فتح الرحمن بشرح زبد ابن رسلان

شهاب الدين الرَّمْلِي

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة (الكتاب) لغةً: الضم والجمع، واصطلاحاً: اسم لضمٍّ مخصوص، أو لجمة مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول غالباً. و(الطهارة): مصدر طَهَر - بفتح الهاء وضمها، والفت أفصح - يطهُر بضمها فيهما، وهي لغةً: النظافة والخلوص من الأدناس حسية كانت أو معنوية؛ كالعيوب، وشرعاً: زوال المنع المترتب على الحدث أو الخبث، أو الفعل الموضوع لإفادة ذلك، أو لإفادة بعض آثاره كالتيمم؛ فإنه يفيد جواز الصلاة الذي هو من آثار لك، فهي قسمان، ولهذا عرفها النووي وغيره باعتبار القسم الثاني بأنها: رفع حدث، أو إزالة نجس، أو ما في معناهما وعلى صورتهما؛ كالتيمم والأغسال المسنونة، وتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة. (وإنما يصح تطهيرٌ بما ... أُطلق لا مستعملٍ، ولا بما) (بطاهرٍ مخالطٍ تغيَّرا ... تغيراً إطلاق الاسم غيَّرا) (في طعمه أو ريحه أو لونه ... ويمكن استغناؤه بصونه) (واستثن تغييراً بعودٍ صُلْبِ ... أو ورقٍ أو طُحلبٍ أو تُرب) فيها ثلاث مسائل: [لا يصح التطهير إلا بالماء] الأولى: أنه إنما يصح التطهير - أي: في غير الاستحالة والتيمم - بالماء المطلق. وأفاد تعبيره: بـ (إنما) المفيدة للحصر: حصر التطهير في الماء المطلق، وهو كذلك؛ لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً}، وقوله تعالى: {ويُنزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به} ذكر الماس امتناناً، فلو طهر غيره .. فات الامتنان، ولما يأتي. أما في الحديث وهو هنا: أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص .. فلقوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا}، وأما في النجس وهو: مستقذر يمنع صحة الصلاة

حيث لا مرخص .. فلقوله صلى الله عليه وسلم حين بال الأعرابي في المسجد: "صبوا عليه ذنوباً من ماء" رواه الشيخان، والأمر للوجوب. فلو رفع غير الماء .. لم يجب التيمم عند فقده، ولا غسل البول به، ولا يقاس به غيره؛ لأن اختصاص التطهير به عند الإمام تعبد، وعند غيره لما فيه من الرقة واللطافة التي لا توجد في غيره. ودخل في عبارته: تطهير دائم الحدث، والغسلة الثانية والثالثة، والوضوء المجدد، والأغسال المسنونة، وتناول الماء جميع أنواعه بأي صفةٍ من أحمر وأسود، ومنحل من الثلج أو برد، ومنعقد منه ملح أو حجر، وكذا متصاعد من بخار مرتفع من غليان الماء على الأصح؛ لأنه ماء حقيقة وينقص الماء بقدره. وخرج به: ما لا يسمى ماء؛ كتراب التيمم، وحجر الاستنجاء، وأدوية الدباغ والشمس، والريح وغيرها، حتى التراب في غسلات النجاسة المغلظة؛ فإن المطهر لها هو الماء بشرط امتزاجه بالتراب في غسلة منها كما سيأتي في بابها. و(المطلق): ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد وإن قيد لموافقة الواقع؛ كماء البئر والثلج والبرد، فدخل فيه المتغير كثيراً بما لا يؤثر كطين وطحلب، وخرج عنه المقيد بإضافة نحوية كماء الورد، وبصفة كماء دافق؛ أي: مني، وبلام عهد كقوله في الحديث: "نعم إذا رأت الماء" أي: المني. [التطهُّر بالماء المستعمل] الثانية: أنه لا يصح التطهير بالماء المستعمل القليل؛ وهو ما استعمل في فرض من رفع حدث أو إزالة نجس؛ لما سيأتي آخر هذا الكتاب. ومقتضى كلام المصنف: أنه ليس بمطلق، وهو ما صححه النووي في "تحقيقه" وغيره، فلا يحنث بشربه من حلف لا يشرب ماء، ولا يقع شراؤه لمن وكل في شراء ماء,

لكن جزم الرافعي بأنه مطلق، لكنه منع من استعماله تعبداً، وقال النووي في "شرح التنبيه": إنه الصحيح عند الأكثرين. [الماء المتغير بطاهر] الثالثة: أنه لا يصح التطير بماءٍ تغير بطاهر مخالط له تغيراً كثيراً بغيِّر؛ أي: يمنع إطلاق اسم الماء عليه؛ بأن يحدث له اسم آخر حال كون التغير في طعمه أو ريحه أو لونه، ولهذا لا يحنث بشربه من حلف لا يشرب ماء، ولا يقع شراؤه لمن وكل في شراء ماء. وشمل كلامه: التغير الحسي والتقديري؛ كما إذا وقع في الماء ما يوافقه في صفاته؛ كماء مستعمل، أو ماء شجر، أو عرق فلم يغيره، لكنه لو قدر مخالفاً له .. لغيَّره التغير المؤثر، والمعتبر تقديره بالأشياء المتوسطة؛ كلون العصير، وطعم الرمان، وريح اللاَّذَن، فلا يقدر بالأشد؛ كلون الحبر، وطعم الخل، وريح المسك، بخلاف النجس؛ لغلظه. وخرج ما لم يتغير، أو يتغير لا بأحد الأوصاف الثلاثة كالمسخن والمبرد، أو بأحدهما لا بمخالط كالمتغير بما قرب منه، أو بطول المكث، أو بمجاور كدهن وكافور صلب وقطران لم يختلط بالماء، أو بما يخالطه لا غنى للماء عنه كالمتغير بطين، أو طحلب متفتت، أو نورة، أو زرنيخ بمقر الماء أو ممره، أو له عنه غنى وغيَّره يسيراً فكل منها يطهِّر؛ لبقاء إطلاق اسم الماء عليه. وإذا لم يؤثر التغير بالخليط .. جاز استعماله في الجميع؛ لاستهلاكه وبقاء الاسم، وعليه: يلزم تكميل الناقص عن الطهر بالمستهلك إلا أن يجاوز ثمنه ثمن الماء المعجوز عنه. و(المخالط): ما لا يتميز في رأي العين، وقيل: ما لا يمكن فصله، بخلاف المجاور فيهما، وقيل: المعتبر العرف. ثم أمر المصنف المخاطب بأن يستثني من ذلك صوراً: الأولى: المتغير بمجاور تغيراً كثيراً، وقد أشار إليه بقوله: (بِعُودٍ صُلب) فإنه يصح التطهير به؛ لأن تغيره بذلك لكونه تروحاً لا يمنع إطلاق الاسم عليه. الثانية: المتغير بورق شجر تناثر وتفتت ولو كان ربيعيّاً أو بعيداً عن الماء؛ فإن يصح التطهير به؛ لعسر الاحتراز عنه، فإن طرح ولو صحيحاً وتفتت .. ضر؛ لأنه مخالط مستغنىً عنه، أما غير المتفتت .. فمجاور، وقد مر أنه لا يضر.

وخرج بالورق الساقط ونحوها؛ فإنها تضر؛ لإمكان التحرز عنها غالباً. الثالثة: المتغير بما في مقر الماء وممره، وقد أشار ليه بـ (الطُّحلُب) بضم مع ضم اللام وفتحها، فإنه صح التطهير به؛ لتعذر صون الماء عنه. الرابعة: المتغير بالتراب وإن طرح؛ فإنه يصح التطهير به؛ لأنه تغيره به مجرد كُدورة وهي لا تسلب الطهورية، ولموافقته الماء في الطهورية. وكلامهم شامل للتراب المستعمل وهو ظاهر؛ فإن كلاً منهما علة مستقلة؛ إذ الأصل عدم التركيب، وظاهر أنه إن تغير حتى صار لا يسمى إلا طيناً رطباً .. سلب الطهورية، وقد صرح به الرافعي في "الشرح الصغير". وفي تعلق (بماءٍ) بـ (تغيُّراً) تضمين وهو: ألا يظهر معنى البيت إلا بالآخر، وهو عيب في الشعر خلافاً للأخفش، وقس عليه نظائره. والألف في قوله: (تغيراً) و (وغيَّرا) للإطلاق. وقوله: (واستثن) بمعنى: استدرك؛ إذ هو استثناء منقطع، ويمكن أن يجعل منقطعاً فيما عدا الرابعة، متصلاً فيها؛ بناءً على رأي من يجعل التغير فيما عداها سالباً للاسم، وقد مر ما يؤخذ منه أن الراجح خلافه. ومما يستثنى أيضاً: المتغير بملح مائي وإن طرح؛ فإنه يصح التطهير به لانعقاده من الماء كالجمد، بخلاف الملح الجبلي إذا لم يكن في مقر الماء أو ممره. وقول الناظم: (أُطلق) مبني للمفعول، و (ما) من قوله: (ولا بِمَا) موصولة، أو نكرة موصوفة. وقوله: (تُربِ) إحدى لغات التراب. ولما أنهى الكلام على الماء الطهور والطاهر .. ذكر حكم الماء إذا حلت فيه نجاسة حال قلَّته أو كثرته، وبدأ بالأول فقال: (ولا بماءٍ مطلقٍ حلَّته عين ... نجاسةٍ وهو بدون القُلَّتين) (واستثن ميتاً دمه لم يسل ... أو لا يُرى بالطرف لمَّا يحصل)

فيهما مسألتان: [تنجس الماء القليل إذا حلت فيه نجاسة] الأولى: أنه لا يصح التطهير بماء مطلقٍ حلته؛ أي: حلت فيه عين نجاسة والحال أنه دون القلتين وإن كان جارياً ولم تغيره لتنجسه بها؛ لخبر مسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه .. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده"، نهاه عن الغمس خشية النجاسة، ومعلوم أنها إذا خفيت .. لا تغير الماء، فلولا أنها تنجسه بوصولها .. لم ينهه، ولمفهوم خبر أبي داود وغيره، وقال النووي: إنه حسن، والحاكم: إنه صحيح على شرط الشيخين: "إذا بلغ الماء قلتين .. لم يحمل خبثاً"، وفي روايةٍ صحيحةٍ كما قال البيهقي: "لم ينجس"، فمعنى (لم يحمل خبثاً): لم يقبله؛ لهذه الرواية. وخرج بـ (الماء): غيره من المائع وإن كثر، ومن الجامد بتوسط رطوبة .. فإنه ينجس، وفارق كثير الماء كثير غيره بأن كثيرة قوي ويشق حفظه من النجس، بخلاف غيره وإن كثر، فإن بلغ ما تنجس بالملاقاة قلتين بماء ولو طاهراً أو متنجساً .. فهو طهور، وفي بعض النسخ: (وهو دون القلتين). ووصف المصنف الماء بكونه مطلقاً قبل حلولها فيه؛ ليفيد تنجس الماء الطاهر غير الطهور بحلولها فيه بطريق الأولى. [ما يستثنى من تنجس الماء القليل بوقوع النجاسة فيه] والثانية: أمر المصنف المخاطب بأن يستثنى من تنجس الماء القليل بحلول النجاسة فيه مسألتين: الأولى: الميت الذي لا يسيل دمه عند شق جزء منه في الحياة؛ كذباب ونمل ونحل وعقرب وبق وقمل وبرغوث ووزغ، لا حية وضفدع .. فلا ينجس ما حل فيه وإن قل؛ أي: إن لم يطرح فيه ميتاً ولم يغيره كما يفيده كلامه؛ وذلك لخبر البخاري: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم .. فليغمسه كله؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء"، زاد أبو داود: "وإنه

يتقي بجناحه الذي فيه الداء"، أمر بغمسه وقد يفضي إلى موته، فلو نجس .. لما أمر به. وقيس بالذباب ما في معناه مما لا يسيل دمه، فلو شككنا في سيل دمه .. قال الغزالي في "فتاويه": فيمتحن بجنسه فيجرح للحاجة. ولو كان مما يسيل دمه؛ لكن لا دم فيه، أو فيه دم لا يسيل لصغره .. فله حكم ما يسيل دمه، ذكره القاضي أبو الطيب. فإن طرح فيه ميتاً ولو كان نشوؤه منه .. نجسه؛ لندرته؛ لأنه لا يشق الاحتراز عنه، وكذا لو غيره. الثانية: النجس الذي لا يرى بالطرف - أي: البصر - لما يحصل؛ لقلته؛ كرشاش بول أو خمر .. فلا ينجس ما حل فيه؛ لمشقة الاحتراز عنه خلافاً للرافعي، ولو أرى قوي البصر ما لا يراه غيره .. قال الزركشي وغيره: فالظاهر العفو؛ كما في سماع نداء الجمعة، وكالماء في هاتين الصورتين المائع والرطب. ويستثنى أيضاً مسائل: منها: الحيوان غير الآدمي إذا وقع في الماء القليل وعلى منفذه نجاسة وخرج منه حياً .. فإنه لا ينجسه، بخلاف المستجمر؛ فإنه ينجسه. ومنها: اليسير عرفاً من دخان النجاسة، ومن الشعر النجس من غير كلب وخنزير، ومن غبار السرجين. وقول الناظم: (يَحصُل) بكسر اللام للوزن. ثم ذكر القسم الثاني من الماء عاطفاً على قوله: (وهو بدون القلتين) قوله:

(أو قُلتين بالرُّطيل الرَّملي ... فوق ثمانين قريب رطل) (والقلتان بالدِّمشقيِّ ميه ... ونحو أرطالٍ أتت ثمانيه) (والنجس الواقع قد غيره ... واختير في مشمسٍ لا يكره) فيها مسألتان: [الماء الكثير إذا تغير بالنجس الواقع فيه] الأولى: أنه لا يصلح التطهير بالماء الكثير وهو: ما بلغ قلتين والحال أن النجس الواقع فيه قد غيَّره؛ بأن غيَّر طعمه أو لونه أو ريحه تغيراً حسياً أو تقديرياً، يسيراً أو كثيراً، بمخالط أو بمجاور، أو بميتة لا يسيل جمها؛ لتنجسه بالإجماع المخصص لخبر الترمذي وقال: إنه حسن صحيح: "الماء طهور لا ينجسه شيء" كما خصصه مفهوم خبر: (القلتين). وخرج بما ذكره: تغيره بنجاسة بقربه؛ فإنه لا يؤثر. والقلتان بالرطل الرملي - نسبة إلى بلده بالشام -: الذي وزنه ثمان مئة درهم، قريب أحد وثمانين رطلاً. وبالدمشقي على ما صححه الرافعي من أن رطل بغداد مئة وثلاثون درهماً: مئة وثمانين أرطال وثلث رطل، وعلى ما صححه النووي من أنه مئة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم: مئة وسبعين أرال وسبع رطل. وبالبغدادي: خمس مئة رطل. وبالمصري على ما صححه الرافعي: أربع مئة وأحد وخمسون رطلاً وثلث رطل وثلثا أوقية لا أربعة أخماس أوقية كما توهمهم بعضهم، وعلى ما صححه النووي: أربع مئة وستة وأربعون رطلاً وثلاثة أسباع رطل. وبالمساحة في المربع: ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً. وفي بعض النسخ بدل البيت الثاني: (أو قلتين بالدمشقي هيه ... ثمان أرطالٍ أتت بعد ميه)

والماء الجاري وإن كانت جرياته متصلة حساً .. فهي منفصلة حكماً؛ إذ كل جرية طالبة لما أمامها، هاربة مما وراءها، فلو وقع فيها نجس .. فكما لو وقع في ماء راكد، حتى لو كانت قليلة .. تنجست بوصوله إليها وإن بلغت مع ما أمامها وخلفها قلتين؛ لتفاصل أجزاء الجاري؛ فلا يتقوى بعضه ببعض، بخلاف الراكد والجرية إذا بلغ كل منهما قلتين. ولو وقع فيه وهي قليلة نجس جامد: فإن كان موافقاً لجريانها .. تنجست دون ما أمامها وما خلفها، أو واقفاً أو جريها أسرع .. فمحله وما أمامه مما مر عليه نجس وإن طال امتداده إلا أن يتراد أو يجتمع في حفره، وعليه يقال: ماء هو ألف قلة تنجس بلا تغير. والجرية التي تعقب جريه النجس الجاري .. تغسل المحل، ولها حكم الغسالة، حتى لو كانت النجاسة مغلظة .. فلا بد من سبع جريات. [حكم الماء المشمس] الثانية: الماء المشمس؛ أي: ما سخنته الشمس بحدتها بمنطبع؛ أي: مطرق من غير النقدين في قطر حار كمكة .. الأصح: أنه يكره شرعاً تنزيهاً استعماله في البدن طهارة وغيرها حال حرارته إذا وجد غيره؛ لما روى البيهقي: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد سخنت ماء بالشمس: "يا حميراء؛ لا تفعلي هذا؛ فإنه يورث البرص"، ولما روى الشافعي عن عمر: أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال: (إنه يورث البرص). والمعنى: أن الشمس بحدتها تفصل من المنطبع زهومة تعلو الماء فإذا لاقت البدن .. خيف عليه البرص، بخلاف المسخن بالنار؛ لذهاب الزهومة بها. والعلة تقتضي أنه غير الماء من المائعات كالماء، وبه جزم الزركشي، ولو استعمله في طبخ طعام .. كره إن كان مائعاً، وإلا .. فلا، نقله في "المجموع" عن الماوردي والروياني وأقره، وظاهر كلام الجمهور: أنه يكره في الأبرص؛ لزيادة الضرر، وفي الميت؛ لأنه يحترم كما في الحياة. قال البلقيني وغيره: وغير الآدمي من الحيوانات إن كان البرص يدركه كالخيل، أو يتعلق بالآدمي منه ضرر .. اتجهت الكراهة، وإلا .. فلا.

وقد ذكر المصنف: أنه لا يكره استعمال المشمس على المختار؛ أي: عند النووي دليلاً في "روضته" وغيرها، وصححه في "تنقيحه"، وقال في "مجموعة": إنه الصواب الموافق للدليل ولنص "الأم"، والخبر ضعيف باتفاق المحدثين، وكذا الأثر؛ فإنه من رواية إبراهيم بن أبي يحيى، وقد اتفقوا على تضعيفه وجرحوه إلا الشافعي فوثقه، فثبت أنه لا أصل لكراهته، ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء. انتهى. وأجيب بأن دعواه أن الموافق للدليل ولنص "الأم" عدم الكراهة .. ممنوعة، وأثر عمر رواه الدارقطني بإسناد آخر صحيح، على أن الحصر في قوله: "إلا الشافعي فوثقه) .. ممنوع، بل وثقه ابن جريج وابن عدي وغيرهما كما ذكره الإسنوي. وقوله: (ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء) شهادة نفي لا يرد بها قول الشافعي، ويكفي في إثباته قول السيد عمر الذي هو أعرف بالطب من غيره، وتمسكه به من حيث إنه خبر لا تقليد. ومما يكره استعماله: شديد الحرارة والبرودة؛ لمنعه الإسباغ، فإن فقد غيره وضاق الوقت .. وجب، أو خاف منه ضرراً .. حرم كما نبه عليه المحب الطبري، وكل ماء مغضوب عليه كمياه ثمود إلا بئر الناقة، وماء ديار قوم لوط؛ لخسفها، وماء ديار بابل؛ لخبر أبي داود أنها أرض صار كنقاعة الحناء، وماء بئر برهوت؛ لخبر ابن حبان: "شر بئر في الأرض برهوت". (وإن بنفسه انتفى التغير ... والماء - لا كزعفرانٍ - يطهر) فيه مسألتان: [إذا انتفى تغير الكثير بنفسه] الأولى: إذا انتفى تغير الماء الكثير بالنجس؛ بأن لم يدرك بنفسه لا بعين كطول مكث، وهبوب ريح، أو بماء نبع فيه أو صب عليه ولو متنجساً .. طهر؛ لانتفاء علة التنجس وهي التغير، ولا يضر عود تغيره إذا خلا عن نجس جامد.

[إذا انتفى تغير الكثير بعين ساترة] الثانية: إذا زال التغير ظاهراً بعين ساترة له؛ كأن زال بنحو تراب أو جص، أو زال تغير لونه بالزعفران، أو ريحه بالمسك، أو طعمه بالخل .. لم يحكم بطهارته؛ للشك في أن التغير زال أو استتر، بل الظاهر: الاستتار. وقضية العلة: أنه لو صفا الماء ولم يبق به تغير .. طهر، وبه صرح في "المجموع" في التراب، ومثله غيره. (وكلُّ ما استعمل في تطهير ... فرضٍ وقَلَّ ليس بالطَّهور) [الماء المستعمل] فيه مسألة: وهي: أن الماء المستعمل في تطهير فرض من رفع حدث أو إزالة نجس وقد قلَّ .. غير طهور؛ لانتقال المنع إليه، ولأن السلف لم يجمعوه في أسفارهم لاستعماله ثانياً مع احتياجهم إليه وعدم استقذاره في الطهارة، بل عدلوا إلى التيمم. والمراد بـ (الفرض): ما لابد منه أثم بتركه أم لا، فيشمل ما اغتسلت به الكتابية من حيض أو نفاس؛ لتحل لحليلها المسلم، وطهارة الحنفي ولو بلا نية، وطهارة الصبي، وتطهير الوجه قبل بطلان التيمم، وتطهير الخبث المعفو عنه؛ إ ذ هو فرض أصالة، والغسل بدل المسح، وغسل الميت. وخرج بـ (الفرض): الماء المستعمل في النفل؛ كالأغسال المسنونة، وغسل الرجلين في الخف قبل بطلان مسحهما .. فإنه طهور. وخرج بقوله: (وقَلَّ): ما لو بلغ قلتين .. فإنه طهور، ولو انغمس جنب في ماء دونهما، ثم نوى .. ارتفعت جنابته وصار مستعملاً بالنسبة لغيره، ولا يصير مستعملاً بالنسبة إليه حتى يخرج منه، حتى لو أحدث في حال انغماسه .. جاز ارتفاعه به؛ لأن صورة الاستعمال باقية، والماء حال استعماله باقٍ على طهوريته، ولو نوى قبل تمام انغماسه .. ارتفعت جنابة الجزء الملاقي، وله أن يتمم انغماسه وترتفع جنابته، فلو غرف بإناء أو بيده، ثم غسل الباقي .. لم ترتفع جنابته.

ولو انغمس فيه جنبان ونويا معاً بعد تمام الانغماس .. ارتفعت جنابتهما، أو نويا مرتباً .. ارتفعت جنابة الأول لا الثاني، ولو نويا معاً بعد غسل جزء منهما .. ارتفعت جنابة الجزء صار الماء مستعملاً بالنسبة إليهما. والماء حال تردده على عضو ليس بمستعمل بالنسبة إليه، ولو جرى من عضو المتوضئ إلى عضو آخر ولو من يد إلى أخرى .. فمستعمل، ولو انفصل من عضو الجنب إلى عضو آخر .. فالأصح أنه مستعمل، ولو غمس المتوضئ يده في الإناء قبل فراغ الوجه .. لم يصر مستعملاً، وكذا بعده إن نوى الاغتراف، وإلا .. صار مستعملاً، والجنب بعد النية كالمحدث بعد غسل وجهه، ولو غسل كل منهما بما في كفه باقي يده .. أجزأه، بخلاف ما لو غسل به غيرها .. فإنه لا يكفي. * * * ثم لما ذكر تنجس الماء بالنجاسة .. استدعى ذكرها فقال:

باب النجاسة

بابُ النّجاسة أي: وإزالتها. (الباب): اسم لجملة من الكتاب مشتملة على فصول غالباً، و (الفصل): اسم لجملة من الباب مشتملة على مسائل. و(النجاسة): تطلق على الحكم الشرعي الذي هو نقيض الطهارة، وعلى العين النجسة، وهي بهذا الإطلاق لغةً: الشيء المستقذر، وشرعاً: كل عين حرم تناولها على الإطلاق في حالة الاختيار مع سهولة تمييزها، لا لحرمتها، ولا لاستقذارها، ولا لضررها في بدن أو عقل. فاحترز بـ (الإطلاق) عما يباح قليله؛ كبعض النباتات السمية، وبـ (حالة الاختيار) عن حالة الضرورة، فيباح فيها تناول النجاسة، وبـ (سهولة تمييزها) عن دود الفاكهة ونحوها، فيباح تناوله معها، وهذان القيدان للإدخال لا للإخراج، وبالبقية عن الآدمي، وعن المخاط ونحوه، وعن الحشيشة المسكرة، والسم الذي يضر قليله وكثيره، والتراب؛ فإنها لم يحرم تناولها لنجاستها، بل لحرمة الآدمي، واستقذار المخاط ونحوه، وضرر البقية. وعرفها المصنف بالعدِّ؛ ليعلم طهارة غيره على الأصل فقال: (المُسكِر المائع، والخنزير ... والكلب مع فرعيهما، والسُّؤر) قوله: (المُسكِر) وما عطف عليه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي؛ أي: النجاسة. وقد أفاد كلامه نجاسة أمور: [نجاسة المسكر المائع] الأول: المسكر المائع؛ كنبيذ وخمر ولو مستحيلة في الحبات ومحترمة، وهي: ما عصر لا بقصد الخمر، أما الخمر .. فتغليظاً وزجراً عنها؛ كالكلب، ولقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ}، والرجس شرعاً: هو النجس، خرجت الثلاثة المقرونة بها بالإجماع، فبقيت هي على النجاسة، وأما النبيذ .. فقياساً على الخمر؛ بجامع الإسكار بمائع.

وخرج بـ (المائع): البنج والحشيشة ونحوهما؛ فإنها حرام وليست بنجسة، وذهب جمع إلى أنها مخدرة لا مسكرة، ولا ترد عليه الخمر المنعقدة ولا الحشيشة المذابة نظراً إلى الأصل فيهما. [نجاسة الخنزير] الثاني: الخنزير؛ لأنه أسوأ حالاً من الكلب؛ لأنه لا يقتني بحال، ولأنه مندوب إلى قتله من غير ضرر فيه، ومنصوص على تحريمه. [نجاسة الكلب] الثالث: الكلب ولو معلماً؛ لخبر "الصحيحين": "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم .. قليرقه، ثم ليغلسه سبع مرات"، ويخبر مسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب .. أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". وجه الدلالة: أنه لو لم يكن نجساً .. لما أمر بإراقته؛ لما فيها من إتلاف المال المنهي عن إضاعته، ولأن الطهارة: إما عن حدث أو خبث، ولا حدث على الإناء فتعينت طهارة الخبث، فثبتت نجاسة فمه وهو أطيب أجزائه، بل هو أطيب الحيوان نكهة؛ لكثرة ما يلهب فبقيتها أولى، وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم فأجاب، ثم دعي إلى دار أخرى فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال: "إن في دار فلان كلباً"، قيل: وإن في دار فلان هرة؟ ! فقال: "الهرة ليست بنجسة" رواه الدارقطني والحاكم. وإراقة ما ولغ فيه .. واجبة إن أريد استعمال الإناء، وإلا .. فمستحبة كسائر النجاسات إلا الخمر غير المحترمة فتجب إراقتها؛ لطلب النفس تناولها. [نجاسة فرع الكلب والخنزير] الرابع: الفرع لكل من الكلب والخنزير مع الآخر، أو مع حيوان طاهر تبعاً لأصله وتغليباً للنجاسة، وعلله في "المهذب" بأنه مخلوق من النجاسة فكان مثلها، قال في "شرحه": ولا ينتقض بالدود بالمتولد منها؛ لأنا نمنع أنه خلق من نفسها، وإنما تولد فيها كدود الخل

لا يخلق من نفس الخل، بل يتولد فيه، قال: ولو ارتضع جديٌ كلبةً أو خنزيرةً فنبت لحمه على لبنها .. لم ينجس على الأصح. والفرع يتبع الأب في النسب، والأم في الرق والحرية، وأشرفها في الدين، وإيجاب البدل وتقرير الجزية، وأخفهما في عدم وجوب الزكاة، وأخسهما في النجاسة، وتحريم الذبيحة والمناكحة. الخامس: السؤر - بالهمزة ويبدل واواً -: البقية؛ أي: بقية الكلب والخنزير وفروعهما؛ كعظم وشعر ودم وبول، ودمع وعرق وسائر فضلاتها؛ لأن ما انفصل من نجس العين .. فهو نجس، وقيل: السؤل فضله الشرب. (وميتةٌ مع العظام والشعر ... والصوف، لا مأكولةٌ ولا بشر) أفاد كلامه أموراً: [ناسة الميتة] الأول: نجاسة الميتة وإن لم يسل دمها؛ لقوله تعالى: {حُرِّمت عليكم الميتة}، وتحريم ما ليس بمحترم ولا مستقذر ولا ضرر فيه .. يدل على نجاسته، و (الميتة): ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية. [نجاسة عظم الميتة وشعرها وصوفها] الثاني: نجاسة عظمها وشعرها وصوفها؛ لأن كلاً منها تحله الحياة، ولأن العظم جزء النجس، والشعر والصوف متصلان بالحيوان اتصال خلقه فكان كالأعضاء، وكالعظم: الظلف والظفر والحافر والقرن، ومثل الشعر والصوف: الوبر والريش. [طهارة الميتة المأكولة] الثالث: طهارة الميتة المأكولة من سمك وجراد وجنين مذكاة، وصيد لم تدرك ذكاته، وبعير نادٍّ مات بالسهم؛ لقوله تعالى: {أُحِل لكم صيد البحر وطعامه}، ولقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" رواه الترمذي وغيره وصححوه، ولخبر

"الصحيحين" عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد)، وصح عن ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال"، وهو في حكم المرفوع، بل رفعه ابن ماجه وغيره، ولكن بسند ضعيف، ولخبر بن حبان وصححه: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، وفي "الصحيحين": "إذا أرسلت كلبك وسميت، وأمسك وقتل .. فكل، وإن أكل .. فلا تأكل؛ فإنما أمسك على نفسه"، وفيهما أيضاً من رواية رافع بن خديج: أن بعيراً ندَّ فرماه رجل بسهم فحبسه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم .. فاصنعوا به هكذا". على أن الجنين والصيد والبعير ليست ميتة، بل جعل الشارع هذا ذكاتها؛ ولهذا صرح في خبر الجنين بأنه مذكى وإن لم تباشره السكين، ذكره في "المجموع". [طهارة ميتة البشر] الرابع: طهارة ميتة البشر، سواء أكان مسلماً أم كافراً، لخبر الحاكم وصححه على شرط الشيخين: "لا تنجسوا موتاكم؛ فإن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً"، ولقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم}، وقضية تكريمهم: ألا يحكم بنجاستهم بالموت، وأما قوله تعالى: {إنما المشركون نجسٌ} .. فالمراد به: نجاسة الاعتقاد، أو اجتنابهم كالنجس لا نجاسة الأبدان؛ ولهذا: (ربط النبي صلى الله عليه وسلم الأسير الكافر في المسجد)، وقد أباح الله تعالى طعام أهل الكتاب. واعلم: أن فضلة الحيوان على قسمين: أحدهما: ما له اجتماع واستحالة في الباطن كالدم، وهو نجس من مأكول اللحم وغيره إلا ما استثنى.

ثانيهما: ما ليس كذلك، بل يرشح رشحاً، كالعرق والدمع واللعاب والمخاط، وهو طاهر من الحيوان الطاهر، نجس من النجس، وسيأتي في كلامه الإشارة إلى القسم الثاني، وقد ذكر من القسم الأول أموراً فقال: (والدَّم، والقيء، وكل ما ظهر ... من السبيلين سوى أصل البشر) أفاد كلامه أموراً: [نجاسة الدم المسفوح] الأول: نجاسة الدم المسفوح ولو من سمك وجراد، أو متحلباً من كبد وطحال؛ لقوله تعالى: {أو دماً مسفوحاً} أي: سائلاً، ولقوله صلى الله عليه وسلم في دم الاستحاضة: "فاغسلي عنك الدم وصلي" رواه الشيخان. وأما الكبد والطحال والدم المحبوس في ميتة السمك والجراد والجنين .. فطاهرة، وكذلك المني واللبن إذا خرجا على هيئة الدم، والدم الباقي على اللحم وعظامه نجس معفو عنه؛ لأنه من الدم المسفوح وإن لم يسل لقلته، ولعله مراد من عبر بطهارته. [نجاسة القيء] الثاني: نجاسة القيء؛ لأنه من الفضلات المستحيلة، وسواء أتغير أم لا على الأصح. [نجاسة ما خرج من السبيلين] الثالث: نجاسة كل ما خرج من السبيلين؛ أي: القبل والدبر أو أحدهما مما له اجتماع واستحالة في الباطن؛ كبول وروث، ولو من سمك وجراد ومأكول اللحم، وعذرة ومذي وودي، ونجاسة بعضها بالنص، وبعضها بالإجماع، وبعضها بالقياس. وأما أمره صلى الله عليه وسلم في خبر العرنيين بشرب أبوال الإبل .. فللتداوي، وهو جائز بالنجاسات غير الخمر. ولو أكلت بهيمة حباً ثم ألقته صحيحاً؛ بحيث لو زرع لنبت .. فطاهر العين؛ كدود خرج من فرج، وإلا .. فنجسها.

قال في "المجموع": والماء السائل من فم النائم؛ إن كان من معدته كأن خرج منتناً بصفرة .. فنجس، أو من اللهوات كأن انقطع عند طول النوم .. فطاهر، وكذا إن شك، وقياس المذهب: العفو عمن عفت بلواه به؛ كدم البراغيث، قال: وسألت الأطباء عنه فأنكروا كونه من المعدة. ثم استثنى المصنف من ذلك: أصل البشر من منيه وعلقته ومضغته، فإنه طاهر؛ تكرمة له، ولأنها مبدأ خلقه كالتراب، وفي "مسلم" عن عائشة رضي الله عنها: (كنت أفرك المني من ثور رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه)، وفي رواية لابني خزيمة وحبان في "صحيحهما": (وهو يصلي)، وما ورد من أنها كانت تغسله .. حملوه على الندب. وما أفاده كلامه من نجاسة مني غير الآدمي من كل حيوان طاهر: تبع فيه كـ"أصله" ترجيح الرافعي، والأصح عند النووي: طهارته؛ لأنه أصل حيوان طاهر فأشبه أصل الآدمي. والأصح: طهارة العلقة والمضغة، ورطوبة الفرج من كل حيوان طاهر. (وجزء حيٍّ - كَيَدٍ مفصول - ... كميتة، لا شعر المأكول) (وصوفه وريشه وريقته ... وعرقٌ والمسك ثم فأرته) فيهما أربع مسائل: [حكم ما انفصل من الحيوان حال حياته] الأولى: الجزء المنفصل من الحيوان حال حياته حكمه كحكم ميتته؛ إن طاهرة .. فطاهر، وإن نجسة .. فنجس؛ كاليد المنفصلة من الحيوان؛ فهي طاهرة من الآدمي نجسة من غيره؛ لخبر: "ما قطع من حي .. فهو ميت" رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين،

فجزء البشر والسمك والجراد طاهر دون جزء غيرها. وقوله: (مفصول) فيه تذكير اليد على تأويلها بنحو الجزء، وإلا .. فهي مؤنثة. وقوله: (كميته) ليست هاؤه للتأنيث، بل هي ضمير أضيف إليه (ميت) بفتح الميم وإسكان الياء. [حكم شعر المأكول وصوفه وريشه إذا انفصل في حياته] الثانية: شعر المأكول وصوفه وريشه ووبره المنفصلات حال حياته .. ليست كميتة في النجاسة، بل هي طاهرة؛ لعموم الحاجة إليها، ولقوله تعالى: {ومن أصوافها} الآية، وهي مخصصة للخبر المتقدم، وما على العضو المبان من شعر ونحوه .. نجس كما يؤخذ من كلامه؛ لأنه شعر العضو والعضو غير مأكول. [حكم ما يرشح من الحيوان] الثالثة: ما ليس له اجتماع واستحالة في الباطن، بل يرشح رشحاً، كالريق والعرق والدمع والمخاط .. طاهر من الحيوان المأكول، وكذا من كل حيوان طاهر، نجس من غيره. [حكم المسك وفأرته] الرابعة: المسك وفأرته - بالهمزة وتركه - طاهران إذا انفصلا حال حياة الظبية؛ لخبر: "المسك أطيب الطيب"، وفي "الصحيحين": (أن وبيص المسك كان يرى من مفرقه صلى الله عليه وسلم)، ولانفصال الفأرة بالطبع كالجنين، ولئلا يلزم نجاسة المسك، وهي: خراج بجانب سرة الظبية كالسلعة فتحتك حتى تلقيها، أما إذا انفصلا بعد الموت .. فنجسان كاللبن، وفارقا بيض الميتة المتصلب بنموه بعد الموت بخالفهما. وعلم من حصره النجاسة فيما ذكره: طهارة العنبر؛ كما نص عليه في "الأم" وغيرها، وطهارة الزباد كما صوبها في "المجموع".

(وتطهر الخمر إذا تخللت ... بنفسها وإن غلت أو نقلت) (وجلد ميتةٍ - سوى خنزير بر ... والكلب - أن يُدبغ بحرِّيفٍ طهر) أفاد كلامه: أن نجس العين يطهر في صورتين: [طهارة الخمر إذا تخللت بنفسها] الأولى: الخمر ولو غير محترمة إذا تخللت بنفسها؛ أي: صارت خلاً بلا مصاحبة عين؛ لمفهوم خبر مسلم عن أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتخذ الخمر خلاً؟ قال: "لا"، وروى البيهقي عن عمر: أنه خطب فقال: (لا يحل خل من خمر أُفسدت حتى يبدأ الله إفسادها)، ولزوال الشدة من غير نجاسة خلفتها. و(أفسدت) بضم الهمزة؛ أي: خللت، و (يبدأ إفسادها) بفتح الياء أي: يجعلها خلاً بلا علاج آدمي، وحيث حكم بطهارتها .. حكم بطهارة دِنِّها تبعاً لها؛ للضرورة وإلا .. لم يوجد خل طاهر من خمر، وإن غلت الخمر فارتفعت إلى رأي الدِّن، ثم عادت إلى أسفل وتخللت .. حكم بطهارة ما ارتفعت فيه من الدن؛ للضرورة. قال البغوي في "فتاويه": اما إذا ارتفعت بفعله .. فلا يطهر الدن؛ إذ لا ضرورة، وكذا الخمر؛ لاتصالها بالمرتفع النجس، أو نقلت من ظل إلى شمس، أو عكسه، أو بفتح رأي الدن؛ استعجالاً للحموضة .. فإنها تطهر؛ لأن الفعل الخالي عن العين لا يؤثر؛ بناء على أن علة بقاء نجاستها تنجسها بالعين كما سيأتي، لا تحريم التخليل الدال عليه الخبر والأثر السابقان. أما إذا تخللت بمصاحبة عين طرحت فيها، أو وقعت فيها بنفسها حال الخمرية أو قبلها وإن لم تؤثر في التخليل ك حصاة وماء .. فلا تطهر؛ لتنجسها بعد تخللها بالعين التي تنجست بها، ولا ضرورة، بخلاف الدِّن. قال البغوي في "فتاويه": ولو نقلت من دن إلى آخر .. طهرت بالتخلل، بخلاف ما لو أخرجت منه ثم صب فيه عصير فتخمر ثم تخلل .. لا يطهر.

ومفهوم كلامهم: أنها تطهر بالتخلل إذا نزعت العين منها قبله، وهو كذلك، إلا أن تكون العين المنزوعة نجسة كعظم ميتة .. فإنها لا تطهر؛ بناء على أن النجس يقبل التنجس، وهو الأصح. وتعبيره بـ (الخمر): يخرج النبيذ كالمتخذ من التمر والزبيب؛ فإنه لا يسمى خمراً حقيقة عند الأكثرين كما قاله الشيخان في (الأشربة)، وقد صرح القاضي أبو الطيب في كتاب "الرهن" بأن النبيذ لا يطهر بالتخلل؛ لتنجس الماء به حال الاشتداد فينجسه بعد انقلابه خلاً، وأقره عليه في "المطلب"، لكن يؤخذ من كلام البغوي أنه يطهر؛ لأن الماء من ضرورته فإنه قال: لو ألقى الماء في عصير العنب حالة عصره .. لم يضر بلا خلاف؛ لأن الماء من ضرورته. انتهى. ومراده بعصير العنب: العنب الذي اعتصر ماؤه؛ بقرينة قوله: حالة عصره؛ غذ يحتاج في استقصاء عصره إلى صب ماء عليه؛ لإخراج ما يبقى فيه، فالماء من ضرورته، وما أفاده كلام البغوي من الطهارة اختاره السبكي وغيره، وهو الأصح، وبه أفتيت، بل هو الذي جرى عليه الشيخان وغيرهما في (السلم) حيث جزموا بصحة السلم في خل التمر والزبيب. وقول المصنف: (غلت) بالغين المعجمة أو المهملة. [طهارة جلد الميتة بالدباغ] الثانية: الجلد الذي تنجس بالموت .. يطهر ظاهره وباطنه بالدباغ، وهو: نزع الفضلات كالدم واللحم بحريف طاهر أو نجس كقرظ وذرق طير؛ بحيث لو نقع الجلد في ماء .. لم يعد إليه النتن؛ لخبر مسلم: "إذا دبغ الإهاب .. فقد طهر"، وخبر أبي داود وغيره بإسناد حسن: أنه عليه الصلاة والسلام قال في شاة ميتة: "لو أخذتم إهابها" قالوا: إنها ميتة؟ ! فقال: "يطهرها الماء والقرظ"، ورووا أيضاً بإسناد حسن: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نستمتع بجلود الميتة إذا دبغت).

وخرج بـ (الجلد): الشعر، فلا يطهر؛ لعدم تأثره بالدبغ، قال النووي: ويعفى عن قليله. أما جلد الكلب والخنزير وفروعهما .. فلا يطهر بالدبغ؛ لأن سبب نجاسة الميتة تعرضها للعفونة، والحياة أبلغ في دفعها، فإذا لم تفد الطهارة .. فالدبغ أولى. وخرج بـ (الدبغ): تجميده وتمليحه وتشميسه ونحوها؛ فإنها لا تطهره، وأفهم كلامه: أنه لا يجب الماء في أثناء الدبغ وهو الأصح؛ لأنه إحالة كالتخليل لا إزالة، ولهذا جاز بالنجس المحصل لذلك، وأما خبر: "يطهرها الماء والقرظ" .. فمحمول على الندب، أو الطهارة المطلقة؛ إذ يجب غسله بعد دبغه؛ لتنجسه بالدابغ النجس أو المتنجس بملاقاته. والتعبير بـ (الدبغ) جرى على الغالب فإنه لو وقع الجلد في مدبغة فاندبغ .. طهر؛ لحصول الغرض؛ إذ الفعل ليس بواجب. وعلم من الاقتصار على هذين الشيئين: أن غيرهما من نجس العين .. لا يطهر وهو كذلك، حتى لو صار النجس ملحاً بوقوعه في مملحة أو رماداً أو دخاناً بالنار .. لم يطهر، ولا ترد طهارة المني واللبن والمسك؛ لأن أصلها لا يحكم عليه بالنجاسة ما دام في الجوف ما لم يتصل بخارج. وقال الناظم: (أن يدبغ) بدرج الهمزة للوزن. (نجاسة الخنزير مثل الكلب ... تُغسل سبعاً مرةً بترب) لما أنهى الكلام على نجس العين .. ذكر المتنجس وهو على ثلاثة أقسام: ما نجاسته مغلظة، أو متوسطة، أو مخففة. [حكم النجاسة المغلظة وكيفية إزالتها] فالنجاسة المغلظة: نجاسة الكلب والخنزير وفرع أحدهما، فيجب غسلها سبع مرات إحداهن بالتراب الممزوج بالماء؛ لخبر مسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب .. أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب"، وفي رواية صحيحة للترمذي: "أولاهن أو أخراهن

بالتراب"، وفي أخرى لمسلم: "وعفروه الثامنة بالتراب". والمراد: أن التراب يمزج بالسابعة؛ كما في رواية أبي داود: "السابعة بالتراب"، وهي معارضة لرواية: "أولاهن" في محل التراب، فتتساقطان في تعيين محله، ويكتفى بوجوده في واحدة من السبع؛ كما في رواية الدارقطني: "إحداهن بالبطحاء"، ولكنه يسن في غير الأخيرة، والأولى أولى؛ ليستغنى عن ترتيب ما يصيبه شيء من الغسلات. وقس بالكلب: الخنزير وفرعهما، وقد أشار إليه المصنف بقوله: (مثل الكلب)، وبولوغه: غيره كبوله وعرقه، ولو جرى الماء الكدر على المتنجس بذلك سبع جريات، أو تحرك سبعاً من ماء كثير كدر .. طهر كما قاله البغوي وغيره. وأفهم كلام المصنف: أن السبع كافية لذلك ولو أصابه نجس آخر، وأنه لا يكفي ذر التراب على المحل، ولا مزجه بغير ماء إلا أن يمزجه بالماء بعد مزجه بذلك، ولا مزج غير التراب، وأنه لا تقول زيادة الغسلات مقام التراب وهو كذلك، ولا يكفي مزج تراب غير طاهر نظراً إلى أن القصد بالتراب التطهير وهو لا يحصل بذلك، فتشترط طهورية التراب، فلا يكفي التراب المستعمل؛ كما صرح به الكمال سلار شيخ النووي في "تعليقه على التنبيه". والغسلات المزيلة للعين تعد واحدة ولو في النجاسة المغلظة, حتى لو لم تزل إلا بست غسلات مثلاً .. حسب مرة على الأصح. ويكتفى بالسبع وغن ولغ في الإناء كلاب أو كلب مراراً، فتحمل (أل) في كلام المصنف على الجنس. والواجب من التراب ما يكدر الماء، ويصل بواسطته إلى جميع أجزاء المحل، سواء أمزجه به قبل وضعهما على المحل أم بعده؛ بأن يوضعها ولو مترتبين، ثم يمزجا قبل الغسل وإن كان المحل رطباً؛ إذ الطهور الوارد على المحل باقٍ على طهوريته. وبذلك جزم ابن الرفعة فيما لو وضع التراب أولاً، ومثله عكسه بلا ريب، وهذا مقتضى كلامهم، وهو المعتمد كما قاله البلقيني وغيره، وما وقع للإسنوي ومن تبعه: من أنه يجب المزج قبل الوضع، كما صرح به الجويني في "التبصرة"، وأن ما قاله ابن الرفعة مردود .. ردَّ

بأنه خلاف مقتضى كلامهم، فلا يرتكب بلا ضرورة، وكلام الجويني عليه، لا له؛ إذ عبارته: (ليس كيفية التعفير تعفر الثوب بغبار التراب، ثم غسله بعد نفضه، وإنما التعفير .. أن يخلط التراب بالماء خلطاً، ثم يغسل المحل) وهي دالة على أن الممنوع إنما هو غسله بعد نفض التراب أو بلا مزج، وأن المعتبر مزجه قبل الغسل، سواء أكان قبل الوضع أم بعده، وهو المطلوب، وليس في قوله: (ثم يغسل) ما يقتضى اعتبار مزجه قبل الوضع. انتهى. ولا يجب تتريب الأرض الترابية ويكفي تسبيعها؛ إذ لا معنى لتتريب التراب. قال في "المجموع": قال أصحابنا: لو ولغ الكلب في ماء كثير لم ينقص بولوغه عن قلتين .. لم ينجس الماء، وكذا الإناء إن لم يكن أصاب جرمه الذي لم يصله الماء مع رطوبة أحدهما، ومقتضاه: أنه لو أصاب ما وصله الماء مما هو فيه .. لم ينجس، وتكون كثرة الماء مانعة من تنجسه، وبه صرح الإمام وغيره، وهو مقيد لمفهوم قول "التحقيق": لم ينجس الإناس إن لم يصب جرمه. انتهى. ولو ولغ في إناء فيه ماء قليل ثم كوثر حتى بلغ قلتين .. طهر الماء دون الإناء، كما نقله البغوي في "تهذيبه" عن ابن الحداد وأقره، وجزم به البندنيجي والجرجاني والروياني وغيرهم، وصحح الإمام طهارة الإناء أيضاً وإن أصابه الكلب بجرمه؛ أنه صار إلى حالة لو كان عليها حالة الولوغ .. لم ينجس، وتبعه ابن عبد السلام، والأصح الأول؛ لأن الإناء قد تنجس فلا يطهر بذلك، وقد صححه في "المجموع" فيما لو وقع الإناء الذي ولغ فيه في ماء كثير. و(التُّرب): إحدى لغات التراب. ثم ذكر النجاسة المتوسطة وهي غالب النجاسات، فقال: (وما سوى ذين ففرداً يُغسل ... والحتُّ والتثليث فيه أفضل) (يكفيك جري الما على الحكميَّة ... وأن تزال العين من عينيَّه)

فيهما ثلاث مسائل: [حكم النجاسة المتوسطة] الأولى: ما سوى ذين؛ أي: نجاسة الكلب والخنزير ومثلهما فرعهما .. يغسل مرة، وهي: إما حكمية؛ وهي التي يتيقن وجودها ولا تحس، أو عينية؛ وهي ما تحس، فالأولى: يكفي فيها جري الماء على المحل مرة من غير اشتراط أمر زائد، والثانية: يجب فيها مع جري الماء عليها زوال عينها، وزوال أوصافها؛ من طعم ولون وريح، فلا تطهر مع بقاء شيء منها، ولا يضر بقاء لون أو ريح عسر زواله للمشقة، فإن بقيا معاً .. ضرَّا على الصحيح؛ لقوة دلالتهما على بقاء العين، وإن بقي الطعم وحده .. ضر وإن عسرت إزالته؛ لسهولتها غالباً فألحق بها نادرها، ولأن بقاءه يدل على بقاء العين. [حكم حتِّ النجاسة] الثانية: يندب الحتُّ بالمثناة، والقرص - بالمهملة - لمحل النجاسة إن لم تتوقف إزالتها عليهما، وإلا .. وجبا، ومثلهما الاستعانة بأشنان أو نحوه. [تثليث غسل النجاسة] الثالثة: يندب بعد طهر محل النجاسة غسله ثانية وثالثة استظهاراً؛ كطهر الحدث، ولأمر المستيقظ بالتثليث مع توهم النجاسة، فمع تيقنها أولى. أما النجاسة المغلظة .. فلا يندب تثليثها كما صرح به الجيلوي في "بحر الفتاوى في نشر الحاوي"، وعلله بأن المكبر لا يكبر، كالمصغر لا يصغر، لكن صرح صاحب "الشامل الصغير" بندبه. وفي بعض النسخ بدل قوله: (والحتُّ ... ) إلى آخره: (وغسلتين اندب لطهر يكمل). (وبول طفلٍ غير درٍّ ما أكل ... يكفيه رشٌّ إن يصب كل المحل) [حكم النجاسة المخففة] فيه مسألة: وهي: أن النجاسة المخففة؛ وهي بول الصبي الذي لم يأكل غير الدر بالمهملة؛ أي: اللبن للتغذي .. يكفي فيها الرش بشرط إصابته كل محل البول؛ بأن يعمه ويغلبه وإن لم يسل،

بخلاف الأنثى والخنثى لا بد في بولهما من الغسل على الاصل، ويحصل بالسيلان مع الغمر. والأصل في ذلك خبر: "يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام" رواه الترمذي وحسنه، وابن خزيمة والحاكم وصححاه، وفرق بينهما بأن الابتلاء بحمله أكثر، وبأن بوله أرق من بولها، فلا يلصق بالمحل لصوق بولها، وألحق ببولها بول الخنثى من أي فرجيه خرج. وعلم بما تقرر: أنه لا يمنع النضح تحنيك الصبي بتمر ونحوه، ولا تناوله السفوف والأدوية ونحوهما للإصلاح. ومحل النضج قبل تمام الحولين؛ إذ الرضاع بعده كالطعام كما نقل عن النص، ويندب في هذه النجاسة التثليث أيضاً، ولابد فيها من إزالة عينها، وأوصافها كغيرها. وخرج بـ (نبول الصبي): غائطه؛ فإنه يجب غسل على الأصل. [حكم غُسالة النجاسة] ثم ذكر حكم غسالة النجاسة فقال: (وماء مغسولٍ له حكم المحل ... إذ لا تغيرٌ به حين انفصل) أي: أن حكم الماء الذي غسلت به نجاسة ولو معفواً عنها، وانفصل عن محلها حكمه عند انفصاله عنه غير متغير؛ أي: ولا زائد الوزن، إن طاهراً .. فطاهر، وإن نجساً .. فنجس؛ لأن بلل المحل بعض ذلك الماء، والماء الواحد القليل لا يتبعض طهارة ونجاسة، فيغسل ما أصابه شيء من الأولى من مرات المغلظة ستاً، ومن الثانية خمساً ... وهكذا إلى السابعة، فلا يغسل منها شيء، فإن انفصل متغيراً أو زائد الوزن بعد اعتبار ما أخذه المحل من الماء، وأعطاه من الوسخ الطاهر .. فهو نجس، والمحل حينئذ نجس، هذا في غسالة المفروض، أما ماء غسالة المندوب كالتثليث .. فهو طهور. وإذا غسل فمه المتنجس .. فليبالغ في الغرغرة؛ ليغسل كل ما في حد الظاهر، ولا يبتلع طعاماً ولا شراباً قبل غسله؛ لئلا يكون آكلاً لنجاسة، نقله في "المجموع" عن الجويني وأقره.

(وليُعف عن نزر دمٍ وقيح ... من بثرةٍ ودُمَّلٍ وقرح) [العفو عن قليل الدم والقيح] فيه مسألة: وهي: أنه يعفى عن نزر؛ أي: قليل دم وقيح وصديد من بثرة ودمل وقرح؛ كفصد وحجامة من نفسه وغيره؛ أي: من غير كلب ونحوه؛ لمشقة الاحتراز عنه، أما الكلب والخنزير وفروعهما .. فلا يعفى عن شيء منه. وخرج بقوله: (نزر): الكثير عرفاً، فلا يعفى عنه إن كان من غير، أو حصل بفعله؛ كأن عصره، أو انتقل عن محله، وإلا .. عفي عنه أيضاً، ويعفى عن دم البراغيث والقمل والبق والبعوض ونحوها، وونيم الذباب، وبول الخفاش وروثه وإن كثرت، إلا إن كانت بفعله .. فيعفى عن قليلها، ويعفى عن قليل طين الشارع النجس. والمراد بالقليل: ما يتعذر الاحتراز منه غالباً، وهو ما لا ينسب صاحبه إلى سقطة أو كبوة أو قلة تحفظ، والرجوع فيه إلى العادة، ويختلف باختلاف م وضعه والزمان والمكان. وأما طين الشارع الذي تظن نجاسته ظناً غالباً؛ لغلبتها فيه .. فطاهر عملاً بالأصل، وأما ماء القروح والنفاطات: فإن تغير .. فنجس، وإلا .. فطاهر. و(البثرة) بفتح الموحدة وسكون المثلثة: خراج صغير، و (القُرح) بفتح القاف وضمها: الجرح. * * *

باب الآنية

باب الآنية هي: جمع إناء كسقاء وأسقية، وبناء وأبنية. (يُباح منها طاهرٌ من خشب ... وغيره، لا فضةٍ أو ذهب) (فيحرم استعماله، كمِرود ... لامرأةٍ، وجاز من زبرجد) فيهما ثلاث مسائل: [إباحة اتخاذ الآنية من الطاهر] الأولى: أنه يباح من الآنية اتخاذاً واستعمالاً كل إناءٍ طاهر - أي: من حيث كونه إناء - في الطهارة وغيرها، سواء أكان من خشب، أم خزف، أم نحاس، أم حديد، أم رصاص، أم جلود، أم من غيرها؛ ففي "الصحيح": (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من إناء من صفر، ومن إناء من شَبَه، ومن تور من حجارة). و(الصُّفر) بضم الصاد: النحاس، و (الشَّبَه) بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة: النحاس الأحمر الذي يشبه الذهب في لونه، فلا يرد تحريم استعمال جلد أو غيره من آدمي ولا مغصوب أو مسروق؛ لأن تحريمها ليس من الحيثية المذكورة، بل من حيث حرمة الآدمي، والاستيلاء على حق الغير بغير إذنه. وخرج بـ (الطاهر): النجس، فلا يباح استعماله إلا في جاف أو ماء كثير. [حرمة أواني الذهب والفضة] الثانية: يحرم استعمال كل إناء من ذهب أو فضلة أو منهما في الطهارة وغيرها؛ لخبر الصحيحين: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها"، وقيس غير الأكل والشرب عليهما؛ لأن علة التحريم وجود عين الذهب والفضة مراعىً فيها الخيلاء، وقد يعللون بالخيلاء مراعين فيه العين.

