا أنهمْ لَا يَرجِعُونَ) . أي ممتنعٌ عليهم الرجوع. فإن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنه لا بدَّ من رجوعهم إلى اللَهِ؟! قلتُ: معناه لا يرجعون عن الكفر إلى الِإيمان، أو لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا. وقيل: معنى " حرامٌ " واجبٌ، ف " لا " حينئذٍ زائدة، أي واجبٌ رجوعهم.

16 - قوله تعالى: (إِنَّ الَّذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الحُسنى أوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) أي عن جهنم. فإن قلتَ: كيف يكونون مبعدين عنها، وقد قال تعالى " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّاَ وَارِدُهَا " وورودُها يقتضي القرب منها؟! قلت: معناه: مبعدون عن ألمها، وعَنَاها، مع ورودهم لها. أو معناه: مبعدون عنها بعد ورودها، بالِإنجاءِ المذكور بعد الورود. 17 - قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ رحمةً للكافرين بل نقمةً، إذْ لولا إرساله إليهم ما عُذِّبوا بكفرهمِ لقوله تعالى " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولَا "

قلتُ: بل كان رحمةً للكافرين أيضاً، من حيث إنَّ عذاب الاستئصال أُخِّر عنهم بسببه. أوكان رحمةً عامة، من حيثُ إنه جاء بما يُسعدهم إن اتَّبعوه، ومن لم يتَّبعه فهو المقصِّرُ. أو المراد بـ " الرحمة " الرحيم، وهو - صلى الله عليه وسلم - كان رحيماً للكفَّار أيضاً، ألا ترى أنهم لمَّا شجَّوه، وكسروا رباعيته، حتى خرَّ مغشيّاً عليه، قال بعد إفاقته: " اللَّهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون ". 18 - قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) . فإن قلتَ: ما فائدةُ قوله " بالحق) ؟ قلتُ: ليس المرادُ " بالحقِّ " هنا نقيضَ الباطل، بل المرادُ ما وعده اللَّهُ تعالى إيَّاه، من نصرِ المؤمنين، وخذلانِ الكافرين، ووعدُه لا يكونُ إلَّا حقاً، ونظيرُه قولُه تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وبيْنَ قَوْمنَا بالحَقِّ) . أو أنَّ: قوله " بالحقِّ " تأكيدٌ لما في التصريح بالصِّفة من المبالغة وإن كانت لازمةً للفعل، ونظيرُه في عكسه من صفة الذمِّ قولُه تعالى (ويقتلونَ الأنبياءَ بغيرحقٍّ) . " تَمَّتْ سُورَةُ الأنبياء "

سورة الحج

سورة الحجّ 1 - قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَت) . إن قلتَ: كيف جمع هنا، وأفردَ بعدُ في قوله " وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى "؟ قلتُ: لأن الرؤية الأولى متعلِّقةٌ بالزلزلة، وكلُّ الناسِ يرونها. والثانية متعلِّقَةٌ بكون النَّاسِ سكارى، فلا بدَّ من جعل كل واحد رائياً باقيهم. 2 - قوله تعالى: (كلَّمَا أرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا. .) الآية. قال ذلك: هنا بذكر " مِنْ غَمٍّ " وفي السَّجدة

بدونه، موافقةً لما قبلهما. إذْ ما هنا تقدمه قوله تعالى " قُطِّعَتْ لهمْ ثِيَاث مِنْ نَارٍ " الآية. وما هناك لم يتقدَّمه إلا قوله " فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ". 3 - قوله تعالى: (وَذوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ) تقديره: وقيل لهم ذوقوا، كما في السجدة، وخصَّ ما هنا بالحذف لطول الكلام، وما في السجدة بالذِّكر لقصره، وموافقةً لذكر القول قبله كقوله " أم يقولونَ افتراه " وقوله " وقالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا " و " قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ ". 4 - قوله تعالى: (إِن اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَناتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ. .) الآية. كرره لأنه لما ذكَرَ حكم أحدَ الخصمين، وهو " فالذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لهمْ ثيابٌ من نَارٍ " لم يكن بُدٌّ من ذكر حكم الخصم الآخر، لمقارنته له، وإن تقدَّم ذكره. 5 - قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ) .

كرَّره لأن الأول مرتَّب على ذبح بهيمة الأنعام، الشاملة للبُدْنِ، والبقر، والغنم، والثاني مرتَّبٌ على ذبح البُدْنِ خاصَّة، وإن وافقه في حكم ذبح الآخرين. 6 - قوله تعالى: (أذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأنَّهُمْ ظُلِمُوا. .) . أي اذِنَ للذينَ يريدون أن يُقاتِلوا في القتال. 7 - قوله تعالى: (الَّذِين أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. .) الاستثناءُ فيه منقطعٌ بمعنى لكنْ أُخرجوا بقولهم ربُّنا اللَّهُ، أو هو من باب تعقيب المدح بما يشبه الذَّم، كقول الشاعر: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفهم بهِنَّ فلولٌ منَ قِرَاعِ الكتائبِ أي إن كان فيهم عيبٌ فهو هذا، وهذا ليس بعيبٍ، فلا عيب فيهم. 8 - قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَت صَوَامِعُ وبِيع ... ) الآية. فإِن قلتَ: أيُّ مِنَّةٍ على المؤمنين، في حفظ " الصَّوامعِ " و " البِيَعِ " و " الصَّلَوَاتِ " أي الكنائس عن الهدم، حتَّى امتنَّ عليهم بذلك؟!

قلتُ: المِنَّةُ عليهم فيها أن الصَّوامع، والبِيَعَ، في حرسهِم وحفظهم، لأن أهلهما محترمون. أو المرادُ لهدِّمت صوامع وبِيعٌ في زمن عيسى عليه السلام، وكنائس في زمن موسى عليه السلام، ومساجدُ في زمن أمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالامتنانُ على أهل الأديانِ الثلاثة، لا على المؤمنين خاصَّة. 9 - قوله تعالى: (وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) . إنما لم يقل: " وبنو إسرائيل " في قوم موسى، عطفاً على " قوم نوح "؟! لأن قوم موسى لم يكذِّبوه، بل غيرهم وهم القِبْطُ، أو الإِبهامُ في بناءِ الفعل للمفعول، للتفخيم والتعظيم، أي وكُذِّبَ موسى أيضاً مع وضوح آياته، وعظَم معجزاته، فما ظنُّك بغيره؟ 15 - قوله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ

ظَالِمَةٌ. .) . قال ذلك هنا، وقال بعدُ: " وَكأيِّنْ مِنْ قريةٍ أمْلَيت لَهَا وهِيَ ظَالِمَةٌ " موافقةً لما قبلهما، إذْ ما هنا تقدَّمه معنى الإِهلاك بقوله " فأمليتُ للَّذينَ كفرُوا ثُمَّ أخذتهم " أي أهلكتُهم. وما بعدُ تقدَّمه " ويَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذابِ " وهو يدلُّ على أن العذاب لم يأتهم في الوقت، فحسُن ذكر الإهلاك في الأول، والِإملاء - أي التأخير - في الثاني. 11 - قوله تعالى: (فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القلوبُ الَّتي في الصُّدُورِ) . إن قلتَ: ما فائدة ذلك، مع أن القلوب لا تكون إلاَ في الصدور؟! قلتُ: فائدتُه المبالغةُ في التأكيد، كما في قوله تعالى: " يَقُولونَ بِأَفْوَاهِهمْ ". أو القلبُ هنا بمعنى العقل، كما قيل به في قوله تعالى " إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لمنْ كانَ لهُ قلبٌ " أي عقلٌ، ففائدة التقييد الاحترازُ عن القول الضعيف، بأن

العقل في الدماغ. 12 - قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ. .) الآية. الرسولُ: إنسانٌ أوحي إليه بشرع وأمرَ بتبليغه. والنبيُّ: إنسانٌ أوحي إليه بشرعٍ وإن لم يؤمر بتبليغه، فهو أعمُّ من الرسول. 13 - قوله تعالى: (ذَلِكَ بَأنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ. .) الآية. قاله هنا بتأكيده بـ " هو " وقاله في لقمان بدونه، لموافقةِ كلٍّ منهما ما قبله وما بعده، لأن ما هنا تقدَّمه تأكيداتٌ، بعضها ب " أَنَّ " وبعضها باللّاَم، وبعضُها بهما، بخلافه ثَمَّ، ولهذا قال هنا: " وَإنَّ اللَّهَ

لَهُوَ الغَنِيُّ الحميدُ " وقال ثَمَّ: " إِنَّ اللَّهَ هو الغنيُّ الحميد ". 14 - قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. .) . إن قلتَ: كيف لا حرج فيه مع أنَّ في قطع يدٍ بسرقة ربع دينار، ورجم محصنٍ بزنى مرَّة، ووجوب صوم شهرين متتابعين، بإِفساد يومٍ من رمضان بِوَطْءٍ، ونحو ذلك حَرَجاً؟! قلتُ: المرادُ بالدين: التوحيدُ، ولا حرج فيه بل فيه تخفيفٌ، فإِنه يُكفِّر ما قبله من الشرك وإن امتدَّ، ولا يتوقف الِإتيانُ به على زمانٍ أو مكان معيَّنٍ. أو أن كلَّ ما يقع الِإنسانُ فيه من المعاصي، يجد له مخرجاً في الشرع، بتوبةٍ، أو كفارةٍ، أو رخصة، أو المرادُ نفيُ الحرج الذي كان في بني إسرائيل. (1) " تَمَّتْ سُورَةُ الحج "

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون 1 - قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتونَ) . إِن قلتَ: لم أكَّده باللَّام، دون قوله بعده " ثُمَّ إِنّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثونَ " مع أن المذكورين ينكرون البعث دون الموت؟ قلتُ: لما كان العطفُ ب " ثُمَّ "، المحتاج إليه هنا يقتضي الاشتراك في الحكم، أغنى به عن التأكيد باللَام. 2 - قوله تعالى: (ولَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكلُون) . قاله هنا بالجمع وبالواو، وقال في الزخرف " لكم فيها فاكهةٌ كثيرةٌ منها تأكلون " بالِإفراد وحذفِ الواو، موافقةً لما قبلهما، إذ ما هنا تقدمت " جنَّاتٌ "

بالجمع، وما بعد الواو ومعطوفٌ على مقدَّر تقديرُه: منها تدَّخرون، ومنها تأكلون، وما في الزخرف تقدَّمت جنَّة بالتوحيد في قوله " وتلك الجنة " وليس في فاكهة الجنة الأكلُ، فناسبَ الجمعُ والواوُ هنا، والِإفرادُ وحذفُ الواو " ثَمَ ". 3 - قوله تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ. .) . المرادُ بها: شجرة الزيتون. فإِن قلتَ: لمَ خصَّها بطور سيناء، مع أنها تخرج من غيره أيضاً؟! قلت: أصلُها منه ثمَّ نُقِلتْ إلى غيرهِ. 4 - قوله تعالى: (فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلّاَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. .) الآية. قال ذلك هنا بتقديم الصِّلةِ على قومه، وقال بعدُ بالعكس. لأنه اقتصر هنا في صلة الموصول على الفعل والفاعل، وفيما بعدُ طالت فيه الصِّلة، بزيادة العطف على الصِّلةِ مرَّةً بعد أخرى، فقدَّم عليها " مِنْ قَوْمِهِ " لأن تأخيرَه عن المفعولِ ملبِّسٌ، وتوسيطه بينه وبين ما قبله رَكِيكٌ.

5 - قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَلزَلَ مَلَائِكَةً. .) الآية. قاله هنا بلفظ " الله " وفي فصِّلت بلفظ ربُّنا، موافقةً لما قبلهما، إذْ ما هنا تقدَّمه لفظ " الله " دون " ربنا " وما في فصِّلت تقدَّمه لفظ الربّ في " ربِّ العالمين " سابقاً على لفظ " الله " فناسبَ ذكر " الله " هنا، وذكرُ الرَّبِّ ثم. 6 - قوله تعالى: (فبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) . قاله هنا بالتعريف، وقال بعدُ: " فبُعْداً لقومٍ لا يؤمنون " بالتنكير، لأن الأول لقوم " صالح " بقرينة قولِه: " فأخذتْهُمُ الصَّيحةُ " فعرَّفهم تعريف عهدٍ، ونكَّر الثاني لخلوِّه عن قرينة تقتضي تعريفه، وموافقةً لتنكير ما قبله، وهو " قروناً آخرين ". @ - قوله تعالى: (وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) . قاله هنا بلفظ " عَليمٌ " وفي سبأ بلفظ " بَصِير " مناسبةً لما قبلَهما، إذْ ما هنا تقدَّمه آيتا الكتاب، وجعل

" مريم " وابنها آية، والعلمُ بهما أنسبُ من بصرهما، وما هناكَ تقدَّمه قوله " وألنَّا له الحديدَ " والبصرُ بإِلانة الحديد أنسبُ من العلم بها. 8 - قوله تعالى: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) . نزل في كفار مكة، والمرادُ بالحقِّ التوحيدُ. فإِن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنهم كلَّهم كانوا كارهينَ للتوحيد؟ قلتُ: كان منهم من ترك الِإيمان به، أَنَفَةً وتكبُّراً من توبيخ قومهم، لئلا يقولوا: ترك دين آبائه، لا كراهةً للحقِّ، كما يُحكى عن أبي طالبٍ وغيره. 9 - قوله تعالى: (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) ، أي من قبل البعث، قاله هنا بتأخير " هَذَا " عمَّا قبله. وقاله في النمل بالعكس، جرياً على القياس هنا، من تقديم المرفوع على المنصوب، وعَكَسَ ثمَّ بياناً لجواز تقديم المنصوب على المرفوع، وخصَّ ما هنا

بتأخير " هذا " جرياً على الأصل بلا مقتضٍ لخلافه، وما هناك بتقديمه اهتماماً به من منكري البعث، ولهذا قالوا بعدُ (إِنْ هَذَا إِلّاَ أَساطِيرُ الأَولِينَ) . 15- قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ لله. .) . قاله هنا بلفظ " لله "، وبعدُ بلفظ " الله " (1) مرتين، لأنه في الأول وقع في جواب مجرورٍ باللام في قوله " قلْ لِمَنِ الأرض " فطابَقَه بجرِّه باللام، بخلاف ذلك في الأخيرين، فإِنهما إنما وقعا في جوابٍ مجردٍ عن اللام. 11 - قوله تعالى: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) ، ذكره بعد قوله (قد كانت آياتي تُتْلى عليكم) لأن ذاك في الدنيا عند نزول العذاب، وهو " الجدْبُ " عند بعضهم، ويوم بدرٍ عند بعضهم. وهذا في الآخرة وهم في الجحيمِ، بدليل قوله (رَبَّنَا أخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُون) . " تَمَّتْ سُورَةُ المؤمنون "

سورة النور

سُورة النُّور 1 - قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائَةَ جَلْدَةٍ. .) الآية. إن قلتَ: لمَ قدَّم المرأةَ في آيةِ " حدِّ الزنى " وأُخّرتْ في آيةِ " حدِّ السرقة "؟ قلتُ: لأن الزِّنى إنما يتولد من شهوةِ الوقاع، وهي في المرأة أقوى وأكثر، والسَّرقةُ إنما تتولَّد من الجسارة، والقوَّة، والجرأة، وهي من الرجل أقوى وأكثر. فإِن قلتَ: فلمَ قدَّم الرجل في قوله تعالى (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ؟ قلتُ: لأن تلك الآية في الحدِّ، والمرأةُ هي الأصلُ فيه لما مرَّ، وهذه الآيةُ في حُكم النكاح، والرجلُ هو الأصل فيه، لأنه الراغبُ والبادرُ في الطلب، بخلاف

الزّنى فإِن الأمر فيه بالعكس غالباً. 2 - قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) كرَّره لاختلاف الأجوبة فيه. إذْ جوابُ الأوّل محذوفٌ تقديره: لفضحكم. وجوابُ الثاني قوله " لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيم ". وجواب الثالثِ محذوفٌ تقديره: لعجَّل لكم العذابَ. وجوابُ الرابعِ " ما زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ أَبَداً ". 3 - قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ. .) الآية. إن قلتَ: ما فائدةُ ذكرِ " مِنْ " في غضِّ البصرِ ما دون حفظِ الفرج؟ قلتُ: فائدتُهُ الدلالةُ على أن حكم النظر أخفُّ من حكم الفرج ما إذْ يحلُّ النظر إلى بعضِ أعضاء المحارمِ، ولا يحلُّ شيءٌ من فروجهنَّ.

4 - قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّاَ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ. .) الآية. إن قلتَ: لمَ تركَ ذكر الأعمام والأخوالِ، مع أنَّ حكمَهما حكم من استُثْني؟ قلتُ: تركهما كما ترك محرَّم الرضاع، أو لفهمهما من بني الِإخوان وبني الأخوات، بالأَوْلى أو بالمساواة. والجوابُ - أنه لم يُذكر من المستثنى، إِلَّا من اشترك هو وابنُه في المحرميَّةِ، لأنَّ من لم يشاركه ابنُه فيها، كالعمِّ والخال، قد يَصِفُ محرمَه عند ابنه، وهو ليس بمحْرَمِ لها، فيُفْضي إلى الفتنةِ - نُقِضَ بأن إفضاءَ الفتنةِ، َ يأتي في " آباء بعولتهنَّ " فقد يذكرُ أبو البعلِ، محْرمَه عند ابنه الآخر، وليس بمحرم لها. 5 - قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلكَ، مع أن إكراههنَّ على الزنى حرامٌ، وإِنْ لم يُردْنَ التحصُّنَ؟ قلتُ: الشرط هنا لا مفهوم له، لخروجه مخرج

الغالب منْ أنَّ إكراههنَّ إنما يكون مع إرادتهنّ التحصًّنَ، ولوروده على سبب، وهو أن الجاهلية كانوا يُكرهون إماءَهم على الزنى، مع إرادتهنَّ التحصنِ، أو أنَّ " إنْ " بمعنى " إذْ " كما في قوله تعالى: " وَذرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " وقَوْلِهِ: " وأنتمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ". 6 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. .) . قاله هنا بذكرِ الواوِ، و " إليكمْ " وقاله بعدُ بحذفهما، لأن اتصال ما هنا بما قبله أشدًّ؟ إذ قوله بعدُ " ومَوْعِظَةً للمتَّقِينَ " مصروفٌ الى الجُمَل السابقة من قوله: " وَلْيَسْتَعْفِف الّذينَ لا يجدونَ نكاحاً " إلى آخره، وفيه معطوفان بالواو، فناسبَ ذكرُها العطف، وذكرَ " إليكم " ليُفيد أنّ الآياتِ المبيِّناتِ، نزلتْ في المخاطبينَ في الجُمَل السَّابقة، وما ذُكِرَ بعدُ خالٍ عن ذلك، فناسبَهُ الاستئنافُ والحذفُ. 7 - قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ..) الآية، أي مثل صفةِ نورِه

تعالى، كصفةِ نور مِشْكاةٍ فيها مصباحٌ، المصباحُ في " زُجَاجَةٍ " هي القنديل، والمصباحُ: الفتيلةُ الموقودةُ، والمشكاةُ: الأنبوبةُ في القنديل، فصار المعنى: كمثل نور مصباحٍ، في مشكاةٍ، في زجاجة. فإِن قلتَ: لمَ مثَّل الله نورَه - أي معرفته - في قلب المؤمنِ، بنور المصباح دون نور الشمس، مع أن نورها أتمُ؟ قلتُ: لأن المقصود تمثيلُ النور في القلب، والقلبُ في الصَّدْرِ، والصَّدرُ في البدن، كالمصباحِ، والمصباحُ في الزجاجةِ، والزجاجة في القنديل. وهذا التمثيلُ لا يستقيم إِلَّا فيما ذُكر، ولأن نور المعرفة له آلاتٌ يتوقَّفُ هو على اجتماعها، كالذّهنِ، والفهم، والعقل، واليقظة، وغيرها من الصفات الحميدة، كما أنَّ نور القنديل، يتوقف على اجتماع القنديل، والزيتِ، والفتيلة وغيرها، أو لأن نور الشمس يُشرقُ متوجهاً إلى العالم السُّفلي، ونور المعرفةِ يُشرق متوجهاً إلى العالم العُلْوي، كنور المصباح. ولكثرةِ نفع الزيتِ وخلوصهِ عمَّا يخالطه غالباً، وقعَ التشبيهُ في نوره دون نور الشمس، مع أنه أتمُّ من نور المصباح.

8 - قوله تعالى: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ. .) . إن قلتَ: لمَ عطفَ البيعَ على التجارة مع شمولها له؟ قلتُ: لأن التجارة هي التصرُّف في المال لقصد الربح، والبيعُ أعمُّ من ذلك، فَعَطَفه عليها لئلا يُتوهم القصورُ على بيع التجارة. أو أُريد بالتجارة؟ الشراءُ لقصد الربح، وبالبيع: البيعُ مطلقاً. 9 - قوله تعالى: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ. .) إن قلتَ: لمَ خصَّ الدابة بالذِّكْرِ، مع أن عْيرها مثلها، كما شمله قوله في الأنبياء: " وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِكُل شَيْءٍ حَيٍّ ". قلتُ: لأن القدرة فيها أظهرُ وأعجَبُ منها في غيرها. 15 - قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَنْ يَمْشِي عَلَى

أربع ... ) . فيه مجازُ التغليبِ، حيثُ استعمل " مَنْ " وهي لمن يعقلُ فى غيره، لوقوعه تفصيلاً لما يعمُّهما وهو " كلّ دابة ". وفيه أيضاً: مجازُ التشبيه، إذْ إسنادُ ما ذُكر إلى الحيَّة، زحفٌ لا مَشْيٌ، لكنَّه يشبهه في السَّيْر. 11 - قوله تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُم. .) .؟ إن قلتَ: كيف أمرَ الله تعالى بالاستئذانِ لهم، مع أنهم غير مكلَّفين؟ قلتُ: الأمرُ في الحقيقة لأوليائهم ليؤدِّبوهم. 12 - قوله تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا.) الآية. ختمها بقوله " كذلك يُبيِّنُ الله لكمُ آياتِهِ " بالإضافة إليه. وختم ما قبلها وما بعدها بقوله " كذلِكَ يُبيِّن الله لكم الآياتِ " بالتعريف ب " أل " لأنهما يشتملان على علاماتٍ

يمكننا الوقوف عليها، وهي في الأول " مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وحينَ تَضَعونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ومِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ". وفي الأخيرة " مِنْ بُيُوتِكُمْ أو بُيُوتِ آبائِكُمْ أو بُيُوتِ أُمَّهَاتكُمْ " الآية. فختم الآيتين بقوله " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لكُمُ الآيات " وأمَّا بلوغُ الأطفالِ، فلم يُذكر له علاماتٌ يمكننا الوقوف عليها، بل تفرَّد تعالى بعلمه بذلك، فخصَّها بقوله " كَذَلِكَ يُبيِّن الله لكُمْ آياتِهِ " بالِإضافة إليه. 13 - قوله تعالى: (وَالقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً..) الآية. إن قلتَ: كيف أباح تعالى بذلك للقواعد من النساء - وهنَّ العجائزُ - التجرُّدَ من الثياب بحضرة الرجال؟! قلتُ: المرادُ بالثيابِ الزائدةُ على ما يسترهنَّ، وسُمِّيتِ العجوزُ قاعداً لكثرة قعودها قاله ابن قتيبة. 14 - قوله تعالى: (وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكلُوا مِنْ

بُيُوتِكُمْ. .) الآية، أي من بيوتِ أولادكم وعيالكم، وإِلَّا فانتفاء الحَرَج عن أكلِ الِإنسانِ من بيته معلومٌ. 15 - قوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. .) الآية، أي قولوا: السلامُ - أي من الله - علينا وعلى عبادِ الله الصالحين، فإِنَّ الملائكة تردُّ عليكم، هذا إن لم يكن بها أحدٌ، وإِلا فقولوا: السلامُ عليكم. 16 - قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمرِه. .) الآية. إن قلتَ: كيف عدَّى خالف ب " عَنْ " مع أنه يتعدَّى بنفسه؟! قلتُ: ضَمّن ب " خَالَفَ " معنى " يُعرضُ " أو " يعدلُ " فعدَّاه تعديتَه، أو عن متعلَّقٍ بمحذوفٍ تقديره: أو ويعدلون عن أمره، أو هي زائدة على قول الأخفش. " تَمَّتْ سُورَةُ النور "

سورة الفرقان

سورة الفرقان 1 - قوله تعالى: (تَبَارَكَ إلَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) . " تبارك " هذه كلمةٌ لا تُستعمل إِلَّا لله بلفظ الماضي، وذُكرت في هذه السورة في ثلاثة مواضع تعظيماً لله تعالى. وخُصَّتْ مواضُعها بذكرها، لِعظَم ما بعدها. الأول: ذكرُ الفرقان وهو القرآنُ، المشتملُ على معاني جميع كتبِ الله. والثاني: ذكرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومخاطبةِ الله له فيه، وروي (1) : " لولاك يا محمدُ ما خَلقتُ الكائناتِ ". والثالث: ذكرُ البروج، والشمس، والقمر، والليل

والنهار، ولولاها لما وُجد في الأرض حيوان ولا نباتٌ. 2 - قوله تعالى: (وَخَلَقَ كلَّ شَيْءٍ فَقَدَّره تَقْدِيراً) إن قلتَ: الخلقُ هو التقديرُ، ومنه قوله تعالى " وإِذْ تخلُقُ من الطِّينِ " فكيف جمع بينهما؟ قلتُ: الخلقُ من الله هو الِإيجادُ، فصحَّ الجمعُ بينه وبين التقدير، ولو سُلِّم أنه التقديرُ، فساغ الجمعُ بينهما لاختلافهما لفظاً، كما في قوله تعالى: " أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ " -. 3 - قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. .) الآية. قاله هنا بالضمير " مِنْ دونه " وقاله في مريم، ويسَ بلفظ " الله " موافقةً لما قبله في المواضع الثلاثة. 4 - قوله تعالى: (وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً. .) . قدَّم الضرَّ على النفع لمناسبة ما بعده، من تقديم الموت على الحياة.

5 - قوله تعالى: (أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً) . إن قلتَ: كيف قال في وصف الجنة ذلك، مع أنها لم تكن حينئذٍ جزاءً ومصيراً؟ قلتُ: إنما قال ذلك، لأن ما وعد الله به، فهو فىِ تحقّقه كأنه قد كان. أو أنه كان في اللوح المحفوظ، أنَّ الجنة جزاؤُهم ومصيرُهم. 6 - قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) . إِن قلتَ: لمَ أخَّر " هَوَاهُ " مع أنه المفعولُ الأول؟ قلتُ: للعناية بتقديم الأول كقوله: علمتُ فاضلاً زيداً. 7 - قوله تعالى: (لِنُحْييَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماَ وَأَنَاسِيَّ كثِيراً) . ذكر الصفة مع أن الموصوف

مؤنَّثٌ، نظراً إلى معنى البلدة وهو المكان، لا إلى لفظها، والسرُّ فيه تخفيف اللفظ. وقدَّم في الآية إحياءَ الأرضِ، وسقيَ الأنعامِ، على سقي الأناسيّ، لأن حياة الأناسيّ بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدَّم ما هو سببُ حياتهم ومعاشهم، ولأن سقْيَ الأرضِ بماء المطرِ، سابقٌ فِي الوجود على سقي الأناسيّ. 8 - قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ منْ دُونِ الله مَا لَا يَنْفَعُهُم وَلَا يَضُرُّهُمْ. .) الآية، قدَّم النفع على الضُّرِّ، موافقةَ لقوله قبل " هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أجاج ". 9 - قوله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) ، أي ما أسألكم على إبلاع ما أنزل عليَّ من أجرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتخِذَ إِلى رَبه) أي إلى ثوابه سَحبِيلاً أي فأنا أدله على ذلك، فهو استثناءٌ منقطع. وأمَّا الاستثناءُ في قوله تعالى: (قُلْ لا أَسأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا المَوَدَّةَ في القُرْبى) فمنسوخ بقوله تعالى: (قل ما سألتكُمْ مِن أجْرٍ فهُوَ لكمْ إِنْ أَجْريَ إِلَّا عَلَى الله) على ما

روى ابن عباس رضي الله عنهما. أو هو استثناءٌ منقطعٌ كما عليه المحققون تقديره: لكِنِّي أذكّركم المودَّة في القربى. 10 - قوله تعالى: (وَالَّذِين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) ، لم يقل " أئمة " رعايةً للفواصل، أو تقديرُه: واجعل كلَّ واحدٍ منا إماماً. 11 - قوله تعالى: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً) ، جمع بين التحية والسلام، مع أنهما بمعنى لقوله تعالى " تحيتُهُمْ يوم يلقونه سلامٌ " ولخبرِ " تحيةُ أهلِ الجنة في الجنة السلام " لأن المراد هنا بالتحية: سلامُ بعضِهم على بعض، أو سلامُ الملائكة -، وبالسَّلامِ سلام الله عليهم لقوله تعالى (سلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمً) . أو المرادُ بالتحية إكرامُ الله لهم بالهدايا والتُّحف، وبالسلام سلامه عليهم بالقول، ولو سُلِّم أنهما بمعنى، فساغ الجمَعُ بينهما، لاختلافهما لفظاً كما مرَ نظيره. " تَمَّتْ سُورَةُ الفرقان "

سورة الشعراء

سورة الشعَراء 1 - قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) . كرَّره في ثمانية مواضع، أولها في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب، ثم في ذكر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإِن لم يذكر صريحاً. 2 - قوله تعالى: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ) . إن قلتَ: كيف أفرد " رسولُ " مع أنه خبر متعدِّد، والقياسُ رَسُولا كما في طه؟ قلتُ: الرسول بمعنى الرسالة، وهي مصدر يُطلق على المتعدد وغيره.

أو تقديره: كلُّ واحدٍ منَّا رسولُ ربِّ العالمين. أو أفرده نظراً إلى موسى لأنه الأصلُ، وهارونُ تَبَعٌ له. 3 - قوله تعالى: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنا مِنَ الضَّالِّينَ) . إن قلتَ: كيف قال موسى " وأنا من الضَّالين " والنبيُّ لا يكونُ ضالّاً؟ قلتُ: أراد به وأنا من الجاهلين، أو من الناسين كقوله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحداهُمَا الأخرَى) . أو من المخطئين لا من المتعمدين، كما يُقال: ضلَّ عن الطريق إذا عدل عن الصواب إلى الخطأ. 4 - قوله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ) .

لم يقل فرعون: " ومنْ ربُّ العالمينَ " لأنه كان منكراً لوجود الربِّ، فلا يُنْكَر عليهِ التعبيرُ ب " مَا ". 5 - قوله تعالى: (قَالَ رَبُّ السَّموَاتِ وَالَأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كنْتُمْ مُوقِنِينَ) . إن قلتَ: كيف علَّق كونه ربُّ السموات والأرضِ، بكونِ فرعون وقومِه كانوا موقنين، مع أن هذا الشرط منتفٍ، والرُّبوبيةُ ثابتةٌ؟! قلتُ: معناه إن كنتم موقنين أن السمواتِ والأرضَ موجوداتٍ، وهذا الشرطُ موجود، و " إِن " نافية لا شرطيَّة. فإِن قلتَ: ذكرُ السمواتِ والأرض مستوعبٌ جميعَ المخلوقاتِ، فما فائدة قولهِ: " ربُّكُمْ وربُّ آبائكمُ الأوَّلين "؟ وقولِهِ " ربُّ المشرقِ والمغرب "؟! قلتُ: فائدتهما تمييزُهما في الاستدلال على وجود الصَّانع. أما الأول: فإِن أقربَ ما للِإنسان نفسُه، وما يشاهده

من تغييراته، وانتقاله من ابتداء ولادته. وأمِّا الثاني: فلِمَا تضمِّنه ذكرُ المشرقِ والمغربِ وما بينهما، من بديع الحكمة في تصريف الليل والنهار، وتغيير الفصولِ بطلوع الشمس من المشرق، وغروبها في المغرب، على تقديرٍ مستقيم في فصول السنة. فإِن قلتَ: لمَ قال أوَّلاً (إن كنتُمْ مُوقِنينَ) وثانياً (إنْ كنتُمْ تَعْقِلُونَ) ؟ قلتُ: لاطَفَهم أولاً بقوله " إنْ كنتُم مُوقِنينَ " فلما رأى عنادهم خاشنَهم بقوله " إنْ كنتُمْ تَعْقِلُون " وعَارَضَ بِهِ قولَ فرعون (إِنَّ رسُولَكُمُ الّذي أرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) . 6 - قوله تعالى: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِتهاً غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ) . إن قلت: لمَ عَدَلَ إليه عن " لأسجُنَنَّك " مع أنه أخصرُ منه؟ قلتُ: لِإرادةِ تعريف العهد، أي لأجعلنك ممِّنْ عُرفتْ حالُهم في سجني - وكان إذا سجن إنساناً طرَحه

في هوَّةٍ عميقة مظلمة، لا يُبصر فيها ولا يسمع -. 7 - قوله تعالى: (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) . قاله هنا بحذف لام التأكيد، وفي الزخرف بإِثباتها، لأنَّ ما هنا كلامُ السَّحرة حين آمنوا، ولا عمومَ فيه فناسب عدم التأكيد، وما في الزخرف عامٌّ لمن ركب سفينةً أو دابةً، فناسبَه التأكيدُ. 8 - قوله تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) . إن قلتَ: قضيَّتُه أنَّ كُلَّ جمعٍ منهما رأى الآخرِ، لأن التَّراءي تفاعلٌ، مع أَنَّ كلَاَ منها لم يرَ الآخر (1) ، لأن الله تعالى أرسل غيماً أبيضَ، فحال بينهما حتى منع الرؤية؟ قلتُ: التراءي يُستعمل بمعنى التقابل، كما في خبرِ " المؤمنُ والكافر لا يتراءيان " أي لا يُدانيان ولا يتقابلان.

9 - قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبيه وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) قاله في قصة إبراهيم هنا بدون ذكر " ذا " وفي " والصافات " بذكره، لأن " ما " لمجرد الاستفهام، فأجابوا بقولهم " قالوا نعبد أصناماً " و " ماذا " فيه مبالغة، لتضمنه معنى التوبيخ، فلما وبَّخهم ولم يجيبوه، زاد على التوبيخ فقال: (أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ. فمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ العَالَمينَ) فذكر في كل سورةٍ ما يناسب ما ذُكر فيها. 15 - قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) . زاد " هو " عقِبَ الذي في الِإطعام والسقي، لأنهما ممَّا يصدران من الإِنسان عادةً، فيُقال: زيدٌ يُطعِم ويسقي، فذكر " هو " تأكيداً إعلاماً بأن ذلك منه تعالى، لا من غيره، بخلاف الخلْقِ، والموت، والحياة، لا تصدر من غير الله. . ويجوز في " الذي خلقني " النصبُ، نعتاً لربِّ العالمين، أو بدلًا، أو عطف بيانٍ، أو بإِضمار أعني. . والرفعُ خبراً لضمير " الذي " أو مبتدأ خبرُه الجملةُ بعده،

ودخلتْ عليه الفاء على مذهب الأخفش، من جواز دخولها على خبر المبتدأ نحو: زيدٌ فاضربه، وقيل: دخلت عليه لما تضمَّنه المبتدأ من معنى الشرط لكونه موصولَاَ، ورُدَّ بأن الموصول هنا معيَّنٌ لا عامٌّ. وقوله (وَإِذَا مَرِضْتُ) ولم يقل: أمرضني، كما قال قبله: " خلقني، ويهدين " لأنه كان في معرِض الثناء على الله تعالى، وتعدادِ نعمه، فأضاف ذَيْنِكَ إليه تعالى، ثم أضاف المرض إلى نفسه تأدباً مع الله تعالى، كما في قول الخضر " فأردتُ أن أعيبها " وإِنما أضاف الموت إلى الله تعالى في قوله " والَّذي يميتُني " لكونه سبباً لِلِقائِه الذي هو من أعظم النِّعم. 11 - قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونٌ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بقلبِ سَلِيمٍ) ، فينفعه مالُه الذي أنفقه في الخير، وولدُه الصَالح بدعائه، كما جاء في خبر " إذا ماتَ ابن آدمَ انقطع عمله إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جارية، أوعلمٍ يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالح يدعو له " (1) . 12 - قوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قُرِّبتْ.

فإِن قلتَ: كيف قُرِّبت مع أنها لم تنتقل من مكانها؟ قلتُ: فيه قلبٌ أي وأزلف المتقون إلى الجنة، كما يقول الحاج إذا دنوا إلى مكة: قربت مكة منا. 13 - قوله تعالى: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) ، جَمَع الشَّافعَ، وأفردَ الصَّديقِ، لكثرة الشفعاء عادةً وقلة الصديق، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: ما في زمانِكَ من تَرْجُو مودَّتَه ولا صَديقٍ إذا جارَ الزَّمانُ وَفَى فعِشْ فَريداً ولا تَرْكَنْ إِلى أحَدٍ هَا قَدْ نصحْتُكَ فيما قلْتُهُ وَكَفَى 14 - قوله تعالى: (ألاَ تَتَّقُونَ) . إِلى قوله: وَمَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِين) ذُكر في خمسة مواضع: في قصة نوحٍ، وهودٍ، وصالحً، ولوطٍ، وشعيب (1) . 15 - قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأطِيعُونِ) .

ذُكر مكرَّراً في ثلاثة مواضع: في قصة نوح، وهود، وصالح تأكيداً. فإِن قلتَ: لمَ خُصتِ الثلاثةُ بالتأكيد، دون قصة لوطٍ، وشعيبٍ؟! قلتُ: اكتفاءً عنه في قصة لوط بقوله: (قَالَ إِني لِعَمَلِكُمْ مِنَ القَالِينَ) وفي قصة شعيب بقوله: (واتَّقُوا الَّذي خَلَقَكُمْ والجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ) لاستلزامهما له. 16 - قوله تعالى في قصة صالح: (مَا أَنْتَ إِلَّا بشَرٌ مِثْلُنَا. .) . قاله فيها بلا " واوٍ " وقاله في قصة شعيب بواوٍ. لأنه هنا بدلٌ مما قبله، وثمَّ معطوف على ما قبله، وخُصَّتِ الأولى بالبدل، لأن صالحاً قلَّل في الخطاب، فقلَّلوا في الجواب. وأكثرَ شعيب في الخطاب، فأكثروا في الجواب. 17 - قوله تعالى: (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ) الآية.

إن قلتَ: كيف أخذهُم العذابُ بعدما ندموا على جنايتهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (النَّدَم توبةٌ) قلتُ: ندمهم كان عند معاينة العذاب، وهي ليست وقت التوبة كما قال تعالى: (وليست التوبةُ للذين يعملون السيئات. .) الآية. وقيل: كان ندمُهم ندم خوفٍ من العقاب العاجل، لا ندم توبة فلم تنفعهم. 18 - قوله تعالى: (يُلْقُونَ السَّمْعَ وأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) . الضميرُ للأَفَّاكين وهم الكذَّابون. فإِن قلتَ: كيف قال " أَكْثَرُهُمْ " بعدما حكَمَ بأنَّ كل أفَاكٍ أثيمٌ أي فاجرٌ؟! قلتُ: الضمير في " أكثرُهُم " للشياطين، لا للأفاكين، ولو سُلِّم فالأفَّاكون هم الذين يكثرون الكذبَ، لا أَنهم الذين لا ينطقون إلّاَ بالكذب. " تَمَّتْ سُورَةُ الشعراء "

سورة النمل

سُورَة النَّمْل 1 - قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكتَابٍ مُبِينٍ) . إن قلتَ: الكتابُ المبينُ هو القرآنُ، فكيف عطَفَه عليه، مع أن العطف يقتضي المغايرة؟! قلتُ: المغايرةُ تصدق بالمغايرة لفظاً ومعنى، وباللفظ فقط، وهو هنا من الثاني، كما في قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَليْهم صَلَواتٌ من ربِّهِمْ ورحمةٌ) . أو المرادُ بالكتاب المبين: هو اللوحُ المحفوظ، وهو هنا من الأول. فإِن قلتَ: لمَ قدَّم القرآنَ هنا على الكتاب، وعَكَسَ في الحِجْر؟ قلتُ: جرياً على قاعدة العرب في تفنُّنهم في الكلام.

2 - قوله تعالى: (سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْآتِيكُمْ بِشهاب قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلونَ) . فإِن قلتَ: كيف قال هنا ذلك، وفي طه " لعلّي آتيكُم " وأحدهما قَطْعٌ، والآخرُ ترجٍّ، والقضيَّةُ واحدة؟! قلتُ: قد يقول الراجي إذا قويَ رجاؤه: سأفعلُ كذا، وسيكونُ كذا، مع تجويزه عدم الجزم. 3 - قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَن حَوْلَهَا. .) المرادُ بالنَّارِ عند الأكثرِ " النّورُ " وبمن فيها " موسى " ومن حولها " الملائكة " أو العكسُ، بأن باركَ الله من في مكان النور، ومنْ حوله ومكانه هو البقعة المباركة في قوله تعالى: (نودي من شاطىء الوادِ الأيمنِ في البقعة المباركة) وبارك يتعدَّى بنفسه كما هنا، وب " على " و " في " كما في قوله تعالى (وباركنا عليهِ وعَلَى إسْحَاقَ) وقوله (وبارَكَ فيها) . 4 - قوله تعالى: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً) . قاله هنا بدون ذكر " أن " وفي القصص بذكرها. لأن ما هنا تقدَّمه فعل بعد " أنْ " وهو " بورك " فحسُنَ

عطفُ الفعل عليه، وما هناكَ لم يتقدمه فعلٌ بعد " أنْ " فذكرتْ " أنْ " لتكوت جملة " أن ألقِ عصاكَ " معطوفةً على جملة " أن يا موسى إنني أنا اللهُ ". 5 - قوله تعالى: (يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ) . قال ذلك هنا، وقال في القصص " يا مُوسَى أَقْبلْ ولا تخفْ إِنكَ مِنَ الآمِنينَ " بزيادة " أَقْبِلْ "، لأنَّ ما هنا بُني عليه كلامٌ يناسبه وهو " إني لا يخافُ لديَّ المرسلونَ " فناسبه الحذفُ، وما هناك لم يُبنَ عليه شيءٌ، فناسبه زيادة " أقبِلْ " جبراً له، وليكون في مقابلة " مدبراً " أي أقبلْ آمناً غير مدبرٍ، ولا تخفْ. 6 - قوله تعالى: (إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون. إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ. .) الآية. إن قلتَ: كيف وجهُ صحة الاستثناءِ فيه، مع أن الأنبياءَ معصومون من المعاصي؟! قلتُ: الاستثناءُ منقطعٌ، أي لكنْ من ظلم من غير الأنبياء فإِنه يخاف، فإِن تاب وبدَّل حسْناً بعد سوء فإِني غفورٌ رحيم، أو متصلٌ بحمل الظلم على ما يصدر من الأنبياء من تركِ الأفضل، أو " إِلّاَ " بمعنى " ولا " كما في

قوله تعالى: (لِئَلَّا يكُونَ للنَّاسِ عليكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الذينَ ظلموا) . وإِنما خصَّ المرسلين بالذِّكر؟ لأن الكلام في قصة موسى - وكان من المرسلين - وإِلّا فسائر الأنبياء كذلك، وإِن لم يكن بعضهم رسلاً. 7 - قوله تعالى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غيْرِ سُوءٍ. .) . قاله هنا بلفظ " أَذخِلْ " وفي القَصَص بلفظ " أُسلُكْ " لأن الِإدخال أبلغُ من السلوك، لأن ماضيه أكثر حروفاً من ماضي السلوك، فناسبَ " أَدْخِل " كثرة الآيات، في قوله " تخرجْ بيضاءَ من غيرِ سوءٍ في تسعِ آياتٍ " أي معها مرسلاً إلى فرعون، وناسب أسلك قلَّتها، وهي سلوك اليد، وضمُّ الجناح، المعبَّر عنهما بقوله (فَذَانِكِ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ ومَلئِهِ) . 8 - قوله تعالى: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) . قاله هنا بلفظ " وقومه " وفي القصص بلفظ " وملائهِ " لأن الملأَ أشرافُ القوم، ولم يوصفوا ثَمَّ بما

وُصِف به القومُ هنا من قوله " فلما جاءتْهُمْ آياتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بها. . " الآية فناسبَ ذكرُ القوم هنا، وذكر الملأَ ثَمَّ. 9 - قوله تعالى: (وَأوتِينَا مِنْ كلِّ شَيْءٍ. .) النُّونُ نونُ الجمعِ، عنى " سليمانُ " نفسَه وأباه، أو نونُ العظمة، مراعاةَ لسياسة المُلْك، لأنه كان ملكاً مع كونه نبياً.* فإِن قلتَ: كيف سوَّى بينه في قوله " من كل شيء " وبين بلقيس في قول الهُدْهد: " وأوتيتْ مِنْ كُلَ شي "؟! قلتُ: الفرقُ بينهما أنها أوتيتْ من كلِّ شىء من أسباب الدنيا فقط، لعطف ذلك على " تمْلِكُهم " وسْليمان أوتي من كل شيءٍ من أسباب الدين والدنيا، لعطف ذلك على المعجزة وهي " منطقُ الطير ". 10- قوله تعالى: (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أوْ لأذبَحَنَّهُ أَوْ ليَأْتِينِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) . توعَّد " سليمانُ " الهدهد بذلك، مع أنه غيرُ مكلَّفٍ، بياناً لكونه خُصَّ بذلك، كما خُصَّ بتعلّم منطقه. 11 - قوله تعالى: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ

تَوَلَّ عَنْهمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) . إن قلتَ: إذا تولَّى عنهم كيف يعلم جوابهم؟! قلتُ: معناه ثمَّ تول عنهم يسيراً حيث لا يرونك، فانظر ماذا يرجعون؟ 12 - قوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمَ) . قدَّم " سليمانُ " اسمه على اسم الله تعالى، مع أنَّ المناسبَ عكسُه، لأنه عرف أن " بلقيس " تعرف اسمه، دون اسم الله تعالى، فخاف أن تستخفَّ باسم الله تعالى، أوَّلَ ما يقعُ نظرها عليه، أوكان اسمُه على عنوانِ الكتاب، واسمُ اللهِ في باطنه. 13 - قوله تعالى: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَاب أَنَا اتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَد إِلَيْكَ طَرْفُك. .) . القائلُ كاتبُ سليمانَ، واسمُه " آصف ". فإِن قلتَ: كيف قَدَر مع أنه غيرُ نبيٍّ، على ما لم يقدر عليه سليمان مع أنه نبيٌّ، من إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟! قلتُ: يجوز أن يُخصَّ غيرُ النبيّ بكرامةٍ، لا يشاركه

فيها النبيُّ، كما خُصَّت " مريمُ " بأنها كانت تُرزق من فاكهة الجنة، و " زكريا " لم يُرزق منها، ولم يلزم من ذلكَ فضلُها على " زكريا "، وقد نُقل أن " سليمان " عليه السلام، كان إذا أراد الخروج إلى الغَزَاةِ، قال لفقراء المهاجرين والأنصار، اُدعوا لنا بالنُّصْرة، فإِن الله ينصرنا بدعائكم، ولم يكونوا أفضل منه، مع أن كرامة التَّبع من جملة كرامة المتبوع. ويُحكى أن العلمَ الذي كان عند " آصف " هو اسمُ الله الأعظم، فدعا به فأُجيب به في الحال. وهو عند أكثر العلماء كما قال البندنيجي: اسمُ الله، وقيل: يا حيُّ، يا قيُّوم. وقيل: يا ذا الجلالِ والِإكرام، وقيل: يا أللهُ، يا رحمنُ، وقيل: يا إلهنا وإِلهَ كل شيء، إلهاً واحداً، لا إلهَ إلّاَ أنتَ. 4! - قوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ العَالمِين) . حقيقةُ المعيَّة: الاتفاقُ في الزمانِ، وسليمانُ كان مُسلماً قبلها وإِن يُقل بدل " مع سليمان " على يد سليمان؟ لأنها كانت ملكة،

فلم تذكر عبارةً تدلُّ على أنها صارت مولاةً له بإِسلامها، وإِن كان الواقعُ ذلك. 15 - قوله تعالى: (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) . قاله هنا بلفظ " أنجينا " وفي حمَ السجدة بلفظ " ونجينا " موافقةً لما بعده هنا، ولما قبله وبعده ثَمَّ، فيما وزنُه " أفعل " و " فعل " ثَمَّ، حيث قال هنا بعده " فأنجيناه وأهلَه. . وأمطرنا " وقال ثَمَّ قبله " وزيَّنَّا " وبعده " وقَيَّضْنَا ". 16 - قوله تعالى: (أَإِلهٌ مَعَ الله) ؟ ذُكر هنا في خمسة مواضع متوالية: وختم الأولى بقوله: (بَلْ همْ قومٌ يَعْدِلُونَ) والثانية بقوله: (بلْ أكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) والثالثة بقوله: (قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) . والرابعة بقوله: (تَعَالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ) . والخامسة بقوله: (قل هاتُوا برهانَكُمْ إن كنْتُمْ صادقينَ) .

أي عدلوا، وأوَّلُ الذنوبِ العدولُ عن الحقِّ، ثُمَّ لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا، ثم لم يتذكَّروا فيعلموا بالنظر والاستدلال، فأشركوا من غير حجةٍ وبرهانٍ، قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. 17 - قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ العَزِيزُ العَلِيمُ) . تجوَّز " بحكمه " عما يحكم به، وهو العدلُ، وإِلا فالقضاءُ والحكم واحد. 18 - قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ) . خصَّ المؤمنين بالذّكر، مع أن غيرههمً مثلَهم، لأنهم المنتفعون بالآيات. 19 - قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ. .) الآية. قاله هنا بلفظ " فزع " وفي الزمر بلفظ " صَعِقَ " موافقةً هنا لما بعده، وهو " وهم من فَزَعٍ يومئذٍ آمنون " وفي الزمر لما قبله، وهو " إِنَّكَ ميِّتٌ " إذْ معنى الصعق: الموت، وعبَّر فيهما بالماضي دون المضارع مع أنه أنسبُ، للإِشعارِ

بتحقق الفزع والصعق ووقوعهما، إذِ الماضي أدلُّ على ذلِكَ من المضارع. ْ2 - قوله تعالى: (وَكلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) . إن قلتَ: كيف قال " داخرين " أي صاغرين أذلّاَء بعد البعث، مع أنَّ " النبيِّين، والصدِّيقين، والشهداء، والصالحين " يأتون عزيزين مكرَّمين؟! قلتُ: المرادُ صغارُ العبودية والرِّق وذلُّهما، لا ذلُّ المعاصي والذنوب، وذلك يعمُّ الخلق كلَّهم، كما في قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إِلّاَ آتِي الوَّحْمَنِ عَبْداً) . 21 - قوله تعالى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الذِي حَرَّمَهَا. .) أي حرَّم محرَّماتِها، من تنفير صيدِها وغيره. " تَمَّتْ سُورَةُ النمل "

سورة القصص

سُوَرة القصص 1 - قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في اليَمِّ.) الآية، هي من معجزات الِإيجاز، لاشتمالها على أمريْنِ، ونهييْنِ، وخبريْنِ متضمنيْنِ بشارتيْنِ، في أسهل نظم، وأسلس لفظٍ، وأوجز عبارة. فإِن قلتَ: ما فائدةُ وحي الله تعالى إلى أم موسى بإِرضاعه، مع أنها ترضعه طبعاً وإِن لم تؤمر بذلك؟ قلتُ: أمرها بإِرضاعه ليألف لبنها، فلا يقبل ثدي غيرها بعد وقوعه في يد فرعون، فلو لم يأمرها به، ربَّما كانت تسترضع له مرضعة، فيفوت المقصود. 2 - قوله تعالى: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَني. .) .

إن قلتَ: جواب الشرط يجامعه، وجوابه هنا الِإلقاءُ وعدمُ الخوف، فكلٌّ منهما يجامعه، فيصدق بقوله: فإِذا خفتِ عليه فلا تخافي عليه، وذلك تناقضٌ؟ قلتُ: معناه فإِذا خفتِ عليه القتلَ، فألقيه في اليمِّ ولا تخاف عليه الغرق فلا تناقض.. إن فلت: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في الآية؟ قلت: الخوف غم يصيب الإنسان لأمر يتوقعه فى المستقبل، والحزن غم يصيب الإنسان لأمر وقع ومضى. قوله تعالى: (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ..) الآيتين إن قلت: كيف جعل موسى قتل القبطي الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه؟ قلت: أما جعله ذلك من عمل الشيطان فلكونه كان الأولى له تأخير قتله إلى زمن آخر فلما عجله ترك المندوب، فجعله من عمل الشيطان وأما تسميته ذلك ظلما فمن حيث إنه حرم نفسه الثواب بترك

المندوب، أو من حيث إنه قال ذلك على سبيل الانقطاع إلى الله، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه، وإِن لم يكن ثَمَّ ذنبٌ، وأما استغفاره من ذلك فمعناه اغفرْ لي ترك ذلك المندوب. 4 - قوله تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى. .) الآية. قاله هنا بتقديم " رجل " على " من أقصا المدينة " وعكَس في يس. قيل: موافقةً هنا لقوله قبل " فوجد فيها رجلين يقتتلان " واهتماماً ثَمَّ بتقديم " من أقصا المدينة " لما رُوي أن الرجل " حزقيل " وقيل " حبيب " كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خبر الرُّسُل سعى مستعجلًا. 5 - قوله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) . إن قلتَ: موسى لم يَسْقِ لابنتَيْ شعيبِ طلباً للأجر، فكيف أجاب دعوةَ شعيب في قول ابنته له (إِنًّ أبي يَدْعوكَ

ليجْزِيَكَ أجرَ ما سَقَيْتَ لَنا "؟! قلتُ: يجوز أن يكون أجاب دعوته لوجه الله تعالى، على وجه البِرّ والمعروف، لا طلباً للأجر وإِنْ سُمِّي في الدعوة أجراً. 6 - قوله تعالى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) . قاله هنا بلفظ " الصَّالحينَ " وفي الصَّافات بلفظ " الصَّابرين " لأنَّ ما هنا من كلام " شعيب " وهو المناسب للمعنى هنا، إذِ المعنى ستجدني من الصالحين في حُسْن العُشْرة، والوفاءِ بالعهد. وما هناك من كلام " إسماعيل " وهو المناسب للمعنى ثَمَّ، إذِ المعنى ستجدني من الصابرين على الذبح. 7 - قوله تعالى: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أخَافُ أنْ يُكَذِّبُونِ) أيْ يوضّح حججي، ويؤيدها بما رزقه الله من فصاحة اللُّسانِ. 8 - قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالهُدَى مِنْ عِنْدِهِ. .) الآية.

قاله هنا بزيادة الباء، وبعدُ بدونها، تقويةً للعامل هنا بحسب الظاهر، لضعفه عن العمل، وحذَفه بعدُ اكتفاءً بدلالة الأول عليه. 9 - قوله تعالى: (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسى. .) الآية. قاله هنا بحذف " أبلغُ الأسبابَ. أسبابَ السَّمواتِ " وقال في غافر بذكره، لأن ما هنا تقدَّمه " ما علمتُ لكمْ من إِلهٍ غيري " من غير ذكر أرضٍ وغيرها، فناسبَه الحذفُ، وما هناك تقدَّمه " إنّي أخافُ أن يُبَدِّل دينكم أوأن يُظهر في الأرض الفساد " فناسبه مقابلته بالسماء في قوله " لعلي أبلغُ الأسبابَ. أسبابَ السمواتِ ". 10 - قوله تعالى: (وَإِنِّي لَأظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ) . قال ذلك هنا، وقال في غافر " وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً " موافقةً للرويِّ هنا، وعلى الأصل بلا معارضٍ ثَمَّ. 11 - قوله تعالى: (وَمَا كنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبيِّ إِذْ قَضَيْنَا

إِلَى مُوسَى الأَمْرَ. .) الآية. إن قلتَ: أوّلُها يُغني عن قوله " وَمَاكنتَ مِنَ الشَّا هِدِينَ "؟ قلتُ: لا، إذْ معنى أولها: ما كنتَ يا محمدُ حاضراً حين أحكمنا إلى موسى الوحي، ومعنى " وما كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ " أي الحاضرين قصته مع شعيب عليهم السلام فاختلفت القصتان. 12 - قوله تعالى: (وَمَا أً وتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزينَتُهَا. .) . قاله هنا بالواو، وفي الشورى بالفاء، لأنَّ ما هنا لم يتعلَّقْ بما قبله كبير تعلق، فناسب الِإتيان به بالواو، المقتضية لمطلق الجمع، وما هناك متعلِّقٌ بما قبله أشدَّ تعلُّقٍ، لأنه عقب ما لهم من المخافة، بما لهم من الأمنَةِ، فناسبَ الِإتيانُ به بالفاء، المقتضية للتعقيب. 3 1 - قوله تعالى: (فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا. .) قال هنا بزيادة " وزينتها " وفي الشورى بحذفه، لأنَّ ما هنا لسبقه، قُصد فيه ذكرُ جميع ما بُسِط من رزق

أعراضِ الدنيا، فذكر " وزينتها " مع المتاع، ليستوعبَ جميعَ ذلك، إذِ المتاعُ ما لا بُدَّ منه في الحياة، من مأكولٍ، ومشروبِ، وملبوسٍ، ومسكنٍ، ومنكوحٍ، والزينةُ ما يتجملَ به الإنسان، وحذفه في الشورى اختصاراً. 14 - قوله تعالى: (فَدَعَوْهُم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا العَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانوا يَهْتَدُون) ، جوابُه محذوفٌ تقديره: لما رأوا العذاب، ولا يصح أن يكون جوابُها ما قبلها، لأنَّ من يرى العذابَ يكون ضالًّا لا مهتدياً. 15 - قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. .) الآيتين. ختم آية الليلِ بقوله " أفلا تسمعون "؟ وآية النهارِ بقوله " أفلا تُبصرون "؟ لمناسبة الليل المظلم الساكن للسَّماع، ومناسبة النهار النيِّر للِإبصار. وإِنَّما قدَّم الليلَ على النهار، ليستريح الإِنسانُ فيه، فيقومَ إلى تحصيل ما هو مضطرٌّ إليه، من عبادةٍ وغيرها بنشاطٍ وخفَّةٍ، ألَا ترى أن الجنة نهارُها دائمٌ، إذْ لا تعب

فيها يحتاج إلى ليلٍ يستريح أهلُها فيه؟ 16 - قوله تعالى: (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُط الرِّزْقَ ... وَيْكَأَنَّه لاَ يفْلِحُ الكَافِرونَ " " ويكأنَّ " أعاده بعد لاتصال كلٍّ منهما، بما لم يتَّصل به الآخر، و " وَيْ " قال سيبويه كغيره: إنها صلَةٌ، وهي كلمة تدلُّ على النَّدم، وقال الأخفش: أصلها " ويكَ " و " أَنَّ " بعده منصوبٌ بإِضمار اِعْلَمْ أي اِعلَمْ أنَّ اللهَ، فعلى الأول يُوقف على " وَيْ " وبه قرأ الكسائي، وعلى الثاني يوقف على " وْيكَ " وبه قرأ أبو عمروٍ، والجمهور يقفون على " ويكأنَّ " تبعاً للرَّسم، ويجوِّزون الوقف عليه بهاء السكت. " تَمَّتْ سُورَةُ القصص "

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت 1 - قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الِإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً. .) . أي بِرّاً ذا حُسْنٍ. ذَكرَه هنا، وفي الأحقاف " إحساناً " وحَذَفَه في لقمان، مع أنَّ الثلاثة نزلت في " سعد بن مالك " وهو " سعدُ بن أبي وقَّاص " على خلافٍ فيه، لأن الوصية هنا وفي الأحقاف جاءت في سياق الِإجمال، وفي لقمان جاءت مفصَّلة لما تقدَّمها من تفصيل كلام لقمان لابنه، ولأن قوله بعدها " أَنِ اشكُرْ لي ولوالِدَيْكَ " قائم مقامه، فحسُن حذفُه. 2 - قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَتُطِعْهُمَا. .) . قال ذلك هنا، وقال في لقمان " عَلَى أَنْ تُشْرِك "

موافقةً هنا لفظاً، للفظِ اللام في قوله " ومنْ جاهَدَ فإِنَّما يُجَاهِدُ لنفسِهِ " وحملَاَ للمعنى بطريق التضمين في لقمان، إذِ التقديرُ: وإِن حملاك على أن تشرك بي. 3 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً. .) . إن قلتَ: ما فائدةُ العدولِ إلى ما قاله، عن تسعمائة وخمسين، مع أنه عادةُ الحساب؟ قلتُ: فائدتُه تسليةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذِ القصة مسوقةٌ لتسليته بما ابتلي به نوح عليه الصلاة والسلام، من مكابدة أمته في أطول المُدَد، فكان ذلك أقصى العقود، التي لا عقد أكثر منه في مراتب العدد، أفخر وأفضى إلى المقصود، وهو استطالة التَّسامعِ مدّةَ صبره، وفيه فائدةٌ أخرى، وهي نفيُ توهُّم إرادة المجاز، بإِطلاقِ لفظ تسع المائة والخمسين على أكثرها، فإِن هذا التوهم مع ذكر الألف والاستثناء منتفٍ أو أبعد. وجاء المميَّز الأول بلفظ " السنةِ " والثاني بلفظ " العَام " لكراهة التكرار. 4 - قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا

يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ. .) الآية. نكَّر الرزق أولًا، ثمَّ عرَّفه ثانياً، لأنه أراد بذلك أن الذين تعبدون من دون الله، لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، فابتغوا عند الله الرزقَ كله، فإِنه هو الرزَّاقُ لا غيرُه. 5 - قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِىءُ النَّشْاةَ الآخِرَةَ. .) الآية. إن قلتَ: كيف أضمر لفظ " الله " أولًا، ثم أظهره ثانياً مع أن القياس العكسُ؟ قلتُ: تنبيهاً على عِظم إنشائهم أي إعادتهم، لأنها التى ينكرها الكافر، فناسب ذكر الظاهر للإِيضاح. 6 - قوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الَأرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. .) الآية. قال ذلك هنا، واقتصر في الشورى على " في

الأرضِ " لأنَّ ما هنا خطابٌ لقومٍ فيهم " النمرود " الذي حاول الصعود إلى السماء، فأخبرهم بعجزهم وأنهم لا يفوتون الله، لا في الأرضِ، ولا في السماء، وما في الشورى خطابٌ لمن لم يحاول الصعود إلى السماء، وقيل: خطابٌ للمؤمنين بقرينة قوله " وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبتْ أيديكُمْ ويعفو عن كثيرٍ "، وقد حُذفا معاً للاختصار، في قوله في الزمر " وما هم بمعجزين ". 7 - قوله تعالى: (فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) . قاله هنا بالجمع، وقاله بعدُ في قوله " خَلَقَ الله السَّمواتِ والأَرْضَ بالحقِّ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً للمُؤْمنينَ " بالتوحيد، لأنَّ ما هنا إشارةٌ إلى إثبات النبوَّة القائمة بالنبيين، وهم كثيرون فناسب الجمع، وما بعدُ إشارةٌ إلى التوحيد القائم بواحدٍ، وهو الله لا شريك له. 8 - قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) . إن قلتَ: قال ذلك في معرض المدح لِإبراهيم عليه السلام، أو الامتنان عليه، وأجرُ الدنيا فانٍ منقطعٌ بخلاف

أجرِ الآخرة، فكيف ذكره دون أجر الآخرة؟! قلتُ: بل ذَكَره أيضاً في قوله " وإِنه في الآخرة لَمِنَ الصَّالحينَ " إذِ المعنى إن له في الآخرة أجر الصالحين وافياً كاملًا، لكن أخّره موافقةً للفواصل، وأجرُه في الدنيا قيل: هو الثناءُ الحسنُ، والمحبَّةُ من الناس، وقيل: هو البركةُ التي باركها الله تعالى فيه وفي ذريته. 9 - قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هي أَحْسَنُ إِلَّا الَّذينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ) . إن قلتَ: كيف قال " إِلَّا الذينَ ظلموا " مع أن جميع أهل الكتاب ظالمون، لأنهم كافرون قال تعالى " والكافرونَ همُ الظَّالمونَ "؟! قلتُ: المرادُ بالظلمِ هنا: الامتناعُ عن قبولِ عقد الذمَّةِ، أو نقضِ العهد بعد قبوله. 10 - قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الَأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا. .) الآية. قاله هنا بذكر " مِنْ " وفي البقرة، والجاثية بحذفها،

موافقةً لما قبله هنا في قوله " مِنْ عباده " و " مِنَ السَّماءِ " بخلاف ذلك في البقرة والجاثية. 11 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا. .) الآية. إن قلتَ: المجاهدةُ فىِ دِينِ الله إنما تكونُ بعد الهداية، فكيف جعل الهداية من ثمرتها؟ قلتُ: معناه جاهدوا في طلب العلم، لنهدينهم سبلنا بمعرفة الأحكام وحقائقها، أو جاهدوا في نيْل درجةٍ، لنهدينهم إلى أعلى منها، قال تعالى " والذينَ اهتدوا زادهم هُدَىً " وقال تعالى " ويزيدُ الله الذين اهتَدوا هُدَىً ". " تَمَّتْ سُورَةُ العنكبوت "

سورة الروم

سُورَة الرُّوم 1 - قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُ وا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. .) . قاله هنا، وفي فاطر، وأول المؤمن بالواو، وفي آخرها بالفاء، لأنَّ ما هنا موافقٌ لما قبله وهو " أولم يتفكَّرُوا " ولما بعده وهو " وأثاروا الأرضَ " وما في فاطر موافقٌ أيضاًِ لما قبلَه وهو " ولنْ تَجِدَ لسُنَّةِ الله تحويلًا " ولما بعده وهو " وما كانَ الله ليعجزه " وما في أول المؤمن موافقٌ لما قبلَه وهو " والّذينَ تَدْعُونَ من دُونهِ " وما في آخرها موافقٌ لما قبله وهو " فأيَّ آياتِ الله تُنْكِرونَ " وما بعده وهو " فما أَغْنَى عنهمْ ما كَانُوا يَكْسِبُونَ " فناسبَ فيه الفاء، وفي الثلاثةِ قبلَه الواوُ. 2 - قوله تعالى: (فَيَنْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ

قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً. .) . قاله هنا بحذف " كانوا " قبل قولِه " مِنْ قبلِهِمْ " وحذفِ الواوِ بعده، وقاله في فاطر بحذف " كانوا " أيضاً وبذكر الواو. وفي أوائل غافر بذكرِ " كانوا " دون الواو، وزيادة " هم " وفي أواخرها بحذف الجميع، لأن ما في أوائلها، وقع فيه قصةُ نوح وهي مبسوطة فيه، فناسب فيه البسطُ، وحذفَ الجميع في أواخرها اختصاراً، لدلالة ذلكَ عليه، وما هنا وفي فاطر موافقةً لذكرها قبلُ وبعدُ. 3 - قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا. .) الآية. ختمها بقوله: " لقومِ يتفكرون " لأن الفكر يؤدّي إلى الوقوف على المعاني المطَلوبة، من التَّوانسِ والتّجانسِ بين الأشياء كالزوجين. ثم قال: " ومن آياتِه خلقُ السمواتِ والأرضِ " الآية وختمها بقوله " لآياتٍ للعالمِينَ " لأن الكل يُظلّهم

السماء، وُيقلِّهم الأرضُ، وكُلّ منهم متميِّزٌ بلطيفة يمتاز بها عن غيره، وهذا يشترك في معرفته جميع العالمين. ثم قال: " ومِنْ آياتِهِ منامُكُمْ بِاللَّيْلِ والنهارِ)) وختمها بقوله " لآياتٍ لقومٍ يَسْمَعُونَ " لأن من يسمع سماع تدبّرٍ، أن النوم من صنع الله الحكيم، لا يقدر على اجتلابه إذا امتنع، ولا على رفعه إذا ورد، يعلم أنَ له صانعاً مدبّراً. ثم قال: " ومِنْ آياتِهِ يريكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وطَمَعاً " وختمها بقوله " لآياتٍ لقوم يعقلون " لأن العقل مِلاكُ الأمر، وهو المؤدي إلى العلم - فيما ذُكر - وغيره. 4 - قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. .) الآية، الضميرُ فيه مع أنه راجعٌ إلى الِإعادة، المأخوذة من لفظ " يُعيدُه " في قوله (وهو الذي يَبْدأ الخَلْقَ ثُم يُعيدُه) نظراً إلى المعنى دون اللفظ، وهو رجعُه أو ردُّه، كما نُظر إلى المعنى في قوله " لنُحْييَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً " أي مكاناً ميتاً. 5 - قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ وْا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ. .) الآية. قاله هنا بلفظ " أَوَلم يَرَوْا " وفي الزمر بلفظ " أولمْ