ولا فرق في التحريم بين الرجال والخناثى والنساء والصبيان ونحوهم، حتى يحرم على الولي سقي الصبي ونحوه بمسعط الفضة، وإنما فرق بين الرجل والمرأة في التحلي؛ لما يقصد فيها من الزينة للتحليل، ولا فرق في الإناء بين كونه كبيراً أو صغيراً؛ كظرف الغالية، وملعقة الأكل والشرب، وخلال الأسنان، ومردود الاكتحال، إلا أن يحتاج إلى الاكتحال به؛ لجلاء العين فإنه يجوز كما قاله الماوردي، ومحل التحريم: إذا وجد غيره، فإن فقده .. جاز استعماله. ويؤخذ من كلامه: أن الوضوء منه صحيح، وكذا الغسل، وأن المأكول حلال، وكذا المشروب وهو كذلك، ويحرم التجمر بالاحتواء على المجمرة، أو بإتيان رائحتها من قرب، والتطيب بماء الورد أو غيره منه، فليفرغه في يده اليسرى، ثم في يده اليمنى ثم يستعمله. وكما يحرم استعماله .. يحرم اتخاذه بغير استعمال؛ لأن اتخاذه يجر إلى استعماله؛ كآلة اللهو، ويحرم التزيين به ولو في البيوت والحوانيت والكعبة، فلا أجرة لصنعته، ولا أرش لكسره. ويحل إناء ذهب أو فضلة موِّه بنحاس أو نحوه إن حصل منه شيء بالعرض على النار، وإلا .. حرم، ويحل إناء نحاس أو نحوه موِّه بذهب أو فضة إن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار، وإلا .. حرم. [جواز استعمال الأواني النفسية من غير الذهب والفضة] الثالثة: يجوز استعمال الإناء من الجوهر النفيس؛ كزبرجد بالدال المهملة، وفيروزج وياقوت وبلور، ومن الطيب المرتفع؛ كمسك وعنبر وكافور؛ بناء على أن علة تحريم إناء الذهب والفضة العين، مع أن الجوهر النفيس لا يعرفه إلا الخواص فلا خيلاء، وكما يجوز استعمال الإناء الذي نفاسته لصنعته لا لذاته؛ كزجاج وخشب محكم الخرط. [حكم ضبة الذهب والفضة] (وتحرم الضبة من هذين ... بكبرٍ عرفاً مع التزيين) (إن فُقدا حلَّت، وفرداً تكره ... والحاجة: التي تساوي كسره) أي: أن ضبة الذهب أو الفضلة تحرم؛ أي: يحرم المضبب بها مع كبرها، وكونها كلها أو

بعضها للتزيين؛ لوجود المعنيين العين والخيلاء، ومرجع الكبيرة والصغيرة إلى العرف كما جزم به المصنف، وهو الأصح، وقليل - وهو أشهر -: الكبيرة ما تستوعب جانباً من الأبناء؛ كشفة أو أذن، والصغيرة دون ذلك، فإن شك في الكبر .. فالأصل الإباحة، ذكره في "المجموع". وأنها تحل بلا كراهة إن فقدا؛ أي: الكبر والزينة؛ بأن كانت صغيرة للحاجة؛ للصغر مع الحاجة، وأنها إن كانت كبيرة لحاجة أو صغيرة فوق الحاجة .. كره استعمالها والتزيين بها واتخاذها؛ للكبر والزينة، ولم تحرم للحاجة في الأولى والصغر في الثانية. وأن المراد بـ (الحاجة): غرض إصلاح كسر الإناء دون التزيين، ولا يعتبر العجز عن غير الذهب والفضة؛ لأن العجز عن غيرهما يبيح استعمال الإناء الذي كله ذهب أو فضة فضلاً عن المضبب به كما مر. وأصل ضبة الإناء: ما يصلح به خلله من صحيفة أو غيرها، وإطلاقها على ما هو للزينة توسع؛ والأصل في ذلك: خبر البخاري عن أنس: (أن قدحه صلى الله عليه وسلم الذي كان يشرب فيه كان مسلسلاً بفضة؛ لانصداعه) أي: مشبعاً بخيط فضة؛ لانشقاقه، وما ذكره كـ"أصله" من مساواة ضبة الذهب لضبة الفضة هو ما رجحه الرافعي، ورجح النووي تحريمها مطلقاً؛ لأن الدليل المخصص لعموم التحريم إنما ورد في الفضة، ولا يلزم من جوازها جوازه؛ لأن الخيلاء فيه أشد وبابه أضيق. وفي بعض النسخ بدل قوله: (والحاجة ... ) إلى آخره: (لحاجة ما لم تجاوز كسره). (ويستحب في الأواني التغطية ... ولو بعودٍ حطَّ فوق الآنية) [استحباب تغطية الأواني] في مسألة: وهي: أنه يستحب تغطية الأواني ليلاً ونهاراً، سواء أكان فيها ماء أم غيره ولو كانت

التغطية بعود حط فوقه الآنية؛ فإنها تكفي في تحصيل سنة التغطية؛ لخبر "الصحيحين" عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "غطوا الإناء وأوكوا السقاء"، وفي رواية لهما: "خمِّر آنيتك، واذكر اسم الله ولو تعرض عليه عوداً"، قال الأئمة: وفائدة ذلك من ثلاثة أوجه: أحدهما: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإن الشيطان لا يحُلُّ سقاء، ولا يكشف إناء". ثانيها: ما جاء في رواية لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فإن في السنة ليلةً ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء .. إلا نزل فيه من ذلك الوباء". قال الليث بن سعد أحد رواته في "مسلم": فالأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول. قال بعض المتأخرين: وهو كيهك. ثالثها: صيانتها من النجاسة ونحوها، وقد عمل بعضهم بالسنة في التغطية بعود، فأصبح وأفعى ملتفة على العود ولم تنزل في الإناء، ولكن لا يعرض العود على الإناء إلا مع ذكر اسم الله تعالى؛ فإنه السر الدافع هو اسم الله تعالى مع صدق النية. ويسن أيضاً: إيكاء السقاء، وإطفاء النار عند النوم، وإغلاق الباب بعد المغرب، وجمع الصبيان والمواشي. [ذكر شيء من أحكام الاجتهاد] (ويتحرى لاشتباه طاهر ... بنجسٍ ولو لأعمى قادر) (لا الكم، والبول، وميتةٍ، وما ... وردٍ، وخمرٍ، در أُتنٍ، محرما) ذكر شيئاً من أحكام الاجتهاد، وهو والتحري والتأخِّي: بذل المجهود في طلب المقصود. وفي كلامه مسألتان:

[الاجتهاد لاشتباه طاهر بنجس] الأولى: أنه يتحرى أن يجتهد لاشتباه طاهر؛ من ماء أو ثوب أو طعام أو شراب أو غيرها بآخر نجس؛ بأن يبحث عما يبين النجس بالأمارات المغلبة على الظن؛ كرشاش حول إنائه، أو ابتلال طرفه؛ لأن الحل شرط للمطلوب يمكن التوصل إليه بالاجتهاد؛ فجاز كالقبلة، وقد يجب؛ بألا يجد غيرهما، وضاق وقت الصلاة، أو اضطر للتناول، فقوله: (يتحرى) أي: جوازاً إن قدر على طاهر بيقين، ووجوباً إن لم يقدر عليه كما ذكره في "المجموع". وشمل إطلاقه: ما لو حصل الاشتباه بإخبار ثقة ولو أنثى وعبداً؛ كأن أخبره بتنجس أحدهما مبهماً، وكذا إن أخبره به معيناً ثم التبس عليه، فإن لم يلتبس عليه وبيَّن سبب النجاسة، أو كان فقيهاً موافقاً له .. لزمه قبول خبره، وامتنع عليه الاجتهاد؛ كالمفتي يجد النص، وكالقبلة وغيرها. وكما يجتهد البصير .. يجتهد الأعمى القادر على الاجتهاد على الأصح؛ كما في الوقت، ولأن له طريقاً غير البصر كالشم واللمس والذوق، وفارق منعه في القبلة؛ بأن أدلتها بصرية، فإن تحيّر .. قلد بصيراً ثقة؛ كالعامي يقلد مجتهداً، بخلاف ما لو اشتبه عليه الوقت .. فإن له أن يقلد وإن لم يتير؛ لأن الاجتهاد هناك إنما يتأتى بتعاطي أعمال مستغرقة للوقت، وفيه مشقة ظاهرة بخلافه هنا، فإن لم يجده، أو اختلف عليه بصيران، أو تحرى بصير وتحير .. لم يصح تيممه إلا الا يبقى معه طاهر بيقين. وخرج بقوله: (قادر): الأعمى العاجز عن الاجتهاد؛ لفقد شمه ولمسه وذوقه وسمعه، أو لبلادة ونحوها؛ فإنه لا يجتهد، بل يقلد ثقة عارفاً. [شروط الاجتهاد] الثانية: للاجتهاد شروطه: أن يكون في متعدد، وأن يكون باقياً على الأصح، خلافاً للرافعي، وأن يكون لكل من المشتبهين أصل في حل المطلوب، وأن يكون للعلامة في المتعدد مجال، وكلها تعلم من كلامه على هذا الترتيب، وأما ظهور العلامة .. فإنما هو شرط للعمل بالاجتهاد. فقوله: (لا الكمِّ) أي: المتنجس المشتبه بالطاهر من ثوب واحد، فلا اجتهاد فيه، بل

يجب غسلهما معاً لتصح صلاته فيه؛ لأنه ثوب واحد تيقن نجاسته فلا تزول بالشك، كما لو خفي محل النجاسة فيه ولم تنحصر في محل منه، فلو اجتهد وغسل المتنجس عنده .. لم تصح صلاته فيه، بخلافه في الثوبين؛ حيث تصح صلاته فيهما معاً على الأصح، وفروق بأن محل الاجتهاد الاشتباه بين شيئين، فتأثيره في أجزاء الواحد أضعف، فلو انفصل الكمان أو أحدهما .. كانا كالثوبين. وقوله: (والبول) أي: المشتبه بماء، وميتة اشتبهت بمذكاة، وماء ورد اشتبه بماء، وخمر اشتبه بخل، ودرٍّ؛ اي: لبن أُتُن - بضم الهمزة والتاء جمع أتان بالمثناة؛ وهي الأنثى من الحمر الأهلية - اشتبه بلبن مأكول؛ فلا اجتهاد؛ إذ لا أصل للخمسة في حل المطلوب، بل في مسألة البول يريقهما أو أحدهما، أو يصب منه في الآخر ثم يتيمم، فلو تيمم قبل ذلك .. لم يصح؛ لأنه تيمم بحضرة طاهر بيقين له طريق إلى إعدامه، فلا يشكل بصحة التيمم بحضرة ماءٍ منع منه سبع أو نحوه، وفي مسألة ماء الورد: يتوضأ بكل منهما مرة، ويعذر في تردده في النية؛ للحاجة، كمن نسي صلاة من الخمس، ولا يجب عليه إزالة التردد؛ بأن يأخذ غرفة من هذا وغرفة من هذا ويستعملهما دفعة في وجهه ناوياً. ولو اشتبهت ميتة بمذكيات بلد، أو إناء بول بأواني بلد .. فله أخذ بعضها بلا اجتهاد إلى ان يبقى واحد على الأصح. وقوله: (مَحرَما) أي: لا يتحرى فيها إذا اشتبهت بأجنبيات محصورات؛ إذ لا علامة تمتاز بها المحرم عن غيرها، فإن ادعى امتيازها بعلامة .. فلا اجتهاد أيضاً؛ لأنها إنما تعتمد عند اعتضاد الظن بأصل الحل، والأصل في الأبضاع الحرمة، فإن اشتبهت بغير محصورات .. فله أن ينكح منهن إلى أن يبقى عدد محصور؛ لئلا يسند عليه باب النكاح، وكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد لعسر على الناظر عده بمجرد النظر؛ كالمئة والمئتين .. فغير محصور، وأن سهل عده كالعشرة والعشرين .. فمحصور، وبينهما وسائط تلحق بأحدهما بالظن، وما وقع الشك فيه .. استفتى فيه القلب. قال في "المجموع": ولو اشتبهت زوجته بأجنبيات .. حرم عليه أن يطأ منهن مطلقاً؛ لأن الوطء لا يباح إلا بالعقد، ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة فيحتاج لها، والاجتهاد خلاف الاحتياط. * * *

باب السواك

بابُ السِّواك وهو لغةً: الدلك وآلته، وشرعاً: استعمال عود ونحوه؛ كأشنان في الأسنان وما حولها. (يُسنُّ لا بعد زوال الصائم ... وأكَّدوه لانتباه النائم) (ولِتغيُّر فمٍ وللصلاة ... وسنَّ باليمنى، الأراك أولاه) فيهما خمس مسائل: [سنية السواك مطلقاً] الأولى: أن السواك سنة مطلقاً؛ لخبر: (السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب" رواه ابنا خزيمة وحبان في "صحيحيهما"، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم. الثانية: أنه لا يسن للصائم بعد الزوال، بل يكره؛ لخبر "الصحيحين": "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، و (الخُلُوف) بضم الخاء: تغير رائحة الفم، والمراد: الخلوف بعد الزوال؛ لخبر: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً ... " ثم قالك "وأما الثانية: فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك" رواه السمعاني وقال: حديث حسن، كما ذكره في "المجموع" عن حكاية ابن الصلاح، والمساء بعد الزوال، وأطيبية الخُلُوف تدل على طلب إبقائه؛ فكرهت إزالته فيما ذكر. وأما خبر أبي داود وغيره عن عامر بن ربيعة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وهو صائم ما لا أعد) .. فليس فيه أنه فعله بعد الزوال، وتزول الكراهة بغروب

الشمس على الأصح، والمعنى في اختصاصها بما بعد الزوال: أن تغير الفم بسبب الصوم إنما يظهر غالباً حينئذ. وفي "الإعجاز" للجيلي: أنه لو لم يتفق له الفطر فأصبح صائماً .. كره له السواك قبل الزوال وبعده. وقال المحب الطبري في "شرح التنبيه": لو تغير فمه بعد الزوال بسبب آخر؛ أي: غير الخلوف؛ كنوم أو وصول شيء كريه الريح إلى فمه فاستاك لذلك .. لم يكره. [الحالات التي يتأكد فيها السواك] الثالثة: ذكر أن السواك يتأكد لانتباه النائم من نومه ليلاً كان أو نهاراً؛ لخبر "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل .. يشوص فاه بالسواك) أي: يدلكه، وقيس بالنوم المذكور: غيره بجامع التغير، ولتغير رائحة الفم بنوم، أو أكل أو كلام أو تركه أو غيره؛ لما روى الطبراني في "معجمه الكبير" وغيره عن العباس بن عبد المطلب: أنه قالك (كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستاكوا، فقال: "تدخلون عليَّ قلحاً؟ ! استاكوا". وللصلاة؛ أي: عند إرادة القيام إليها، سواء أكانت فرضاً أم نفلاً، سواء أكان متوضئاً أم متيمماً أم فاقداً للطهورين؛ لخبر "الصحيحين": "لولا أن أشق على أمتي أو على الناس .. لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، وفي رواية لهما: "مع كل صلاة" أي: أمر إيجاب؛ بدليل خبر: "لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة". ويتأكد السواك أيضاً للوضوء وإن لم يصلِّ به، وللقراءة ولصفرة الأسنان، ويمكن إدراجها في قول المصنف: (ولتغيُّر فم)، ولدخول منزل، وللطواف، ولسجود التلاوة، وسجود الشكر. قال الشيخ أبو حامد: وعند الأكل، وعند إرادة النوم. قال الزركشي: وبعد الوتر، وفي السحر كما قاله ابن عبد البر، وللصائم قبل أوان

الخُلُوف، كما يسن التطيب قبل الإحرام كما ذكره الإمام في (كتاب الحج)، وعند الاحتضار؛ كما دل عليه خبر "الصحيحين"، ويقالك إنه يسهل خروج الروح. ويسن له إن أراد أن يستاك ثانياً .. أن يغسل سواكه إن حصل عليه وسخ أو ريح أو نحوه، ذكره في "المجموع". [ما يسن في السواك] الرابعة: أنه يسن الاستياك باليد اليمنى على الأصح، والبداءة بالجانب الأيمن من فمه؛ لشرف الأيمن، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله؛ في ظهوره وترجله وتنعله وسواكه، رواه أبو داود. ويسن عرضاً ويجزئ طولاً، ويُمِرُّه على كراسي أضراسه وأطراف أسنانه وسقف حلقة بلطف، ولينوِبه السنة، ويعوده الصبي؛ ليألفه. [أفضل أنواع السواك] الخامسة: أولاه الأراك، ثم النخل، ثم العود ذو الريح الطيب، ثم مطلق العود، واليابس المنتدى بماء أولى. ويحصل بكل مزيل للوسخ؛ كخرقة وإصبع خشنين إلا إصبعه المتصلة به على الأصح؛ لأنها لا تسمى سواكاً. (ويُستحبُّ الاكتحال وِترا ... وغِبّاً أدَّهِن، وقَلِّم ظُفرا) فيه أربع مسائل: [استحباب الاكتحال بالإثمد] الأولى: أنه يسن الاكتحال بالإثمد؛ لخبر الترمذي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: "اكتحلوا بالإثمد؛ فإنه يجلو البصر وينبت الشعر"، ورواه النسائي وابن حبان بلفظ: "إن من خير أكحالكم الإثمد"، وعن عليٍّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالإثمد؛ فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذا، مصفاة للبصر"، وفي الحديث: "عليكم بالإثمد المروح عند النوم" أي: المطيب بالمسك. [ما يستحب في الاكتحال] الثانية: يسن كون الاكتحال وتراً؛ لخبر أبي داود وغيره بإسناد جيد "اكتحل .. فليوتر"، واختلفوا في قوله: "فليوتر" فقيل: يكتحل في اليمنى ثلاثاً، وفي اليسرى مرتين؛ ليكون المجموع وتراً، والأصح: أنه يكتحل في كل عين ثلاثاً؛ لخبر الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه وحسنه قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل منها في كل عين ثلاثاً)، واستدل للأول بخبر الطبراني عن ابن عمر قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اكتحل .. جعل في العين اليمنى ثلاثاً، وفي العين اليسرى مرودين فجعلهما وتراً)، لكن في إسناده العمري ومن لا يعرف، وقد علم: أنه لو اكتحل شفعاً .. حصل أصل السنة، وروى أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من اكتحل .. فليوتر، من فعل .. فقد أحسن، ومن لا .. فلا حرج". [استحباب الادهان غِبّاً] الثالثة: يسن أن يدهن غِبّاً؛ أي: وقتاً بعد وقت بحسب الحاجة؛ لخبر الترمذي وصححه: عن عبد الله بن مغفل قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الادهان إلا غباً)، وفي "الشمائل" للترمذي عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته)، وما يروى في كتب الفقهاء مرفوعاً:

"استاكوا عرضاً، وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً" .. فغريب. قال النووي في "مجموعه": الأدهان غِباً بكسر الغين هو: أن يدهن، ثم يترك حتى يجف الدهن. وقال في "نكته": قول الشيخ (ويدهن غباً) أي: وقتاً بعد وقت، فيدهن ثم يترك حتى يجف رأسه، ونقل ابن الرفعة هذا عن بعضهم. وقال قبله: الغب كما قال ابن فارس: أن ترد الإبل الماء وتدعه يوماً. قال: وبهذا فسر الإمام أحمد الحديث، وبه قال بعض الشارحين. [استحباب تقليم الأظفار وكيفيته] الرابعة: يسن تقليم الأظفار؛ أي: قصها بمقص أو نحوه؛ لعده من الفطرة، ولأنها تتفاحش بتركها، وقد تمنع الوسخ الحاصل تحتها من وصول ماء الطهارة إلى ما تحته. ومحل سنية إزالة الظفر والشعر الآتي: في غير عشر ذي الحجة لمريد التضحية، ووقت قصها: عند طولها، والأولى: أن يكون يوم الجمعة، لا يعارضه ما روي عن أنس قال: (وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة: ألا نترك أكثر من أربعين يوماً)، وروي عن وصية علي: أن التقليم في كل عشرة أيام، ونتف الإبط في كل أربعين، وحلق العانة في كل عشرين، وقص الأنف في كل ثلاثين، والحق في الجميع: اتباع الحاجة. والأولى في قصها: أن يكون مخالفاً؛ لخبر: "من قص أظفاره مخالفاً .. لم ير في عينيه رمداً"، وفسره جماعة منهم أبو عبد الله بن بطة بأن يبدأ بخنصر اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم المسبحة، ثم إبهام اليسرى، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السبابة، ثم البنصر، وفي "الإحياء": أنه يبدأ في اليدين بالمسبحة اليمنى، ويختم بإبهامها، وفي الرجلين بخنصر اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى.

قال النووي: لا بأس به إلا تأخير إبهام اليمنى؛ فإن السنة إكمال اليمنى أولاً. ويسن غسل رؤوس الأصابع بعد قص الظفر؛ فقد قيل: غن الحك بالأظفار قبل غسلها يضر بالجسد. و(الظفر): بضم الظاء والفاء وإسكانها، وبكسر الظاء مع إسكان الفاء وكسرها، ويقال فيه: أُظْفور. (وانتف لإبطٍ، ويُقص الشارب ... والعانة احلق، والختان واجب) (لبالغ ساتر كمرةٍ قطع ... والاسم من أنثى، ويكره القزع) (تنزهاً، والأخذ من جوانب ... عنفقةٍ ولحيةٍ وحاجب) (وحلق شعر امرأةٍ، ورد ... طيبٍ وريحانٍ على من يهدي) (حرموا خضاب شعرٍ بسواد ... لرجلٍ وامرأةٍ لا للجهاد) فيها ثمان مسائل: [استحباب نتف الإبط وقص الشارب وحلق العانة] الأولى: أنه يسن نتف الإبط؛ أي: إن اعتاده، وإلا .. فليحلقه، وهو بكسر الهمزة وسكون الباء، وقص الشارب؛ بحيث يظهر طرف الشفة ولا يحفيه من أصله، وحلق العانة أولى من الرجل، أما المرأة .. فالمستحب لها نتفها كما ذكره النووي وغيره؛ وذلك لخبر "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط"، والاستحداد حلق العانة. قال الغزالي: ويستحب نتف الإبط في كل أربعين يوماً مرة، قال: وذلك سهل على من تعود في الابتداء نتفه، فأما من تعود الحلق .. فيكفيه؛ إذ في النتف تعذيب وإيلام، والمقصود النظافة وهي تحصل بالحلق.

واختص النتف بالإبط والحلق بالعانة؛ لأن الإبط محل الرائحة الكريهة، والنتف يضعف الشعر فتخف الرائحة الكريهة، والحلق يكثر الشعر فتكير الرائحة الكريهة. قال الجيلي: وشعر العانة إذا طال .. يعشش فيه الشيطان، ويذهب قوة الجماع. [وجوب الاختتان وذكر شيء من أحكامه] الثانية: الختان: واجب على الذكر والأنثى بالبلوغ والعقل واحتمال الختان؛ بأن يقطع ساتر الكمرة وهي القلفة من الذكر، وما يقع عليه الاسم من الانثى، لقوله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً}، وكان من ملته الختان ففي "الصحيحين": أنه اختتن وعمره ثمانون سنة، وفي "صحيح ابن حبان" و "الحاكم": مئة وعشرون سنة، وقيل: سبعون سنة، ولخبر أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل أسلم: "الق عنك شعار الكفر واختتن"، والأمر للوجوب؛ ولأنه قطع جزء من البدن لا يستخلف بعبداً، فلا يكون إلا واجباً كقطع السرقة، فاحترزوا بالقيد الأول من الشعر والظفر؛ فإنه يستخلف، وبالثاني عن القطع للآكلة؛ فإنه يجب، ولأنه قطع كعضو سليم، فلو لم يجب .. لم يجز؛ كقطع الإصبع في القصاص. وأما خبر أحمد والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء" .. فأجيب عنه بأن المراد منه أنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فعله وأمر به فيكون واجباً. وأما ختان الصبي والمجنون ومن لا يحتمله .. فليس بواجب؛ لأن الأولين ليسا من أهل الوجوب، والثالث يتضرر به. وكما يجب الختان يجب قطع السرة؛ لأنه لا يتأتى ثبوت الطعام إلا به، إلا أن وجوبه على الغير؛ لأنه لا يفعل إلا في الصغر. ويجب على السيد أن يختن عبده، أو يخليه ليكتسب ويختتن. ويستحب الختان يوم سابع اليوم الذي يلي ولادته إن أطاقه، فإن أخر .. فالمستحب أن

يختن في الأربعين، فإن أخر عنها .. ففي السنة السابعة؛ لأنه الوقت الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة. ويحرم ختان الخنثى المشكل ولو بعد بلوغه؛ لأن الجرح لا يجوز بالشك، ومن له ذكران عاملان .. ختنا جميعاً، أو أحدهما عامل .. ختن فقط، ويعرف عمل الذكر بالبول على الأصح. ومؤنة الختان في مال المختون، فإن لم يكن له مال .. فعلى من تلزمه مؤنته، ويُجبر الإمام البالغ العاقل على الختان إذا احتمله وامتنع منه، ولو مات قبل الختان .. فالأصح: أنه لا يختن وإن كان بالغاً، ولو ولد مختوناً .. فلا ختان عليه. وأما تثقيف آذان الصبية لتعليق الحلق .. فحرام؛ لأنه جرح لم تدع إليه حاجة، صرح به الغزالي في "الإحياء"، وبالغ فيه مبالغة شديدة، قال: إلا أن يثبت فيه من جهة النقل رخصة ولم تبلغنا، وفيه "الرعاية" في مذهب الإمام أحمد: يجوز تثقيف آذان الصبية؛ للزينة، ويكره ثقب آذان الصبي، وفي "فتاوى قاضي خان" من الحنفية: أنه لا بأس بتثقيف آذان الصبية؛ لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. [كراهة القزع] الثالثة: أنه يكره القزع كراهة تنزيه؛ لخبر "الصحيحين" عن ابن عمر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن القزع)، وهو: بقاف وزاي مفتوحتين وعين مهملة، وهو حلق بعض الرأس، سواء أكان من موضع واحد، أم مفترقاً، مأخوذ من قزع السحاب وهو تقطعه، وقيل: إنه حلق بعض مواضع متفرقة منه، وفي رواية لأبي داود: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وقال: "احلقه كله أو دعه كله". قال النووي في "شرح مسلم": أجمع العلماء على كراهة القزع؛ إذا كان في مواضع متفرقة، إلا أن يكون لمداواة أو نحوها، وهي كراهة تنزيه، قال بعض أصحاب مالك: لا بأس به في القصة، أو القفا للغلام، قال العلماء: والحكمة في النهي عنه: أنه تشويه

للخلقة، وقيل: لأنه زي أهل الشر والشطارة، وقيل: لأنه زي اليهود؛ وقد جاء هكذا في رواية لأبي داود. قال الغزالي في "الإحياء": لا بأس بحلق جميع الرأس لمن أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن أراد أن يدهن ويرجل. وادعى ابن المنذر الإجماع على إباحة حلق الجميع وهي رواية عن أحمد، وروي عنه: أنه مكروه؛ لما روي: أنه من وصف الخوارج. ولا خلاف أنه لا يكره إزالته بالمقراض، ولا خلاف أن اتخاذه أفضل من إزالته إلا عند التحلل من النسك. [كراهة أخذ الشعر من جوانب عنفقة ولحية وحاجب الرجل] الرابعة: أنه يكره للرجل أخذ الشعر من جوانب عنفقته، ومن لحيته وحاجبيه كذا من "التحقيق" وغيره؛ لأنه في معنى التنميص المنهي عنه، لكن قال ابن الصلاح: لا بأس بأخذ ما حول العنفقة، وقد فهم من كلام المصنف: كراهة حلق الرجل لحيته ونتفها بطريق الأولى، خصوصاً أول طلوعها إيثاراً للمردودة. [كراهة حلق شعر رأس المرأة] الخامسة: أنه يكره حلق شعر رأس المرأة؛ لأن بقائه بزينتها. نعم؛ إن عجزت عن معالجته ودهنه وتأذت بهوامه .. فلا كراهة، ونتف لحيتها وشاربها .. مستحب؛ لأن بقاء كل منهما يشينها. [كراهة رد الطيب والريحان] السادسة: أنه يكره للشخص تعاطي رد الطيب أو الريحان على من أهداه إليه؛ كما صرح به النووي في "تحقيقه". وقد علم: أن قول المصنف (وردِّ): مجرور بالمضاف الذي قدرته، وحذف المضاف سائغ شائع في الكلام الفصيح.

[حكم خضاب الشعر بالسواد] السابعة: أن الأئمة حرموا خضاب شعر أبيض من رأس رجل أو امرأة أو لحية رجل بالسواد؛ لخبر أبي داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" والحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد؛ كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة"، وكالرجل والمرأة: الخنثى. نعم؛ يجوز للمرأة ذلك بإذن زوجها أو سيدها؛ لأن له غرضاً في تزيّنها به، وقد أذن لها فيه. والظاهر كما قال بعض المتأخرين: أنه يحرم على الولي خضب شعر الصبي أو الصبية؛ إذا كان أصهب بالسواد؛ أي: لما فيه من تغيير الخلقة وإن عزى للناظم في "شرح لنظمه" أنه قال: إن الظاهر أنه لا يحرم. وخرج بقوله: (بسواد): خصبه بغيره كالحناء؛ فإنه لا يحرم، بل هو سنة للرجل والمرأة. [جواز الخضاب بالسواد في الجهاد] الثامنة: إذا كان الخضاب بالسواد لأجل الجهاد .. جاز؛ لما فيه من إرهاب العدو. وقول الناظم: (ويُقَصُّ): مبني للمفعول، و (العانة) بالنصب، وكذا (ساتر) و (الاسم). * * *

باب الوضوء

باب الوضوء [تعريف الوضوء لغة وشرعاً] هو بضم الواو: الفعل، وبفتحها: الماء الذي يتوضأ به، وقيل: بالفتح فيهما، وقيل: بالضم فيهما، والمبوب له: الوضوء بمعنى الفعل؛ وهو من الوضاءة وهي الحُسن، وفي الشرع: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحاً بنية. قال الإمام: وهو تعبد لا يعقل معناه؛ لأن فيه مسحاً ولا تنظيف فيه. وكان فرضه مع فرض الصلاة؛ كما رواه ابن ماجه، واختلفوا في خصوصيته بهذه الأمة، والأصح: عدم الاختصاص، وإنما المختص بها الغرة والتحجيل. (موجبه: الخارج من سبيل ... غير منيٍّ موجب التغسيل) فيه مسألتان: [بيان موجبات الوضوء] الأولى: أن موجب الوضوء - أي بكسر الجيم؛ أي: أسبابه؛ لأنه مفرد مضاف فيعم - أربعة: أحدها: الخارج من سبيل معتاد قبلاً كان أو دبراً، ريحاً كان الخارج ولو من قُبُل أو عيناً، نادراً كان أو معتاداً، نجساً كان أو طاهراً، ولو دودة أخرجت رأسها ثم رجعت. أما الغائط والبول والريح والمذي .. فبالنصوص، وأما ما عداها .. فبالقياس عليها. قال النووي في "تحقيقه": وفي موجبه أوجه: أحدها: الحدث وجوباً موسعاً، والثاني: القيام إلى الصلاة ونحوها، وأصحها: هما، وتجري في موجب الغسل، وقيل: بانقطاع حيض ونفاس، فلو استشهدت حائضاً .. لم تغسل إن لم نوجبه بالخروج، وغلا .. فوجهان كالجنب. انتهى.

ولا يخفى أنه يعتبر فيما صححه الانقطاع؛ ليوافق ما صححه الرافعي حيث قال في (باب الغسل): وفيما يجب به الغسل من الحيض والنفاس أوجه: أحدها: بخروج الدم؛ كما يجب الوضوء بخروج البول، والغسل بخروج المني، وثانيها: بالانقطاع؛ لتعليقه في الحديث بإدبار الدم، وأظهرها: بخروجه عند الانقطاع؛ كما يقال: يوجب الوطء العدة عند الطلاق، والنكاح الإرث عند الموت، وكذا القول في البول والمني: خروجهما موجب عند الانقطاع، بل عند القيام إلى الصلاة. انتهى. ولا يخفى أنه يعتبر القيام إليها أيضاً في موجب الغسل من الحيض والنفاس. وشمل كلام المصنف: إيجاب الوضوء بخروج الخارج من دبر المشكل، أو من قبليه جميعاً، ومن ثقبة انفتحت في معدة أو فوقها أو تحتها وقد خلق مسدود المخرج الأصلي، أو انفتحت تحت المعدة وقد انسد الأصلي فصار لا يخرج منه شيء وإن لم يلتحم، وهو كذلك. قال الماوردي: إن المسدود خلقة كعضو زائد من الخنثى .. لا وضوء بمسه، ولا غسل بإيلاجه، والإيلاج فيه، وغذا نقضنا بالخارج من الثقبة مع انسداد الأصلي .. فليس لها حكم الأصلي في إجزاء الحجر، وإيجاب الوضوء بمسها، والغسل بالإيلاج فيها، وإيجاب سترها، وتحريم النظر إليها فوق العورة، لكن رجح في "المجموع" عدم انتقاض الوضوء إذا نام ممكناً لها من مقره. وخرج بما ذكر: خروج الخارج من غيره؛ كأحد قبلي المشكل، وثقبة انفتحت تحت المعدة مع انفتاح الأصلي، أو انفتحت فيها أو فوقها ولو مع انسداد الأصلي، فلا يوجب الوضوء؛ لأن الأصل أن لا نقض حتى يثبت شرعاً، ولم يثبت إلا فيما مر. [استثناء خروج المني من موجبات الوضوء] الثانية: أنه استثنى من إيجاب الوضوء بخروج الخارج: المني الموجب للغسل، وهو منيُّ الشخص نفسه الخارج منه أول مرة؛ كأن أمنى بمجرد نظر أو احتلام ممكناً مقعده، فإنه لا يوجب الوضوء؛ لأنه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوصه، فلا يوجب أدونهما

بعمومه؛ كزنا المحصن لما أوجب أعظم الحدين وهو الرجم بكونه زنا محصن .. لم يوجب أدونهما بكونه زنا. وفرق بينه وبين إيجاب الحيض والنفاس والوضوء مع إيجابهما الغسل بأمور، منها: أنهما لا فائدة لبقاء الوضوء معهما، وأنهما يمنعان صحة الوضوء فلا يجامعانه، بخلاف خروج المني يصح معه الوضوء في صورة سلسل المني فيجامعه. وخرج بقوله: (موجب التغسيل): ما لا يوجبه؛ كأن جومعت في دبرها، أو في قبلها ولم تقض شهوتها واغتسلت ثم خرج منها، أو استدخل شخص منيه، أو مني غيره، ثم خرج منه .. فإنه يوجب الوضوء؛ كما شمله المستثنى منه أيضاً. (كذا زوال العقل - لا بنوم كل ... ممكنٍ - ولمس مرأةٍ رجل) (لا محرمٍ، وحائلٌ للنقض كف ... ومس فرج بشرٍ ببطن كف) [ذكر بقية موجبات الوضوء] ذكر في هذين البيتين الثلاثة الباقية من موجبات الوضوء: فثانيها: زوال العقل؛ أي: التمييز؛ فإن فسر بآلة التمييز كما حكي عن الشافعي، أو بأنه صفة يميز بها بين الحسن والقبيح .. فالمراد زوال تصرفه وهو التمييز؛ إما بارتفاعه بالجنون، أو انغماره بالإغماء، أو السكر ونحوه، أو استتاره بالنوم ونحوه. أما النوم .. فلحديث: "العينان وكاء السَّه فمن نام .. فليتوضأ" رواه أبو داود وغيره، وحسنه المنذري وغيره، وأخرجه ابن السكن في "صحاحه". وغير النوم مما ذكر أبلغ منه في الذهوب الذي هو مظنة لخروج شيء من دبره؛ كما أشعر به الخبر؛ إذ (السَّه) الدبر، ووكاؤه: حفاظه عن أن يخرج منه شيء لا يشعر به، والعينان: كناية عن اليقظة، ولا يضر في النقض بزوال العقل الذي هو مظنة لخروج الخارج كون الأصل عدم خروج شيء؛ لأنه لما جعل مظنة لخروجه من غير شعور به .. أقيم مقام اليقين؛ كما أقيمت الشهادة المفيدة للظن مقام اليقين في شغل الذمة. وقوله: (لا بنوم كل ممكن) أي: لا يجب الوضوء بنوم كل شخص ممكن مقعده من مقره

ولو مستنداً إلى ما لو زال لسقط، أو محتبياً بأن يجلس على ألييه رافعاً ركبتيه محتوياً عليهما بيديه أو غيرهما؛ لخبر مسلم عن أنس قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون)، ولفظ أبي داود: (ينتظرون العشاء فينامون حتى تخفق رؤوسهم ... ) الحديث، وحمل على نوم الممكن مقعده؛ جمعاً بينه وبين خبر: "العينان وكاء السه"، ولأمنه حينئذ خروج الخارج، ولا عبرة باحتمال خروج ريح من القبل؛ لندرته، ولو زالت إحدى ألييه قبل انتباهه .. انتقض وضوؤه ولو كان مستثفراً، أو مع انتباهه أو بعده أو شك .. فلا. ولا يلحق الإغماء ونحوه مع تمكين المقعدة، بالنوم؛ لأن عدم الشعور معها أبلغ كما مر، ولا تمكين لمن نام على قفاه ملصقاً مقعده بمقره، ولا لمن نام قاعداً وهو هزيل؛ بحيث يكون بين بعض مقعده ومقره تجاف. وخرج بـ (زوال العقل): النعاس، وحديث النفس، وأوائل نشوة السكر، فلا نقض بها. ويقال للنعاس: سِنة، والفرق بينه وبين النوم: أن النوم فيه غلبة على العقل وسقوط الحواس، والنعاس ليس فيه ذلك، وإنما فيه فتور الحواس، ومن علامته: سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه، ومن علامات النوم: الرؤيا. ولو شك في أنه ممكن أو لا، أو في أنه نام أو نعس .. فلا نقض. وثالثها: لمس ذكرٍ أنثى أجنبيين كبيرين ببشرتهما أو ما في معناها عمداً أو سهواً، بشهوة أو غيرها، سواء في ذلك اللامس والملموس، والأصلي والزائد، والعامل والأشل، من أعضاء الوضوء أو غيرها، والخصي والعنين، والمجبوب والممسوح، والشيخ الهرم والعجوز؛ لقوله تعالى: {أو لامستم النساء}، أي: لمستم كما قرئ به، والمعنى في إيجابه الوضوء: أنه مظنة للالتذاذ المثير للشهوة. وقوله: (لا محرم) أي: لا لمس محرم ولو بشهوة؛ فإنه لا يوجب الوضوء؛ لانتفاء المظنة بينهما، و (المحرم): من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فتشمل محرم النسب والرضاع والمصاهرة.

وقوله: (وحائلٌ للنقض كف) أي: وحائل بين بشرتي الذكر والأنثى ولو رقيقاً .. منع نقض الوضوء. وخرج بما ذكر: اللمس الواقع بين ذكرين، أو أنثيين، أو خنثيين، أو خنثى وأنثى أو ذكر، ولمس العضو المقطوع، والشعر والسن والظفر، ومن لم تبلغ حد الشهوة عرفاً؛ فلا يوجب شيءٌ منها الوضوء. وشمل كلام المصنف: لمس الميت؛ فإنه ينقض وضوء الحي. ورابعها: مس فرج آدمي ببطن كف قبلاً كان أو دبراً، من نفسه أو غيره، عمداً أو سهواً، متصلاً أو ذكراً مقطوعاً؛ لخبر: "من مس ذكره .. فليتوضأ"، وفي رواية: "من مس فرجه"، وفي رواية: "ذكراً" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وخبر ابن حبان في "صحيحه": "إذا أفضى أحدهم بيده إلى فرجه، وليس بينهما ستر ولا حجاب .. فليتوضأ"، ومس فرج غيره أفحش من مسه فرجه؛ لهتكه حرمة غيره. والمراد بمس قبل المرأة: مس ملتقى الشفرين على المنفذ، وبمس الدبر: مس ملتقى المنفذ، وببطن الكف: ما استتر عند وضع إحدى الكفين على الأخرى مع تحامل يسير. وخرج بـ (الفرج): مس أحد قبلي المشكل، فلا نقض به، إلا أ، يمس الواضح منه مثل آلته، وبـ (الآدمي): البهيمة، فلا ينقض مس فرجها؛ كما لا يجب ستره، ولا يحرم النظر إليه، ولا يتعلق به ختان ولا استنجاء، ولأن لمس إناث البهائم ليس بحدث فكذلك مس فرجها، فعلى هذا: لو أدخل يده في فرجها .. فإنه لا ينقض أيضاً في أصح الوجهين، وبـ (بطن الكف): رؤوس الأصابع وما بينها وحرف الكف، فلا نقض بمس شيء منها؛ لأنها خارجة عن سمت الكف، ولأنه لا يعتمد على المس بها وحدها من أراد معرفة لين الملموس أو خشونته، ولا ينتقض الممسوس. ولو كان له كفان أو ذكران عاملان .. انتقض الوضوء بمس كل منهما، لا بمس الزائد مع العامل، وينقض مس الإصبع الزائدة إذا كانت على سنن الأصابع. وقول المصنف: (وحائل): ليس معطوفاً على (محرم) بل هو مبتدأ خبره (كف)، وفي قوله: (كف)، و (كف) جناس تام مستوفىً؛ لاتفاقهما في أنواع الحروف وأعدادها

وهيئاتها وترتيبها، وهما من نوعين، وقوله: (رجل) منصوب، ووقف عليه بحذف الألف على لغة ربيعة، أو مجرد بإضافة (لمس) إليه، وفصل بينهما بمفعوله وهو (امرأة) على لغة؛ كما في قراءة ابن عامر قوله تعالى: {وكذلك زُين لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركائهم}، بنفص (أولادهم) وجر (شركائهم) بإضافة (قتل) إليه مفصولاً بينهما بمفعوله. (اختير: من أكل لحوم الجزر ... ومع يقين حدثٍ أو طُهر) (إذا طرا شكٌ بضدِّه عمل ... يقينه، وسابقٌ إذا جهل) (خذ ضدَّ ما قبل يقينٍ، حيث لم ... يعلم بشيءٍ فالوضوء ملتزم) في هذه الأبيات أربع مسائل: [الوضوء من أكل لحم الجزور] الأولى: المختار عند النووي وجماعة: وجوب الوضوء من أكل لحم الجزر؛ أي: الإبل نيئاً أو مطبوخاً، قال النووي: وهو وإن شذ مذهباً .. فهو قوي دليلاً؛ لصحة حديثين فيه، واختياره محققون واعتقدوا رجحانه. انتهى. وقد أشار المصنف إلى حكاية ذلك بلفظ: (اختير) مبنياً للمفعول، وليس في كلامه ما يدل على اختياره، ولكن القول الجديد المشهور وهو المذهب: أنه لا يوجب الوضوء؛ لخبر جابر قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)، وأجيب عن دليل القديم بحمله على الندب، أو على الوضوء اللغوي، قال النووي: وهو جواب غير شاف. [إذا تيقن حدثاً أو طهراً فطرأ عليه الشك بضده] الثانية: إذا تيقن حدثاً أو طهراً، ثم طرأ عليه شك بضده .. عمل بيقينه؛ استصحاباً له، والأصل فيه خبر مسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا .. فلا

يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً"، قال النووي وغيره: الشك هنا وفي معظم أبواب الفقه هو: التردد، سواء المستوى والراجح. انتهى. و(الباء) في قول المصنف: (بضده) متعلقة بقوله: (طرا)، أو بقوله: (شك) فتكون ظرفية، وقوله: (يقينه) منصوب بنزع الخافض، ويصح رفعه على أنه فاعل (عمل) أي: عمل يقينه عمله. [إذا وجد منه الحدث والطهر وجهل السابق منهما وعلم ما قبلهما] الثالثة: إذا جهل السابق من الحدث والطهر؛ كأن وجدوا منه بعد الفجر مثلاُ، وجهل السابق منهما .. أخذ بضد ما تيقنه قبلهما من حدث أو طهر، فإن تذكر أنه كان قبلهما محدثاً .. فهو الآن متطهر، سواء اعتاد تجديد الوضوء أم لا؛ لأنه تيقن الطهارة وشك في تأخر الحدث عنها، والأصل عدم تأخره، وإن تذكر أنه كان قبلهما متطهراً .. فهو الآن محدث؛ أي: إن اعتاد تجديد الوضوء؛ لأنه تيقن الحدث وشك في تأخر الطهارة عنه، والأصل عدم تأخرها، فإن لم يعتد تجديده .. لم يأخذ بالضد، ثم بالمثل فيكون الآن متطهراً؛ لأن الظاهر تأخر طهره عن حدثه. [إذا وجد منه الحدث والطهر وجهل السابق منهما ولم يعلم ما قبلهما] الرابعة: إن لم يعلم ما قبلهما .. فالوضوء لازم له؛ لتعارض الاحتمالين من غير مرجح، ولا سبيل إلى الصلاة مع التردد المحض في الطهر، وهذا خاص بمن يعتاد التجديد؛ فإن غيره يأخذ بالطهر مطلقاً كما مر، فلا أثر لتذكره وإن خالف فيه بعض المتأخرين. (فروضه: النية، واغسل وجهكا ... وغسلك اليدين مع مرفقكا) (ومسح بعض الرأس، ثم اغسل وعم ... رجليك مع كعبيك، والترتيب، ثم) (له شروطٌ خمسةٌ: طهور ما ... وكونه مميزاً ومسلما) (وعدم المانع من وصول ... ماءٍ إلى بشرة المغسول) (ويدخل الوقت لدائم الحدث ... وعد منها الرافعي رفع الخبث)

فيها مسألتان: [فروض الوضوء] الأولى: فروض الوضوء ستة: الأول: النية؛ لما مر، ويجب قرنها بأول غسل الوجه؛ كأن ينوي رفع الحدث، أو استباحة الصلاة، أو غيرها مما لا يباح إلا بالوضوء، أو أداء فرض الوضوء، أو فرض الوضوء، أو أداء الوضوء، أو الوضوء. ودائم الحدث لا تجزئه نية رفع الحدث، ولو نوى غيره رفع غير حدثه .. أجزأه إن غلط، لا إن تعمد في الأصح. الثاني: غسل الوجه؛ قال الله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم}، والمراد: انغساله، وكذا في بقية الأعضاء، والمراد: ظاهر الوجه؛ إذ لا يجب غسل داخل العين والفم والأنف، وحده طولاً: ما بين منابت الرأي غالباً وأسفل طرف المقبل من اللحيين، وعرضاً: ما بين أذنيه. وشعور الوجه إن لم تخرج عن حده وكانت نادرة الكثافة؛ كعذار وهو ما حاذى الأذن، وهدب وشارب وخدّ وعنفقة ولحية امرأة وخنثى .. وجب غسلها ظاهراً وباطناً وإن كثفت، وإن لم تكن نادرة الكثافة وهي لحية الرجل وعارضاه، أو خرجت عن حده كشعر اللحية والعارض والعذار والسِّبال .. وجب غسل ظاهرها وباطنها إن خفت، وإلا .. وجب غسل ظاهرها فقط، فلو خفَّ اللحية مثلاً وكثف بعضها .. فلكل منهما حكمه إن تميز، وإلا .. كالخفيف. والخفيف: ما ترى بشرته في مجلس التخاطب، وقيل: ما يصل الماء إلى منبته بلا مبالغة. ويجب غسل جزء من الرأس، وسائر الجوانب المجاورة للوجه؛ احتياطاً. الثالث: غسل اليدين مع المرفقين بكسر الميم وفتح الفاء وعكسه؛ قال الله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق}، ودل على دخولهما في الغسل الآية والإجماع وفعله صلى الله عليه وسلم المبين للوضوء المأمور به؛ كما رواه مسلم وغيره. فإن لم يكن له مرفق .. اعتبر قدره، فإن قطعت من المرفق .. وجب غسل رأس العضد، أو

من فوقه .. ندب غسل باقي عضده، ويجب غسل شعر اليدين وإن كثف، وظفرهما وإن طال، ويد زائدة إن نبتت في محل الفرض، وإن نبتت في غيره .. وجب غسل ما حاذى منها محله إن تميزت، فإن لم تتميز؛ لفحش قصر، أو نقص إصبع، أو ضعف بطش أو نحوه .. وجب غسلهما، وتجري هذه الأحكام في الرجلين. والألف في قوله: (وجهكا) و (مرفقكا) للإطلاق. الرابع: مسح بعض الرأس؛ قال الله تعالى: {وامسحوا برءوسكم}، ولا فرق بين مسح بشرة الرأس والشعر الذي عليها؛ بحيث ينطلق عليه اسم المسح، ولو بعض شعرة واحدة بيد أو غيرها، ولو من صاحب رأسين بشرط كون الشعر الممسوح لو مد .. لم يخرج عن حد الرأس، وفي "مسلم": (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته)، فدل على الاكتفاء بمسح البعض؛ ولأن المفهوم عند الإطلاق، ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية؛ وهي الشعر الذي بين النزعتين وهما بياضان يكتنفانها، والكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب، ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر؛ لأنها دونه، والباء كما في "المجموع" عن جماعة من أهل العربية: إذا دخلت على متعد كما في الآية .. تكون للتبعيض، أو على غير متعدّ كما في قوله تعالى: {وليطّوَّفوا بالبيت} .. تكون للإلصاق، وإنما وجب التعميم في التيمم مع أن آتيه كهذه الآية؛ لثبوته بالسنة، ولأنه بدل فاعتبر مبدله، ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه. وأما عدم وجوبه في الخف .. فللإجماع؛ ولأن التعميم يفسده، مع أ، مسحه مبني على التخفيف؛ لجوازه مع القدرة على الغسل، بخلاف التيمم. ولو قطر على رأسه، أو وضع يده المبتلة عليه، أو تعرض للمطر ولم يمسح .. أجزأه، وكذا لو غسله. الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين من كل رجل؛ وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم؛ قال الله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين}، قرئ بالنصب وبالجر عطفاً على (الوجوه) لفظاً في الأول، ومعنىً في الثاني؛ لجره على الجوار، وجعله بعضهم عطفاً على الرؤوس؛ حملاً له على لابس الخف، ودل على دخولهما في الغسل ما دل على دخول المرفقين فيه.

السادس: الترتيب في أفعاله؛ لفعله صلى الله عليه وسلم المبين للوضوء المأمور به، رواه مسلم وغيره، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حجته: "ابدؤوا بما بدأ الله به" رواه النسائي بإسناد صحيح، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأنه تعالى ذكر مسموحاً بين مغسولات، وتفريق المتجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة وهي هنا: وجوب الترتيب لا ندبه؛ بقرينة الأمر في الخبر، ولأن الآية بيان للوضوء الواجب، / ولهذا لم يذكر فيها شيء من سنته. فلو عكس ولو ساهياً أو وضأه أربعة دفعة .. حصل الوجه فقط إن نوى عنده، ولو توضأ اربع مرات منكساً .. أجرأه. ولو اغتسل ذو الحدث الأصغر بنية رفع الحدث أو نحوها، أو بنية الجنابة أو نحوها غالطاً ورتب أو انغمس .. أجزأه وإن لم يمكث. ولو أحدث وأجنب .. أجزأه الغسل عنها، ولو اغتسل ذو الحدث الأكبر إلى رجليه، أو إلا يديه مثلاً ثم أحدث .. وجب غسلهما للجنابة، والأعضاء الثلاثة مرتبة للحدث، وله تقديم الرجلين أو اليدين في الأصح. [شروط الوضوء] الثانية: ذكر فيها شروط الوضوء بقوله: (ثم له شروط خمسة): أولها: الماء الطهور وهو المطلق، بأن يعلمه المتوضئ أو يظنه؛ لأن ما عداه لا يرفع الحدث، وقوله: (طهور ماء) من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ كجرد قطيفة، أو من إضافة الأعم إلى الأخص؛ فإن التراب طهور أيضاً. ثانيها وثالثها: كون المتوضئ مميزاً مسلماً؛ لأن غيرهما لا يصح وضوؤه؛ لعدم صحة نيته؛ إذ شرطها إسلام الناوي وتمييزه كما مر، وإنما صح غسل الكتابية والمجنونة من الحيض والنفاس كما سيأتي؛ لضرورة حق الزوج والسيد، ولهذا تجب إعادته عند الإسلام والإفاقة. والرابع: عدم المانع الحسي من وصول الماء الطهور إلى بشرة العضو المغسول ونحوها؛ كدهن جامد وشمع؛ إذ جري الماء على العضو المغسول شرط لصحة تطهيره، ويقال بالمانع الحسي: المانع الشرعي من حيض أو نفاس.