يعلَمُوا " لأنَّ بسط الرزق ممَّا يُرى، فناسب ذكرُ الرؤية، وما في الزمر تقدَّمه " أوتيتُهُ على علمٍ " فناسب ذكر العلم. 6 - قوله تعالى: (وَلِتَجْرِيَ الفُلْكُ بِأَمْرِهِ. .) قال ذلك هنا، وقال في الجاثية بزيادة " فيه "، لأنَّ ما هنا لم يتقدّمه مرجعُ الضميرِ، وثَمَّ تقدَّم له مرجعٌ وهو البحر، حيث قال (الله الذي سخَّر لكم البحْرَ) . 7 - قوله تعالى: (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) . فائدة ذكرِ " منْ قَبْلِهِ " بعد قوله " من قبل " التأكيدُ، وقيل: الضميرُ لإِرسال الرياح أو للسحاب فلا تكرار. 8 - قوله تعالى: (الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الضَّعْفَ صفةٌ، والمخاطبون لم يخلقوا من صفةٍ بل من عينٍ، وهي الماءُ أو الترابُ؟ قلتُ: المرادُ بالضعفِ " الضعيفُ "، من إطلاقِ المصدر على اسم الفاعل، كقولهم: رجلٌ عدْلٌ أي:

عادل، فمعناه من ضعيف وهو النطفة. 9 - قوله تعالى: (وَقَالَ آلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالِإيمَانَ لَقَدْ لَبَثْتُمْ فِي كِتَابِ الله. .) ، أي لبثتم في قبوركم في علم كتاب الله، أو في خبره، أو في قضاء الله. 15 - قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ، أي لا يُطلب منهم الِإعتاب أي الرجوع إلى الله تعالى. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع قوله في فصّلت: (وإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ المُعْتَبِين) حيث جعلهم مطلوباً منهم الِإعتابُ، وثَمَّ طالبينَ له؟! قلت: معنى قوله (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتبونَ) أي ولا هم يُقالون عثَراتِهم، بالردِّ إلى الدنيا، ومعنى قوله " وإِن يَسْتعتِبُوا فَمَا هم من المُعْتَبينَ " أي إن يستقيلوا فما هم من المُقَالين، فلا تنافي. " تَمَّتْ سُورَةُ الروم "

سورة لقمان

سورة لقمان 1 - قوله تعالى: (وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً. .) . قال هنا بزيادة " كأنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً " وفي الجاثية بحذفه، مع أنهما نزلا في " النضرِ بن الحارث " حيث كان يعدل عن سماع القرآن، إلى اللهو وسماعِ الغناء، لأنه تعالى بالغ في ذمِّه هنا، فناسبَ زيادةُ ذلك، بخلاف ما في الجاثية. 2 - قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الِإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ. .) الآيتين. إن قلتَ: كيف وقعت الآيتان في أثناء وصية لقمان لابنه؟

قلتُ: هما من الجُمَل الاعتراضية، التي لا محلٍ لها من الِإعراب، اعتُرِض بها بين كلامين متَّصليْنِ معنى، تأكيداً لما في وصية لقمان لابنه من النهي عن الشرك. فإِن قلتَ: لمَ فَصَل بين الوصية ومفعولها بقوله " حملتْهُ أً مُّهُ وهناً على وَهنٍ وفِصَالُهُ في عامينِ "؟ قلتُ: تخصيصاً للأم بزيادة التأكيد في الوصية، لما تكابده من المشاقَ. 3 - قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الَأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ..) . إن قلتَ: المطابقُ لأولها أن يُقال: وما في الأبحر من ماءٍ مدادٌ، فلمَ عَدَل عنه إلى قوله " والبحرُ يمدُّه منْ بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحُرٍ "؟ قلتُ: استغنى عن المداد بقوله " يَمدُّه " من مدَّ الدواة وأمدَّها أي زادها مداداً، فجعل البحر المحيط بمنزلة الدَّواة، والأبحر السبعة مملوءة مداداً أبداً لا تنقطع، فصار نظيرَ ما قلتم، ونظيرَ قوله تعالى: " قُلْ لَوْ

كَانَ البحرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي " الآية، وأشار بـ " لو " إلى أن البحارَ غير موجودة، أي لو مُدَّت البحارُ الموجودة سبعة أبحرٍ أُخرى، وذكرُ السبعة ليس للحصر بل للمبالغة، وإِنما خُصَّت بالذّكر لكثرة ما يُعدُّ بها، كالكواكب السيارة، والسموات والأرضينَ وغيرها، ولأنها عددٌ تنحصر فيه المعدودات الكثيرة، إذْ كُلُّ أحدٍ يحتاج في حاجته إلى زمانٍ ومكان، والزمانُ منحصرٌ في سبعة أيام، والمكان في سبعة أقاليم. فإِن قلتَ: المقصود هنا التفخيمُ والتعظيمُ، فكيف أتى بجمع القلة في قوله " كلماتُ الله "؟ قلتُ: جمعُ القلَّة هنا أبلغ في المقصود، لأن جمع القلَّة إذا لم ينفد بما ذُكر من الأقلام والمداد، فكيف ينفد به جمعُ الكثرة؟! 4 - قوله تعالى: (كلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى. .) الآية. قاله هنا بلفظ " إلى " وفي فاطر، والزمر بلفظ اللام، لأن ما هنا وقع بين اثنتيْنِ دالَّتيْنِ على غاية ما ينتهي إليه الخلقُ، وهما قوله تعالى: " ما خَلْقُكُمْ ولا بعثُكُمْ إِلّاَ

كنفْسٍ واحدةٍ " وقوله: " يا أيها الناسُ اتقوا ربكم واخشَوْا يوماً " الآية، فناسب ذكر " إلى " الدالة على الانتهاء، والمعنى لا يزال كلٌّ من الشمس والقمر جارياً، حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمى له، وما في فاطر والزمر خالٍ عن ذلك، إذْ ما في فاطر لم يُذكر مع ابتداء خلقٍ ولا انتهاءٍ به، وما في الزمر ذُكر مع ابتداء به فناسب ذكر اللام المعدّية، والمعنى: يجري كل مما ذُكر لبلوغ أجلٍ. 5 - قوله تعالى: (إِنَّ الة عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّل الغَيْثَ ويَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ. .) الآية. أضاف فيها العلم إلى نفسه في الثلاثة من الخمسة المذكورة، ونفى العلم عن العباد في الأخيرين منها، مع أن الخمسة سواء في اختصاصِ الله تعالى بعلمها، وانتفاء علم العباد بها، لأن الثلاثة الأول أمرها أعظمُ وأفخم، فخُصَّت بالِإضافة إليه تعالى، والأخيرينِ من صفات العباد، فخُضَا بالِإضافة إليهم، مع أنه إذا انتفى عنهم علمهما، كان انتفاءُ علم ما عداها من الخمسة أولى. فإِن قلتَ: لمَ قال تعالى " بأيّ أرضٍ تموتُ " ولم يقل: بأيِّ وقتٍ تموت، مع أن كلَاَ منهما غير معلوم

لغيره، بل نفيُ العلم بالزمان أولى، لأن من الناس مَنْ يدَّعىِ علمه، بخلاف المكان. قلت: إنما خص المكان بنفي علمه، لأن الكون في مكان دون مكانٍ في وسع الِإنسان واختياره، فاعتقادهُ علم مكان موته أقربُ، بخلاف الزمان، ولأن للمكان دون الزمان تأثيراً في جلب الصحة والسُّقم، أو تأثيرُه فيهما أكثرُ. " تَمَّتْ سُورَةُ لقمان "

سورة السجدة

سُوَرة السجْدة 1 - قوله تعالى: (يُدَبِّرُ الَأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ. .) الآية. إن قلتَ: لمَ قال هنا " في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه أَلْفَ سَنَةٍ " وفي المعارج " في يَوْمٍ كَانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ "؟! قلتُ: المرادُ باليوم هنا، مدَّةُ عروج الله تعالى - أي عروج تدبيره وأمره - من الأرض إلى السماء الدنيا، وبه تَمَّ عروجُ الملائكةِ من الأرض إلى العرش. أو المرادُ به في الموضعين: " يومُ القيامةِ " ومقدارُه ألف سنةٍ من حساب أهل الدنيا، إذا تولَّى الحسابَ فيه الله تعالى، وخمسينَ أَلف سنةٍ لو تولَّى فيه الحسابَ غيرُ الله تعالى. أو المرادُ: أنه كألفِ سنةٍ في حقِّ خواصِّ المؤمنين، وخمسين ألفَ سنة في حق عوامِّهم.

أو المرادُ: أنه كألفِ سنةٍ في حقِّ المؤمنِ، وخمسين ألف سنةٍ. في حقِّ الكافر. (1) 2 - قوله تعالى: (الَّذي أحْسَنَ كُلَّ شيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الِإنْسَانِ مِنْ طِينٍ) بسكون اللام وفتحها. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن في مخلوقاته تعالى قبيحاً، كالشرور والمعاصي؟ قلتُ: " أَحْسَنَ " بمعنى أتقنَ وأحكَمَ، أو " أحْسَنَ " بمعنى: عَلِمَ، كما يُقال: فلانٌ لا يحسنُ شيئاً أي لا يعلمه، فمعناه بسكون اللام: عَلِم خَلْقَ. كل شيءٍ، وبفتحها: عَلِمَ كُلَّ شيءٍ خَلَقه. (2) 3 - قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) .

قاله هنا بلفظ " منْ مَاءٍ مَهِينٍ " وفي المؤمنين " من سُلاَلةٍ مِنْ طِينٍ "، لأنَّ المذكور هنا صفة ذُرِّيةِ آدمَ، والمذكورُ ثَمَّ صفةُ آدم عليه السلام. 4 - قوله تعالى: ((ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. .) الآية. المراد بـ " روحِهِ " جبريلُ، وإِلَّا فالله مُنزَّهٌ عن الروح، الذي يقومُ بهِ الجَسَدُ، وتكونُ به الحياةُ، وأضافه إلى نفسه تشريفاً، وإِشعاراً بأنه خلقٌ عجيبٌ، مناسبٌ للمقام. 5 - قوله تعالى: (قُلْ يَتَوَفاكُمْ مَلَك المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ. .) الآية، هو " عزرائيل " عليه السلام، قال ذلك هنا، وقال في الأنعام " حَتَّى إِذَا جَاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا " وفي الزمر " الله يتوفَّى الأنفسَ حينَ مَوْتِها " ولا منافاةَ، لأن الله هو المتوفِّي حقيقةً، بخلقه الموت، وبأمر الوسائط بنزع الروح - وهم غيرُ ملك الموت أعوانٌ له - ينزعونها من الأظافير إلى الحلقوم، ومَلَكُ الموتِ ينزعها من الحلقوم، فصحَّت الِإضافاتُ كلُّها.

6 - قوله تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن المؤمنين ليسوا منحصرين فيمن اتَّصف بهذه الصِّفةِ، ولا هذه الصِّفةُ شرط في تحقق الِإيمان؟! قلتُْ المرادُ بـ " ذُكِّرُوا ": وُعِظُوا، وبالسجود: الخشوعُ، والخضوعُ، والتواضعُ في قبولِ الموعظة، وذلك شرطٌ في تحقق الِإيمان. أو المرادُ بالمؤمن: الكاملُ إيماناً. 7 - قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَستَوُونَ) . المرادُ بالفاسق هنا: الكافرُ، بقرينةِ التفصيل بعده، وإِلَّا فالفاسقُ مؤمنٌ، ونظيره قولُه تعالى: (أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمينَ كَالمُجْرِمينَ) ؟ وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجعلَهُمْ كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ) الآية، إذ ليسَ كلُّ مجرمٍ ومسيءٍ كافرٌ. 8 - قوله تعالى: (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كنْتُمْ بِهِ تُكَذَبُونَ..) . قال ذلكَ هنا، وقال في سبأ: " عَذَابَ النَّارِ الّتي كنتُمْ بها تُكذّبُون ". ذكَّر الوصف والضميرَ هنا، نظراً للمضاف وهو العذابُ، وأنّثهما ثمَّ نظراً للمضافِ إليه وهو النَّارُ، وخُصَّ ما هنا بالتذكير، لأن النَّار وقعتْ موقع ضميرها لتقدّم ذكره، والضميرُ لا يُوصف فناسبَ التذكيرُ، وفي سبأ لم يتقدَّمْ ذكرُ النَّارِ ولا ضميرُها، فناسب التأنيثُ. 9 - قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الفَتْحُ إِنْ كنْتُمْ صَادِقِينَ) . إدن قلتَ: هذا سؤالٌ عن وقت الفتح - وهو يومُ القيامةِ - فكيف طابقه الجوابُ بقوله " قلْ يومَ الفَتْح لا يَنْفَعُ الَّذينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ "؟!

قلتُ: لمَّا كان سؤالُهم سؤالَ تكذيبِ واستهزاءٍ بيومِ القيامة، لا سؤالَ استفهام، أُجيبوا باَلتهديدِ المطابقِ للتكذيب والاستهزاءِ، لا ببيانِ حقيقة الموقَّتِ، وإِنْ فُسِّر الفتحُ بـ " فتحِ مكة " أو بيوم بدر، كان المرادُ أن المتولّين لم ينفعهم إيمانهم حال القتل كإِيمان فرعون، بخلاف الطلقاء الذين آمنوا بعد الأسر، فالجوابُ بذلك مطابقٌ للسؤال من غير تأويل. " تَمَّتْ سُورَةُ السجدة "

سورة الأحزاب

سُورَة الأحزاب 1 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِع الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ. .) . لم يقل في ندائه " يا محمّدُ " كما قال في نداءِ غيره " يا موسى، يا عيسى، يا داودُ " بلْ عَدَل إلى " يا أيُّها النَّبيُّ " إجلالَاَ له وتعظيماً، كما قال: (يَا أيُّها الرَّسُولُ) وإِنما عدل عن وصفه إلى اسمه في الإخبار عنه في قوله (محمَّدٌ رسولُ الله) وقولِهِ (وما محمَّدٌ إِلًّا رسولٌ) ليعلم الناس أنه رسول الله، ليُلقِّبوه بذلك ويدعوه به. 2 - قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ. .) ، أي في الحرمةِ والاحترام، وإِنما جعلهن اللهُ كالأمهات، ولم يجعل نبيَّه كالأب، حتى قال: (ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالكُمْ) لأنه تعالى أراد

أن أمته، يدعون أزواجه بأشرف ما تُنادى به النساءُ وهو الأمُّ، وأشرفُ ما يُنادى بهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لفظُ " الرسول " لا الأب، ولأنه تعالى جعلهن كالأمهات، إجلالًا لنبيّه، لئلا يطمَع أحدٌ في نكاحهن بعده، ولو جعله أباً للمؤمنين، لكان أباً للمؤمناتِ أيضاً فيحرُمْن عليه، وذلك يُنافي إجلالَه وتعظيمه، ولأنه تعالى جعله أولى بنا من أنفسنا، وذلك أعظم من الأبِ في القرب والحرمة، إذ لا أقربَ للِإنسان من نفسه، ولأن من الآباءِ من يتبرأ من ابنه، ولا يمكنه أن يتبرأ من نفسه. 3 - قوله تعالى: (وَإِذْ أخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ. .) الآية، فيها عطفُ الخاصّ على العامّ، وقُدِّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الذكر، على مشاهير الأنبياء، لبيان شرفه وفضله عليهم، صلَّى الله وسلم عليهم أجمعين، وإِنما قُدِّم نوحٌ في آية (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وصَّى به نُوحاً) لأنها سيقت لوصف ما بُعث به نوح من العهد القديم، وما بُعث به نبيُّنا من العهد الحديث، وما

بُعث به من توسَّطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوحٍ فيها أشدَّ مناسبةً للمقصود. 4 - قوله تعالى: (وَأخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) . فائدةُ إعادته التأكيدُ، أو المرادُ بالميثاقِ الغليظِ: هو اليمينُ بالله تعالى، على الوفاء بما حُمِّلوا، وعليه فلا إعادة لاختلاف الميثاقيْن. 5 - قوله تعالى: (وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. .) الآية. إن قلتَ: كيف علَّق عذابهم بمشيئته، مع أن عذابهم متيقَّنُ الوقوع لقوله تعالى " إنَّ المُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ من النَّارِ "؟! قلتُ: معناه إن شاء عذابهم - وقد شاء - أو إن شاء موتهم على النفاق. 6 - قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. .) الآيتين. المراد بالفاحشةِ: النشوزُ وسوءُ الخُلُقِ.

إن قلتَ: لم خصَّ الله تعالى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بتَضعيف العقوبة على المذنبِ، والمثوبةِ على الطاعة؟ قلتُ: أما الأول فلأنهن يُشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب، ما لا يشاهده غيرهنَّ، ولأنَّ في معصيتهنَّ أذىً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذنبُ من أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ من ذنب غيره. وأما الثاني: فلأنهنَّ أشرف من سائر النساء، لقربهنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت الطاعة منهنَّ أشرفَ، كما أن المعصيةَ منهنَّ أقبح. 7 - قوله تعالى: (إنَّ المُسْلِمينَ وَالمُسْلِمَاتِ والمُؤْمِنِين وَالمُؤمِنَاتِ. .) الآية. إن قلت: لم عطَفَ أحدَهما على الآخر، مع أنَّهما متَّحدانِ شرعاً؟! قلتُ: ليسا بمتَّحديْن مطلقاً، بل هما متَّحدان صدقاً لا مفهوماً، أخذاً من الفرق بين الِإسلام والإِيمان الشرعيَّينْ، إذِ الِإسلامُ الشرعيًّ: هو التلفُّظُ بالشهادتين، بشرط تصديق القلب بما جاء به النبيًّ - صلى الله عليه وسلم -، والإِيمانُ الشرعيًّ: عكس ذلك، ويكفي في العطف المقتضي للاختلاف،

اختلافهما مفهوماً وإِن اتحدا صدْقاً. 8 - قوله تعالى: (مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وخَاتَمَ النّبيِّينَ. .) الآية، هو جوابٌ عن سؤالٍ مقَدّر، تقديره: أمحمدٌ أبو زيدِ بن حارثة؟ فأُجيبَ بنفي الأعمِّ المستلزم لنفي الأخصِّ، إذْ لو اقتصر على قوله: ما كان محمد أبا زيدٍ لقيل: وماذا يلزم منه؟ فقد كان للأنبياءِ أبناءٌ، فجيء بنفي الأعمِّ، تمهيدا للاستدراك بأنه رسولُ الله وخَاتَمُ النبيّين. إن قلتَ: كيف صحَّ نفيُ الأبوَّة عنه، وكان أباً للطيِّب، والطَّاهر، والقاسم، وإبراهيم؟ قلتُ: قد قيَّد النفي بقوله " مِنْ رجالِكُمْ "، لأن إضافة الرجال إلى المخاطبين، تُخرج أبناءه لأنهم رجاله لا رجالهم، ولأن المفهوم منهم بقرينةِ المقام الرجالُ البالغون، وأبناؤه ليسوا كذلك، إذْ لو كان له ابنٌ بالغٌ لكان نبياً، فلا يكون هو خاتم النّبيِّينَ. فإن قلتَ: كيف قال تعالى " وَخَاتَم النَّبِيِّينَ " وعيسى

عليه السلام ينزل بعده وهو نبيٌّ؟ قلتُ: معنى كونه " خاتَم النَّبِيِّينَ " أنه لا يتنبَّأُ أحدٌ بعده، وعيسى نبي قبله، وحينَ ينزل عاملًا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. 9 - قوله تعالى: (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) إن قلتَ: كيف شبَّهَ الله تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بالسراجِ دون الشمس مع أنها أتمُّ؟ قلتُ: المراد بالسِّراج هنا: الشمسُ، كما قال تعالى " وجعل الشمس سراجاً ". أو شبَّهه بالسراج لأنه تفرَّع منه بهدايته جميعُ العلماء، كما يتفرع من السراج سُرُجٌ لا تُحصى، بخلاف الشمس. 10 - قوله تعالى: (يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ. .) الآية. التقييدُ بالمؤمنات خرج مَخْرج الغالب، وإِلَّا فالكتابياتُ مثلهنَّ فيما ذُكر في الآية. 11 - قوله تعالى: ((وَبَنَاتِ عَمِّكَ وبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ. .) الآية. أفردَ العمَّ والخال

، وجمعَ العمَّاتِ والخالات، لأن العمَّ والخال بوزن مصدريْنِ وهما " الضمُّ " و " المال " والمصدرُ يستوي فيه المفردُ والجمعُ، بخلاف العمة والخالة، ولا يردُ على ذلك جمعُ العمِّ والخال في قوله في النور " أو بيوت أعمامكم أو بيوتِ أخوالكم " لأنهما ليسا مصدرين حقيقةً، فاعتُبر هنا حقيقتُهما، وثَمَّ شَبَهُهُما. 2 1 - قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَائِهِنَّ ولا أبنائهنَّ. .) الآية. إن قلتَ: كيف ذكر فيها الأقاربَ ولم يذكر العمَّ والخال، مع أن حُكْمُها حكمهم في رفع الجُناح؟! قلتُ: قد مرَّ مثلُ هذا السؤال وجوابه في قوله " ولا يُبدين زينتهنَّ " الآية، فراجعْه. 3 1 - قوله تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ. .) عَطَفَ الأول على الثاني، مع أنها بمعنىً، لتغايرهما لفظاً، كقولهم: فلانٌ عاقلٌ لبيب، وقول الشاعر: معاذ اللَّهِ من كذبٍ ومَيْنٍ وتقدَّم نظيره. 4 1 - قوله تعالى: (فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا

وحَمَلَهَا الِإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا) . إن قلتَ: الِإنسانُ هنا آدمُ عليه السلام، فكيف وصفه بظلومٍ وجهول، وهما صفتا مبالغة؟ قلتُ: لأنه لجلالة قدره، ورفعة محلِّه، كان ظلمه لنفسه بما حمله وجهله به وإن قلَّ - أفحشَ من غيره، أو لتعدِّي ضررهما لجميع الناس، لِإخراجهم من الجنة - بواسطته. " تَمَّتْ سُورَةُ الأحزاب "

سورة سبأ

سُوَرة سبأ 1 - قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ. .) الآية. " ما بين يديْ الِإنسان ": كلُّ ما يقع نظرُه عليه من غير أن يُحوِّل وجهه إليه. " وما خلفه ": هو كلُّ ما يقع نظره عليه، حتى يحوِّلُه إليه فيعم الجهاتِ كلها. فإن قلتَ: هلَّا ذكر الأيمان والشمائل كما ذكرها في قوله " ثم لآتينَّهمْ منْ بينِ أَيْدِيهمْ ومِنْ خَلْفِهمْ وعنْ أَيْمانِهمْ وعن شَمَائلِهمْ "؟ قلتُ: لأنه وُجد هنا ما يغني عن ذكرهما، من لفظ العموم والسماء والأرض بخلافه ثَمَّ. 2 - قوله تعالى (إِنَّ في ذَلِكَ لَاَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) . قاله هنا بتوحيد " الآية " وقال بعدُه (إنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّار شَكُورٍ) بـ جمعهما، لأنَّ ما هنا إشارة الى إحياء الموتى، فناسب التوحيد. وما بعدُ إشارة إلى " سبأ " قبيلة تفرَّقت في البلاد، فصارت فِرَقاً فناسب الجمعُ. 3 - قوله تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ) . أي نقوشاً من أبنيةٍ، أو صوراً من نحاسٍ، أو زجاجً، أو رُخام. إن قلتَ: كيف أجاز سليمان عليه السلام عمل الصُّوَر؟! قلتُ: يجوز أن يكون عملها جائزاً في شريعته، وأن تكون غير صور الحيوان وهو جائزٌ في شريعتنا أيضاً. 4 - قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمينٍ وَشِمَالً. .) الآية، وحَّد الآية مع أن الجنتين

آيتان، لتماثلهما في الدلالة، واتحاد جهتهما، كقوله تعالى " وجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيمَ وأُمَّهُ آية ". 5 - قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكمْ لَعَلَى هُدَىً أَوْ في ضَلاَلٍ مُبِينٍ. .) . إن قلتَ: ما معنى التشكيك في ذلك؟ قلتُ: هذا من إجراء المعلوم مجرى المجهول، بطريق اللّفِّ والنشر المرتَّب، و " أو " في الموضوعين بمعنى الواو، والتقديرُ: وإنَّا لعلى هدىً، وأنتم في ضلالٍ مبين، وإنما جاء بذلك لِإرادة الِإنصاف في الجدال، وهو أوصلُ إلى الغرض، أو باقيتين على معناها والمعنى: وإنَّا لمهتدون أو ضالون وأنتم كذلك، وإنما قاله للتعريض بضلالهم، كقول الرجل لخصمه إذا أراد تكذيبه: إنَّ أحدنا لكاذبٌ. 6 - قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)) لم يقل فيه ((من قبلِكَ " أو " قبلَكَ " كما في غيرها، لأن ما هنا إخبارٌ مجرَّدٌ، وفي غيره إخبارٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليةٌ له.

7 - قوله تعالى: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. .) لم يذكر " كنتم " كما قاله في غيره، لأن قوله هنا " تعملون " وقع في مقابَلةِ " أجرمنا " في قوله: (قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرمنَا) أي أذنبنا، وضميرُ أجرمنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمرادُ غيرُه، وغيرُه صدر منه ذنبٌ فعبَّر عنه بالماضي. والمخاطبُ في " تَعْمَلُونَ ". الكُفَّارُ، وكفرُهم واقعٌ في الحال، وفي المستقبل ظاهراً، فعبَّر عنه بالمضارع فلا يُناسبه " كنتم " مع أن الخطاب في ذلك واقع في الدنيا، والخطابُ في غيره نحو " ثمَّ نُنَبئكم بما كنتُم تعملون " واقعٌ في الآخرة، فناسبه التعبيرُ بـ " كنتم ". 8 - قوله تعالى: (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أكثَرُهُمْ بهِمْ مُؤْمِنُونَ) إن قلتَ: كيف قالت الملائكةُ في حقِّ المشركين ذلك، مع أنه لم يُنقل عن أحدٍ منهم أنهُ عَبَد الجِنَّ؟ قلتُ: معناه أنهم كانوا يطيعون الشياطين، فيما يأمرونهم به من عبادة غير الله تعالى، فالمراد بالجِنِّ الشياطينُ، على أن الكرماني جزم بأنهم عبدوا الجنِّ أيضاً. " تَمَّتْ سُورَةُ سبأ "

سورة فاطر

سورة فاطر 1 - قوله تعالى: (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ. .) الآية. إن قلتَ: لمَ عبَّر بالمضارع وهو " تُثيرُ " بين ماضيَيْنِ؟! قلتُ: للِإشارة إلى استحضار تلك الصورة البديعة، وهي إثارةُ الرياحِ السحابَ، الدالة على القدرة الباهرة، حتى كأن السامع يُشاهدها، وليس الماضي كذلك. 2 - قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَفَرٍ وَلَا يُنْقصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَأ في كِتَابِ. .) الآية، " مِنْ مُعَمَّرٍ " أي من أحدٍ، وسمَّاه مُعَمًّراً بما يصَيرُ إليه. 3 - قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا. .) قاله هنا بتأنيث الضمير لعوده إلى الثمراتِ، وقال

ثانياً: " مختلفٌ ألوانُها " بتأنيثه أيضاً، لعوده إلى الجبال، وقال ثالثاً: " مختلفٌ ألوانُهُ " بتذكيره، لعوده إلى بعض المفهوم من لفظ من قوله " ومن الناسِ والدوابِّ والأنعام ". 4 - قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) . قاله هنا بلفظ " الله " لعدم تقدم ذكره، وبزيادة اللام موافقةً لقوله بعدُ " إنَّ ربَّنا لغفورٌ شكورٌ " وقاله في الشورى بالضمير، لتقدم لفظ " الله " وبحذف اللام لعدم ما يقتضي ذكرها. 5 - قوله تعالى: (لاَ يَمَسُّنا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) . الفرقُ بين " النَّصَبِ " و " اللُّغوبِ " أنَّ النَّصبَ: تعبُ البدنِ، واللغوب: تعبُ النفْس، وفرَّق الزمخشري بينهما بأن النَّصبَ: التعبُ، واللغوب: الفتورُ الحاصلُ بالنَّصب، ورُدَّ بأن انتفاء الثاني معلومٌ من انتفاء الأول. 6 - قوله تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونِ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَل صَالِحاً غَيْر الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)

إن قلتَ: الوصفُ بغير الذي كنا نعمل، يوهم أنهم كانوا عملوا صالحاً غير الذي طلبوه، مع أنهم لم يعملوا صالحاً قطُّ بل سيئاً؟ قلتُ: قالوه بزعمهم أنهم كانوا يعملون صالحاً كما قال تعالى " وهم يحسَبُونَ أنهم يُحْسِنونَ صُنْعاً " فمعناه غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله. 7 - قوله تعالى: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) . إن قلتَ: التبديلُ: تغييرُ الشيءِ عمَّا كان عليه مع بقاءِ مادته، والتحويلُ: نقلُه من مكانٍ إلى آخر، فكيف قال ذلك مع أن سنة الله لا تُبدَّلُ ولا تحوَّلُ؟! قلتُ: أراد بالأول أن العذاب لا يُبدَّل بغيره، وبالثاني أنه لا يُحوَّل عن مستحقِّه إلى غيره، وجَمَعَ بينهما هنا تتميماً لتهديد المسيء لقبح مكره، في قوله تعالى (وَلَا يَحِيقُ المكْرُ السَّيِّىءُ إِلَّا بِأَهلِهِ) . " تَمَّتْ سُورَةُ فاطر "

سورة يس

سُوَرة يس 1 - قوله تعالى: (فَعَزَّزْنَا بِثَالِتٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) . قاله هنا بغير تأكيد باللَّام، ولأنه ابتداءُ إخبارٍ، وقاله بعد بالتأكيد بها لأنه جوابٌ بعد إنكارٍ وتكذيبٍ، فاحتيج إلى التأكيد. 2 - قوله تعالى: (وَمَاليَ لَا أَعْبًدُ الَّذِي فَطَرَ ني وَإِلَيْهِ تًرْجَعُونَ) ، قاله الجائي من المدينة. إن قلتَ: كيف أضاف الفطرة إلى نفسه، والرجوع - الذي هو البعثُ - إليهم، مع علمه بأن الله فطرهم وإياهُ، وإليه يرجع هو وهم، فلم يقل: الذي فطرنا وإليه نرجع، أو فطركم وإليه ترجعون؟! قلتُ: لأن الخلْقَ والإِيجاد نعمةٌ من الله تعالى تًوجب

الشكر، والبعثَ بعد الموت للجزاءِ وعيدٌ من الله يوجب الزجر، فأضاف ما يقتضي الشكر لنفسه، لأنه أليقُ بإيمانه، وما يقتضي الزجر إليهم لأنه أليقُ بكفرهم. 3 - قوله تعالى: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدةً فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ) . ذُكرِ هنا مرتين، وليس بتكرار، لأن الأول هي النفخةُ التي يموت بها الخلق، والثانية هي النفخة التي يحيا بها الخلْقُ. 4 - قوله تعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغى لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهارِ) . إن قلتَ: كيف نفى تعالى الِإدراك عن الشمس للقمر، دون عكسه؟ قلتُ: لأن سير القمر أسرعُ، لأنه يقطع فلكه في شهرٍ، والشمسُ لا تقطع فلكها إلّاَ في سنة، فكانت جديرةً بأن توصف بنفي الِإدراكِ لبطء سيرها، والقمر خليقاً بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.

5 - قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أئا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ) . إن قلتَ: الذُّرية اسم للأولاد، والمحمولُ في سفينة نوحٍ عليه السلام، آباءُ المذكورين لا أولادهم؟! قلتُ: الذرِّية من أسماء الأضداد عند كثيرٍ، تُطلق على الآباء والأولاد، والمرادُ هنا: الفريقان، فمعناه حملنا آباءهم وأولادهم، لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين ظاهراً. 6 - قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتىَ هَذَا الوَعْدُ إِنْ كنْتُمْ صَادِقِينَ) أي متى إنجازه؟ وإلَا فالوعدُ بالبعث كان واقعاً لا منتظراً. أو أراد بالوعد: الموعود. 7 - قوله تعالى: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَأَ مِنْ مَرْقَدِنا. .) الآية. إن قلتَ: قولُهم ذلك سؤال عن الباعث، فكيف طابقَه الجواب بقوله " هَذَا مَا وَعَدَ الرحْمنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ "؟ قلتُ: معناه: بعثكم الرحمنُ الذي وعدكم بالبعث،

وأخبركم به الرسول. وإنما جيء به على هذه الطريقة تبكيتاً لهم وتوبيخاً. 8 - قوله تعالى: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ في ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَكِئُونَ) إن قلتَ: كيف قال في صفة أهل الجنَّة ذلك، والظلُّ إنما يكون لا يقع عليه الشمس، ولا شمس في الجنة لقوله تعالى: " لا يَرَوْنَ فيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً "؟ قلتُ: ظلُّ أشجار الجنة من نور قناديل العرش، أو من نور العرش، لئلا تبهر أبصارهم، فإنه أعظم من نور الشمس. 9 - قوله تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) سمَّى نطق اليد كلاماً، ونطق الرجل شهادةً، لأن الغالب في كونها فاعلة، وفي الرِّجْلِ كونها حاضرة، وقولُ الفاعل على نفسه إقرارٌ لا شهادة، وقولُ الحاضر على غيره شهادة. 10 - قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ

إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) أي: إنشاءه " وما ينبغي له " أي ما يليق به ذلك. كما قال تعالى " وَمَا ينبغي للرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ ولَداً " وما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من الرجز نحو قوله: أَنَا النَّبيُّ لا كذِبْ أنا ابنُ عبدِ المطَّلبْ وقوله: هل أنتِ الَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وفي سبيل اللَّهِ مَا لَقِيتِ فليس بشعرٍ عند الخليل، أو أَنَّ الموزون بوزنِ الشعر - وإن لم يعَن رَجَزاً - ليس بشعر عند أحدٍ، إذِ الشعرُ قولٌ موزونٌ مُقَفَّى، مقصودٌ به الشعر، والقصدُ منتفٍ فيما رُوي من ذلك. 11 - قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا. .) الآية، أي قدرتُنا، عبَّر عنها باليد لما بينهما من الملازمة، وللِإشارة إلى الانفراد بخلق الأنعام، كما يُقال في عمل القلب: هذا ممَّا عملتْ يداك، وإن لم يكن للمخاطب يدٌ. 12 - قوله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلَاَ وَنَسِيَ خَلْقَهُ. .)

سورة الصافات

الآية، سمَّاه مثلًا، وإن لم يكن مثلاً، لما اشتمل عليه من الأمرِ العجيب، وهو إنكار الِإنسان قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، مع شهادة العقل والنقل على ذلك. " تَمَّتْ سُورَةُ يس " سُورة الصّافَّات 1 - قوله تعالى: (ربُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وما بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المَشَارِقِ) . إن قلتَ: لمَ جمع هنا المشارق وحذف مقابله، وثنَّاه في الرحمن، وجَمَعه في المعارج، وأفرده في المزَّمِّل مع ذكرِ مقابله في الثلاثة؟! قلتُ لأن القرآن نزل على المعهود، من أساليب كلام العرب وفنونه، ومنهما الِإجمالُ والتفصيلُ، والذِّكرُ والحذفُ، والجمعُ والتثنيةُ والِإفرادُ باعتباراتٍ مختلفة، فأفرد وأجمل في

المزمِّل، بقوله " رَبّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ " أراد مشرق الصيف والشتاء ومغربهما، وجَمَع وفَصّل في المعارج بقوله " فَلَا أً قْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ " أراد جميع مشارق السَّنَة ومغاربها، وهي تزيد على سبعمائة، وثنَّى وفصَّل في الرحمن بقوله " رَبّ المشرقَيْنِ وربُّ المَغْرِبَينِ " أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربهما، وجمع وحذفَ هنا بقوله " ربُّ المشارق " أراد جميع مشارق السنة، واقتصر عليه لدلالته على المحذوف، وخصَّ ما هنا بالجمع موافقةً للجموع أول السورة، وبالحذف مناسبة للزينة في قوله " إنا زينا السماءَ الدنيا بزينةٍ الكواكب " إذِ الزينةُ إنما تكون غالباً بالضياء والنو، وهما ينشئان من المشرقِ لا من المغرب، وما في الرحمن بالتثنية، موافقة للتثنية في " يسجدان " وفي " فبأيِّ آلاء ربكما تُكَذِّبان " وبذكرِ المتقابِلَيْن موافقةً لبسط صفاته تعالى وإنعاماته ثمَّ، وما في المعارج بالجمع، موافقةً للجمع قبله وبعده، وبذكرِ المقابِلَيْنِ موافقةً لكثرة التأكيد في القسم وجوابه، وما في المزمِّل بالإِفراد موافقةً لما قبلَه، من إفراد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما بعدَه من إفراد ذكرِ الله تعالى، وبذِكرِ

المتقابِلَيْن موافقةً للحصر في قوله " لا إِلهَ إلَّا هو " ولبسطِ أوامر الله تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -. 2 - قوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) . إن قلتَ: لمَ خصَّ سماء الدنيا بزينةِ الكواكب، مع أنَّ بقية السموات مزيَّنةٌ بذلك؟ قلتُ: لأنَا إنَّما نرى سماء الدنيا، دون غيرها. 3 - قوله تعالى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) . " عجبت " بضم التاءِ على قراءةِ حمزةَ والكسائي. فإن قلتَ: ما وجهُهُ مع أن التعجب روعةٌ تعتري الِإنسانَ، عن استعظام الشيء، واللهُ منزَّهٌ عنها؟! تلت: أراد بالتعجُّبِ الاستعظامُ، وهو جائزٌ على الله تعالى، أومعناه: قل يا محمدُ بل عجبتُ، وفي الذي تُعجِّب قولان: أحدهما كفرهم بالقرآن، والثاني إنكارهم البعث. 4 - قوله تعالى: (أَئِذَا مِتْنَا وَكنَّا تُرَاباً وَعِظاماً أئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) . ختم الآية بقوله " أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ "؟ وختم التي بعدها

بقوله " أئنا لمدينون "؟ أي لمجزيُّون ومحاسبون، لأن الأول في حقّ المنكرين للبعث، والثانية في حقّ المنكرينَ للجزاء، وإن كان كلٌّ منهما مستلزماً للآخر. 5 - قوله تعالى: (وَتَرَكنَا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ) . إن قلتَ: كيف قال عقِبَه في قصص - ما عدا قصة " لوطٍ، ويونسَ، وإلياسَ " - " سلام على نوحٍ " " سلامٌ على إبراهيم " " سلام على موسى وهارون " " سلامٌ على الياسين " ولم يقل ذلكَ في قصص الثلاثة؟! قلتُ: اكتفاءً فيها بقوله " وإنَّ لوطاً لمنَ المرسلِين " " وإن يونسَ لَمِنَ المُرْسَلِين " " وإنَّ إِلْياسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ ". 6 - قوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا المُؤْمِنِينَ) . إن قلتَ: كيف مدح تعالى نوحاً وغيره كإِبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام بذلك، مع أن مرتبة الرسل فوق مرتبة المؤمنين؟! قلتُ: إنما مدحهم بذلك، تنبيهاً لنا على جلالة محلِّ الإِيمان وشرفه، وترغيباً في تحصيله، والثباتِ عليه، والازدياد منه، كما قال تعالى في مدح إبراهيم عليه السلام

: " وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) ". 7 - قوله تعالى: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) . لم يقل " إلى النجوم " مع أنَّ النَّظر إنَّما يتعدّى بـ " إلى " كما في قوله تعالى: " ولكنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ " لأنَّ " في " بمعنى " إلى " كما في قوله تعالى: " فَرَدُّوا أيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ " أو أن النظر هنا بمعنى الفكر، وهو يتعدى بـ " في " كما في قوله تعالى " أولمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّمواتِ " فصار المعنى: ففكَّر في علم النجوم. فإن قلتَ: لِمَ لَمْ يجز النَّظرُ في علم النُّجوم، كما جاز لِإبراهيم؟! قلتُ: إذا كان الناظر فيه كإبراهيم، في أنَّ اللهَ أراه ملكوتَ السموات والأرضِ، جاز له النظر فيه. وقولُه: " إني سقيمٌ " قاله إبراهيم عليه السلام، ليتخلَّف عنهم إذا خرجوا إلى عيدهم، فيكيدَ أصنامهم. فإن قلتَ: كيف جاز له أن يقول ذلك، مع أنه ليس بسقيم؟!

قلت: معناه سأسقم، كما في قوله تعالى " إنَّكَ ميت "، أو سقيمُ القلب عليكم لعبادتكم للأصنام وهي لا تضرُّ ولا تنفع، أو أنَّ من يموت فهو سقيمٌ. 8 - قوله تعالى: (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي يُسرعون المشيَ. فإن قلتَ: هذا يدلُّ على أنهم عرفوا أن إبراهيم هو الكاسر لآلهتهم، وقولُه في الأنبياء " قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتنا " الآية، يدلُّ على أنهم ما عرفوا أنه الكاسرُ لها؟ قلتُ: يحتمل أنَّ بعضهم عرفه فأقبل إليه. 9 - قوله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي إلى حيث أمرني ربي وهي المهاجرة للشام، أو إلى طاعة ربي ورضاه، وقوله " سيهْدينِ " أي سيثبِّتُني على هداي، ويزيدني هُدَى 10 - قوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ) . ختمه هنا بـ " حليم " وفي الحِجْر، والذاريات بـ " عليم " نظراً في ذيْنكَ لشرفِ العلم، وفيما هنا لمناسبته حِلْمَ

الغلامِ، لوعده بالصبر في جوابه لسؤال ابنه له في ذبحه بقوله " سَتَجِدُني إنْ شَاءَ اللَّهُ منَ الصَّابرين ". 11 - قوله تعالى: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى في المَنَام أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى. .) الآية، أي في ذبحي إيًّاك، لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، لأنَّ أمرَ اللهِ حتمٌ، لا يتخلف الأنبياءُ عنده، بل ليختبرَ صبرَه، وليوطِّنَ نفسه على الذبح، فيلقى البلاء كالمستأنسِ به، ويكتسب الثواب بصبره وانقياده، ولتكون " سُنَّةً " في المشاورة، فقد قيل: لو شاورَ آدمُ عليه السلام الملائكةَ في أكل الشجرة، لمَا صدر منه ما صدر. واختلفوا في الذبيح هل هو " إسماعيلُ " أو " إسحاق " والجمهورُ على أنه إسماعيل. 12 - قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَ اهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُؤْيَا. .) . إن قلتَ: كيف قال " قدْ صَدَّقتَ الرُّؤْيا " مع أنَّ تصديقها إنما يكون بالذبح ولم يوجد؟

قلتُ: معناه قد فعلتَ ما في غاية وُسْعكَ، ممَّا يفعله الذابح من إلقاء ولدك، وإمرار المُديةِ على حلقه، ولكنَّ اللهَ منعها أن تقطع، أو أنَّ الذي رآه في النوم، معالجة الذبح فقط لِإراقة الدم، وقد فعل ذلك في اليقظة فكان مصدِّقا للرؤيا. 13 - قوله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) . جواب " لمَّا " محذوفٌ أي استبشرا واغتبطا شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهما من الفداء، أو قولهُ " نَادَيْنَاه " والواو زائدة. 14 - قوله تعالى: (كذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ) . إن قلتَ: لمَ قاله هنا، أعني في قصة إبراهيم بحذف " إذَّا " وأثبتَه في آخر غيرها من القصص؟ قلتُ: حذفه في قصة إبراهيم اختصاراً، واكتفاءً بذكره له قبلُ، في قصته بقوله: " وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهيمُ " الآية، مع أنَّ ما بعد قصته كان من تكملتها وهو قوله: " وَبَشَّرْنَاهُ بإِسحاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ " بخلاف سائر القصص. 15 - قوله تعالى: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ

وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) . إن قلتَ: لوطٌ كان رسولًا قبل التنجية، فما وجه تعلق " إذْ نجَّيْناه " به؟ قلتُ: هو ليس متعلقاً به، بل بمحذوفٍ تقديره: واذكرْ، وكذا القولُ في قوله تعالى " وإنَّ يونسَ لمنَ المُرْسَلين. إذْ أَبَقَ إلى الفُلْكِ المَشْحُونِ ". 16 - قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) . إن قلتَ: " أَوْ " للشَّكِّ، وهو على اللَّهِ محالٌ؟! قلتُ: " أو " بمعنى " بل " أو بمعنى الواو، أو المعنى أو يزيدون في نظرهم، فالشكُّ إنما دخل في قول المخلوقين. 17 - قوله تعالى: (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) . تهديدٌ لهم، ثم أعاده في قوله " وأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ " تأكيداً. أو لأنَّ الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، وحذف منه المفعول اكتفاءً بذكره أولاً. " تمت سووة الصافات "

سورة ص

سورة ص 1 - قوله تعالى: (ص) إن جُعل اسماً للسورة، فهو خبر مبتدأٍ محذوفٍ أي هذه " صَ " السورة التي أعجزت العرب، فقوله " والقرآنِ ذي الذكر " قسمُ عجز العرب، كقولك: هذا حاتمٌ واللَّهِ، أي هذا هو المشهور بالسخاء واللَّهِ، وإن جُعلَ قَسَماً فجوابه مع ما عُطف عليه محذوفٌ تقديره: إنه كلامٌ معجز، أو لنهلكنَّ أعداءك بقرينة قوله " كمْ أهلكْنَا مِنْ قبلِهمْ مِن قَرْنٍ " أو جوابه " كَمْ " وأصله " لَكَمْ " حُذفت اللاَّم لطول الكلام تخفيفاً، كما في قوله تعالى " والشَّمسِ وضُحَاهَا. . قَدْ أفلَحَ مَنْ زَكَّاهَا " وقيل: غير ذلك. 2 - قوله تعالى: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ

(4) . قاله هنا بالواو، وفي " ق " بالفاء، لأنَّ ما هناك أشدُّ اتصالًا منه هنا، لأنَّ ما هنا متَّصلٌ بما قبله اتصالَاَ معنوياً فقط، وهو أنهم عجبوا من مجيء المنذِر، وقالوا هذا ساحرٌ كذَّابٌ، وما في " ق " متصلٌ بما قبله اتصالًا لفظياً ومعنوياً، وهو أنهم عجبوا عقب الِإخبار عنهم بأنهم عجبوا، فقالوا هذا شىء عجيب، فناسب فيه ذكرُ الفاء دون ما هنا. 3 - قوله تعالى: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا. .) الآية. قاله هنا بلفظ " أَأُنزِلَ " وفي القمر بلفظ " أَأُلقِيَ "، لأن ما هنا حكايةٌ عن كفار قريش، فناسبَ التعبيرُ به، لوقوعه إنكاراً لمَّا قرأه عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، من قوله تعالى " وَأنْزَلنَا إليكَ الذِّكرَ لتُبيِّن للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهِمْ " وما في القمر حكايةٌ عن قوم صالح، وكانت الأنبياءُ تُلقي إليهم صحفٌ مكتوبة، فناسبَ التعبيرُ ب " أُلقي " وقدَّم الجار والمجرور على الذكر هنا، موافقةً لما قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنكرين، وعَكَس في القمر جرياً على الأصل، من تقديم المفعول بلا واسطة

على المفعول بواسطة. 4 - قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ. . إلى قوله: فَحَقَّ عِقَابِ) . ختم أواخر آياته هنا بما قبل آخره ألفٌ، وآيات قوله في (ق) " كذَّبتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ. . إلى قوله: فَحَقَّ وَعِيدِ " بما قبل آخره ياءٌ أو واوٌ، موافقة لبقية فواصل السورتين، 5 - قوله تعالى: (إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ. .) . أي قالوا حين دخلوا على داود عليه السلام: نحنُ خصمان وهما مَلَكانِ مثَّلا أنفسهما معه بخصمينِ بغى أحدهما على الآخر، على سبيل الفرض والتصوير، لأن الملائكة مُنتفٍ عنهم البغيُ والظلم، وكذا قولُه " إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسعُون نَعْجةً وَليَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ " كقول الفقيه: لزيدٍ أربعون شاةً، وعمروٍ مثلُها وخلطاها وحال عليها الحول، كم يجب فيها؟ وليس لهما شيء من ذلك. وكنًى عن المرأة بالنَّعجة (1) ، كما مثل نفسه بالخصم.

6 - قوله تعالى: (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) . إن قلتَ: ما معنى تكرر الحُبِّ وتعديته ب " عَنْ " وظاهرُه إني أحببتُ حباً مثل حبِّ الخير، كقولك: أحببتُ حُبَّ زيدٍ أي مثلَ حبِّهِ؟ قلتُ: أحببتُ هنا بمعنى آثرتُ، كما في قوله تعالى " فَاستَحَبُّوا العَمَى عَلى الهُدَى " أي آثروه، و " عن " بمعنى " على " كما في قوله تعالى " ومن يبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ " فيصيرُ المعنى: آثرتُ حبَّ الخير على ذكر ربّي. 7 - قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. .) . إن قلتَ: كيف قال سليمان ذلك، مع أنه يُشبه الحسد والبخل بنعم الله تعالى على عباده، بما لا يَضرُّ سليمانَ؟! قلتُ: المرادُ لا ينبغي لأحدٍ أن يسلبه مني في حياتي، كما فعل الشيطان الذي لبس خاتمي، وجلس على كرسيِّ

(1) .. أو أنَّ الله علم أنه لا يقوم غيره مقامه بمصالح ذلك المكان، واقتضت حكمته تعالى تخصيصه به، فألهمه سؤاله. 8 - قوله تعالى: (إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَابٌ) . إن قلتَ: كيف وصف الله تعالى أيوب عليه السلام بالصبر، مع أن الصبر ترك الشكوى من ألم البلوى، وهو قد شكى بقوله " أَنِّي مَسَّنيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبِ وَعَذَابِ " وقوله " أني مَسّنِي الضُرُّ "؟ قلتُ: الشكوى إلى اللَّهِ تعالى لا يُنافي الصبر، ولا تُسمَّى جزعاً لما فيها من الجهاد والخضوع والعبودية للَّهِ تعالى، والافتقار إليه، ويؤيده قول يعقوب عليه السلام " إنَّمَا أشكُو بَثِّي وحُزْنِي إِلَى اللَّهِ " مع قوله " فَصَبْرٌ جَميلٌ " وقولهم: الصبرُ تركُ الشكوى أي إلى العباد، أو أنه عَليه السلام طلب الشفاء من الله تعالى، بعدما لم يبق منه إلَّا قلبُه ولسانُه، خيفةً على قومه أن يفتنهم الشيطان، ويوسوس إليهم أنه لو كان نبيًّا لَمَا ابتُلي بما هو فيه، ولكشفَ الله ضرَّه إذا دعاه.

9 - قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدِّينِ) . إن قلتَ: هذا يدلُّ على أنَّ غاية لعنة الله تعالى لِإبليس إلى يوم القيامة قد تنقطع؟ قلتُ: كيف تنقطع وقد قال تعالى " فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ على الظّاِلمينَ " وإبليسُ أظلمُ الظَّلمةِ، والمراد أن عليه اللعنة طول مدَّةِ الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، اقترن له باللعنة من أنواعِ العذاب، ما ينسى معه اللعنة، فكأنها انقطعت. " تَمَّتْ سُورَةُ ص "

سورة الزمر

سورة الزُمر 1 - قوله تعالى: (إنَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ. .) . عبَّر فيه هنا ب " إلى " وفيها أثناء السورة ب " على ". . تقدَّم في البقرة الفرقُ بين " إلى " و " على " ونزيد هنا أنَّ كلَّ موضعٍ خُوطب فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالِإنزالِ، أو التنزيل، أو النزول، إن عُدِّيَ ب " إلى " ففيه تكليفٌ له، أو ب " على " ففيه تخفيفٌ عنه، فما هنا تكليفٌ له بالِإخلاص في العبادة بدليل قوله " فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ " وما في أثناء السورة تخفيفٌ عنه بدليل قوله " وما أنتَ عليْهم بوكيلٍ " أي لستَ بمسئولٍ عنهم. 2 - قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) .

أي دائمٌ على كفره وكذبه، أو لا يهديه إلى حجة يُلزم بها المؤمنين، وإلَّا فكم هُدي من كافر. 3 - قوله تعالى: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ. .) الآية. إن قلتَ: كيف يكون قوله فيها " لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشَاءُ " مع أن كل من ادَّعى له ولداً، أو نسبَ إليه ولداً قال: إنَّ الله اصطفاه من خلقه فجعله ولداً؟! (1) قلتُ: إن جُعِلَ ردًّا على اليهود في قولهم: إن عزيراً بن الله، وعلى النَّصارى في قولهم: إنه المسيحُ. . كان معناه: لاصطفى ولداً من الملائكة لا من البشر، لأن الملائكة أشرفُ من البشر بلا خلافٍ بين اليهود والنصارى. أو ردًّا على مشركي العرب في قولهم: إنه الملائكة، كان معناه لاصطفى ولداً من جنس ما يخلق كل شيء يريده، ليكون ولدُه موصوفاً بصفته، لا من الملائكة الذين لا

يقدرون على إيجاد جناح بعوضة. ولا يرد على هذا خلق عيسى عليه السلام الطَّيْرَ، لأنه ليس بتامّ، أو لأنه بمعنى التقدير من الطين، ثم اللَّهُ يخلقه حيواناً، بنفخ عيسى عليه السلام إظهاراً لمعجزته. 4 - قوله تعالى: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالَأرْضَ بِالحَقِّ. .) أي بسبب إقامته. 5 - قوله تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا. .) الآية. إن قلتَ: كيف عطف ب " ثُمَّ " مع أن خلق حواء من آدم، سابقٌ على خلقنا منه؟! قلتُ: " ثُمَّ " هنا للترتيب في الِإخبار لا في الِإيجاد، أو المعطوف متعلِّقٌ بمعنى واحدة، و " ثُمَّ " عاطفة عليه لا على " خلقكم " فمعناه: خلقكم من نفسٍ واحدة أُفردت بالإِيجاد، ثم شُفِعتْ بزوج. أو هو معطوف على " خلقكم " لكنَّ المراد بخلقهم، خلقُهم يوم أخذ الميثاق، لا هذا الخلق الذي يتمُّ فيه الآن،

بالتوالدِ والتناسل، وذلك أن الله خلق آدم عليه السلام، ثم أخرج أولاده من ظهره كالذَّرِّ، وأخذ عليهم الميثاق ثم ردَّهم إلى ظهره، ثم خلق منه حواء. 6 - قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الَأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجً. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك مع أنَّ الأنعامَ مخلوقةٌ في الأرضِ، لا منزلةٌ من السَّماءِ؟ قلتُ: هذا من مجازِ النسبةِ إلى سبب السَّبب، إذِ الأنعامُ لما كانت لا تعيش إلّا بالنَّباتِ، والنَّباتُ لا يعيش إلا بالمطرِ، والمطرُ منزلٌ من السماء، وصفها بالإِنزالِ، من تسمية المسبَّب باسم سَببِ سببه. أو معناه: وقضى لكم، لأن قضاءه منزلٌ من السماء، من حيث كُتب في اللوح المحفوظ. أو خلقها في الجنة ثم أنزلها على آدم عليه السلام، بعد إنزاله إلى الأرض، والِإنزالُ بمعنى الإِحداثِ والِإنشاءِ، لقوله تعالى " يا بني آدمَ قَدْ أَنْزَلْنَا علَيكُمْ لباساً ".

7 - قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) . زاد اللّاَمَ بعد " أمِرْتُ " الثاني دون الأول، لأن مفعول الثاني محذوفٌ اكتفاءً بمفعول الأول، والتقديرُ: وأُمرتُ أن أكون عبداً لله لأن أكون. فإن قلتَ: لمَ قال في هذه الآية " مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ " ب " أل " وقال بعد: " قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِيني " بالإِضافة. قلتُ: لأن قوله " اللَّهَ أَعْبُدُ " إخبارٌ عن التكلِّم، فناسبتِ الِإضافةُ إليه، وقوله " أُمِرْتُ أنْ أَعْبُدَ اللَّهَ " ليس إخباراً عن المتكلِّمِ، فناسبت الِإخبارَ عنه أصالة " أُمِرْتُ " فقط، وما بعده فضلةٌ. 8 - قوله تعالى: (ثُمَّ يَهيجُ فَتَرَاهُ مُصْفرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً. .) . قاله هنا بلفظ " يَجْعَلُهُ " وفي الحديد بلفظ " يكونُ " موافقةً في كلٍّ منهما لما قبله، وهو " كَمَثَلِ " غَيْثٍ أعجَبَ الكُفَّارَ نَباتُهُ ".

9 - قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ لِلنَّاس بِالحَقِّ فَمن اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ. .) . قاله هنا بحذف " فإِنما يهتدي " المذكورُ في يونس والِإسراء، اكتفَاءً بما ذكره بقوله قبلُ " وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ". 101 - قوله تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَميعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالَأرْضِ ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ) إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن للأنبياء، والعلماء، والشهداء، والأطفال، شفاعةٌ؟ قلتُ: معناه أن أحداً لا يملكها إلَّا بتحليلها، كما قال تعالى: " منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ " وقال: " وَلَا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَن ارْتَضَى ". 11 - قوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبكُمْ. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن القرآن كلَّه حسنٌ؟

قلتُ: معناه أحسنَ وحيِ، أو كتاب أُنزل اليكم، وهو القرآن كلُّه. أو أحسنُ القرآنُ آَياتُه المحكماتُ، أو آياتُه التي تضمَّنت أمر طاعةٍ أو إحسان، وقد مرَّ نظير هذا السؤال في نظير هذه الآية في الأعراف، في قوله تعالى " وَأْمُرْ قومَكَ يأخذوا بأحسنِها " وما مرَّ ثَمَّ في جوابه يأتي هنا. 2 1 - قوله تعالى: (وَلَقَدْ أوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلك مع أن الموحى إليهم جمعٌ، ولمَّا أوحِيَ إلى من قبلَه، لم يكن فِى الوحي إليهم خطابُه. قلتُ: معناه ولقد أوحي إلى كل واحدٍ منك ومنهم لئن أشركتَ، أو فيه إضمارُ نائب الفاعل تقديره: ولقد أوحِيَ إليك وإلى الذِينَ من قبلك التوحيدُ، ثم ابتدأ فقال: " لئن أشركتَ "، أو فيه تقديمٌ وتأخير تقديره: ولقد أُوحيَ إليك لئن أشركتَ، وكذلك أُوحي إلى الذين من قبلك. 3 1 - قوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً. .) الآيتين.

إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن السَّوْق فيه نوعُ إهانةٍ، لا يليقُ بأهل الجنَّة؟ قلتُ: المرادُ بسوق " أهلِ النَّارِ " طردُهم إليها بالهوانِ والعنفِ، كما يُفعل بالأسرى الخارجين على السلطان، إذا سيقوا إلى حبسٍ أو قتل. وبسوقِ " أهل الجنَّةِ " سوق مراكبهم، حَثّاً وإسراعاً بهم إلى دار الكرامةِ والرضوان، كما يُفعل بمن يُشرَّفُ وُيكرَّمُ من الوافدين على السلطان. فإن قلتَ: كيف قال في صفة النَّارِ " فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا " بلا واوٍ، وفي صفة الجنة بالواو " وَفُتِحَتْ أَبْوَابُها "؟ قلتُ: هي زائدة، أو هي واوُ الثمانية لأن أبواب الجنة ثمانيةٌ، أو واوُ الحال أي جاءوها وقد فُتِحَتْ أبوابُها قبل مجيئهم، بخلاف أبواب النَّارِ فإنها إنما فُتحت عند مجيئهم، والسرُّ في ذلك أن يتعجلوا الفرح والسرور، إذا رأوا الأبواب مفتَّحةً. وأهلُ النار يأتونها وأبوابُها مغلقةٌ ليكون أشدَّ لحرِّها

سورة غافر

(1) ، أو أنَّ الوقوف على الباب المغلق نوعُ ذلٍّ وهوان، فصِينَ أهل الجنة عنه. أو أن الكريم يُعجِّل المثوبة وُيؤخّر العقوبة، أو اعتبر في ذلِكَ عادةُ دارِ الدنيا، لأن عادة مَنْ في منازلها من الخدم، إذا بُشّروا بقدوم أهل المنازل، فُتح أبوابها قبل مجيئهم، استبشاراً وتطلعاً إليهم، وعادةُ أهل الحبوس إذا شُدِّد في أمرها، ألَّا تفتح أبوابُها إلا عند الدخول إليها أو الخروج. " تَمَّتْ سُورَةُ الزمر " سُوَرة غافر 1 - قوله تعالى: (مَا يُجَادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البِلاَدِ) أي بالتكذيب ودفعِها بالباطل، وقصد إدحاض ِالحقِّ، وإلَّا فالمؤمنونَ يجادلون فيها. 2 - قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) .

إن قلتَ: ما فائدةُ وصفِ حَمَلَةِ العرش، مع أن إيمانهم به معلوم لكل أحدٍ؟ قلتُ: فائدتُه إظهارُ شرفِ الإِيمان، وفضلِه، والترغيب فيه، كما وُصف الأنبياء عليهم السَّلامُ بالإِيمان والصَّلاح. 3 - قوله تعالى: (قالوا رَبَّنَا أَمَتَنَا اثْنَتَيْنِ وَأخيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا.) أي إماتتينِ وإِحيائتيْنِ، لأنهم نُطَفٌ أمواتٌ فأحيوا، ثم أمِيتُوا ثمَّ أُحيوا للبعث، وهذا كقوله تعالى " كَيْفَ تَكْفُرونَ باللَّهِ وكنْتُمْ أَمْوَاتاً فأَحْياكُمْ ثمَّ يميتُكُمْ ثُمَّ يُحييكم ". 4 - قوله تعالى: (وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) إن قلتَ: كيف قال المؤمنُ ذلك في حقّ موسى عليه السلام، مع أنه صادقٌ عنده وفي الواقع، ويلزم منه أن يصيبهم جميعُ ما وعدهم لا بعضُه فقط؟! قلتُ: " بعضُ " صِلةٌ، أو هي بمعنى " كلّ " كما قيل به في

قول الشاعر: إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دبَّرها دون الشيوخ ترى في بعضها خلَلاً أو ذَكرَ البعضَ تنزّلاً وتلطًّفاً بهم، مبالغاً في نصحهم، لئلا يتَّهموه بميلٍ ومحاباة، ومنه قولُ الشاعر: قد يدركُ المتأنِّي بعض حاجتهِ وقد يكونُ من المستعجلِ الزَّللً كأنه قال: أقلًّ ما يكون في الثاني إدراكُ بعض المطلوب، وفي الاستعجال الزلل، أو هي باقيةٌ على معناها، لأنه وعدهم على كفرهم الهلاكَ في الدنيا، والعذابَ في الآخرة، فهلاكهم في الدنيا بعضُ ما وعدهم به. 5 - قوله تعالى: (ذَلِكَ بَأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالَبيِّنَاتِ فَكَفَرُوا) الآية قاله هنا بجمع الضمير، وفي التغابن بإفراده، موافقة هنا لما قبله في قوله " كانوا هم أشدَّ منهم قُوَّةً " إلى آخره، وأفرده ثَمَّ لأنه ضميرُ الشأن، زيد توصلاً إلى دخول " إن على " كان ".

6 - قوله تعالى: (ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّموَاتِ) أي أبوابها وطرقها. فإن قلتَ: ما فائدةُ التكرار هنا؟ قلتُ: فائدته أنه إذا أبهم ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمَّلَ بلوغه من أسباب السموات، أبهمها ثم أوضحها. 7 - قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ. .) الآية. إنما لم يقل: لخزنتها مع أنه أخصرُ، لأنَّ في ذكر جهنم تهويلًا وتفظيعاً. أو لأنَّ جهنم أبعدُ النَّار، فغدا خزنتُها أعلى الملائكة الموكلين بالنار مرتبةً، فطلب أهل النار الدعاء منهم لذلك. 8 - قوله تعالى: (لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ أكبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثَر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أي: أنَّ خلق الأصغر أسهلُ من خلق الأكبر، ثم قال " لا يؤمنون "

سورة فصلت

أي بالبعث، ثم قال " لا يشكرون " أي الله على فضله، فختم كل آيةٍ بما اقتضاه أولها. 9 - قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ) ختمها بقوله " المبطلون " وختم السُّورة بقوله " وخسر هنالكَ الكافرون " لأن الأول متَّصل بقوله " قُضِيَ بالحَقِّ " ونقيضُ الحقِّ الباطلُ، والثاني متَّصل بإيمانٍ غير نافعٍ، ونقيضُ الِإيمان الكفرُ. " تَمَّتْ سُورَةُ غافر " سورة فصلَتْ 1 - قوله تعالى: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عامِلُونَ)

إن قلتَ: ما فائدةُ ذكرِ " مِنْ " مع حصول المعنى بحذفِهَا؟ قلتُ: فائدتُه الدلالةُ على أنَّ ما بينهم وبينه مستوعَبٌ بالحجاب، لكون الحجاب سَدّاً بينهم وبينه، وبتقدير حذفها يصير المعنى: إن الحجاب حاصلٌ في المسافة بيننا وبينه. 2 - قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً. . إِلى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَموَاتِ في يَوْمَيْنِ. .) إن قلتَ: هذا يدلُّ على أن السمواتِ والأَرْض وما بينهما خُلِقت في ثمانية أيامٍ، وهو مُنافٍ لما ذكره في الفرقان وغيرها أنها خُلقت فِى ستة أيام؟! قلتُ: يوما خلقِ الأَرضِ من جملة الأربعةِ بعدهما، والمعنى في تتمة أربعة أيام، وهي مع يوميْ خلق السمواتِ ستةُ أيام. . يومُ الأحدِ والإِثنين لخلق الأرض، ويوم الثلاثاء والأربعاء للجعل المذكور في الآية وما بعده، ويومُ الخميس والجمعة لخلق السَّموات.