والخامس: دخول الوقت في وضوء دائم الحدث؛ كالمستحاضة، وسلسل البول، أو المذي؛ لأن طهارته طهارة ضرورة، ولا ضرورة قبل الوقت. ومن شروطه: عدم الصارف، ويعبر عنه بدوام النية، فلو قطعها في أثناء الوضوء .. احتاج إلى نية جديدة. والعلم بفريضته وبكيفيته، فلو اعتقد العامي أن كل أفعاله فرض .. فالأصح: الصحة، أو سنة .. فلا، أو البعض ولم يميز .. صح وضوؤه على الأصح، بشرط ألا يقصد بالفرض النقل، ويجري هذا التفصيل في الصلاة. وقوله: (وعد منها الرافعي رفع الخبث) أي: وعد الرافعي من شروط الوضوء: رفع الخبث الذي يزول بالغسلة الواحدة من أعضاء وضوئه إن كان، فلا تكفي لهما غسلة واحدة؛ لأن الماء يصير مستعملاً في الخبث، فلا يستعمل في الحدث، والمعتمد: ما صححه النووي من أنها تكفي لهما كما في الحيض والجنابة؛ لأن مقتضى الطهرين واحد، والماء ما دام متردداً على العضو .. لا يحكم باستعماله. وصورها في "المجموع" في (باب نية الوضوء) بالخبث الحكمي، وأطلق في مواضع أخر، والأول جرى فيه على الغالب، فتكفي الغسلة لهما إذا زال الخبث بها وإن كان عينياً، ويجري الخلاف بتصحيحه في الحدث الأكبر مع الخبث، أما إذا لم يزل الخبث بالغسلة الواحدة .. فالحدث أيضاً باق. وقول الناظم: (الرافعي) بسكون الياء وصله بنية الوقف. [الكلام على بعض سنن الوضوء] (والسُّنن: السواك، ثم بسملا ... واغسل يديك قبل أن تدخلا) (إنا، ومضمض، وانتشق، وعمم ... الرأي، وأبدأه من المقدم) لما فرغ من شروط الوضوء .. ذكر من سننه أموراً:

منها: السواك أوله؛ لما مر في بابه. ومنها: البسملة بعد السواك؛ أي: عند غسل الكفين كما سيأتي؛ لخبر: "كل أمر ذي بال"، ولخبر النسائي بإسناد جيد كما في "المجموع" عن أنس قال: (طلب بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وضوءاً فلم يجدوا، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل مع أ؛ د منكم ماء؟ " فأتى بماء فوضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال: "توضؤوا باسم الله"، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه حتى توضؤوا، وكانوا نحو سبعين رجلاً)، وقوله: (باسم الله) أي: قائلين ذلك، وأقلها: (باسم الله)، وأكملها: (بسم الله الرحمن الرحيم)، زاد الغزالي بعدها في "بداية الهداية": (رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون). وحكى المحب الطبري عن بعضهم التعوذ قبلها، ويسن أن يقول بعدها: (الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً)، فإن ترك البسملة أوله .. استحب أن يقول في أثنائه: (باسم الله أوله وآخره). ومنها: غسل كفيه ثلاثاً قبل المضمضة وإن تيقن طهرهما، أو لم يرد غمسهما؛ للاتباع، رواه الشيخان، ثم إن شك في طهرهما .. سن غسلهما قبل أن يدخلهما إناء فيه ماء قليل أو مائع، بل يكره غمسهما فيه قبل غسلهما ثلاثاً، وهذا محمل كلام المصنف، وإن تيقن طهرهما .. لم يكره غمسهما فيه قبل غسلهما، بل ولا يسن غسلهما قبله. ومنها: المضمضة ثم الاستنشاق؛ للاتباع رواه الشيخان، ويحصلان بوصول الماء إلى الفم والأنف وإن ابتلعه أو لم يُدره، وتقديم المضمضة على الاستنشاق مستحق، فلو قدم الاستنشاق عليها .. حسب وفاتت، وقيل: مستحب. وتسن المبالغة فيهما للمفطر، والمبالغة في المضمضة: أن يبلغ الماء أقصى الحنك

واللثات، ويسن إمرار إصبعه اليسرى عليها، ومج الماء، وفي الاستنشاق: أن يصعد الماء بالنفس إلى الخيشوم، ويسن الاستنثار؛ بأن يخرج بعد الاستنشاق ما في أنفه من ماء وأذى، ويسن كونه بيده اليسرى. أما الصائم ولو نفلاً .. فتكره له المبالغة. والأفضل: جمعهما، وأن يكون بثلاث غرف يتمضمض من كل ثم يستنشق، فيحصل أصل السنة بفصلهما بست غرفات، أو بغرفتين يتمضمض من واحدة ثلاثاً ثم يستنشق من الأخرى ثلاثاً، وبجمعهما بغرفة يتمضمض منها ثلاثاً ثم يستنشق منها ثلاثاً، أو يتمضمض منها ثم يستنشق مرة، ثم كذلك ثانية وثالثة. ومنها: تعميم الرأس بالمسح؛ للاتباع، رواه الشيخان، وخروجاً من خلاف من أوجبه، والحكم عليه بالسنية لا ينافي وقوعه فرضاً على القول به. والسنة: أن يبدأ بمسحه من مقدمه؛ بأن يضع يديه على المقدم، ويلصق مسبحته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المبدأ؛ للاتباع، رواه الشيخان، وهذا لمن له شعر ينقلب بالذهاب والرد؛ ليصل البلل إلى جميعه، وذلك مرة واحدة، فإن لم يكن له شعر ينقلب .. لم يسن الرد؛ لعدم فائدته، فإن رد .. لم يحتسب ثانية؛ لأن الماء صار مستعملاً لعدم الحاجة إليه، فإن لم يرد نزع ما على رأسه .. كما المسح عليه. وقول المصنف: (بسملا) يفتح الميم بصيغة الماضي وفاعله المتوضئ والفه للإطلاق، أو بكسرها بصيغة الأمر وهو الأنسب بما بعده، ففاعله المخاطب، وألفه بدل من نون التوكيد الخفيفة، وقوله: (تدخّلا) بتشديد الخاء، ثم إن بني للمفعول .. فألفه ضمير تثنية عائد على (اليدين)، أو للفاعل .. فألفه للإطلاق، وقوله: (إنا) بالقصر للوزن. [مسح الأذنين] (ومسح أذنٍ باطناً وظاهرا ... وللصماخين بماءٍ آخرا) أي: من سننه: مسح الأذنين بعد مسح الرأس باطنهما وظاهرهما بماء غير بلل الرأس،

ومسح صماخيهما؛ أي خرقيهما بماء جديد غير الماءين؛ للاتباع، رواه في مسح الأذنين وصماخيهما أبو داود بإسناد حسن، أو صحيح، وفي كونه بغير ماء الرأس البيهقي بإسناد جيد، ولأن الصماخ من الأذن؛ كالفم والأنف من الوجه. والأحب في كيفية مسح ذلك كما قال الرافعي: أن يدخل مسبحتيه في صماخيه، ويديرهما على المعاطف، ويمر إبهاميه على ظهورهما، ثم يلصق كفية مبلولتين بالأذنين استظهاراً، ونقلها في "المجموع" عن الإمام والغزالي وجماعات، ثم نقل عن آخرين: أنه يمسح بالإبهامين ظاهر الأذنين، وبالمسبحتين باطنهما، ويمر رأس الأصابع في المعاطف، ويدخل الخنصر في صماخيه، وكلامه في "نكت التنبيه" يقتضي اختيار هذه الكيفية، والمراد من الأولى: أن يمسح برأسه مسبحتيه صماخيه، وبباطن أنمليتهما باطن الأذنين ومعاطفهما، فاندفع ما قيل: إنها لا تناسب سنية مسح الصماخين بماء جديد. وافهم كلام المصنف: أن مسح العنق ليس بسنة وهو كذلك، خلافاً للرافعي، بل هو بدعة، وألف (آخرا) للإطلاق. [تخليل أصابع اليدين والرجلين واللحية الكثة] (وخللن أصابع اليدين ... واللحية الكثة والرجلين) أي: من سنن الوضوء: تخليل أصابع اليدين بالتشبيك بينهما، وتخليل أصابع الرجلين؛ للأمر بكل منهما في خبر الترمذي وغيره، والأحب: أن يتخللهما بخنصر اليسرى من أسفل الأصابع، يبدأ بخنصر الرجل اليمنى ويختم بخنصر اليسرى، وقيل: يخلل بخنصر اليمنى، وقيل: هما سواء. فلو التفت أصابعه فلم يصل الماء إليها إلا بالتخليل .. وجب لا لذاته، ولو التحمت .. حرم فتقها.

وتخليل لحية الرجل الكثة بالمثلثة؛ أي: الكثيفة؛ للاتباع، رواه الترمذي وصححه، وذلك بأن يخللها والأصابع من أسفلها، ومثل اللحية كل شعر كثيف لا يجب إيصال الماء إلى منبته. (واستكمل الثلاث باليقين ... وأبدأ بيمناك سوى الأذنين) فيه مسألتان: [استحباب التثليث في الوضوء] الأولى: أنه أمر المتوضئ باستكمال الثلاث باليقين؛ من غسلٍ ومسح وتخليل وغيرها؛ فالأولى واجبة، والاثنتان مسنونتان؛ لخبر "مسلم" عن عثمان: (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً)، وخبر "أبي داود" بإسناد حسن كما في "المجموع": (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه ثلاثاً)، وخبر "البيهقي" بإسناد جيد كما في "المجموع" عن عثمان: أنه توضأ فخلل بين أصابع قدميه ثلاثاً، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، وروى البخاري: (أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة)، (وتوضأ مرتين مرتين). وتناول كلام المصنف: القول؛ كالتسمية والتشهد فليسن تثليثه، وبه صرح الروياني في التشهد آخره، ورواه أحمد وابن ماجه. فلو شك في العدد .. أخذ بالأقل عملاً باليقين؛ كما لو شك في عدد الركعات، والزيادة على الثلاث إنما تكون بدعة إذا علم يزيادتها، ولو توضأ مرة، ثم مرة، ثم مرة .. لم تحصل فضيلة التثليث، بخلاف نظيره في المضمضة والاستنشاق؛ لأن الوجه واليد متباعدان فينبغي الفراغ من أحدهما، ثم الانتقال إلى الآخر، والفم والأنف كعضو فجاز تطهيرهما معاً كاليدين

كذا نقله في "المجموع" عن الشيخ أبي محمد الجويني وأقره، وبه أفتى البارزي، وخالف الروياني والفوراني وغيرهما فقالوا بحصولها. ويستثنى مما ذكره: ما لو ضاق الوقت، أو كفاه الماء لوضوئه وبه عطش مثلاً، ولا تتأتى إزالته إلا إن توضأ مرة مرة .. فإنه يقتصر عليها. [استحباب البدء باليمين] الثانية: أنه أمر المتوضئ بأن يبدأ بيمناه ندباً؛ لخبر: "إذا توضأتم .. فابدؤا بميامنكم" رواه أينا خزيمة وحبان في "صحيحيهما"، ولخبر "الصحيحين" عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله - أي: تسريح شعره - وطهوره وفي شأنه كله) أي: مما هو من باب التكريم؛ كاكتحال، ونتف إبط، وحلق رأس، واليسرى بضم ذلك؛ كامتخاط، ودخول خلاء، ونزع ملبوس؛ لما رواه أبو داود وقال في "المجموع": إنه صحيح: (كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى). ثم أشار بقوله: (سوى الاذنين) إلى أن العضوين إذا كانا بحيث يسهل إمراء الماء عليهما معاً .. فالسنة غسلهما معاً، وذلك في الكفين والخدين والأذنين. [استصحاب النية ذُكراً في الوضوء] (واستصحب النية من بدءٍ إلى ... آخره، ودلك عضوٍ، والولا) أمر المتوضئ باستصحاب النية ذُكراً من ابتداء سنن الوضوء؛ ليحصل ثوابها إلى آخره كالصلاة، ولئلا يخلو جزء منه عنها حقيقة، فينوي مع التسمية عند غسل الكفين كما صرح به ابن الفركاح فإن يقرنها بها عند أول غسلهما، كما يقرنها بتكبيرة الإحرام، فاندفع ما قيلك إن قرنها بها مستحيل؛ لأن يسن التلفاز بالنية، ولا يعقل التلفظ معه بالتسمية، وممن صرح بأنه

ينوي عند غسل الكفين: الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ، فالمراد بتقديم التسمية على غسل الكفين: تقديمها على الفراغ منه. [الدلك والموالاة] ومن سنن الوضوء: دلك كل عضو مغسول من أعضاء الوضوء؛ يأن يمر يده عليه بعد إفاضة الماء احتياطاً وتحصيلاً للنظافة، وخروجاً من خلاف من أوجبه. والوِلاء بين الأعضاء في وضوء الرفاهية؛ بأن يغسل العضو الثاني قبل أن يجف الأول، مع اعتدال الهواء والزمان والمزاج؛ للاتباع، وخروجاً من خلاف من أوجبه، وإذا غسل ثلاثاً .. فالعبرة بالأخيرة، ويقدر الممسوح مغسولاً، وغذا ترك الولاء وقد عزبت النية، .. لم يجب تجديدها في البناء كما صححه في "التحقيق" وغيره، والتفريق الطويل مكروه. [الوضوء بمدٍّ والغسل بصاع] (وللوضو مُدٌّ، وللتغسيل ... صاعٌ وطول الغُرِّ للتحجيل) من السنن: التوضؤ بمُد من الماء، والغسل بصاع منه؛ لخبر مسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد) أي: تقريباً، وزنة المد: رطل وثلث بالبغدادي، والصاع: أربعة أمداد، ولو توضأ أو اغتسل بأقل من ذلك .. أجزأه، قال الشافعي: قد يرفق بالقليل .. فكفي، وقد يخرق بالكثير .. فلا يكفي، وهذا فيمن حجمه كحجم النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فيعتبر بالنسبة زيادة ونقصاً. وقوله: (وللوضوء) بسكون الواو وصله بنية الوقف. [تطويل الغرة والتحجيل] وتطويل الغرة: بغسل زائد على الواجب من الوجه من جميع جوانبه، وتطويل التحجيل: بغسل زائد على الواجب من اليدين والرجلين من جميع الجوانب؛ لخبر "الصحيحين": "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته ..

فليفعل"، وخبر "مسلم": "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم .. فليطل غرته وتحجيله"، وغاية التحجيل: المنكب والركبة. وقوله: (الغر) بحذف التاء للترخيم، ويجوز في الراء الفتح والكسر. (ثم الوضوء سُنةٌ للجُنُب ... لنومه أو إن يطأ أن يشرب) (كذاك تجديد الوضوء إن صلى ... فريضةً أو سُنةً أو نفلا) [مما يستحب فيه الوضوء] يسن الوضوء في نحو أربعين موضعاً، ذكر المصنف منها: أنه يسن للجنب الوضوء؛ أي: مع غسله الفرج قبله لنومه ووطئه وشربه؛ أي: وأكله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام .. توضأ وضوءه للصلاة)، وقيس بالأكل الشرب، وقال: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود .. فليتوضأ بينهما وضوءاً" رواهما مسلم، وزاد البيهقي الثاني: "فإنه أنشط للعود"، والحكمة في ذلك: تخفيف الحدث غالباً، والتنظف ودفع الأذى، وقيل: لعله ينشط للغسل، ويزيد الجماع؛ فإن ذلك أنشط له كما مر في الحديث، فلو فعل شيئاً من هذه الأمور بلا وضوء .. كره كما نقله في "شرح مسلم" عن الأصحاب، ومثل الجنب فيما ذكر الحائض والنفساء إذا انقطع دمها. [استحباب تجديد الوضوء] ومنها: أنه يسن تجديد الوضوء إذا صلى به فريضة أو سنة أو نفلاً مطلقاً؛ أي: بخلاف الغسل والتيمم؛ لأن موجب الوضوء أغلب وقوعاً، واحتمال عدم الشعور به أقرب فيكون الاحتياط فيه أهم، ولخبر أبي داود وغيره: "من توضأ على طهر .. كتب له عشر حسنات"، قال

بعضهم: والظاهر: أن طواف الفرض والسنة في معنى الصلاة، فيستحب له التجديد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمى الطواف بالبيت صلاة، ولم أجد من ذكره. انتهى. وكسر الباء من (يشرب) للوزن. (وركعتان للوضوء، والدعا ... من بعده في أي وقتٍ وقعا) فيه ثلاث مسائل: [استحباب ركعتي الوضوء] الأولى: أنه يسن للوضوء ركعتان؛ بأن يصليهما عقبة ينوي بهما سنة الوضوء؛ لخبر مسلم عن عثمان قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه .. غفر له ما تقدم من ذنبه"، ويقرأ بعد (الفاتحة) في الأولى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}، وفي الثانية: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً}. ويحصلان بفرض أو نفل آخر ركعتين أو أكثر؛ كما في ركعتي التحية والإحرام والطواف والاستخارة. [استحباب الدعاء عقب الوضوء] الثانية: أنه يسن الدعاء بعد الوضوء؛ بأن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم؛ اجعلني من التوابين، واجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ان لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) لخبر "مسلم": "من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء"، وزاد الترمذي عليه: "اللهم؛ اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين"، وروى الحاكم الباقي بسند

صحيح بلفظ: "من توضأ فقال: سبحانك اللهم ... " إلى آخر ما تقدم " .. كتب في رَقٍّ ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة" أي: لا يتطرق إليه إبطال. ويسن أن يقول ذلك متوجهاً إلى القبلة، وأن يقول معه: (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد)، ذكره في "المجموع". [ركعتا الوضوء سنة ولو في وقت الكراهة] الثالثة: أنه لا فرق في استحباب ركعتي الوضوء بين أن تقع في غير وقت كراهة الصلاة، وبين أ، تقع فيه؛ لأن لركعتي الوضوء سبباً وهو الوضوء، وهذا معنى قوله: (في أي وقت وقعا) فألف (وقعا) ضمير تثنية عائد على ركعتي الوضوء. [آداب الوضوء] (آدابه: استقبال قبلةٍ، كما ... يجلس حيث لم ينله رش ما) (ويبتدي اليدين بالكفين ... وبأصابع من الرجلين) جعل المصنف هذه المندوبات من الآداب تبعاً لجماعة؛ نظراً إلى أن السنة ما يتأكد أمره، والأدب دونه، ولكن المعروف أن المطلوب طلباً غير جازم كما يعبر عنه بالسنة ونحوها يعبر عنه بالأدب. فمن آدابه: استقبال المتوضئ القبلة في وضوئه؛ لأنها أشرف الجهات، وقد قيل: إن استقبالها ينوِّر البصر. وجلوسه في مكان مرتفع؛ بحيث لا يناله رشاش ماء الوضوء؛ تحرزاً عنه، وكذا يضع المغتسل ثيابه في موضع؛ بحيث لا ينالها رشاش ماء الغسل. ووضعه إناء الماء عن يمينه إن كان يغترف منه، وعن يساره إن كان يصب منه على يده؛ لأن ذلك أمكن فيهما. وعدم استعانته بأحد، ووقوف المعين له بالصب على اليسار إن استعان؛ لأنه أعون وأمكن وأحسن أدباً.

والبداءة في غسل الوجه بأعلاه؛ لأنه أشرف لكونه محل السجود، وفي غسل اليدين بالكفين، وفي غسل الرجلين بأصابعهما إن صب على نفسه، وكذا إن صب عليه غيره كما نقله في "المجموع" عن الأكثرين واختاره، وجرى عليه في "التحقيق"، قال في "المهمات": والفتوى عليه، لكن في "الروضة" كـ "أصلها" تبعاً للصيمري والماوردي: أنه يبدأ حينئذ بالمرفق والكعب. [مكروهات الوضوء] (مكروهه: في الماء حيث اسرفا ... ولو من البحر الكبير اغترفا) (أو قدم اليسرى على اليمنى ... أو جاوز الثلاث باليقين) أي: مكروهات الوضوء أشياء: منها: الإسراف في مائه ولو اغترف المتوضئ من البحر الكبير الملح أو العذب؛ لخبر الترمذي عن أبي بن كعب: "إن للوضوء شيطاناً يقال له: الولهان"، وخبر ابن ماجه عنه ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: طما هذا السرف؟ ! " فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم، وإن كنت على نهر"، وقيل: إن الإسراف حرام. ومنها: تقديم اليسرى على اليمنى؛ للنهي في "صحيح ابن حبان". ومنها الزيادة على الثلاث؛ أي: أو النقص عنها؛ لخبر أبي داود وغيره وهو صحيح كما في "المجموع": أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص .. فقد أسار وظلم" أي: فمن زاد على الثلاث أو نقص منها .. فقد

أساء وظلم في كل من الزيادة والنقص، وقيل: أساء في النقص، وظلم في الزيادة، وقيل عكسه. وقول المصنف: (باليقين) أي: بأن يعلم بزيادتها على الثلاث، أما لو شك .. فإنه يأخذ بالأقل؛ لأنه اليقين، واعترض بأن ذلك ربما يزيد رابعة وهي بدعة، وترك سنة أسهل من اقتحام بدعة، وأجيب بأنها إنما تكون بدعة إذا علم أنها رابعة، وحينئذ تكون مكروهة كما جرى عليه المصنف. ومنها: المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم. ومنها: الاستعانة بمن يطهر أعضاءه بلا عذر. وأما غسل الرأس .. فلا يكره على الأصح. والألف في قول الناظم: (أسرفا) و (اغترفا) للإطلاق. * * * ولما كان المتوضئ مخيراً بين غسل الرجلين وبين مسح الخفين .. ذكره المصنف عقب (باب الوضوء) فقال:

باب المسح على الخفين

بابُ المسح على الخُفَّين هو أحسن من تعبير كثير بالمسح على الخف؛ فإنه لا يجوز أن يمسح على خف إحدى رجليه ويغسل الأخرى، أو يتيمم عنها إن كانت عليلة، فلو لم يكن له إلا رجل .. جاز المسح على خفها، ولو بقيت من الرجل الأخرى بقية .. لم يجز المسح حتى يواريها بما يجوز المسح عليه. [رخصة المسح على الخفين ومدته] (رُخِّص في وضوء كل حاضر ... يوماً وليلةً، وللمسافر) (وفي سفر القصر إلى ثلاث ... مع لياليها من الإحداث) أي: رخص المسح على الخفين بدلاً عن غسل الرجلين في وضوء كل شخص حاضر يوماً وليلة، وللمسافر في سفر القصر إلى ثلاثة أيام ولياليها من الإحداث بكسر الهمزة؛ لخبر ابني خزيمة وحبان: (أنه صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما)، وخبر "مسلم" عن شريح بن هانئ قال: سألت علي بن أبي طالب عن المسح على الخفين فقال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم). وقوله: (رُخِّص) يشمل ما هو الأصل فيه؛ وهو جوازه مع كون غسل الرجلين افضل منه، وما إذا كان أفضل من الغسل؛ كأن تركه رغبة عن السنة، أو شكاً في جوازه، وما إذا كان واجباً؛ كأن خاف فوات عرفة لو لم يمسح، أو كان لابس خف بشرطه فأحدث ومعه ماء يكفي المسح فقط. وخرج بقوله: (في وضوء): التيمم المحض لفقد الماء، وإزالة النجاسة؛ فلا يجوز المسح فيهما، والغسل لا يجوز المسح فيه، واجباً كان أو مندوباً كما نقله في "المجموع" عن

الأصحاب، وهو كما قال: مأخوذ من حديث الجنابة الآتي آخر الباب. وسوغ حذف تاء (ثلاث) حذف معدودها. وقوله: (مع لياليها) المراد بها: ثلاثة ليال متصلة بها، سواء أسبق اليوم الأول ليلته؛ بأن أحدث وقت المغرب أم لا؛ كأن أحدث وقت الفجر، ولو أحدث في أثناء الليل أو النهار .. اعتبر قدر الماضي منه من الليلة الرابعة، أو اليوم الرابع، وعلى قياس ذلك يقال في مدة المقيم. وما ذكره المصنف: من أن المقيم يمسح يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها .. محله: إذا مسح خفية في السفر وإن أحدث في الحضر أو خرج وقت الفريضة فيه؛ فلو مسح حضراً ولو أحدَ خفيه .. أتم مسح مقيم، ولو مسح سفراً ثم أقام .. لم يستوف مدة سفر، ومحله أحدث بعد لبس خفيه غير حدثه الدائم، وقبل أن يصلي به فرضاً .. جاز له المسح على خفيه، واستباح به ما كان يستبيحه بطهره الذي لبس عليه الخف وهو فرض ونوافل، فلو صلى بطهره فرضاً قبل أن يحدث .. استباح بهذا المسح النوافل فقط، والتيمم لغير فقد الماء كمرض أو جراحة .. يمسح على خفية لفرض ونوافل فقط إن أحدث قبل أن يصلي بطهره فرضاً، وإلا .. استباح النوافل فقط، سواء أكان تيممه مكملاً لوضوء أو غسل أم مستقلاً. وإنما كان ابتداء المدة من الحدث بعد اللبس؛ أي: من انتهائه؛ لأن وقت جواز المسح؛ أي: الرافع للحدث يدخل به، فاعتبرت مدته منه؛ إذ لا معنى لوقت العبادة غير الزمن الذي يجوز فعلها فيه كوقت الصلاة. وقيل: ابتداؤها من المسح بعد الحدث، واختاره في "المجموع". وأفهم كلام المصنف: أنه لو توضأ بعد حدثه وغسلف رجليه في الخف ثم أحدث .. كان ابتداء مدته من حدثه الأول، وبه صرح الشيخ أبو علي في "شرح الفروع" وأنه يمسح في سفر المعصية يوماً وليلة فقط كالسفر القصير، وهو الأصح. وقيل: لا يمسح فيه أصلاً تغليظاً عليه؛ كما لا يباح له فيه أكل الميتة بلا خلاف وإن أبيح للمقيم العاصي بإقامته على المذهب.

قال القفال: والفرق أن أكلها وإن أبيح حضراً؛ للضرورة لكن سببه في السفر: سفره، وهو معصية فحرم عليه ذلك؛ كما لو جرح في سفر المعصية .. لم يجز له التيمم لذلك الجرح، مع أن الجريح الحاضر يجوز له التيمم، فإن قيل: تحريم ذلك يؤدي إلى الهلاك .. فجوابه: إنه قادر على استبحاحته بالتوبة، ذكر جميع ذلك في "المجموع". (فإن يشك في انقضاءٍ غسلا ... وشرطه اللبس بطهرٍ كملا) (يمكن مشي حاجةٍ عليهما ... والستر للرجلين مع كعبيهما) فيهما مسألتان: [الشك في انقضاء المدة] الأولى: إذا شك في انقضاء مدة المقيم؛ بأن كان غير مسافر سفر القصر، أو مدة السفر؛ بأن كان مسافراً سفر القصر، سواء أشك في الابتداء؛ كما إذا شك هل أحدث وقت الظهر أو العصر، أو لم يشك كأن تردد هل مسح حاضراً أو مسافراً .. غسل رجليه وجوباً؛ لأن المسح رخصة بشروط منها: المدة، فإذا شك فيها .. رجع إلى الأصل وهو الغسل، فلو شك مسافر هل مسح في السفر أو الحضر .. اقتصر على مدة الحضر، فلو خالف وصلى في اليوم الثاني بالمسح، ثم تبين له في اليوم الثالث أنه ابتدأ المسح في السفر .. جاز له أن يمسح ويصلي في اليوم الثالث، ويعيد مسحه وصلاته في اليوم الثاني؛ لوقوعهما مع التردد. [شروط المسح على الخفين] الثانية: شرطه؛ أي: المسح على الخفين أمور: الأول: لبسهما بطهر من الحدثين كامل؛ أي: عليه للخبر الأول، وخبر "الصحيحين": "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين"، فلو لبسهما قبل غسل رجليه .. لم يجز المسح، إلا أ، ينزعهما من موضع القدم، ثم يدخلهما فيه، ولو أدخل إحداهما بعد غسلها ثم غسل الأخرى وأدخلها .. لم يجز المسح، إلا أن ينزع الأولى من موضع القدم، ثم يدخلها

فيه، ولو غسلهما في ساق الخف ثم أدخلهما موضع القدم .. جاز المسح، ولو ابتدأ اللبس بعد غسلهما، ثم أحدث قبل دخولهما إلى موضع القدم .. لم يجز المسح. ولو أخرجهما بعد اللبس من مقرهما ومحل الفرض والخف معتدل .. لم يضر، وفارقت ما قبلها بالعمل بالأصل فيهما، وبأن الدوام أقوى من الابتداء؛ كالإحرام والعدة يمنعان ابتداء النكاح دون دوامه. ويؤخذ من قوله: (بطهر كملا): أنه يشترط كون الخفين طاهرين، فلا يجزئ مسح النجس، قال في "المجموع": والتنجس؛ إذ لا تصح الصلاة فيه التي هي المقصود الأصلي من المسح وما عداها من مس المصحف ونحوه؛ كالتابع لها، ولأن الخف بدل عن الرجل، وهي لا تغسل عن الوضوء ما لم تزل نجاستها فكذا بدلها. نعم؛ لو كان بأسفل الخف نجاسة معفو عنها .. مسح منه ما لا نجاسة عليه، ذكره في "المجموع". الثاني: كونهما بحيث يمكن متابعة المشي عليهما لتردد مسافر لحاجاته عند الحط والترحال وغيرهما مما جرت به العادة ولو كان لابسه مقعداً، بخلاف ما لم يكن كذلك؛ لغلظه كالخشبة العظيمة، أو رقته كجورب الصوفية، والمتخذ من الجلد الضعيف، أو غير ذلك كسعته أو ضيقه .. فلا يكفي المسح عليه، إلا إن كان ضيقا يتسع بالمشي فيه عن قرب، وقد ذلك المحاملي وابو حامد في "الرونق" بثلاث ليال فصاعداً، واقتصر عليه الإسنوي في "تنقيحه"، وضبطه الشيخ أبو محمد في " التبصرة" بمسافة القصر، واعتمده في "المهمات". قال ابن العماد: والأقرب إلى إطلاق الأكثرين أن المراد: التردد فيه لحوائج سفر يوم وليلة للمقيم، وسفر ثلاثة أيام بلياليها للمسافر؛ لأنه بعد انقضاء المدة يجب نزعه، فقوته تعتبر بأن يمكن التردد فيه لذلك. انتهى. وشمل كلام المصنف: ما لو كان الخف مشقوق قدم شد بالعرى، وهو كذلك على الأصح؛ لحصول الستر والارتفاق به، وما لو كان غير حلال وهو كذلك أيضاً على الأصح، فيكفي المسح على المغصوب كالوضوء بماء مغصوب، وما لو كان خفاً فوق خف قويين،

ومسح أسفلهما، أو الأعلى ووصل البلل إلى الأسفل لا بقصد الأعلى فقط، وكذا لو كان الأعلى غير صالح للمسح، ويؤخذ من كلامه: أنه يشترط كونهما يمنعان نفوذ ماء الغسل لو صب عليهما من غير محل الخرز؛ لأن ما لا يمنعه خلاف الغالب من الخفاف المنصرف إليها نصوص المصح، فلو تخرقت ظهارة الخف أو بطانته أو هما ولم يتحاذيا والباقي في الثلاثة صفيق .. أجزأه وإن نفذ الماء منه إلى محل الفرض لو صب عليه في الثالثة، بخلاف ما إذا لم يكن الباقي صفيقاً، أو تحاذى الخرقان. الثالث: كونهما ساترين للرجلين مع كعبيهما من كل الجوانب، وهو محل الفرض لا من الأعلى، فلو رُئي منه بأن يكون واسع الرأس .. لم يضر عكس ستر العورة؛ لأن اللبس هنا من أسفل وهناك من الأعلى، والمراد بالساتر: الحائل لا مانع الرؤية، فيكفي الشفاف كالزجاج، عكس ساتر العورة؛ لأن القصد هنا منع نفوذ الماء، وهناك منع الرؤية. والألف في قوله: (غسَلا) و (كمَلا) للإطلاق. (والفرض مسح بعض علوٍ، وندب ... للخف مسح السفل منه والعقب) (وعدم استيعابه، ويكتره ... الغُسل للخفِّ، ومسحٌ كرَّره) فيهما خمس مسائل: [الفرض في المسح على الخفين] الأولى: الفرض في مسح الخفين مسح بعض علو كل خف؛ لتعرض النصوص لمطلقه كما في مسح الرأس في محل الفرض؛ لأنه بدل عن الغسل، وخرج (بِعُلوه) بضم أوله وكسره: سفله كذلك، وباطنه الذي يلي الرجل، وحرفه، وعقبه؛ لأن اعتماد الرخصة الاتباع، ولم يرد الاقتصار على غير علوه. [كيفية المسح على الخفين] الثانية: يسن مسح سفل الخف؛ أي: مع أعلاه، وعقبه وهو مؤخر الرجل؛ قياساً على أسفله، بل أولى؛ لأنه بارز يرى، والأسفل لا يرى غالباً.

الثالثة: يسن عدم استيعاب الخف بالمسح بأن يمسحه خطوطاً؛ لما رواه ابن ماجه وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه خطوطاً من الماء). والأولى في كيفيته: أن يضع كفه اليسرى تحت عقبه، واليمنى على ظهر أصابعه، ويمر باليسرى إلى أطراف أصابعه من أسفل، واليمنى إلى الساق مفرجاً بين أصابع يديه؛ لأثر عن ابن عمر، رواه البيهقي وغيره، ولأنه أسهل وأليق باليمنى واليسرى. [ما يكره في المسح على الخفين] الرابعة: يكره غسل الخف؛ لأنه يعيبه بلا فائدة. الخامسة: يكره تكرير مسحه، لأنه يعرضه للتعييب، ولأنه بدل كالتيمم، بخلاف مسح الرأس. [مبطلات المسح على الخفين] (يبطله: خلعٌ، ومُدَّاه الكمال ... - فقدميك اغسل - وموجب اغتسال) أي: يبطل المسح أمور: أولهما: خلع للخفين أو لأحدهما وهو بطهر المسح، ومثله: ظهور رجله، أو الخرق التي تحته، أو بعض الرجل أو الخِرَق. ثانيها: انتهاء مدة المسح، فيجب غسل القدمين؛ لبطلان طهرهما بالخلع، أو الانتهاء، وخرج بـ (طهر المسح): طهر الغسل؛ بأن لم يحدث بعد الغسل، أو أحدث لكن توضأ وغسل رجليه في الخف .. فطهارته كاملة، ولا يلزمه شيء، وله أن يستأنف لبس الخف في الثانية بهذه الطهارة، ذكره في "المجموع"، قال في "المهمات": وأشار بقوله: (وله أن يستأنف) إلى وجوب النزع إذا أراد المسح، حتى لو كان المقلوع واحدة فقط .. فلا بد من نزع الأخرى وهو كذلك.

والألف واللام في قول المصنف: (ومدة الكمال) للعهد، أو بمعنى: الضمير على رأي؛ أي: مدة كماله؛ أي: المسح. ثالثها: موجب الاغتسال: من جنابة وحيض ونفاس وولادة جافٍّ؛ فإنه يوجب النزع، وتجديد اللبس إن أراد المسح؛ بأن ينزع ويتطهر، ثم يلبس وذلك اللبس انقطعت مدة المسح فيه بالجنابة؛ لأمر الشارع بنزع الخف من أجلها في حديث صفوان بن عسَّال، صححه الترمذي وغيره، دل الأمر بالنزع: على عدم جواز المسح في الغسل والوضوء؛ لأجل الجنابة فهي مانعة من المسح قاطعة لمدته، حتى لو اغتسل لابساً .. لا يمسح بقيتها؛ كما هو مقتضى كلام الشيخين وغيرهما، وقيس بالجنابة ما في معناها، ولأن ذلك لا يتكرر تكرر الحدث الأصغر فلا يشق النزع. وخرج بقوله: (وموجب اغتسال): طروء النجاسة؛ فإنه لا يوجب النزع إن أمكن إزالتها في الخف، فله إتمام المدة؛ لعدم الأمر بالنزع لها، بخلاف الجنابة، وليست في معناها، فإن لم يمكن إزالتها فيه .. وجب النزع. * * *

باب الاستنجاء

بابُ الاستنجاء أي: وآداب قضاء الحاجة؛ وهو والاستطابة يعمان الماء والحجر. (تلويث فرجٍ موجبُ استنجاء ... وسُنَّ بالأحجار ثم الماء) فيه مسألتان: [موجب الاستنجاء] الأولى: تلويث الفرج؛ أي: القبل أو الدبر بخارج نجس منه .. موجب الاستنجاء بماء أو حجر كما سيأتي إزالة للنجاسة لا على الفور؛ فإنه يجوز تأخيره عن الوضوء، بخلاف التيمم، ولا فرق في الملوث المذكور بين كونه معتاداً كالبول، وكونه نادراً كالدم والقيح والمذي والودي، فلا يجب الاستنجاء بخروج ريح ولا نحو بعرة جافة؛ لفوات مقصوده من إزالة النجاسة أو تخفيفها. [استحباب الجمع بين الماء والأحجار] الثانية: يسن الاستنجاء بالأحجار، ثم الماء؛ بأن يجمع بينهما مقدماً الأحجار؛ لأن العين تزول بالأحجار، والأثر بالماء من غير حاجة إلى مخامرة عين النجاسة. وقضية كلام المصنف: أنه لا فرق في استحباب الجمع بين البول والغائط، وأنه لابد من طهارة الأحجار؛ لتحصيل الأفضل، وأنه لا يكتفى بدون الثلاث له وهو كذلك، لكن قال الإسنوي: إن المعنى وسياق كلامهم يدلان على الاكتفاء بدون الثلاث مع الإنقاء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما .. فالماء أفضل. (يُجزئ ماءٌ أو ثلاث أحجار ... يُنفي تبها عيناً، وسن الإيتار) (ولو بأطرافٍ ثلاثةٍ حصل ... بكل مسحةٍ لسائر المحل)

فيهما أربع مسائل: [إجزاء الاستنجاء بماء أو ثلاثة أحجار] الأولى: أنه يجزئ في الاستنجاء ماء على الأصل في إزالة النجاسة، أو ثلاثة أحجار؛ لأن الشارع جوز الاستنجاء بها حيث فعله، رواه البخاري، وأمر بفعله بقوله فيما رواه الشافعي وغيره: "وليستنج أحدكم بثلاث أحجار"، الموافق لما رواه مسلم وغيره من نهيه عليه الصلاة والسلام عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار. وقد استفيد من كلامه: أن الشرط أمران: ثلاثة أحجار، وإنقاء المحل، فلا يكفي الإنقاء بدونها، وإلا .. لم يكن لاشتراطها معنى، فإن لم يحصل الإنقاء بها .. وجبت الزيادة إلى حصوله. وشمل كلامه: أحجار الذهب والفضة والجواهر، وإجزاء الأحجار في دم الحيض، أو نفساء ولو ثيباً وهو كذلك، وفائدته: فيمن انقطع دمها وعجزت عن استعمال الماء؛ لسفر أو مرض أو نحوه فاستنجت بالأحجار، ثم تيممت .. فإنها تصلي ولا إعادة. والأصح: تعين الماء لاستنجاء قبلي المشكل، وثقبة ينقض الخارج منها, وبول ثيب تحققت وصوله لمدخل الذكر، ولا يجزئ الحجر في بول الأقلف إذا وصل البول إلى الجلدة كما هو الغالب. [وجوب إنقاء المحل] الثانية: أنه يجب إنقاء المحل بالأحجار من عين النجاسة؛ بحيث لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء، أو صغار الخزف. [استحباب الإيتار بعد الإنقاء] الثالثة: أنه يسن الإيتار - بالمثناة - في الاستنجاء بعد الإنقاء المذكور، إن لم يحصل بوتر؛ كأن حصل برابع فيأتي بخامس؛ قال صلى الله عليه وسلم "إذا استجمر أحدكم .. فليوتر" متفق عليه.

[إجزاء ثلاث أطراف حجر إذا أنقى المحل] الرابعة: أنه يجزئ إنقاء المحل في الاستنجاء بأطراف ثلاثة من حجر واحد؛ لأن المقصود عدد المسحات، بخلاف رمي الجمار. وقوله: (بكل مسحة لسائر المحل) أي: يجزئ ثلاث أحجار، أو ثلاثة أطراف حجر ينقي بها عين النجاسة حصل بكل منها مسح سائر المحل، ويسن في تعميم المحل بكل مسحة أن يبدأ بالأول من مقدَّم الصفحة اليمنى، ويديره قليلاً قليلاً إلى أن يصل إلى موضع ابتدائه، وبالثاني من مقدم الصفحة اليسرى، ويديره إلى أن يصل إلى موضع ابتدائه، ويمر الثالث على الصفحتين والمَسْرُبة جميعاً، وما ذكره المصنف هو الأصح، وقيل: واحد لليمنى، وآخر لليسرى، والثالث للوسط، وقيل: واحد للوسط مقبلاً، وآخر له مدبراً، ويحلق بالثالث، والخلاف في الأفضل لا في الوجوب على الصحيح في "الروضة" و"أصلها" و"المجموع" وغيرها. قال بعضهم: ولابد في كل قول: من أن يعم بكل مسحة جميع المحل؛ ليصدق أنه مسحه ثلاث مسحات كما علم من كلام الناظم، وقول ابن المقري في "شرح إرشاده": والأصح: أنه لا يشترط أ، يعم بالمسحة الواحدة المحل وإن كان أولى، بل تكفي مسحة لصفحةٍ، وأخرى للأخرى، والثالثة للمسربة .. مردود، والوجه الثاني الذي أخذ منه ذلك غلَّط الأصحاب - كما في "المجموع" - قائله من حيث الاكتفاء بما لا يعم المحل بكل حجر، لا من حيث الكيفية. انتهى. قال المتولي: فإن احتاج إلى رابع وخامس .. فصفة استعماله كصفة الثالث. وقول الناظم: (بكلٍّ) بالتنوين، و (مسحُه) بإضافته لضمير (كل) ورفعه على أنه فاعل (حصل)، أو بإضافة (كل) لـ (مسحةٍ) بتاء التأنيث. [من شروط الاستنجاء بالحجر] (والشرط: لا يجف خارجٌ، ولا ... يطرأ غيره، ولن ينتقلا) أي: الشرط في الاستنجاء بالحجر: ألا يجف الخارج، ولا يطرأ عليه غيره، ولا ينتقل

عن الموضع الذي أصابه عند الخروج واستقر فيه، فإن جف، أو طرأ غيره ولو بللاً بالحجر، أو انتقل .. تعيَّن الماء. نعم؛ لو جف بوله ثم بال ثانياً فوصل بوله إلى ما وصل إليه بوله الأول .. كفى فيه الحجر، صرح به القاضي والقفال، قال: ومثله الغائط؛ أي: إذا كان مائعاً. وعلم من كلام المصنف: إجزاء الحجر في النادر وفي الخارج المنتشر حول المخرج فوق عادة الناس إن اتصل ولم يجاوز الحشفة في البول والصفحتين في الغائط وهو كذلك، فإن نقطع .. تعين الماء في المنفصل عن المخرج، وأجزأ الحجر في غيره، أو جاوز متصلاً .. تعين الماء في الجميع، أو منقطعاً .. أجزأ الحجر فيما اتصل بالمخرج. [من سنن الاستنجاء] ويسن أن يبدأ المستنجي بالماء بقبله، وبالحجر بدبره، وأن يعتمد في الدبر على إصبعه الوسطى، ولا يتعرض للباطن. ويسن بعد الاستنجاء: أن يدلك يده بالأرض أو نحوها، وأن ينضح فرجه وإزاره من داخله؛ دفعاً للوسواس، ويكفي المرأة في استنجائها غسر ما ظهر منها بجلوسها على القدمين. والألف في قول الناظم: (ينتقلا) للإطلاق. (والندب في البناء لا مستقبلاً ... أو مدبراً، وحرَّموه في الفلا) [من سنن قضاء الحاجة في البناء عدم استقبال القبلة أو استدبارها] أي: السنة لقاضي الحاجة في البناء: الا يستقبل القبلة ولا يستدبرها؛ إكراماً لها، وحرم الأئمة استقباله أو استدباره لها في الفلا، فحملوا الأحاديث الدالة على التحريم على الحالة الثانية، والدالة على الجواز على الأولى. والمراد بـ (البناء): أن يكون بينه وبين القبلة ساتر مرتفع ثلثي ذراع فأكثر، بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل، سواء أكان في بناء أم فلا، وبـ (الفلا): ألا يكون كذلك، فالاعتبار بالساتر وعدمه لا بالبناء والفلا على الأصح، فيحرم الاستقبال والاستدبار في البناء إذا لم يستتر على الوجه

المذكور، إلا أن يكون في بناء مهيأ لقضاء الحاجة، ذكر ذلك في "المجموع" وغيره. ولو هبت الريح عن يمين القبلة وشمالها .. جاز ذلك، قاله القفال في "فتاويه". [آداب قضاء الحاجة] (ولا بماءٍ راكدٍ، ولا مهب ... وتحت مثمرٍ وثقبٍ وسرب) أي: ومن آداب قضاء الحاجة: الا يقضيها - سواء أكانت بولاً أم غائطاً - بماء راكد؛ أي: فيه، قليلاً كان أو كثيراً؛ لخبر مسلم: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى أ، يبال في الماء الراكد)، والنهي فيه للكراهة، وهي في القليل وبالليل أشد؛ لتنجيسه القليل، ولما قيل: إن الماء بالليل مأوى الجن، أما الجاري .. فنقل في شرحي "المهذب" و"مسلم" عن جماعة الكراهة في القليل منه دون الكثير، ثم قال: وينبغي أن يحرم البول في القليل مطلقاً؛ لإتلافه، وأجيب عنه بإمكان طهره بالمكاثرة، قال: وأما الكثير؛ يعني: من الجاري .. فالأولى اجتنابه، وجزم في "الكفاية" بالكراهة في الليل؛ لما مر. قال في "المجموع": ويكره البول بقرب القبر، ويحرم عليه، وعلى ما يمتنع الاستنجاء به؛ لحرمته كعظم، ومثله: التغوط، بل أولى، قال: ويكره البول والتغوط بقرب الماء. ومنها: الا يقضيها في مهب ريح، فيكره أن يستقبلها بالبول بأن تكون هابّةً؛ لئلا يترشرش منه، ومنه المراحيض المشتركة. ومنها: ألا يقضيها تحت شجرة مثمر ولو مباحاً وفي غير وقت الثمرة؛ صيانة لها عن التلويث عند الوقوف فيعافها الأنفس، وفعله مكروه، ولم يحرموه؛ لأن تنجس الثمرة غير متيقن.

ومنها: ألا يقضيها في ثَقب بفتح المثلثة أفصح من ضمها؛ وهو ما استدار؛ للنهي عنه في خبر أبي داود وغيره. ومنها: ألا يقضيها في سَرَب بفتح السين والراء؛ وهو ما استطال، ويقال له: الشق إلحاقاً له بالثَّقب، والنهي فيهما للكراهة. (والظل الطريق، وليبتعد، ولا ... يحمل ذكر الله أو من أرسلا) (ومن سها ضمَّ عليه باليد ... ويستعيذ، وبعكس المسجد) (فقدم اليُمنى، خروجاً، واسأل ... مغفرة واحمد، وباليسرى ادخل) (واعتمد اليسرى، وثوباً حسراً ... شيئاً فشيئاً ساكتاً مستترا) من آداب قضاء الحاجة: الا يقضيها في الظل، وهو موضع اجتماع الناس في الصيف، ومثله الشمس وهو موضع اجتماعهم في الشتاء، وألا يقضيها في الطريق؛ لخبر مسلم: "اتقوا اللعَّانين" قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم"، تسببا بذلك في لعن الناس لهما كثيراً عادة، فنسب إليهما بصيغة المبالغة، ورواه أبو داود: "اللاعنين" والمعنى: احذروا سبب اللعن المذكور. وألحق بظل الناس في الصيف موضع اجتماعهم في الشمس في الشتاء، والنهي فيهما للكراهة. وكلام المصنف شامل للبول والغائط، وفي "المجموع" وغيره: ظاهر كلام الأصحاب: أن التغوط في الطريق مكروه، وينبغي أ، يكون محرماً؛ لما فيه من إيذاء المسلمين، ونقل في "الروضة" كـ"أصلها" في (الشهادات) عن صاحب "العدة": أنه حرام، ومثل الطريق في ذلك: المُتحدَّث، وعبارة "الروضة" هنا كـ"أصلها": ومنها - أي: الآداب -: ألا يتخلى في متحدَّث الناس، والتخلي: التغوط كما قاله النووي في "شرح مسلم"

وغيره، وصرح في "المهذب" وغيره بكراهته في المُتحَدَّث والطريق وطرق الماء. ومنها: أن يبعد عند إرادة قضاء الحاجة عن الناس إلى حيث لا يسمع للخارج منه صوت، ولا يشم له ريح؛ للاتباع، رواه أبو داود. ومنها: ألا يحمل حال قضاء الحاجة ذكر الله؛ أي: مكتوب ذكره، أو ذكر اسم نبي، قال في "الكفاية" تبعاً للإمام: وكل اسم معظم؛ إكراماً لذلك، ولأنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا دخل الخلاء .. نزع خاتمه) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححوه، وكان نقش خاتمه ثلاثة أسطر: (محمد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر، رواه ابن حبان عن أنس، والحمل المذكور مكروه، ومن سها عن ذلك؛ أي: تركه ولو عمداً حتى قعد لقضاء حاجته .. ضم كفه عليه، أو وضعه في عمامته أو غيرها. ومنها: أن يستعيذ بالله؛ بأن يقول عند دخوله: (اللهم؛ غني أعوذ بك من الخبث والخبائث) للاتباع، رواه الشيخان، زاد القاضي: (اللهم؛ إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المُخْبِث الشيطان الرجيم)، ويندب أن يقول قبله: (بسم الله) للاتباع، رواه ابن السكن وغيره، وفارق تعوذ القراءة حيث قدموه على البسملة؛ بأنه هناك لقراءة القرآن والبسملة منه فقدم عليها، بخلافه هنا. و(الخُبُث) بضم الخاء مع ضم الباء وإسكانها: جمع خبيث، و (الخبائث): جمع خبيثة، والمراد بذلك: ذكران الشياطين وإناثهم. ومنها: أن يقدم اليمنى؛ أي: أو بدلها خروجاً من الخلاء، ويقدم اليسرى؛ أي: أو بدلها عند دخوله، وفي معنى محل قضاء الحاجة فيما ذكر من تقديم اليمنى أو بدلها خروجاً، واليسرى أو بدلها عند دخوله: كل مكان خسيس؛ كمكان أخذ المكوس والصاغة؛ وذلك لأن السرى للأذى، واليمنى لغيره، وهذا بعكس المسجد؛ إذ السنة تقديم اليمنى عند دخوله، واليسرى عند خروجه منه.

ومنها: أن يقول عند خروجه: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) للاتباع، رواه أصحاب السنن الأربعة، والتعبير بالدخول والخروج جري على الغالب، فلا يختص الحكم بالبناء، وقوله: (فقدم) و (اسأل) و (احمد) و (ادخل) بلفظ الأمر. ومنها: أن يعتمد يساره حال جلوسه لقضاء الحاجة، دون يمناه فينصبها؛ لأن ذلك أسهل لخروج الخارج، ولو بال قائماً .. فرَّج بينهما فيعتمدهما. ومنها: أن يحسر ثوبه؛ أي: يكشفه أدباً شيئاً فشيئاً حتى يدنو من الأرض، فإن خاف تنجسه .. كشفه بقدر حاجته، فإذا فرغ .. أسبله قبل انتصابه؛ تحرزاً عن الكشف بقدر الإمكان، فلو رفع ثوبه دفعة واحدة .. لم يحرم بلا خلاف كما في "المجموع". وفي "نكتب التنبيه" و"الكفاية" و"شرح المحب الطبري" تخريجه على كشف العورة في الخلوة؛ فيكون الأصح: تحريمه، وهو مردود بأن الخلاف إنما هو في كشفها لغير حاجة؛ إذ أطبقوا على جواز الاغتسال عارياً مع إمكان الستر، ومراعاة رفع الثوب شيئاً فشيئاً أشد حرجاً من الستر عند الاغتسال. ومنها: أن يسكت عن الكرام من ذكر وغيره؛ إذ يكره الكلام حينئذ إلا لضرورة؛ كأن رأى أعمى يقع في بئر، أو حية أو عقرباً حيواناً محترماً فلا يكره، بل قد يجب، فإن عطس .. حمد الله تعالى بقلبه ولا يحرك لسانه، وقد روى ابن حبان وغيره النهي عن التحدث على الغائط. وأفهم كلامه: جواز قراءة القرآن عند قضاء الحاجة وهو كذلك، وخلافاً لابن كج. نعم؛ تكره كسائر أنواع الكلام، كما صرح به في "المجموع" في (باب ما يوجب الغسل). ومنها: أن يستتر عن العيون؛ للأمر به في خبر أبي داود وغيره، ويحصل بمرتفع ثلثي

ذراع فأكثر، بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل إن كان بفضاء أو بناء لا يمكن تسقيفه، فإن كان ببناء مسقف، أو يمكن تسقيفه .. حصل الستر بذلك ذكره في "المجموع"، وظاهر أن محل عد التستر من الآداب إذا لم يؤد عدمه إلى أن ينظر عورته من يحرم نظره إليها، وإلا .. فيجب. والألف في قوله: (أُرسلا) ببنائه للفاعل أو المفعول و (حسرا) للإطلاق، وفي بعض النسخ: (احسُرا) بلفظ الأمر فألفه بدل من نون التوكيد. (ومن بقايا البول يستبري، ولا ... يَستنج بالماء على ما نزلا) (لا ما له بُني، بجامدٍ طهر ... لا قصبٍ وذي احترامٍ كالثمر) فيهما ثلاث مسائل: [ندب الاستبراء من البول] الأولى: أنه يستبرئ من بقايا البول عند انقطاعه؛ أي: أدباً؛ لئلا يقطر عليه، ويحصل بالتنحنح، ونتر الذكر ثلاثاً؛ بأن يمسح بيسراه من دبره إلى رأس ذكره، وينتره بلطف فيخرج ما بقي إن كان، قال ابن الصباغ وغيره: ويكون ذلك بالإبهام والمسبحة؛ لأنه يتمكن بهما من الإحاطة بالذكر، وتضع المرأة أطراف أصابع يدها اليسرى على عانتها، ويختلف ذلك باختلاف الناس، والقصد: أن يظن أنه لم يبق بمجرى البول شيء يخال خروجه، وأوجب القاضي والبغوي الاستبراء، وجرى عليه النووي في "شرح مسلم" لصحة التحذير من عدم التنزه من البول. [عدم الاستنجاء بالماء على ما نزل منه] الثانية: أنه لا يستنجي بالماء على ما نزل منه من بول أو غائط، وبل ينتقل عنه؛ لئلا يترشش به، وهذا في غير الأخلية المتخذة لذلك؛ لانتفاء العلة فيها، ولأن في انتقاله إلى غيرها مشقة، وهذا معنى قوله: (لا ما له بني) أي: لا ما بني لقضاء الحاجة وهو الأخلية المعتادة، فلا ينتقل عنها، ومثلها: المكان المرتفع ونحوه مما يؤمن فيه عود الرشاش.

وخرج بـ (الماء): الحجر؛ لانتفاء العلة فيه، بل قد يكون انتقاله عنه مانعاً من الاستجمار؛ لانتقال الخارج حينئذٍ. والألف في قوله: (نزلا) للإطلاق. [إجزاء الاستنجاء بما في معنى الحجر] الثالثة: أن خصوص الحجر ليس بشرط في إجزاء الاستنجاء به، بل في معناه: كل جامد طاهر قالع غير محترم، وقد أشار إلى القالع بقوله: (لا قصب)، والتنصيص على الحجر في الخبر جريٌ على الغالب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالروث والرِّمَّة؛ أي: العظم، وعلل منع الاستنجاء بالروثة بكونها ركساً، لا بكونها غير حجر، وإنما تعين الحجر في رمي الجمار، والتراب في التيمم؛ لأن الرمي لا يعقل معناه، بخلاف الاستنجاء، والتراب فيه الطاهرية والطهورية ولا توجدان في غيره، بخلاف الإنقاء يوجد في غير الحجر. وخرج بما ذكره: المائع غير الماء، والنجس، والمتنجس، وغير القالع؛ كالقصب الأملس والزجاج، والمحترم كالمطعوم، ومنه: العظم، وجلد المذكي ما لم يدبغ، وما كتب عليه علم محترم وجلده، وحيوان وجزؤه المتصل به؛ فلا يجزئ الاستنجاء بواحد مما ذكرن ويعصي به في المحترم. [تفصيل بديع في حكم الاستنجاء بالثمر والفواكه] وقد مثل المصنف المحترم بالثمر، وقد قال الماوردي كما نقله النووي في "مجموعة" واستحسنه: وأما الثمار والفواكه ... فمنها: ما يؤكل رطباً لا يابساً كاليقطين .. فلا يجوز الاستنجاء به رطباً، ويجوز يابساً إذا كان مزيلاً، ومنها: ما يؤكل رطباً، ويابساً، وهو أقسام: أحدها: مأكول الظاهر والباطن؛ كالتين والتفاح والسفرجل .. فلا يجوز برطبه ولا بيابسه. والثاني: ما يؤكل ظاهره دون باطنه؛ كالخوخ والمشمش وكل ذي نوى ... فلا يجوز بظاهره، ويجوز بنواه المنفصل. والثالث: ما له قشر ومأكوله في جوفه ... فلا يجوز بلبه، وأما قشره: فإن كان لا يؤكل رطباً ولا يابساً كالرمان ... جاز الاستنجاء به، سواء كان فيه الحب أم لا، وإن كان رطباً ويابساً

كالبطيخ .. لم يجز في الحالين، وإن أكل رطباً فقط كاللوز والباقلاء .. جاز يابساً لا رطباً. انتهى. والمراد بالمطعوم: مطعوم الآدمي، أو ما اشترك فيه الآدمي والبهيمة ولو على السواء، وإنما جاز بالماء مع أنه مطعوم؛ لأنه يدفع النجس عن نفسه، بخلاف غيره. وقوله: (بجامد) متعلق بقوله: (مسحة) أو (بسائر) من قوله فيما مر: (بكل مسحة لسائر المحل). * * *

باب الغسل

باب الغسل هو: بفتح الغين مصدر غسل الشيء، وبمعنى: الاغتسال؛ كقولك: غسل الجمعة سنة، وبضمها مشترك بينهما وبين الماء الذي يغتسل به، ففيه على الأولين لغتان: الفتح: وهو أفصح وأشهر لغة، والضم: هو ما يستعمله الفقهاء أو أكثرهم، وأما بالكسر .. فاسم لما يغسل به من سدر ونحوه، وهو بالمعنيين الأولين لغة: سيلان الماء على الشيء، وشرعاً: سيلانه على جميع البدن بنية. [موجبات الغسل] (مُوجبه المني حين يخرج .... والموت، والكمرة حيث تولج) (فرجاً - ولو ميتاً- بلا إعادة .... والحيض، والنفاس، والولادة). أي: موجبات الغسل بكسر الجيم ستة: أحدها: خروج المني؛ أي: مني الشخص نفسه؛ الخارج أول مرة من رجل أو امرأة ولو بعد أن بال ثم اغتسل من الجنابة؛ لخبر مسلم: "إنما الماء من الماء"، ولخبر "الصحيحين" عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: "نعم إذا رأت الماء"، سواء أخرج من المخرج المعتاد، أم من تحت صلب الرجل، أم من بين ترائب المرأة مع انسداد الأصلي فيهما، فإن لم يستحكم؛ بأن خرج لمرض .. لم يجب الغسل، بلا خلاف كما في "المجموع" عن الأصحاب، وقيل: لا فرق بين خروجه من طريقه المعتاد وغيره، وجزم به في "المنهاج" كـ "أصله" وصححه في "الروضة" و "أصلها" و "الشرح الصغير".

والمراد بخروج المني في حق الرجل والبكر: بروزه عن الفرج إلى الظاهر، وفي حق الثيب: وصوله إلى ما يجب غسله في الاستنجاء، أو لو خرج منه مني غيره بعد غسله .. فلا غسل عليه. ثانيها: الموت؛ أي: موت المسلم غير الشهيد كما سيأتي في (الجنائز)، والسقط إذا بلغ أربعة أشهر ولم تظهر عليه أمارة الحياة ... يجب غسله على المذهب. ثالثها: إيلاج الكَمْرة بفتح الكاف وسكون الميم؛ أي: الحشفة، أو قدرها من فاقدها في فرج ولو دبراً وبلا قصد وإن كان الذكر أشل أو غير منتشر أو مباناً أو ملفوفاً عليه خرقة ولو غليظة، وسواء أكان كل من الذكر والفرج من آدمي أم من غيره، صغير أم كبير؛ لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا}، ولخبر "الصحيحين" "إذا التقى الختانان ... فقد وجب الغسل"، وفي رواية لمسلم "وإن لم ينزل"، وذكر الختان جري على الغالب؛ بدليل إيجاب الغسل بإيلاج ذكر لا حشفة له؛ لأنه جماع في فرج فكان في معنى المنصوص عليه. وليس المراد بالتقاء الختانين انضمامهما؛ لعدم إيجابه الغسل بالإجماع، بل تحاذيهما، يقال: التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم ينضما، وذلك إنما يحصل بتغييب الحشفة في الفرج؛ إذ الختان محل القطع في الختان، وختان المرأة فوق مخرج البول، ومخرج البول فوق مدخل الذكر. وقوله: (ولو ميْتاً) أي: بسكون الياء: ولو كان صاحب الكمرة أو الفرج ميتاً؛ بأن استدخل الحي حشفته، أو ولج في فرجه .. فإنه يوجب الغسل على الحي بلا إعادة لغسل الميت؛ لانقطاعه تكليفه، وإنما وجب غسله بالموت؛ تنظيفاً وإكراماً له. وأفهم كلامه: أنه يوجب الغسل على الفاعل والمفعول فيما عدا الميت؛ أي: والبهيمة، وهو كذلك. رابعها: الحيض؛ لآية: {فاعتزلوا النساء في المحيض} أي: الحيض، ولخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا أقبلت الحيضة ...

فدعي الصلاة، وإذا أدبرت .. فاغسلي عنك الدم وصلي"، وفي رواية للبخاري "فاغتسلي وصلي". خامسها: النفاس؛ لأنه دم حيض مجتمع. ويعتبر في إيجاب الغسل بخروج ما ذكر: انقطاعه، والقيام إلى الصلاة أو نحوها كما مر. سادسها: الولادة ولو كان الولد جافاً؛ لأنه مني منعقد؛ ولأنه لا يخلو عن بلل وإن خفي، وتفطر بها المرأة على الأصح في "التحقيق" وغيره، ويلحق بالولادة إلقاء العلقة أو المضغة. وأفاد كلامه: أن ما عدا هذه الأمور من جنون، وإغماء، واستدخال مني، وتغييب بعض الحشفة، وخروج بعض الولد كيده وغيرها .. لا يوجب الغسل وهو كذلك. واعترض على الحصر في المذكورات بتنجس جميع البدن أو بعضه مع الاشتباه، وأجيب عنه بأن ذلك ليس موجباً للغسل، بل لإزالة النجاسة، حتى لو فرض كشط جلده .. حصل الفرض، وبأن الكلام في الغسل عن الأحداث، فإن أريد الغسل عنها وعن النجاسة .. وجب عد ذلك كما صنع الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما. وقول الناظم: (تُولَج) ببنائه للمفعول. [خواص المني التي يعرف بواحدة منها] (ويعرف المنيُّ باللَّذَّةِ حين ... خروجه، وريحِ طلعٍ أو عجينْ) فيه مسألة: وهي: أن خواص المني ثلاث، كل واحدة منها كافية في معرفته: إحداها: وجود اللذة - بالمعجمة- حين خروجه وإن لم يتدفق؛ لقلته، مع فتور الذكر عقب ذلك.

ثانيها: ريح الطلع والعجين ما دام رطباً، فإذا جف .. فريحه كريح بياض البيض. ثالثها: تدفقه بأن يخرج على دفعات؛ قال تعالى: {من ماء دافق}، ولا عبرة في مني الرجل بكونه أبيض ثخيناً، ولا في مني المرأة بكونه أصفر رقيقاً وإن كانت من صفاته؛ لأنها ليست من خواصه؛ لوجود الثخنِ في الودي وهو: ماء أبيض كدر ثخين لا ريح له يخرج عقب البول إذا استمسكت الطبيعة، وعند حمل شيء ثقيل، والرقِة في المذي وهو: ماء رقيق لزج يخرج عند الشهوة بلا شهوة، وقد لا يحس بخروجه. ولا يضر فقدها، فقد يحمرُّ منيُّ الرجل بكثرة الجماع، وربما خرج دماً عبيطاً، أو يرق ويصفر لمرض، ويبيض مني المرأة؛ لفضل قوتها. ومقتضى كلامه: اشتراك الخواص بين الرجل والمرأة، قال الشيخان: وهو ما ذكره الأكثرون، وعضده الإسنوي، ونقله الماوردي عن النص، لكن قال الإمام والغزالي: لا يعرف مني المرأة إلا باللذة، وأنكر ابن الصلاح التدفق في منيها، واقتصر على اللذة والريح، وبه جزم النووي في "شرح مسلم"، واقتضاه كلامه في "المجموع"، ورجحه جماعة؛ كالسبكي والأذرعي وابن النقيب. [شك في كون الخارج منياً أو مذياً] (ومن يشك: هل منيٌّ ظهرا ... أو هو مذيٌ؟ بين ذينِ خيِّرا) فيه مسألة: وهي: أن من شك في كون الخارج منه منياً أو مذياً؛ لاشتباههما عليه .. خيِّر بينهما، فيجعله منياً ويغتسل، أو مذْياً ويتوضأ مرتباً، ويغسل ما أصابه؛ لأنه إذا أتى بمقتضى أحدهما .. بريء منه يقيناً، والأصل براءته من الآخر ولا معارض له، بخلاف من نسي صلاة

من صلاتين .. حيث يلزمه فعلهما؛ لاشتغال ذمته بهما جميعاً، والأصل بقاء كلٍّ منهما، وإنما أوجبوا الاحتياط بتزكية الأكثر ذهباً وفضة في الإناء المختلط؛ لأن اليقين هناك ممكن بسبكه، بخلافه هنا. وألف (ظَهَرا) و (خُيِّرا) ببنائه للمفعول للإطلاق. [فروض الغسل] (والفرض تعميم لجسمٍ ظهرا .... شعراً وظفراً منبتاً وبثرا) (ونيةٌ بالابتداء اقترنت .... كالحيضِ أو جنابةٍ تبينت) فيهما مسألة: وهي: أن الفرض في الغسل من الجنابة أو الحيض أو النفاس أو الولادة أو غيرها شيئان: أحدهما: تعميم ظاهر البدن شعراً وإن كثف، وظفراً، ومنبتاً بين الشعر، وبشراً، ومنه: تعميم صماخ، وشق، وما ظهر من أنف مجدوع، ومن ثيِّبٍ قعدت لقضاء حاجتها، وموضع شعرة لم يغسلها ثم نتفها، وما تحت قُلْفة غير المختون؛ لأنها مستحقة الإزالة، ولهذا لو أزالها إنسان .. لم يضمنها. والأصل في ذلك: فعله صلى الله عليه وسلم المبيِّنُ للتطهير المأمور به في قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا}، وإنما وجب غسل مَنْبِت الكثيف هنا دون الوضوء؛ لقلة المشقة هنا وكثرتها في الوضوء؛ لتكرره كل يوم. ويؤخذ من كلامه: أنه لا يجب غسل باطن العين والفم والأنف، ولا شعرٍ نبت فيها، وهو كذلك، ولا يجب نقض الضفائر إلا ألا يصل الماء إلى باطنها إلا به، قال في "الروضة" كـ "أصلها": ويسامح بباطن العقد التي على الشعرات على الأصح. ثانيهما: نية اقترنت بأول مغسول من البدن، فلو نوى بعد غسل جزء .. وجبت إعادة غسله؛ كأن تنوي الحائض رفع حكم الحيض، أو الجنب رفع حكم الجنابة، أو النفساء رفع حكم النفاس، أو ينوي كلٌّ رفع الحدث عن جميع البدن، أو رفع الحدث مطلقاً، أو استباحة

الصلاة أو غيرها مما يتوقف على الغسل، أو فرض الغسل، أو الغسل المفروض، أو الواجب، أو أداء الغسل. ولو نوى جنابة الجماع وجنابتُه باحتلام أو عكسه، أو الجنابة وحدثُه الحيض أو عكسه .. صح مع الغلط دون العمد كنظيره في الوضوء، ذكره في "المجموع"، والمعتمد: ارتفاع النفاس بنية الحيض وعكسه مع العمد؛ لأن النفاس دم حيض مجتمع، ولأن النفاس من أسماء الحيض، وقد صرح به صاحب "البيان" في الأولى في (باب صفة الغسل). ولو نوى ذو الحدث الأكبر رفع الأصغر: فإن تعمد .. لم يصح؛ لتلاعبه، وإن غلط .. لم يرتفع من غير أعضاء الوضوء؛ لأنه لم ينوه، ويرتفع عنها إلا الرأس؛ لأن غسلها واجب في الحدثين وقد غسلها بنيته، وإنما لم يرتفع عن الرأس؛ لأن غسله وقع بدلاً عن مسحه الذي هو فرضه في الأصل، وهو إنما نوى المسح وهو لا يغني عن الغسل، وإنما ارتفع عن باطن لحية الرجل الكثيفة؛ لإتيانه بالغسل الذي هو الأصل في غسل الوجه. وألف (ظهرا) للإطلاق، وقوله: (أو جنابة تبينت) أي: فيما قدمه من حصولها بخروج المني، أو تغييب الحشفة. [شروط الغسل] (والشَّرطُ: رفعُ نَجِسٍ قد عُلِمَا .... وكلُّ شرطٍ في الوضوءِ قُدِّما) فيه مسألة: وهي: أن الشرط في الغسل: رفعُ نجسٍ؛ أي: إزالته إذا كان لا يزول بالغسلة الواحدة، قد علم وجوده عن بدنه إن كان، أما إذا كان النجس يزول بالغسلة الواحدة .. فلا تكفي لهما غسلة واحدة كما صححه الرافعي، وصححه النووي: أنها تكفي لهما، وقد تقدم إيضاحه في (الوضوء).

وقوله: (وكلُّ شرط) عطف على قوله: (رفعُ نجس) أي: الشرط في الغسل أيضاً: كل شرط تقدم ذكره في الوضوء؛ كإسلام المغتسل، إلا في كتابية اغتسلت من حيض أو نفاس لتحل لحليلها المسلم؛ للضرورة، ولهذا تجب إعادته إذا أسلمت، وتمييزه، إلا في اغتسال مجنونة من حيض أو نفاس لتحل لحليلها؛ للضرورة، ولهذا يجب إعادته إذا أفاقت، وعدم المانع الحسيِّ والمانع الشرعي. والف (علما) و (قدما) للإطلاق. [سنن الغسل] ولما فرغ من معتبرات الغسل .. شرع في سننه فقال: (وسنَّ "باسم الله"، وارفع قذرا .... ثُمَّ الوُضُو، والرِّجلَ لن تُؤَخِّرا) أي: من سنن الغسل: التسمية؛ بأن يقولها أوله، غير قاصد بها قرآناً؛ لما مر في (الوضوء). ومنها: إزالة القذر بالمعجمة؛ أي: الطاهر؛ كمني وبصاق قبل الغسل استظهاراً، أما النجس .. فقد تقدم حكمه. ومنها: الوضوء؛ للاتباع، رواه الشيخان، وإنما لم يجب؛ لأن الله تعالى أمر بالتطهير من غير ذكر الوضوء، وللأخبار الصحيحة الدالة على عدم وجوبه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "يكفيك أن تقيضي عليك الماء"، وقوله لأبي ذر: "فإذا وجدت الماء .. فأمسه جلدك". وقوله: (والرِّجل لن تؤخِّرا) يعني: أن الأفضل تقديم الوضوء كاملاً؛ فقد قال في "المجموع" نقلاً عن الأصحاب: وسواء قدم الوضوء كله أو بعضه، أم أخره، أم فعله في أثناء

الغسل .. فهو محصل للسنة، لكن الأفضل تقديمه. وقوله: (الوضو) بسكون آخره، وألف (تؤخرا) للإطلاق، أو بدل من نون التوكيد الخفيفة؛ بناء على جواز دخولها على المضارع حينئذ، ويجرى هذا في نظائره السابقة واللاحقة. [إذا نوى المغتسل فرضاً أو أحدهما دون الآخر] (وإن نوى فرضاً ونفلاً حصلا .... أو فبكلٍّ مثله تحصلا) أي: أن المغتسل إن نوى بغسله فرضاً كالجنابة والحيض، ونقلاً كالجمعة والعيد .. حصلا عملاً بنيته ولا يضر التشريك، بخلاف نحو الظهر مع سنته؛ لأن مبنى الطهارات على التداخل بخلاف الصلاة، أما إذا نوى الفرض .. لم يحصل النفل، أو نوى النفل .. لم يحصل الفرض؛ كما أفهمه كلامه وهو الراجح، عملاً بما نواه. وإنما لم يندرج النفل في الفرض؛ لأنه مقصود فأشبه سنة الظهر مع فرضه، وفارق ما لو نوى بصلاته الفرض دون التحية؛ حيث تحصل التحية وإن لم تنو: بأن القصد هناك إشغال البقعة بالصلاة وقد حصل، وليس القصد هنا النظافة فقط؛ بدليل أنه يتيمم عند عجزه عن الماء، وأنه يحصل بكلٍّ من الفرض والنفل مثله؛ أي: في الفرضية أو النفلية، فيما إذا نوى فرضاً أو نفلاً، فيحصل بنية الجنابة مثلاً كل غسل مفروض، وبنية الجمعة مثلاً كل غسل مسنون. وألف (تحصلا) للإطلاق. [ما ينويه المغتسل بوضوء الغسل] (وسنة الغسلِ نوى لأكبرا .... جُرِّدَ عنْ ضِدٍّ، وإلا الأصغرا) أي: نوى لحدث أكبر جرد عن ضده وهو الحدث الأصغر؛ كأن أنزل بنظر أو فكر، أو احتلم قاعداً متمكناً بوضوئه سنة الغسل، وإلا؛ أي: بأن اجتمع عليه الحدثان .. نوى رفع الحدث الأصغر؛ خروجاً من الخلاف.

فقوله: (سنة الغسل) مفعول مقدم لـ (نوى)، وقوله: (لأكبرا) متعلق بـ (نوى)، وقوله: (جرد عن ضد) جملة وقعت صفة لـ (أكبر)، ونائب فاعل (جُرِّد) ضمير عائد عليه، ولا يصح جعل قوله: (لأكبر ... ) إلى آخره جملة حالية من (الغسل)، وألف (لأكبرا) و (الأصغرا) للإطلاق. [تتمة سنن الغسل] (وشعراً ومعطفاً تعهد ... وأدلك، وثلث، وبيمناك ابتد) أمر المصنف المغتسل في هذا البيت بأشياء من سنن الغسل: أحدها: أن يتعهد شعر رأسه ولحيته؛ بأن يخلله بالماء قبل إفاضته عليه؛ ليكون أبعد عن الإسراف في الماء. ثانيها: أن يتعهد معاطف بدنه؛ أي: أمكنة الالتواء بالغسل؛ خوفاً من عدم وصول الماء إليها، فيأخذ كفاً من الماء، ويضع الأذن برفق عليه؛ ليصل إلى معاطفها. ثالثها: أن يدلك من بدنه ما تصل إليه يده؛ خروجاً من خلاف من أوجبه. رابعها: أن يثلث غسل جميع البدن كالوضوء، فيغسل رأسه ثلاثاً، ثم شقه الأيمن ثلاثاً، ثم شقه الأيسر ثلاثاً، فإن اغتسل في ماء جار .. حصل التثليث بجريان الماء عليه ثلاث جريات، أو في راكد .. حصل بانغماسه فيه ثلاثاً؛ بأن يرفع رأسه وينقل قدميه، أو يتحرك فيه ثلاثاً. خامسها: أن يبتدئ باليمين؛ للخبر المتفق عليه، فيبتدئ بشق رأسه الأيمن قبل الأيسر، ثم بشق بدنه الأيمن قبل الأيسر. (وتتبع الحيض بمسكٍ، والولا .... مسنونه: حضور جمعةٍ، كلا) (عبدين، والإفاقة، الإسلام .... والخسف، الاستسقاء، والإجرام) (دخول مكة، وقوف عرفه .... والرمي، والمبيت بالمزدلفة) (وغسل من غسل ميتاً كما .... لداخل الحمام أو من حُجما)

ذكر في هذه الأبيات ثلاث مسائل: [استحباب تتبع المرأة أثر الحيض والنفاس بمسك] الأولى: أنه يسن للمرأة ولو بكراً وخلية: أن تتبع أثر الحيض؛ أي: أو النفاس بعد غسلها بمسك؛ بأن تجعله على قطنة أو نحوها وتدخلها في قبلها إلى المحل الذي يجب غسله؛ تطيباً للمحل، وللأمر بما يؤدي ذلك في "الصحيحين" من حديث عائشة وتفسيرها قوله صلى الله عليه وسلم لسائلته عن الغسل من الحيض: "خذي فرصة من مسك فتطهري بها" بقولها: (يعني: تتبعي بها أثر الدم)، والمسك أولى من غيره، فإن لم تفعل .. فطيباً، فإن لم تفعل .. فطيناً، فإن لم تفعل .. فالماء كاف. وهذه سنة مؤكدة يكره تركها بلا عذر، وتستثنى المحرمة فلا تستعمل شيئاً من الطيب؛ لقصر زمن الإحرام غالباً، والمُحِدَّة فلا تطيب المحل إلا بقليل قُسِط أو أظفار؛ لقطع الرائحة الكريهة. [استحباب الموالاة والترتيب في الغسل] الثانية: أنه يسن الولاء بين أفعاله كما في الوضوء؛ خروجاً من خلاف من أوجبه. ومن سننه: الترتيب؛ بأن يرفع الأذى، ثم يتوضأ، ثم يتعهد، ثم يغسل أعضاء الوضوء، ثم الرأس، ثم البدن مبتدئاً بأعلاه وبالأيمن، ويجوز له الغسل مكشوف العورة خالياً أو بحضرة من يجوز نظره إليها، والستر أفضل، أما غسله مكشوف العورة بحضرة من يحرم نظره إليها ... فحرام؛ كما يحرم كشفها في الخلوة بلا حاجة. [الأغسال المسنونة] الثالثة: ذكر من الأغسال المسنونة خمسة عشر غسلاً: أحدها: غسل الجمعة لمن أراد حضورها وإن لم تلزمه كامرأة ومسافر؛ لما سيأتي في (باب صلاة الجمعة) من الأمر به في "الصحيحين" وغيرهما، وصرفه عن الوجوب

خبر: "من توضأ يوم الجمعة .. فبها ونعمت، ومن اغتسل .. فالغسل أفضل" رواه أبو داود وغيره، وحسنه الترمذي، وصححه أبو حاتم الرازي. ويدخل وقته بالفجر، وتقريبه من ذهابه أفضل، أما من لم يرد حضورها .. فلا يسن له الغسل، ويؤخذ من بداءته به أنه آكد الأغسال المسنونة، وهو كذلك على الأصح. ثانيها وثالثها: غسلا عيد الفطر والأضحى لكل أحدٍ وإن لم يحضر صلاتهما؛ لاجتماع الناس لهما كالجمعة، ويدخل وقت غسلهما بنصف الليل على الأصح؛ لأن أهل القرى الذين يسمعون النداء يبكرون لصلاتهما من قراهم، فلو لم يجز الغسل قبل الفجر .. لشق عليهم، والفرق بينهما وبين الجمعة: تأخير صلاتها وتقديم صلاتهما. رابعها: الغسل من الإفاقة من الجنون أو الإغماء؛ للاتباع في الإغماء، رواه الشيخان، وقيس بن الجنون، وقال الشافعي رحمه الله: (قلَّ ما جن إنسان .. إلا وأنزل). خامسا: غسل الكافر إذا أسلم؛ لأمره صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم بالغسل لما أسلم، وكذلك ثمامة بن أثال، رواهما ابنا خزيمة وحبان وغيرهما، وليس أمر وجوب؛ لأن جماعة أسلموا ولم يأمرهم بالغسل، وهذا حيث لم يعرض له في الكفر ما يوجب الغسل من جنابة أو حيض أو نفاس أو ولادة، فإن عرض له ذلك .. وجب عليه الغسل بعد إسلامه، ولا عبرة بغسل مضى في كفره على الأصح، وفارق عدم لزوم إخراج ما أداه من كفارة حال كفره؛ بأن مصرفها متعلق بالآدمي فأشبه الدين. سادسها: الغسل لصلاة خسوف الشمس أو القمر؛ لاجتماع الناس لهما كالجمعة، ويدخل وقت غسله بأوله. سابعها: الغسل لصلاة الاستسقاء؛ لما مر، قال في "الروضة": قال أصحابنا: يستحب الغسل لكل اجتماع، وفي كل حال يغير رائحة البدن.

ثامنها: الغسل للإحرام؛ للاتباع، رواه الترمذي وحسنه، وسواء في ذلك الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما. تاسعها: الغسل لدخول مكة؛ للاتباع، رواه الشيخان، وسواء كان محرماً بحج، أو بعمرة أو بهما، ويسن للحلال أيضاً وهو داخل في كلامه. ويسن الغسل لدخول الحرم أيضاً، ولدخول المدينة، ولو أحرم من مكان قريب من مكة كالتنعيم فاغتسل .. لم يندب له الغسل لدخول مكة كما قاله الماوردي. عاشرها: الغسل للوقوف بعرفة عشية. حادي عشرها: الغسل للرمي في أيام التشريق الثلاثة، ولا يسن الغسل لرمي جمرة العقبة؛ لقربها من غسل العيد. ثاني عشرها: غسيل مبيت مزدلفة غداة النحر؛ لأن هذه مواطن تجتمع لها الناس فسن الغسل لها؛ قطعاً للروائح الكريهة. وسواء في هذه الأغسال الرجل والمرأة، والطاهر وغيرها. ثالث عشرها: غسل من غسَّل ميتاً، مسلماً كان أو كافراً؛ لخبر: "من غسل ميتاً .. فليغتسل"، رواه ابن ماجة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، والصارف للأمر عن الوجوب خبر: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه" حصصه الحاكم على شرط البخاري. رابع عشرها: غسل داخل الحمام عند إرادة خروجه، سواء أتنوَّر أم لا. خامس عشرها: غسل من حُجِم؛ أي: بضم الحاء ومكسر الجيم؛ لما روى البيهقي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (كنا نغتسل من خمس: من الحجامة، والحمام، ونتف الإبط، ومن الجنابة، ويوم الجمعة)، وحكمته كما أشار إليه الشافعي رضي الله عنه: أن ذلك

يغير الجسد ويضعفه، والغسل يشده وينعشه، ويؤخذ منه: أنه يسن الغسل للفصد ونحوه. ومن الأغسال المسنونة: الغسل للاعتكاف؛ كما في "لطيف ابن خيران" عن النص، ولكل ليلة من شهر رمضان؛ كما قاله الحليمي، وقيده الأذرعي بمن يحضر الجماعة، ولحلق العانة؛ كما في "رونق الشيخ أبي حامد" و"لباب المحاملي"، ولبلوغ الصبي بالسن؛ كما في "الرونق"، والغسل في الوادي عند سيلانه. و(كِلا) في قول المصنف: (كلا عيدين) اسم مقصور لإضافته إلى ظاهر، وألف (حُجِما) للإطلاق. (والغسل في الحمَّام جاز للذَّكر ... مع ستر عورةٍ وغضٍّ للبصر) (ويكره الدخول فيه للنِّسا ... إلا لعذر مرضٍ أو نُفسا) (وقبل أن يدخل يعطي أجرته ... ولم يجاوز في اغتسالٍ حاجته) فيها أربع مسائل: [جواز الغسل في الحمام للذكر] الأولى: يجوز الغسل في الحمام للذكر؛ أي: يباح له مع ستر عورته عمَّن يحرم نظره إليها؛ إذ كشفها حينئذ حرام فيجب تركه، وعدم مسها ممن يحرم مسه لها، وغض بصره عن عورةٍ يحرم نظره إليها، وعدم مسه إياها؛ لأن كلاً من الكشف والنظر واللمس المذكورات .. حرام فيجب تركه، ويجب عليه أن ينهى من ارتكب شيئاً من ذلك وإن ظن أنه لا ينتهي. [كراهة دخول الحمام للنساء] الثانية: يكره دخوله للنساء؛ أي: والخناثى إلا لعذر؛ كمرض أو حيض أو نفاس، أو خوف ضرر، فيباح لهن حينئذ مع ستر عورتهن عمن يحرم نظره إليها، وعدم مسها ممن يحرم مسه لها، وغض بصرهن عن عورة يحرم نظرهن إليها، وعدم مسهن إياها. والأصل في ذلك خبر أبي داود وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتاً يقال لها: الحمامات، فلا يدخلها الرجال .. إلا بالأزر، وامنعوها النساء إلى مريضة أو نفساء"، وخبر الترمذي وحسنه: "ما من امرأة تخلع ثيابها في

غير بيتها .. إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى"، وخبر النسائي والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله عنها: "الحمام حرام على نساء أمتي"، ولأ، أمرهن مبني على المبالغة في الستر، ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر. [آداب دخول الحمام] الثالثة: لدخوله آداب، منها: أن يعطى أجرته قبل دخوله؛ لأن ما يستوفيه مجهول، وكذا ما ينتظره الحمامي، فإعطاء الأجرة حينئذ دفع للجهالة من أحد العوضين وتطييب لنفسه، وقصدُ التنظف والتطهر، والتسمية لدخوله ثم التعوذ؛ كأن يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث)، وتقديم يساره لدخوله، ويمينه لخروجه، وتذكر الجنة والنار بحرارته، ورجوعه إذا رأى عرياناً فيه، وألا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق، وألا يكثر الكلام، وأن يدخل وقت الخلوة، أو يتكلف إخلاء الحمام؛ فإنه وإن لم يكن فيه إلا أهل الدين .. فالنظر إلى الأبدان المكشوفة فيه شوب من قلة الحياء، وهو مذكر للفكر في العورات، ثم لا يخلو الناس في الحركات عن انكشاف العورات فيقع عليها البصر، واستغفاره عند خروجه، وصلاته ركعتين، وقد اقتصر المصنف على أول الآداب. ويكره دخوله قبيل المغرب وبين العشائين، ودخوله للصائم، وصب الماء البارد على الرأس، وشربه عند الخروج، ولا بأس بدلك غيره إلا عورة أو مظنة شهوة، ولا بقوله لغيره: (عافاك الله)، ولا بالمصافحة. [وجوب الاقتصار على قدر الحاجة في صبِّ الماء] الرابعة: أنه يجب عليه: أن يقتصر في صب الماء على قدر حاجته، فلا يجوز له أن يزيد عليه؛ فإنه المأذون فيه لقرينة الحال، والزيادة عليه لو علمها الحمامي .. لكرهها، لا سيما الماء الحار؛ فله مؤنة، وفيه تعب. وقال ابن عبد السلام: ليس له أن يقيم فيه أكثر مما جرت العادة به؛ لعدم الإذن اللفظي والعرفي. * * *

باب التيمم

بابُ التّيَمُّم وهو لغة: القصد، وشرعاً: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بشرائطه مخصوصة، وخصت به هذه الأمة، وهو رخصة، وقيل: عزيمة، وقيل: إن تيمم لفقد الماء .. فعزيمة، أو لعذر .. فرخصة. والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ} الآية، وخبر مسلم: "وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وترتبها طهوراً"، وغيره من الأخبار الآتي بعضها في الباب. (تيمُّم المحدث أو من أجنبا ... يُباح في حالٍ وحالٍ وجبا) أفاد كلامه مسألتين: [التيمم للمحدث والجنب] الأول: تيمم المحدث حدثاً أصغر أو أكبر من حيض أو نفاس أو ولادة والجنب .. [مباح]، أما المحدث .. فبالإجماع، وأما الجنب .. فلما في "الصحيحين" عن عمار بن ياسر وغيره، فقوله: (أو من أجنبا) من عطف الخاص على العام، واقتصر على المحدث والجنب؛ لأنهما الأصل ومحل النص، وإلا .. فالمأمور بغسل مسنون يتيمم له أيضاً، والقياس كما قاله جمع من المتأخرين: أن الوضوء المسنون كذلك، وييمم الميت أيضاً. وخرج بما ذكر: المتنجس، فلا يتيمم للنجاسة؛ لأن التيمم رخصة فلا تتجاوز محل ورودها. [التيمم قد يكون مباحاً وقد يكون واجباً] الثانية: أن تيمم من ذكر يباح في حالٍ، وهو وجود عذر يسوِّغه من قدرة المتيمم على استعمال الماء؛ كقادر على شراء الماء وجده يباع بأكثر من ثمن مثله، وكمن تيمم أول الوقت وقد علم أو ظن وجود الماء آخره، ويجب في حالٍ، وهو عجز المتيمم عن استعمال الماء.

وقوله: (تيمم) مبتدأ خبره (يباح ... ) إلى آخره، وألف (أجنبا) و (وجبا) للإطلاق، والله أعلم. [شروط التيمم] (وشروطه: خوفٌ من استعمال ما ... أو فقد ماءٍ فاضلٍ عن الظَّما) (دخول وقتٍ، وسؤالٌ ظاهر ... لفاقد الما وترابٌ طاهر) (ولو غبار الرمل، لا مستعملا ... ملتصقاً بالعضو أو منفصلا) ذكر في هذه الأبيات من شروطه التيمم أموراً. أولها: إما أن يخاف من استعمال الماء لمرض أو شدة برد تلف نفس أو عضو أو منفعة، أو مرضاً مخوفاً، أو زيادة التألم وإن لم تزد المدة، أو بطء البرء وإن لم يزد الألم، أو شدة الضنا، أو بقاء شين فاحش في عضو ظاهر. والأصل في التيمم للمرض: قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى} إلى {فتيمموا} إلى آخره؛ أي: حيث خفتم من استعمال الماء ما ذكر. و(الشَّين): الأثر المنكر من تغير لون أو نحول واستحشاف، وثغرة تبقى ولحمة تزيد، و (الظاهر): ما يبدو عند المهنة غالباً كالوجه واليدين. ويعتبر فيما ذكر: أن يخبره به طبيب مسلم بالغ عدل عارف، أو يعلم ذلك بنفسه، وإلا .. فلا يجوز له التيمم، وخرج بما ذكر: ما لو خاف شيناً يسيراً، أو قبيحاً في عضو باطن، أو تألماً في الحال، أو مرضاً يسيراً كالصداع .. فإنه لا يتيمم؛ لوجود الماء وعدم الضرر الشديد. وإما أن يفقد ماء فاضلاً عن الظمأ؛ بأن يفقد حساً، أو شرعاً بأن يتوهمه فوق حد الغوث، أو يتيقنه فوق حد القرب، أو يخاف من طلبه فوت نفس، أو عضو أو منفعة، أو مال، أو وقت، أو انقطاعاً عن رفقة، أو وجد ماء مُسبَّلاً للشرب، أو يباع بأكثر من ثمن مثله في ذلك الزمان والمكان، أو بثمن وهو محتاج إليه لشراء سترة، أو لوفاء دين، أو مؤنة سفر، أو حيوان محترم، أو ملكه وهو محتاج إلى ثمنه لذلك، أو إليه لعطش حيوان محترم من نفسه وغيره في الحال في المآل، وخرج بالمحترم: غيره كالمرتد والكلب العقور.

ثانيها: دخول وقت ما يتيمم له، سواء أكان فرضاً أو نفلاً ولو نذراً؛ لأن التيمم طهارة ضرورة، ولا ضرورة قبل الوقت. فلو نقل التراب قبله ومسح به الوجه بعده .. لم يصح، وكذا لو شك هل نقله قبله أم فيه وإن تبين أنه نقل فيه، فيصح التيمم للثانية في جمع التقديم وقت الأولى عقب فعلها، فلو دخل وقت الثانية قبل أن يصليها .. بطل التيمم، بخلاف ما لو تيمم لفائتة قبل وقت الحاضر .. فإنها تباح به؛ لأنه استباح ما نوى فاستباح غيره بدلاً، وهنا لم يستبح ما نوى بالصفة التي نوى فلم يستبح غيره. ويتيمم للأولى في جمع التأخير في وقتها، أو في وقت الثانية، ويتيمم للفائتة عند تذكرها، ويصح التيمم في وقت الكراهة للمؤقتة وذات السبب لا للنافلة المطلقة، ولا يبطل تيممها بدخول وقت الكراهة. [سؤال الماء لفاقده قبل التيمم] ثالثها: سؤال ظاهر لفاقد الماء؛ بأن يطلبه في الوقت بنفسه أو مأذونه إذا لم يتيقن عدمه؛ لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا}، ولا يقال: لم يجد إلا بعد الطلب، أما إذا تيقن عدمه .. فلا طلب؛ لأنه عبث، فإن جوَّز وجوده في شيء .. وجب عليه طلبه منه؛ كأن يفتش رحلة وينظر حواليه يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، ويتأمل موضع الخضرة والطيران إن كان بمستو، وإلا .. تردد إلى حد الغوث؛ وهو ما يلحقه فيه غوث الرفاق مع ما هم عليه من التشاغل بأشغالهم، والتفاوض في أقوالهم، وعبَّر عنه في "الشرح الصغير": بغلوة سهم. ويعتبر في سؤاله كونه ظاهراً؛ بأن ينادي في رفقة منزله المنسوب إليه نداء يعمهم، إلا أن يضيق وقت الصلاة: (من معه ماء)، أو (من يجود بالماء)، أو (يبيع الماء)، ولا يجب أن يطلب من كل واحد بعينه، ويكفي أن تأذن الرفقة لثقةٍ يطلب لهم. وإن تيقنه .. لزمه طلبه إن كان بحد القرب؛ وهو ما يقصده الرفقة للاحتطاب ونحوه، وإلا .. فلا، ولو تيقنه آخر الوقت .. فانتظاره أفضل، أو جوَّز وجوده .. فتعجيل التيمم أفضل؛ كمريض ينتظر القدرة، وعار ينتظر السترة. أما المقيم .. فلا يتمم، ويجب عليه أن يسعى إليه وإن فات الوقت، ولا ينتظر مزاحمٌ على بئرٍ أو ثوبٍ أو مقامٍ نوبةً عَلِم أنها لا تصل إليه إلا بعد الوقت، بل يصلي فيه بتيمم أو عارياً أو قاعداً ولا إعادة.

ولو كان معه ثوب متنجس ولو اشتغل بغسله لخروج الوقت .. لزمه غسله والصلاة بعد الوقت، ولا يصلي عارياً. ولو وجد ماء لا يكفيه .. وجب استعماله، ثم يتيمم للباقي، ويراعي المحدث الترتيب لا ذو الحدث الأكبر، وأعضاء الوضوء أولى. ولو لم يجد إلا ثلجاً أو برداً لا يقدر على إذابته .. لم يلزمه استعماله، ولو لم يجد إلا تراباً لا يكفيه .. وجب استعماله، ولو لم يجد إلا ثمن بعض الماء .. لزمه شراؤه، ومن وجد ماءً يغسل به بعض نجاسات به .. وجب عليه غسله، ولو وجد من عليه حدث ونجاسة ماء يكفي أحدهما .. تعين للنجاسة ووجب غسلها قبل التيمم. وأما إذا تيمم لمرض ونحوه .. فلا طلب. [كون التيمم بتراب طاهر] رابعها: التراب الطاهر؛ قال تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} أي: تراباً طاهراً؛ كما فسره ابن عباس وغيره، والطاهر هنا بمعنى: الطهور؛ لما سيأتي من أنه لا يصح التيمم بالتراب المستعمل، وسواء في التراب الأعفر والأصفر، والأسود والأحمر، والسَّبْخ وهو الذي لا ينبت، وما يداوى به كالطين الإرمني بكسر الهمزة، ولو كان التراب غبار رمل؛ لأنه من طبقات الأرض والتراب جنس له. وخرج بـ (التراب): غيره؛ كمعدن وسحاقة خزف ولو قليلاً مختلطاً بالتراب، وبـ (الطاهر): المتنجس؛ بأن أصابه مائع نجس فلا يصح التيمم بشيء منها؛ لما مر. وقوله: (لا مستعملاً) أي: إن كان التراب مستعملاً متصلاً بالعضو الممسوح أو منفصلاً عنه بعد إصابته .. فلا يصح التيمم به كالماء؛ لأنه قد تأدى به فرض فانتقل إليه المنع، بخلاف ما انفصل ولم يصب العضو. ويؤخذ من حصر المستعمل فيما ذكره: جواز تيمم الواحد والجماعة من تراب يسير مرات كثيرة ولا مانع منه.

[بعض شروط التيمم] ومن شروطه: إسلام المتيمم، لا في كتابية انقطع حيضها أو نفاسها لتحل لمسلم، وتمييزه لا في مجنونة لتحل لواطئ، وعدم الحيض والنفاس لا في تيمم مسنون لإحرام ونحوه، وعدم ما يمنع من وصول التراب إلى البشرة، وتقديم الاستنجاء، وإزالة النجاسة عن أعضاء التيمم وكذا عن غيرها على الأصح، وتقديم الاجتهاد في القبلة على رأي. [أركان التيمم] (وفَرْضُهُ: نقل التراب، لو نقل ... من وجهه لليد أو بالعكس حل) (وقصده، ونية استباح ... فرضٍ أو الصلاة، وانمساح) (الوجه لا المنبت واليدين ... مع مرفقٍ، ورَتِّب المسحين) ذكر في هذه الأبيات أن فرض التيمم ستة، فإن قوله: (فرضه) مفرد مضاف فيعم أي: فروضه ستة كما في "المجموع" وغيره، وزاد في "أصل الروضة" كـ"الوجيز": (التراب)، وجعل في "المنهاج" كـ"أصله": القصد شرطاً، قال الرافعي: وحذفهما جماعة وهو أولى؛ إذ لو حسن عد التراب ركناً .. لحسن عد الماء ركناً في الطهر به، وأما القص .. فداخل في النقل الواجب قرن النية به. انتهى. فأركانه ستة: أولها: نقل التراب؛ أي: نقل المتيمم أو مأذونه ولو بلا عذر التراب الذي له غبار الموصوف بما تقدم إلى عضو تيممه؛ لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً} أي: فاقصدوه؛ بأن تنقلوه إلى العضو، فل كان بعضو تراب فردده عليه .. لم يكف وإن قَصَد بوقوفه في مهب الريح التيمم؛ لانتفاء القصد بانتفاء النقل المحقق له، ولو أحدث بين نقله والمسح .. بطل وعليه النقل ثانياً، بخلاف نظيره في الوضوء وفيما لو نقل مأذونه؛ لعدم وجوب نقل الماء في

الأولى، وعدم وجود القصد الحقيقي منه في الثانية فصار فيها؛ كما لو اكتراه ليحج عنه، ثم جامع في زمن إحرام الأجير .. لا يفسد حجه، ذكره القاضي. ولو نقل التراب من وجهه إلى يده؛ بأن حدث عليه بعد مسحه أو بالعكس؛ أي: نقله من يده إلى وجهه .. حل؛ أي: جاز وصح؛ كما لو نقله من غير عضو التيمم، وكذا لو أخذ من العضو ثم رده إليه، أو نقله من إحدى يديه إلى الأخرى .. يكفي في الأصح. ثانيها: قصده؛ أي: قصد المتيمم التراب؛ لما مر. ثالثها: نية استباحة فرض؛ من صلاة وطواف، أو استباحة الصلاة المسنونة أو غيرها مما يفتقر إلى التيمم كمس مصحف، بخلاف ما لو نوى رفع الحدث، أو فرض التيمم. ثم إن نوى به فرضاً ونفلاً، أو فرضاً، أو فروضاً .. استباح الفرض والنقل قبل الفرض وبعده في الوقت، والفائتة، والحاضرة، والمعينة وغيرها، فإن عين وأخطأ؛ كمن نوى فائتة ولا شيء عليه، أو ظهراً وعليه عصر .. لم يصح، وإن نوى نفلاً أو الصلاة .. استباح النفل لا الفرض على المذهب، ولو نوى نافلة معينة أو صلاة جنازة .. جاز له فعل غيرها من النوافل معها. وله بنية النقل صلاة الجنازة في الأصح، وسجود التلاوة، والشكر، ومس المصحف، وحمله؛ لأن النفل آكد منها. ولو نوى استباحة مس المصحف أو حمله ولو بدار كفر أو مفازة واضطر إلى حمله، أو سجود التلاوة أو الشكر، أو منقطعة الحيض أو النفاس استباحة الوطء، أو ذوي الحدث الأكبر استباحة الاعتكاف، أو قراءة القرآن .. استباح ما نواه، ولا يستبيح الفرض ولا النقل. ووقت النية: أول الأركان؛ وهو نقل التراب، والمراد به: الضرب كما في "المجموع" و"الكفاية"، ويشترط استدامتها إلى مسح شيء من الوجه على الصحيح؛ لأن أول الأركان في التيمم مقصود لغيره بخلاف في الوضوء، والمتجه كما قاله جمع من المتأخرين: الاكتفاء باستحضارها عند النقل والمسح ولو عزبت بينهما؛ ويؤيده التعليل السابق وقول أبي خلف الطبري في "شرح المفتاح": وقت النية في التيمم: أن ينوي عند القصد إلى التراب، ويكون ذكراً للنية عند مسح الوجه.

رابعها: مسح وجهه، وظاهر لحيته - وإن خرج عن حد الوجه - ولو بغير يده؛ بأن يستوعبه بالمسح حتى ما يقبل من أنفه على شفته؛ لقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم}، لا المنبت للشعر، وإن خف أو ندر .. فلا يجب إيصال التراب إليه، ولا يندب؛ لما فيه من المشقة. خامسها: مسح اليدين مع المرفقين؛ لآية التيمم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: (انه مسح وجهه وذراعيه)، قال الشافعي رحمه الله تعالى: هذا الخبر هو الذي منعنا أن نأخذ برواية عمار في الوجه والكفين. سادسها: ترتيب المسح؛ أي: مسحي الوجه واليدين ولو في المتمعك كما في الوضوء وإن كان حدثه أكبر، وخرج بـ (المسحين): النقلان فلا يجب الترتيب بينهما؛ إذ المسح أصل والنقل وسيلة، فلو ضرب بيديه على الترتيب ومسح بالثانية وجهه وبالأولى يديه .. جاز. وقوله: (وانمساح الوجه) أي: مسحه؛ كما علم من كون النقل فرضاً. [سنن التيمم] ولما فرغ من ذكر معتبرات التيمم .. شرع في ذكر مسنوناته فقال: (وسُنَّ تفريجٌ، وأن يُبسملا ... وقدِّم اليمنى، وخلِّل، والولا) (ونزع خاتمٍ لأولى يضرب ... أما لثاني ضربةٍ فيجب) أي: يسن للمتيمم أمور: منها: تفريج أصابعه، وفي بعض النسخ: (تفريق) أول كل ضربة؛ لأنه أبلغ في إثارة الغبار، فلا يحتاج إلى الزيادة على الضربتين، والغبار الحاصل في الأولى بين الأصابع .. لا يمنع صحة التيمم وإن منع وصول الغبار في الثانية؛ إذ لو اقتصر على التفريج في الأولى .. أجزأه؛ لعدم وجوب ترتيب النقل، فحصول التراب الثاني إن لم يزد الأول قوة .. لم ينقصه، وأيضاً: الغبار على المحل لا يمنع المسح؛ بدليل أن من غشيه غبار السفر .. لا يكلف نفضه

للتيمم كما ذكره الرافعي، وقول البغوي: يكلف نفض التراب .. محمول على تراب يمنع وصول التراب إلى المحل. ومنها: أن يبسمل أول التيمم ولو جبناً أو حائضاً؛ كما في الوضوء. ومنها: أن يقدم يمناه على يسراه؛ أي: وأعلى وجهه على أسفله؛ كما في الوضوء، ويسن إذا مسح اليمنى .. أن يضع أصابع اليسرى سوى الإبهام على ظهور أصابع اليمنى سوى الإبهام؛ بحيث لا يخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى، ولا يجاوز أنامل اليمنى بمسبحة أطراف أنامل اليسرى، ويمرها على ظهر كف اليمنى، فإذا بلغ الكوع .. ضم أطراف أصابعه على حرف الذراع، ويمرها إلى المرفق، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمرها عليه وإبهامه مرفوعة، فإذا بلغ الكوع .. أمر إبهام اليسرى على إبهام اليمنى، ثم يفعل باليسرى كذلك، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ندباً لا وجوباً؛ لتأدي فرضهما بضربهما بعد مسح الوجه، وإنما جاز مسح الذراعين بترابهما؛ لعدم انفصاله وللحاجة؛ إذ لا يمكن مسح الذراع بكفها فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه، ذكر ذلك في "المجموع"، ومراده بنقل الماء: تقاذفه الذي يغلب؛ كما عبر به الرافعي حيث قال: وإنما يثبت للمتناثر حكم الاستعمال إذا انفصل بالكلية وأعرض المتيمم عنه؛ لعسر إيصاله إلى العضو، فيعذر في رفع اليدين ودروهما؛ كما في رد المتقاذف الذي يغلب في الماء. ومنها: أن يخلل بين أصابع يديه بالتشبيك؛ كما في الوضوء. ومنها: الولاء بين المسحين كما في الوضوء بتقدير التراب ماء، وبين التيمم والصلاة؛ خروجاً من خلاف من أوجبه، ويجب الولاء في تيمم دائم الحدث ووضوئه. ومنها: نزع خاتم في الضربة الأولى؛ ليكون مسح جميع الوجه بجميع اليد؛ اتباعاً للسنة، وأما نزعه في الضربة الثانية .. فيجب؛ لتصل التراب إلى محله، ولا يكفي تحريكه، بخلاف في الوضوء؛ لأن التراب لا يدخل تحته، بخلاف الماء، فإيجاب النزع إنما هو عند المسح لا عند الضرب كما نبه عليه السبكي.

وألف (يبسملا) للإطلاق، ويجوز في كل من (قدم) و (خلل) أن يكون ماضياً وفاعله المتيمم، وأن يكون أمراً، ويجوز في (يضرب) أن يكون مبنياً للفاعل؛ أي: يضربها المتيمم؛ فيكون بمثناة تحتية وهو أنسب بآخر البيت، وأن يكون مبنياً للمفعول ونائب الفاعل ضمير يعود على الأولى؛ فيكون بمثناة فوقية. واللام في قوله: (لثاني ضربه) يصح أن تكون للتعليل، وبمعنى: (في) و (عند) و (بعد) أي: بعد الضربة الثانية عند المسح فيكون موفياً بما نبه عليه السبكي. ومن سننه: تخفيف التراب، وعدم الزيادة على ضربتين، وإدامة يده على العضو حتى يفرغ من مسحه، وإمرار التراب على العضد؛ تطويلاً للتحجيل، وإتيانه بالشهادتين مع ما بعدهما؛ كما في الوضوء والغسل. [آداب التيمم ومكروهاته] (آدابه: القبلة أن يستقبلا ... مكروهه: التُّرب الكثير استعملا) فيه مسألتان: الأولى: من آداب التيمم: استقبال المتيمم القبلة؛ لشرفها كالوضوء، وقد تقدم الكلام على التعبير بالآداب. الثانية: يكره لمتيمم استعمال التراب الكثير؛ فإنه يشوه الخلقة، فإن السنة: أن يخفف التراب؛ بأن ينفضه إن كان كثيراً أو ينفخه؛ بحيث لا يبقى إلا قدر الحاجة، وألا يكرر المسح، ويكره له الزيادة على مسحةٍ واحدة للوجه ومسحةٍ واحدة لليدين. وقوله: (آدابه) من إطلاق الجمع على الواحد مجازاً، وألف (يستقبلا) و (استعملا) للإطلاق، ويصح بناء كل منهما للفاعل وهو المتيمم، وللمفعول وهو القبلة في الأول فيكون بمثناة فوقية، والتراب في الثاني، و (التراب) لغة في التراب.

[ما يحرم التيمم به] (حرامه: تراب مسجدٍ، وما ... في الشرع الاستعمال منه حُرِّما) فيه مسألة: وهي: أنه يحرم التيمم بتراب المسجد؛ تعظيماً له لأنه جزؤه، والمراد به: الجزء الداخل في وقفه، لا ما يجتمع فيه من حمل الريح ونحوه، وبكل تراب حرم الشارع استعماله كالمغصوب والمسروق؛ لما فيه من استعمال ملك الغير بغير إذنه. ويؤخذ من كلام المصنف: صحة التيمم بالتراث الذي يحرم التيمم به؛ لإضافته (حرام) لضمير المتيمم وهو الأصح، وقيل: لا يصح إذا قلنا بأنه رخصة. وقوله: (وما في الشرع ... ) إلى آخره من عطف العام على الخاص؛ فإن تراب المسجد مما حرم الشارع استعماله، وألف (حرما) للإطلاق، ويصح بناؤه للفاعل وللمفعول. [مبطلات التيمم] ثم شرع فيما يبطل التيمم فقال: (مبطله: ما أبطل الوضوء مع ... توهُّم الماء بلا شيءٍ منع) (قبل ابتدا الصلاة، أمَّا فيها ... فمن عليه واجبٌ يقضيها) (أبطل، وإلا لا، ولكن أفضل ... إبطالها كي بالوضوء تفعل) أي: أن التيمم يبطله ما أبطل الوضوء من الأسباب السابقة، ويزيد التيمم ببطلانه بتوهم الماء؛ أي: بأن يقع في وهم المتيمم لفقده - أي: ذهنه - وجوده بأن جوَّزه وإن زال سريعاً أو لم يكفه الماء أو ضاق الوقت؛ كأن يسمع قائلاً يقول: (عندي ماء أودعنيه فلان) بلا مانع منه، قبل ابتداء الصلاة؛ بأن لم يفرغ من تكبيرة الإحرام؛ لوجوب الطلب حينئذ، ولأنه لم يشرع في المقصود .. فصار كما لو توهمه في أثناء التيمم، وهذا معنى قوله: (مع توهم الماء ... ) إلى آخره، وهذا بخلاف توهمه السترة؛ لعدم وجوب طلبها. وفهم من كلامه: بطلان التيمم بتيقن الماء بالأولى، وخرج بقوله: (بلا شيء منع) ما لو

اقترن بمانع من استعماله؛ كعطش، وسبع يحول بينه وبينه، وسماع من يقول: (أودعني فلان ماء) وهو يعلم غيبته .. فلا يبطل التيمم حينئذ، وبقوله: (قبل ابتدا الصلاة) ما لو شرع فيا .. فلا يبطل تيممه بتوهم ولا شك ولا ظن. وقد ذكر حكم اليقين في قوله: (أما فيها) يعني: إن تيقن القدرة على استعمال الماء في الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً؛ بأن تيقن وجوده إن تيمم لفقده، أو حصل الشفاء إن تيمم لمرض أو نحوه .. يبطل التيمم إن وجب عليه قضاء فرضها؛ بأن تيمم الأول بموضع يندر فيه فقد الماء كالحضر، والثاني لبرد أو كان بجرحه دم كثير، أو وضع الساتر على حَدَث، أو عضو تيمم كما سيأتي، أو نحو ذلك؛ إذا لا فائدة في استمراره فيها حينئذ، وإلا بأن لم يجب عليه قضاء فرضها؛ بأن تيمم الأول بموضع يكثر فيه فقد الماء كالسفر، والثاني لغير ما ذكر .. فلا يبطل تيممه؛ لتلبسه بالمقصود بلا مانع من استمراره فيه؛ كوجود المكفر الرقبة في الصوم، ولأن إحباط الصلاة أشد ضرراً عليه من تكليفه شراء الماء بزيادة يسيرة. ويبطل تيممه بسلامه من صلاته وإن علم تلفه قبله؛ لأنه ضعف بوجود الماء وكان مقتضاه بطلان الصلاة التي هو فيها، ولكن بقاءها لحرمتها. وقوله: (ولكن أفضل ... ) إلى آخره؛ أي: الأفضل قطعها ليتوضأ، ويصلي بدلها لإتمامها فرضاً كانت أو نفلاً؛ كوجود المُكفِّر الرقبة في أثناء الصوم، وللخروج من خلال من حرم إتمامها، ويحرم قطع فريضة ضاق وقتها؛ لئلا يخرجها أو بعضها عنه مع إمكان أدائها فيه. واستشكل عدم البطلان فيما ذكر بالبطلان فيما لو قلد الأعمى غيره في القبلة، ثم أبصر في الصلاة، مع أن الضرورة زالت فيهما؟ وأجيب عنه بأنه هنا قد فرغ من البدل وهو التيمم، بخلافه هناك؛ فإنه ما دام في الصلاة فهو مقلد. ولو يُمِّم ميتٌ وصلي عليه ثم وُجِد الماء .. وجب غسله والصلاة عليه، سواء أكان في أثناء الصلاة أو بعدها، ذكره البغوي في "فتاويه"، ثم قال: ويحتمل ألا يجب، وما قاله في الحضر، أما السفر .. فلا يجب شيء من ذلك كالحي كما جزم به ابن سراقة في "تلقينه"، لكنه فرضه في الوجدان بعد الصلاة، فعلم أن صلاة الجنازة كغيرها، وإن تيمم الميت كتيمم الحي، ومن نوى شيئاً .. أتمه، ومن لم ينوه .. وجب الاقتصار على ركعتين، فإن رآه في ثالثة مثلاً .. أتمها.

ولو رأت حائض الماء وهو يجامعها .. وجب النزع، لا إن رآه هو، ولو رآه مسافر قاصر فنوى الإقامة أو الإتمام .. بطلت صلاته. وقد علم مما قررته: أنه لا يصح حمل قول المصنف: (أما فيها) على توهم الماء كما سبق إلى بعض الأوهام من ظاهره؛ ويدل لما قررته: تقييده بطلان التيمم بتوهم الماء قبل ابتداء الصلاة. وقوله: (ابتدا) بالقصر للوزن، وقوله: (ابطل) يصح كونه ماضياً مبنياً للفاعل وهو ضمير يعود إلى التيقن الذي قدرته، ومفعوله ضمير يعود على التيمم؛ أي: أبطل تيقن القدرة على استعمال الماء تيمم المتيقن، أو مبنياً للمفعول وهو التيمم، ويصير التقدير: أما تيمم متيقن القدرة على استعمال فيها ... إلى قوله: (أُبطل) أي: التيمم، أو أمراً؛ أي: أما تيمم المتيقن المذكور .. أَبِطله أنت، وقد يتوهم أن المصنف توسع بحذف الفاء من قوله: (وإلا لا) وليس كذلك؛ إذ الإتيان؛ إذ الإتيان فيه بالفاء جائز لا واجب. (وَرِدَّةٌ تُبطل لا التوضِّي ... جدِّد تيمُّماً لكل فرض) [الرِّدة تبطل التيمم] أي: الردة تبطل التيمم لا الوضوء؛ أي: والغسل؛ لأن التيمم للإباحة ولا إباحة مع الردة، والوضوء والغسل يرفعان الحدث. [وجوب تجديد التيمم لكل فرض] وقوله: (جدد) أي جدد أنت وجوباً تيمماً لكل فرض، سواء أكان مكتوبة، أم طوافاً، أو منذوراً؛ لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} إلى قوله: {فتمموا}، فاقتضى وجوب الطهر لكل صلاة، خرج الوضوء بالسنة، فبقي التيمم على مقتضاه؛ ولما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه قال: (تيمم لكل صلاة وإن لم يحدث)، ولأنه طهارة ضرورية فيتقدر بقدرها. أما تمكين الحائض مراراً، وجمعه مع فرض آخر بتيمم .. فإنهما جائزان.