فإن قلتَ: السمواتُ وما فيها أعظمُ من الأرض وما فيها بأضعافٍ، فما الحكمة في أنه تعالى خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، والسموات وما فيها في يومين؟ قلت: لأن السموات وما فيها من عالَم الغيب، والملكوت، والأمر، والأرضُ وما فيها من عالم الشَّهادة، والمُلْكِ، والخلق، والأولُ أسرع من الثاني. أو أنه تعالى فعل ذلك في الثاني، مع قدرته على فعله ذلك دفعةً واحدةً، ليعرِّفنا أن الخلق على سبيل التدريج، لنتأنى في أفعالنا، فخلق ذلك في أربعة أيامِ لمصالحَ وحِكم اقتضتْ ذلك، ولهذه الحكمة خلق العالمَ الأكبر في ستة أيام، والعالَم الأصغر وهو الِإنسان في ستة أشهر. 3 - قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهم سَمْعُهُمْ. .) الآية. قاله هنا بذكر " ما " وبحذفها في قوله في النمل: " حتَى إذَا جَاءُوا "، وفي الزمر " حتَى إذَا جَاءُوهَا " مرت، وفي الزخرف " حتَّى إذا جَاءَنَا "، لأن الكلام هنا في أعداء الله،

أبسط وآكدُ منه في البقيَّة، فناسبَ ذكرُ " ما " للتأكيد هنا دون البقيَّة. 4 - قوله تعالى: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوَىً لَهُمْ. .) الآية، فيه إضمارٌ تقديره: فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنارُ مثوىً لهم، أو قيَّد ذلك لأنه جوابٌ لقولهم " أَنِ امْشُوا واصْبِرُوا على آلهتكُمْ " فلا مفهوم له. 5 - قوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) المرادُ سيِّئه، إذ لا يختصُّ جزاءُهم بأَسوء عملهم. 6 - قوله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) . قاله هنا بزيادة " هو " و " أل " وفي الأعراف بدونهما، لأن ما هنا متصلٌ بمؤكدين: بالتكرار، وبالحصر، فناسبَ التأكيدُ بما ذُكر، وما في الأعراف خليٌّ عن ذلك، فجرى على القياس من كون المُسْندِ إليه معرفة، والمُسْنَدِ نكرة. 7 - قوله تعالى: (وَلَوْلَا كلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنهمْ. .) . قاله هنا، وقاله في الشورى بزيادة " إلى أَجَلٍ مُسَمَّى "

(لموافقته ثَمَّ مبدأ كفر الذين تفرقوا في الدين، وهو مجيء العلم بالتوحيد في قوله " وما تفرقوا " الآية، مناسب ذكرُه للنهاية التي انتهوا إليها، ليكون محدوداً من الطرفين، بخلاف ما هنا. 8 - قوله تعالى: (وَإِنْ مَسَّهُ الشَرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوط) . لا ينافي قوله بعد " وإذَا مسَّه الشرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ " لأن المعنى قنوطٌ من الصنم، دعَّاءٌ للهِ، أو قنوطٌ بالقلب دعَّاءٌ باللسان، أو الأولى في قوم، والثانيةُ في آخرين. 9 - قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كفَرْتُمْ بِهِ. .) الآية. قاله هنا ب " ثمَّ " وفي الأحقاف بالواو، لأن معناها هنا: كان عاقبة أمركم بعد الإِمهالِ، للنظَرِ والتدبرِ، الكفرُ، فناسبَ ذكرُ " ثُمَّ " الدالة على الترتيب، وفي الأحقاف. نم ينظر إلى ترتيب كفرهم على ما ذُكر، بل عطف على " كفرتم " " وشهد شاهدٌ " بالواو، فناسب ذكرها لدلالتها على مطلق الجمع. " تَمَّتْ سُورَةُ فصلت "

سورة الشورى

سورة الشورى 1 - قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ) قاله بلفظ المضارع مع أن الوحْيَ إلى من قبل النبيِّ ماضٍ، لأنه - كما قال الزمخشريُّ - قصد بالمضارع كون ذلك عادةُ وسنَّةُ اللَّهِ، وهذا لا يوجد في لفظ الماضي. 2 - قوله تعالى: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي يخلقكم في الجعل المذكور قبله، ليس كمثله شيءٌ.. إن قلتَ: هذا يقتضي ثبوتَ مثلِه، إنَّما نفَى مِثْلَ مِثْلهِ؟! قلتُ: المِثْلُ يُقال للذاتِ، كما في قولهم: مثلُكَ لا يليق به كذا، فمعناه: ليس كذاته شيءٌ، أو هو من باب

الكناية، لأنه إذا نفى مِثْلَ مِثْلهِ لزم نفيُ مثله، إذ لو بقي مثلُه لكان هو مثلُ المثلِ، فيلزم ثبوت مثل المثل، والغرض أنه نفي. 3 - قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْق السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فيهما من دابَّةٍ. .) . إن قلتَ: كيف قال " فيهما مِنْ دَابَّةٍ " مع أن الدواب إنما هي في الأرض فقط؟ قلتُ: هو من إطلاق المثنَّى على المفرد، كما في قوله تعالى " يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والمَرْجَانُ " وإنما يخرجان من أحدهما وهو الملح. وقيل: إن الملائكةَ لهم دبيب مع طيرانهم أيضاً، وهم م مبثوثون في السماء، عملاً بمفهوم قوله " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ " على القول بالعمل به في مثل ذلك. 4 - قوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) .

قاله هنا بلام التأكيد، وقاله في لقمان بدونها، لأن الصبر على مكروهٍ حَدَث بظلم كقتل ولد، أشدُّ من الصبر على مكروهٍ حدث بلا ظلم كموت ولدٍ، كما أن العزم على الأول أوكدُ منه على الثاني، وما هنا من القبيل الأول، فكان أنسبَ بالتوكيد، وما في لقمان من القبيل الثاني فكان أنسب بعدمه. 5 - قوله تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِفَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يشاءُ الذكور) . فإن قلتَ: لمَ قدَّم الِإناثَ مع أنَّ جهتهنَّ التأخير، ولمَ عرَّف الذكورَ دونهنَّ؟ قلتُ: لأن الآية سيقتْ لبيان عظمة مُلكه ومشيئته، وأنه فاعلٌ ما يشاءُ، لا ما يشاؤه عبيدُه كما قال " ما كانَ لهم الخِيَرَةُ ". ولما كان الِإناثُ ممَّا لا يختاره العبادُ، قدَّمهنَّ في الذِّكر، لبيان نفوذِ إرادته ومشيئته، وانفراده بالأمر، ونكَّرهنَّ وعرَّف الذكور لانحطاط رتبتهنَّ، لئلا يُظنَّ أن التقديم كان لأحقيتهنَّ به، ثم أعطى كل جنسٍ حقَّه من التقديم والتأخير، ليُعلم أن تقديمهنَّ لم يكن لتقدمهنَّ، بل

سورة الزخرف

لمقتضى، فقال " أو يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإِناثاً " كما قال " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى ". 6 - قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الِإيمَانُ. .) . المرادُ بالِإيمان هنا " شرائعُ إلِإسلام " وأحكامه كالصلاة والصوم، وإلَّا فالأنبياء مؤمنون بالله، قبل أن يُوحى إليهم بأدلة عقولهم. وقيل: المرادُ بالِإيمان الكلمةُ التي بها دعوة الِإيمان والتوحيد وهي " لا إِله إلا الله محمدٌ رسولُ الله " والِإيمانُ بهذا التفسير إنما علمه بالوحي لا بالعقل. " تَمَّتْ سُورَةُ الشورى " سُورَة الزُّخْرُف 1 - قوله تعالى: (إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) . إن قلتَ: القرآنُ ليس بمجعولٍ، لأن الجَعْل هو الخلقُ،

فلمَ لم يقل: قلناه أوأنزلناه؟ قلتُ: الجَعْلُ يأتي بمعنى القول أيضاً، كقوله تعالى " ويَجْعَلُونَ للَّهِ البَنَاتِ " وقوله " وَجَعَلوا للَّهِ أَنْدَاداً ". 2 - قوله تعالى: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون) . قاله هنا بلفظ " يَخْرصُونَ " وفي الجاثية بلفظ " يظنُّونَ " لأنَّ ما هنا متَّصلٌ بقوله " وجعلوا الملائكةَ الذينَ هم عبادُ الرحمنِ إناثاً " أي قالوا: الملائكةُ بناتُ الله، وإنَّ الله قد شاء منَّا عبادتنا إيّاهن، وهذا كذبٌ، فناسبه " يَخْرُصُونَ " أي يكذبون. وما هناك متصلٌ بخلطهم الصِّدق بالكذب، فإنَّ قولهم " نموتُ ونحيا " صدْقٌ، وكَذَبوا في إنكارِهم البعثَ، وقولهم: " وما يهلكنا إلَّا الدَّهرُ " فناسبه " يظنون " أي يشكُّون فيما يقولون. 3 - قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا ابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) . قاله هنا بلفظ " مهتدون " وبعده بلفظ " مقتدون " لأن

الأول وقع في محاجَّتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وادِّعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين، وأنهم مهتدون كآبائهم، فناسبه " مهتدون " والثاني وقع حكايةً عن قومٍ ادَّعوا الِإقتداء بالآباء دون الِإهتداء، فناسبه " مقتدون ". 4 - قوله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا. .) الآية. إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلقَ أحداً من الرسل حتى يسأله؟ قلتُ: فيه إضمارٌ تقديره: واسأل أتباعَ أو أممَ مَنْ أرسلنا، أو هو مجازٌ عن النَّظر في أديانهم، والبحثِ عن مِلَلِهم هل فيها ذلك؟ أو واسأَلِ المرسلينَ ليلةَ الِإسراء (1) ، فإنه لَقِيهم وأمَّهم في مسجد بيت المقدس، وقال بعد أن نزلت عليه هذه الآية بعد سلامه: لا أسألُ قد كُفيتُ، كأنَّ المرادَ بالأمرِ بالسؤالِ، التقريبُ لمشركي قريش، أنه لم يأتِ رسولٌ من الله، ولا كتابٌ بعبادة غير الله.

5 - قوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكبَرُ مِنْ أًخْتِهَا. .) الآية، أي من قرينتها التي قبلها. 6 - قوله تعالى: (قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالحِكْمَةِ وَلأُبَينٍّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ... ) . إن قلتَ: كيف قال عيسى عليه السلام لأمته ذلكَ، مع أن كل نبيٍّ يلزمه أن يُبيِّن لأمته كلَّ ما يختلفون فيه؟ قلتُ: المراد أنه يُبيّن لهم ممَّا اختلفوا فيه، ما يحتاجونه دون ما لا يحتاجونه. أو المرادُ بالبعض الكُلُّ، كما مرَّ نظيره في غافر. 7 - قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) . فائدة ذكر " وهُمْ لا يَشْعُرون " بعد " بَغْتَةً " أي فجأة، أنَّ الساعة تأتيهم وهم غافلون، مشغولون بأمور دنياهم، كما قال تعالى " مَا يَنْظُرونَ إِلَّا صَيْحةً واحدةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ " فلولا قوله " لا يشعرون " لجاز أن تأتيهم بغتةً، وهم يَقِظونَ حَذِرونَ مستعدُّون لها. 8 - قوله تعالى: (إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) .

إن قلتَ: كيف وصف أهل النَّارِ فيها بأنهم مبلِسون، والبلسُ: هو الآيسُ من الرحمة والفرج، مع قوله بعدُ " ونَادَوْا يا مَالِكُ لِيَقْضِ علينَا ربُّكَ " الدالَّ على طلبهم الفَرَج بالموت؟ قلتُ: وقع كلٌّ منهما في زمنٍ، لأن أزمنةَ يومِ القيامةِ متعدَدة. 9 - قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي في السَّمَاءِ إِلهٌ وَفي الَأرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَكيمُ العَلِيمُ) . إن قلتَ: هذا يقتضي تعدُّد الآلهة، لأن النكرة إذأ أُعيدت نكرة تعدَّدتْ، كقولك: أنتِ طالقٌ وطالقٌ؟ قلتُ: الِإله هنا بمعنى المعبود، وهو تعالى معبودٌ فيهما، والمغايرةُ إنما هي بين معبوديته في السماء، ومعبوديته " في الأرض "، لأن المعبود به من الأمور الِإضافية، فيكفي التغاير فيها من أحدِ الطرفين، فإِذا كان العابدُ في السماء غير العابد في الأرض، صدق أنَّ معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض، مع أن المعبود واحدٌ. " تَمَّتْ سُورَةُ الزخرف "

سورة الدخان

سورة الدُّخَان 1 - قوله تعالى: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ) . قاله هنا بذكرِ " عَلَى عِلْمٍ " أي منك، وقال في الجاثية " وفَضَّلْنَاهُمْ على العَالَمِينَ " بحذفه، جرياً هنا على الأصل في ذكرِ ما لا يُغني عنه غيرُه، واكتفاءً ثمَّ بقوله بعدُ " وأضلَّه اللَّهُ على عِلْمٍ ". 2 - قوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) . إن قلتَ: القومُ كانوا يُنكرون الحياة الثانية، فكان حقُهم أن يقولوا: إن هِي إلّاَ حياتُنا الأولى؟

قلتُ: لما قيل لهم: إنكم تموتون موتةً يعقُبها حياةٌ، كما تقدمتكمْ موتةٌ، لذلك قالوا " إنْ هيَ إلَّا موتتُنا الأولى " أي ما الموتةُ التي من شأنها أن يعقبها حياةٌ، إلَّا الموتةُ الأولى. 3 - قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالَأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) . قاله بالجمع موافقةً لقوله أول السورة " ربُّ السَّمواتِ والأَرْض ". 4 - قوله تعالى: (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحَمِيمَ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن العذاب لا يُصبُّ وإنما يُصبُّ الحميمُ، كما قال في محل آخر " يصبُّ من فوقِ رُءُوسهم الحَمِيمُ "؟ قلتُ: هو استعارةٌ ليكون الوعيدُ أهيبَ وأعظم. 5 - قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلّاَ المَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيم) .

إن قلتَ: كيف قال في صفة أهل الجنَّةِ ذلك، مع أنهم لم يذوقوه فيها؟ قلتُ: " إلَّا " بمعنى " سِوَى " كما في قوله تعالى " وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " أو الاستثناءُ منقطع أي لكنْ الموتةَ الأولى قد ذاقوها. 6 - قوله تعالى: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ واسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ) . إن قلتَ: كيف وعد الله تعالى أهل الجنة بلبس " الاستبرق " وهو غليظ الديباج، مع أن غليظه عند السعداء من أهل الدنيا عيبٌ ونقصٌ؟ قلتُ: غليظ ديباج الجنة، لا يُشابه غليظ ديباج الدنيا حتى يُعاب، كما أن سندس الجنة وهو رقيق الديباج، لا يشابه سندس الدنيا. وقيل: إن السُّنْدسَ لباس سادةِ أهلِ الجنة، والاستبرقُ: لباسُ خدمهم، إظهاراً لتفاوت الرُّتب. " تَمَّتْ سُورَةُ الدخان "

سورة الجاثية

سورة الجاثية 1 - قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّموَاتِ وَالَأرْضِ لآيَاتٍ المؤمنين. وفي خَلْقِكُمْ وما يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمِ يوقِنُونَ. وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. . . إلى: آيَاتٌ لقوْم يعْقِلُونَ) . إن قلتَ: لمَ ختم الآية الأولى ب " المؤمنين " والثانية بقوله " يوقنون " والثالثة بقوله " يعقلون "؟ قلتُ: لأنه تعالى لما ذكر العالَم ضمناً، ولا بدَّ له من، صانعٍ، موصوفٍ بصفات الكمال، ومن الِإيمان بالصانع ناسب. ختم الأولى بالمؤمنين، ولمَّا كان الِإنسان أقرب إلى الفهم من غيره، وكان فكرُه في خلْقهِ وخلْقِ الدوابّ ممَّا يزيده يقيناً في: إيمانه، ناسب ختم الثانية بقوله " يوقنون " ولما كان جزئيات

العالَم، من اختلاف الليل والنهار وما ذكره معهما، مما لا يُدركُ إلَّا بالعقل، ناسبَ ختم الثالثة بقوله " يعقلون ". 2 - قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) . إن قلتَ: ما وجه مطابقة الجواب وهو " قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ " إِلى آخره للسؤال وهو " ائْتُوا بِآبَائِنَا إن كُنتُمْ صَادِقين "؟ قلتُ: وجهه أنهم أُلزموا بما هم مقرُّون به، من أنَّ الله تعالى هو الذي أحياهم أولاً، ثم يُميتُهم، ومن قَدَر على ذلك قدر على جمعهم يوم القيامة، فيكون قادراً على إحياء آبائهم. 3 - قوله تعالى: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا. .) أي إلى قراءةِ كتابِ أعمالها. فإن قلتَ: كيف أضاف الكتابَ إلى الأُمَّة، ثم أضافه

سورة الأحقاف

إليه تعالى في قوله " هَذَا كِتَابُنَا "؟ قلتُ: الِإضافة تحصلُ بأدق ملابسةٍ، فأضافه إلى الأمَّة كون أعمالهم مثبتةٌ فيه، وأضافه إليه تعالى لكونه مالكه، وآمرُ ملائكتِه بكتابته. " تَمَّتْ سُورَةُ الجاثية " سُورَة الأَحقاف 1 - قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِما عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُم أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) . إن قلتَ: كيف وصف الفريقين بأنَّ لكلٍ منهما درجات، مع أن أهل النَارِ لهم دَرَكاتٌ لا دَرَجاتٌ؟ قلتُ: الدرجاتُ هي: الطبقاتُ من المراتب مطلقاً، أو فيه إضمارٌ تقديره: ولكلّ فريقٍ درجاتٌ أو دركاتٌ، لكنْ حذفَ الثاني اختصاراً، لدلالة المذكور عليه. 2 - قوله تعالى: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا

تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)) . وجهُ مطابقةِ الجواب فيه؟ أن سؤالهم متضمِّنٌ لاستعجالهم العذابَ، الذي توعَّدهم به، بقرينة قوله بعد " بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجلتُمْ بِهِ " فأجابهم بأنه لا علم له بوقت تعذيبهم، بلِ اللهُ تعالى هو العاِلم به وحدَه. 3 - قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا. .) أي كلَّ شيءٍ مرَّتْ به، من أموالِ قوم عادٍ وأهليهم 4 - قوله تعالى: (يا قومنا أَجيبوا داعي الله وآمنوا به يَغْفِرْ لكم من ذُنُوبِكمْ. .4) الآية. أفاد بذكر " مِنْ " أنَّ من الذنوب ما لا يغفره الِإيمان كمظالم العباد. " تَمَّتْ سُورَةُ الأحقاف "

سورة محمد

سُورَة محمد 1 - قوله تعالى: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك تعالى في حقِّ الشهداء، بعدما قتتلوا، مع أن الهداية إنما تكون قبل الموت لا بعده؟ قلتُ: معناه سيهديهم إلى محاجَّة منكرٍ ونكير، وقيل: سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة. 2 - قوله تعالى: (إِنَّ الذِينَ كفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ. .) . نزلتْ في قوم ارتدوا عن الإِيمان. وقوله تعالى قبل: (إِنَّ الَّذِينَ ارتدُّوا عَلَى أدْبَارِهِمْ مِنْ

سورة الفتح

بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لهُمْ وأمْلَى لَهُمْ) نزلت في اليهود، فليس بتكرارٍ. " تَمَّتْ سُورَةُ محمد " سورة الفتح 1 - قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) . نزل قبل فتح مكة، وجِيء بالفعل ماضياً، لأنه في علمه تعالى كالواقع، لتحقُّقِ وقوعه. 2 - قوله تعالى: (لِيَغْفِر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك والنبيُّ معصومٌ من الذنوب؟ قلتً: المرادُ ذنبَ المؤمنين، أو ترك الأفضل، أو أراد الصغائر على ما قال به جمعٌ، أو المرادُ بالمغفرةِ العصمةُ. ومعنى قوله " ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ " ما فرط منك فرضاً، قبل

النبوة وبعدها، أو قبل فتح مكة وبعده، أو المراد بما تأخَّر العمومُ والمبالغةُ، كقولهم: فلانٌ يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه، بمعنى يضربُ كلَّ أحد، مع أن من لا يلقاه لا يمكنه ضربه. 3 - قوله تعالى: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) . أي يزيدك هُدىً، وإلّاَ فهو مهديٌّ. 4 - قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُئم كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) . إن قلتَ: ما فائدةُ قوله " وأهلَها " بعد قوله " أَحَقَّ بها "؟ قلتُ: الضمير في " بها " لكلمة التوحيد، وفي أهليَّتهما للتقوى، فلا تكرار. 5 - قوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. .) . إن قلتَ: ما وجهُ التعليقِ بمشيئة الله تعالى في إخباره؟ قلتُ: " إن " بمعنى إذْ كما في قوله تعالى " وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمُ مؤمِنينَ ". أو أنه استثناءٌ منه تعالى فيما يَعلمُ، تعليماً لعباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون. أو أنَّه على سبيل الحكاية لرؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه رأى أن

قائلاً يقول: لَتَدْخُلُنَّ المسجِدَ الحرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمنين. 6 - قوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافونَ. .) إن قلتَ: ما فائدة ذكر " لا تَخَافُونَ " بعد قوله " آمِنينَ "؟ قلتُ: المعنى آمنين في حال الدخول، لا تخافون عدوَّكم أن يُخرجكم منه في المستقبل. 7 - قوله تعالى: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ. .) . تعليلٌ لما دلَّ عليه تشبيههم بالزرع، من نمائهم وقوَّتهم، كأنه قيل: إنما قوَّاهم وكثَّرهم ليغيظ بهم الكفار. 8 - قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُ@ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) . " منهم " أي من الذين مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم الصحابة " مغفرة وأجراً عظيماً " ف " مِنْ " هنا لبيان الجنس، كما في قوله تعالى: " فاجتنبوا الرجس من الأوثانِ " لا للتبعيض، لأن الصحابة كلَّهم موصوفون بالِإيمان والعمل الصالح. " تَمَّتْ سُورَةُ الفتح "

سورة الحجرات

سُورَة الحجرات 1 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. .) الآية. " يا أيها الذينَ آمنوا " ذُكِر في السورة خمس مرات، والمخاطبون فيها المؤمنون، والمخاطَبُ به أمرٌ، أو نهيٌ، وذُكر فيها " يا أيُّها النَّاسُ " مرَّة، والمخاطبون فيها يعمُّ المؤمنين والكافرين، كما أن المخاطَبَ به وهو قوله " إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرِ وَأُنْثَى " يعمُّهما، فناسبَ فيها ذكرَ النَّاسِ، وقولُه " لاَ تُقَدًّمُوا " منْ قدَّم بمعنى تقدَّم، لأن المراد به نهيهم عن أن يتقدّموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولٍ، أو فعلٍ، لا عَنْ أن يُقدِّموا غيرَهم. 2 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُم

فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ. .) . فائدةُ ذكرِ " وَلَا تَجْهرُوا لهُ بالقَوْلِ " بعد قوله " لَا تَرْفَعُوا أصواتكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَبِيِّ " النهيُ عن الجهرِ في مخاطبتِهِ، وإنْ لم يتضمَّنْ رفع أصواتِهم على صوته. وقيلْ: المراد النهيُ عن مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - باسمه. 3 - قوله تعالى: (أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمُ وأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) أي مخافة حبوطها. فإن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنَّ الأعمال إنما تحبط بالكفر، ورفعُ الصوتِ على صوتِ النبي ليس بكفر؟ قلتُ: المراد به الاستخفاف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه ربما يؤدي إلى الكفر. وقيل: حبوطُ العمل هنا مجازٌ عن نقصان المنزلة، وانحطاطِ الرتبة. 4 - قوله تعالى: (وَلَكنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الِإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي

قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إليكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ والعِصْيَانَ ... ) . إن قلتَ: ما فائدةُ الجمعِ بين الفِسْقِ والعصيانِ؟! قلتُ: الفسوقُ: الكذبُ كما نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، والعصيانُ: بقيَّةُ المعاصي، وإنما أفردَ الكذبَ بالذِّكر، لأنه سببُ نزول هذه الآية. وقيل: الفسوقُ: الكبيرةُ، والعصيانُ: الصغيرة. 5 - قوله تعالى: (قَالَتِ الَأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا. .) . المنفيُّ هنا: الِإيمانُ بالقلبِ، والمُثْبتُ: الانقيادُ ظاهراً، فهما في اللغةِ متغايران بهذا الاعتبار، كما أنهما في الشرع مختلفان مفهوماً، متَّحدانِ صدقاً، إذِ الِإيمانُ هو التصديقُ بالقلب، بشرط التلفظِ بالشهادتين، والِإسلامُ بالعكس. 6 - قوله تعالى: (إِنمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا. .) الآية.

سورة ق

إن قلتَ: العملُ ليس من الِإيمان، فكيف ذكرَ أنه منه في هذه الآية؟ قلتُ: المرادُ منها الإِيمانُ الكاملُ، أي إنما المؤمنون إيماناً كاملًا، كما في قوله تعالى " إِنمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلمُ من سلِمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ ". " تَمَّتْ سُورَةُ الحجرات " سورة ق 1 - قوله تعالى: (ق. وَالقُرْآنِ المَجِيدِ. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. .) . " ق " إذا جُعل اسماً للسورة، فهو خبرُ مبتدإِ محذوفٍ أي هذه ق بالمعنى السابق في " ص ". وإن جُعل قَسَماً فجوابُه مع ما عُطفَ عليه محذوفٌ، تقديره: لتُبْعثُنَ، بدليل قوله " ذَلِكَ رَجعٌ بعِيدٌ " أو لقد أرسلنا

محمداً، بدليل قوله " بل عجبوا أن جاءهم منذِرٌ منهم ". أو هو قولُه: " قَدْ عَلِمْنَا ما تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ " حذفت منه اللّاَمُ لطول الكلام. أوهو قولُه: " مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ". 2 - قوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ) . إن قلتَ. فيه إضافةُ الشيء إلى نفسه وهي ممتنعةٌ، لأن الِإضافة تقتضي المغايرةَ بينَ المُضَافِ والمُضَاف إليه؟ قلتُ: ليست ممتنعةً مطلقاً، بل هي جائزةٌ عند اختلاف اللفظيْنِ، كما في قوله " حقَّ اليقين " و " حبلَ الوريد " و " دارَ الآخرة ". وبتقدير امتناعها مطلقاً فالتقدير: حبَّ الزَّرعِ أو النباتِ الحصيد. 3 - قوله تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليمينِ وَعًنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) . إن قلتَ: كيف قال " قَعِيدٌ " ولم يقل: قعيدان، إذْ أنه وصفٌ للملَكَيْنِ المذكورين؟ قلتُ: معناه عن اليمين قعيدٌ، وعن الشمال قعيدٌ، لكنه

حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، أو أن " فعيلاً " يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، قال تعالى " والملائكةُ بعد ذلكَ ظهيرٌ " أو قال ذلك رعايةً للفواصل. 4 - قوله تعالى: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) . قاله هنا بالواو، وقاله بعدُ بدونها، لأن الأول خطابٌ للِإنسانِ من قرينه ومتعلِّقٌ به، فناسب ذكرُ الواو، والثاني استئنافُ خطابِ من الله، غير متعلقٍ بما قبله، فناسب حذفُها. 5 - قوله تعالى: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) . إن قلتَ: كيف ثنَّى الفاعل مع أنه واحدٌ، وهو مالكٌ خازنُ النَّارِ؟ قلتُ: بل الفاعلُ مثنَّى، وهما الملَكَان اللَّذان مرَّ ذكرهما بقوله " وَجَاءَتْ كلُّ نفْسٍ معَها سَائِقٌ وشَهِيدٌ "، أو أنَّ تثنية الفاعل أُقيمت مقام تكرّر الفعل للتأكيد، واتّحادهما حكماً، فكأنه قال: أَلْقِ، أَلْقِ، كقول امرىء القيس: قفا نبكِ، أو أن العرب أكثر ما يوافق الرجل منهم اثنين، فكثر على ألسنتهم خطابهما فقالوا، خليليَّ، وصاحبيَّ، وقِفَا، ونحوها. 6 - قوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) .

سورة الذاريات

إن قلتَ: لمَ لمْ يقل: غير بعيدةٍ، لكونه وصفاً للجنة؟ قلتُ: لأن " فعيلاً " يستوي فيه المذكَر والمؤنث، أو لأنه صفة لمذكَّرٍ محذوف أي مكاناً غير بعيد. فإن قلتَ: ما فائدة قوله " غيرَ بعيدٍ " بعد قوله " وأُزلفت " : بمعنى قُرِّبت؟ قلتُ: فائدته التأكيدُ، كقولهم: هو قريبٌ غيرُ بعيد، وعزيزٌ غير ذليل. 7 - قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ. .) . أي واعٍ، وإلا فكلُّ إنسانٍ له قلبٌ، بل كلُّ. حيوانِ، أو المرادُ بالقلب: العقلُ. " تَمَّتْ سُورَةُ قَ " سُوَرة الذّارِيَات 1 - قوله تعالى: (إِنَّمَا توعَدُونَ لِصَادِقٌ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الصَّادِق وصفٌ

للواعد، لا لما يُوعَد؟ قلتُ وُصف به ما يُوعد مبالغةً، أو هو بمعنى مصدوق، كعيشةٍ راضية، وماءٍ دافق. 2 - قوله تعالى: (إِنَّ المُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ. .) . ختم الآية هنا بقوله " وعيونٍ. آخذينَ " وفي الطور بقوله " ونعيم. فاكهينَ " لأن ما هنا متَّصلٌ بما به يصلُ الِإنسان إلى الجنَّات، وهو قوله " إنهم كانوا قبل ذلك محسنين " الآيات. وما في الطور متَّصلٌ بما يناله الِإنسان فيها، وهو قوله " ووقاهم عذاب الجحيم. كلو واشربوا " الآية. 3 - قوله تعالى: (وَمِنْ كُل شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي صنفين. فإِن قلت: كيف قال ذلك، مع أن العرش، والكرسي، واللوح، والقلم، لم يُخلق من كلٍ منها إلَّا واحد؟ قلتُ: معناه ومن كل حيوانٍ خلقنا ذكراً وأنثى، ومن كل شيء يشاهدونه خلقنا صنفين، كالليلِ والنهار، والنور والظلمة، والصيف والشتاء، والخير والشر، والحياة والموت، والشمس والقمر. 4 - قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) .

قاله هنا وبعدُ، وليس بتكرارٍ، لأن الأول متعلق بترك الطاعة إلى المعصية، والثاني بالشركِ بالله. 5 - قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا ليَعْبُدُونِ) . لا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين، لأن الغاية لا يلزم وجودُها، كما في قولك: بريتُ القلم لأكتب به، فإنك قد لا تكتب به، أو لأن ذلك عامٌ أُريد به الخصوص، بدليل قوله. نعالى " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً مِن الجنِّ والإِنس " ومَنْ خُلِق، لجهنم لا يكون مخلوقاً للعبادة. 6 - قوله تعالى: (مَا أُرِيدُ مِنهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) . فإن قلتَ: ما فائدةُ تكرار لفظ " ما أريد "؟ قلتُ: فائدته إفادةُ حكمٍ زائد على ما قبله، إِذِ المعنى ما أريد منهم أن يطعموا أنفسهم، وما أريد منهم أن يُطعموا عبيدي، وإنما أضاف تعالى الإِطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيالُه وعبيدُه، ومن أطعم عيال غيره فكأنه أطعمه، ويؤيده خبر " إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني "، أي استطعمك عبدي فلم تطعمه. " تمْت سورة الذاريات "

سورة الطور

سُورَة الطور 1 - قوله تعالى: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنَّ الحورَ العينَ في الجنة، مملوكاتٍ ملكَ يمينٍ، لا ملك نكاح؟ قلتُ: معناه قرنَّاهم بهنَّ، من قولك: زوَّجتُ إبلي أي قرنت بعضها إلى بعض، وليس من التزويج الذي هو عقدُ النكاح، ويؤيّده أن ذلك لا يُعدَّى بالباء بل بنفسه، كما قال تعالى " زَوَّجْنَاكَهَا ". 2 - قوله تعالى: (كُلُّ امْرِىءٍ بِمَاكَسَبَ رَهِينٌ) . إن قلتَ: كيف قال تعالى في وصف أهل الجنة ذلك، مع أن المعنى: كل امرىءٍ مرهونٌ في النَّارِ بعمله؟ قلتُ: بل المعنى كلُّ نفس مرهونةٌ بالعمل الصالح، الذي هي مطالبةٌ به، فإن عمل صالحاً فلها، وإلَّا أوبقها، أو الجملةُ من صفاتِ أهل النار، معترضةٌ بين صفاتِ أهل الجنَّةِ. رُوي عن مقاتل أنه قال: معناه كلُّ امرىءٍ كافرٍ بما

عمل من الكفر، مرتَهنٌ في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً، لقوله تعالى " كلُّ نفسٍ بما كسبتْ رهينة. إلّاَ أصحابَ اليمين. . ". 3 - قوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مكنَونٌ) . قاله هنا وفي الِإنسان بالواو، عطفاً على ما قبلَه، وقاله في الواقعة بغير واوٍ، لأنه حالٌ أو خبرٌ بعد خبر. 4 - قوله تعالى: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن كلَّ أَحدٍ غيره كذلك؟ قلتُ: معناه فما أنتَ - بحمدِ اللَّهِ وإِنعامهِ عليكَ بالصِّدقِ والنبوَّة، - بكاهنٍ ولا مجنون كما يقول الكفَّارُ، أو " الباءُ " هنا - بمعنى " مع " كما في قوله تعالى " فَتَسْتَجيبونَ بِحمْدِهِ ". 5 - قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنونِ) . ذكر " أَمْ " خمس عشرة مرة، وكلُّها إلزامات،

سورة النجم

ليس للمخاطَبِين بها عنها جوابٌ. 6 - قوله تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فإِنَّكَ بَأَعْيُنِنَا. .) معنى الجمع هنا: التفخيمُ والتعظيمُ، أي بحيث نراكَ ونحفظك، ومثلُه قوله تعالى " تجري بأعيننا ". " تَمَّتْ سُورَةُ الطور " سورة النجم 1 - قوله تعالى: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الضلالة والغِواية متَّحدتان؟ قلت: لا نسلم اتحادهما إذ الضلالة ضد الهدى، والغواية ضد الرشد، أو المعنى ما ضل في قوله ولا غوى فى فعله، وبتقدير اتحادهما يكون ذلك من باب التأكيد باللفظ المخالف مع اتحاد المعنى

2 - قوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدنى) . إن قلتَ: كيف أدخَلَ كلمةَ الشكِّ، وهو مُحالٌ عليه تعالى؟ قلتُ: " أو " للتخيير لا للشكِّ، أي إِن شئتم قدِّروا ذلك القرب بقاب قوسين، أو بأدق منهما، أو هي بمعنى " بلْ "، أو " للتشكيك لهم في قدرِ القُربِ. 3 - قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) . إن قلتَ: " رأى " هنا من رؤية القلب، فأينَ مفعولُها الثاني؟ قلتُ: هو محذوفٌ تقديره: أفرأيتموها بنات اللَّهِ وأندادَه؟ والمعنى: أخبروني ألهذِه الأصنام قدرةٌ على شيءٍ ما فتعبدونها، دون القادر على كل شيء؟! فإن قلتَ: كيف وصفَ الثالثة بالأخرى، مع أنه إنما يُوصف بها الثانية، وظاهرُ اللفظِ يقتضي أن يكون قد سبق ثالثة، ثم لحقها أخرى، ليكون ثالثَتيْن؟ قلتُ: " الأخرى " صفةٌ للعُزَّى، وإنما أخَّرها رعايةً

للفواصل، أو صفةُ ذمٍّ للَّاتِ، والعُزَّى، ومناة التي هي ثالثة اللَّتيْن قبلها، فالْأخرى على هذا من التأخر في الرتبة. 4 - قوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الَأنْفُسُ. .) . قاله هنا وبعدُ، وليس بتكرار، لأن الأول متَّصلٌ بعبادتهم اللَّات والعُزَّى ومناة، والثاني بعبادتهم الملائكة، والظنُّ فيها مذموم بقوله " إن الظَّنَّ لا يُغْني منَ الحقِّ شيئاً " أي لا يقوم مقام العلم. فإن قلتَ: كيف لا يقوم مقامه، مع أنه يقوم مقامه في كثيرٍ من المسائل كالقياس؟ قلتُ: المرادُ هنا: الظنُّ الحاصلُ من اتّباع الهوى، دون الظنِّ الحاصلِ من الاستدلال والنظر، بقرينة قوله " إن يَتَّبعُونَ إلَّا الظنَّ وَمَا تَهْوى الأَنْفُسُ ". 5 - قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنسانِ إِلَّا مَا سَعَى) إن قلتَ: ثوابُ الصَّدقة، والقراءة، والحج، والدعاء، يصل إِلى الميِّت، وليس من سعيه؟ قلتُ: ما دلَّت عليه الآية مخصوصٌ بقوم إبراهيم وموسى، وهو حكايةٌ لما في صحفهما، أمَّا هذه الأمة فلها ما

سورة القمر

سَعَتْ وما سُعِيَ لها، أو هو على ظاهره، ولكنْ دعاءُ ولد الِإنسانِ، وصديقه، وقراءتُهما وصدقتُهما عنه، من سعيهِ أيضاً، بواسطة اكتسابه القرابة، والصَّداقة، أو المحبَّة من الناس، بسبب التقوى والعملِ الصالح. 6 - قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى) أي تشكُّ، والخطابُ فيه للوليد بن المغيرة. فإن قلتَ: كيف قال تعالى ذلك، بعد تعديد النِّقَم، والآلاءُ النِّعَمُ؟ قلتُ: قد تقدَّم أيضاً تعديدُ النِّعم، مع أن النِّقْمة في طيِّها نعمة، لما تضمَّنته من المواعظ والزواجر، والمعنى: فبأيِّ نعم ربك، الدالَّة على وحدانيته، تشكُّ يا وليد بن المغيرة؟ " تَمَّتْ سُورَةُ النجم " سُورَة القمر 1 - قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عبْدَنَا. .)

إن قلتَ: ما فائدةُ إعادةِ التكذيب فيه؟! قلتُ: فائدتُه حكايةِ الواقع، وهو أنهم كذَّبوا تكذيباً بعد تكذيب، أو الأولُ تكذيبهُم بالتوحيد، والثاني بالرسالة، أو الأول تكذيبُهم بالله، والثاني برسوله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - قوله تعالى: (فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) إن قلتَ: القياسُ " فالتقى المَاءَانِ " - كما قُرىَء به شاذاً - أي ماء السَّماءِ، وماءُ الأرض؟ قلتُ: أراد به جنس الماء، ووحَّده موافقةً لقوله قبلُ " بِمَاءٍ مُنْهَمِرِ ". 3 - قوله تعالى: (تَجْرِي بِأعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كفِرَ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك، والجزاءُ إنما يكونُ للكافر لا للمكفور؟ قلتُ: إن قُرىء " كَفَرَ " بالبناء للفاعل شاذاً، فالخبرُ للكافر، أو بالبناءِ للمفعول، والأصلُ: كُفِرَ به، حُذف الجارُّ وأوصل بمجروره الفعل، فالجزاء للمكفور به وهو الله تعالى، أو نوحٌ عليه السلام، والجزاء لكونه مصدراً يُضافُ تارةً للفاعل، وتارةً للمفعول.

سورة الرحمن

4 - قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلِ مُنْقَعِرٍ) . ذكَّر وصفَ النخلِ هنا بـ " مُنْقَعِر " وأنَّثه فىاالحاقًّة بـ " خاوية " رعايةً للفواصل فيهما، وجاز فيه الأمر نظراً إلى " لفظ " النخل تارةً فيُذكَّر، وإِلى " معناه " أخرى فيُؤنَّث. " تَمَّتْ سُورَةُ القمر " سورة الرحمن 1 - قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَها وَوَضَعَ المِيزَانَ) قره برفع السَّماءِ، لأنه تعالى عدَّد نِعَمه على عباده، ومن أجَلِّها الميزان، الذي هوالعدلُ، الذي به نظام العالم وقِوامُه. وقيل: هو القرآن، وقيل: هو العقلُ، وقيل: ما يُعرف به المقاديرُ، كالميزان المعروف، والمكيال، والذراع. إن قلتَ: ما فائدةُ تكرارِ لفظ الميزان ثلاث مرات، مع أن القياس بعد الأولى الِإضمارُ؟ قلتُ: فائدتُه بيانُ أنَّ كلًا من الآياتِ مستقلة بنفسها، أو

أن كلًا من الألفاظ الثلاثة مغايرٌ لكلٍ من الآخريْنِ، إذِ الأول ميزان الدنيا، والثاني ميزان الآخرة، والثالث ميزان العقل. فإن قلتَ: قولُه " أَلأَ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ " أي لا تجاوزوا فيه العدل، مُغْنٍ عن الجملتين المذكورتين بعده؟! قلتُ: الطغيانُ فيه: أخذ الزائِد، والِإخسارُ: إعطاء الناقص، والقسطُ: التوسط بين الطرفين المذمومين. 2 - قوله تعالى: (فَبِأَيِّ الَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ذُكر هنا إحدى وثلاثين مرَّة، ثمانيةٌ منها ذُكرت عَقِب آياتٍ، فيها تعداد عجائب خلقِ الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم. ثم سبعة منها عقب آياتٍ، فيها ذكرُ النار وشدائدها، بعدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عقبها، لأن من جملة الآلاء، دفعُ البلاء وتأخير العقاب. وبعد هذه السبعة ثمانية، في وصف الجنتين وأهلهما، بعددِ أبواب الجنة. وثمانيةٌ أخرى بعدها في الجنتين، اللتيْن هما دون الجنتين

الأولَييْن، أخذاً من قوله تعالى " ومن دونهما جنتان ". فمن اعتقد الثمانيةَ الأولى، وعمل بموجبها، استحقَّ هاتيْنِ الثمانتيْن من الله، ووقَاه السبعةَ السابقةَ. 3 - قوله تعالى: (خَلَقَ الِإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالفَخَّارِ) أي من طينٍ يابس لم يُطبخْ، له صلصلةٌ أي صوتٌ إذا نقر. فإن قلتَ: كيف قال ذلك هنا، وقال في الِحجْر " من صلصالٍ من حَمَإٍ مسنونٍ " أي من طينٍ أسود متغيِّر، وقال في الصافات " من طينٍ لازبِ " أي لازم يلصق باليد، وقال في آل عمران " كمثلِ آدمَ خَلَقهَ من تراب "؟! قلتُ: الآياتُ كلُّها متفقةُ المعنى، لأنه تعالى خلقه من تراب، ثم جعله طيناً، ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالًا. 4 - قوله تعالى: (رَبًّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ المغربَيْنِ) . إن قلتَ: لمَ كرَّر ذكر الربِّ هنا، دون سورتيْ: المعارج، والزمَل؟ قلتُ: كرَّره هنا تأكيداً، وخص ما هنا بالتأكيد لأنه موضع

الامتنان، وتعديد النِّعم، ولأن الخطاب فيه من جنسين هما: الِإنس، والجنِّ، بخلاف ذَيْنك. 5 - قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ) . أي سنقصد لحسابكم، فهو وعيدٌ وتهديدٌ لهم، فالفراغ هنا بمعنى القصدُ للشيء، لا بمعنى الفراغ منه، إذ معنى الفراغ من الشيء، بذلُ المجهود فيه، وهذا لا يُقال في حقه تعالى. 6 - قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَاتَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) أي ولمن خاف قيامه بين يديْ ربه، والمعنى لكل خائفٍ من الفريقين جنتان: جنةٌ للخائف الِإنسيّ، وجنة للخائف الجني، أو المعنى لكل خائفٍ جنتان: جنةٌ لعقيدته، وجنةٌ لعمله، أوجنةّ لفعل الطاعات، وجنةٌ لترك المعاصي، أو جنةٌ يُثَابُ بها، وجنةٌ يتفضَّل بها عليه، أو المراد بالجنَّتيْنِ جنةٌ واحدة، وإنما ثنَّى مراعاةً للفواصل. 7 - قوله تعالى: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) جمع الضمير مع أن قبله جنتان،

سورة الواقعة

لرجوعه إلى الآلاء المعدودة في الجنتين، أو إلى الجنتين، لكن جمعه لاشتمالهما على قصورٍ ومنازل، أو إلى المنازل والقصور التي دلَّ عليها ذكرُ الجنَّتَيْنِ، أو إِلى الفُرُش لقربها، وتكون " في " بمعنى " على " كما في قوله تعالى " أمْ لهمْ سُلَّمٌ يَسْتمعُونَ فِيهِ " أي عليه، وقوله تعالى " لَمْ يَطْمثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلهمْ وَلَا جَانٌ " أي لم يفتضَّ الِإنسيَّاتِ إنسيُّ، ولا الجنيَّاتِ جنيٌّ. " تَمَّتْ سُورَةُ الرحمن " سُورة الوَاقِعَة 1 - قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ) فائدة التكرار فيه التأكيدُ، في مقابلة التأكيد في (وأصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ المَشْأمَةِ مَا أصْحَابُ المَشْأمَةِ) كأنه قال: هم المعروفُ حالُهم، المشهورُ وصفهم. أو المعنى: والسابقون إلى طاعة الله، هم السابقون إلى رحمته وكرامته. . ثم قيل المرادُ بهم: السابقون إلى الإِيمان من كل أمة، وقيل: الذين صلُّوا إلى القبلتيْنِ، وقيل: أهل القرآن، وقيل: السابقون إلى المساجد، وإلى الخروج في

سبيل الله، وقيل: هم الأنبياءُ. 2 - قوله تعالى: (ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) . إن قلتَ: كيف قال ذلك مع أن التخليد لا يختصُّ بالولدانِ في الجنة؟ قلتُ: معناه أنهم لا يتحوَّلون عن شكل الولدان، والمراد بهم هنا ولدانُ المسلمين، الذين يموتون صغاراً ولا حسنة لهم. وقيل: ولدانٌ على سنٍّ واحدٍ، أنشأهم الله لأهل الجنة، يطوفون عليهم، من غير ولادة، لأن الجنة لا ولادة فيها، وقيل: أطفالُ المشركين وهم خدمُ أهل الجنة. 3 - قوله تعالى: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) . أي فهلاَّ تُصدِّقون بأنَّا خلقناكم!! إن قلتَ: كيف قال ذلك مع أنهم مصدِّقون بذلك، بدليل قوله تعالى " ولَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ". قلتُ: هم وإنْ صدَّقوا بألسنتهم، لكنْ لما كان مذهبهم خلافَ ما يقتضيه التصديقُ، كانوا كأنهم مكذبون به، أو أن ذلك تحضيضٌ على التصديق بالبعث بعد الموت، بالاستدلال بالخلق الأول، فكأنه قال: هو خلقكم أولًا باعترافكم فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانياً، فهلَّا تُصدِّقون بذلك!!

4 - قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) (أفَرَأيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ) بدأ بذكر خلق الِإنسانِ، ثم بما لا غنى له عنه، وهو الحبُّ الذي منه قوته، ثم بالماء الذي به سوغُه وعجنُه، ثم بالنَّارِ الذي بها نضجُه وصلاحُه، وذكرَ عَقِب كلٍ من الثلاثة الأولى ما يُفسده، فقال في الأولى " نحنُ قدَّرنا بينكُمُ الموْتَ " وفي الثانية " لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلناهُ حُطَاماً " وفي الثالثة " لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً " ولم يقلَ في الرابعة ما يُفسدها، بل قال: " نحنُ جَعَلنَاها تَذْكرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ " أي جعلناها تذكرة تتعظون بها، ومتاعاً للمسافرين ينتفعون بها. 5 - قوله تعالى: (لَو نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) ذَكَرَ في جواب " لو " في الزرع اللّاَم عملَاَ بالأصل، وحذفها منه في الماء اختصاراً لدلالة الأول عليه، أوأن أصل هذه اللام للتأكيد، وهو أنسبُ بالمطعوم، لأنه مقدَّمٌ وجوداً ورُتبةً على المشروب.

6 - قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظيمِ) أي نزِّهْ ربَّك فقوله " باسم " زائدٌ، أو المعنى: نزِّهْ اسم ربك، فالباء زائدةٌ والاسم باقٍ على معناه، أو هو بمعنى الذات، أو بمعنى الذِّكر، أو الباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ. والمرادُ بالتسبيح الصلاةُ وباسم ربك: التكبيرُ، أي افتتحْ الصلاةَ بالتكبِير. 7 - قوله تعالى: (إِنَهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابِ مَكْنُونٍ) . إن قلتَ: القرآن صفةٌ قديمةٌ قائمة بذاتَ الله تعالى، فكيف يكون حالاًّ في " كتاب مكنون " أي لوحٍ محفوظ، أو مصحفٍ؟ قلتُ: لا يلزم من كتابته في كتابٍ حلوله فيه، كما لو كتب على شيء ألف دينارٍ، لا يلزم منه وجودها فيه، ومثله قوله تعالى " الَّذِي يَجدُونَهُ مَكْتوباً عندهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالِإنْجيلِ ". فثبتَ أنه ليس حالًّا في شيءٍ من ذلك، بل هو كلام اللهِ تعالى، وكلامُه صفةٌ قديمةٌ قائمة به لا تفارقه. فإن قلتَ: إذا لم تفارقْه فكيف سمَّاه منزَّلًا؟ قلتُ: معنى " إنزاله تعالى له " أنه علَّمه جبريل، وأمَره أن يعلِّمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويأمره أن يُعلمه لأمته، مع أنه لم يزل ولا يزال صفةً للَّهِ تعالى قائمةً به لا تفارقه.

سورة الحديد

سورة الحديد 1 - قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ. .) عبَّر هنا وفي الحشر والصفِّ بالمضي، وفي الجمعة والتغابن بالمضارع، وفي الأعلى بالأمر، وفي الِإسراء بالمصدر، استيعاباً للجهات المشهورة لهذه الكلمة، وبدأ بالصدر في الِإسراء لأنه الأصلُ، ثم بالمضي لسبق زمنه، ثم بالمضارع لشموله الحال والمستقبل، ثم بالأمر لخصوصه بالحال مع تأخره في النطق به في قولهم: فَعَلَ، يَفْعَل، افعَلْ، وقوله " ما في السَّموَاتِ والأرض " قاله هنا بحذف " ما " موافقةً لقوله بعدُ " خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ " و " له مُلْكُ السَّموَاتِ والأَرْض " وقاله في الحشر، والصفّ، والجمعة، والتغابن بإِثباتها عملاً بالأصل.

2 - قوله تعالى: (لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالَأرْضِ. .) الآية. ذكره مرتين وليس بتكرارٍ، لأن الأول في الدنيا لقوله عَقِبه " يُحْيِ وُيميت " والثاني في العُقبى لقوله عَقِبَه " وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ". 3 - قوله تعالى: (لَايَسْتَوِي مِنْكُمْ مِنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ. .) تقديره: من أنفق وقاتل قبلَ الفتح، ومن أنفق وقاتَلَ بَعده، لأن الاستواء إنما يكون بين اثنين فأكثر، وإنما حذفه لدلالة ما بعده عليه. 4 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ) سمَّاهم شهداءَ تغليباً، أو المرادُ لهم أجرُ الشُّهداء، وإلا فبعضُهم لم يُقتل حتى يكونَ شَهيداً. 5 - قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ. .) الآية قاله هنا، وقال في التغابن " ما أصابَ من مصيبةٍ إلاَّ بإذنِ اللَّهِ " فصَّل هنا، وأجمل ثَمَّ، موافقةً لما قبلهما، لأنه فصَّل هنا بقوله " اعلمُوا أنَّما الحياةُ الدنيا " الآية، بخلافه ثَمَّ. 6 - قوله تعالى: (لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ. .) ليس المرادُ به الانتهاء عن الحزن والفرح، اللَّذَينَ

لا ينفكُّ عنهما الِإنسانُ بطبعه، بل المرادُ الحزنُ المخرجُ لصاحبه إلى الذُّهول، عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى، والفرحُ الملهي عن الشكر، نعوذ بالله منهما. 7 - قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ) . المرادُ بالميزان: العدلُ أو العقل، وقيل: هو الميزان المعروف، أنزله جبريل عليه السلام، فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال له: مرْ قومكَ يزنوا به. 8 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلك مع أن المؤمنِين مؤمنون برسوله؟! قلتُ: معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون خطاباً لأهل الكتابِ خاصة، أومعناه: يا أيها الذين آمَنوا يوم الميثاق، آمِنوا باللَّه ورسوله اليوم، أو يا أيها الذين آمنوا في العلانية باللسان، اتقوا الله وآمنوا برسوله في السِّر بتصديق القلب. " تَمَّتْ سُورَةُ الحديد "

سورة المجادلة

سُورة المجادَلة 1 - قوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِم مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ. .) قال ذلك هنا، وقال بعده " وَالذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ " لأن الأول خطابٌ للعرب خاصة، وكان طلاقهم في الجاهلية الظهار، والثاني بيان أحكام الظهار للنَّاسِ عامة. 2 - قوله تعالى: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . ختمه هنا بـ " أليمٌ " وبعده بـ " مهينٌ " لأن الأول متَّصل بضدِّه وهو الِإيمان، فتوعَّدهم على الكفر بالعذاب الأليم، الذي هو جزاء الكافرين، والثاني متصل بقوله " كُبِتوا " وهو الإِذلالُ والِإهانة، فوصف العذاب بمثل ذلك فقال " مهين ". 3 - قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلّاَ هُوَ سَادِسُهُمْ. .) الآية. إن قلت: لمَ خصَّ " الثلاثة " و " الخمسة " بالذّكر؟

قلت: لأن قوماً من المنافقين تحلَّقوا للتناجي، وكانوا بعدَّة العدد المذكور، مغايظةً للمؤمنين (1) ، فنزلت الآية بصفة حالهم عند تناجيهم، أو لأن العدد الفرد أشرفُ من الزوج، لأن الله تعالى وترٌ يحبُّ الوتر، فخُصِّص العددان المذكوران بالذّكر، تنبيهاً على أنه لا بدَّ من رعاية الأمور الِإلهية في جميع الأمور، ثم بعدد ذكرهما زيد عليهما ما يعمُّ غيرهما من المتناجين بقوله " وَلَا أَدْنى منْ ذَلِكَ وَلَا أَكثرَ " تعميماً للفائدة. 4 - قوله تعالى: (وَيَحْلِفونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أنهم كاذبون. إن قلتَ: ما فائدةُ الِإخبار عنهم بذلك؟ قلتُ: فائدتُه بيانُ ذمِّهم بارتكابهم اليمين الغموس. " تَمَّتْ سُورَةُ المجادلة "

سورة الحشر

سُورة الحشْر 1 - قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ. .) الآية. قاله هنا بالواو، عطفاً على قوله تعالى " مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ " وقاله بعد بحذفها، لأنه مستأنفٌ عمَّا قبلهِ. 2 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالِإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ. .) " الدَّارَ " أي المدينة اتخذوها منزلاً، فقولُه بعده " وَالِإيمَانَ " منصوبٌ ب " تبوَّءوا " بتضمنه لزموا، أو بمقدَّر أي واعتقدوا "، أو وأخلصوا، أو واختاروا الِإيمان، لأن الِإيمان لا يُتَّخذُ منزلاً، فهو على الثاني من باب " علفتُها تِبْناً وماءً بارداً " أو منصوب بتبوءوا بلا تضمين، على أنه مجازٌ، بجعله منزلاً لهم، لتمكنهم فيه كتمكنهم في المدينة، ففي " تبوَّءُوا " جمعٌ بين الحقيقة والمجاز، وهو جائزٌ عند الشافعي رضي الله عنه.

3 - قوله تعالى: (وَلِئنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلِئَنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ. .) فإن قلتَ: " إنّ " الشرطية إنما تدخل على ما يحتمل وجوده وعدمه، فكيف قال تعالى ذلك، مع إخباره بأنهم لا ينصرون؟ قلتُ: معناه: ولئن نصروهم فَرْضاً وتقديراً، كقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. " لَئِنْ أَشرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ". 4 - قوله تعالى: (لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) أي أشدُّ خوفاً في صدور المنافقين أو اليهود، وظاهرُه لأنتم أشد خوفاً من الله تعالى. فإن قلتَ: إن عُلِّق قولُه " من الله " بأشدَّ، لزم ثبوتُ الخوف للَّهِ وهو مُحال، أو بالرهبة لزم كونُ المؤمنين أشدَّ خوفاً من المذكورين، وليس مراد اً؟ قلتُ: الرهبةُ مصدر " رُهِب " بالبناء للمفعول هنا، فالمعنى أشدُّ موهوبيةً، يعني أنكم في صدورهم أهيبُ من كونِ الله تعالى فيها، ونظيرُه قولُك: زيدٌ أشدُّ ضرباً في الدار من عمرو، يعني مضروبيةً. 5 - قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)

ختمه هنا بقوله " لا يفقهون " وبعده بقوله " لا يعقلون " لأن الأول متصل بقوله " لأنتُمْ أشدُّ رهْبَةً في صدُورِهمْ منَ اللَّهِ " أي لأنهم يفقهون ظاهر الشيء دون باطنه، والفقهُ معرفةُ الظاهر والباطن، فناسب نفيُه الفقه عنهم. والثاني متَّصلٌ بقوله " تَحْسبُهم جَمِيعاً وقلوبُهُمْ شَتَّى " أي لو عقلوا لاجتمعوا على الحقِّ ولم يتفرَّقوا، فناسب نَفيُ العقلِ عنهم. إن قلتَ: كيف يستقيم التفضيلُ بأشدِّيةِ الرهبة، مع أنهم لا يرهبون الله، لأنهم لو رهبوه لتركوا النفاق والكفر؟! قلتُ: معناه أن رهبتَهم في السرِّ منكم، أشدُّ من رهبتهم من الله تعالى، التي يظهرونها لكم، وكانوا يُظهرون للمؤمنين رهبةً شديدةً من الله تعالى. 6 - قوله تعالى: (وَلْتنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ. .) أي: يوم القيامة، وفائدة تنكير النَّفْس، بيانُ أنَّ الأنفس الناظرة في معادها قليلةٌ جداً، كأنه قيل: ولْتنظرْ نفسٌ واحدةٌ في ذلك، وأين تلك النَّفسُ!! وفائدةُ تنكير " الغَدِ " تعظيمُه، وإبهامُ أمره، كأنه قيل: لا تعرف النفسُ كُنْه عَظَمتِهِ وهوله، فالتنكير فيه للتعظيم، وفي النَّفس للتقليل.

فإن قلتَ: الغَدُ اليومُ الذي يعقب ليلتك، فكيف أطلق على يوم القيامة؟ قلتُ: الغَدُ له معنيان: ما ذكرتم، ومطلقُ الزمان والمسقبل، كما أنَ للأمسِ معنييْن مقابلين لما ذكرنا، وقيل: إنما أطلق الغد على يوم القيامة تقريباً له، لقوله تعالى " وما أمرنا إلَّا واحدة كلمح البصرِ " فكأنه لقربه أشبهَ اليومَ الذي يعقب ليلتك. 7 - قوله تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَه خَاشعاً. .) الآية، أي لو جعلنا في جبلٍ - على قساوته - تمييزاً كما في الِإنسانِ، ثم أنزلنا عليه القرآن، لتَشقَّق خشيةً من الله تعالى، وخوفاً ألَّا يؤدي حقه في تعظيم القرآن. والمقصودُ تنبيهُ الِإنسان على قسوة قلبه، وقلَّةِ خشوعه عند تلاوة القرآن، وإعراضِه عن تدبر زواجره. 8 - قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِىُء المُصورُ. .) ، الخالقُ: هو الذي قدَّر ما يوجده، والبارىءُ: هو الذي يُميِّز بعضَه عن بعضٍ بالأشكال المختلفة. وقيلَ: الخالقُ: المبدي، والبارىء: المعيدُ. " تَمَّتْ سُورَةُ الحشر "

سورة الممتحنة

سُورة الممتَحنة 1 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهمْ بالموَدَّةِ) بدأه هنا بـ " تُلْقُونَ " وبعده بـ " تُسِرُّون " تنبيهاً بالأول على ذمِّ مودَّة الأعداء، جهراً وسِرّاً، وبالثاني على تأكيد ذمِّها سرًّا، وخص الأول بالعموم لتقدمه، وباءُ " بالمودَّة " زائدةٌ، وقيل: سببيَّةٌ، والمفعولُ محذوفٌ والتقديرُ: يُلْقون إليهم أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، بسبب المودَّة التي بينكم وبينهم. 2 - قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ. .) قاله هنا بتأنيثِ الفعل مع الفاصل، لقربه وإن جاز التذكيرُ، وأعاده في قوله " لقَدْ كَانَ لكُمْ فيِهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " بتذكيره مع الفاصل، لكثرته وإن جاز التأنيث، وإنما كرَّر ذلك لأن الأول في القول، والثاني في الفعل، وقيل: الأول في إبراهيم، والثاني في محمد - صلى الله عليه وسلم -.

سورة الصف

31 - قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ. .) مستثنى من قوله " أسوة حسنةٌ " وقولُه " وَمَا أملِكُ لكَ من اللَّهِ منْ شيْءٍ " ليس مستثنى، وإِنما ذكر لكونه من تمام قول إبراهيم عليه السلام، كأنه قال: أنا أستغفر لك، وليس في طاقتي إِلاَّ الاستغفار. " تَمَّتْ سُورَةُ الممتحنة " سُوَرة الصَّف 1 - قوله تعالى: (يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) فائدةُ ذكر " قد " التأكيدُ أو التكثيرُ، كما تكون للتقليل.

2 - قوله تعالى: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) إن قلتَ: كيف خصَّ عيسى " أحمد " بالذكر دون " محمد " مع أنه أشهر أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قلتُ: خصَّه بالذّكر لأنه في الِإنجيل مسمَّى بهذا الاسم، ولأن اسمه في السَّماء أحمد، فذُكر باسمه السَّماوي، لأنه أحمدُ النَّاسِ لربه، لأن حمده لربه بما يفتحه الله عليه يوم القيامة من المحامد، قبل شفاعته لأمته، سابقٌ على حمدهم له تعالى، على طلبه الشفاعة من نبيّه - صلى الله عليه وسلم - لهم. 3 - قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إلى الِإسلاَم) قاله هنا بتعريف الكَذب، إشارةً إلى قول اليهود " هَذَا سِحْرٌ مِبين " وقاله في مواضع بتنكيره، جرياً على الأكثر، من استعمال الصدر مُنَكَّراً.

4 - قوله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ. .) اللَّام زائدةٌ للتأكيد في مفعول " يريد " وأصلُهُ يُريدون أن يُطفئوا، كما في براءة، أو تعليلية والمفعولُ محذوفٌ تقديره: يريدون إبطال القرآن ليطفئوا. ا - قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُو بَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ. .) مجزومٌ جواباً للأمر، المأخوذ من " تُؤمنون " أوجواباً للاستفهام في قوله " هَلْ أَدلُّكُمْ على تِجَارةٍ " أو مجزومٌ بشرطٍ مقدَّر أي إن تُؤمنوا يغفرْ لكم. 61 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسىَ أبْنُ مَرْيَمَ) الآية. إن قلتَ: ظاهرهُ تشبيهُ كونهم أنصار الله بقول عيسى عليه السلام " مَنْ أَنْصَاري إِلَى اللَّهِ " وليس مراداً؟! قلتُ: التشبيهُ محمولٌ على المعنى تقديره: كونوا أنصارَ اللَّهِ كما كانَ الحواريون أنصاراً لعيسى حين قال لهم: من أنصاري إلى اللَّهِ؟ " تَمَّتْ سُورَةُ الصف "

سورة الجمعة

سُورَة الجُمُعة 1 - قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَتَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولَاَ مِنْهُمْ) إن قلتَ: ما وجهُ التقييدِ في بعث الرسول، بكونهِ أمّياً منهم؟ قلتُ: مشاكلةُ حاله لأحوالهم، فيكون أقربَ إلى موافقتهم له، أو انتفاء سوء الظنّ عنه، في أنَّ ما دعاهم إليه تعلَّمه من كتب قرأها، وحِكَمٍ تلاها. 2 - قوله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكرِ اللَّهِ) المرادُ بالسعي هنا: القصدُ لا العَدْوُ كقوله تعالى " وأن

سورة المنافقون

ليس للِإنسانِ إلاَّ ما سعى " وقول الداعي: وإليكَ نَسْعَى ونحفِدُ. 31 - قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها. .) فيه حذفٌ تقديره: وإذا رأوا تجارةً انفضُّوا إليها، أو لهواً انفضُّوا إليه، فَحُذِف الثاني لدلالة الأول عليه، وقرأ ابن مسعودٍ: " انفضُّوا إليهما " وعليه فلا حذف. " تَمَّتْ سُورَةُ الجمعة " سُورة المنافِقون 1 - قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) أي في شهادتهم التي يعتقدونها، فالتكذيبُ للشهادة لا للمشهود به. قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبهم) ، " ذلِكَ بأنَّهمْ " أي المنافقين " آمنُوا ثمَّ كَفَرُوا " أي آمنوا بألسنتهم، وكفروا بقلوبهم، ف " ثُمَّ " للترتيب الِإخباري لا الِإيجادي. قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذرْهُمْ) ، " كلّ " مفعول أول ليحسب، و " عليهم " مفعولٌ

ثانٍ له، والتقديرُ: يحسبون كل صيحةٍ واقعةً عليهم، وقولُه " العَدُوُّ " استئنافٌ، وقيل: هو المفعول الثاني ليحسب، وعليه ف " عليهم " حالٌ. 4 - قوله تعالى: (وَلَكِن المُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) ختمه هنا بـ " لَا يَفْقَهُونَ " وبعده " لا يعلمون "، لأن الأول متصل بقول " وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " وفي معرفتها غموض يحتاج إلى فطنة وفقه فناسب نفي الفقه عنهم، والثاني متصل بقوله " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ " وفي معرفتها غموض زائد يحتاج إلى علم، فناسب نفى العلم عنهم، فالمعنى لا يعلمون أن الله معز أولياءه ومذل أعداءه. " تَمَّتْ سُورَةُ المنافقون "

سورة التغابن

سُوَرة التغَابن 1 - قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) ؟ كرَّر " ما " هنا وفي قوله بعدُ " وَيعْلمُ ما تُسِرُّونَ ومَا تُعْلنونَ " تأكيداً وتعميماً للاختلاف، فناسبَ ذكرٌ " ما " فيهما، لأن تسبيحَ ما في السَّمواتِ، مخالفٌ لتسبيح ما في الأرض، كثرةً وقلَّةً، ووقوعاً، من حيوانٍ وجماد، وأسرارُنا مخالفةٌ لعلانيتنا، فناسب ذكرُ " ما " فيهما، ولم يكررها في قوله " يعلمُ ما في السَّمواتِ والأرضِ " لعدم اختلاف علمه تعالى، إذْ علمُه بما تحتَ الأرض، كعلمه بما فوقها، وعلمُه بما يكونُ كعلمِه بما كان، فناسب حذفها فيه. 91 - قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأنَّهُ كَانَتْ تَأْتيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أبَشَرٌ يَهدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) وقولُه " فكفَرُوا وتولَّوْا واسْتَغنَى اللَّهُ " مُرتَّبٌ على قولهِ " ذَلِك بأنه كانتْ تَأْتيهِم رُسُلُهُمْ بالبيِّناتِ ".

فإن قلتَ: ظاهرُه أن استغناءه بعد إتيانِ الرسل بالبيِّنات، مع أنه مستَغْنٍ دائماً؟! قلتُ: معناه ظهر استغناؤه عن إيمانهم، حيث لم يُلجئْهم إليه مع قدرته على ذلك. 3 - قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً. . إلى قوله: أَبَداً) . ذكر مثلَه في الطلاق، لكنْ زادَ هنا " يُكَفِّرْ عنهُ سيّئَاتِهِ " لأن ما هنا تقدّمه " أبَشَرٌ يَهْدوننا " الآيات، وأخبر فيها عن الكفار بسيئاتٍ تحتاج إلى تكفيرِ، فناسب ذكر " يُكفِّر عنه سيئاتِه " بخلاف ما في الطلاق لَم يتقدَّمْه شيءٌ من ذلك. 4 - قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ. .) . إن قلتَ: كيف قال ذلكَ، مع أن الهدايةَ سابقةٌ على الِإيمان؟ قلتُ: ليس المرادُ يهدِ قلبه للِإيمان، بل المرادُ يهده لليقين عند نزول المصائب، فيعلم أنَّ ما أخطأه لم يكنْ ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، أو يهده للرضى والتسليم عند وجود

سورة الطلاق

المصائب، أو للاسترجاع عند نزولها بأن يقول: " إنَّا للَّهِ وإنَّا إليهِ رَاجِعُونَ ". " تَمَّتْ سُورَةُ التغابن " سورة الطلاق 1 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. إن قلتَ: كيف أفردَ نبيَّه بالخطاب، مع أنه جمعه مع غيره عقبها؟! قلتُ: أفرده به أولًا لأنه إمامُ أمَّته، وسادٌّ مسدَّهم، أو معناه: يا أيها النبيُّ قل لأمتك إذا طلقتم النساء أي أردتم طلاق نسائكم فطلقوهن. . الخ. 2 - قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. .) . ذكره ثلاث مرات، وختم الأول بقوله: " يجعلْ له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسبُ ". والثاني بقوله تعالى: " يَجْعلْ لهُ مِنْ أمْرهِ يُسْراً ". والثالث بقوله تعالى: " يُكفِّرْ عنهُ سَيِّئاتِهِ وُيعْظمْ لَهُ أجْراً ".