وخرج بقوله: (لكل لفرض) النفل؛ فإنه يستبيح منه بالتيمم مع الفرض ما شاء، وصلاة الجنازة كالنافلة وإن تعينت، وله جمع الطواف الواجب وركعتيه بتيمم لا الجمعة وخطبتها، ولو صلى بتيمم فرضاً وأعاده به ولو وجوباً .. جاز على الأصح. [حكم الجبيرة وما يتعلق بها من مسائل] (يمسح ذو جبيرةٍ بالماء مع ... تيممٍ، ولم يعده إن وضع) (على طهارةٍ، ولكن من على ... عضو تيمُّمٍ لصوقاً جعلا) (وجنباً خيره أن يقدِّما ... ألغسل أو يُقدَّم التيمما) وليتيمم محدثٌ إذ غسلا ... عليه ثمَّ الوضوء كمَّلا) فيها أربع مسائل: الأولى: أن صاحب الجبيرة يمسحها جميعاً بالماء إذا كانت بأعضاء الطهر، ومثلها: للصوف حين يغسل المحدث حدثاً أصغر العليل، فلا ينتقل عن عضو حتى يكمله غسلاً ومسحاً وتيمماً عنه، ويمسحها ذو الحدث الأكبر متى شاء مع تيمم، أما مسحها .. فلقوله صلى الله عليه وسلم في مشجوج احتلم واغتسل فدخل الماء شجته ومات: "إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب رأسه بخرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده"، رواه أبو داود وغيره، وأما تعميمها به؛ فلأنه مسح للضرورة كالتيمم. وفهم من تقييده بالماء: أنها لو كانت في عضو التيمم .. لم يجب مسحها بالتراب؛ لأنه ضعيف لا يؤثر من فوق حائل، بخلاف الماء؛ فإن تأثيره فوقه معهود في الخف، لكنه يسن خروجاً من الخلاف، والتيمم بدل عن غسل العليل، ومسح الساتر له بالماء بدل عن غسل ما تحت أطرافه من الصحيح كما في "التحقيق" وغيره، وعليه يحمل قول الرافعي: إنه بدل عما تحت الجبيرة. وقضية ذلك: أنه لو كان الساتر بقدر العلة فقط، أو بأزيد وغسيل الزائد كله .. لا يجب المسح وهو ظاهر، فإطلاقهم وجوب المسح .. جري على الغالب من أن الساتر يأخذ زيادة على

محل العلة، ومعلوم: أنه يجب غسل الصحيح من أعضاء الطهر ولو ما تحت أطراف الساتر من صحيح ولو بأجرة فاضلة عما مر في نظيره من الوضوء؛ لأن علة بعض العضو لا تزيد على فقده، ولو فقد .. وجب غسل الباقي. الثانية: أن من غسل الصحيح ومسح الساتر وتيمم وصلى .. لا يعيد ما صلاه بذلك إن وضع الساتر على طهارة؛ أي: ولم يأخذ من الصحيح إلا ما لا بد منه للاستمساك؛ لأنه حينئذ وقد مسح بالماء كما تقدم وجوبه شبيهٌ بالخف، وماسحه لا يعيد. وخرج بقوله: (إن وضع على طهارة) ما لو وضعه على حدث .. فإنه تجب عليه الإعادة؛ لانتفاء شبهه حينئذ بالخف؛ لأنه كان يجب عليه نزعه إن لم يخف منه ضرراً ليتطهر فيضعه على طهر. الثالثة: أن من وضع الجبيرة، أو اللَّصوق على عضو تيممٍ ومسحه وغسل الصحيح كما مر وصلى .. تجب عليه إعادة ما صلاه به؛ لنقصان البدل والمبدل. و(الجبيرة): ألواح تهيأ للكسر أو الخلع، و (اللَّصوق) بفتح اللام: ما كان على جرح من قطنة أو خرقة أو نحوها. الرابعة: أن العليل إذا لم يكن عليه ساتر .. فالواجب حينئذ أمران: غسل الصحيح، والتيمم، ثم إن كان حدثه أكبر .. تخيَّر بين أن يقدم الغسل وأن يقدم التيمم؛ إذ لا ترتيب يبهما؛ لأن بدنه كعضو واحد، وإن كان حدثه أصغر .. وجب عليه التيمم وقت غسل العليل؛ رعاية لترتيب الوضوء، ثم يكمل الوضوء. والأولى في القسمين تقديم التيمم؛ ليزيل الماء أثر التراب. وأفهم كلامه: أنه لو كانت العلة على أكثر من عضو في الوضوء .. وجب لكل عضو عليل تيمم وقت غسله، وهو كذلك. نعم؛ إن كانت في يديه أو رجليه .. كفاه تيمم واحد؛ لعدم وجوب الترتيب بينهما، لكن لسنِّيَّته يسن تيممان، قال في "المجموع": فإن قيل: إذا كانت العلة في وجهه ويده، وغسل صحيح الوجه أولاً .. جاز توالي تيممهما، فلم لا يكفيه تيمم واحد؛ كمن عمت العلة أعضاءه؟ فالجواب: أن التيمم هنا في طهر تحتم فيه الترتيب، فلو كفاه تيمم .. حصل تطهير الوجه واليد في حالة واحدة، وهو ممتنع، بخلاف التيمم عن الأعضاء كلها؛ لسقوط الترتيب بسقوط الغسل. انتهى.

وما قيل: من أن هذا الجواب لا يفيد؛ لأن حكم الترتيب باقٍ فيما يمكن غسله ساقطٌ في غيره، فيكفيه تيمم واحد عن والوجه واليدين .. رُدَّ بأن الطهر في العضو الواحد لا يتجزأ ترتيباً وعدمه، ومن ثمة لو عمت الرأس دون الثلاثة .. وجب أربعة تيممات. وألف (جعلا) و (يقدِّما) و (التيمما) و (غسلا) للإطلاق. [حكم من أراد صلاة فرض آخر بوضوء غسل فيه الصحيح وتيمم عن العليل] (وإن يرد من بعده فرضاً وما ... أحدث فليُصلِّ إن تيمَّما) (عن حدثٍ أو عن جنابةٍ، وقيل: ... يعيد محدثٌ لما بعد العليل) أي: إن يرد من غسل الصحيح وتيمم كما مر وصلى به فريضة فرضاً آخر ولم يحدث .. صلى إن أعاد التيمم وحده، وما قيل: إنه لو تعدد؛ كأن تيمم في الأول أربعة تيممات أعادها .. مفرع على رأي الرافعي، ولا يعيد غسل الصحيح، سواء أكان حدثه أصغر أم أكبر؛ لأن الوضوء الكامل لا يعاد فكذا بعضه، ولأن ما غسله .. ارتفع حدثه وناب التيمم عن غيره فتم طهره، وإنما أعيد التيمم؛ لضعفه عن أداء الفرض لا لبطلانه، وإلا .. لم يتنقل به، واللازم باطل، بخلاف إغفال اللمعة. وقيل: يعيد المحدث غسل ما بعد عليله ورجحه الرافعي؛ فإنه لما وجب إعادة تطهير عضو .. خرج ذلك العضو عن كونه تام الطهر، فإن أتمه .. وجب إعادة ما بعده؛ كما لو أغفل لمعة من وجهه مثلاً، بخلاف الغسل؛ غذ لا ترتيب فيه. وخرج بـ (الفرض): النفل، فلا يعيد له شيئاً، وبقوله: (وما حدث): ما إذا أحدث؛ فإنه يعيد الطهر كله. ولو غسل ذو الحدث الأكبر الصحيح، وتيمم عن علة في غير أعضاء الوضوء، ثم أحدث قبل أن يصلي فرضاً .. لزمه الوضوء لا التيمم؛ لأن تيممه عن غير أعضاء الوضوء فلا يؤثر فيه الحدث، ولو صلى فرضاً، ثم أحدث .. توضأ للنفل ولا يتيمم. وألف (تيمما) للإطلاق.

[فاقد الطهورين] (ومن لماءٍ وترابٍ فقدا ... الفرض صلى، ثم مهما وجدا) (من ذين فرداً حيث يسقط القضا ... به فتجديدٌ عليه فُرضا) فيهما مسألة: وهي: أن من فقد الماء والتراب؛ كأن حبس بموضع لم يجد فيه واحداً منهما، أو وجد التراب ندياً ولم يقدر على تجفيفه بنار نحوها .. لزمه أن يصلي الفرض؛ لحرمة الوقت، ولاستطاعة فعله؛ كالعاجز عن السترة وإزالة النجاسة والاستقبال، وتكون صلاته صحيحة على الأصح، ولهذا تبطل بالحدث، وكذا برؤية أحد الطهورين في أثنائها في الأصح، قاله في "المجموع". وخرج بفرض الوقت المشار إليه بآلة التعريف: الفائتة، والنافلة، ومس المصحف، وحمله، ومكث ذي الحدث الأكبر في المسجد، وقراءته القرآن في غير الصلاة، وقراءته فيها غير (الفاتحة)، ووطء منقطعة الحيض أو النفاس؛ فإنها تحرم، ولا يعرف من يباح له فرض دون نفل .. إلا من عدم الماء والتراب، أو السترة، أو عليه نجاسة عجز عن إزالتها، ولا يلزمه قضاء ذلك الفرض إلا إذا وجد الماء، أو التراب بمحل يسقط فيه الفرض بالتيمم. وألف (فقدا) و (وجدا) و (فرضا) للإطلاق، ويجوز بناؤه للفاعل وهو الله تعالى، وللمفعول له وهو التجديد. * * *

باب الحيض

بابُ الحَيض أي: والنفاس والاستحاضة، وترجم الباب الحيض؛ لأن أحكامه أغلب. وهو لغة: السيلان، وشرعاً: دم جبلة يخرج من أقصى رحم المرأة في أوقات مخصوصة، والاستحاضة: دم علة يخرج من عرق فمه في أدنى الرحم يسمى العاذل بالذال المعجمة، وحكى ابن سيده إهمالها، والجوهري بدل اللام راء، وسواء أخرج إثر الحيض أم لا، والنفاس: الدم الخارج بعد فراغ رحم المرأة من الحمل. (إمكانه من بعد تسعٍ، والأقل ... يومٌ وليلةٌ، وأكثر الأجل) (خمسٌ إلى عشرةٍ، والغالب ... ستٌ، وإلا سبعةٌ تقارب) فيهما مسألتان: [أقل إمكان الحيض] الأولى: أقل سن يمكن أن تحيض فيه المرأة استكمال تسع سنين قمرية تقريباً للاستقراء؛ لأن ما لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة .. يرجع فيه إلى الوجود، وقد قال الشافعي: أعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة؛ يحضن لتسع سنين. فلو رأت الدم قبل استكمال التسع بما لا يسع حيضاً وطهراً .. كان حيضاً، وما دامت المرأة حية .. فحيضها ممكن كما قاله الماوردي، وقال المحاملي: آخره ستون سنة. [أقل الحيض وأكثره] الثانية: أقل زمنه: يوم وليلة؛ أي: قدر ذلك متصلاً وهو أربع وعشرون ساعة، وأكثره: خمسة عشرة يوماً بلياليها وإن تقطع، وغالبه: ستة أو سبعة؛ للاستقراء فيها. وحذف المصنف التاء من (خمس) و (ست) لكون المعدود محذوفاً؛ إذ هو سائغ حينئذ

لا للنظر إلى الليالي، وإلا .. لحذفها أيضاً من (عشرة) و (سبعة)، وحذفه الفاء من (سبعة) جائز على ندور؛ كما في خبر البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها، وإلا .. استمتع بها". [أقل النفاس وأكثره وغالبه] (أدنى النفاس لحظةٌ، ستونا ... أقصاه، والغالب أربعونا) أي: أقل النفاس: لحظة، وأكثره: ستون يوماً، وغالبه: أربعون يوماً فيما استقرأه الشافعي، وعبر بدل اللحظة في "التحقق" و"التنبيه" وغيرهما بـ (المجة) أي: الدفعة، وفي "الروضة" و"أصلها" بأنه لا حد لأقله؛ أي: لا يتقدر، بل ما وجد منه وإن قل .. يكون نفاساً، ولا يوجد أقل من مجة، ويعبر عن زمانها باللحظة، فالمراد من العبارات واحد. وألف (ستونا) و (أربعونا) للإطلاق. [أحكام المستحاضة وأقسامها] (إن عبر الأكثر واستداما ... فمستحاضةٌ حوت أحكاما) أي: إن جاوز الدم أكثر الحيض أو النفاس؛ فمن جاوز دمها ذلك .. فمستحاضة حوت أحكاماً كثيرة: منها: أنه حدث دائم تصلي معه وتصوم وتوطأ والدم يجري، وتغسل فرجها وتحشوه بنحو قطنه إن كانت مفطرة ولم تتأذ به، فإن احتاجت إلى الشد .. فعلته إن لم تتأذ به، فتتوضأ في الوقت، وتستبيح فرضاً ونوافل كالمتيمم، وتجدد الاحتياط لكل فرض ولو لم تزل العصابة؛ كما لو انتقض طهرها، وتبادر بالصلاة، ولا يضر تأخيرها لمصلحة الصلاة كستر وانتظار جماعة، ولا خروج الدم بلا تقصير، والسلس يحتاج مثلها، فإن أخرت لغيرها .. بطل وضوؤها، ويبطل بالشفاء، وبانقطاع يسع الطهارة والصلاة.

ومنها: أنها تنقسم إلى: مبتدأة مميزة وهي ذات قوي وضعيف؛ فالحيض: القوي إن لم ينقص عن أقله، ولم يجاوز أكثره، ولم ينقص الضعيف عن خمسة عشرة يوماً متصلة، والقوة: سوادٌ، ثم حمرةٌ، ثم شقرةٌ، ثم صفرة، والثخانة، والنتن، فإن استويا .. فالسابق، وغير مميزة لفقد شرط أو اتحاد صفته: فإن لم تعرف ابتداءه .. فكمتحيرة، وإن عرفته .. فحيضها يوم وليلة من أوله، وطهرها تسع وعشرون. وإلى معتادة مميزة، فيقدم التمييز على العادة، فإن أمكن الجمع بينهما .. عمل بهما؛ وغير مميزة .. فترد إليها قدراً ووقتاً، وثبت بمرة، وأما العادة المختلفة .. فبمرتين، ثم إن اتسقت وعلمت اتساقها .. عملت بهن وإلا .. اغتسلت آخر كل نوبة واحتاطت إلى أكثر النوب. وإلى متحيرة؛ بأن لم تعلم قدر عادتها ولا وفتها؛ فيلزمها ما لزم الطاهر، ويحرم عليها ما يحرم على الحائض إلا القراءة في الصلاة، ولها أن تصلي النوافل وتصومها وتطوفها، ويجب أن تغتسل لكل فريضة في وقتها، ولا يبطل الغسل بتأخير، وتصوم رمضان وثلاثين يوماً فيبقى عليها يومان وإن نقص، لا إن علمت أنه كان ينقطع ليلاً، والضابط: أن من عليها سبعة أيام فما دونها .. تصومها بزيادة يوم متفرقة في خمسة عشر، ثم تعيد صوم كل يوم غير الزيادة يوم سابع عشره، ولها تأخيره إلى خامس عشر ثانية، ومن عليها أربعة عشر فما دونها .. تصومه ولاء مرتين الثانية من السابع عشر، وتزيد يومين بينهما. فإن حفظت الوقت .. فهي حائض حين لا يحتمل الطهر، وطاهر حين لا يحتمل الحيض، وإن احتملهما .. احتاطت، ولا يلزمها الغسل إلا لاحتمال الانقطاع. وإن حفظت قدر عادتها .. فلا يخرجها عن التحير المطلق إلا أن حفظت معه قدر الدور وابتداءه. وترد المبتدأة في النفاس إلى التمييز بشرط ألا يزيد القوي على ستين يوماً، ولا ضبط في الضعيف، وغير المميزة .. إلى اللحظة في الأظهر، والمعتادة المميزة .. إلى التمييز لا العادة، وغير المميزة الحافظة .. إلى العادة، وتثبت بمرة، وتحتاط المتحيرة. وألف (استداما) للإطلاق.

[أكثر وقت الطهر وأقله وغالبه] (لم ينحصر أكثر وقت الطهر ... أما أقله فنصف شهر) فيه مسألتان: الأولى: أنه لا أحد لأكثر وقت الطهر بالإجماع؛ لأن المرأة قد لا تحيض أصلاً، أو تحيض في عمرها مرة. الثانية: أقله؛ أي: الطهر المعهود وهو الذي بين الحيضتين: خمسة عشر يوماً، وهي نصف الشهر الكامل؛ لأنه إذا كان أكثر الحيض خمسة عشر .. لزم أن يكون أقل الطهر: خمسة عشر، والمراد بالشهر في هذا الباب: ثلاثون يوماً. واحترز بقولهم: (بين الحيضتين) عن الطهر بين الحيض والنفاس؛ فإنه يجوز أن يكون دون خمسة عشر يوماً، سواء أتقدم الحيض على النفاس؛ بناء على أن الحامل تحيض وهو الأظهر، بل لو اتصلت ولادتها بالدم .. كان حيضاً أيضاً، أم تأخر بأن رأت أكثر النفاس، ثم انقطع الدم، ثم عاد قبل خمسة عشر يوماً. وغالب الطهر: بقية الشهر بعد غالب الحيض. ثم شرع في بيان أحوال الحمل فقال: (ثم أقل الحمل ستُّ أشهر ... وأربع الأعوام أقصى الأكثر) (وثلث عامٍ غاية التصور ... وغالب الكامل تسع أشهر) فيهما أربع مسائل: [أقل مدة الحمل] الأولى: أقل مدة الحمل: ستة أشهر؛ لان عثمان أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فشاور القوم في رجمها، فقال ابن عباس: (أنزل الله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}، وأنزل: {وفصاله في عامين}، فالفصل في عامين، والحمل في ستة

أشهر)، فرجعوا إلى قوله، فصار إجماعاً. وسكت المصنف عن لحظة العلوق ولحظة الوضع؛ للعلم بهما. [أكثر مدة الحمل] الثانية: أكثر مدة الحمل: أربع سنين؛ للاستقراء، فقد قال مالك: (هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق، وزوجها أيضاً رجل صدق، وحملت ثلاثة أبطن في اثني عشرة سنة كل بطن أربع سنين). [غاية تصور الجنين] الثالثة: غاية تصور الجنين - أي: نهايته -: أربعة أشهر؛ أي: مئة وعشرون يوماً؛ لخبر "الصحيحين": "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح"، وأما ما رواه مسلم من أنه: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة .. بعث الله إليها ملكاً فصورها ... " الحديث .. فأجاب عنه الأستاذ وغيره: بأن بعثه الملك في الأربعين الثانية؛ للتصوير، وخلق السمع والبصر، والجلد واللحم والعظام، والتمييز بين الذكر والأنثى، وبعثه بعد الأربعين الثالثة؛ لنفخ الروح، وقد حصلت المغايرة بين البعثتين. انتهى. والحديثان كالصريحين في هذا الجمع، ويمكن حمل كلام المصنف عليه بمعنى: أن غاية تصور الجنين نفخ الروح فيه، وسكت عن لحظة العلوق ولحظة الوضع؛ للعلم بهما. [غالب مدة الحمل] الرابعة: غالب مدة حمل الولد الكامل: تسعة أشهر؛ للاستقراء، وحذف التاء من (ست) و (أربع) و (تسع) للنظر لليالي أو للوزن.

(بالحَدَثِ الصلاة مع تطوُّف ... حَرَّم، وللبالغ حمل المصحف) (ومشيه، ومع ذي الأربعة ... للجنب اقتراء بعض آية) (قصداً، ولبث مسجدٍ للمسلم ... والمبحيض والنفاس حرِّم) ألست مع تمتعٍ برؤية ... واللمس بين سرةٍ وركبة) (إلى اغتسالٍ أو بديلٍ، يمتنع ... ألصَّوم والطلاق حتى ينقطع) في هذه الأبيات ثلاثة مسائل: [ما يحرم بالحدث الأصغر] الأولى: أنه يحرم بالحدث الأصغر أمور: الأول: الصلاة؛ للإجماع، ولخبر "الصحيحين": "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث .. حتى يتوضأ"، ومنها: صلاة الجنازة، وفي معناها خطبة الجمعة، وسجدة التلاوة والشكر، قال النووي: وأما سجود عوام الفقراء بين يدي المشايخ .. فحرام بالإجماع ولو بطهر، قال ابن الصلاح: ويخشى أن يكون كفراً، وقوله تعالى: {وخروا له سجداً} منسوخ أو مؤول، وظهار: أن التحريم المترتب على الحدث الأصغر والأكبر يرتفع بطهارة دائم الحدث وبالتيمم، وأن فاقد الطهورين يجب عليه أن يصلي الفريضة المؤداة. الثاني: التطوف؛ أي: الطواف بالبيت بأنواعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ له وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" رواه مسلم، ولخبر: "الطواف بمنزلة الصلاة، إلا أن الله قد أحل فيه المنطق، فمن نطق .. فلا ينطق إلا بخير" رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم. الثالث والرابع: حمل المصحف ومسه على البالغ ولو كافراً، أما مسه ولو للبياض المتخلل والحواشي ومن وراء حائل وبغير أعضاء الوضوء .. فلقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون}، بمعنى: المتطهرين، وهو خبر بمعنى النهي؛ كقوله تعالى: {لا تضار والدةٌ بولدها}

على قراءة الرفع، ولو كان باقياً على أصله .. لزم الخلف في كلامه تعالى؛ لأن غير المتطهر يمسه، وأما حمله .. فلأنه أبلغ من مسه. وخرج بالحمل والمس: قلبه أوراقه بعود أو نحوه .. فإنه يجوز كما صححه النووي؛ لأنه ليس بحمل ولا في معناه، وصحح الرافعي تحريمه؛ لأنه في معنى الحمل؛ لانتقاله الورقة بفعل القالب من جانب إلى آخر. ومثل المصحف في التحريم: جرده وإن انفصل عنه، وظرفه المعد له إذا كان فيه، وما كتب لدرس قرآن كاللوح. وخرج بـ (البالغ): الصبي المميز ولو جنباً، فلا يمنع من ذلك؛ لحاجة تعلمه ومشقة استمراره متطهراً، وبـ (المصحف): الحديث والفقه ونحوهما، والتفسير إذا كان قرآنه أقل منه؛ فلا يحرم مسها وحملها، ويجوز حمل المصحف في متاع إذا لم يكن هو المقصود بالحمل. ويجب على العاجز عن الطهارة أخذ مصحف خاف عليه تنجساً أو كافراً أو تلفاً بنحو غرق أو حرق؛ للضرورة، ويجوز له أخذه إن خاف عليه ضياعاً. [ما يحرم على الجنب] الثانية: أنه يحرم على الجنب ولو كافراً مع هذه الأربعة شيئان: أحدهما: اقتراء؛ أي: قراءة شيء من القرآن ولو بعض آية كحرف قصداً؛ أي: في حال كونه قاصد القراءة؛ للإخلال بالتعظيم، ولخبر الترمذي وغيره: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن"، و (يقرأ): روي بكسر الهمزة على النهي، وبضمها على الخبر المراد به النهي، ذكره في "المجموع"، وسواء أقصد مع ذلك غيرها أم لا، فإن لم يقصدها بأن قصد غيرها، أو لم يقصد شيئاً .. فلا تحريم؛ لعدم الإخلال؛ لأنه لا يكون قرآناً إلا بالقصد كما قاله النووي وغيره، وظاهره: أن ذلك جارٍ فيما يوجد نظمه في غير القرآن؛ كالبسملة، والحمدلة، وما لا يوجد نظمه إلا فيه؛ كـ (سورة الإخلاص)، و (آية الكرسي)، وهو كذلك وإن خالف في الشق الثاني بعضهم.

وخرج بما ذكر: إجراء القرآن على قلبه ولو بنظره في المصحف، وتحريك لسانه وهمسه بحيث لا يسمع نفسه، وقراءة ما نسخت تلاوته، فلا تحرم؛ لأنها ليست بقراءة قرآن، بخلاف إشارة الأخرس، وتقدم أن فاقد الطهورين يقرأ (الفاتحة) فقط في الصلاة. ثانيهما: لبث المسلم في المسجد ولو كان متردداً فيه؛ لقوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الآية، قال ابن عباس وغيره: أي: مواضعها؛ لأنه ليس فيها عبور سبيل، بل في موضعها وهو المسجد، ونظيره قوله تعالى: {لهُدِّمت صوامع وبيعٌ وصلوات}، ولخبر: "إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" رواه أبو داود وغيره، وحسنه ابن القطان. وخرج بـ (اللبث): العبور؛ فإنه جائز؛ للآية، ولأنه لا قربة فيه، وفي اللبث قربة الاعتكاف ومع جوازه لا كراهة فيه، لكن الأولى ألا يعبر إلا لحاجة، قاله في "المجموع"، ثم نقل كراهته بلا حاجة عن المتولي والرافعي، وبها جزم في "الروضة" تبعاً لهما، قيل: وهو الموافق لما نقله في "المجموع" عن النص من كراهة عبور الحائض المسجد. انتهى، والفرق بينهما واضح. وخرج بـ (المسجد) غيره؛ كمصلى العيد والمدرسة والرباط، فلا يحرم لبثه فيها. ومحل تحريم اللبث: عند عدم الضرورة، أما عندها .. فلا يحرم؛ كما لو احتلم فيه ولم يمكنه الخروج لخوف أو غلق باب أو نحوه، ويجب التيمم إن وجد غير تراب المسجد؛ كما ذكره جمع منهم القفال والروياني والنووي في "الروضة" أخذاً من قول "أصلها": (وليتيمم) بلام الأمر، ولا ينافيه قوله في "الشرح الصغير": ويحسن أن يتيمم؛ لأن الواجب حسن، على أنه قيل: إن قوله: (يحسن) مصحّف عن (يجب)، أما تراب المسجد وهو الداخل في وقفه لا المجتمع من ريح ونحوه .. فلا يتيمم به؛ كما لو لم يجد إلا تراباً مملوكاً لغيره، ذكره في "المجموع".

وقد قام المصنف تحريم التيمم بالتراب المذكور في (باب التيمم). وخرج بـ (المسلم): الكافر، فلا يمنع من اللبث بالمسجد وإن كان مكلفاً بفروع الشريعة؛ لأنه لا يعتقد حرمته، بخلاف المسلم؛ كالحربي لا يضمن ما أتلفه؛ لأنه لم يلتزم الضمان، بخلاف المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن والمرتد إذا أتلفوا، لكن ليس للكافر ولو غير جنب دخول المسجد إلا أن يكون له حاجة؛ كإسلام وسماع قرآن، لا كأكل وشرب، وأن يأذن له مسلم في دخوله إلا أن يكون له خصومة وقد قعد الحاكم فيه للحكم، قال في "المجموع": ولا يجوز تعليم القرآن للكافر المعاند، ويُمنع تعلَّمه في الأصح، وغير المعاند إن لم يرج إسلامه .. لم يجز تعليمه، وإلا .. جاز في الأصح [ما يحرم بالحيض والنفاس] الثالثة: أنه يحرم بالمحيض؛ أي: الحيض والنفاس هذه الأمور الستة، مع زيادة تحريم تمتع بوطء أو غيره كلمس بلا حائل بين سرة وركبة للحائض والنفساء؛ لآية: {فاعتزلوا النساء في المحيض}، ولخبر أبي داود بإسناد جيد كما في "المجموع": أنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال: "ما فوق الإزار"، وخصَّ بمفهومه عموم خبر مسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، ولأن المباشرة بما تحت الإزار تدعو إلى الجماع فحرمت؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، أما التمتع بما عدا ما بين السرة والركبة ولو بوطء بلا حائل أو بما بينهما بحائل بغير وطء في الفرج .. فجائز. وتعبير المصنف بـ (التمتع) تبع فيه "الشرحين" و "المحرر" و "الروضة" و "الكفاية"، قال جماعة من المتأخرين: وهو يشمل الرؤية بشهوة، وتبعهم المصنف فصرح بها، وهذا إنما يتمشى على القول بتحريمها، والأصح: خلافه. والمراد بـ (التمتع) في عبارة الكتب المذكورة: المباشرة، وهي التقاء البشر بشهوة، ولهذا عبر بها النووي في "مجموعه" و "تحقيقه".

ويستمر تحريم ما مر بالجنابة والحيض والنفاس إلى اغتسال، أو بديل عنه وهو التيمم عند العجز عن الاغتسال، أما في غير التمتع .. فلأن تحريمه للحدث وهو باق إلى الطهر، وأما فيه .. فلآية: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}. وبالحيض والنفاس يمتنع الصوم؛ للإجماع على منعه وعدم صحته، ويجب قضاؤه، بخلاف الصلاة. ويمتنع بهما أيضاً: الطلاق من الزوج؛ لقوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} أي: في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وبقية الحيض والنفاس لا يحسب من العدة، والمعنى فيه: تضررها بطول مدة التربص. ويستمر المنع من الصوم والطلاق حتى ينقطع الدم؛ لأن المنع من الصوم للحيض والنفاس، ومن الطلاق لتطويل العدة، وقد زال ذلك بالانقطاع، وبقاء الغسل لا يمنع ذلك كالجنابة. وقوله: (الصلاة) مفعول مقدم لفعل الأمر وهو (حرِّم)، و (حمل المصحف) و (مسَّه) و (اقتراء بعض آية) و (لبثَ مسجد) منصوبات به، والإضافة في قوله: (لبثّ مسجد) بمعنى: (في)، واللام في قوله: (للبالغ) و (للجنب) و (للمسلم) بمعنى: (على) أو (من)، وقوله: (واللمسِ) بالجر عطفاً على (رؤيةِ)، أو بالنصب بفعل الأمر وهو (حرم). * * *

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة هي: لغة: الدعاء بخير؛ قال تعالى: {وصل عليهم} أي: ادع لهم، وشرعاً: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، والمفروض منها في كل يوم وليلة خمس، وهو معلوم من الدين بالضرورة. والأصل فيها قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أي: حافظوا عليها دائماً بإكمال واجباتها وسننها، وقوله تعالى: {فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} أي: محتمة مؤقتة، وأخبار في "الصحيحين"؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "فرض الله على أمتي ليلة الإسراء خمسين صلاة، فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمساً في كل يوم وليلة"، وقوله للأعرابي: "خمس صلوات في الليلة" قال الأعرابي: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوَّع". [شروط وجوب الصلاة] (فرضٌ على مكلَّفٍ قد أسلما .... وعن محيضٍ ونفاسٍ سلما) أي: الصلوات الخمس فرضٌ على كل مكلف؛ وهو البالغ العاقل قد أسلم، وسلم عن حيض ونفاس وإن لم تغتسل؛ للإجماع، ومثل المكلف: من زال عقله بسبب محرم كشرب دواء يزيل العقل بلا حاجة أو مسكر وقد علم حالهما، فيخرج بـ (المكلف): الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق"، وبـ (من قد أسلم): الكافر الأصلي، فلا تجب عليه وجوب مطالبة بها في الدنيا؛ لعدم صحتها منه، ولكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة؛ لتمكنه من فعلها بالإسلام بأن يسلم ثم يأتي بها؛ بناء على أن الكافر مخاطب بالفروع وهو

الأصح، وبقوله: (وعن محيض ونفاس سلما): الحيض والنفاس، فلا تجب عليهما ولو في زمن الردة، والسكر؛ لعدم صحتها منهما، وإسقاطها عنهما عزيمة. وشمل قوله: (قد أسلما): المرتد فتجب عليه؛ لأنه التزمها بالإسلام، فلا تسقط عنه بالردة؛ كحق الآدمي، فيلزمه قضاؤها بعد إسلامه؛ تغليظاً عليه، فتعبيره به أحسن من تعبير غيره بـ (مسلم). وقوله: (فرض) خبر مبتدأ محذوف عائد على الصلاة، وألف (أسلما) و (سلما) للإطلاق. (وواجبٌ على وليِّ الشَّرعي ... أن يأمر الطِّفل بها لسبع) (والضَّرب في العشر، وفيها إن بلغ ... أجزت، ولم يعد إذا منها فرغ) فيهما ثلاث مسائل: [أمر الطفل بالصلاة والضرب على تركها] الأولى: أنه يجب على الولي الشرعي أباً كان أو جداً أو وصياً أو قيماً - قال في "المهمات": وفي معناه: الملتقط ومالك الرقيق، وكذا المودع والمستعير ونحوهما، فيما يظهر-: أن يأمر الطفل ذكراً كان أو أنثى بالصلاة لسبع سنين؛ أي: لتمامهما بشرط تمييزه؛ بأن يصير بحيث يأكل وحده، ويشرب وحده، ويستنجي وحده، قال الطبري: ولا يقتصر في الأمر على مجرد صيغة، بل لابد معه من التهديد. انتهى. وأن يضربه على تركها في العشر من السنين ولو عقب استكمال التسع سنين؛ لخبر أبي داود بإسناد حسن: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" ورواه الحاكم وصححه، وكذا الترمذي بدون: "فرقوا بينهم في المضاجع". وذكروا لاختصاص الضرب بالعشر معنيين: أنه زمن احتمال البلوغ بالاحتلام، وأنه حينئذ يحتمل الضرب، وعدل المصنف عن قول غيره: (لعشر) لئلا يتوهم استكمالها، ويجب على الولي أيضاً نهيه عن المحرمات، وتعليمه الواجبات؛ كالطهارة، وأجرة تعليم الفرائض من

ماله، ثم على الأب، ثم على الأم، والأصح: أن للولي أن يصرف من مال الطفل أجرة ما سوى الفرائض كالقرآن والحديث والآداب؛ لأنه يستمر معه وينتفع به. [بلوغ الطفل في الصلاة بالسن] الثانية: لو بلغ الطفل في الصلاة بالسن .. أجزأته ولو عن الجمعة ولو أمكنه إدراكها؛ لأنه صلاها بشرائطها، فلزمه إتمامها وأجزأته، وقد يجب إتمام العبادة وإن كان أولها تطوعاً؛ كحج تطوع، وصوم مريض شفي في أثنائه، وحذف المصنف همزة (أجزأت) تخفيفاً. [بلوغ الطفل بعد فراغه من الصلاة] الثالثة: لو بلغ بعد فراعه من الصلاة بالسن أو الاحتلام أو الحيض .. أجزأته ولو عن الجمعة، ولا تجب إعادتها؛ لأنه أداها صحيحة مع مراعاة معتبراتها؛ كأمة صلت مكشوفة الرأس، ثم عتقت في الوقت، بخلاف نظيره من الحج؛ لأنه لا يتكرر، فاعتبر وقوعه حال الكمال، ويستحب له الإعادة في الصورتين؛ ليؤديهما حال الكمال. [أعذار تأخير الصلاة] (لا عذر في تأخيرها إلاَّ لساة ... أو نومٍ أو للجمع أو للإكراه) فيه مسألة: وهي أنه لا عذر لأحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن وقتها؛ لئلا تفوت فائدة التأقيت إلا لساه؛ أي: ناسٍ؛ لخبر ابن حبان والحاكم في "صحيحهما" عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. أو نوم استغرق الوقت به أو غلبه، أو ظن تيقظه قبل خروج وقتها بزمن يسعها؛ لخبر مسلم عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى"، أما نومه بعد دخول وقتها وقد ظن عدم تيقظه فيه، أو قبل خروجه بزمن لا يسعها، أو شك فيه .. فحرام.

أو للجمع بالسفر؛ بأن أخر الظهر بنية جمعها مع العصر، أو المغرب بنية جمعها مع العشاء؛ لما سيأتي في بابها، وأما تأخيرها بالجمع بالمطر أو بالنسك .. فحرام على الأصح. أو للإكراه على تأخيرها؛ للخبر السابق، وتصويره مشكل؛ لأن من أكره على ترك الأفعال الظاهرة .. يمكنه إجراؤها على قلبه، وحمله في "المجموع" على الإكراه على التلبس بما ينافي الصلاة ويفسدها، وحمله بعضهم على الإكراه على أن يأتي بها على غير الوجه المجزئ من الطهارة ونحوها، وقد يمنع المحدث عن الوضوء والتيمم. وقال التاج السبكي: المكره قد يدهش حتى عن الإيماء بالطرف ويكون مؤخراً معذوراً؛ كالمكره على الطلاق لا تلزمه التورية إذا اندهش قطعاً، وكذا إن لم يندهش على الأصح، وأما قولهم: (لا يترك الصلاة ما دام عقله ثابتاً) .. فإن الدهشة مانعة لثبوت عقله في تلك الحالة. ويعذر في تأخيرها عن وقتها أيضاً للجهل بوجوبها عليه من غير تفريط في التعليم؛ كمن أسلم في دار الحرب وتعذرت هجرته، أو نشأ منفرداً ببادية ونحوها، ولخوف فوات الوقوف بعرفة على الأصح، بل يجب عليه، وللاشتغال بإنقاذ غريق، ودفع صائل عن نفس أو مال، أو بالصلاة على ميت خيف انفجاره كما أفتى به القاضي صدر الدين موهوب الجزري. وقول الناظم: (أو للجمع) بدرج الهمزة؛ للوزن. [مواقيت الصلاة] (ووقت ظهرٍ: من زوالها إلى .... أن زاد عن مثلٍ لشيء ظللَّا) (ثمَّ به يدخل وقت العصر .... واختير مثلي ظلِّ ذاك القدر) (جاز إلى غروبها أن تفعلا .... ووقت مغربٍ بهذا دخلا) (والوقت يبقى في القديم الأظهر .... إلى العشاء بمغيب الأحمر) (وغاية العشاء فجرٌ يصدق .... معترضٌ يضيء منه الأفق) (واختير للثُّلث، وجوِّزه إلى .... صادق فجرٍ، وبه قد دخلا) (ألصُّبح، واختير إلى الإسفار .... جوازه يبقى إلى الإدبار)

ذكر في هذه الأبيات أوقات الصلوات الخمس؛ لأنها تجب بدخولها وتفوت بخروجها؛ والأصل فيها: قوله تعالى: {فسبحن الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون}، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أرد بـ {حين تمسون}: صلاة المغرب والعشاء، وبـ {حين تصبحون}: صلاة الصبح، وبـ {عشيا}: صلاة العصر، {وحين تظهرون}: صلاة الظهر)، وخبر: "أمني جبريل عند البيت مرتين؛ فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكان الفيء قدر الشراك، والعصر حين كان ظل الشيء مثله، والمغرب حين أفطر الصائم - أي: دخل وقت إفطاره - والعشاء حين غاب الشفق، والفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد .. صلى بي الظهر حين كان ظله - أي: الشيء - مثله، والعصر حين كان ظله مثليه، والمغرب حين أفطر الصائم، والعشاء إلى ثلث الليل، والفجر فأسفر، وقال: هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين" رواه أبو داوود وغيره، وصححه الحاكم وغيره. وقوله: "صلى بي الظهر حين كان ظله مثله" أي: فرغ منها حينئذ؛ كما شرع في العصر في اليوم الأول حينئذ، قاله إمامنا الشافعي نافياً به اشتراكهما في وقت؛ ويدل له خبر مسلم: "وقت الظهر: إذا زالت الشمس ما لم يحضر العصر". والزوال: ميل الشمس عن وسط السماء المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء إلى جهة المغرب لا في الواقع، بل في الظاهر لنا؛ لأن التكليف إنما يتعلق به، وذلك بزيادة ظل الشيء على ظله حالة الاستواء، وحدوثه إن لم يبق عنده ظل كما في بعض البلاد التي على خط الاستواء، وقد يتصور في غيرها كمكة وذلك في ستة وعشرين يوماً قبل انتهاء طول النهار، ومثلها بعده، أو في يوم واحد وهو أطول أيام السنة نقلهما في "المجموع"، وبالثاني جزم في "الروضة" كـ "أصلها"، واليوم الذي ينتهي فيه الطول هو سابع عشر حزيران. وبدأ المصنف كغيره بالظهر؛ تأسياً بإمامة جبريل، فوقت الظهر: من زوالها؛ أي: الشمس، فأعاد الضمير عليها وإن لم يتقدم لها ذكر؛ للعلم بها كما في قوله تعالى: {حتى توارت

بالحجاب}، إلى أن زاد ظل الشيء على ظله حالة الاستواء مثله؛ لخبر جبريل السابق. وللظهر خمسة أوقات: وقت فضيلة: أوله وسيأتي بيانه، ووقت اختيار: إلى آخر الوقت، ووقت عذر: وهو وقت العصر لمن يجمع، ووقت ضرورة: وهو إذا زال المانع وقد من بقي الوقت قدر تكبيرة، ووقت حرمة: وهو آخر وقتها بحيث لا يسعها، ويجريان في سائر الصلوات. وقول المصنف: (إلى أن زاد عن مثل لشيءٍ ظللا) جرى على الغالب من وجود ظل عند الاستواء. وقوله: (ظللا) أي: صار ذا ظل عند الاستواء، فاعتبر ذلك بقامتك، أو شاخص تقيمه في أرض مستوية من عصا أو نحوها، قال العلماء: وقامة الإنسان ستة أقدام ونصف بقدمه. ثم يصير ظل الشيء مثله بعد ظل الاستواء، إن كان يدخل وقت العصر وهي الوسطى، ووقت اختيارها: إلى مصير ظل الشيء مثليه بعد ظل الاستواء، وجوازها: إلى غروب الشمس؛ لخبر جبريل مع خبر "الصحيحين": "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس .. فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس .. فقد أدرك العصر"، وخبر ابن أبي شيبة: "وقت العصر: ما لم تغرب الشمس"، وإسناده في "مسلم"، وخبر مسلم: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى"، ظاهره: يقتضي امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الأخرى من الخمس؛ أي: في غير وقت الصبح؛ لما سيأتي في وقتها، وقوله في خبر جبريل بالنسبة إليها وإلى العشاء والصبح: "والوقت ما بين هذين" محمول على وقت الاختيار؛ جمعاً بين الأدلة. قال في "المجموع": وللعصر خمسة أوقات: وقت فضيلة: من أول الوقت إلى أن يصير

ظل الشيء مثله ونصف مثله، ووقت اختيار: إلى أن يصير مثليه، ووقت جواز بلا كراهة: إلى اصفرار الشمس، ووقت جواز بكراهة: إلى غروب الشمس، ووقت عذر: وقت الظهر لمن يجمع. ويدخل وقت المغرب بغروب الشمس؛ أي: متكاملة وإن بقي الشعاع، ويعرف في العمران بزوال الشعاع وإقبال الظلام، والوقت؛ أي: وقت المغرب يبقى في القديم الأظهر: إلى وقت العشاء بمغيب الشفق الأحمر، قال في "المجموع": بل هو الجديد أيضاً؛ لأن الشافعي علق القول به في "الإملاء" وهو من الكتب الجديدة على ثبوت الحديث فيه؛ فقد ثبت فيه أحاديث في "مسلم" منها حديث: "وقت المغرب: ما لم يغب الشفق"، ومنها حديث: "ليس في النوم تفريط" وأما حديث صلاة جبريل إياها في اليومين في وقت واحد .. فمحمولة على وقت الاختيار، وأيضاً أحاديث "مسلم" مقدمة عليه؛ لأنها متأخرة بالمدينة وهو متقدم بمكة، ولأنها أكثر رواة وأصح إسناداً، ولهذا خرجها مسلم في "صحيحه" دونه فقال: وعلى هذا: للمغرب ثلاثة أوقات: وقت فضيلة واختيار: أول الوقت، ووقت جواز: ما لم يغب الشفق، ووقت عذر: وقت العشاء لمن يجمع. ومقابل الأظهر: أن وقتها يمتد بقدر تطهرٍ وسترٍ وسد جوعٍ، وخمس ركعات وأذان وإقامة، والاعتبار فيها بالوسط المعتدل. ويدخل وقت العشاء بمغيب الشفق الأحمر، وغايته: الفجر الصادق، والاختيار: إلى ثلث الليل، والجواز: إلى الفجر الصادق وهو معترض؛ أي: منتشر يضيء منه الأفق؛ أي: نواحي السماء؛ لخبر جبريل، مع خبر: "ليس في النوم تفريط". وخرج بـ (الأحمر): ما بعده من الأصفر والأبيض، وبـ (الصادق): الكاذب؛ وهو ما يطلع مستطيلاً بأعلاه ضوء كذنب السرحان وهو الذئب، ثم يذهب ويعقبه ظلمة، ثم يطلع الفجر الصادق. وفي بلاد المشرق نواحي تقصر لياليهم فلا يغيب الشفق عندهم، فأول وقت العشاء في حقهم: أن يمضي بعد غروب الشمس قدر ما يغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم. قال في "المجموع": وللعشاء أربعة أوقات: وقت فضيلة: أول الوقت، ووقت اختيار:

إلى ثلث الليل على الأصح، ووقت جواز: إلى طلوع الفجر الصادق، ووقت عذر: وقت المغرب لمن يجمع. ويدخل وقت الصبح بالفجر الصادق، والاختيار: إلى الإسفار بكسر الهمزة؛ أي: الإضاءة، والجواز: إلى الإدبار بكسرها؛ أي: إدبار الليل بأول طلوع الشمس؛ لما مر من خبر مسلم: "وقت صلاة الصبح: من طلوع الفجر الصادق ما لم تطلع الشمس"، وله أربعة أوقات: وقت فضيلة: أول الوقت، ووقت اختيار: إلى الإسفار، ووقت جواز بلا كراهة: إلى الحمرة التي قبل طلوع الشمس، ووقت جواز بكراهة: إلى الطلوع، وهي نهارية. وألف (ظللا) و (تفعلا)، و (دخلا) في الموضعين للإطلاق. [استحباب تعجيل الصلاة أول الوقت] (وسن تعجيل الصلاة في الأول ... إذ أول الوقت بالأسباب اشتغل) أي: يسن تعجيل الصلاة ولو عشاء في أول وقتها؛ بأن اشتغل فيه بأسبابها كالطهارة والستر والأذان؛ لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات}، ومن المحافظة عليها تعجيلها، وقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات}، ولخبر ابن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول وقتها" رواه الدارقطني وغيره وصححوه، ولخبر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثه) رواه أبو داود بإسناد صحيح. ولو لم يحتج إلى أسبابها وأخر بقدرها .. حصلت الفضيلة، ولا يكلف عجلة زائدة على العادة، ولا يضر التأخير لأكل لقم وكلام قصير، وتحقق الوقت وتحصيل الماء، وإخراج خبث يدافعه ونحو ذلك؛ لأنه حينئذ لا يعد متوانياً ولا مقصراً.

وقد علم: أن الصلاة تجب بأول وقتها وجوباً موسعاً فلا يأثم بتأخيرها إن عزم على فعلها فيه ولو مات قبل فواتها. وقول المصنف: (الأول) بضم الهمزة وفتح الواو جمع أوَّل باعتبار الأوقات الخمسة، و (أوَّل) منصوب بـ (اشتغل)، و (بالأسباب) بنقل حركة همزها إلى الساكن قبلها متعلق به أيضاً، و (إذ) في كلامه: ظرفية أو تعليلية. [استحباب الإبراد بفعل الظهر وشروطه] وما تقدم من أنه يسن تعجيل الصلاة لأول وقتها .. محله ما لم يعارضه ما هو أرجح منه، فإن عارضه .. يسن تأخيرها، وذلك في مسائل كثيرة ذكر المصنف هنا منها: مسألة الإبراد بالظهر فقال: (وسنَّ الآبراد بفعل الظُّهر ... لشدَّة الحرِّ بقطر الحرِّ) (لطالب الجمع بمسجدٍ أتي ... إليه من بعدٍ خلاف الجمعة) أي: وسن لمريد الصلاة الإبراد بفعل الظهر؛ أي: تأخيره؛ لشدة الحر إلى أن يصير للحيطان ظل يمشي فيه قاصد الجماعة، ولا يجاوز به نصف الوقت، بقطر الحر، لطالب الجمع؛ أي: الجماعة إماماً كان أو مأموماً، بمسجد؛ أي: ونحوه من أمكنة الجماعة، أتي للصلاة إليه من بعد؛ لكثرة الناس فيه، أو فقه إمامه أو نحوه؛ أي: ولا يجد كنا يمشي فيه؛ والأصل فيه: خبر "الصحيحين": "إذا اشتد الحر .. فأبردوا بالصلاة"، وفي رواية للبخاري: "بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم" أي: هيجانها، ولأن في تعجيل الصلاة في شدة الحر مشقة تسلب الخشوع أو كماله. وما ورد مما يخالف ذلك .. منسوخ، فلا يسن الإبراد في غير شدة الحر ولو بقطر حار، ولا في قطر بارد أو معتدل وإن اتفق فيه شدة الحر، ولا لمن يصلي منفرداً أو جماعة ببيت، أو بمسجد حضره جماعة لا يأتيهم غيرهم، أو يأتيهم غيرهم من قرب، أو من بعد لكن يجد كناً يمشي فيه؛ إذ ليس ذلك كثير مشقة، وسن الإبراد أيضاً لمنفرد يريد فعل الظهر في

المسجد؛ كما أشعر به كلام الرافعي ونبه عليه الإسنوي. ويؤخذ مما تقرر: أن المراد بالبعد: ما يذهب معه الخشوع أو كماله. وقوله: (خلاف الجمعة) أي: بإسكان الميم، فلا يسن الإبراد بها؛ لخبر "الصحيحين" عن سلمة: (كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس)، ولشدة الخطر في فواتها المؤدي إليه تأخيرها بالتكاسل؛ لكون الجماعة شرطاً في صحتها وقد لا يدركها بعضهم، ولأن الناس مأمورون بالتبكير إليها فلا يتأذون بالحر، وما في "الصحيحين": من (أنه صلى الله عليه وسلم كان يبرد بها) .. بيان للجواز فيها؛ جمعاً بين الأخبار. وخرج بقوله: (بفعل الظهر) أذانها فلا يسن الإبراد به، وقوله: (الإبراد) بنقل حركته لساكن قبلها، واللام في قوله: (لشدة الحر) تعليلية، أو بمعنى: (في) أو (عند). (صلاة ما لا سببٌ لها امنعا ... بعد صلاة الصبح حتى تطلعا) (وبعد فعل العصر حتى غربت ... وعندما تطلع حتى ارتفعت) (والاستوا - لا جمعةٍ - إلى الزَّوال ... والاصفرار لغروبٍ ذي كمال) (أمَّا الَّتي لسببٍ مقدَّم ... - كالنذر والفائت- لم تحرم) (وركعتا الطواف والتحية ... والشكر والكسوف والجنازة) (وحرم الكعبة، لا الإحرام ... ونكره الصلاة في الحمام) (مع مسلخٍ، وعطنٍ، ومقبره ... ما نبشت، وطرقٍ، ومجزره) (مع صحةٍ كحاقنٍ وحازق ... وعند مأكولٍ: صلاة التائق) في هذه الأبيات مسألتان: [الأوقات التي تكره فيها الصلاة] الأولى: أن الصلاة التي لا سبب لها متقدم ولا مقارن تمتنع؛ أي: تحرم، ولا تنعقد بعد فعلين، وفي ثلاثة أوقات كما سيأتي: بعد فعل فرض صلاة الصبح أداء حتى تطلع الشمس،

وبعد فعل فرض العصر أداء ولو في وقت الظهر لجمع التقديم حتى تغرب الشمس؛ للنهي عن الصلاة فيهما في خبر "الصحيحين"، وخرج بفرض الصبح والعصر: سنتهما فلا تحرم الصلاة بعد فعلهما، وعندما تطلع الشمس حتى ترتفع قدر رمح تقريبا في رأي العين، وإلا .. فالمسافة طويلة جدا، وعند الاستواء؛ بأن تصير في وسط السماء إلى الزوال عنه، وهو وقت لطيف جدا لا يتسع لصلاة، إلا أن التحريم بها قد يقع فيه فلا ينعقد، وعند الاصفرار حتى يتم غروب الشمس؛ للنهي عنها في خبر مسلم، وليس فيه ذكر الرمح. ويستثنى من تحريم الصلاة عند الاستواء: يوم الجمعة، فلا تحرم الصلاة فيه على أحد وإن لم يحضر الجمعة؛ لاستثنائه في خبر أبي داوود وغيره، وفيه: "أن جهنم لا تسجر يوم الجمعة" أي: لا توقد، ولا يضر كونه مرسلا؛ لاعتضاده بأنه صلى الله عليه وسلم استحب التبكير إليها، ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام من غير استثناء. أما الصلاة التي لها سبب متقدم أو مقارن .. فلا تحرم فيها؛ كالنذر والفائت ولو نقلا اتخذه وردا، وركعتي الطواف والوضوء والتحية؛ أي: بأن دخل المسجد بنية غيرها كاعتكاف، أو بنيتهما، أو بلانية، أما الداخل بنيتها فقط .. فتحرم منه؛ كما لو أخر الفائتة ليقضيها في تلك الأوقات، وسجدة التلاوة والشكر، وصلاة كسوف الشمس أو القمر، وصلاة الجنازة؛ أما التحية .. فلخبر "الصحيحين": "إذا دخل أحدكم المسجد .. فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، وأما الفائتة .. فلخبر: "فليصلها إذا ذكرها"، وخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد صلاة العصر ركعتين وقال: "هما اللتان بعد الظهر"، وأما الجنازة .. فقد نقل ابن المنذر الإجماع على أنها تفعل بعد الصبح والعصر، وأما غير الفائتة مما ذكر .. فبالقياس عليها؛ ولأن الأدلة الطالبة لهذه الصلوات عامة في الأوقات خاصة بتلك الصلوات، وأحاديث النهي بالعكس، ورجحت الأولى؛ بأنها لم يدخلها تخصيص، وأحاديث النهي دخلها التخصيص بالفائتة للحديث، وصلاة الجنازة؛ للإجماع كما مر. ويستثنى من تحريم الصلاة في الأوقات المكروهة: حرم الكعبة؛ أي: الحرم المكي، فلا

تحرم الصلاة فيه بحال؛ لخبر: "يا بني عبد مناف؛ لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ولما فيه من زيادة فضل الصلاة. نعم؛ هي خلاف الأولى كما في "مقنع المحاملي" خروجا من خلاف مالك وأبي حنيفة. وخرج بـ (حرم مكة): الحرم المدني؛ فلا تستثنى الصلاة فيه. أما الصلاة التي سببها متأخر كالإحرام؛ أي: كركعتي الإحرام والاستخارة .. فتحرم فيها؛ لأن سببهما وهو الإحرام والاستخارة متأخر عنهما. والمراد بالمتقدم وقسيميه بالنسبة إلى الصلاة كما في "المجموع"، وإلى الأوقات المكروهة كما في "الروضة" و"أصلها"، والأول منهما أظهر كما قاله الإسنوي وغيره، وعليه جرى ابن الرفعة، فعليه: صلاة الجنازة سببها متقدم، وعلى الثاني: قد يكون متقدما وقد يكون مقارنا بحسب وقوعه في الوقت أو قبله. [أمكنة وأحوال تكره الصلاة فيها] الثانية: تكره الصلاة كراهة تنزيه في أمكنة، منها: الحمام مع مسلخه، وعطن الإبل؛ أي: الموضع الذي تنحى إليه الإبل الشاربة ليشرب غيرها كما قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه وغيره، أو لتشرب هي عللا بعد نهل كما قاله الجوهري وغيره، ومقبرة -بتثليث حركة الباء- ما نبشت، وطرق؛ أي: في البنيان دون البرية، ومجزرة بفتح الزاي؛ أي: موضع جزر الحيوان؛ أي: ذبحه؛ للنهي عن الصلاة في المذكورات، رواه الترمذي. وألحق بالحمام مواضع الخمر والحانة والمكس، والكنائس، والبيع، والحشوش ونحوها، والمعنى في الكراهة فيها: أنها مأوى الشياطين، وفي عطن الإبل: نفارها السالب للخشوع، وألحق به مأواها ليلا؛ للمعنى المذكور فيه، بخلاف عطن الغنم، ومراحها؛ أي: مأوها ليلا، والبقر كالغنم كما قاله ابن المنذر وغيره، وفي المقبرة والمجزرة؛ أي: ونحوهما كالمزبلة: نجاستها فيما يحاذي المصلي، ومن هنا يعلم: أنها لا تكره في مقبرة الأنبياء عليهم

الصلاة والسلام، وفي الطرق: اشتغال القلب بمرور الناس فيها وقطع الخشوع. ومحل كراهة الصلاة فيما مر: إذا اتسع وقتها، وإلا .. فلا تكره. وخرج بما ذكر: الصلاة على سطح الحمام والحش ونحوهما؛ فلا تكره، وبقوله: (ما نبشت): ما إذا نبشت، فلا تصح الصلاة فيها ما لم يحل طاهر، والمشكوك في نبشها كالتي ما نبشت. وتصح الصلاة في الأمكنة المكورهة؛ لخبر "الصحيحين": "وجعلت لي الأرض مسجدا، وتربتها طهورا"، بخلافها في الأوقات المكروهة، والفرق: أن تعلقها بالوقت أشد من تعلقها بالمكان؛ لتوقفها على أوقات مخصوصة دون أمكنة مخصوصة، فكان الخلل في الوقت أعظم، ومع هذا صحت في المكان وإن كان النهي للتحريم كالمغصوب. وقوله: (كحاقن) أي: بالنون؛ أي: مدافع للبول؛ فإن صلاته تكره كراهة تنزيه مع صحتها، وفي معناه: الحاقب بالموحدة، وهو المدافع للغائط، وحازق بالزاي، وهو المدافع للريح، وقيل: هو الحازق خفه على رجله لضيقه، وكراهة الصلاة مع ما ذكر؛ لإذهابه الخشوع، فيستحب أن يفرغ نفسه من هذه الأشياء ثم يصلي وإن فاتته الجماعة، وأما تحريم هذه الأشياء عند غلبة الظن بحصول الضرر بها .. فلأمر خارج عن الصلاة، وهذا: كما تكره صلاة التائق بالمثناة؛ أي: المشتاق إلى المأكول؛ أي: أو المشروب وقد حضره أو قرب حضوره؛ لخبر مسلم: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان"، ولخبر "الصحيحين": "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة .. فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه". ومحل الكراهة: عند اتساع الوقت، فإن ضاق .. وجب عليه أن يصلي مدافعا وجائعا وعطشانا؛ لحرمة الوقت ولا كراهة. وقول المصنف: (صلاة ما لا سبب لها) مفعول مقدم لـ (امنعا)، وألفه بدل من التوكيد، وألف (تطلعا) للإطلاق، وأعاد الضمائر في (تطلعا) و (غربت) و (تطلع) و (ارتفعت) على الشمس وإن لم يتقدم لها ذكر؛ للعلم بها، وقصر (الاستوا) للوزن.