إشارةً إلى تَعْداد النِّعم المترتِّبة على التَّقوى، من أنَّ اللَّهَ يجعلُ لمن اتَّقاه في دنياه، مَخْرجاً من كُرَب الدنيا والآخرة، ويرزقه من حيث لا يخطُر بباله، ويجعل له في دنياه وآخرته من أمره يُسراً، ويكفِّر عنه فى آخرته سيّئاته، وُيعْظم له أجراً.

4 - قوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . فائدةُ ذكر الغاية فيه، رفعُ توهّم أن النفقةَ تتقيَّدُ، بمضيِّ مقدارِ عدَّة الأقراء، أوأنه إذا طالت مدّة الحملِ، لا تجب النفة من الِإطالة. 5 - قوله تعالى: (سيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) . لا يُنافي قوله " إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً " لأن " مع " بمعنى بعد، وإلَّا فيلزمُ اجتماعُ الضِّدين وهو محال. 6 - قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ..) الآية. إن قلتَ: كيف قال فيها " فَحَاسَبْنَاهَا حسَاباً شدِيداً وعذبناها عَذَاباً نُكْراً " بلفظ المضي، مع أنَّ الحساب والعذاب المرتَّبيْن على العُتوِّ إنما هما في الآخرة؟ قلتُ: أتى بذلك على لفظ الماضي تحقيقاً له وتقريراً، لأن المنتظر من وعدِ الله ووعيده، آتٍ لا محالة، ونظيره قوله تعالى " ونادَى أَصْحَابُ النَارِ ". " تَمَّتْ سُورَةُ الطلاق "

سورة التحريم

سُورة التحريم 1 - قوله تعالى: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) . إن قلتَ: إن كان المرادُ به الفردُ فأيُّ فردٍ هو، مع أنه لا يناسب جمع الملائكةِ بعده؟ أو الجمعُ فهلّاَ كُتِب في المصحف با لواو؟ قلتُ: هو فردٌ أُريد به الجمعُ كقوله تعالى " والمَلَكُ عَلَى أرْجَائِها " وقولهِ " ثُم يُخرجُكُمْ طِفْلاً " أو هو جمعٌ لكنه كُتب في المصحف بغير واو على اللفظ، كما جاءت ألفاظ كثيرةٌ في المصحف على اللفظ، دون إصلاح الخطِّ. 2 - قوله تعالى: (وَالمَلاَئِكَهُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) . وُضِعَ فيه المفردُ موضع الجمع أي ظهراء، أو أن " فعيلًا " يستوي فيه الواحد وغيره كقعيد. 3 - قوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) . الآية.

إن قلتَ: كيف أثبت الخيرية لهنَّ بالصفات المذكورة بقوله " مسلماتٍ " إلى آخره مع اتِّصاف أزواجه - صلى الله عليه وسلم - بها أيضاً؟ قلتُ: المراد " خيراً منكنَّ " في حفظ قلبه، ومتابعة رضاه، مع اتصافهنَّ بهذه الصفات المشتركة بينكنَّ وبينهنَّ. فإن قلتَ: لمَ ذكرَ الواو في " أبكاراً " وحذَفَها في بقية الصفات؟ قلتُ: لأن أبكاراً مباينٌ للثيِّبات، فذكرَ بالواو لامتناع اجتماعهما في ذاتٍ واحدة، بخلاف بقية الصفات، لا تباين فيها فذُكرت بلا واوٍ. فإِن قلتَ: أيُّ مدحٍ في كونهنَّ ثيِّباتٍ؟! قلتُ: الثَّيِّبُ تُمدح من جهة أنها أكثر تجربةً وعقلًا، وأسرعُ حَبَلاً غالباً، والبكرُ تُمدح من جهة أنها أطهرُ وأطيبُ، وأكثر مداعبةً وملاعبةً غالباً. 4 - قوله تعالى: (لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمرُونَ) . فائدةُ ذكره بعد " لا يعصونَ اللَّهَ ما أمرهُمْ " التأكيدُ،

لاتحادهما صدقاً، أو التأسيسُ لاختلافهما مفهوماً، أو المرادُ بالأمر الأول: العباداتُ والطَّاعاتُ، وبالثاني: الأمرُ بتعذيب أهل النَّار. 5 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً. .) . لم يقل نَصُوحةً، لأن " فَعُولًا " يستوي فيه المذكر والمؤنَّث، كقولهم: امرأةٌ صبورٌ وشكور. 6 - قوله تعالى: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) . فائدةُ قوله " منْ عِبَادنا " بعد عبديْنِ، مدحُهما والثناءُ عليهما، بإِضافتهما إليه إضافة التشريف والتخصيص، كما في قوله تعالى " وعبادُ الرحمنِ " وقوله تعالى " فادخلي في عبادي " وفي ذلك مبالغةٌ في المعنى المقصود، وهو أن الِإنسان، لا تنفعه عادةً إلّاَ صلاح نفسه، لا صلاح غيره، وإن كان ذلك الغيرُ في أعلا المراتب. 7 - قوله تعالى: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ) . إن قلتَ: القياسُ من القانتات، فلِمَ عَدَل عنه إلى القانتينَ؟

سورة الملك

قلتُ: رعايةً للفواصل، أو معناه من القوم القانتين. " تَمَّتْ سُورَةُ التحريم " سورَة الملك 1 - قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) . قدَّم الموتَ لأنه هو المخلوق أولًا، لقوله تعالى " وكُنتُمْ أَمْواتاً فأَحياكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ ". 2 - قوله تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوتٍ. .) . أي من خَلَل وعيبٍ، وإلَّا فالتفاوتُ بين المخلوقاتِ، بالصغَرِ والكِبَر وغيرهما كثيرٌ. 3 - قوله تعالى: (فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) . قال بعده: " ثُمَّ ارْجعِ البصَرَكرَّتَيْنِ " قيل: أي مع الكرَّة الأولى، فتصير ثلاث مرَّاتٍ، والمشهورُ أنَّ المراد بهذه التثنيةِ

التكثيرُ، بدليل قوله تعالى " يَنْقَلِبْ إليْكَ البَصَرُ خَاسِئاً " أي ذليلاً " وَهُوَ حَسِيرٌ " أي كليلٌ، وهذان الوصفان لا يتأتَّيان بنظرتين ولا ثلاث، فالمعنى كرَّاتٍ كثيرةً، كنظيره في قولهم: لبَّيْكَ وسعدَيْكَ، وحنانَيْكَ ودوالَيْكَ، وهذا كذلك. 4 - قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) . ليس بتكرار مع قوله تعالى " أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا "، لأن الأول في تخويفهم بخسف الأرض بهم، والثاني في تخويفهم بالحصْبِ من السماء، وقدَّم الأول، لأن الأرض التي جعلها اللهُ مقراً لهم، وعبدوا فيها غيره، أقربُ إليهم من السماء البعيدة عنهم. إن قلتَ: كيف قال: " مَنْ في السَّماءِ " مع أنه تعالى ليس فيها ولا في غيرها، بل هوتعالى منزَّهٌ عن كلَ مكان؟! قلتُ: المعْنى مَنْ ملكوتُه في السَّماء (1) ، التي هي مسكنُ ملائكته، ومحلُّ عرشه وكرسيِّه، واللوحُ المحفوظ، ومنه تنزلُ أقضيتُه وكتُبُه. تَمَّتْ سُورَةُ المُلك "

سورة القلم

سوَرة القَلَم 1 - قوله تعالى: (ن. وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) . يأتي فيهما ما مرَّ في سورة " صَ " لكنَّ جواب القسم هنا مذكورٌ، وهو الجملة المنفية، وفي جوابه يُعرف ممَّا مرَّ ثَمَّ. 2 - قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجودِ) . أي توبيخاً وتعنيفاً لهم على تركه في الدنيا، لا تكليفاً وتعبُّداً، إذْ لا تكليف في الآخرة. 3 - قوله تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ. .) . أي إلى الصلاة " وَهم سَالِمُونَ " أي صحيحون. فإن قلتَ: الصحَّةُ ليست شرطاً في وجوبِ الصلاة؟

سورة الحاقة

قلتُ: المرادُ الخروج إلى الصلاة في جماعةٍ مشروطٌ بالصحة. " تَمَّتْ سُورَةُ القلم " سُورة الحَاقَّة 1 - قوله تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) . إنما لم يقل " صَرْصرَة " كما قال " عاتية " مع أنَ الريح مؤنثة، لأن الصَّرصر وصفٌ مختصٌّ بالريح، فأشبه باب " حائض، وطامث، وحامل " بخلاف عاتية فإنها غير الريح، من الأسماء المؤنثة يُوصف به. 2 - قوله تعالى: (فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلً خَاوِيةٍ) . " فيها " أي في تلك الليالي والأيام، متعلِّقٌ بصرعى لا ب " ترى "، والرؤيةُ علميةٌ لا بصرية، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما أبصرهم

صرعى فيها ولارآهم، فصار المعنى: فتعلمهم صرعى فيها بإعلامنا، حتى كأنك تشاهدهم. " 2 - قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ. . إلى قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) . فإن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن المراد بهذه النفخة " النفخة الأولى " وهي نفخةُ الصَّعْقِ، والعرضُ إنما يكونُ بعد النفخةِ الثانية، وبين النفختيْنِ زمنٌ طويل؟ قلتُ: المرادُ باليومِ: الوقتُ الواسعُ الذي يقع فيه النفختان وما بعدهما. 4 - قوله تعالى: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) . إن قلتَ: كيف عبَّر بأنه يظنُّ ذلك، مع أنه يعلمه؟! قلتُ: الظنُّ مطلقٌ بمعنى العلم، كما في قوله تعالى " الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهمْ ملاقُوا رَبِّهمْ وأَنَّهمْ إليهِ رَاجِعُونَ ". 5 - قوله تعالى: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ

(36) . إن قلتَ: ما التوفيقُ بينه وبين قوله تعالى " لَيسَ لهمْ طَعَامٌ إلّاَ مِنْ ضَرِيعٍ " وفي آخَر " إنَّ شجرةَ الزقُّوم طَعَامُ الَأثيمِ " وفي آخَر " أُوْلئِكَ مَا يَأكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إلّاَ النَّارَ "؟ قلتُ: لا منافاةَ إذْ يجوز أن يكون طعامُهم جميع ذلك، أو أنَّ العذاب أنواعٌ، والمعذبين طبقاتٌ، فمنهم أَكَلةُ غِسلين، ومنهم أَكَلةُ الضَّريع، ومنهم أكلةُ الزقُّومِ، ومنهم أَكَلةُ النَّارِ، لكل بابٍ منهم جزءٌ مقسومٌ. 6 - قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بَقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ. وَلاَ بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) . إن قلتَ: لمَ ختمَ الأُولى بقلَّةِ الِإيمانِ، والثانيةَ بقلَّةِ التذكّرِ؟ قلتُ: لأن من نَسَبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه شاعرٌ، وأنَّ ما أتى به شعرٌ فهو كافرٌ، وأنَّ من نسبه إلى الكَهَانة فإنما نسبه إليها لقلَّةِ تذكُّرِهِ في ألفاظ القرآن، إذْ كلامُ الكهَنَةِ نثرٌ لا شعر، فناسبَ ختمَهُ بقلَّةِ التذكّر، وختمَ الأول بِقلَّةِ الِإيمان. " تَمَّتْ سُورَةُ الحاقة "

سورة المعارج

سورة المعارج 1 - قوله تعالى: (إِنَّ الِإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً) . فسَّرَ " هَلُوعاً " بقوله " إِذَا مسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وإذَا مسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً ". فإن قلتَ: الِإنسانُ في حال خلْقه، لم يكن موصوفاً بذلك؟ قلتُ: " هَلُوعاً " حالٌ مقدَّرةٌ أي مقدَّرٌ في خلقه الهَلَعُ، كما في قوله تعالى " محلِّقينَ رءوسَكُمْ " أي لتدخلنَّ المسجد الحرام مقدرين حلق رءوسكم. 92 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ) . ختمه هنا بقوله " دَائِمونَ " وبعدُ بقوله " يُحَافِظونَ " لأن المراد بدوامهم عليها، ألا يتركوها في وقتٍ من أوقاتها، وبمحافظتهم عليها، أن يأتوا بها على أكمل أحوالها، من

سورة نوح

الإِتيان بها بجميع واجباتها وسُنَنها، ومنها الاجتهادُ في تفريغ القلب عن الوسوسة، والرياء، والسُّمْعةِ. " تَمَّتْ سُورَةُ المعارج " سُورة نوح 1 - (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلً مُسَمَّىً) . خطابٌ لقوم نوحٍ عليه السلام. فإن قلتَ: إن كان المراد تأخيرهم عن الَأجَل المقدَّر أزلاً فهو محالٌ، لقوله تعالى " ولنْ يُؤخِّرَ اللهُ نفْساً إِذَا جَاءَ أجلُهَا " أوتأخيرَهم إلى مجيء أجلهِم المقدَّر، فهم كغيرهم سواءً آمنوا أم لا؟ قلتُ: معناه يؤخركم عن العذاب إلا منتهى آجالكم، على تقدير الِإيمان، فلا يُعذّبكم في الدنيا إن وقع منكم ذنبٌ، كما عذَّب غيركم من الأمم الكافرة فيها، أويؤخر موتكم كأن

قضى الله بتعميركم ألف سنة إن آمنوا، وبخمسمائة سنة إن لم يُؤمنوا. 2 - قوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ. .) أي من الشرك بالتوحيد. 3 - قوله تعالى: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي. .) . قال هنا بلا واوٍ، وقاله بعدُ بواوٍ، لأن الأول استئنافٌ، والثاني معطوفٌ عليه. 4 - قوله تعالى: (وَلَا تَزِدِ الظَّاِلمِينَ إِلّاَ ضَلَالاً) . - ختمه بقوله " ضلالًا " موافقةً لقوله قبلُ " وقد أضلًّوا كثيراً " وختمه بعدُ بقوله " تَبَارا " أي هلاكاً، موافقةً لقوله قبل " لا تذرْ على الأرضِ من الكافرينَ دَيَّاراً ". 5 - قوله تعالى: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافرِينَ دَيَاراً) . إن قلتَ: كيف دعا نوحٌ على قومه بذلك، مع أنه أُرسل إليهم ليهديهم وُيرشدهم؟ قلت: إنما دعا عليهم بذلك، بعد أن أعلمه الله تعالى أنهم لا يُؤمنون.

سورة الجن

6 - قوله تعالى: (وَلاَ يَلِدُوا إِلّاَ فَاجِراً كفَّاراً) من كلام نوح. فإن قلتَ: كيف وصفهم بالفجور والكفر حال ولادتهم، وكيف عرف أنهم لا يلدوا إلا فاجراً كفاراً؟! قلتُ: وصفَهم بما يئولون إليه من الفجور والكفر، وعلمَ ذلكَ بإعلام اللَّهِ إيَّاه. " تَمَّتْ سُورَةُ نوح " سورة الجن قوله تعالى: (وَأنَّهُ لَمَّاقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ. .) . أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما عَدَل عنه إلى " عبدُ اللَّهِ " تواضعاً، لأنه واقع موقع كلامه عن نفسه. " تَمَّتْ سُورَةُ الجن "

سورة المزمل

سُورة المُزَّمِّل 1 - قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلاً) . وصفَ القرآنَ بالثِّقَل، لثِقله بنزول الوحي على نبيِّه، حتى كان يعرَقُ في اليوم الشَّاتي، أو لثقل العمل بما فيه، أو لثقله في الميزان، أو لثقله على المنافقين. 2 - قوله تعالى: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ. .) أي بذلك اليوم لشدته، وإنما لم يُؤنث صفة السماء مع أنها مؤنثة، لأنها بمعنى السقف، تقول: هذا سماءُ البيتِ أي سقفُه، قال تعالى " وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً محفوظاً ". أو لأنها تُذكَّرُ وتُؤنَّثُ، أو جاء " منْفَطِرٌ " على النَّسب أي ذات انفطارٍ، كامرأةٍ مرضعٍ وحائض أي ذاتُ إرضاع وٍ ذاتُ حيضٍ.

3 - قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) . إن قلتَ: إن جُعل " اتَّخَذَ إلى ربّهِ سبيلاً " جواباً فأين الشرطُ؟ أو " شاءَ " لا يصلح شرطاً بدون ذكر مفعوله، أو جعل المجموع شرطاً فأين الجواب؟ قلتُ: معناه فمن شاء النَّجاة اتَّخذ إلى ربه سبيلاً. أوفمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، اتَّخذ إلى ربه سبيلاً، كقوله تعالى " فمنْ شَاءَ فَلْمؤمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيكْفُرْ " أي فمن شاء الِإيمان فلْيؤمن، ومن شاءَ الكفرَفلْيكفرْ. 4 - قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّوَ مِنَ القُرْآنِ. .) أي في الصَّلاة، بأن تُصلُّوا ما تيسَّر من الصَّلاة، بما تيسَّر من القرآن، وهذا يرجع إلى قول بعضهم: إن المراد بـ " اقْرَءُوا " صلُّوا، وإن عبَّر بالقراءة عن الصلاة، التي هي بعضُ واجباتها، فهو من إطلاق " الجزء على الكل " وقوله بعده " فَاقرءُوا ماتَيَسَّر منْهُ " تأكيدٌ، حثّاً على قيام الليل بما تيسَّر. " تَمَّتْ سُورَةُ المزمل "

سورة المدثر

سورة المدثر 1 - قوله تعالى: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) . فائدةُ ذكره بعد قوله " فَذَلِكَ يَوْمئذٍ يومٌ عَسِيرٌ عَلَى الكافرينَ " رفعُ توهُّم أن يُراد بـ " عسير " عسيرٌ يُرجى تيسيره، كما يُرْجى تيسير العُسرِ من أمور الدنيا، وقيل: فائدتُه التوكيدُ. 11 - قوله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كيْفَ قَدَّرَ) . ذكر " قَدَّرَ " ثلاثَ مرَّات، و " قُتِل كيف قَدَّرَ " مرتين، لأن المعنى، أن الوليد فكَّر في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أتى به، وقدَّر ماذا يمكنه أن يقول فيهما، فقال الله " فَقُتِلَ كيفَ قدَّرَ " أي

على أيِّ حالٍ كان تقديرُه، فالتقديرُ الأول مغايرٌ للثاني والثالث، لاختلاف المقدَّر، وقولُه " ثُمَّ قُتل كيفَ قدَّرَ " كرَّره للمبالغة فهو تأكيدٌ، ولزمَ منه أن " قدَّرَ " الثالثَ تأكيدٌ للثاني، وأن " قُتِلَ " الثاني تأكيدٌ للأول، و " ثُمَّ " للدلالة على أن مدخولها أبلغُ ممَّا قبلها. وقيل: المرادُ بالقتل الأول لغوُ الوليدِ وتعذيبُه، فهو مغايرٌ للثاني. 3 - قوله تعالى: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عليها تِسْعَةَ عَشَرَ) . قيل: معناهما واحدٌ، أي لا تُبقي ولا تذرُ للكفَّارِ شيئاً من لحمٍ ولا عَصَب إلّاَ أهلكته، ثم يعودُ كما كان، وقيل: متغايران، أي لا تُبقي لهم لحماً، ولا تذرُ لهم عظماً، أو لا تُبقيهم أحياء، ولا تذرهم أمواتاً. فإن قلتَ: لأيِّ معنى، خصَّ عدد خزنةِ جهنم بـ " تِسْعَةَ عَشَرَ "؟! قلتُ: لأنها موافقةٌ لعدد أسباب فساد النفس الِإنسانية، وهي القُوى " الِإنسانيةُ، والطبيعيةُ " إذِ

سورة القيامة

القُوى الِإنسانيةُ اثنتا عشرة: الخمسةُ الظاهرةُ، والخمسةُ الباطنة، والشهوةُ والغضب. والقُوى الطبيعيةُ سبعةٌ: الجاذبةُ، والماسكةُ، والهاضمةُ، والدافعةُ، والغاذيةُ، والنَّامية، والمولِّدة، والمجموعُ تسعة عشرَ. " تَمَّتْ سُورَةُ المدثر " سُورة القيامَة 1 - قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) أي بقراءة جبريل عليكَ. 2 - قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) . إن قلتَ: الذي يُوصف بالنظر بمعنى الِإبصار، النظرُ بالعينِ لا بالوجه؟

سورة الإنسان

قلتُ: أطلق الوجه فيه وأراد جزءَه، ففي لفظ " وجوهٌ " بالنظر إلى " ناضِرة " و " ناظرة " جمعٌ بين الحقيقة والمجاز، وهو جائزٌ. 3 - قوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) أي أولاك اللَّهُ ما تكره، وكرَّره مراراً بقوله " ثُمَّ أَوْلَى لكَ فأَوْلَى " مبالغةً في التهديد والوعيد، فهو تهديدٌ بعد تهديد، ووعيدٌ بعد وعيد. " تَمَّتْ سُورَةُ القيامة " سورة الإنسان 1 - قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الِإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ. .) وصفَ النطفةَ مع أنها مفردٌ ب " أَمْشَاجٍ " وهو جمعٌ، لأنها في معنى الجمع، كقوله تعالى " مُتَّكِئينَ عَلَى رَفْرفٍ خُضْرٍ " أو بجعلِ أجزائها نُطَفاً، وقيل: " أمشاجٌ " مفردٌ لا جمعٌ،

كبرمةٍ أعشار، وثوبٍِ أخلاقٍ. 21 - قوله تعالى: (نَبْتَليهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فإإن قلتَ: كيف عَطَفَ على " نبْتلِيهِ " ما بعدَه بالفاء، مع أنَّ الابتلاءَ متأخرٌ عنه؟ قلتُ: " نَبْتليهِ " حالٌ مُقدَّرة أي مريدين ابتلاءه حين تأهُّله، فجعلناه سميعاً بصيراً، فالمعطوفُ عليه هو إرادةُ الابتلاء لا الِإبتلاءُ. 22 - قوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآئِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَاكوابٍ. .) ذكرَه بالبناءِ للمفعول، وقال بعدُ " وَيطُوفُ عليهمْ وِلْدانٌ " بالبناء للفاعل، لأن المقصودَ في الأول: ما يطاف به لا الطائفون، بقرينة قوله " بآنيةٍ من فضَّةٍ " والمقصودُ في الثاني: الطائفون، فذكَر في كلٍّ منهما ما يناسُبه. 4 - قوله تعالى: (وَأكوَابٍ كانَتْ قَوَارِيرَا) معناه تكوَّنت لا أنها كانت قبلُ قوارير، فهو من قوله تعالى " كُنْ فيكونُ " وكذا " كانَ مِزَاجُها كَافُورا ". 5 - قوله تعالى: (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً)

إن قلتَ: ما الحكمةُ في تشبيههم باللؤلؤِ المنثور دون المنظوم؟ قلتُ: لأنه تعالى أراد تشبيههم - لحسنهم وانتشارهم في الخدمة - باللؤلؤ الذي لم يُثقب، وهو أشدُّ صفاءً، وأحسنُ منظراً، ممَّا ثُقب، لأنه إذا ثُقب نقص صفاؤه وممائيَّتُه، وما لم يُثقب لا يكون إلا منثوراً. 6 - قوله تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً) . إن قلتَ: أيُّ شرفٍ لتلك الدَّار، معِ أنه سقاهم ذلك في الدنيا، قال تعالى: " وَأَسْقيناكُمْ ماءً فُرَاتاَ " أي عذباً؟ قلتُ: المراد سقاهم في تلك الدار بغير واسطة، وأيضاً فشتَّان ما بين الشرابين، والآنيتيْنِ، والمنزليْنِ. 7 - قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) . - أفادَ بالتعبير بـ " أو " النهيَ عن طاعتهما معاً بالأوْلى، ولو عطَفَ بالواو لأفهم جواز طاعة أحدهما، وليس مراداً.

سورة المرسلات

8 - قوله تعالى: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ. .) أي خلقهم. فإن قلتَ: كيف قال ذلك هنا، وقال في النساء " وَخُلِقَ الإِنسانُ ضَعِيفاً "؟ قلتُ: قال ابن عباسٍ وغيرهُ: المراد به: ضعيفٌ عن الصبر عن النساء، فلذلك أباح الله له نكاح الأمَةِ، وقَالَ الزَجاج: معناه يغلبُه هَوِاه وشهوتُه، فلذلِكَ وُصف بالضعف ومعنى قوله " وشَدَدْنَا أسْرهم " ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، أو المرادُ بالأسر: عَجْبُ الذنب، لأنه لا يتفتت في القبر. " تَمَّتْ سُورَةُ الإِنسان " سُورَة المرُسلات 1 - قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) كُرِّر هنا عشرَ مرَّاتٍ، والتكرار في مقام الترغيب والترهيب مستحسنٌ، لا سيما إذا تغايرت الآياتُ السابقةُ على المرَّات المكرَّرة كما هنا. 2 - قوله تعالى: (هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ. وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ

فَيَعْتَذِرُونَ) إن قلتَ: نفيُ النطق عنهم يدلًّ على انتفاء الْاعتذار منهم، إذِ الِإعتذارُ لا يكونُ إلّاَ بالنًّطق، فما فائدةُ قوله عَقِبه " ولا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتذِرُونَ ". قلتُ: معناه لا ينطقون ابتداءً بعذرٍ مقبول، ولا بعد أن يُؤذنَ لهم في الاعتذار، لو أُذن لهم فيه، إذِ الخائفُ عادةً قد لا ينطق لسانُه بعذرٍ وحجةٍ لخوفه، لكنْ إذا أُذن له فيه نَطَق، ففائدةُ ذلك نفيُ هذا المعنى، أي لا ينطقون ابتداءً بعذرٍ ولا بعد الِإذن. فإن قلتَ: مَا ذُكر يُنافيه ما دلَّ عليه قوله تعالى " يومَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمينَ مَعْذِرتُهم " من وقوع الاعتذار منهم؟ قلت: لا يُنافيه لأن يوم القيامة يومٌ طويلٌ، فيعتذرون في وقتٍ، ولا يعتذرون في آخر، والجوابُ بأن المراد بتلك الآية " الظالمونَ " من المسلمين، وبما هنا " الكافرونَ " ضعيفٌ، لتعقيب تلك الآية بقوله تعالى " ولهُمُ اللَّعْنَةُ ولهمْ سُوءُ الدَّارِ ". " تَمَّتْ سُورَةُ المرسلات "

سورة النبأ

سورة النبأ 1 - قوله تعالى (وكَلاَّ سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) كرره تأكيداً، أو الأول توعُّدٌ للكفَّار بما يرونه عند النزع، والثاني توعُّدٌ لهم بما يصيرون إليه من عذاب الآخرة، أو الأول توعدٌ بأهوال القيامة، والثاني توعدٌ بما بعدها من النار وحرِّها، أو الأولُ ردعٌ عن الاختلاف، والثاني عن الكفر، و " ثُمَّ " للِإشعار بأن الوعيد الثاني أشدُّ. 2 - قوله تعالى (أَلمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً. وَالجِبَالَ أَوْتَاداً) وجهُ اتّصالهِ بما قبلَه، أنهم لما اختلفوا في النبأ العظيم - وهو البعث - ثم أنكروه، نبَّههم اللهُ تعالى بما خلقه وأوجدهُ، على كمال قدرته، وغايةِ قهره، وأن جميعَ الأشياء طوعُ إرادته، وفي مشيئته.

سورة النازعات

3 - فوله تعالى (إِلّاَ حَمِيماً وَغَسَّاقاً. جَزَاءً وفَاقاً) قال ذلك هنا، وقال بعدُ " جزاءً منْ ربِّكَ عَطَاءً حِسَاباً " لأن الأول للكفار، فناسب ذكر " وِفَاقاً " أي جزاءً موافقاً لأعمالهم، كما قال تعالى " وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مثلُها " والثاني للمؤمنين، فناسب ذكرُ " حساباً " أي كافياً وافياً لأعمالهم، من قولك: حسبى أي كفاني. " تَمَّتْ سُورَةُ النبأ " سورة النازعات 1 - قوله تعالى (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً. والنَّاشِطَاتِ نَشْطاً) الواوُ فيه للقَسَم، وجوابه محذوفٌ أي لتبعثن، والمرادُ بالنازعات وما عُطِف عليه: الملائكةُ، وذُكروا بلفظ التأنيث مع أنهم ليسوا إناثاً، لأنه تعالى أقسم بطوائفها، والطائفةُ مؤنثة.

فإن قلتَ: كيف أضاف الأبصارَ إلى القلوب، مع أنها لا تُضافُ إليها؟ قلتُ: فيه حذفُ مضافٍ أي أبصارُ أربابها. " 2 - قوله تعالى (فَأَرَاهُ الآية َ الكُبْرى) هو أي العَصَى واليد. فإن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أنه أراه الآياتِ كلَّها، لقوله تعالى " ولَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنَا كُلَّها " وكلُّ آياتِه كبرى. قلتُ: الِإخبارُ هنا عمَّا أراه له أوَّلَ ملاقاته إيَّاه، وهو العصى، واليد، وأطلق عليهما " الآية الكبرى " لاتحاد معناهما، أو أراد بالكبرى: العصى وحدها، لأنها كانت مقدَّمة على الأخرى. @4 - قوله تعالى (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) أضاف الليلَ إلى السماءِ، مع أنه إنما هو في الأرض، لأنه هو: أول ما يظهر عند الغروب من أُفُق السَّماءِ. 51 - قوله تعالى (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبرَى) أي الداهيةُ العظمى التي تَطمُّ على غيرها، وهي " النفخةُ الثانية "، وخصَّ ما هنا بالطامَّة، موافقةً لما قبله من داهية فرعون، وهي قوله " أَنا رَبُّكُمُ الأَعلَى " ولذلك وُصفت

سورة عبس

الطامةُ بالكبرى، موافقةً لقوله قبلُ " فَأَرَاهُ الآيةَ الكُبرى " بخلاف ما في " عَبَس " لم يتقدّمه شيء من ذلك، فخُصَّت بالصاخَّة، وإن شاركت الطامَّة في أنها النفخة الثانية، لأنها الصوتُ الشديدُ، والصَّوتُ يكون بعد الطمِّ، فناسبَ جعلُ الطمِّ للسَّابقة، والصخِّ للاَحقة، وجوابُ " إذا " قولُه " فأمَّا مَنْ طَغىَ " الخ، وقيل: محذوفٌ تقديره: فإن الجحيم مأواه. " تَمَّتْ سُورَةُ النازعات " سورة عبس 1 - قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) " إِنها " أي الآياتُ، أو السورةُ " فمنْ شَاءَ ذَكَرَه " أي القرآن أو ما ذكر من الآيات. 2 - قوله تعالى: (وَحَدَائِقَ غُلْباً. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) الأبُّ: ما ترعاه البهائم، وقيل: التِّبنُ، وقيل: يابسُ الفاكهة.

سورة التكوير

" 2 - قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاحَّةُ. يَوْمَ يَفرُّ المَرْءُ مِنْ أَخيهِ) . جوابُ " إذَا " محذوفٌ يدلُّ عليه قولُه بعدُ " لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُه يَوْمئذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ". تَمَّتْ سُورَةُ عبس " سورة التكوير 1 - قوله تعالى: (وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ) أي أُوقدت فصارتْ ناراً. قال ذلك هنا، وقال في الانفطار " إذَا البِحَارُ فُجِّرتْ " أي سالت مياهُها على الأرض، فصارت بحراً واحداً، واختلط العذبُ بالملح، موافقةً في الأول لقوله بعده، " سُعِّرتْ " ليقع الوعيد بتسجير البحار وتسعير النار، وفي الثاني لقوله " وإذَا الكواكبُ انتثرتْ " أي تساقطت على الأرض، وصيرورةُ البحار ناراً مسجَّرة، يصيرُ أحدهما في وقت؟ ، والآخرُ في آخر، لطول يوم القيامة.

2 - قوله تعالى: ((وَإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَت. بأيِّ ذَنْبِ قُتِلَتْ) فإِن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن سؤال ما ذُكر إنما يحسُن من القاتل لا من المقتول؟ قلتُ: إنما سُئلت لتبكيتِ قاتلها توبيخه بما يجيب به، فإنها قُتِلَتْ بغير ذنبِ. ونظيره قولُهَ تعالى لعيسى عليه السلام " أَأَنْتَ قلتَ للنَّاسِ اتَّخِذوني وأمّيَ إِلهَيْنِ من دون الله. . ". 3 - قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) أي علمت كلّ نفسٍ، لقوله تعالى: " يومَ تجدُ كلُّ نفسٍ ما عَمِلتْ من خيرٍ محضَراً " الآية. فإن قلتَ: لمَ ختمَ الآية هنا بقوله " مَا أَحْضَرَتْ " أي من خير وشرٍّ، وفي الإِنفطار بقوله " ما قدَّمتْ وأَخَّرتْ " أي ما قدَّمته من الأعمال، وما أخَّرته منها فلم تعمله. (1) قلتُ: رعايةً للمناسبة، إذْ شروط الجواب هنا طالتْ بكثرتها، فحسُن اختصارهُ ليوقف عليه، وشروطُه ثَمَّ قصُرتْ بقلَّتها، فحَسُن بسطُه لتيسُّر الوقف عليه حينئذِ.

سورة الانفظار

سورة الانفِظار 1 - قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَ بِّكَ الكَرِ يمِ) إن قلتَ: ما فائدةُ تخصيص ذكر صفة الكرم، من بين سائر صفاته تعالى؟ قلتُ: فائدتُه اللُّطفُ بعبده، وتلقينُه حجَّتَه وعذره، ليقول: غرَّني كرمُ الكريم. (1) 2 - قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ) . كرَّره تعظيماً للدِّين، وقيل: الأول للمؤمنين، والثاني للكفار.

سورة المطففين

3 - قوله تعالى: (يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً. .) إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن النفوس المقبولة الشفاعة، تملك لمن شفعت فيه شيئاً، وهو الشفاعة؟ قلتُ: المنفيُّ ثبوتُ المُلْك بالسَّلطنةِ، والشفاعةُ ليست بطريق السَّلْطنة، فلا تدخل في النفى، ويؤيده قوله تعالى " والأمْرُ يومئذٍ لِلَّهِ ". " تَمَّتْ سُورَةُ الانفطار " سُورة المطُفِّفين 1 - قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) فإن قلتَ: هلَّا قال: اكتالوا واتَّزَنوا، كما قال في مقابله " وِإذَا كَالُوهُمْ أوْ وَزَنُوهُمْ "؟! قلتُ: لأن المطفّفين كانت عادتُهم، ألاَّ يأخذوا ما يُكال وما يُوزن، إلّاَ بالمكيال، لأن استيفاء الزيادة بالمكيال أمكنُ لهم، وأهونُ عليهم منه بالميزان، وإذا أَعْطَوْا كالوا ووزنوا، لتمكنهم من البخس فيهما.