[الصلوات المسنونة] ثم شرع في بيان الصلاة المسنونة فقال. (مسنونها: العيدان والكسوف ... كذاك الاستسقاء والخسوف) المسنون والنقل والتطوع والمندوب والمستحب والمرغب فيه ما عدا الفرض، وأفضل العبادات البدنية بعد الإسلام: الصلاة، وتطوعها أفضل التطوع، وهو قسمان: قسم تسن الجماعة فيه وهو أفضل من القسم الآخر؛ لأن مشروعية الجماعة فيه تدل على تأكيد أمره، ومشابهته للفرائض، لكن الأصح: تفضيل الراتبة على التراويح. وأفضل القسم الأول: العيدان؛ أي: صلاة عيد الفطر وصلاة عيد الأضحى؛ لشبههما بالفرض في الجماعة وتعين الوقت، وللخلاف في أنهما فرضا كفاية، وأما خبر مسلم: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" .. فمحمول على النقل المطلق، وجرى ابن المقري في "شرح إرشاده" على تساوي العيدين في الفضيلة، وعن ابن عبد السلام أن عيد الفطر أفضل، وكأنه أخذه من تفضيلهم تكبيره على تكبير الأضحى؛ لأنه منصوص عليه، ولكن الأرجح في النظر كما قال الزركشي: تفضيل عيد الأضحى؛ لأنه منصوص عليه، ولكن الأرجح في النظر كما قاله الزركشي: تفضيل عيد الأضحى؛ لأنه شهر حرام، وفيه نسكان: الحج، والأضحية، قيل: إن عشره أفضل من العشر الأخير من رمضان. انتهى، وبه جزام ابن رجب الحنبلي؛ ويدل له خبر أبي داوود عن عبد الله بن قرط: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر". ثم صلاة كسوف الشمس، ثم صلاة خسوف القمر؛ لخوف فوتهما بالانجلاء كالمؤقت بالزمان، ولدلالة القرآن عليهما قال تعالى: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله} الآية، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يترك الصلاة لهما، بخلاف الاستسقاء؛ فإنه تركه أحيانا، وأما تقدم الكسوف على الخسوف .. فلتقدم الشمس على القمر في القرآن والأخبار؛ ولأن الانتفاع بها أكثر من الانتفاع به، وقد قيل: إن نوره مستمد من نورها، وقد اشتهر اختصاص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر فأطلقهما المصنف؛ بناء على ما اشتهر من الاختصاص،

وعلى قول الجوهري: إنه الأجود، وإن كان الأصح عند الجمهور: أنهما بمعنى. ثم صلاة الاستسقاء؛ لطلب الجماعة فيها كالفريضة. ثم شرع في بيان القسم الذي لا تسن الجماعة فيه فقال: [صلاة الوتر] (والوتر ركعة لإحدى عشر ... بين صلاة للعشا والفجر) أي: ثم الأفضل بعد ما مر صلاة الوتر؛ لخبر: "أوتروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر" رواه أبو داوود، وصحح الترمذي، ولخبر: "الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس .. فليفعل، أو بثلاث .. فليفعل، أو بواحدة .. فليفعل" رواه أبو داوود بإسناد صحيح، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. والصارف عن وجوبه: قوله تعالى: {والصلوة الوسطى} إذ لو وجب .. لم يكن للصلوات وسطى، وخبر: "إن الله افترض عليكم خمس صلوات في اليوم والليلة"، وخبر: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع". وقول المصنف: (ركعة) بدل من (الوتر)، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو ركعة إلى إحدى عشرة ركعة؛ للأخبار الصحيحة فيه؛ بأن يوتر بواحدة، أو بثلاث، أو بخمس، أو بسبع، أو تسع، أو إحدى عشرة ركعة وهي أكثر الأخبار الصحيحة، كخبر "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة). ووقته: بين فعل صلاة العشاء- وإن جمعها تقديما، أو لم يصل بعدها نافلة - وطلوع الفجر؛ للإجماع، ولخبر: "إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم؛ وهي

الوتر، فجعلها لكم من العشاء إلى طلوع الفجر" رواه أبو داوود والترمذي، وصححه الحاكم وابن السكن. و(الوتر) بكسر الواو وفتحها، وقوله: (للعشا) بالقصر؛ للوزن. لمن صلى الوتر أكثر من ركعة الفصل؛ بأن يسلم من كل ركعتين وهو أفضل؛ لأنه أكثر أخبارا وعملا، وظاهر: أن العدد الكثير الموصول أفضل من العدد القليل المفصول؛ لزيادة العبادة، والوصل بتشهد أو بتشهدين في الأخيرتين؛ للاتباع، رواه مسلم، فيمتنع تشهده في غير الأخيرتين وزيادته على تشهدين؛ لأنه خلاف المنقول، وأصح الأوجه: أن التشهد أفضل من التشهدين. وتأخير الوتر أفضل لمن كان له تهجد أو وثق باستيقاظه؛ لخبر "الصحيحين": "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل الوتر"، ولخبري مسلم: "بادروا الصبح بالوتر"، و"من خاف ألا يقوم آخر الليل .. فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره .. فليوتر آخر الليل؛ فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل"، فإن لم يكن له تهجد ولم يثق باستيقاظه .. فتقديم الوتر أفضل؛ لما مر، وخبر أبي هريرة: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)، فإنه محمول على من لا يثق بالقيام آخر الليل؛ جمعا بين الأخبار، ولو أوتر ثم تهجد .. لم يعده؛ لخبر: "لا وتران في ليلة" رواه أبو داوود والترمذي وحسنه. [رواتب الفرائض] (ثنتان قبل الصبح، والظهر كذا ... وبعده، ومغرب، ثم العشا) (وسن ركعتان قبل الظهر ... تزاد كالأربع قبل العصر)

أي: أن رواتب الفرائض المؤكدة عشر ركعات: ركعتان قبل فرض الصبح وهما أفضلهما؛ لخبر "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر)، وخبر مسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، وركعتان قبل فرض الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد فرض المغرب، وركعتان بعد فرض العشاء؛ للاتباع رواه الشيخان. وسن أن تزاد ركعتان قبل الظهر؛ أي: وركعتان بعده؛ لخبر: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها .. حرمه الله على النار" رواه الترمذي وغيره وصححوه. والجمعة كالظهر، وأربع قبل العصر؛ لخبر: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه، وسن أيضا ركعتان خفيفتان قبل المغرب كما سيأتي في كلامه، وركعتان قبل العشاء. و(ثم) في قوله: (ثم العشا) للترتيب الذكري لا المعنوي؛ إذ الثمان ركعات في مرتبة واحدة. (ثم التراويح فندبا تفعل ... ثم الضحى، وهي ثمان أفضل) (ثنتان أدناها، ووقتها هوا ... من ارتفاع الشمس حتى الاستوا) فيهما مسألتان: [صلاة التراويح] الأولى: ثم الأفضل بعد الرواتب والتراويح؛ لسنية الجماعة فيها، وقوله: (فندبا تفعل) تأكيد، وهي عشرون ركعة بعشر تسليمات، وذلك خمس ترويحات، كل ترويحة أربع ركعات بتسليمتين؛ والأصل فيها: خبر "الصحيحين" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ليالي فصلوها معه، ثم تأخر فصلى في بيته باقي الشهر، وقال: "خشيت أن

تفرض عليكم فتعجزوا عنها"، ولأن عمر جمع الناس على قيام شهر رمضان الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان ابن أبي حثمة، رواه البيهقي، وأما خبر: (ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على أحد عشرة ركعة) .. فمحمول على الوتر. قال الحليمي: والسر في كونها عشرين ركعة: أن الرواتب المؤكدة في غير رمضان عشر ركعات فضوعفت فيه؛ لأنه وقت جد وتشمير. ولو صلاها أربعا أربعا بتسليمه .. لم تصح؛ لشبهها بالفرائض في طلب الجماعة؛ فلا تغير عما ورد، بخلاف الرواتب والضحى. ولأهل المدينة فعلها ستا وثلاثين ركعة؛ لأن العشرين خمس ترويحات، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين سبعة أشواط، فجعل أهل المدينة بدل كل أسبوع ترويحة، ولا يجوز ذلك لغيرهم؛ لأن لأهلها شرفا بهجرته صلى الله عليه وسلم ومدفنه. ووقتها: بين فعل فرض العشاء وطلوع الفجر. [صلاة الضحى] الثانية: ثم الأفضل بعد التروايح الضحى؛ لأنها مؤقتة بزمان، وأفضلها: ثمان ركعات؛ أي: وأكثرها: اثنتا عشرة ركعة، كذا في "الروضة" كـ"أصلها"، والأكثرون - كذا في "المجموع" -أن أكثرها: ثمان، وصححه في "التحقيق" لخبر "الصحيحين" عن أم هانئ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ثمان ركعات) وعنها أيضا: (أنه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلى سبحة الضحى ثمان ركعات، يسلم من كل ركعتين) رواه أبو داوود بإسناد صحيح، وما قيل من أن هذا لا يدل على أن ذلك أكثرها .. رد بأن الأصل في العبادات التوقيف ولم تصح الزيادة على ذلك.

وأقلها: ركعتان؛ لخبر أبي هريرة السابق، ولخبر مسلم: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يصليهما من الضحى". وأدنى الكمال: أربع، وأكمل منه: ست، ويسن أن يسلم من كل ركعتين. ووقتها: من ارتفاع الشمس إلى استوائها كما جزم به الرافعي، وفي "المجموع" و"التحقيق": إلى الزوال، ووقتها المختار: ربع النهار. وألف (هوا) للإطلاق. (والنفل في الليل من المؤكد ... وندبوا تحية للمسجد) (ثنتان في تسليمة لا أكثرا ... تحصل بالفرض ونفل آخرا) (لا فرد ركعة ولا جنازة ... وسجدة للشكر أو تلاوة) (كرر بتكرير دخول يقرب ... وركعتان إثر شمس تغرب) فيها ثلاث مسائل: [النفل المطلق] الأولى: النفل المطلق- وهو غير المؤقت وذي السبب- في الليل من المسنون المؤكد، فهو أفضل من النفل المطلق في النهار؛ لخبر مسلم: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "الصلاة خير موضوع استكثر منها أو أقل" رواه ابن حبان والحاكم في "صحيحيهما". والأفضل أن يسلم من كل ركعتين؛ لخبر: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" صححه البخاري والخطابي والبيهقي وغيرهم، وإذا زاد على ركعة .. فله أن يتشهد في كل ركعتين أو

ثلاث أو أكثر؛ لأن ذلك معهود في الفرائض في الجملة، وليس له أن يتشهد في كلا ركعة وإن جاز له أن يتنقل بركعة مفردة؛ لأنه اختراع صورة في الصلاة لم تعهد. [تحية المسجد] الثانية: ندبوا؛ أي: الأئمة تحية للمسجد لداخله، ثنتان في تسليمة؛ أي: هي ثنتان، فهو خبر مبتدأ محذوف لا أكثر؛ أي: لا يزيد على تسليمة واحدة، فله أن يصليها مئة ركعة فأكثر بتسليمة وتكون كلها تحية؛ لاشتمالها على ركعتين، فإن سلم من ركعتين وزاد عليهما بنيتها في وقت الكراهة .. لم يصح، أو في غيره .. فكذلك إن علم امتناعه، وإلا .. انعقدت نافلة مطلقة؛ والأصل في ذلك: خبر "الصحيحين": "إذا دخل أحدكم المسجد .. فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، فيكره له أن يجلس من غير تحية بلا عذر. وظاهر كلامه كغيره: أنه لا فرق في سنها بين مريد الجلوس وغيره، لكن قيده الشيخ نصر بمريده؛ ويؤيده الخبر المذكور، والظاهر كما قاله الزركشي: أن التقييد بذلك خرج مخرج الغالب، وأن الأمر بذلك معلق على مطلق الدخول؛ تعظيما للبقعة وإقامة للشعار، كما يسن لداخل مكة الإحرام، سواء أراد الإقامة بها أم لا. وتحصل التحية بالفرض ولو قضاء أو نذرا، وبنفل آخر غيرها، سواء أنواها مع ذلك أم أطلق؛ لأن القصد بها ألا تنتهك حرمة المسجد بلا صلاة، وكلامهم كالصريح أو صريح في حصول فضلها وإن لم تنو، لما مر، وإن بحث بعض المتأخرين كالأذرعي عدم حصوله حينئذ. ولا تحصل بركعة وصلاة جنازة وسجدة شكر أو تلاوة؛ للخبر السابق، وتحصل بصلاة ركعتين أولهما من قيام وثانيهما من جلوس. ويتكرر سن التحية بتكرر دخول يقرب كما يتكرر عند بعده؛ إذ المسبب يتجدد بتجدد سببه؛ كتكرر سجدة التلاوة بتكرر آيتها ولو قربت، ويفوت بجلوسه قبل فعلها وإن قصر الفصل إلا بجلوس قصير سهوا أو جهلا. وتكره تحية المسجد في صور، منها: إذا دخل والإمام في المكتوبة، أو في الإقامة أو قربت بحيث تفوته تكبيرة الإحرام لو اشتغل بها، أو دخل المسجد الحرام، بل يطوف، والأصح: عدم ندبها للخطيب عند صعوده المنبر.

[استحباب ركعتين قبل المغرب] الثالثة: تسن ركعتان قبل المغرب؛ لخبر "الصحيحين": "بين كل أذانين صلاة"، والمراد: الأذان والإقامة، ولخبر البخاري: "صلوا قبل صلاة المغرب" أي: ركعتين كما رواه أبو داوود، ويسن تخفيفهما كما في "المنهاج" كـ"المحرر" و"الشرح الصغير"، قال في "المجموع": واستحبابهما قبل شروع المؤذن في الإقامة، فإن شرع فيها .. كره الشروع في غير المكتوبة. وألف (أكثرا) و (آخرا): للإطلاق. [ما يقضى من النوافل] (وفائت النفل المؤقت اندب ... قضاءه لا فائتاً ذا سبب) أي: وفائت النفل المؤقت وإن لم تشرع له جماعة كنفل اتخذه ورداً .. اندب؛ أي: أنت قضاءه مطلقاً من غير تقييد بوقت؛ كقضاء الفرائض بجامع التأقيت، ولخبر "الصحيحين": "من نام عن صلاة أو نسيها .. فليصلها إذا ذكرها"، ولأنه صلى الله عليه وسلم (قضى بعد الشمس ركعتي الفجر)، و (بعد العصر الركعتين اللتين بعد الظهر) رواه مسلم وغيره، ولخبر أبي داوود بإسناد حسن: "من نام عن وتره أو نسيه .. فليصله إذا ذكره"، لا فائتاً ذا سبب؛ كالكسوف والاستسقاء والاستخارة والتحية، فإنه لا يقضى؛ إذ فعله لعارض وقد زال، وكذلك النفل المطلق لا يقضى كما اقتضاه كلامه. نعم؛ إن شرع فيه ثم أفسده .. قضاه كما ذكره الرافعي في صوم التطوع، والقضاء فيه بمعناه اللغوي.

(والفور والترتيب فيما فاتا ... أولى لمن لم يختش ألفواتا) فيه مسألتان: [الفور في قضاء الفوائت] الأولى: الفور في قضاء ما فاته من الصلوات؛ أي: بعذر كنوم ونسيان أولى؛ تعجيلاً لبراءة ذمته، وتداركاً لما فاته من الخلل، فإن أخره .. جاز له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فاتته صلاة الصبح في الوادي فلم يقضها حتى خرج منه، أما ما فاته بغير عذر .. فالفور في قضائه واجب؛ لأن توسعة الوقت في القضاء رخصة، والرخصة لا تناط بالمعاصي، ولأنه مفرط في تأخير بغير عذر. [الترتيب في قضاء الفوائت] الثانية: الترتيب في قضاء ما فاته من الصلوات أولى؛ لترتيبه صلى الله عليه وسلم فوائت الخندق حين أخر الظهر والعصر والمغرب والعشاء إلى هوي من الليل، وللخروج من الخلاف، وإنما لم يجب ترتيبها؛ لأنها عبادات مستقلة، وترتيبها من توابع الوقت وضروراته، فلا يعتبر في القضاء كصيام أيام رمضان، ولأنها ديون عليه فلا يجب ترتيبها إلا بدليل، [و] فعله صلى الله عليه وسلم المجرد إنما يدل عندنا على الاستحباب. وقوله: (لمن لم يختش الفواتا) أي: أن أولوية الفور في قضاء ما فاته وأولوية ترتيبه كلاهما لمن لم يخف فوات الصلاة الحاضرة بأن اتسع وقتها، فإن خاف فوتها .. قدمها على الفائتة وجوباً؛ لئلا تصير فائتة، فإن شرع في الفائتة ثم بان ضيق وقت الحاضرة .. وجب قطعها، ولو تذكر الفائتة ي أثناء الحاضرة .. لم يقطعها ضاق الوقت أو اتسع. وتعبيره بـ (الفوات) كالرافعي في كتبه والنووي في "منهاجه" .. يقتضي استحباب الفورية والترتيب إذا أمكنه فعل الفائتة وإدراك ركعة من الحاضرة في وقتها، وبه صرح ابن الرفعة؛ بناءً على أن الكل أداء، لكن مقتضى تعبير "الروضة" بالضيق خلافه، ومال إليه الإسنوي

وغيره؛ لامتناع إخراج البعض عن الوقت في الأصح. ولو خاف فوات جماعة الحاضرة ووقتها متسع .. فالأفضل عند النووي: أن يصلي الفائتة أولاً منفرداً؛ لأن الترتيب مختلف في وجوبه، والقضاء خلف الأداء مختلف في جوازه، لكن قال الإسنوي: إن الأفضل البداءة بالحاضرة جماعة، ونقله عن جمع، وقال: كأن ما قالهالنووي من تفقهه وهو مردود؛ للخلاف في الجماعة أيضاً، وامتازت بالخلاف عندنا، ورد بأن النووي لم ينفرد به، بل سبقه إليه جماعة، وبأن الخلاف في الترتيب خلاف في الصحة، فرعايته أولى من الجماعة التي هي من التكملات. وشمل إطلاقهم: أولوية ترتيب الفوائت ما زاد على صلوات يوم وليلة وهو كذلك؛ خروجاً من خلاف أحمد وإن قال مالك وأبو حنيفة: لا يجب الترتيب فيما زاد على صلوات يوم وليلة، وما إذا فاتت كلها بعذر أو بغيره، أو بعضها بعذر وإن تأخر، وهو كذلك، وإن استشكل بعض المتأخرين القسم الأخير منها. وألف (فاتا) و (الفواتا) للإطلاق. [دخول وقت رواتب الفرائض وخروجها] (وجاز تأخير مقدم أدا ... ولم يجز لما يؤخر ابتدا) (ويخرج النوعان جمعاً بانقضا ... ما وقت الشرع لما قد فرضا) أي: جاز تأخير راتب مقدم على الفرض عن فعله حال كونه أداء؛ لامتداد وقته بامتداد وقت فرضه وإن خرج وقته المختار بفعله، وقد يؤمر بتأخيره عنه كمن حضر والإمام فيه؛ لخبر: "إذا أقيمت الصلاة .. فلا صلاة إلا المكتوبة"، ولا يجوز الابتداء بالرواتب المؤخرة عن الفرض قبل فعله؛ لأن وقته إنما يدخل بفعله، ويخرج النوعان؛ أي: الراتب المقدم والراتب المؤخر بانقضاء وقت الفرض المقدر له شرعاً؛ لأنهما تابعان له. وألف (فرضا) للإطلاق.

[جواز القعود في صلاة النفل] (ثم الجلوس جائز في النفل ... بغير عذر، وهو نصف الفضل) أي: ثم القعود جائز في صلاة النفل ولو في العيدين والكسوفين والاستسقاء لغير عذر؛ أي: من قادر على القيام فيها بغير مشقة شديدة، وهو - أي: فضل فعله قاعداً - نصف فضل فعله قائماً، كما أن فضل فعله مضطجعاً نصف فضله قاعداً؛ لخبر البخاري: "من صلى قائماً .. فهو أفضل، ومن صلى قاعداً .. فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً - أي: مضطجعاً - فله نصف أجر القاعد"، وهو وارد فيمن صلى النفل كذلك مع قدرته على القيام أو القعود. وهذا في حقنا، أما في حقه صلى الله عليه وسلم .. فثواب نفله قاعداً مع قدرته على القيام كثوابه قائماً، وهو من خصائصه. وخرج بما ذكر: ما فعله مومياً أو مستلقياً، فإنه لا يجوز وإن أتم الركوع والسجود؛ لعدم وروده، وخرج بقوله: (بغير عذر): ما إذا فعله قاعداً أو مضطجعاً بعذر، فإنه لا ينقص أجره كالفرض، بل أولى، ولا يجوز قعود الصبي في المكتوبة، ولا القعود في الفريضة المعادة على الأصح فيهما. [أركان الصلاة] ولما كانت الصلاة تشتمل على فروض تسمى أركاناً، وعلى سنن تنقسم إلى أبعاض وهيئات .. بدأ بذكر أركانها فقال: (أركانها: ثلاث عشر: النية ... في الفرض قصد الفعل والفرضية) (أوجب مع التعيين، أما ذو السبب ... والوقت: فالقصد وتعيين وجب) (كالوتر، أما مطلق من نفلها ... ففيه تكفي نية لفعلها) (دون إضافة لذي الجلال وعدد الركعات واستقبال)

قد اشترك الركن والشرط في أنه لابد منهما، ولكن الفرق بينهما: أن الشرط: ما اعتبر في الصلاة بحيث يقارن كل معتبر سواه كالطهر والستر واستقبال القبلة؛ فإنها تعتبر مقارنتها للركوع وغيره، والركن: ما اعتبر فيها لا بهذا الوجه كالقيام والركوع وغيرهما، فأركانها ثلاثة عشر كما في "المنهاج" و"أصله" بجعل الطمأنينة في محالها الأربعة في الركوع وما بعده كالهيئة التابعة، وجعلها في "الروضة" و"التحقيق" سبعة عشر بجعل الطمأنينة في محالها الأربعة أركاناً؛ ويؤيد الأول كلامهم في التقدم والتأخر بركن أو أكثر، وبه يشعر خبر: "إذا قمت إلى الصلاة ... " والمعنى لا يختلف. [الركن الأول: النية] الأول: النية؛ لأنها واجبة في بعض الصلاة وهو أولها فكانت ركناً؛ كالتكبير الأول، وقد تقدم الكلام عليها في (المقدمة). قوله: (في الفرض) أوجب أنت في الفرض ولو كفاية أو نذراً قصد الفعل؛ أي: فعل الصلاة؛ ليمتاز عن بقية الأفعال، وهي هنا ما عدا النية؛ لأنها لا تنوى، فلا يكفي إحضارها في الذهن مع الغفلة عن الفعل؛ لأنه المطلوب، والفرضية؛ أي: إن كان المصلي بالغاً؛ تمييزاً لها عن صلاة الصبي، مع التعيين له من كونها ظهراً أو عصراً أو جمعة مثلاً، فلا تصح الجمعة بنية الظهر كعكسه، ولا يكفي نية فرض الوقت لصدقة بالفائتة التي ذكرها، وصوب في "المجموع" عدم وجوب نية الفرضية في صلاة الصبي؟ ! وصححه في "التحقيق" إذ كيف ينوي فرض ما لا يقع فرضاً؟ ! لكنه سوى في "الروضة" كـ"أصلها" بين البالغ والصبي. أما النفل ذو السبب كالكسوف والاستسقاء، والمؤقت كالعيدين والرواتب .. فالقصد؛ أي: قصد فعله وتعيين له، ولا تجب نية الفعلية؛ لأنها ملازمة للنفل كالوتر، ولو زاد على ركعة وفصله .. فينوي في الركعتين وإن كانتا شفعاً الوتر؛ كما ينوي في جميع ركعات التراويح

التراويح، وله أن ينوي فيما سوى الأخيرة منه إذا فصله صلاة الليل، أو مقدمة الوتر أو سنته، وهو أولى. وأفاد بقوله: (كالوتر) أنه لا يضيفه إلى العشاء؛ لأنه سنة مستقلة، ويميز عيد الفطر عن الأضحى، وسنة الظهر التي قبلها عن التي بعدها وإن لم يؤخرها، ولا يجب التعيين في تحية المسجد وركعتي الوضوء، والطواف والإحرام والاستخارة ونحوها. وأما النفل المطلق؛ وهو ما لا وقت له ولا سبب .. فيكفي فيه نية فعل الصلاة؛ لأنه أدنى درجات الصلاة، فإذا نواها .. وجب أن يحصل له، ولا تجب الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن العبادات لا تكون إلا له، ولا عدد الركعات، لكن لو عين وأخطأ .. لم تنعقد؛ لأنه نوى غير الواقع، ولا استقبال القبلة؛ إذ لا يجب التعرض للشرط، وكونها أداء أو قضاء. ولو ظن خروج الوقت فصلاها قضاء فبان بقاؤه، أو ظن بقاءه فصلاها أداء فبان خروجه .. أجزأته؛ لأن كلا من الأداء والقضاء يأتي بمعنى الأخر مع كونه معذوراً. (ثان: قيام قادر القيام ... وثالث: تكبيرة الإحرام) (ولو معرفا عن التنكير ... وقارن النية بالتكبير) (في كله حتماً، ومختار الإمام ... والنووي وحجة للإسلام: ) (يكفي بأن يكون قلب الفاعل ... مستحضر النية غير غافل) [الركن الثاني: القيام للقادر] الركن الثاني: قيام القادر عليه ولو صبياً؛ أي: في الفرض ولو معاداً؛ لخبر البخاري عن عمران بن حصين قال: كان بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؟ فقال: "صل قائماً، فإن لم تستطع .. فقاعداً، فإن لم تستطع .. فعلى جنب"، زاد النسائي: "فإن لم تستطع .. فمستلقياً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها".

وخرج بـ (الفرض): النفل وقد تقدم، وبـ (القادر): العاجز وسيأتي. وشرطه: نصب فقار الظهر، فلو استند إلى شيء .. أجزأه ولو تحامل عليه. وإن كان بحيث يرفع قدميه، أو انحنى قريباً من حد الركوع، أو مائلاً على أحد جنبيه بحيث لا يسمى قائماً .. لم يصح. ولو قدر العاجز عن القيام مستقلاً على القيام متكئاً على شيء، أو قدر على القيام على ركبتيه، أو قدر على النهوض بمعين ولو بأجرة مثل وجدها فاضلة عن مؤنثه ومؤنة ممونه يومه وليلته .. لزمه ذلك. [الركن الثالث: تكبيرة الإحرام] الركن الثالث: تكبيرة الإحرام في القيام أو بدله؛ لخبر المسيء صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة .. فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن رافعاً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" رواه الشيخان، وفي رواية للبخاري: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك"، وفي "صحيح ابن حبان" بدل قوله: "حتى تعتدل قائماً": "حتى تطمئن قائماً". وكيفية التكبير: (الله أكبر)، أو (الله الأكبر)، منكراً أو معرفاً كما قال: (معرفاً عن التنكير)، وأشار به إلى أن الزيادة التي لا تمنع الاسم .. لا تضر؛ كـ (الله الجليل أكبر)، أو (الله عز وجل أكبر)، قال بعضهم: أو (الله الذي لا إله إلا هو أكبر)، أو نحوها مما لا يطول فيه الفصل. فلا يجزئ: (الله كبير)، ولا: (الرحمن الرحيم أكبر)، ولا: (الله أعظم وأجل) لما مر، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ الصلاة بقوله: "الله أكبر" رواه ابن ماجه وغيره، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري، ولفوات معنى (أفعل) في الأول.

ولو عكس فقال: (أكبر الله)، أو (الأكبر الله) .. لم تنعقد؛ لأنه لا يسمى تكبيراً، بخلاف: (عليكم السلام). ولو طال الفصل عرفاً بما تخلل من الصفات؛ كـ (الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس أكبر)، أو طال سكوته بين كلمتي التكبير، أو زاد حرفاً فيه يغير المعنى؛ كمد همزة (الله أكبر) وألف بعد الهاء، أو واو ساكنة أو متحركة بينهما .. لم تنعقد. ويجب أن يكبر قائماً حيث يلزمه القيام، وأن يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع، ولا عارض عنده من لغط أو غيره، وأن يكبر بالعربية، فإن عجز عنها وهو ناطق .. ترجم عنها بأي لغة شاء، ولا يعدل إلى غيره من الأذكار، ووجب التعلم إن قدر عليه ولو بالسفر إلى بلد آخر، وبعد التعليم لا يجب عليه قضاء ما صلاة بالترجمة قبله، إلا أن يكون آخره مع التمكين منه .. فإنه لابد من صلاته بالترجمة عند ضيق الوقت؛ لحرمته، ويجب القضاء؛ لتفريطه بالتأخير. ويجب على الأخرس تحريك لسانه وشفتيه ولهاته بالتكبير قدر إمكانه، قال في "المجموع": وهكذا حكم تشهده وسلامه وسائر أذكاره. وقارن الناوي النية بالتكبير في كله حتماً؛ أي: وجوباً؛ لأنه أول الأركان، بأن يستحضر جميع ما أوجبناه عند أوله ويستمر ذاكراً له إلى آخره بحيث يقارن كل حرف منه؛ كما يجب حضور شهود النكاح إلى الفراغ منه، واختار النووي في شرحي "المهذب" و"الوسيط" تبعاً لإمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي: الاكتفاء بالمقارنة العرفية عند العوام؛ بحيث يعد مستحضراً للصلاة عرفاً غير غافل عنها اقتداء بالأولين في تسامحهم بذلك، وقال ابن الرفعة: إنه الحق، والسبكي: إنه الصواب. وقول المصنف: (والنووي) بسكون الياء إجراء للوصل مجرى الوقف. [حكم العاجز عن القيام في الفرض] (ثم انحنى لعجزه أن ينتصب ... من لم يطق يقعد كيفما يحب) أي: ثم انحنى مصلي الفرض ولو كانحناء الراكع؛ لعجزه عن أن ينتصب قائماً؛ لأنه أقرب

إلى القيام، ويزيد انحناءً لركوعه إن قدر؛ لتتميز الركعتان، ولو أمكنه القيام والاضطجاع دون القعود .. أتى به قائماً؛ لأنه قعود وزيادة، فيومئ بالركوع والسجود إمكانه، ويتشهد قائماً، ولا يضطجع، ومن لم يطق القيام في الفرض؛ أي: بأن شق عليه مشقة شديدة؛ كخوف هلاك، أو زيادة مرض، أو غرق أو دوران رأس في ذلك .. يقعد كيفما يحب، لكن افتراشه أفضل من تربعه وغيره؛ لأنه قعود للعبادة فكان أولى من قعود العادة، ولأنه قعود لا يعقبه سلام كالقعود للتشهد الأول، وقال الماوردي: إن تربع المرأة أفضل؛ لأنه أستر لها، لكن قال في "المجموع": ولم أره لغيره، وإطلاق الشافعي والأصحاب يخالفه. ومن صلى قاعداً .. انحنى لركوعه؛ بحيث تحاذي جبهته ما قدام ركبتيه، والأكمل: أن تحاذي موضع سجوده، ولو جلس الغزاة ورقيبهم في مكمن ولو قاموا لرآهم العدو وفسد التدبير .. صلوا قعوداً وأعادوا؛ لندرة العذر، ولو صلوا قعوداً لخوق قصد العدو .. فالأصح: لا إعادة. قال في "زيادة الروضة": الذي اختاره الإمام في ضبط العجز: أن تلحقه مشقة تذهب خشوعه، وقال في "المجموع": لأنه لابد من مشقة ظاهرة. قال المصنف: وكنت أخذت بقول الإمام في النظم فقلت: (ومن خشوعه إذا قام ذهب ... صلى وجوباً قاعداً كيف أحب) ثم لما رأيت الجماعة خالفوه .. عدلت عنه. انتهى. (وعاجز عن القعود صلى ... لجنبه، وباليمين أولى) (ثم يصلي عاجز على قفاه ... وبالركوع والسجود أوماه) (بالرأس، إن يعجز فبالأجفان ... للعجز أجرى القلب بالأركان) (ولا يجوز تركها لمن عقل ... وبعد عجز إن يطق شيئاً فعل) في هذه الأبيات مسألتان:

[حكم العاجز عن القعود في الفرض] الأولى: أن من عجز عن القعود في الفرض بما مر في العجز عن القيام .. صلى لجنبه؛ أي: عليه متوجهاً بمقدمه القبلة؛ لخير عمران السابق، وباليمين؛ أي: والصلاة على الجنب اليمين أولى؛ لينال فضيلة التيامن، بل تكره على اليسار بلا عذر كما ذكره في "المجموع"، ثم يصلي الفرض عاجز عن الاضطجاع على قفاه؛ للخبر السابق، ويجعل رجليه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلاً، وأومأ المضطجع والمستلقي بالركوع والسجود إن عجز عن إتمامهما بأن يقرب جبهته من الأرض ما أمكن، ويكون سجوده أخفض من ركوعه؛ تمييزاً بينهما. ولو قدر القاعد على أقل ركوع القاعد أو أكمله من غير زيادة .. أتى بالممكن مرة عن الركوع ومرة عن السجود، ولا يضر استواؤهما، ولو قدر على زيادة على أكمل الركوع .. تعينت للسجود، ولو عجز أن يسجد إلا بمقدم رأسه أو صدغه وكان بذلك أقرب إلى الأرض .. وجب. ثم إن عجز عن الإيماء بالرأس .. فبالأجفان يومئ، ثم للعجز عن الإيماء بالأجفان .. أجرى أركانها على قلبه وجوباً؛ بأن يمثل نفسه قائماً، ثم راكعاً ... وهكذا؛ لأنه الممكن، فإن اعتقل لسانه .. أجرى القرآن والأركان على قلبه، وأما إجراء سننها على قلبه .. فسنة، ولا يجوز ترك الصلاة ما دام عقله باقياً كالإيمان. وإنما عبر المصنف بأركانها دون أفعالها الشاملة لسننها؛ لأن كلامه فيما يجب على المصلي أن يفعله. [إذا قدر العاجز في الصلاة على شيء مما عجز عنه أتى به وجوباً] الثانية: أن المصلي على هيئة من الهيئات السابقة إذا أطاق شيئاً .. فعله وجوباً، وبنى على صلاته ولا يلزمه استئنافها، فإذا قدر في أثناء القراءة على القيام أو القعود .. أتى بالمقدور، وكذلك لو عجز عنه، ويبني على قراءته، ولا تجزئ في نهوضه؛ لقدرته على القراءة فيما هو أعلى منه، ويجب في هوي العاجز؛ لأنه أكمل مما بعده، وإن قدر بعدها .. وجب قيامه

ليركع، ولا تجب الطمأنينة في هذا القيام؛ لأنه غير مقصود لنفسه، أو في الركوع قبل الطمأنينة .. ارتفع لها إلى حد الركوع، فإن انتصب .. بطلت صلاته، أو في الاعتدال قبل الطمأنينة .. قام واطمأن، وكذا بعدها إن أراد قنوتاً، وإلا .. فلا، فإن قنت قاعداً .. بطلت صلاته. وقول المصنف: (للعجز أجرى القلب بالأركان) الباء فيه بمعنى: (على) أو (في) وهو بمعنى قول غيره: إجراء أركانها على قلبه؛ فإن معنى إجراء القلب على الأركان أو فيها: استحضارها، فلا حاجة إلى ادعاء كونه مقلوباً، وقوله: (يعجز) بكسر الجيم ويجوز فتحها. [الركن الرابع: قراءة الفاتحة] (و (الحمد) لا في ركعة لمن سبق ... بـ (باسم) والحروف والشد نطق) أي: وركنها الرابع: (الحمد) أي: قراءة (سورة الفاتحة) في القيام أو بدله، للمنفرد وغيره، في السرية والجهرية، فرضاً كانت أو نفلاً، حفظاً أو تلقيناً أو نظراً في مصحف أو نحوه؛ لخبر "الصحيحين": "لا صلاة لمن يقرأ بـ (فاتحة الكتاب) "، وخبر ابني خزيمة وحبان في "صحيحيهما": "لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بـ (فاتحة الكتاب) " أي: في كل ركعة؛ لما في خبر المسيء صلاته في رواية ابن حبان وغيره: "ثم اقرأ بـ (أم القرآن) ... " إلى أن قال: "ثم اصنع ذلك في كل ركعة". وأما قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} .. فوارد في قيام الليل لا في قدر القراءة، أو محمول مع خبر: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" على (الفاتحة) أو على العاجز عنها؛ جمعاً بين الأدلة. وهي ركن في كل ركعة؛ لفعله صلى الله عليه وسلم كما في "مسلم"، مع خبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، إلا في ركعة لمن سبق بها؛ بأن لم يدرك بعد تحريمه مع

الإمام زمناً يسعها .. فليست ركناً فيها؛ لأنه يدركها بإدراكه ركوع الإمام، وليس المراد أنها لا تجب عليه أصلاً، بل تجب عليه ويتحملها عنه إمامه في الأصح، ولهذا لا تحسب ركعته إذا كان إمامه محدثاً، أو في ركعة زائدة؛ لأنه حينئذ ليس أهلاً للتحميل. وفي معنى المسبوق: كل من تخلف بعذر عن الإمام بأكثر من ثلاثة أركان طويلة، وزال عذره والإمام راكع؛ كما لو كان بطيء القراءة، أو نسي أنه في الصلاة، أو امتنع من السجود بسبب زحمة، أو شك بعد ركوع إمامه في قراءة (الفاتحة) فتخلف. [البسملة آية من الفاتحة] والبسملة آية كاملة من (الفاتحة) فيجب النطق بها؛ لعدة صلى الله عليه وسلم إياها آية منها، صححه ابن خزيمة والحاكم، وهي آية من أول كل سورة سوى (سورة براءة) لخبر مسلم عن أنس: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا؛ إذ أغفا إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا نبي الله؟ ! قال: "أنزلت علي سورة" فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم* إنا أعطينك الكوثر} .. إلى آخرها)، ولإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف بخطه في أوائل السور، سوى (سورة براءة) دون الأعشار وتراجم السور والتعوذ، فلم لم يكن قرآناً .. لما أجازوا ذلك؛ لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً. والقول بأن إثباتها للفصل يلزم عليه ما ذكر، وأن تكتب أول (براءة)، وألا تكتب أول (الفاتحة)، وبأن الفصل كان ممكناً بتراجم السور كأول (براءة)، وألا تكتب أول (الفاتحة)، وبأن الفصل كان ممكناً بتراجم السور كأول (براءة)، والتواتر إنما يشترط فيما يثبت قرآناً قطعاً، أما ما ثبت قرآناً حكماً .. فيكفي فيه الظن كما يكفي في كل ظني. وأما قول أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفتتحون الصلاة بـ"الحمد لله رب العالمين") .. فمعناه: كانوا يفتتحون بـ (سورة الحمد)، يبينه ما صح عنه؛ كما قاله الدارقطني: أنه كان يجهر بـ (البسملة)، وقال: (لا آلو أن أقتدى بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم). وأما قوله: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً

منهم يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" كما رواه مسلم .. فقال أئمتنا: إنه رواية اللفظ الأول بالمعنى الذي عبر عنه الراوي بما ذكر بحسب فهمه، ولو بلغ الخبر بلفظه كما في "البخاري" .. لأصاب، واللفظ الأول بالمعنى الذي عبر عنه الراوي بما ذكر بحسب فهمه، ولو بلغ الخبر بلفظه كما في "البخاري" .. لأصاب، واللفظ الأول هو الذي اتفق عليه الحفاظ. ويجب النطق بالحروف؛ وهي مئة وأحد وأربعون حرفاً بقراءة {الملك} [الفاتحة: 3] بلا ألف، والشد؛ أي: التشديدات؛ وهي أربع عشرة شدة؛ لأن (الفاتحة) جملة الكلمات المنظومة، والجملة تنتفي بانتفاء جزئها كما تنتفي بانتفاء كلها، فلو خفف حرفاً مشدداً من (الفاتحة) .. بطلت قراءته؛ لإخلاله بحرف؛ إذ المشدد حرفان، ولو شدد المخفف .. جاز وأساء. وقول المنصف: (بباسم) متعلق بـ (نطق) مبنياً للفاعل أو المفعول وهو أنسب بقوله: (سبق) لأنه مبني للمفعول. (لو أبدل الحرف بحرف أبطلا ... وواجب ترتيبها مع الولا) (وبالسكوت انقطعت إن كثرا ... أو قل مع قصد لقطع ما قرا) (لا لسجوده، وتأمين، ولا ... سؤاله لما إمامه تلا) فيها ثلاث مسائل: [إبدال حرف من الفاتحة بآخر] الأولى: لو أبدل مع سلامة لسانه حرفاً من (الفاتحة) أو بدلها بحرف؛ كإبدال ضاد (الضالين) بالظاء، وذال (الذين) المعجمة بالمهملة .. أبطل قراءته لتلك الكلمة؛ لتغييره النظم، ولو نطق بالقاف مترددة بينهما وبين الكاف كما ينطق بها العرب .. صح مع الكراهة، قاله نصر المقدسي والروياني وغيرهما، وجزم به في "الكفاية"، قال في "المجموع": وفيه نظر، قال: فإن لحن ولم يغير معنى .. كره، فإن تعمد .. حرم وصحت صلاته، وإن غير؛ كضم تاء (أنعمت) أو كسرها .. لم تصح قراءته، وتبطل صلاته إن تعمد. وتجوز القراءة بالسبع دون الشواذ، فإن قرأ شاذاً .. صحت صلاته إن لم يغير المعنى ولا زاد حرفاً ولا نقصه. انتهى.

والشاذ عنده كغيره: ما وراء السبعة، وقال البغوي: هو ما وراء العشرة، وتبعه السبكي وصححه ولده الشيخ تاج الدين، قال في "المجموع": وإذا قرأ بقراءة .. كمل بها ندباً، ويجوز التنويع إن لم يرتبط الثاني بالأول. [وجوب ترتيب الفاتحة] الثانية: يجب ترتيب (الفاتحة) بأن يأتي بها على نظمها المعروف؛ لأن النظم والترتيب مناط البلاغة والإعجاز، فلو عكس .. بنى إن سها ولم يطل الفصل، وإلا .. استأنف إذا لم يخل بالمعنى، وإلا .. بطلت صلاته إن تعمد، واستشكل وجوب الاستئناف عند العمد بالوضوء والأذان والطواف والسعي، وأجيب بأن الترتيب هنا لما كان مناط الإعجاز كما مر .. كان الاعتناء به أكثر؛ فجعل قصد التكميل بالمرتب صارفاً عن صحة البناء، بخلاف تلك الصور. [وجوب الولاء بين كلمات الفاتحة] الثالثة: يجب الولاء بين كلمات (الفاتحة) للاتباع، وبالسكوت عمداً في أثنائها ولو لعائق غير ما يأتي .. انقطعت قراءتها إن كثر؛ أي: طال سكوته عرفاً وإن لم يقصد قطعاً؛ أي: أو أتى بذكر لا يتعلق بالصلاة؛ كحمده عند العطاس وإن كان مندوباً في الصلاة أيضاً؛ لإشعاره بالإعراض عنها، أو قل سكوته مع قصد منه لقطع ما قرأه به؛ لاقتران الفعل بنية القطع؛ كنقل الوديعة بقصد التعدي، فإن لم يقصد القطع ولم يطل السكوت .. لم يؤثر؛ كنقل الوديعة بلا قصد تعد، ولأن ذلك قد يكون لتنفس أو سعال، وكذا لو ترك الولاء ناسياً كتركه إياه في الصلاة بأن طول ركناً قصيراُ ناسياً، أو طال سكوته؛ لتذكر آية نسيها، أو للإعياء، وعلم أن قصده القطع بلا سكوت .. لا يؤثر؛ لأن القراءة باللسان ولم يقطعها، بخلاف ما لو قصد قطع الصلاة؛ لأن النية ركن فيها تجب إدامتها حكماً ولا يمكن ذلك مع نية القطع، وقراءة (الفاتحة) لا تفتقر إلى نية خاصة فلا تتأثر بنية القطع، لا بسجوده وتأمين منه وسؤاله الرحمة لما إمامه تلا في الصور الثلاث .. فلا يقطع به الولاء؛ لكونه مطلوباً في الصلاة لمصلحتها، أما إذا فعل شيئاً من ذلك لما تلاه غير إمامه .. فينقطع به الولاء، بل تبطل بسجوده إن تعمد، ولو سأل الرحمة لما تلاه هو .. لم ينقطع الولاء.

وألف (بطلا) و (كثرا) للإطلاق، والبيتان الأخيران ساقطان من بعض النسخ. (ثم من الآيات سبع والولا ... أولى من التفريق ثم الذكر لا) (ينقص عن حروفها، ثم وقف ... بقدرها، واركع بأن تنال كف) (لركبة بالانحنا، والاعتدال ... عود إلى ما كان قبله فزال) [حكم العاجز عن قراءة الفاتحة] أي: ثم إن عجز عن (الفاتحة) التي هي ركن .. فالركن بدلها سبع من الآيات من غيرها ولو متفرقة؛ كما في قضاء رمضان، خلافاً للرافعي رحمه الله تعالى، والولاء - أي: والآيات المتوالية - أولى من المتفرقة؛ لأنها أشبه بـ (الفاتحة)، وللخروج من الخلاف. ولو قرأ العاجز عنها سبع آيات متفرقة لا تفيد معنى منظوماً كـ {ثم نظر} .. لم يكف عند إمام الحرمين، واقره في "الروضة" و"أصلها"، لكن اختار في "المجموع" و"التنقيح" الاكتفاء بها؛ كما أطلقه الجمهور، ومن يحسن بعض (الفاتحة) .. يأتي به ويبدل الباقي إن أحسنه، وإلا .. كرر في الأصح، وكذا من يحسن بعض بدلها من القرآن، ويجب الترتيب بين الأصل والبدل. ثم إن عجز عن القرآن .. فالركن الذكر؛ لخبر الترمذي وحسنه: "إذا قمت إلى الصلاة .. فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد وأقم، فإن كان معك قرآن .. فاقرأ، وإلا .. فاحمد الله وكبره وهلله"، قال البغوي رحمه الله تعالى: يجب سبعة أنواع من أنواع الذكر؛ ليكون كل نوع مكان آية، وقال الإمام: لا يجب، قال الشيخان: والأول أقرب؛ تشبيهاً لمقاطع الأنواع بغايات الآي.

قال الإمام: والأشبه: إجزاء دعاء يتعلق بالآخرة دون الدنيا ورجحه في "المجموع"، قال الإمام: فإن لم يعرف غير ما يتعلق بالدنيا .. أتى به وأجزأه، قال في "الروضة" كـ"أصلها": ويشترط ألا يقصد بالذكر المأتي به غير البدلية؛ كمن استفتح أو تعوذ لا بقصد تحصيل سنتهما، لكن لا يشترط قصد البدلية فيهما ولا في غيرهما من الأذكار على الأصح. قوله: (لا ينقص عن حروفها) أي: لا يجوز نقص البدل من قرآن أو غيره عن حروف (الفاتحة) وهي مئة وستة وخمسون حرفاً بقراءة {مالك} بالألف كالمبدل، بخلاف صوم يوم قصير عن طويل؛ لعسر مراعاة الساعات. وأفهم كلامه: أنه لا يضر زيادة البدل ولا التفاوت بين حروف الآيات والأنواع وهو كذلك. ثم إن عجز عن الذكر بترجمة وغيرها .. وقف وجوباً قدر (الفاتحة) في ظنه؛ لأنه المقدور وهو مقصود، ولا يترجم عنها، بخلاف الذكر؛ لفوات الإعجازء فيها. [الركن الخامس: الركوع] الركن الخامس: الركوع؛ لقوله تعالى: {اركعوا}، ولخبر: "إذا قمت إلى الصلاة ... "، وأقله للقائم: أن ينال كفه ركبتيه؛ يعني: راحتاه ركبتيه لو أراد ذلك عند اعتدال الخلقة وسلامة اليدين والركبتين بالانحناء لظهره، لا بالانخناس ولا بهما، أما ركوع القاعد .. فتقدم. [الركن السادس: الاعتدال] الركن السادس: الاعتدال ولو في النفل؛ كما صححه في "التحقيق" لخبر: "إذا قمت إلى الصلاة ... "، وهو عوده إلى ما كان عليه قبله فزال عنه الركوع؛ من قيام أو غيره، ويشترط فيه وفي سائر الأركان: عدم صرفه إلى غيره، حتى لو رفع من ركوعه فزعا من شيء .. لم يكف، بل يعود للركوع، ثم يعتدل منه.

[الركن السابع: السجود] (والسابع: السجود مرتين مع ... شيء من الجبهة مكشوفاً يضع) أي: الركن السابع: السجود مرتين في كل ركعة؛ لخبر: "إذا قمت إلى الصلاة ... " وأقله: أن يضع شيئاً من جبهته مكشوفاً على مسجده؛ لخبر: "إذا سجدت .. فمكن جبهتك، ولا تنقر نقراً" رواه ابن حبان عن ابن عمر وصححه، ولخبر: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء ... " إلى أن قال: "ويسجد فيمكن جبهته من الأرض"، وخبر خباب بن الأرت رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا)، أي: لم يزل شكوانا، رواهما البيهقي بسندين صحيحين، وجه الدلالة: انه لو لم يجب كشف الجبهة .. لأرشدهم إلى سترها، واعتبر كشفها دون بقية الأعضاء؛ لسهولته فيها دون البقية. نعم؛ إن سترها لعذر كجراحة وشق عليه إزالة الساتر .. كفى السجود عليه من غير إعادة. ويجزئ السجود على شعر بجبهته وإن لم يستوعبها. ويجب أن يتحامل على مسجده بثقل رأسه وعنقه؛ بحيث لو سجد على قطن أو نحوه .. لاندك؛ لما مر. وألا يسجد على متحرك من ملبوسه بقيامه وقعوده؛ لأنه كالجزء منه، فإن سجد عليه عامداً عالماً بتحريمه .. بطلت صلاته، أو ساهياً أو جاهلاً .. لم تبطل، ويجب إعادة السجود، وأما خبر "الصحيحين" عن أنس: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض .. بسط ثوبه فسجد عليه) .. فمحمول على ثوب منفصل، فإن لم يتحرك بحركته كطرف عمامته أو لم يكن من ملبوسه كعود في يده .. كفى السجود عليه. وأن يضع فيه يديه وركبتيه وقدميه؛ لخبر "الصحيحين": "أمرت أن أسجد على سبعة

أعظم: الجبهة، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين"، ورجح الرافعي رحمه الله تعالى عدم الوجوب، وعلله بأنه لو وجب وضعها .. لوجب الإيماء بها عند العجز، والإيماء بها لا يجب فلا يجب وضعها، وحمل الأمر في الخبر على الندب، وأجاب الأول بأنه إنما لم يجب الإيماء بها كالجبهة؛ لأن معظم السجود وغاية الخضوع بالجبهة دونها، ويكفي على الوجوب وضع جزء من كل واحد منها، والاعتبار في اليدين بباطن الكفين سواء الأصابع والراحة، وفي الرجلين ببطون الأصابع. وأن يرفع أسافله على أعاليه؛ للاتباع رواه ابن حبان وصححه، مع خبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فلا يكتفى برفع أعاليه على أسافله ولا تساويهما؛ لعدم اسم السجود؛ كما لو أكب ومد رجليه، فلو أمكن العاجز عن وضع جبهته على موضع السجود على وسادة بأن حصل معها التنكيس .. وجب، وإلا .. فلا كما قال في "الروضة" و"أصلها": إنه الأشبه بكلام الأكثرين، وصححه في "المجموع"، وجزم به في "الأنوار"، وفي "المهمات": أن الفتوى عليه؛ لفوات هيئة السجود، بل يكفيه الانحناء الممكن، وصحح في "الشرح الصغير" الوجوب؛ لأنه يلزمه هيئة التنكيس ووضع الجبهة، فإذا تعذر أحدهما .. أتى بالآخر؛ لأنه مقدوره، ورجحه في "الخادم". (وقعدة بينهما للفصل ... ويطمئن لحظة في الكل) [الركن الثامن: القعود بين السجدتين] أي: الركن الثامن: قعدة بين السجدتين في كل ركعة؛ للفصل بينهما ولو في النفل؛ لخبر: "إذا قمت إلى الصلاة ... "، وأشار بقوله: (للفصل): إلى أنه ركن قصير كالاعتدال فيجب ألا يطوله، ولا الاعتدال.

ويطمئن لحظة وجوباً في الكل؛ أي: في الركوع، والاعتدال، والسجود مرتين، والقعود بينهما؛ للخبر المذكور، والطمأنينة: سكون بعد حركة، ففي الركوع مثلاً يكون بحيث ينفصل رفعه عن هوية بأن تستقر أعضاؤه قبل رفعه. [التشهد الأخير وقعوده والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه] ثم ذكر الركن التاسع والعاشر والحادي عشر: وهي التشهد الأخير: والقعود فيه وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفي التسليمة الأولى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال: (ثم التشهد الأخير فاقعد ... فيه مصليا على محمد) أي: ثم التشهد الأخير - يعني: الذي في آخر الصلاة كتشهد الصبح والجمعة والمقصورة - فاقعد فيه في حال كونك مصلياً عقبه على محمد. أما التشهد .. فلخبر الدارقطني والبيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله ... " إلى آخره، والمراد: فرضه آخر الصلاة؛ لخبر "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس، فلما قضى صلاته .. كبر وهو جالس فسج سجدتين قبل السلام، ثم سلم)، دل عدم تداركه على عدم وجوبه، ولأن محله لا يتميز كونه عبادة عن العادة فوجب فيه ذكر؛ ليتميز كما في القراءة، بخلاف الركوع والسجود، وسمي تشهداً؛ لما فيه من الشهادتين من باب تسمية الكل باسم جزئه مجازاً، وأقله: (التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله). وأما القعود .. فلأن كل من أوجب التشهد أوجب القعود فيه. وأما الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم .. فلقوله تعالى: {صلوا عليه}، قال أئمتنا:

قد أجمع العلماء على أنها لا تجب في غير الصلاة فتعين وجوبها فيها، والقائل بوجوبها مرة في غيرها محجوج بإجماع من قبله، وفي "الصحيحين" عن كعب ابن عجرة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم؛ صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم؛ إنك حميد مجيد"، خرج الزائد على الصلاة عليه بالإجماع كما في "المهذب" بقي وجوبها عليه، وفي رواية صححها ابن حبان وغيره: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: "قولوا ... " إلى آخره، وأولى المحال بها خاتمة الأمر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وأما عدم ذكرها في خبر: "إذا قمت إلى الصلاة ... " .. فمحمول على أنها كانت معلومة له، ولهذا: لم يذكر له النية والتشهد والجلوس له والسلام. وأقلها: (اللهم؛ صل على محمد)، أو (صلى الله على محمد)، أو (على رسوله)، أو (على النبي) دون أحمد، أو عليه في الأصح، ذكره في "التحقيق" وغيره. وأكملها: (اللهم؛ صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد)، ذكره في "الروضة" و"أصلها". وفي "الأذكار" وغيره: الأفضل أن يقول: (اللهم؛ صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد). وأكمل التشهد: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) رواه مسلم من خبر ابن عباس.

وجاء في "الصحيحين" عن ابن مسعود بلفظ: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك ... ) إلى آخره، إلا أنه قال: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وفيه أخبار أخر نحو ذلك، قال النووي: وكلها مجزية يتأدى بها الكمال، وأصحها: خبر ابن مسعود، ثم خبر ابن عباس، لكن الأفضل: تشهد ابن عباس؛ لزيادة لفظ (البركات) فيه؛ ولموافقته قوله تعالى: {تحية من عند الله مبركة طيبة}، ولتأخره عن تشهد ابن مسعود، ولقوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن). وإنما كان أقله ما مر؛ لأن ما بعد التحيات من الكلمات الثلاث توابع لها، بل سقط أولاها في خبر غير ابن عباس، قال النووي: وإثبات (أل) في (السلام) أفضل؛ لكثرته في الأخبار. وكلام الشافعي ومقتضى كلام الرافعي: أنه لا يكفي (وأن محمداً رسوله)، وصرح به النووي في "مجموعه" وغيره، لكن في "الروضة" أنه يكفي، ورجحه السبكي وغيره. (ثم السلام أولا لا الثاني ... والآخر الترتيب في الأركان) [الركن الثاني عشر: السلام] أي: ثم الركن الثاني عشر: السلام؛ أي: التسليمة الأولى لا التسليم الثاني؛ فإنه سنة كما سيأتي؛ لخبر: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم"، وأقله: (السلام عليكم)، أو (عليكم السلام)، لكنه يكره، وصحح الرافعي: أنه يجزئ (سلام عليكم) منكراً؛ إقامة للتنوين مقام اللام كما في التشهد، وقال النووي: الأصح المنصوص: أنه لا يجزئ؛ لما ثبت في الأخبار الصحيحة من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "السلام عليكم"، ولم ينقل

(سلام عليكم) بخلاف التشهد، قال: والقول بأن التنوين يقوم مقام اللام فاسد وإن لم يجتمعا؛ لأنه لا يسد مسده في العموم والتعريف وغيرهما، فلا يكفي (عليكما السلام)، ولا (السلام عليكما)، ولا (سلام عليكم) بلا تنوين، ولا (سلام عليك) ولا (سلامي عليك) ولا (سلام الله عليكم)، ولا (سلام عليكم) بلا تنوين، ولا (السلم عليكم)، ولا (السلم عليكم) ولا (سلم عليكم) بكسر السين وسكون اللام، ولا (سلام عليهم) بل تعتمد ذلك مبطل إلا الأخيرة؛ فإنها دعاء لا خطاب فيه، وأما أكمله .. فسيأتي. [الركن الثالث عشر: الترتيب بين الأركان] والآخر وهو الثالث عشر: الترتيب في الأركان؛ أي: بينها كما مر في عدها المشتمل على وجوب قرن النية بالتكبير، وجعلهما مع القراءة في القيام والتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليمة الأولى في القعود، وأما تقديم الانتصاب على ابتداء تكبيرة الإحرام .. فشرط للتكبيرة لا ركن؛ لخروجه عن الماهية، فالترتيب المراد" فيما عدا ذلك، ودليل وجوبه: الاتباع في الأخبار الصحيحة مع خبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وعده من الأركان بمعنى الفروض .. صحيح، وبمعنى الأجزاء .. فيه تغليب. وقضية كلامه: وجوب الترتيب بين التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما ركنان وهو ما في "المجموع" كـ"فتاوى البغوي"، ونقله القاضي عياض في "الشفاء" عن الشافعي، فلو تعمد تركه في الفعلي .. بطلت صلاته كبقية الأركان، وإن تركه سهواً .. لم يعتد بما فعله حتى يأتي بما تركه، فإن تذكر قبل بلوغ مثله .. فعله، أو بعده .. تمت به ركعته، ولغا ما بينهما، هذا إن علم عينه ومكانه، وإلا .. أخذ بالأسوأ وبنى، وفي الأحوال كلها يسجد للسهو إلا إذا وجب الاستئناف؛ بأن ترك ركناً وجوز أن يكون النية أو تكبيرة الإحرام، وإلا إذا كان المتروك هو السلام: فإنه إذا تذكر .. سلم ولم يسجد للسهو، أما الركن القولي غير السلام .. فتقديمه غير مبطل. وخرج بقول المصنف: (في الأركان) ترتيب السنن بعضها على بعض كالافتتاح والتعوذ، أو ترتيبها على الفرائض كالسورة و (الفاتحة) فإنه شرط للاعتداد بها سنة لا في صحة الصلاة.

ولم يتعرض المصنف لعد الموالاة ركناً؛ لأن الأصح في "التنقيح": أنها شرط، والمراد بها: عدم تطويل الركن القصير، كما ذكره الرافعي تبعاً للإمام، وصور ابن الصلاح تركها بما إذا سلم ناسياً وطال الفصل .. فإن صلاته تبطل؛ للتفريق، وصوره بعضهم بما إذا شك في نية صلاته ولم يمض ركن، لكن طال زمن الشك .. فإنها تبطل في الأصح، قال ابن الرفعة: لأن ذلك يبطل الولاء. [أبعاض الصلاة] ولما فرغ من أركان الصلاة .. شرع في ذكر سننها، وهي: أبعاض وهيئات، وبدأ بالأولى فقال: (أبعاضها: تشهد إذ تبتديه ... ثم القعود، وصلاة الله فيه) (على النبي، وآله في الآخر ... ثم القنوت، وقيام القادر) (في الاعتدال الثان من صبح، وفي ... وتر لشهر الصوم إن ينتصف) أي: أبعاض الصلاة هذه الستة: أما التشهد الأول وقعوده .. فللأخبار الصحيحة فيهما، وصرفهما عن وجوبهما أنه صلى الله عليه وسلم (قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس، فلما قضى صلاته .. كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل السلام، ثم سلم) رواه الشيخان، دل عدم تداركهما على عدم وجوبهما. قال في "المجموع": ويكره أن يزيد في التشهد الأول على لفظة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فعله .. لم يسجد للسهو. وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في جلوس التشهد الأول، والصلاة على آله في جلوس التشهد الأخير .. فللأخبار الصحيحة فيهما. وأما القنوت وقيامه في الصبح وفي وتر النصف الأخير من رمضان .. فللاتباع فيهما رواه

الشيخان في الأولى، والبيهقي في الثانية، وقال الحسن بن علي: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم؛ اهدني ... ") إلى آخره، رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه على شرط الشيخين. وروى البيهقي عن ابن عباس وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع أيضاً، لكن رواه القنوت بعده أكثر وأحفظ؛ فهو أولى، وعلى هذا درج الخلفاء الراشدون في أشهر الروايات عنهم وأكثرها، فلو قنت قبله .. لم يجزه ويسجد للسهو إن قنت بنيته؛ لأنه عمل من أعمال الصلاة أوقعه في غير محله، نقله في "المجموع" عن نص "الأم"، وهو موافق لما قالوه في القراءة في غير محلها، ولا يشكل بدعاء الافتتاح والتسبيح والدعاء في غير محلها؛ حيث لا يسجد فيها للسهو كما جزم به في "المجموع"، خلافاً لما يقتضيه كلام "الكفاية" في (باب العيد) لأن الأبعاض آكد من بقية السنن. نعم، صحح فيه: أنه يسجد لقراءة غير (الفاتحة) في غير محلها كـ (الفاتحة)، ويوجه بتأكيدها وشبهها بـ (الفاتحة) فالأبعاض المذكورة يجبر تركها عمداً أو سهواً بالسجود، وسميت أبعاضاً؛ لتأكد شأنها بالجبر تشبيهاً بالبعض حقيقة. وفي بعض النسخ بدل البيت الأخير: (في الصبح ثاني ركعة والوتر ... في نصف شهر رمضان الآخر) ولفظ القنوت: (اللهم؛ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت؛ فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت). قال الرافعي: وهذا ما روي في الحديث، وزد العلماء: (ولا يعز من عاديت) قبل (تباركت ربنا وتعاليت) وبعده: (فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك)،

زاد في "الروضة": ولا بأس بهذه الزيادة، وقال الشيخ أبو حامد وآخرون: هي مستحبة؛ وقد جاءت رواية البيهقي بزيادة: (ولا يعز من عاديت). فإن كان إماماً .. أتى بلفظ الجميع في ضمير المتكلم، وعليه حملت رواية البيهقي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاءً ندعو به في قنوت صلاة الصبح: اللهم؛ اهدنا ... ) إلى آخره. قال في "الأذكار": ويستحب أن يقول عقب هذا الدعاء: (اللهم؛ صل على محمد وعلى آل محمد وسلم). قال في "المجموع" عن البغوي: وتكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، ويسن للإمام والمنفرد برضا محصورين: الجمع في قنوت الوتر بين القنوت السابق وقنوت عمر رضي الله تعالى عنه وهو: (اللهم؛ إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثنى عليك الخبر كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم؛ إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك؛ إن عذابك الجد بالكفار محلق، اللهم؛ عذب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم؛ اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق، واجعلنا منهم). والأولى تأخيره عن القنوت السابق، فإن اقتصر على أحدهما .. فعلى الأول. والصحيح: سن رفع يديه في القنوت؛ للاتباع رواه البيهقي بإسناد جيد، وكذا في كل دعاء، ويسن جعل ظهرهما للسماء إن دعا لدفع بلاء، وعكسه إن دعا لتحصيل شيء، قال في "المجموع": في سن مسج وجهه بهما وجهان: أشهرهما: نعم، وأصحهما: لا، قال البيهقي: لا أحفظ في مسحه هنا عن أحد من السلف شيئاً وإن روي عن بعضهم في الدعاء

خارج الصلاة، وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ضعيف مستعمل عند بعضهم خارجها، فأما فيها .. فعمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس، والأولى ألا يفعله، وأما مسح غيره من الصدر وغيره .. فمكروه، وما نقله من سن مسحه خارجها .. جزم به في "التحقيق". ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية؛ للاتباع رواه البخاري، قال الماوردي: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، ويؤمن المأموم للدعاء. ومنه: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما جزم به الطبري شارح "التنبيه"، ويقول الثناء، فإن لم يسمعه أو سمع صوتاً لم يفهمه .. قنت، ويسن القنوت في سائر المكتوبات للنازلة؛ كالوباء والقحط والعدو، لا مطلقاً على المشهور. [الأذان والإقامة] (سننها من قبلها: الأذان مع ... إقامة، ولو بصحراء تقع) أي: من سنن الصلاة التي قبلها: الأذان والإقامة؛ أي: فهما سنتا كفاية في المكتوبات ولو فائتة دون النافلة والمنذورة، والأصل في مشروعيتها قبل الإجماع من الكتاب قوله تعالى: {إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة}، وقوله: {وإذا ناديتم إلى الصلوة}، ومن السنة أخبار كثيرة، منها: خبر "الصحيحين": "إذا حضرت الصلاة .. فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"، وفي رواية: "فأذنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما"، وخبر عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس؛ لجمع الصلاة .. طاف بي وأنا نائم يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله؛ أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعوا به إلى الصلاة، قال: أولا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله

أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله). ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا قمت إلى الصلاة: (الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله). فلما أصبحت .. أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيته، فقال: "إنها رؤيا حق إن شاء الله، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت؛ فإنه أندى صوتاً منك"، فقمت مع بلال فجلعت ألقيه عليه .. فيؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو في بيته .. فخرج يجر رداءه وهو يقول: والذي بعثك بالحق نبياً يا رسول الله؛ لقد رأيت مثل ما رأى، فقال صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد" رواه أبو داوود بإسناد صحيح، وروى الترمذي بعضه بطريق أبي داوود وقال: حسن صحيح. وإنما لم يجبا وإن كانا من شعائر الإسلام الظاهرة؛ لأنهما إعلام بالصلاة ودعاء إليهما كقوله: (الصلاة جامعة) حيث يسن في نفل تشرع فيه الجماعة، ولأنه لم يأمر بهما في خبر المسيء صلاته كما ذكر فيه الوضوء والاستقبال وأركان الصلاة، ولأنه ترك الأذان في اثانية الجمع، ولو كان واجباً .. لما ترك للجمع الذي ليس بواجب. وأقل ما تحصل به سنة الأذان: أن ينتشر في جميع أهل ذلك المكان، حتى إذا كبر .. أذن في كل جانب واحد؛ لينشر في جميعهم، فإن أذن واحد فقط .. حصلت السنة في جانب السامعين دون غيرهم، وكما أن الأذان والإقامة سنتان للجماعة .. فهما سنتان للمنفرد ولو كان في صحراء أو بلد وبلغه أذان غيره؛ كما صححه النووي في "تحقيقه" وغيره، ونقله في "مجموعه" عن نص "الأم"، وإن صحح في "شرح مسلم" أنه لا يؤذن إن سمع أذان غيره.

ويكفي في أذانه إعلام نفسه، بخلاف أذان الإعلام، ويسن أن يرفع صوته؛ لخبر البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أن أبا سعيد الخدري قال له: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة .. فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء .. إلا شهد له يوم القيامة، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: سمعت ما قلت لك بخطاب لي، كما فهمه الماوردي والإمام والغزالي، وأوردوه باللفظ الدال على ذلك؛ ليظهر الاستدلال به على أذان المنفرد ورفع صوته به، وقيل: إن ضمير (سمعته) لقوله: (لا يسمع ... ) إلى آخره. واستثني من رفع صوته ما إذا أذن في مكان وقعت فيه جماعة، قال في "الروضة" و"أصلها": وانصرفوا؛ لئلا يتوهم السامعون دخول وقت صلاة أخرى. (شرطهما: الولا، وترتيب ظهر ... وفي مؤذن: مميز ذكر) (أسلم والمؤذن المرتب ... معرفة الأوقات لا المحتسب) [شروط الأذان والإقامة] أي: شرط الأذان والإقامة: الولاء والترتيب لهما؛ لأنهما جاءا كذلك في خبر مسلم وغيره، ولأن ترك كل منهما يوهم اللعب ويخل بالإعلام، فلو ترك الترتيب .. لم يصح، لكن يبني على المنتظم، والاستئناف أولى؛ إذ الولاء لم يصح، ولا يضر يسير سكوت؛ لأن مثله يقع للتنفس والاستراحة، ولا يسير الكلام؛ لأنه لا يخل بالغرض، ولا يسير نوم وإغماء، لكن يسن فيهما الاستئناف، وألا يتكلم ولو لمصلحة، فلو عطس .. حمد الله تعالى في نفسه وبنى، ولا يرد السلام، فلو رد أو شمت عاطساً أو تكلم لمصلحة .. لم يكره، ولو خاف وقوع أعمى في بئر، أو لدغ حية أو عقرب لغافل أو نحوهما .. وجب إنذاراه. وشرط كل منهما أيضاً: عدم صدوره من شخصين، فلا يصح بناء غيره على ما أتى به وإن قصر الفصل واشتبها صوتاً.

[شروط المؤذن] وشرط المؤذن: التمييز، فلا يصح أذان غير مميز من صبي ومجنون وطافح السكر؛ لعدم أهليته للعبادة. والذكورة، ولو عبداً أو صبياً، فلا يصح أذان الأنثى والخنثى للرجال والخناثى؛ كما لا تصح إمامتهما لهم، أما أذانهما لغير الرجال والخناثى .. فلا يسن، فلو أذنت امرأة لنفسها أو النساء سراً .. لم يكره، أو جهراً بأن رفعت صوتها فوق ما تسمع صواحبها .. حرم. والإسلام، فلا يصح أذان كافر؛ لعدم أهليته للعبادة؛ ولأنه لا يعتقد مصمونه، ولا الصلاة التي هو دعاء إليها؛ فإتيانه به ضرب من الاستهزاء، فلو أذن .. حكم بإسلامه بالشهادتين إن لم يكن عيسوياً، ويعتد بأذانه إن أعاد، أما العيسوي .. فلا يحكم بإسلامه بهما، والعيسوية: فرقة من اليهود تنسب إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصبهاني، كان في خلافة المنصور يعتقد أن محمداً رسو الله إلى العرب خاصة. والتمييز والإسلام شرطان للإقامة أيضاً. [شرط المؤذن المرتب] وشرط المؤذن المرتب: معرفة الأوقات، لا المحتسب الذي يؤذن لنفسه أو لجماعة احتساباً في بعض الأوقات، فلا تشترط معرفته الأوقات، بل إذا علم دخول الوقت .. صح أذانه، ولو أذن جاهلاً بدخول الوقت فصادفه .. اعتد به على الأصح، وفارق التيمم والصلاة باشتراط النية فيهما، هذا تبع فيه النووي في "مجموعة" حيث قال: وتشترط معرفة المؤذن بالمواقيت هكذا صرح باشتراطه صاحب "التتمة" وغيره، وأما ما حكاه الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي رضي الله عنه وقطع به، ووقع في كلام المحاملي وغيره: أنه يستحب كونه عارفاً بها .. فمؤول، قال: ونعني بالاشتراط في الراتب للأذان، أما من يؤذن لنفسه أو يؤذن لجماعة مرة .. فلا يشترط معرفته بها، بل إذا علم دخول الوقت .. صح أذانه؛ بدليل أذان الأعمى، ومن سمع الأذان من ثقة عالم بالوقت اطمأن إليه في تقليده؛ فجرى مجرى إخباره عن دخول الوقت. انتهى. وقد علم: أن شرط الأذان: الوقت، فلا يصح قبله إلا للصبح فيصح من نصف الليل، ويستحب له أذانان: قبل الفجر وبعده.

وقول المصنف: (مميز) بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: والشرط في مؤذن: مميز؛ أي: تمييز، من إطلاق اسم الفاعل على المصدر، وقوله: (والمؤذن المرتب)، وقوله: (لا المحتسب) بالجر عطفاً على (مؤذن)، وقوله: (معرفة الأوقات) بالرفع خبر ذلك المبتدأ المحذوف؛ أي: والشرط في المؤذن المرتب: معرفة الأوقات، ويصح كونها مرفوعة على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه في إعرابه؛ أي: وشرط المؤذن المرتب: معرفة الأوقات، وقد يجوز جرها على حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه على جره. [سنن الأذان والإقامة] (وسنة: ترتيله بعج ... والخفض في إقامة بدرج) (والالتفات فيهما إذ حيعلا ... وأن يكون طاهراً مستقبلا) (عدلاً أميناً صيتاً مثوبا ... لفجره مرجعاً محتسبا) (مرتفعاً، كقوله أجابه ... مستمع ولو مع الجنابة) (لكنه يبدل لفظ الجيعله ... - إذا حكى أذانه - بالحوقله) أي: السنة ترتيب الأذان؛ أي: التأني فيه؛ بأن يأتي بكلماته مبينة بلا تمطيط؛ لخبر: "إذا أذنت .. فترسل في أذانك، وإذا أقمت .. فاحدر" أي: بمهملات، ومعناه: أسرع، رواه الحاكم في "المستدرك" وأبو داوود والترمذي، ولأن الأذان للغائبين فالترتيل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين فالإدراج فيها أشبه. ويسن أن يقف على كلمات الأذان إلا التكبير فعلى كل كلمتين. وقوله: (بعج) أي: مع رفع صوت من المؤذن ما أمكنه بلا ضرر؛ للأمر به في خبر أبي سعيد المار، والسنة الخفض في إقامة بدرج؛ أي: مع إسراع من المقيم بكلماتها؛ لما مر. ولو أسر المؤذن لجماعة بشيء غير الترجيع الآتي .. لم يجزه؛ لفوات الإعلام، فيجب الإسماع ولو لواحد، وإسماع النفس يجزئ المؤذن لنفسه؛ لأن الغرض منه الذكر

لا الإعلام، وعلى هذا: حمل ما نقل عن النص من أنه لو أسر ببعضه .. صح، ولا يجزئ إسماع النفس من المقيم للجماعة؛ كما في الأذان وإن كان الرفع بها أخفض منه كما مر. والسنة: الالتفات فيهما؛ أي: في الأذان والإقامة إذ حيعلا؛ أي: وقت حيعلته يميناً في الأولى وشمالاً في الثانية من غير تحويل صدره عن القبلة وقدميه عن مكانهما؛ بأن يلتفت المؤذن عن يمينه فيقول: (حي على الصلاة) مرتين، ثم يلتفت عن يساره فيقول: (حي على الفلاح) مرتين، ويلتفت المقيم عن يمينه فيقول: (حي على الصلاة)، ثم يلتفت عن يساره فيقول: (حي على الفلاح)، والأصل في ذلك: خبر "الصحيحين" عن أبي جحيفة: (رأيت بلالاً يؤذن فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، فيقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الفلاح)، وفي رواية لأبي داوود بإسناد صحيح: (فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح .. لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر)، وفي رواية للترمذي صححها: (وإصبعاه في أذنيه). وسن الالتفات في الحيعلتين دون غيرهما؛ لأن غيرهما ذكر الله تعالى وهما خطاب الآدمي؛ كالسلام في الصلاة يلتفت فيه دون غيره من الأذكار، وفارق كراهة الالتفات في الخطبة؛ بأن المؤذن داع للغائبين والالتفات أبلغ في إعلامهم، والقصد من الإقامة أيضاً: الإعلام، والخطيب واعظ للحاضرين، فالأدب ألا يعرض عنهم، ولا يلتفت في قوله: (الصلاة خير من النوم) كما اقتضاه كلامهم. والسنة في المؤذن: أن يكون طاهراً من الحدث ولو أصغر، ومن الخبث؛ لخبر: "كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أو قال: "على طهارة" رواه أبو داوود وغيره، وقال في "المجموع": إنه صحيح، ولأنه يدعو إلى الصلاة فليكن بصفة من يمكنه فعلها، وإلا .. فهو واعظ غير متعظ، فيكره أذان المحدث، وأذان الجنب أشد كراهة، وكراهة الإقامة من كل منهما أشد من كراهة الأذان منه، ويجزئ أذان الجنب وإقامته وإن كان في المسجد ومكشوف العورة؛ لحصول الإعلام، والتحريم لمعنى آخر، فإن أحدث ولو حدثاً أكبر في أذانه ..

استحب إتمامه، ولا يقطعه ليتوضأ، فإن توضأ ولم يطل .. بنى. وأن يكون مستقبلاً للقبلة؛ لأنه المنقول سلفاً وخلفاً، ولأنها أشرف الجهات. وأن يكون عدلاً أميناً؛ ليقبل خبره عن الأوقات، ويؤمن نظره إلى العورات، فيكره أذان الصبي والفاسق؛ لأنه لا يؤمن أن يؤذن في غير الوقت، ولا أن ينظر إلى العوراتن لكن تحصل بأذانه السنة وإن لم يقبل خبره في الوقت. وقول المصنف: (أميناً) بدل من قوله: (عدلاً) أفاد به: أن المراد عدل الرواية لا عدل الشهادة، ولكن يسن كونه حراً أيضاً؛ لأنه أكمل من غيره. وأن يكون صيتاً؛ أي: عالي الصوت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في خبر عبد الله بن زيد: "ألقه على بلال؛ فإنه أندى منك صوتاً" أي: أبعد مدى، وقيل: أحسن صوتاً، ولهذا: يسن كونه حسن الصوت، ولأنه صلى الله عليه وسلم اختار أبا محذورة لحسن صوته، ولأنه أرق لسامعيه فيكون ميلهم إلى الإجابة أكثر، ولزيادة الإبلاغ. وأن يكون مثوباً - بالمثلثة - لفجره؛ بأن يقول بعد الحيعلات في أذانه: (الصلاة خير من النوم) مرتين لوروده في خبر أبي داوود وغيره بإسناد جيد كما في "المجموع"، وهو من ثاب؛ أي: رجع؛ لأن المؤذن دعا إلى الصلاة بالحيعلتين، ثم عاد فدعا إليها بذلك، وخص بالصبح؛ لما يعرض للنائم من التكاسل بسبب النوم، وشمل إطلاقه - كالغزالي وغيره -: أذاني الصبح؛ فيثوب فيهما، وصححه في "التحقيق"، لكن في "التهذيب": إن ثوب في الأول .. لا يثوب في الثاني على الأصح، وأقراه في "الروضة" و"أصلها"، واقتصر على نقله في "الشرح الصغير"، وفي "المجموع": ظاهر كلام الأصحاب: أنه يثوب فيهما، ثم ذكر كلام "التهذيب"، ويثوب في أذان الفائتة أيضاً كما صرح به ابن عجيل اليمني؛ نظراً إلى أصله، ويكره التثويب لغير الصبح؛ لخبر "الصحيحين": "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه .. فهو رد".

وأن يكون مرجعاً في أذانه؛ بأن يخفض صوته بكلمات الشهادتين وهن أربع؛ بأن يسمع من يقربه، أو أهل المسجد إن كان واقفاً عليهم وكان المسجد مقتصد الخطة قبل رفعه بها؛ كما رواه مسلم عن أبي محذورة، وسمي ترجيعاً؛ لأنه رجع إلى الرفع بعد أن تركه، أو إلى الشهادتين بعد ذكرهما، وحكمته: تدبر كلمتي الشهادة والإخلاص فيهما؛ لكونهما المنجيتين من الكفر المدخلتين في الإسلام، وتذكر خفائهما في أول الإسلام، ثم ظهورهما، وظاهر كلام "الروضة" و"أصلها": أنه اسم للمجموع، لكن صرح النووي في "مجموعه" و"تحقيقه" و"دقائقه" و"تحريره" بأنه اسم للأول، وصوبه بعضهم وفي "شرح مسلم" كـ"حاوي الماوردي" بأنه اسم للثاني، فكلمات الأذان بالترجيع تسع عشرة كلمة، وكلمات الإقامة إحدى عشرة. وأن يكون محتسباً بأذانه أجراً عند الله تعالى بألا يأخذ عليه أجراً؛ لخبر الترمذي وغيره: "من أذن سبع سنين محتسباً .. كتب الله له براءة من النار"، ولقول عثمان ابن أبي العاصي: آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً" رواه الترمذي وحسنه، ولكل أحد الرزق عليه من ماله، وللإمام عند فقد محتسب الرزق عليه من مال المصالح عند الحاجة بقدرها. قال في "المجموع": قال أصحابنا: ولا يجوز أن يرزق مؤذناً وهو يجد متبرعاً عدلاً؛ كما نص عليه، قال القاضي حسين: لأن الإمام في بيت المال كالوصي في مال اليتيم، والوصي لو وجد من يعمل في مال اليتيم متبرعاً .. لم يجز له أن يستأجر عليه من مال اليتيم فكذا الإمام، فلو احتسب فاسق .. فله رزق أمين، أو أمين .. فله رزق من هو أحسن صوتاً منه إن رآه مصلحة، ويجوز الاستئجار عليه، ثم إن كان من بيت المال .. لم يشترط بيان المدة، بل يكفي كل شهر بكذا؛ كالجزية والخراج، أو من مال الإمام، أو كان المستأجر أحد الرعية .. اشترط بيانها، والرزق: أن يعطيه ما يكفيه وعياله، والأجرة: ما يقع به التراضي. وأن يكون مرتفعاً على شيء عال كمنارة وسطح؛ لخبر "الصحيحين": (كان لرسول الله

صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم، ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا)، ولخبر البيهقي بإسناد صحيح: أن عبد الله بن زيد قال: (يا رسول الله؛ رأيت في المنام رجلاً قام على جذم حائط فأذن وأقام)، ولزيادة الإعلام، و (الجذم) بكسر الجيم وسكون المعجمة: الأصل، بخلاف الإقامة لا تسن على عال إلا في مسجد كبير يحتاج فيه إلى علو للإعلام بها. وقوله: (كقوله أجابه ... ) إلى آخره؛ أي: مثل قول المؤذن؛ أي: أو المقيم أجابه ندباً مستمع له؛ أي: وسامعه؛ بأن يجيب كل كلمة عقبها ولو مع الجناية أو الحيض أو النفاس، لكنه يبدل لفظ الحيعلة إذا حكى أذانه؛ أي: أو إقامته بالحوقلة؛ أي: بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) أربعاً في إجابة المؤذن، ومرتين في إجابة المقيم، والمعنى: لا حول لي عن المعصية، ولا قوة لي على ما دعوتني إليه إلا بك، ويقول في كلمتي الإقامة: (أقامها الله وأدامها، وجعلني من صالحي أهلها)، ويقول في التثويب: (صدقت وبررت)؛ والأصل في ذلك خبر: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبرن فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه .. دخل الجنة" رواه مسلم، وهو مبين لخبره الآخر: "إذا سمعتم المؤذن .. فقولوا مثلما يقول"، ولأن إجابته تدل على رضاه به وموافقته في ذلك. وإنما سن للجنب ونحوه ذلك؛ لأنه ذكر، وهم من أهله. وأفهم كلامه كغيره: أنه لو علم أذانه ولم يسمعه لصمم أو نحوه .. لا تسن إجابته، وقال في "المجموع": إنه الظاهر؛ لأنها معلقة بالسماع في خبر: "إذا سمعتم المؤذن"، وكما في نظيره من تشميت العاطس، ولو تركها بغير عذر حتى فرغ المؤذن .. فالظاهر: تداركه إن قصر الفصل، قال: وإذا لم يسمع الترجيع .. فالظاهر: أنه يسن له الإجابة فيه؛ لقوله صلى الله

عليه وسلم: "فقولوا مثل ما يقول"، ولم يقل: مثل ما تسمعون، وأفتى البارزي بأنها لا تسن، نقله في "التوشيح". قال في "المجموع": وإذا سمع مؤذناً بعد مؤذن .. فالمختار: أن أصل الفضيلة في الإجابة شامل للجميع إلا أن الأول متأكد يكره تركه، وقال ابن عبد السلام: إجابة الأول أفضل إلا أذاني الصبح فلا أفضلية فيهما؛ لتقدم الأول ووقوع الثاني في الوقت، وإلا أذاني الجمعة؛ لتقدم الأول ومشروعية الثاني في زمنه صلى الله عليه وسلم. انتهى. وشمل كلامه: القارئ فيقطع القراءة ويجيب، بخلاف المصلي ولو نفلاً يكره له أن يجيب في صلاته، بل تبطل إن أتى بشيء من الحيعلتين، أو بـ (الصلاة خير من النوم)، أو بـ (صدقت وبررت) لأن ذلك كلام آدمي. نعم؛ يندب أن يجيب عقب الفراغ منها إن لم يطل الفصل، ومثله المجامع، وقاضي الحاجة. ويسن لكل من المؤذن والسامع أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، ثم يقول: (اللهم؛ رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته). وأن يقول عقب الفراغ من أذان المغرب: (اللهم؛ هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي). ومن أذان الصبح: (اللهم؛ هذا إقبال نهارك وإدبار ليلك ... ) إلى آخره. وأن يقول المؤذن بعد فراغه في ليلة مطيرة أو ريح أو ظلمة: (ألا صلوا في رحالكم)، فإن قاله بعد الحيعلتين .. فلا بأس، قاله في "الروضة" وغيرها، ويجيبه السامع بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) قياساً على الحيعلتين، قاله في "المهمات". وألف (حيعلا) للإطلاق، واللام في قوله: (لفجره) للتعليل، أو بمعنى: (في)، وتعبيره كالأزهري بـ (الحوقلة) بأخذ الحاء والواو من (حول) والقاف من (قوة) واللام من اسم الله تعالى، قال بعضهم: إنه أحسن؛ لتضمنه جميع الألفاظ، ويجوز فيه التعبير

بـ (الحولقة) كما عبر به الجوهري بتركيبه من حاء (حول) وقاف (قوة)، وما قيل: من أن الصواب: إدخال الباء بعد لفظ الإبدال على المتروك لا المأخوذ كما عبر به المصنف كغيره .. مردود. (والرفع لليدين للإحرام سن ... بحيث الإبهام حذا شحم الأذن) (مكشوفة، وفرق الأصابعا ... ويبتدي التكبير حين رفعا) (ولركوع واعتدال بالفقاز ... ووضع يمناه على كوع اليسار) (أسفل صدر ناظراً محلا ... سجوده، (وجهت وجهي) الكلا) في هذه الأبيات تسع مسائل: [استحباب رفع اليدين في تكبيرة الإحرام] الأولى: يسن الرفع لليدين في تكبيرة الإحرام؛ بحيث تكون الإبهام حذاء شحم الأذن مستقبلاً بكفيه؛ لخبر ابن عمر: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة .. يرفع يديه حذو منكبيه) متفق عليه، قال النووي في "شرح مسلم": معنى حذو منكبيه، وذال (حذو) ما تصرف منه: معجمة. ولو قطعت يده من الكوع .. رفع الساعد، أو من الرفق .. رفع العضد؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، فإن عجز عن رفع يديه أو إحداهما إلى هذا الحد وأمكنه الزيادة أو النقص .. فعل الممكن، أو أمكناه .. فالأولى الزيادة. [استحباب كشف الكفين عند الرفع] الثانية: يسن كشف الكفين عند الرفع، وهذا معنى قوله: (مكشوفة) أي: حال كون كل من كفيه مكشوفة.

[استحباب تفرقة الأصابع في رفع اليدين] الثالثة: يسن تفرقة أصابعهما قال في "الروضة" كـ"أصلها": وسطاً، وحكاه في "المجموع" عن الرافعي، ثم قال: والمشهور: ما قطع به الجمهور استحباب التفريق، وصححه في "التحقيق" أي: بلا تقييد بوسط، وفهم عنه في "المهمات" استحباب المبالغة فصرح بها. [ابتداء التكبير وانتهاؤه مع رفع اليدين] الرابعة: يبتدئ التكبير ندباً حين يرفع يديه؛ بأن يبتدئه مع ابتداء تحرمه وينهيه مع انتهائه كما صححه في "التحقيق" وشرحي "المهذب" و"الوسيط" ونقله فيهما عن نص "الأم"، قال في "المهمات": وهو المفتى به، لكنه صحح في "الروضة" كـ"أصلها": أنه لا استحباب في الانتهاء، بل إن فرغ منهما معاً .. فلا كلام، وإن فرغ من أحدهما قبل الآخر .. أتممه. [استحباب رفع اليدين للركوع] الخامسة: يسن رفع يديه للركوع؛ بأن يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، فإذا حاذى كفاه منكبيه .. انحنى. [استحباب رفع اليدين للاعتدال] السادسة: يسن رفع يديه للاعتدال بنصب الفقار؛ بأن يبتدئ الرفع مع ابتداء رفع رأسه من الركوع، فإذا استوى .. أرسلهما إرسالاً خفيفاً إلى تحت صدره فقط، فلو ترك الرفع سهواً أو عمداً .. تداركه في أثناء التكبير أو التسميع، وإن أتممه .. لم يرفع، قال في "المجموع": قال في "الأم": ولو تركه في جميع ما أمرته به أو فعله حيث لم آمره به .. كرهت له ذلك. وأفهم كلام المصنف: أنه لا يسن الرفع للسجود ولا للقيام من جلسة الاستراحة والتشهد

الأول، وهو ما في "الرافعي" وغيره، ونقله النووي في الأخيرة عن الجمهور، لكنه حكى فيها وجهاً: أنه يسن الرفع، وقال: إنه الصحيح أو الصواب؛ فقد ثبت في "صحيح البخاري" وغيره، ونص عليه الشافعي. و(الفقار) بفتح الفاء: عظام الظهر؛ جمع فقره بفتح الفاء وكسرها وسكون القاف. [هيئة اليدين أثناء القيام] السابعة: يسن للمصلي في القيام أو بدله وضع يمناه على كوع يسراه وبعض ساعده ورسغه باسطاً أصابعها في عرض المفصل أسفل صدره، وقيل: يتخير بين بسط أصابع يمناه في عرض المفصل وبين نشرها في صوب الساعد؛ والأصل في ذلك: خبر مسلم عن وائل بن حجر: (أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى)، زاد ابن خزيمة: (على صدره) أي: فيكون آخر اليد تحته، وروى أبو داوود بإسناد صحيح: (على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد). قال في "الأم": والقصد م وضع اليمنى على اليسرى: تسكين يديه، فإن أرسلهما بلا عبث .. فلا بأس، والحكمة في جعلهما تحت الصدر: أن تكونا فوق أشرف الأعضاء وهو القلب؛ فإنه تحت الصدر، وقيل: الحكمة فيه: أن القلب محل النية، والعادة جارية بأن من احتفظ على شيء .. جعل يديه عليه، ولهذا: يقال في المبالغة: أخذ بكلتا يديه. و(الكوع) والكاع: العظم الذي يلي إبهام اليد، كما أن البوع: العظم الذي يلي إبهام الرجل، وأما الذي يلي الخنصر .. فكرسوع بضم الكاف، و (الرسغ) بالسين المهملة أفصح من الصاد؛ وهو المفصل بين الكف والساعد، و (اليد) مؤنثة، ولهذا: توصف باليمنى واليسرى. [استحباب نظر المصلي لموضع سجوده] الثامنة: يسن للمصلي إدامة نظره في جميع صلاته إلى محل سجوده، وهذا معنى قوله: (ناظراً محلاً سجوده) أي: حال كون ناظراً في جميع صلاته موضع سجوده ولو في ظلمة؛ لأن

جمع النظر في مكان واحد أقرب إلى الخشوع، ومكان سجوده أشرف من غيره، إلا في تشهده .. فالسنة: ألا يجاوز بصره مسبحته، واستثنى جماعة منهم الماوردي والروياني المصلي في المسجد الحرام .. فالمستحب له النظر إلى الكعبة لا إلى موضع سجوده، لكن صوب البلقيني في "فتاويه" أنه كغيره، قال بعضهم: وينبغي أن ينظر في صلاة الجنازة إلى الميت. [استحباب دعاء الافتتاح] التاسعة: يسن للمصلي بعد تحرمه ولو بالنفل: (وجهت وجهي ... الكلا) أي: إلى آخره، وهو: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين) للاتباع، رواه مسلم إلا (مسلماً) فابن حبان. ولا فرق في التعبير بهذا اللفظ بن الرجل والمرأة والخنثى على إرادة الشخص، وفي "مستدرك الحاكم": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "قومي فاشهدي أضحيتك، وقولي: إن صلاتي ونسكي ... " إلى قوله: "وأنا المسلمين". قال في "الروضة" كـ"أصلها": ويزيد المنفرد وإمام محصورين علم رضاهم بالتطويل: (اللهم؛ أنت الملك لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعها؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاف لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك). وقد صح في دعاء الافتتاح أخبار، منها: "اللهم؛ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم؛ نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم؛ اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" رواه الشيخان، ومنها:

"الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً طيباً فيه"، ومنها: "الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً" رواهما مسلم. قال النووي: وبأيها افتتح .. أتى بأصل السنة، لكن أفضلها الأول. فلو ترك الافتتاح حتى تعوذ .. لم يأت به؛ لفوات محله، ويأتي به المسبوق بعد تأمينه مع الإمام؛ لقصره لا بعد جلوسه أو سجوده معه؛ لطوله، ولا إذا خشي عدم إكماله (الفاتحة)، ولا المصلي على الجنازة؛ لطلب التخفيف. والألف في قوله: (الأصابعا) و (رفعا) و (محلا) و (الكلا) للإطلاق. (وكل ركعة تعوذ يسر ... ومع إمامه بـ (آمين) جهر فيه مسألتان: [استحباب التعوذ في كل ركعة] الأولى: يسن بعد الافتتاح التعوذ في كل ركعة؛ لقوله تعالى {فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطن الرجيم} أي: إذا أردت قراءته، ولحصول الفصل بين القراءتين بالركوع وغيره، لكنه في الأولى آكد؛ لأن افتتاح قراءته في الصلاة إنما يكون فيها، ويحصل بكل ما اشتمل على التعوذ من الشيطان، وأفضله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، ويستثنى المأموم؛ إذا خاف عدم إكماله (الفاتحة) كما مر. ومقتضى كلام الشيخين: استحباب التعوذ لمن أتى بالذكر؛ لعجزه عن القراءة، لكن قال في "المهمات": إن المتجه خلافه. وخرج بقول المصنف: (كل ركعة) ما لو فصل بين القراءتين بسجود التلاوة .. فإنه لا يسن إعادة التعوذ. وقوله: (يسر) ببنائه للمفعول؛ أي: يسن الإسرار بالتعوذ ولو في الجهرية كالافتتاح

بجامع تقديمهما (الفاتحة)، بخلافه خارج الصلاة؛ فإنه يجهر به قطعاً، ويكفيه تعوذ واحد ما لم يقطع قراءته بكلام أو سكوت طويل. [ندب التأمين عقب الفاتحة] الثانية: يسن للمأموم أن يجهر بـ (آمين) مع جهر إمامه بها في الصلاة الجهرية؛ موافقة له. أما ندب التأمين .. فلخبر "الصحيحين": "إذا أمن الإمام .. فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة .. غفر له ما تقدم من ذنه"، وفيهما أيضاً: "إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى .. غفر له ما تقدم من ذنبه"، زاد مسلم: «إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين»، على أن ندب التأمين لا يختص بالصلاة، لكنه فيها آكد. وأما ندب الجهر .. فللإتباع، رواه أبو داوود وغيره، وصححه ابن حبان وغيره، مع خير: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وأما ندب المعية .. فللخبرين الأولين؛ فإن ظاهرهما الأمر بها؛ بأن يقع تأمين الإمام والمأموم والملائكة دفعة واحدة، ولأن المأموم لا يؤمن لتأمين إمامه، بل لقراءته وقد فرغت، فإن لم تتفق موافقته للإمام .. أمن عقبه، فإن لم يم تأمينه أو أخره عن وقته المندوب .. أمن. قال في "المجموع": ولو قرأ معه وفرغا معاً .. كفى تأمين واحد، أو فرغ قبله .. قال البغوي: ينتظره، والمختار أو الصواب: أنه يؤمن لنفسه ثم للمتابعة. قال: ولو قال: (آمين رب العالمين)، وغيره من ذكر الله تعالى .. كان حسناً، ومتى اشتغل بغيره .. فات وإن قصر الفصل. وجهر الأنثى والخنثى به كجهرهما بالقراءة وسيأتي، وندب التأمين والجهر به يستوي فيه المنفرد وغيره إلا المأموم .. فيسر به لقراءة نفسه.

و (آمين) بالمد مع التخفيف كما في النظم وهو الأشهر، وبه مع الإمالة، وبه مع التشديد، وبالقصر مع التخفيف، وبه مع التشديد وهي شاذة، وهو على غير الثالثة: اسم فعل بمعنى: استجب، وعلى الثالثة بمعنى: قاصدين إليك، قال النووي: وهي شاذة، لكن لا تبطل بها الصلاة؛ لأن القصد بها الدعاء. وقوله: (وكل ركعة) يصح رفعه ونصبه. (وسورة والجهر أو سر أثر ... وعند أجنبي الأنثى تسر) فيه ثلاث مسائل: [استحباب سورة عقب الفاتحة] الأولى: يسن بعد (الفاتحة) سورة غيرها؛ أي: لغير فاقد الطهورين ذي الحدث الأكبر، ومأموم سمع قراءة إمامه في الركعتين الأوليين دون غيرهما؛ للاتباع، رواه الشيخان في غير المغرب، والنسائي فيه بإسناد حسن. وقيل: في غيرهما أيضاً؛ للاتباع، رواه الشيخان في الظهر والعصر، ومالك في المغرب، ويقاس بذلك العشاء. وفي ترجيحهم الأول تقديم لدليله النافي على دليل الثاني المثبت، عكس الراجح في الأصول؛ لما قام عندهم في ذلك. ومن سبق بالأخيرتين .. قرأها فيهما حيث يتداركهما؛ لئلا تخلو صلاته عن سورة. ويتأدى أصل السنة بقراءة شيء من القرآن، لكن السورة أفضل، حتى أن السورة القصيرة أولى من قدرها من طويلة كما في "الروضة" و"المجموع"، وفي "الشرحين": أولى من

بعض طويلة؛ أي: وإن طال، وهذا في غير التراويح، أما فيها .. فقراءة بعض الطويلة أفضل؛ كما أفتى به ابن عبد السلام، وعلله بأن السنة فيها القيام بجميع القرآن. ويسن للصبح طوال المفصل، وللظهر قريب منها، وللعصر والعشاء أوساطه إن انفرد أو آثره محصورون، وللمغرب قصاره، ولصبح الجمعة: [آلم تنزيل] السجدة و [هل أتى] بكمالهما، فإن ضاق الوقت .. أتى منهما بقدر ما أمكنه. وفي المفصل عشرة أقوال، أصحها: من الحجرات، قال ابن معن: وطواله إلى {عم}، ومنها إلى {الضحى} أوساطه، ومنها إلى آخر القرآن قصاره. قال في "المجموع": ويسن أن يقرأ على ترتيب المصحف، فلو خالف .. فخلاف الأولى، قال نقلاً عن المتولي: والمتنقل بأكثر من ركعتين إن اقتصر على تشهد .. سن له في كل ركعة، وإن أتى بتشهدين .. ففيه خلاف الأخيرتين في الفرائض. [استحباب الجهر بالقراءة والإسرار بها حيث أثرا] الثانية: يسن الجهر بالقراءة؛ حيث أثر ببنائه للمفعول؛ أي: نقل عن السنة، والإسرار بها؛ حيث نقل عن السنة، فيسن الجهر بالقراءة في الصبح والجمعة والأوليين من المغرب والعشاء، والمقضية فيما بين غروب المس وطلوعها، وفي العيدين، وخسوف القمر، والاستسقاء، والتراويح والوتر عقبها، وركعتي الطواف وقت الجهر، ويسن إسرار بها للمأموم مطلقاً ولغيره في الظهر ولعصر، وأخيرتي العشاء، وأخيرة المغرب، والمقضية فيما بين طلوع الشمس وغروبها، والجنازة، وفي الراتبة ولو ليلية. ويتوسط في بقية نوافل اللي بين الجهر والإسرار إلا أن يتاذى بجهره أحد أو يخاف الرياء قال بعضهم: التوسط بين الجهر والإسرار يعرف بالمقايسة بهما؛ كما أشار إليه قوله تعال: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}، قال الزركشي: والأحسن في تفسيره ما قاله بعض الأشياخ: أن يجهر تارة ويسر أخرى؛ كما ورد في فعله صلى الله عليه وسلم في صةلا الليل, ولا يستقيم تفسيره بغير ذلك؛ لعدم تعقل الواسطة بينهما؛ إذ حد الجهر أيسمع من يليه، والإسرار أن يسمع نفسه، فإن كان به مم أو ثم شاغل .. حرك لسانه وشفتيه؛ بحيث لو خلي عن ذلك .. لسمع.

[إسرار المرأة عند الأجنبي] الثالثة: تسر المرأة عند الأجنبي رجلاً كان أو خنثى؛ لأن صوتها وإن لم يكن عورة على الأصح .. يخشى منه الافتتان، فلو جهرت .. لم تبطل صلاتها، وتجهر فيما عداه، والخنثى كالأنثى، قال البندنيجي: وحيث قلنا تجهر المرأة .. فليكن جهرها دون جهر الرجل. انتهى، ومثلها الخنثى. [التكبير لانتقالات الصلاة] (وكبرن لسائر انتقال ... لكن مع التسميع لاعتدال) أي: يسن التكبير لسائر انتقالات الصلة؛ للاتباع، رواه الشيخان، مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ويجهر به الإمام والمبلغ، لكن مع التسميع لاعتدال؛ أي: من الركوع بأن يقول: (سمع الله لمن حمده) مع رفع رأسه، ثم إن كان إماماً أو مبلغا .. جهر به، وإلا .. أسر، كره في "المجموع". ومعنى (سمع الله لمن حمده): تقبله منه. فإذا اعتدل .. سن له أن يقول سراً: (ربنا ولك الحمد)، أو (ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد)، ويسن لغير الإمام، وله برضا محصورين زيادة: {أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد؛ وكلنا عبد: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي ما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد}، وإن لم يرضوا .. كره له ذلك، كذا في "الروضة" و"أصلها" وغيرهما. وإنما ندب التسميع للمأموم؛ للاتباع كما في "الصحيحين"، مع قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وانه ذكر يسن للإمام فسن لغيره كذكر الركوع وغيره، وأما خبر: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده .. فقالوا: ربنا لك الحمد" .. فمعناه: قولوا ذلك مع

ما علمتموه من (سمع الله لمن حمده) لعلمهم بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" مع قاعدة التأسي به مطلقاً، وإنما خص (ربنا لك الحمد) بالذكر؛ لأنهم كانوا لا يسمعونه غالباً ويسمعون (سمع الله لمن حمده). ويستحب مد التكبير إلى آخر الركوع، وكذا في سائر الانتقالات، فيمد التكبير من الفعل المتنقل عنه إلى الحصول في المتنقل إليه ولو فصل بينهما بجلسة الاستراحة حتى لا يخلو فعل من الصلاة عن ذكر. [الهيئة المستحبة للرجل في الركوع] (والرجل الراكع جافى مرفقه ... كما يسوي ظهره وعنقه) أي: والرجل الراكع جافى؛ أي: رفع ندباً مرفقه وبطنه عن فخذيه؛ للاتباع، رواه مسلم، وكما يفعل ذلك في ركوعه .. يفعله في سجوده كما سيأتي؛ للاتباع، رواه مسلم، فإن ترك ذلك .. كره، نص عليه في "الأم", أما المرأة والخنثى .. فيسن لهما ضم بعضهما إلى بعض وإلصاق بطنيهما بفخذيهما؛ لأنه أستر لهما وأحوط له. كما يسوي الراكع ظهره وعنقه ندباً؛ بحيث يصيران كالصفيحة؛ للاتباع, رواه مسلم, فإن ترك ذلك .. كره نص عليه في "الأم" ويسن هـ جعل كفيه على ركبتيه، ويأخذهما بهما منصوبتي الساقين والفخذين، وتفرقة أصابعه تفريقاً وسطاً للقبلة؛ للاتباع، رواه ابن حبان في "صحيحه" والبيهقي، ولأن ذلك أعون للمصلي، فلو عجز عن جعل كفيه على ركبتيه كما ذكر .. أتى بالممكن، أو عن وضعهما عليهما أصلاً .. أرسلهما، ولو قطع من الزندين .. لا يبلغ بهما الركبتين؛ إذ به يفوت استواء الظهر، بخلاف نظيره من رفع اليدين للتحرم وغيره، ذكره في "المجموع".

(والوضع لليدين بعد الركبة ... منشورة مضمومة للكعبة) (ورفع بطن ساجد عن فخذيه ... مفرقاً كالشبر بين قدميه) فيهما أربع مسائل: [ما يسن للمصلي إذا هوى لسجوده] الأولى: يسن للمصلي إذا هوى لسجوده .. أن يضع ركبتيه أولاً، ثم يضع يديه؛ أي: كفيه على الأرض في سجوده حذو منكبيه؛ لخبر وائل بن حجر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد .. وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض .. رفع يديه قبل ركبتيه) رواه الترمذي وحسنه، وابنا خزيمة وحبان وصححاه. ثم يسن له أيضاً: أن يضع جبهته وأنفه؛ للاتباع، رواه أبو داوود، ويضعهما دفعة واحدة، جزم به في "المحرر"، ونقله في "المجموع" عن البندنيجي وغيره، وفي موضع آخر منه عن الشيخ أبي حامد: يقدم أيهما شاء، وإنما لم يجب وضع الأنف كالجبهة مع أن خبر "الصحيحين" يقتضي الوجوب؛ حيث قال" "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وعلى الجبهة" وأشار بيده إلى أنفه، للأخبار الصحيحة المقتصرة على الجبهة، وتحمل أخبار الأنف على الندب. [ما يسن للمصلي في سجوده] الثانية: يسن له في سجوده أن كون أصابعه منشورة لا مقبوضة، مضمومة لا متفرقة، للقبلة؛ للاتباع بهما، رواه البخاري، قال الرافعي: حيث استحببنا نشر الأصابع .. فالسنة فيها التفريج المقتصد، لا في السجود، فإنها تضم ولا تفرق؛ لأن التفريق عدول عن القبلة.

ويسن أتكون مكشوفة؛ لظاهر الأخبار الصحيحة، وإنما لم يجب كشفها كالجبهة؛ لأنها إنما تكشف للحاجة فكانت كالقدم. [ما يسن للساجد الذكر] الثالثة: يسن للساجد الذكر رفع بطنه عن فخذيه ومرفقيه عن جنبيه؛ لما مر. [التفريق بين القدمين في الصلاة] الرابعة: يسن للمصلي أن يفرق بين قدميه في قيامه وركوعه واعتداله وسجوده تفريقاً وسطاً؛ بأن يكون بينهما قدر شبر، فيكون تفريقه ركبتيه في سجوده بقدر شبر. [جلسة الاستراحة] (وجلسة الراحة خففنها ... في كل ركعة تقوم عنها) أي: اجلس أيها المصلي جلسة الاستراحة وخففها ندباً؛ بأن تكون بقدر الجلوس بين السجدتين، ويكره أن تزيد على ذلك، في كل ركعة تقوم عنها؛ لخبر البخاري: "فإذا كان في وتر من صلاته .. لم ينهض حتى يستوي قاعداً" رواه أبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، وأما خبر وائل بن حجر: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجود .. استوى قائماً) .. فغريب أو محمول على بيان الجواز. وشمل كلامه: ما لو وصل أربع ركعات بتشهد .. فإنه يجلس للاستراحة في كل ركعة يقوم عنها؛ لأنها إذا ثبتت في الأوتار .. فمحل التشهد أولى، ولو فعلها المأموم دون إمامه أو عكسه .. لم يضر تخلفه؛ لأنه يسير، بخلاف التشهد الأول. ولا تسن بعد سجدة التلاوة في الصلاة، ولا للمصلي قاعداً؛ وهي أصلة بين الركعتين كالتشهد الأول وجلوسه، وقيل: من الأولى، وقيل: من لثانية، وفائدة الخلاف تظهر في التعليق على ركعته، قال البارزي في المسبوق: إذا أحرم والإمام فيها .. فيجلس معه على الأولين، وله انتظاره إلى القيام على الأخير، قال الإسنوي: فيه نظر.

(وسبح أن ركعت أو إن تسجد ... وضع على الفخذين في التشهد) (يديك، وأضمم ناشراً يسراكا ... وأقبض سوى سبابة يمناكا) (وعند (إلا الله) فالمهللة ... إرفع التوحيد الذي صليت له) فيها مسألتان: [استحباب التسبيح في الركوع والسجود] الأولى: يسن للمصلي التسبيح في ركوعه وسجوده؛ وهو أن يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم)، وفي سجوده: (سبحان ري الأعلى) لخبر أبي داوود: أنه لما نزل: {فسبح باسم ربك العظيم} .. قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل {سبح اسم ربك الأعلى} .. قال: " اجعلوها في سجودكم"، ويكون تسبيحه في كل منهما ثلاثاً؛ للاتباع، رواه أبو داوود، ويحصل أصل السنة في كل منهما بتسبيحه واحدة، والثلاث أدنى الكمال، وأكمله للمنفرد وإمام من علم رضاهم بالتطويل: إحدى عشرة. وهل يستحب أن يضيف إليه (وبحمده)؟ قال الرافعي: استحبه بعضهم، وقال النووي: استحبه الأكثرون، وجزم به في "التحقيق". ويزيد النفرد وإمام الراضين به في الركوع: (اللهم؛ لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي، وما استقلت به قدمي، لله رب العالمين) للاتباع، رواه مسلم إلى (عصبي)، وابن حبان إلى آخره. وفي السجود: (اللهم؛ لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) للاتباع، رواه مسلم.

[هيئة اليدين في التشهد] الثانية: يسن للمصلي وضع يديه على فخذيه قريباً من ركبتيه؛ اليمنى على اليمنى واليسرى على اليسرى، ويسن كونه ناشراً اصابع يسراه مضمومة؛ لتتوجه جميعها إلى القبلة لا متفرقة، وكونه قابضاً من أصابع يمناه ما سوى السبابة وهي التي تلي الإبهام؛ للاتباع، رواه مسلم؛ وذلك بأن يقبض من يمناه الخنصر والبنصر والوسطى ويرسل السبابة، ويضع الإبهام على حرف راحته، ويرفع المهللة؛ أي: المسبحة عند بلوغ همزة (إلا الله) للاتباع، رواه مسلم، وإشارة إلى توحيد الذي صلى له؛ ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد، وفي "رونق الشيخ أبي حامد" و"لباب المحاملي" يرفعها منحنية قليلاً، وفيه خبر صحيح في "أبي داود"، ووجه الجيلي ذلك: بأنه أبلغ في الخضوع. وخصت المسبحة بذلك؛ لأن لها اتصالاً بنياط القلب فكأنها سبب لحضوره، ولا يسن تحريكها؛ للاتباع، رواه أبو داوود والبيهقي، وقيل: يحركها؛ للاتباع، رواه البيهقي وقال: الحديثان صحيحان، قال: ويحتمل أن يكون المراد بتحريكها في خبره: رفعها لا تكرير تحريكها، وتقديمهم النافي على المثبت؛ لما قام عندهم في ذلك، قال بعضهم ولعل منه كون التحريك قد يذهب الخشوع، وعلى الأصح: يكره تحريكها. ويسن أن يكون رفعها إلى القبلة، وأن ينوي به الإخلاص بالتوحيد، قال الشيخ نصر المقدسي: وأن يقيمها ولا يضعها. ويكره رفع مسبحة اليسرى؛ لفوات سنة بسطها ولهذا: لا يرفعها ولا غيرها لو قطعت اليمنى، وسميت بالسبابة؛ لأنه يشار بها عند المخاصمة والسب، وتسمى أيضاً: بالمسبحة؛ لأنه يشار بها إلى التوحيد والتنزيه؛ إذ التسبيح التنزيه. وقوله: (وسبح أن ركعت) بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، والألف في (يسراكا) و (يمناكا) للإطلاق.