سورة الانشقاق

11 - قوله تعالى: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كتَابٌ مَرْقُومٌ. . وَمَا أَدْرَاكَ ما عِلِّيُّونَ كتابٌ مَرْقُومٌ) . إن قلتَ: كيف فسَّر " سِجِّيناً " و " عِلِّيينَ " بكتاب مرقوم، مع أن سِجِّيناً اسمٌ للأرضِ السابعة، و " عِلِّيِّين " اسمٌ لأعلى الجنة، أو لأعلى الأمكنة، أو للسماء السابعة، أو لسدرة المنتهى؟! قلتُ: كِتَابٌ مَرْقُومٌ " وصفٌ معنويٌّ لكتاب الفُجَّار ولكتاب الأبرار، لا تفسيرٌ لسجِّين ولعلّيين، والتقديرُ: وهو كتابٌ مرقومٌ. " تَمَّتْ سُورَةُ المطففين " سورة الانشقاق 1 - قوله تعالى: (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) . . جوابُ " إذا " إِن جُعلت شرطية محذوفٌ، تقديره: علمت نفسٌ ما أحضرتْ، أو علمتْ نفسٌ ما قدَّمتْ وأخرت، أو بُعثتم، أو لاقى كلُّ إنسانٌ كدحه، أو مذكورٌ

وهو: يا أيها الِإنسان بتقدير الفاء، أو بتقدير يُقال، أو هو " فملاقيه " أي فأنت ملاقيه، أو هو " فأمَّا مَنْ أُوْتي كتابه " إلى آخره، والعامل فيها بكل تقديرٍ جوابُها. وإن جُعلت غير شرطية فهي منصوبة ب " اذكر " مقدَّراً، أو مرفوعة مبتدأٌ خبرُه " إذا " الثانية بزيادة الواو، أي وقتُ انشقاق السماء وقتُ امتدادِ الأرض. 2 - قوله تعالى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) ، ذكره مرتين، لأن الأول متَّصل بالسماء، والثاني بالأرض، ومعنى " أَذِنَتْ " سمعتْ وأطاعتْ، وحُقَّ لها أن تَسمعَ وتُطيع. 3 - قوله تعالى: (بَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) . قاله هنا بلفظ " يُكذِّبون " وفي البروج بلفظ " في تَكْذِيبٍ " رعايةً للفواصل فيهما. " تَمَّتْ سُورَةُ الانشقاق "

سورة البروج

سورة البرُوج 11 - قوله تعالى: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) . الشاهدُ: يوم الجمعة، والمشهودُ: يومُ عرفة، ونَكَّرهما دون بقيَّة ما أقسم به، لاختصاصهما من بين الأيام، بفضيلةٍ ليست لغيرهما، فلم يجمع بينهما وبين البقية بلام الجنس، وهذا جوابٌ أيضاً عما يُقال: لمَ خصَّهما بالذكر دون بقيةِ الأيام، وإِنما لم يعرَّفا بلام العهدِ، لأن التنكير أدل على التفخيم والتعظيم، بدليل قوله تعالى " وإِلهكمْ إلهٌ واحدٌ ". 2 - قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) هو جواب القَسَم، بحذف اللام أو بحذفها مع " قد " إن جعل خبراً، فإن جعل دعاءً فجوابُ القسم " إنَّ الذِينَ فتَنوا " أو " إنَ بَطْشَ رَبِّكَ لشَديدٌ " أو هو محذوفٌ لتبعثنَّ. " تَمَّتْ سُورَةُ البروج "

سورة الطارق

سورة الطارق 1 - قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) هو جوابُ القسم، و " مَا " مُخفَّفة مزيدة، أو " إنْ " نافية، و" لَمَّا " بالتشديد بمعنى إلَّا. 2 - قوله تعالى: (فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أمْهِلْهم رُوَيْداً) كرَّره تأكيداً، وخُولف بين لفظيْهماطلباً لِلخفَّة. " تَمَّتْ سُورَةُ الطارق " سورة الأعلى 1 - قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) . فإن قلتَ: إنه مأمورٌ بالتذكير، وإن لم تنفع الذِّكر ى؟

قلت: إن معنى " إنْ " هنا " إذْ " كما في قوله تعالى " وأنتمُ الأعلونَ إنْ كنتُمْ مؤمنين " أو التقديرُ: إن نفعت الذِّكرى أو لم تنفع، كلما في قوله تعالى: " سرَابيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ ". " أ - قوله تعالى: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيا) إن قلتَ: كيف قال ذلك، مع أن الحيوان لا يخلو عن الاتِّصافِ بأحدهما؟ قلتُ: معناه لا يموتُ موتاً يستريحُ به، ولا يحياحياةً ينتفع بها، كقوله تعالى " لا يُقْضَى عليهم فيموتوا ولا يُخفَّفُ عنهم منْ عَذَابِهَا " وقيل: معناه تصعدُ نفسُه إلى الحلقوم، ثم لا تفارقه فيموتُ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا، و " ثُمَّ " للتراخي بين الرُّتب في الشدَّة. " تَمَّتْ سُورَةُ الأعلى "

سورة الغاشية

سورة الغاشِيَة 1 - قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبةٌ) قال ذلك هنا، وقال بعده " وجوهٌ يَوْمئِذٍ نَاعِمةٌ " وليس بتكرارٍ، لأن الأول في الكفار، والثاني في المؤمنين، والمرادُ بالوجوه فيهما جميعُ الأبدان، لأنَّ ما ذُكر من الأوصاف، لا يختصُّ بالوجوه، فهو كقوله تعالى " وَعَنَتِ الوجوهُ للحَيِّ القَيُّومِ " أو المرادُ بها الأعيانُ والرؤساءُ، كما يُقال: هؤلاء وجوهُ القومِ، ويا وجهَ العرب. 2 - قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الِإبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ. .) . إن قلتَ: كيف ارتبط هذا بما قبله، وأيُّ مناسبةٍ بين الِإبلِ والمعطوفاتِ عليها حتى جُمع بينهما؟ قلتُ: أما الجوابُ عن الأول، فلأنه لَمَّا وصف الله

تعالى الجنة بما وصف، عجب الكفَّارُ من ذلك، فذكَّرهم غرائب صنعه، ولأنه لَمَّا ذكر ارتفاع سُرُرها. قالوا: كيف نصعدها؟ فنزلت هذه الآية. والمعنى: أفلا ينظرون إلى الإِبلِ نظر اعتبارٍ، كيف خُلقت للأثقال، وحملها إلى البلاد البعيدة، وبروكها لتُحَمَّل، ونهوضها بما حملتْه، وسُخِّرتْ لكلّ من قادها، حتى الصبيِّ الصغير، وأُعطيت الصبرَ على العطش عشرة أيامِ فأكثر، وجُعلتْ ترعى كلَّ نباتٍ في المفاوز، دون غيرها منَ الدوابّ، وإنما لم يُذكر الفيلُ، والزرافةُ، والكدكند وغيرها، مما هو أعظم من الجمل، لأن العرب لم يروا شيئاً من ذلك ولا عرفوه. وأما الجوابُ عن الثاني، فلأنَّ الإِبل كانت أنفسَ أموالهم وأكثرها، وإنما جمع بينها وبين ما بعدها، لأنهما جاءا على وفق عادة العرب، في انتفاعهم بالِإبل أكثر، ولا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب، وذلك بنزول المطر من السماء، فعطفها في الذِّكر على الِإبل، ثم لا بدَّ لهم من حصنٍ يتحصنون به، ولا شيء في ذلك لهم كالجبال،

سورة الفجر

فعطفَها على ما قبلَها، فإذا فتَّش البدويُّ في نفسه، وجد هذه الأشياء حاضرةً عنده على الترتيب المذكور، بخلاف الحضريِّ. " تَمَّتْ سُورَةُ الغاشية " سورة الفجر 1 - قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ. وَلَيَال عَشْرٍ) قسمٌ وجوابه مع ما بعده محذوفٌ، تقديرهُ: لتعذبُنَّ يا كفَارَ مكة، " وليالٍ عشرٍ " أي ليالي عشر ذي الحجة. إن قلتَ: كيف نكَّرها دون بقيَّةِ ما أقسم به؟ قلتُ: لاختصاصها من بين الليالي بفضيلةٍ ليست لغيرها، فلم يُجمع بينها وبين البقيَّة بلام الجنس، وإنَّما لم

تُعرَّف بلامِ العهد، لما مرَّ في سورة البروج. 1 - قوله تعالى: (فَيَقُولُ رَبِّب أكْرَمَنِ) ، إن قلتَ: كيف ذمَّ من يقول " ربِّي أكرمَنِ " مع أنه صادق فيه لقوله تعالى " فأكرمَهُ ونَعَّمه " ومع أنه متحدِّث بالنعمة وهو مأمور بالتحدث بها لقوله تعالى " وأمَّا بنعمةِ ربِّك فحدِّثْ " قلتُ: المرادُ أن يقول ذلك مفتخراً به على غيره، ومستدلاً به على علُوِّ منزلته في الآخرة، ومعتقداً استحقاق ذلك على ربه، كما في قوله تعالى " قال إنما أُوتيتُهُ على عِلْمٍ عندي " وكلُّ ذلك منهيٌ عنه، وأمَّا إذا قاله على وجه الشكر، والتحدّثِ بنعمةِ الله تعالى، فليس بمذمومٍ بل ممدوح. ، 1 - قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ. .) أي أمرُه. (1) " تَمَّتْ سُورَةُ الفجر "

سورة البلد

سورة البَلَد 1 - قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ) أي مكة. إن قلتَ: لم كرَّر لفظ البلد؟ قلتُ: لم يكرّره، إذِ التقديرُ: لا أُقسم بهذا البلد المحرَّم، الذي جُبلت العربُ على تعظيمه وتحريمه " وأنتَ حِلٌّ بهذا البلدِ " أي أُحِلَّ لك فيه من حرماته، ما لم يحلَّ لأحدٍ قبلك ولا بعدك، من قتلِ " ابن خَطَل " وقتال المشركين ساعةً من نهار، فالمرادُ بالبلد الأول الباقي على تحريمه، وبالثاني الذي أحلَّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - إكراماً له، وتعظيماً لمنزلته. 2 - قوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَمهو الوالدُ: آدم، وَمَا وَلَدَ: ذُرّيتُهُ، وقال " وما " ولم يقل " ومَنْ " لأنَّ في " ما " من

سورة الشمس

الإِبهام ما ليس في " مَنْ " فقصد بها التفخيمَ والتعظيم، كأنه تعالى، قال: وأيَّ شيءٍ عجيبٍ غريبٍ وَلَدَ، وئظيرُه قولُه تعالى، " والَّلهُ أَعْلمُ بما وَضَعَتْ ". " تَمَّتْ سُورَةُ البلد " سورة الشمس 11 - قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) نكَّرها دون بقيَّة ما أقسم به. لأنه لا سبيل إلى لام الجنس، الدخلة لنفسٍ غير الإِنسان، مع أنها ليست مرادة، لقوله تعالى " فَأَلْهَمَها فُجُورَهَا وَتَقْوَاها " ولا إلى لام العهد، إذ ليس المرادُ نفساً واحدة معهودة، وبتقدير أنه أُريد بها " آدم " فالتنكير أدلُّ على التفخيم والتعظيم كما مرَّ في سورة الفجر. 11 - قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكاهَا) جوابُ القسم بحذفِ اللام، لطول الكلام، وقيل: جوابه محذوفٌ

سورة الليل

تقديره: لَتُبْعَثُنَّ أو لتُدمَّرُن يا أهل مكَةَ. 3 - قوله تعالى: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) هو " قُدارُ بنُ سالف " وقيل هو: مصدع بن دهر. " تَمَّتْ سُورَةُ الشمس " سُورَة اللَّيْل 1 - قوله تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) جوابُ القسم، وقيل: جوابُه محذوفٌ، كما مرَّ في نظائره السابقة. 2 - قوله تعالى: (لاَ يَصْلاَهَا إِلَّا الأَشْقَى) المراد الشَّقيُّ. " تَمَّتْ سُورَةُ الليل " سورة الضحى 1 - قوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) جوابُ القَسَم.

2 - قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى) أي بحقِّ معالم النبوة، وأحكام الشريعة فهداك إليها، أو ضالاًّ في صِغركَ في شعابِ مكة، فردَّك إلى جدِّكَ عبد المطلب، أو وجدك ناسياً فهداك إلى الذّكر، لأن الِإضلال جاء بمعنى النسيان، كما في قوله تعالى " أَنْ تَضِلَّ إحداهُما فتُذَكِّر إحْدَاهما الأخْرَى " وإنما جَمَعَ بينهما في قوله تعالى " لا يَضِلُّ رَبَي ولا يَنْسَى " لأن الضلال ثَمَّ ليس بمعنى النسيان، بل بمعنى الخطأ أو الغفلة. 13 - قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) أي فقيراً فأغناكَ بما قنَّعك به من الغنيمة وغيرها، لا بكثرة المال، وفي الحديث " ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض وإنما الغنى غنى النفس (1) ". 4 - قوله تعالى: (فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ. وأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَثْهَرْ. وأَمَّا بنِعْمةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) كرَّر فيه " أَمَّا " ثلاث مرَّات، لوقوعها في مقابلة ثلاث آيات مناسباتٍ لها

سورة الشرح

وهي: " أَلمْ يَجدْكَ يَتيماً فآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فأغنى " فقال " فأمَّا اليتيمَ فَلَا تقهرْ " واذكرْ يُتْمكَ، " وأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ " واذكرْ فقرك " وأمَّا بنِعمةِ رَبِّك " التي هي النبوة أو الإِسلام فحدّث واذكرْ ضلالك. " تَمَّتْ سُورَةُ الضحى " سُورة الشرح 1 - قوله تعالى: (أَلمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) إن قلتَ: ما فائدةُ ذكرِ " لَكَ " في ذكر " عَنكَ " فيما بعده، مع أن الكلام تامٌّ بدونهما؟ قلتُ: فائدتُه الِإبهامُ ثم الِإيضاح، وذلك من أثواع البلاغة، فلمَّا قال تعالى " ألَمْ نشْرَحْ لكَ " فُهم أن هناكَ مشروحاً، ثم قال " صَدْرَكَ " فأوضح ما علم بهما، وكذا الكلام في " وَضَعْنَا لَكَ " 2 - قوله تعالى: (فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً. إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً) . إن قلتَ: " مَعَ " للمصاحبة، فما معنى مصاحبةِ العُسر

اليُسْرَ؟ قلتُ: لَمَّا عيَّر المشركون المسلمين بفقرهم، وعدهم الله يُسْراً قريباً، من زمانِ عسرهم، وأراد تأكيدَ الوعد وتسلية قلوبهم، فجعل اليُسر كالمصاحب للعُسْرِ في سرعة مجيئهِ. فإن قلتَ: لمَ ذكرَ ذلكَ مرَّتين بقوله " فإنَّ مع العُسْر يُسْراً. إنَّ مَعَ العُسْرِيُسْراً "؟ قلتُ: لأن معناه فإن مع العُسر، الذي أنت فيه من مقاساة الكفار، يُسْراً في العاجل، إنَّ مع العسر الذي أنت فيه من مقاساتهم يُسْراً في الآجل، فلا تكرارَ، فالعسر واحدٌ، والتعريفُ أولَاَ للجنس وثانياً للعهد، واليُسر اثنانِ بدليل تنكيرهما، والتنكيرُ فيهما للتفخيم والتعظيم، ولذلك رُوي عن عمر وابن عباس وابن مسعود، بل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ " وقيل: كُرِّر ذلك للتأكيد، كما في قوله تعالى " ويلٌ يَوْمَئِذٍ للمكذِّبين " لتعزيز معناه في النفوس، وتمكينه في القلوب، فاليُسْران متحدان كالعسرين. " تَمَّتْ سُورَةُ الانشراح "

سورة التين

سورة التين 1 - قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمً) . قال ذلك هنا: وقال في سورة البلد " لقدْ خَلقْنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ)) ولا منافاة بينهما، لمراعاة الفواصل في السورتين، ولأنَّ معناه هن1 - عند كثير من المفسرين - منتصب القامة، معتدلَها، فيكون في المعنىَ أحسن تقويم، وذلك لا ينافي كونه في كَبَد. 2 - قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إلّاَ الذِينَ امَنُوا. .) الآية إن فُسِّرَ بالردِّ إلى جهنم، فهو سُفْلٌ حقيقيٌّ، والاستثناءُ بعده متَّصلٌ، وعليه فقوله تعالى " فلهمْ أجرٌ غيرُ

سورة العلق

مَمْنونٍ " قائمٌ مقام قوله: فلا نردَّهم أسفل سافلين. أو بالردِّ: إلى أسفل العمر، فهو تسفُّلٌ في الرُّتبِ والأوصاف، بالنسبة إلى رتَب الشباب وأوصافِه، والاستثناء بعده منقطعٌ، وعليه فقوله تعالى " فلهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ " أي غير مقطوعٍ بالهرم والضَّعف، والمعنى: إلاَّ الذِين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ في حال شبابهم وقوتهم، إذا عجزوا بالهرَم عن العمل، كُتب لهم ثوابُ ما كانوا يعملون إلى وقت موتهم. " تَمَّتْ سُورَةُ التين " سُورَة العَلَق 1 - قوله تعالى: (اقْرَا بِاسْم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) أي أوجد القراءة مبتدئاً باسم ربك، و " اقرأْ " الثاني تأكيدٌ له " الَّذِي خَلَقَ " أي الخلائق، وخصَّ قوله " خَلَقَ الِإنسانَ " بالذِّكر، مع دخوله في الأول، لشرفِهِ ونزول

سورة القدر

القرآن إليه، وقولُه " مِنْ عَلَقٍ " لم يقل: من عَلَقة، لأنَّ الِإنسان في معنى الجمعِ، أو رعايةً للفاصلةِ قبله.. 2 - قوله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بالقَلَمَ) مبهمٌ فسَّره بقوله بعده (عَلَّمَ الِإنسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) " تَمَّتْ سُورَةُ العلق " سُورة القَدْر 1 - قوله تعالى: (لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) عَدَل عن الضمير إلى الظاهر في لفظ القدر، تعظيماً لليلته. 2 - قوله تعالى: (مِنْ كلِّ أَمْرٍ) متعلِّقٌ ب " تَنَزَّلُ " و " مِنْ " بمعنى الباء، كما في قوله تعالى " يَحْفَظُونَهُ منْ أمرِ اللَّهِ " وقوله " يُلْقي الرُّوحَ مِنْ أمرِهِ ". " تَمَّتْ سُورَةُ القدر "

سورة البينة

سُورَة البينة 1 - قوله تعالى: (رَسُولٌ مِنَ اللَْهِ) أي من عنده، كما أظهره في قوله " ولما جاءَهُم رسولٌ من عنْدِ اللَّهِ ". 2 - قوله تعالى: (يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً) . إن قلتَ: ظاهره أنه يقرأ المكتوبَ من الكتاب، مع أنه مُنْتفٍ في حقه - صلى الله عليه وسلم - لكونه أُمِّياً؟ قُلتُ: المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلبه. فإِن قلتَ: ما الفرقُ بين الصُّحف والكتُب حتَّى جمع بينهما في الآية؟. قلتُ الصُّحُفِ قراطيس (مطهَّرةٌ) من الشرك والباطل، والكتب بمعنى المكتوبات، أي في القراطيس مكتوبةٌ (قيمة) أي مستقيمة، ناطقةٌ، بالعدل والحقِّ. 3 - قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) ، " أُوتُوا الكِتَابَ " هم اليهودُ

سورة الزلزلة

والنصارى " إلّاَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ " أي محمد - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن. المعنى إنهم كانوا مجتمعين على الِإيمان به إذا جاء، فلمَّا جاء تفرَّقوا، فمنهم من كفر بغياً وحَسَداً، ومنهم من آمن به، كقوله تعالى " وَمَا تَفَرَّقُوا إلّاَ منْ بَعْدِ مَا جَاءَهُم العِلْمُ بَغْياًبينَهُمْ ". " تَمَّتْ سُورَةُ البينة " سورة الزلزلة 1 - قوله تعالى: (إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضق زِلْزَالَهَا) إن قلتَ: لم أضاف الزلزال إلى الأرض، ولم يقل: زلزالًا " كما قال (إذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًا) ؟ قلتُ: ليدُلَّ على أنها زُلزلت الزلزال، الذي تستحقه في حكمته تعالى ومشيئته، في ذلك اليوم، وهو الزلزال الذي ليس بعده زلزالٌ. 2 - قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه. .) الآيتين.

سورة العاديات

ليس بتكرارٍ لأن الأول متَّصلٌ بقوله تعالى " خيْراً يَرَهُ " والثاني متصِلُّ بقوله تعالى " شَرّاً يَرَهُ ". فإن قلتَ: كيف عمَّم فيهما مع أن حسناتِ الكافر محبطةٌ بالكفر، وسيئاتُ المؤمن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر؟ قلتُ: معناه فمن يعمل مثقال ذرَّةٍ من فريق السعداء خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ من فريق الأشقياء شراً يره. " تَمَّتْ سُورَةُ الزلزلة " سُورة العاديات 1 - قوله تعالى: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً. فَاْلمُورِيَاتِ قَدْحاً. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً) أقسم تعالى: بثلاثة أشياء، وجعل جوابها ثلاثةَ أشياء، وهي قوله (إنَّ الِإنسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وإنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشهيدٌ. وإنَّهُ لحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ) 2 - قوله تعالى: (إنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)

سورة القارعة

إن قلتَ: كيف قال ذلكَ، مع أنه تعالى خبير بهم في كلِّ زمنٍ؟ قلتُ: معناه إن ربهم تعالى مجازيهم يومئذٍ على أعمالهم، فتجوَّز بالعلم عن المجازاة، كما في قوله تعالى " أولئِكَ الَّذِين يَعْلمُ مَا في قُلُوبهِمْ " أي مجازيهم على ما فيها. " تمت سووة العاديات " سُورَة القَارعَة قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيةٍ) جَمَع فيه وفيما بعده الميزان مع أنه واحدٌ، باعتبار تعدُّد الموزوناتِ والموزونِ لهم، وقيل: هي جمع موزون. إن قلتَ: كيف قال فيمن خفَّتْ موازينُه " فَأُمُّهُ هَاوِيةٌ " أي فمسكنُه النَّارُ، مع أن أكثر المؤمنين، سيِّئاتهم راجحةٌ على حسناتهم. قلتُ: قوله " فأمُّه هَاوِيةٌ " لا يدلُّ على خلوده فيها، فيسكن المؤمنُ فيها بقدر ما تقتضيه ذنوبُه، ثم يخرج منها إلى الجنة.

سورة التكاثر

وقيلَ: المرادُ بخفَّة الموازينُ خلوُّها من الحسناتِ بالكلّية، وتلك موازين الكفَّار. " تَمَّتْ سُورَةُ القارعة " سُوَرة التكاثر 1 - قوله تعالى: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ علْمَ اليَقِينِ) " كَلاّ " في المواضع الثلاثة، قيل: للرَّدع والزجر عن التكاثر، وقيل: بمعنى حقّا، وقيل: الأوَّلان للردع والزجر، والثالث بمعنى حقاً وهو أشهرها 2 - قوله تعالى: (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ذكره مرتين للتأكيد، أو الأول للقبر، والثاني للقيامة، أو الأولُ للكفار، والثاني للمؤمنين. 3 - قوله تعالى: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقِينِ) جوابٌ " لَوْ " محذوفٌ، تقديره: لو تعلمونَ الأمر يقيناً، لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر.

سورة العصر

4 - قوله تعالى: (لَتَرَوُن الجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِين) أَعاده بقوله " ثمَّ لَتَروُنَّها " تأكيداً، أو الأولُ قبل دخولهم الجحيم، والثاني بعده، ولهذا قال عَقِبه " عَيْنَ اليَقِينِ " أو الأولُ من رؤيةِ العين، والثاني من رؤية القلب. 5 - قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُن يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم) ، يعمُّ المؤمن والكافر، فالمؤمن يُسأل عن شكره النِّعمَة، والكافرُ يُسألُ عنها سؤال توبيخ. " تَمَّتْ سُورَةُ التكاثر " سُورة العصر 1 - قوله تعالى: (إنَّ الِإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) المرادُ بالِإنسان الجنسُ، فالاستثناءُ بعده متَّصل، وقيل: المرادُ به " أبو جهل " فالاستثناء منقطع. 2 - قوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) كرَّره لاختلاف المفعولين. " تَمَّتْ سُورَةُ العصر "

سورة الهمزة

سُوَرة الهُمزة 1 - قوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي كثير الهَمْز واللمْزُ، والهَمْزُ: اللَّمْسُ باليد أو نحوها، واللَّمْزُ: العيبُ، وقيل: هما بمعنى، فالثاني تأكيدٌ للأول، وقيل: الأول المغتابُ، والثاني القتَّاتُ أي النمَّام، وقيل: الأول العيَّابُ في الوجه، والثاني العيَّابُ في القفا، وقيل: الأول يكون بالعين، والثاني باللسان، وقيل عكسه. 2 - قوله تعالى: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدُه) " الَّذِي جَمَعَ مَالاً " بالجرِّ بدلٌ من " كلّ " أو بالنصب بإضمار أذمُّ، أو بالرفع مبتدأٌ خبرُه يحسب. " تَمَّتْ سُورَةُ الهمزة " سُورَة الفِيل 1 - قوله تعالى: (أَلمْ تَرَ كيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الفِيلَ)

سورة قريش

مفعول " ترى " محذوفٌ، لا " كيف " لأنه استفهامٌ، فلا يعمل فيه ما قبله، فهو مفعول فعلٍ بعده. 2 - قوله تعالى: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ) " أَبَابِيلَ " أي جماعاتٍ جماعاتٍ، وقيل: لا واحد له، وقيل: واحدُه إبَّالٌ، وإبَّالةٌ، أو أَبُّولٌ، أو أَبِّيلٌ. " تَمَّتْ سُورَةُ الفيل " سورة قريش 1 - قوله تعالى: (لِإيلَافِ قُرَيْشٍ. إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) إيلافهم الثاني تأكيدٌ للأول، أو بدلٌ منه، واللَّامُ متعلقةٌ ب " جَعَلَهُمْ " من سورة الفيل، لأنهما كالسورة الواحدة، بدليل إسقاط البسملة من بينهما في " مُصْحفِ أُبيٍّ " والمعنى: إنه أهلك أصحابَ الفيل لِإيلاف قريش، وقيل: معناه أعجبوا لِإيلاف قريش، وكان لها في كل سنة رحلتان

سورة الماعون

للتجارة، رحلةٌ في الشتاء إلى اليمن، ورحلةٌ في الصيف إلى الشام. " تَمَّتْ سُورَةُ قريش " سُورة الماعُون 1 - قوله تعالى: (فَوْيَلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتهمْ سَاهُونَ) فإن قلت: كيف توعَّد اللهُ الساهي عن الصلاة، مع أنه غيرُ مؤاخذٍ بالسهوِ، لخبر " رُفع عن أُمتي الخَطأ والنسيانُ "؟ قلتُ: المرادُ بالسهْو هنا: التغافلُ والتكاسلُ عن أدائها، وقلَّةِ الالتفاتِ إليها، وذلك فعلُ المنافقين، أو الفسقة من المسلمين، لا ما يتَّفقُ فيها من السهو بالوسوسة، أو حديث النفس عمَّا لا صُنع للعبد فيه. " تَمَّتْ سُورَةُ الماعون " سُورَة الكوثَر هو نهرٌ في الجنة، أوهو حوضُه - صلى الله عليه وسلم - تَرِدُ عليه أمته، أو هو

سورة الكافرون

الخيرُ الكثيرُ من النبوَّةِ، والقرآن، والشفاعة ونحوها. " تَمَّتْ سُورَةُ الكوثر " سورة الكافرون 1 - قوله تعالى: (وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) لم يقل " مَنْ " مع أنه القياسُ، رعايةً لمقابلهِ " ما " في قوله " مَا تَعْبُدُونَ ". وكرَّر قوله " لا أعبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ " مرتين، لأن الأولى للحال، والثانية للاستقبال، وقيل: لمقابلة سؤالهم مرتين، حيث قالوا يا محمد: تعبدُ آلهتنا كذا مدَّةً، ونعبُدُ إِلهكَ كذا مدَّة. " تَمَّتْ سُورَةُ الكافرون " سورة النصر وتسمَّى سورة التوديع. 1 - قوله تعالى: (إذَا جَاَءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ)

سورة المسد

جواب " إذا " فسبِّحْ، أو محذوفٌ تقديره: حَضر أَجَلك، أي إذا جاء نصرُ اللهِ إيَّاك على من عاداك، حضر أجلك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لما نزلت هذه السورة: نَعَى اللَّهُ إلَيَّ نفسي، وقال الحسنُ: أُعلم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قد اقترب أجلُه، فأُمر بالتسبيح والاستغفار، ليُختم له في عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يُكثر من قوله: " سبْحانك اللهمَّ اغفرْ لي إنَّك أنتَ التَّوَّاب " ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش بعد نزولها سنتين. " تَمَّتْ سُورَةُ النصر " سُورَة المَسد أ - قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ليس بتكرارٍ مع ما بعده، لأنه دعاءٌ، والثاني خبرٌ، فقد تبَّ أي خسر، وقيل: " تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ " أي عملُه " وَتَبَّ " أبو لهب. إن قلتَ: كيف ذكَرهَ اللَّهُ تعالى بكنيتهِ، دون اسمِهِ وهو " عبدُ العُزَّى " مع أنَّ ذلك إكرامٌ واحترامٌ؟ قلت: لأنه لم يشتهر إلاَّ بكنيته، أو لأن ذكره باسمه خلاف الواقع حقيقةً، لأنه عبدُ اللهِ لا عبدُ العزَّى، أو لأنه ذكره بكنيته، لموافقة حاله لها، فإن مصيره إلى النَّارِ ذاتِ

سورة الإخلاص

اللَّهب، وإنما كُنِّي بذلك لتلهُّب وجنتَيْهِ وإشراقهما. " تَمَّتْ سُورَةُ المسد سورة الإخْلاص 1 - قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ) كرَّر لفظ " الله " لتكون الجملةُ الثانيةُ، مستقلةً بذاتها كالأولى، غير محتاجةٍ إلى الأولى. فإن قلتَ: كيف ذكر " أَحَدٌ " في الِإثبات، مع أن المشهور أنه يُستعمل بعد النفي، كما أن الواحدَ لا يُستعمل إلَّا بعد الِإثباتِ، يُقال: فِي الدارِ واحدٌ، وما في الدَّار أحدٌ، ومن ذلك قولُه تعالى " وَإِلهكُمْ إِلهٌ وَاحدٌ " وقولُه " لِلهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ " وقولُه تعالى " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ)

سورة الفلق

أَبَداً " وقولُه " لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ "؟ قلتُ: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا فرق بينهما في المعنى. واختاره أبو عُبيدة، ويؤيده قوله تعالى " فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ "، وعليه فلا يختصُّ أحدهما بمحلٍّ دون الآخر في الِإثباتِ، ويجوز أن يكون العدول عن المشهور هنا، رعاية للفاصلةِ بعدُ. " تَمَّتْ سُورَةُ الإخلاص " سورة الفلق 1 - قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ) ، " مِنْ شرِّ " كرَّره أربع مراتٍ، لأن شرَّ كلٍ منهما غير شرِّ البقيةِ عنها. فإن قلتَ: أَوَّلُها يشمل البقيَّة، فما فائدةُ إعادتها؟ قلتُ: فائدتُها تعظيم شرِّها، ودفعُ توهم أنه لا شرَّ لها لخفائه فيها. فإن قلتَ: كيف عرَّف " النفَّاثات " ونكَّر ما قبلها وما بعدها؟

سورة الناس

قلتُ: لأن كل نفَّاثةٍ لها شرٌّ، وليس كلُّ غاسقٍ وحاسدٍ له شرٌّ، والغاسقُ: الليلُ. " تَمَّتْ سُورَةُ الفلق " سورة الناس 1 - قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسَ. إِلهِ النَّاسَ) الآيات. ذكر فيها الناس خمس مرَّاتٍ تبجيلاً لهم، أو لانفصال كل آية منها عن الأخرى لعدم العاطف، أو المرادُ بالأول الأطفالُ بقرينة معنى " الربوبية ". وبالثاني الشبَّانُ بقرينة ذكر " المَلِك " الدالِّ على السياسة، وبالثالث الشيوخُ بقرينة ذكر " الِإلهِ " الدالِّ على العبادة، وبالرابع الصالحون بقرينة وسوسة الخنَّاس، وهو الشيطان المولع بإِغوائهم، وبالخامس المفسدون بقرينة عطفه على الجِنَّة المتَعوَّذ منهم. فإن قلتَ: لمَ خصَّ النَّاس بالذِّكر في الثلاثة الأولى،

مع أنه تعالى ربُّ كل شيء، وملِكُه، وإِلهُهُ؟ قلتُ: تشريفاً لهم وتفضيلاً على غيرهم. 2 - قوله تعالى: (الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسَ) أي يوسوس في قلوبهم، " مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ " بيانٌ للشيطان الموسوس، فهو جني وإنسيٌّ كقوله تعالى " شَيَاطِينَ الِإنْسِ والجِنِّ ". واعتُرض بأن النَّاس لا يوسوسون في صدور النَّاس، إنما يوسوس في صدورهم الجنُّ، وأُجيب بأن النَّاس يوسوسون في صدور النَّاس أيضاً، بواسطة وسوستهم لهم، بمعنى يليق بهم في الظاهر، حتى تصل وسوستُهم إلى الصدور، والله أعلم. " تَمَّتْ سُورَةُ الناس " وتم بعونه تعالى الكتاب، والحمد لله في البدء والختام.

§1/1