(والثان من تسليمه التفاته ... ونية الخروج من صلاته) (ينوي الإمام حاضريه بالسلام ... وهم نووا رداً على هذا الإمام) فيهما أربع مسائل: [استحباب التسليمة الثانية] الأولى: التسليمة الثانية سنة؛ لخبر ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله) قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأجاب ائمتنا عن أخبار التسليمة الواحدة بأنها ضعيفة، أو لبيان الجواز، وبأن أخبار التسليمتين زيادة ثقة فيجب قبولها. نعم؛ يجب الاقتصار على واحدة إذا عرض له عقبها ما ينافي صلاته؛ كأن خرج وقت الجمعة بعد الأولى، أو انقضت مدة المسح أو شك فيها أو تخرق الخف، أو نوى القاصر الإقامة، أو انكشفت عورته، أو علم خطأ اجتهاده. قال في "المجموع": ولا يسن زيادة (وبركاته) على الصحيح والصواب الموجود في الأخبار الصحيحة وكتب الشافعي والأصحاب. والتسليمة الثانية من لواحق الصلاة ومستحباتها لا منها نفسها، وإلا .. بطلت بوجود منافيها قبلها. [استحباب التفات المصلي في التسليمتين] الثانية: يسن التفات المصلي في تسليمته الأولى حتى يرى خده الأيمن، وفى الثانية الأيسر؛ للاتباع، رواه ابن حبان في "صحيحه"، ويسن أن يبتدئ بالتسليمة مستقبل القبلة ثم يلتفت؛ بحيث يكون انقضاؤها مع تمام الالتفات، والابتداء باليمين مستحب. [استحباب نية الخروج من الصلاة بالتسليمة الأولى] الثالث: يسن لكل مصل أن ينوي الخروج من صلاته بالتسليمة الأولى مقارنة لها كما في تكبيرة التحريم؛ خروجاً من خلاف من أوجبها كنية التحرم؛ لأن السلام ذكر واجب في أحد

طرفي الصلاة كالتكبير، وأجاب من لم يوجبها بالقياس على سائر العبادات، حيث لا يجب فيها نية الخروج، لأن النية تليق بالإقدام دون الترك، ولأن السلام جزء من أجزاء الصلاة غير أولها فلم يفتقر إلى نية تخصه كسائر الأجزاء، ولهذا لا يضر الخطأ في تعيين غير ما هو فيه، كما لو دخل في ظهر وظنها في الركعة الثانية عصرا، ثم ذكر في الثالثة .. تصح صلاته. ويسن للمأموم أن يسلم بعد تسليمتي إمام ولو قارن سلامه سلام إمامه .. جاز مع الكراهة. [ما يستحب أن ينوي الإمام والمأموم بسلامهما] الرابعة: ينوي الإمام ندبا بسلامه السلام على حاضريه، أي: على من التفت من ملائكة ومؤمني إنس وجن، بأن ينويه بمرة اليمين على من عن يمينه، وبمرة اليسار على من مر على يساره، وبآيتهما شاء على من خلفه وبالأولي أفضل. وكالإمام في ذلك: المأموم والمنفرد. وهم، أى: المأمون نووا ندبا الرد على الإمام، فينويه منهم من على يمينه بالتسليمة الثانية، ومن على يساره بالأولي، ومن خلفه بأيهما شاء، وبالأولي أفضل، ويستحب أن ينوي بعض المأمومين الرد على بعض، والأصل في ذلك: خبر علي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن معهم من المسلمين والمؤمنين) رواه الترمذي وحسنه، وخبرة سمرة: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض) رواه أبو داوود وغيره. ويسن أن يدرج السلام، لقول أبي هريرة رضي الله عنه: (حذف السلام سنه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، قال ابن المبارك: معناه: لا يمد مدا. وقول المصنف: (والثان) بحذف الياء للتخفيف.

[شروط الصلاة] ولما فرغ من سننها ... ذكر شروطها فقال: (شروطُهَا الإسلامُ والتَّمييزُ ... للسَّبْعِ في الغالِبِ والتَّمييزُ) (للفرضِ مِن نَفْلٍ لِمَن يَشتَغِلُ ... والفَرضُ لا يُنوَى به التَّنَفُّلُ) الشروط: جمع شرط، وهو لغة: العلامة، واصطلاحا: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. وشروط الصلاة على ما ذكره المصنف اثنا عشر: [الشرط الأول: الإسلام] أولها: الإسلام في تصح لكافر، كغيرها من العبادات. [الشرط الثاني] ثانيهما: التمييز لسبع سنين في الغالب، فلا تصح من غير مميز كمجنون، لعدم أهليته للعبادة. [الشرط الثالث: تمييز فرض الصلاة من نفلها] ثالثهما: تمييز فرض الصلاة من نفلها لمن يشتغل بالفقه وهو غير العامي، فلو اعتقد أن جميع أفعالها سنة، أو بعضها فرض وبعضها سنة ولم يميز ... لم تصح صلاته قطعا، وإن اعتقد أن جميع أفعالها فرض ... صحت صلاته على الأصح، لأنه ليس فيه أكثر من أنه أدي سنه باعتقاد الفرض وذلك لا يؤثر. وقوله: (والفرض لا ينوي به التنفل) أى: من العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها، بأن يعتقد أن جميع أفعالها فرض، أو بعضها فرض وبعضها سنه ولم يقصد التنفل بما هو فرض، فقد قال الغزالي في (فتاوية): العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها .. تصح صلاته بشرط ألا يقصد التنفل بما هو فرض، فإن نوى الفرض بنفل .. لم يحتسب له، فلو

غفل عن التفضيل .. فنية الجملة في الابتداء كافية، حكاه عنه النووي في (الروضة) وغيرها، قال: وهو الصحيح الذي تقتضيه ظاهر أحوال الصحابة فمن بعدهم، ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام ألزم الأعراب ذلك، ولا أمر بإعادة صلاة من لا يعلم ذلك. وفي البيت الأول من أنواع البديع: الجناس التام المماثل، وهو أن يتفق اللفظان من نوع واحد في أنواع الحزوف وأعدادها وهيأتها وترتيبها، ومنه قوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} [سورة الروم: 55]. [الشرط الرابع: طهارة الثوب والبدن والمكان] وطهر ما لم يعف عنه من خبث ... ثوبا مكانا بدنا ومن حدث)) رابعها: طهر، أى طهارة ما لم يعف عنه من خبث، أى: نجس مغلظا كان أو متوسطا أو مخففا في بدن المصلي وثوبه ومكانه، لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [سورة المدثر: 4]، ولخبر (الصحيحين): (إذا أقبلت الحيضة .. فدعي الصلاة، وإذا أدبرت .. فاغسلي عنك الدم وصلي)، ولخبر: (تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدارقطني بإسناد حسن، ثبت الأمر باجتناب الخبث وهو لا يجب في غير الصلاة فيجب فيها، والأمر بالشئ يفيد النهى عن ضده، والنهي في العبادات يقتضي فسادها، على أنه قد صحح في (الروضة) و (أصلها) تحريم التضمخ بالخبث في البدن والثوب بلا حاجة في غير الصلاة أيضا، وصحح في (التحقيق) تحريمه به في البدن دون غيره، ومراده بالبدن: ما يعم ملابسه من الثوب، ليوافق ما في (الروضة) و (أصلها). فلو تنجس ثوبه. بما لا يعفي عنه، ولم يجد ما يغسله به .. وجب قطع موضع النجاسة إن لم تنقص قيمته أكثر من أجرته، وإن جهل مكانها في جميع البدن أو الثوب .. وجب غسل جميعه، لأن الأصل بقاء النجاسة ما بقي منه جزء بغير غسل، ومن مسه بعضه رطبا ... لم يتنجس، ولو

شق الثوب نصفين ... لم يجز التحري، ولو غسل نصفه أو نصف ثوب نجس بالصب عليه في غير إناء، ثم غسل الجزء الباقي مع ما جاوره .. طهر كله، ولو اقتصر عليه دون المجاور .. فالمنتصف نجس من النجس مجتنب من المتنجس، فإن غسله في إناء .. فالأصح كما في (المجموع): أنه لا يطهر حتى يغسله دفعة. ولو وقعت النجاسة في موقع ضيق كالبساط والبيت وأشكل .. وجب غسل كله، أو واسع كالصحراء .. اجتهد ندبا إن غلب على ظنه طهارته ووجوبا إن لم يغلب على ظنه. ولو تنجس أحد كمي القميص، أو أحدي يديه وأشكل، فغسل أحدهما بالاجتهاد وصلي .. لن تصح صلاته إلا أن يفصل أحد الكمين قبل الاجتهاد، وإن اشتبه ثوبان فغسل إحداهما بالاجتهاد .. فله الصلاة فيهما ولو جمعهما عليه، ولو تحير .. اجتنبهما، فلو لم يجد غيرهما ولا ماء .. صلى عريانا وأعاد. وتبطل صلاة من لاقي ثوبه أو بدنه أو محمولة نجسا وإن لم يتحرك بحركته، كمن قبض على حبل متصل بميتة، أو مشدود بكلب أو بساجوره، أو بدابة حاملة نجسا، أو بسفينة فيها نجس إن انجرت بجرة، وإلا .. لم تبطل، كما لو جعل الحبل تحت رجله. [الشرط الخامس: الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر] خامسها: الطهارة من الحدث الأكبر والصغر، فتبطل بغير الحدث الدائم وغن سبقه بلا اختيار، كمن تنجس ثوبه، أو تخرق خفه، أو أبعد الريح ثوبه بلا تقصير، فإن نحى النجاسة أو رد الثوب فورا .. لم يضر، وإن نحاها بكمه .. بطلت. والأصل في ذلك: خبر مسلم (لا يقبل الله صلاة بغير طهور)، وخبر (إذا فسا أحدكم في صلاته ... فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته) رواه الترمذي وحسنه، فلو صلى بدون طهارة ناسيا ... أثيب على قصده دون فعله، إلا القراءة والذكر ونحوهما مما لا يتوقف على الطهر .. فإنه يثاب على فعله، قال الشيخ عز الدين: وفي إثابة الناسي على القراءة إذا كان جنبا نظر.

[الشرط السادس: ستر العورة] (وغير حرة عليها السترة ... لعورة من ركبه لسره) (وحرة- لا الوجه والكف- بما ... لا يصف اللون ولو كدرة ما) سادسها: ستر العورة ولو كان المصلي في خلوة وظلمة، ويجب سترها خارج الصلاة أيضا بين الناس، وكذا في خلوة وظلمة، لأن الله تعالى أحق أن يستحي منه، ولا يجب ستر عورته عن نفسه، بل نظره إليها مكروه، ويباح كشفها لغسل ونحوه خاليا. وغيره حرة، من رجل حرا كان أو رقيقا بالغا أو صبيا، وأمة، ومبعضة، وخنثي إذا كان رقيقا .. عليها السترة وجوبا لعورة لها، وهي من ركبتها إلى سرتها. أما الرجل .. فلخبر: (عورة المؤمن ما بين سرته غلى ركبته) رواه الحارث بن أبي أسامة بسند فيه رجل مختلف فيه، لكن له شواهد تجبره، وقيس بالرجل الأمة، بجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة، وروي أبو داوود: (إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره .. فلا ينظر إلي ما دون السره وفوق الركبة). ويؤخذ من كلامه: أن الركبة والسره ليستا بعورة وهو الأصح، لكن يجب ستر بعضهما، ليحصل سترهما. وحرة عليها السترة لجميع بدنها وجوبا إلا وجهها وكفيها ظهرا وبطنا إلى الكوعين، لقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [سورة النور: 30]، قال ابن عباس وغيره: وجهها وكفيها، ولخبر: (لا يقبل صلاة حائض- اى: بالغة - إلا بخمار) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ويؤخذ منه ومن قوله تعالى: {خذوا زينتكم عن كل مسجد} [سورة الأعراف: 31] يعني: الثياب في الصلاة، كما قاله ابن عباس رضي الله عنه: اشتراط ستر العورة، وإنما لم يكن الوجه والكفان عورة، لأن الحاجة قد تدعو إلى إبرازهما. أما الخنثي الحر .. فكالحرة، حتى لو اقتصر على ستر عورة الرجل .. لم تصح صلاته على

والأصح في (زوائد الروضة)، وفي (المجموع) هنا: أنه الأفقه، للشك في الستر، لكن الأصح في (التحقيق): صحتها، ونقل في (المجموع) في نواقض الوضوء عن البغوي وكثير القطع به، للشك في عورته، قال الإسنوي في (أحكام الخناثي): والفتوى عليه، فإنه الذي يقتضيه كلام الأكثرين. ويجب الستر بما لا يصف الرائي منه بمجلس التخاطب اللون للبشرة وإن وصف الحجم ولو كان كدرة ماء، لحصول الستر بذلك، وصورته في الماء فيمن يمكنه الركوع والسجود، وفي صلاة الجنازة، فلو قدر أن يصلي في الماء ويسجد على الشط .. لم يلزمه، للمشقة، أم ما لا يمنع وصف اللون كزجاج .. فلا يكفي. وشرط الساتر: أن يشمل المستور لبسا ونحوه كالتطيين، فلا يكفي الخيمة الضيقة ونحوها، وكذا الحب الضيق الرأس على الأشبه في (الشرح الصغير)، لكن الأصح في (الروضة) و (التحقيق) و (المجموع): خلافه كثوب واسع الذيل، والحفرة إذا لم يرد عليها ترابها كالحب، ولا تكفي الظلمة وإن منعت وصف اللون. قال الأذرعي: وقضية تعبيرهم بما لا يصف اللون: الاكتفاء بالأصباغ التي لا جرم لها من حمرة وصفرة وغيرهما، وهو مشكل، وقضية المحاملي والمارودي: الجزم بخلافه وهو الوجه، فليحمل كلام أولئك على ما إذا كان للساتر جرم. وخرج ب (الكدر): الصافي، فلا يكفي إلا إذا غلبت خضرته، ويكفي الستر بلحاف التحف بها امرأتان، وبإزار اتزر به رجلان، قاله القاضي والبغوي. ولو فقد الثوب ونحوه .. لزمه التطيين، ويجب الستر من الأعلى والجوانب لا من الأسفل، فلو صلي على طرف سطح في قميص متسع الذيل يري الواقف تحته عورته منه ... صحت صلاته، ولو كانت عورته بحيث تري من طوقه في ركوع أو غيره .. لم تصح، فليزره أو يشط وسطه، ولو ستر بلحيته، أو ستر خرق الثوب بكفه .. كفي.

ولو عدم السترة، أو وجدها متنجسة ولا ماء، أو حبس على نجاسة واحتاج فرش السترة عليها .. صلى عريانا وأتم الأركان ولا إعادة ولو وجد بعض سترة .. لزمه البداءة بالسوءتين القبل والدبر، فإن وجد كافي أحدهما .. تعين القبل، والخنثي يبدأ بما شاء من قبليه، والأولي: أن يستر ذكره عند النساء، وفرجه عند الرجال. ولو أمر بدفع سترة لأولي الناس .. قدمت المرأة، ثم الخنثي، أما مالك السترة المحتاج إليها .. فلا يؤثر بها غيره. (وعلم أو ظن لوقت دخلا ... واستقبلن لا في قتال حللا) (أو نافلات سفر وإن قصر ... وتركه عمدا كلاما للبشر) (حرفين أو حرف بمد صوتكما ... أو مفهم ولو بضحك أو بكا) (أو ذكر أو قرءاه تجردا ... للفهم أو لم ينو شيئا أبدا) (أو خاطب العاطس بالترحم ... أو رد تسليما على المسلم) (لا بسعال أو تنحنح غلب ... أو دون ذين لم يطق ذكرا وجب) (وإن تنحنح الإمام فبدا ... حرفان فالأولي دوام الاقتدا) [الشرط السابع: العلم بدخول الوقت] سابعها: علم المصلي بدخول الوقت أو ظنه، ليصح تحرمه بصلاة ذلك الوقت، فلو صلاها بدون ذلك ... لم تصح وإن وقعت في وقتها. [الشرط الثامن: استقبال القبلة] ثامنها: استقبال القبلة، أى: الكعبة للقادر عليه، فلا تصح صلاته بدونه إجماعا، لقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [سورة البقرة: 144] أي: جهته، والاستقبال لا يجب في غير الصلاة فتعبن أن يكون فيها، ولخبر (الصحيحين): (إذا قمت إلي الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر)، وخبرهما: أنه صلي الله عليه

وسلم صلي ركعتين قبل الكعبة وقال: (هذه القبلة)، مع خبر: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، و (قبل): بضم القاف والباء ويجوز إسكانهم، قال بعضهم: معناه مقابلها، وقال بعضهم: ما استقبلك منها، أى: وجهها، ويؤيده رواية ابن عمر: (فصلي ركعتين في وجه الكعبة). وأما خبر الترمذي: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) ... فمحمول على أهل المدينة ومن داناهم. أما العاجز عنه كمريض لم يجد من يوجهه، ومربوط على خشبة .. فيصلي على حسب حاله ويعيد. والمعتبر الاستقبال بالصدر لا بالوجه أيضا، لأن الالتفات به ليس مبطلا للصلاة، بل هو مكروه كما صرحوا به. (إلا في قتال حللا) أى: أبيح في شدة الخوف، كقتال المسلمين للكفار، وأهل العدل للبغاة، والرفقة لقطاع الطريق، فلا يشترط الاستقبال فيه في الفرض ولا في النفل، للضرورة لما سيأتي في (باب صلاة الخوف). [لا يشترط الاستقبال في نافلة السفر] ونافلات سفر، أي: مباح، وإن قصر ولو عيدا واستسقاء ... فلا يشترط الاستقبال فيها، فله أن يصليها صوب مقصده المعين راكبا وماشيا، لأنه صلى الله عليه وسلم (كان يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به) أي: في جهة مقصده رواه الشيخان، وفي رواية لهما: (غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)، وفي رواية للبخاري: (فإذا أراد أن يصلي المكتوبة .. نزل فاستقبل القبلة)، وقيس بالراكب: الماشي. و(السفر القصير) قال الشيخ أبو حامد وغيره: مثل: أن يخرج إلى ضيعة مسيرتها ميل أو

نحوه، والقاضي والبغوي: أن يخرج إلى مكان لا تلزمه فيه الجمعة، لعدم سماعه النداء، إلا راكب نحو سفينة أو هودج، فإنه يجب عليه الاستقبال وإتمام الأركان، لتمكنه منهما، ويستثني منه ملاح السفينة الذي يسيرها فلا يشترط استقباله، ومن ركب على سرج أو نحوه .. لم يلزمه الاستقبال إلا عند إحرامه إن سهل عليه، كأن كانت دابته سهلة غير مقطورة، أو يستطيع الانحراف بنفسه، بخلاف ما إذا عسر عليه، كأن كانت عسرة أو مقطورة لا يستطيع الانحراف، فلا يلزمه الاستقبال في إحرامه أيضا، للمشقة واختلال أمر السير عليه، قال ابن الصباغ: والقياس: أنه مهما دام واقفا .. لا يصلي إلا إلي القبلة، قال في (المهمات): وهو متعين. وفي (الكفاية): أنه لو وقف لاستراحة أو انتظار رفقة ... لزمه الاستقبال ما دام واقفا، فإن سار .. أتم صلاته إلى جهة سفره إن كان سفره لأجل سير الرفقة، وإن كان مختارا له بلا ضرورة .. لم يجز أن يسير حتى تنتهي صلاته، لأنه بالوقوف لزمه فرض التوجه، وفي (المجموع) عن (الحاوي) نحوه. انتهى. أما الماشي ... فيستقبل في إحرامه وركوعه وسجوده وجلوسه بين السجدتين، ويلزمه إتمامها، وله المشي في القيام والتشهد والاعتدال، ولو انحرف المتنفل عن مقصده إلى القبلة .. لم يضر، أو إلي غيرها عمدا ولو قهرا ... بطلت صلاته، وكذا لنسيان أو خطأ أو جماح إن طال زمنه، وإلا ... فلا تبطل، ولكنه يسجد للسهو. ولو توجه إلى مقصده في غير الطريق .. لم يضر، ومن لا مقصد له معين كالهائم، أو له مقصد معين غير مباح كالآبق والناشزة ... لا رخصة له. فإن بلغ المسافر المكان الذي ينقطع به السير أو بنيان بلد الإقامة ... لزمه أن ينزل عن دابته إن لم يستقر في نحو هودج، ولم يمكنه أن يتمها مستقبلا وهي واقفة، لا المار ولو بقرية له فيها أهل. وله الركض لحاجة، فلو أجري الدابة، أو عدا الماشي بلا حاجة ... بطلت، ولو أوطأها نجاسة .. لم يضر، لا إن وطئها الماشي ناسيا وهي رطبة، فلا يعفي عما يعلق به منها، أو عامدا ولو يابسة وإن لم يجد عنها مصرفا. ويشترط في صحة صلاة الفريضة: الاستقرار والاستقبال وإتمام الأركان، فلو صلاها في هودج على دابة واقفة، أو سرير يحمله رجال وإن مشوا به، أو في الأرجوحة أو الزورق الجاري .. صحت.

[الشرط التاسع: ترك الكلام] تاسعها: تركه، أي: المصلي عمد كلام البشر، أى: الإمساك عنه، فلو تكلم المصلي عامدا بما يصلح لخطاب البشر وإن لم يقصد خطابهم، أو تعلق بمصلحة الصلاة، كقوله للإمام: (لم تصل إلا ثلاثا) .. بطلت صلاته، والأصل فيه: ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} [سورة البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام)، وعن معاوية بن الحكم: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني .. سكت، فلما صلي النبي صلى الله عليه وسلم .. قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس). ثم بين المصنف كلام البشر بقوله: (حرفين أو حرف بمد صوتكا أو مفهم) أى: حرفين أو أكثر ولو بغير إفهام، لأن ذلك من جنس كلامهم، والكلام يقع على المفهم وغيره مما هو حرفان فأكثر، وتخصيصه بالمفهم اصطلاح للنحاة، أو حرف ممدود وإن لم يفهم، نحو (آ)، والمد: ألف أو واو أو ياء، وهي حروف مخصوصة، فضمها إلي الحرف كضم حرف آخر إليه، أو حرف مفهم، نحو (ق) من الوقاية و (ع) من الوعي، لأنه كلام تام لغة وعرفا وإن أخطأ بحذف هاء السكت، بخلاف غير المفهم فاعتبر فيه أقل ما يبني عليه الكلام وهو حرفان. ولا تبطل الصلاة بإجابة النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا في عصره مصليا على الأصح، ولا بالنذر على الأصح، لأنه مناجاة فهو من جنس الدعاء، قاله في (المجموع)، ومحله: إذا لم يكن فيه خطاب آدمي، ولا بإنذار مشرف على الهلاك إذا لم يمكن إلا به على ما في (التحقيق) واقتضاه كلام (المجموع)، لكن الأصح في (الروضة) و (أصلها) وغيرهما: البطلان مع وجوبه.

وخرج بقوله: (عمدا) ما لو سبق لسانه إليه فإن صلاته لا تبطل به إن كان قليلا، لأن الناسي مع قصده الكلام معذور، فهذا أولي، وإن كان كثيرا بطلت صلاته في الأصح، ومثله من نسي كونه في الصلاة، كأن سلم ناسيا، ثم تكلم عامدا، لخبر (الصحيحين) عن أبي هريرة: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر فسلم من ركعتين، ثم أتي خشبة بالمسجد واتكأ عليها كأنه غضبان، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال للصحابة: (أحق ما يقول ذو اليدين؟ ) فقالوا: نعم، فصلي ركعتين آخرين ثم سجد سجدتين) وجه الدلالة: أنه تكلم معتمدا أنه ليس في صلاة وهم تكلموا مجوزين النسخ، ثم بني هم وهو عليها. أو جهل تحريم الكلام إن قرب عهده بالإسلام، لخبر معاوية السابق، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء، أو جهل تحريم ما أتي به مع علمه بتحريم جنس الكلام، أو جهل كون التنحنح مبطلا على الأصح، لخفاء حكمه على العوام. وبقوله: (كلاما للبشر) الذكر والدعاء، فإن الصلاة لا تبطل بشئ منها إذا لم يكن فيه خطاب على ما سيأتي، والمرجع في القلة أو الكثرة إلى العرف. قال في (المجموع): ولو سلم إمامه فسلم معه، ثم سلم الإمام ثانيا فقال له المأموم: قد سلمت قبل هذا، فقال له كنت ناسيا ... لم تبطل صلاته، لأن سلامه الأول سهو، ولا صلاة المأموم، لأنه لم يخرج منها بسلامه الأول، وتكليمه الإمام سهو، لأنه يظن أنه تحلل فيسلم ثانيا، ويندب له سجود السهو، لأنه تكلم سهوا بعد انقطاع القدوة. وقوله: (ولو بكره) أى: تبطل الصلاة بكل مما ذكر ولو كان بكره، لأنه نادر كما لو أكره على الصلاة بلا طهارة، أو قاعدا .. فإن الإعادة تجب، وهذا بخلاف النسيان، وإنما لم تبطل الصلاة بغضب ثوب المصلي، لأن للغاضب فيه غرضا، قاله في (المجموع)، وفي بعض النسخ: (ولو بضحك).

وقوله: (أو بكا) أى: وتبطل الصلاة بكل مما ذكر ولو كان ببكاء ولو من خشية الله تعالى، أو ضحك أو تنحنح أو أنين، أو نفخ ولو من الأنف. وقوله: (أو ذكر .... ) إلى آخره، أى: وتبطل الصلاة بكل مما ذكر، ولو كان بذكر، كقوله لعاطس: (يرحمك الله)، أو بشارة (الحمد لله)، ولتنبيه إمامه: (سبحان الله)، ولتبليغ الانتقالات: (الله أكبر)، أو قراءة، كقوله لجماعة يستأذنون: (ادخلوها بسلام آمنين)، تجرد كل منهما للفهم، بأن قصد المصلي به تفهيم الغير فقط، أو لم ينو به شيئا أبدا، لأنه حينئذ من كلام البشر، بخلاف ما إذا قصد الذكر أو القراءة فقط، أو قصد أحدهما مع التفهيم. وشمل قوله: (أو قراءة): القراءة للفتح على إمامه، ففيه التفصيل، خلافا لبعضهم، قال في (المجموع): ولو أتي بكلمات من القرآن من مواضع متفرقة كقوله: (يا إبراهيم سلام كن) .. بطلت، فلو أتي بها متفرقة ... لم تبطل إن قصد بها القراءة. انتهى. وقضيته: أنه لو قصد بها القراءة في الشق الأول .. بطلت صلاته، أي: إذا لم يقصد القراءة بكل كلمة على انفرادها، ومثل الذكر والقراءة فيما ذكره: الدعاء. وقوله: (أو خاطب العاطس ... ) إلى آخره، أى: وتبطل الصلاة إذا خاطب العاطس بقوله: (يرحمك الله)، أو رد تسليما على المسلم عليه بقوله: (عليك السلام) لأنه حينئذ من كلام البشر، بخلاف قوله: (يرحمه الله) أو (عليه السلام) ونحوه مما لا خطاب فيه. وخرج بما ذكر: خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يبطل الصلاة، لوروده في التشهد، وقوله: (لا بسعال أو تنحنح غلب) أى: لا تبطل الصلاة بسعال وتنحنح، أى: وضحك وبكاء وأنين ونفخ وعطاس غلب المصلى فلم يستطع رده، لأنه معذور، هذا إذا لم يكثر عرفا، وإلا .. بطلت به، كما قاله الشيخان في الضحك والسعال، والباقي في معناهما، لكن قال جماعة من المتأخرين كالإسنوي: الصواب: عدم بطلانها به وإن كثر، لعدم القدرة على الاحتراز منه. وقوله: (أو دون ذين لم يطق ذكرا وجب) أى: ولا تبطل صلاة من يطق ذكرا واجبا، أى: إتيانه به كـ (الفاتحة) وبدلها من قرآن أو ذكر، أو التشهد الأخير، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه بدون السعال والتنحنح.

وخرج بقوله: (ذكرا وجب) ما لو لم يطق الجهر به أو النطق بالذكر المندوب، كالسورة والقنوت بدون التنحنح أو السعال فأتي به وخرج منه حرفان .. فإن صلاته تبطل كما علم مما مر أيضا، لأنه ليس بعذر، غذ هو سنة، بخلاف الواجب الذي لا تصح الصلاة إلا به، قال في (المهمات): والمتجه: جواز التنحنح للجهر بأذكار الانتقال عند الحاجة إلى إسماع المأمومين. وقوله: (وإن تنحنح الإمام .... ) إلى آخره، أى: وإن تنحنح الإمام فظهر منه حرفان فأكثر .. فالأولي للمأموم دوام الاقتداء به في تلك الصلاة لا مفارقته، إذ الأصل بقاء العيادة على صحتها وعدم المبطل حتى يتحقق، والظاهر: أنه معذور. وقوله: (أو ظن) بحذف الهمزة للوزن، وألف (دخلا) و (حللا) للإطلاق، وفي نسخة: (وتركه عمدا كلاما للبشر) وهي لا يناسبها ما بعدها من جهة الإعراب، وألف (صوتكا) للإطلاق، وألف (تجردا) يصح كونه للتثنية أو للإطلاق. [الشرط العاشر: ترك الفعل الكثير] (وفعله الكثير لو بسهو ... مثل موالاة ثلاث خطو) (ووثبة تفحش، والمفطر ... ونية الصلاة إذ تغير) عاشرها: ترك فعله الكثير الذي ليس من جنس الصلاة ولو بسهو، مثل موالاة ثلاث خطوات ولو بقدر خطوه واحده كما قاله الإمام، أو ثلاث ضربات متواليات، سواء أكانت الفعلات من جنس واحد كما مر، أم من جنسين، أم أجناس، كضربة وخطوة وخلع نعل، فإن لم يترك المصلي ذلك .. بطلت صلاته، لإشعاره بالإعراض عن الصلاة، والسهو لا يؤثر في خطاب الوضع، ويعفي عن الأفعال الكثيرة في صلاة شدة الخوف.

وقوله: (ووثبة تفحش) يعني: وترك وثبة تفحش، أي: أو تصدر للعب ولو غير فاحشة، فإن لم يترك ذلك .. بطلت صلاته، لمنافاة كل منهما للصلاة. واحترز بقوله: (الكثير) عن الفعل القليل عرفا غير ما مر، كإشارة برد السلام، وخلع نعل، ولبس ثوب خفيف ونزعه، وفعلتين كضربتين، فإن ذلك لا يبطل الصلاة ولو عمدا، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل القليل وأذن فيه (فأخذ بإذن ابن عباس وهو في الصلاة فأداره عن يساره إلى يمينه) رواه الشيخان، (وسلم عليه نفر من الأنصار فرد عليهم بالإشارة) رواه الترمذي وصححه، (وخلع نعليه في الصلاة ووضعهما عن يساره) رواه أبو داوود وصححه الحاكم، (وصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص من ابنته زينب، فإذا سجد .. وضعها، وإذا قام .. حملها) رواه الشيخان، زاد مسلم: (وهو يؤم الناس في المسجد)، وأذن في تسوية الحصا، وأمر بقتل الأسودين: الحية والعقرب في الصلاة رواه الترمذي وصححه. وفارق الفعل القول، حيث استوي قليله وكثيرة في الإبطال: بأن الفعل يتعذر، أو يتعسر الاحتراز منه فعفي عن القدر الذي لا يخل بالصلاة، بخلاف القول. واحترز بقوله: (موالاة) عن الأفعال المتفرقة، فإنها لا تؤثر كما لو خطا خطوة، ثم بعد زمان خطا أخري وهلم جرا، لما مر في خبر أمامة، وحد التفريق: أن يعد الثاني منقطعا عن الأول عرفا، ولو نوى فعلات متوالية وفعل واحدة .. بطلت صلاته. وخرج بقوله: (مثل موالاة ثلاث خطو) الحركات الخفيفة المتوالية، كتحريك أجفانه، أو أصابعه في سبحة أو حك أو عد، أى: مع قرار اليد في محل واحد، فإنها لا تؤثر، لأنها لا تخل بنظم الصلاة، بخلاف ما إذا حرك اليد ثلاثا .. فإنها تبطل به، إلا أن يكون به حكة لا يمكنه الصبر عنها، ذكره القاضي والخوارزمي، ومد اليد وجذبها مرة واحدة، وكذا رفعها عن الصدر ووضعها في محل الحك.

أما إذا فعل في صلاته غيرها من جنسها، كزيادة ركوع لا للمتابعة: فإن كان عامدا .. بطلت صلاته، أو ناسيا .. فلا. وقوله: (خطو): مصدر خطا يخطو [الشرط الحادي عشر: ترك ما يفطر الصائم] حادي عشرها: المفطر للصائم وإن قل، أى: تركه فتبطل بالمفطر 0 كبلع ذوب سكرة، لإشعاره بالإعراض إلا أن يكون ناسيا أو جاهلا تحريمه .. فلا تبطل به إلا أن يكثر، فتبطل به على الأصح وإن صحح الرافعي عدم بطلانها بالكثير ناسيا كالصوم، والفرق بينهما على الأول: أن المصلي متلبس بهيئة يبعد معها النسيان، بخلاف الصائم، فإن الصلاة ذات أفعال منظومة، والفعل الكثير يقطع نظمها، بخلاف الصوف فإنه كف. [الشرط الثاني عشر: التحرز عما ينافي النية أو يغيرها] ثاني عشرها: تغيير النية، وهو معني قوله: (ونية الصلاة إذ تغير) أى: بتغيير المصلي، فإن لم يترك ذلك، كأن نوى الخروج منها ولو في ركعة أخري .. بطلت، لمنافاة نيته قصده، بخلاف ما لو نوى في الأولي أن يفعل في الثانية منافيا للصلاة كأكل .. فإنها لا تبطل قطعا، قاله في (التحقيق) و (المجموع)، وفرق فيه: بأنه في الأولي غير جازم بالنية، ونازي الفعل في الثانية جازم، والحرام فعل المنافي ولم يوجد. وحاصلة: أن منافي النية يؤثر في الحال، ومنافي الصلاة إنما يؤثر عند وجوده، بأن يشرع فيه، فلو نوى فعلات متوالية وفعل واحدة .. بطلت صلاته كما مر، وكأن تردد في قطعها، أو علقه بشئ وإن لم يعلم وجوده، لمنافاته الجزم، وكتعليق قطع الإيمان، ولا عبرة بما يجري في الفكر أنه لو تردد كيف يكون الحال، فإن الموسوس قد يبتلي به، وقد يقع في الإيمان فلا عبرة به، وكأن نقل النية من فرض إلى فرض آخر، ومن فرض إلى نفل بلا مسوغ، أو من نفل إلى نفل آخر. وخالفت الصلاة فيما تقرر الصوم والاعتكاف فلا يبطلان بشئ منه، لأن الصلاة يتعلق تحرمها وتحللها بالاختيار فيكون تأثرها بضعف النية فوق تأثر الصوم، ولأنها أفعال وهي أحوج إلى النية من التروك، وألحق الاعتكاف بالصوم، لأنه أشبه به، ومثلهما الحج والعمرة.

[تسبيح الذكر وتصفيق الأنثي لما ينوبهما في الصلاة] ولما كان الفعل القليل قد يندب في الصلاة .. ذكر بقوله: (ندبا لما ينوبه يسبح ... وهي بظهر كفها تصفح) أي: يسبح الذكر ندبا، لأجل ما ينوبه في صلاته، كتنبيه إمامه، وإذنه لداخل، وإنذاره أعمي، وهي، أي: الأنثي تصفح، أى: تصفق لذلك ندبا بضرب ظهر كفها اليمين على بطن اليسرى، أو ظهر كفها اليسرى على بطن اليمني، أو ظهرها، أى: أو تضرب بطن كفها اليمين على ظهر اليسرى أو عكسه، لخبر (الصحيحين): (من نابه شئ في صلاته .. فليسبح، فإنه إذا سبح .. التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)، فلو صفق الذكر وسبحت الأنثي .. جاز، لكن خالفا السنة، قال في (المجموع): والخنثي كالأنثى. ومحل التسبيح: إذا قصد الذكر فقط، أو قصده مع الإعلام كما علم من كلامه فيما مر، قال في (التحقيق): والتسبيح والتصفيق مندوبان لقربة، أى: مندوبة، ومباحان لمباح. انتهى، وواجبان لواجب، ولا ينبغي للأنثى أن تضرب بطن كفها على بطن الأخري، فإن تعمدته لاعبة عالمة بتحريمه .. بطلت صلاتها ولو بمرة واحدة، كما علم مما مر. [استحباب الصلاة إلى سترة] ويسن للشخص إن يصلي إلى سترة، كجدار أو سارية أو عصا مغروزة ويميلها عن وجهه، فإن لم يجد .. افترش مصلي، فإن لم يجد .. خط خطأ، كما في (التحقيق) و (شرح مسلم) وإن قال في (المهمات): الحق أنهما في مرتبة.

ويعتبر في السترة: أن يكون بينها وبين المصلي ثلاثة أذرع فأقل، وكون ارتفاع الشاخص ثلثي ذراع فأكثر، قال في (المهمات): والقياس: أن [بين] المصلي والخط كقدر السترة، وحينئذ فيحرم المرور بين المصلي وسترته وإن لم يجد المار سبيلا، وللمصلي وغيره حينئذ الدفع، بل يندب وإن أدي إلى قتله بالتدريج. نعم، لو وجد فرجة أمامه .. خرق الصفوف ليصليها، ولا تبطل صلاته بمرور شئ بين يديه. ومحل تحريم المرور: إذا لم يقصر المصلي، فإن قصر، كأن وقف بقارعة الطريق .. فلا تحريم، بل ولا كراهة، كما قاله في (الكفاية) أخذا من كلامه، وحينئذ فلا دفع، فإن لم يصل إلى سترة أو تباعد عنها فوق ثلاثة أذرع، أو كانت دون ثلثي ذراع .. لم تحصل السنة، ولم يحرم المرور، ولم يكن له الدفع. [بطلان الصلاة بترك ركن أو فوات شرط] (ويبطل الصلاة ترك ركن أو ... فوات شرط من شروط قد مضوا) أي: ويبطل الصلاة ترك ركن من أركانها، كالاعتدال والجلوس بين سجدتين ولو في النافلة، لأن الماهية تنتفي بانتفاء أجزائها، ويبطلها فوات شرط من شروط لها قد مضت كاستقبال القبلة، لاستحالة حصول المشروط بدون شرط من شروطه.

[مكروهات الصلاة] ولما فرغ من ذكر شروطها .. ذكر مكروهاتها فقال: (مكروهها: بكف ثوب أو شعر ... ورفعه إلى السماء بالبصر) (ووضعه يدا على خاصرته ... ومسح ترب وحصى عن جبهته) (وحطه اليدين في الأكمام ... في حالة السجود والإحرام) (والنقر في السجود كالغراب ... وجلسة الإقعاء كالكلاب) (تكون أليتاه مع يديه ... بالأرض لكن ناصبا ساقيه) (والالتفات لا لحاجة له ... والبصق لليمين أو للقبلة) ذكر في هذه الأبيات من مكروهات الصلاة تسعة أشياء: أولها: كف ثوبه أو شعره، لخبر: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف ثوبا ولا شعرا) رواه الشيخان واللفظ لمسلم، ولفظ البخاري: (أمرنا أن نسجد)، (ولا نكف)، والمعني في النهي عن كفه: أنه يسجد معه، قال في (المجموع): والنهي لكل من صلي كذلك، سواء أتعمده للصلاة، أم كان قبلها لمعني وصلي على حاله، وذكر من ذلك: أن يصلي وشعره معقوص، أو مردود تحت عمامته، أو كمه مشمر. ثانيهما: رفعه بصره إلى السماء، لخبر البخاري: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ ! لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم)، ولخبر الحاكم في (مستدركه): (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلي .. رفع بصره إلى السماء فنزلت: {قد افلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون} [سورة المؤمنون: 1، 2] .. فطأطأ رأسه).

ثالثهما: وضعه يده على خاصرته، لخبر (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي أن يصلي الرجل مختصرا)، والمرأة في ذلك كالرجل كما ذكره في (المجموع)، ولخبر بن حبان في (صحيحه): (الاختصار في الصلاة راحة أهل النار)، قال ابن حبان: يعني: فعل اليهود والناصري وهم أهل النار، لأنه فعل المتكبرين، وفي (شرح مسلم): أن إبليس أهبط من الجنة كذلك، ويستثني ما إذا وضعها لحاجة، كعلة بجنبه. رابعها: مسح التراب والحصا عن جبهته، لخبر (الصحيحين): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: (إن كانت فاعلا .. فواحدة)، وروي البيهقي عن أبي ذر قال: (مسح الحصا واحدة، وألا افعلها أحب إلي من مئة ناقة سوداء الحدق)، ورواه ابن خزيمة في (مسنده)، وقال الذهبي: إسناده صالح. خامسها: وضعه يديه في كميه أو غيرهما في حالتي إحرامه وسجوده، لأن كشفهما أنشط للعبادة وأبعد عن التكبر، وظاهر إطلاقهم: أنه لا فرق بين البرد والحر وغيرهما، وقد قال في (الأم): أحب أن يباشر براحتيه الأرض في الحر والبرد. سادسها: النقر في السجود، كما ينقر الغراب بمنقاره فيما يريد التقاطه، والمراد: كراهة تخفيف المصلي سجوده، بحيث لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره في الأرض، لخبر أبي داوود وابني خزيمة وحبان في (صحيحيهما): (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع). سابعها: الإقعاء في جميع جلسات الصلاة، بحيث تكون أليتاه مع يديه على الأرض وينصب ساقيه، للنهي عنه كما أخرجه الحاكم وصححه، وما ذكره المصنف في تفسيره من

وضع يديه على الأرض .. تبع فيه أبا عبيدة معمر بن المثني، وظاهر كلام الشيخين وغيرهما: أن كراهته لا تتقيد بذلك، ومعناه: أن يلصق ألييه بالأرض وفخذيه، وينصب فخذيه وساقيه كهيئة المستوفز، ووجه النهي عنه: ما فيه التشبه بالكلاب والقردة، كما وقع التصريح به في بعض الروايات. ثامنها: الالتفات بوجهه يمينا وشمالا من غير تحويل صدره عن القبلة، لخبر البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)، ولخبر أحمد بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: (أوصاني خليلي بثلاث، ونهاني عن ثلاث، نهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإيقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب) لا حاجة له، أي: للالتفات في يكره، لخبر أبي داوود بإسناد صحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأرسل فارسا إلى شعب، من أجل الحرس، فجعل يصلي وهو يلتفت إلى الشعب). تاسعها: البصق عن اليمين أو للقبلة، لخبر (الصحيحين): (إذا كان أحدكم في الصلاة .. فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه)، ثم غن كان في المسجد .. بصق في ثوبه وفركه، أو حك بعضه ببعض، أو في غيره .. بصق في ثوبه أو تحت قدمه، والأول أولي، وفي (الروضة) أن البصاق في المسجد خطيئة، وفي (التحقيق) و (المجموع) أنه حرام، ويجب الإنكار على فاعله، وعلى من دلكها بأسفل نعله الذي داس به نجسا أو قذرا، لأنه ينجس المسجد أو يقذره. قال بعض المتأخرين: وينبغي أن يستثني من كراهة البصاق عن يمينه: ما إذا كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإن بصاقه عن يمينه أولي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره. وقول المصنف: (أو شعر) بدرج الهمزة للوزن، وقوله: (ورفعه) وما عطف عليه إلي

آخره يجوز جره عطفا على المجرور بالباء، ورفعه عطفا على الجار والمجرور، فإنه في محل خبر قوله: (مكروهها). ومما يكره أيضا: وضع يده على فمه بلا حاجة، والمبالغة في خفض الرأس في ركوعه، والإشارة بما يفهم لا لحاجة، كرد السلام ونحوه، والجهر في غير موضعه، والإسرار في غير موضعه، والجهر خلف الإمام.

باب سجود السهو

باب سجود السهو (قبيل تسليم تسن سجدتاه ... لسهو ما يبطل عمده الصلاة) (وترك بعض عمدا أو لذهل ... لا سنة بل نقل ركن قولي) [سجدتا السهو وموضعهما] أى: يسن سجدتا السهو قبيل التسليم من الصلاة ولو نافلة، لخبر أبي سعيد الخدري: (إذا شك أحدكم فلم يدر أصلي ثلاثا أم أربعا .. فليلق الشك وليبن على اليقين، وليسجد سجدتين قبل السلام، فإن كانت صلاته تامة .. كانت الركعة والسجدتان نافلة له، وإن كانت ناقصة .. كانت الركعة تامة للصلاة، والسجدتان ترغمان أنف الشيطان) رواه أبو داوود بإسناد صحيح ومسلم بمعناه، ثبت به سنية السجود، وأنه سجدتان، وأنه قبل السلام، أى: بحيث لا يتخلل بينهما شئ من الصلاة، كما أفاده تصغير المصنف لـ (قبل) وإنما لم يجب السجود كجبر الحج، لأنه لم يشرع لترك واجب، بخلاف جبر الحج. ويدل لكونه قبل السلام أيضا أخبار، كخبر (الصحيحين) عن عبد الله بن بحينه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي بهم الظهر فقام من الوليين ولم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضي الصلاة وانتظر الناس تسليمه .. كبر وهو جالس فيجد سجدتين قبل إن يسلم ثم سلم)، وقال الزهري: إنه آخر الأمرين من فعله صلى الله عليه وسلم، ولأنه سجود وقع سببه في الصلاة فكان فيها كسجود التلاوة، ولأنه لمصلحة الصلاة فكان قبل السلام، كما لو نسي سجدة منها، ولا فرق في كونه قبل السلام بين كونه لنقص أو زيادة أو لهما. وأما خبر (الصحيحين): (أنه صلى الله عليه وسلم صلي الظهر خمسا وسجد للسهو بعد السلام) .. فأجاب عنه أئمتنا بأنه تدارك للمتروك قبل السلام سهوا، لما في خبر أبي سعيد الأمر بالسجود قبل السلام من التعرض للزيادة.

وسجدتا السهو كسجدتي الصلاة في واجباتهما ومندوباتهما، وحكي بعضهم أنه يقول فيهما: (سبحان من لا ينام ولا سهو) وهو لائق بالحال. فإن تركهما وسلم: فإن كان عامدا .. لم يعد إليهما، وكذا إن كان ساهيا وطال الفصل، فإن تذكر عن قرب .. فله العود ثم يسلم، لخبر (ألصحيحين) عن ابن مسعود: (أنه صلى الله عليه وسلم صلي الظهر خمسا، فلما انتقل .. قيل له ذلك، فسجد سجدتين ثم سلم، وإذا سجد .. بان أن السلام لم يكن محللا، كتذكرة ترك ركن بعد السلام، حتى لو أحدث أو تكلم عمدا قبل السلام .. بطلت صلاته، ولو نوى الإقامة .. لزمه الإتمام، ولو خرج وقت الجمعة .. أكملها ظهرا، لكن يحرم العود إليه إن ضاق الوقت، لإخراجه بعض الصلاة عن وقتها، ذكره البغوي في (فتاويه) في المجمع والقاصر. وبما تقرر علم أنا نتبين بعوده إلى السجود أنه لم يخرج من الصلاة، لاستحالة الخروج منها ثم العود غليها بلا تحرم، وبه صرح الإمام وغيره. [ما يسن له سجدتا السهو] وإنما تسن سجدتا السهو .. لأحد أمرين: أولهما: لسهو ما يبطل عمده الصلاة دون سهوه، كزيادة ركوع أو سجود، لخبر ابن مسعود السابق، بخلاف ما يبطلها سهوه أيضا ككلام كثير، لأنه ليس في صلاة، وبخلاف سهو ما لا يبطلها عمده كالتفات وخطوتين، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل الفعل القليل فيها ورخص فيه كما مر، ولم يسجد ولا أمر به. وشمل كلامه: ما أفتى به القفال من أنه لو قعد للتشهد الأول يظن أنه الثاني فقال ناسيا: (السلام) أى: ناويا به الخروج من الصلاة، فقبل إن يقول: (عليكم) تنبه فقام .. فإنه يسجد للسهو، فإن لم ينو به الخروج من الصلاة .. لم يسجد، وهو مجمل ما أفتي به البغوي، وعلله بأنه لم يوجد منه خطاب. و(السلام): اسم من أسماء الله تعالى، فلا يبطل عمده الصلاة. ويستثني من منطوق كلامه: انحراف المتنفل في السفر عن مقصده إلى غير القبلة ناسيا مع

عوده على الفور .. فلا يسجد له على ما في (الروضة) و (المجموع) و (التحقيق) مع أن عمده مبطل، لكن صحح في (الشرح الصغير) السجود، قال الإسنوي وغيره: إنه القياس، ولهذا: اقتصرت عليه في الكلام على الاستقبال. ومن مفهومه: ما سيأتي في كلامه من نقل الركن القولي، وما لو قنت قبل الركوع بنية القنوت، وما لو فرقهم في الخوف أربع فرق وصلي بكل فرقه ركعة، أو فرقتين وصلي بفرقة ركعة وبآخري ثلاثا. ثانيهما: لترك بعض من أبعاض الصلاة المتقدمة عمدا أو لذهل بضم المعجمة، أي: لذهول، وهو السهو، أما التشهد الأول .. فلأنه صلى الله عليه وسلم (تركه ناسيا وسجد قبل أن يسلم) رواه الشيخان، وقيس بالنسيان العمد بجامع الخلل، بل خلل العمد أكثر فكان للجبر أحوج. والمراد بالتشهد الأول: اللفظ الواجب في الأخير، أما ما هو سنة فيه .. فلا سجود له، وقياس ما يأتي في القنوت: إلحاق ترك بعضه بترك كله. وشمل كلامه: الفرض والنفل، فلو صلي نفلا أربعا بتشهد .. سجد للسهو، لترك التشهد الأول إن كان على عزم الإتيان به فنسيه، وإلا .. فلا كما أفتى به البغوي، وقيل: لا يسجد مطلقا، وجري عليه صاحب (الذخائر)، ونقله ابن الرفعة عن الإمام. وأما قعود التشهد الأول .. فلأن السجود إذا شرع لترك التشهد الأول .. شرع لترك قعوده، لأن المقصود له، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه .. فلأنها ذكر يجب الإتيان به في الجلوس الأخير، فيسجد لتركه في الأول، وأما الصلاة على آله في جلوس التشهد الأخير ... فكالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يتيقن ترك إمامه لها بعد أن سلم إمامه وقبل أن يسلم هو، أو بعد أن سلم وقصر الفصل. وأما القنوت وقيامه في اعتدال الثانية من الصبح والركعة الأخيرة من وتر نصف رمضان الثاني .. فقياسا لها على ما مر، وترك بعض القنوت كترك كله، قاله الغزالي وغيره، واعترض بأنه إنما يأتي على القول بتين كلماته، والأصح: خلافه، وبه صرح القاضي

مجلي، وأجيب: بأنه إذا شرع في قنوت ... تعين ما لم يعدل إلى بدله. وشمل كلامهم: سنية السجود لترك إمامه الحنفي له، وهو كذلك على الأصح من أن العبرة بعقيدة المأموم. وصورة السجود لترك قعود التشهد فقط وقيام القنوت فقط: ألا يحسن التشهد أو القنوت، فإنه يسن له أن يقعد أو يقوم بقدره، فإذا لم يفعل .. سجد للسهو. وخرج بما ذكر: قنوت النازلة فلا يسجد له، لعدم تأكد أمره، لأنه سنة في الصلاة لا منها، أى: لا بعضها، والكلام فيما هو بعض منها، ولو شك في ترك بعض .. سجد، أو ارتكاب منهي .. فلا. وقوله: (لا سنة) أى: لا تسن سجدتا السهو لترك سنة من سسن الصلاة غير أبعاضها عمدا أو سهوا، لأن سجود السهو زيادة في الصلاة فلا يجوز إلا بتوقيف، ولم يرد إلا في بعض الأبعاض، وقسنا باقيها عليه، لتأكدها، وبقي ما عداها على الأصل، فلو فعله ظانا جوازه ... بطلت صلاته إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية، قاله البغوي في (فتاويه)، لأنه قد يعرف مشروعية سجود السهو ولا يعرف مقتضيه. [سجود السهو لنقل الركن القولي] وقوله: (بل نقل ركن قولي) أي: بل تسن سجدتا السهو بنقل ركن قولي لا يبطل عمد نقله الصلاة عن محله، كقراءة (الفاتحة) أو التشهد أو بعضهما في غير محلهما من ركن طويل أو قصير لم يطل بذلك، ولا فرق في ذلك بين كونه عمدا أو سهوا، لتركه التحفظ المأمور به في الصلاة مؤكدا كتأكد التشهد الأول، أما ما يبطلها تعمد نقله كالسلام .. فداخل في قوله: (ما يبطل عمده الصلاة). وخرج بـ (نقل الركن): نقل غيره، كتسبيح الركوع والسجود. نعم، يسن السجود لنقل القنوت كما مر، وقراءة غير (الفاتحة) كما في (المجموع) وغيره. وقوله: (أو لذهل) بدرج الهمزة للوزن.

[ترك ركن من أركان الصلاة سهوا] (وكل ركن قد تركت ساهيا ... ما بعده لغو إلى أن تأتيا) (بمثله، فهو ينوب عنه ... ولو بقصد النفل تفعلنه) أى: وكل ركن من أركان الصلاة قد تركته ساهيا فتذكرته في الصلاة قبل فعلك مثله من ركعة أخري فما بعد المتروك .. لغو، لوقوعه في غير محله، وتأتي بمجرد التذكر بما تركته، وإن لم تتذكر حتى فعلت مثله مما شملته نية الصلاة .. فهو ينوب عن المتروك لوقوعه في محله، ولو فعلته بقصد النفل، كأن جلست في التشهد الأخير وأنت تظنه الأول، ثم تذكرت عقبه .. فإنه يجزئ عن الفرض، هذا إذا عرف عين الركن وموضعه، فإن لم يعرف أخذ باليقين وأتي بالباقي على الترتيب وسجد للسهو. وإن كان المتروك النية أو تكبيرة الإحرام، أو جوز أن يكون أحدهما .. استأنف الصلاة، والشك في ترك الركن قبل السلام كتيقن تركه، فلو تيقن ترك سجدة من الركعة الأخيرة ... سجدها وأعاد تشهده، أو من غيرها أو شك فيهما .. لزمه ركعة، ولو علم في قيام ثانية ترك سجدة: فإن كان جلس بعد سجدته ولو للاستراحة .. سجد، وإلا .. فليجلس مطمئنا، ثم يسجد. ولو علم في آخر رباعية ترك سجدتين أو ثلاث، جهل موضعها .. لزمه ركعتان، أو أربع .. لزمه سجدة ثم ركعتان، أو خمس أو ست .. لزمه ثلاث، أو سبع .. لزمه سجده ثم ثلاث، أو ثمان .. لزمه سجدتان ثم ثلاث، وتذكر المتروك بعد السلام إذا لم يطل الفصل عرفا ولم يطأ نجاسة .. كهو قبله، وشمل تعبيرهم بـ (ترك السجدات): الترك الحسي والشرعي. وألف (تأتيا) للإطلاق. [نسيان التشهد الأول] (ومن نسي التشهد المقدما ... وعاد بعد الانتصاب حرما) وجاهل التحريم أو ناس فلا ... يبطل عوده، وإلا أبطلا)) (لكن على المأموم حتما يرجع ... إلى الجلوس للإمام يتبع) (وعائد قبل انتصاب يندب ... سجوده إذ للقيام يقرب)

أى: ومن نسي التشهد الأول مع جلوسه أو دونه فذكره بعد انتصابه قائما ... لم يعد له، لخبر أبي داوود وحسنه الترمذي عن زياد بن علاقة قال: صلي بنا المغيرة بن شعبة فنهض في الركعتين فقلنا: سبحان الله، فقال: سبحان الله، فلما أتم صلاته .. سجد سجدتي السهو، فلما انصرف .. قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع كما صنعت)، ولتلبسه بفرض فلا يقطعه لسنة، فإن عاد، أي: عامدا علما بالتحريم .. حرم عوده، لزيادة قعوده، وجاهل التحريم أو ناس له .. فلا يبطل عوده الصلاة. أما الناسي .. فلرفع القلم عنه، وأما الجاهل .. فلأنه مما يخفي على العوام، وإلا بأن كان عالما بالتحريم عامدا .. أبطل عودة الصلاة، لما مر، وعلى الجاهل أن يقوم عند تعلمه، والناسي عند تذكره، هذا إن كان المصلي منفردا أو إماما أو مأموما وقد انتصب هو وإمامه وإن عاد إمامه، والأولي أن ينوى مفارقته حينئذ، ولو انتظره قائما .. جاز، لاحتمال كونه معذورا. وقوله: (لكن على المأموم حتما يرجع إلى الجلوس لإمام يتبع) أي: لأن متابعته فرض آكد من التلبس بالفرض، ولهذا: سقط بها القيام والقراءة عن المسبوق إذا أدرك الإمام راكعا، فإن لم يعد .. بطلت صلاته، لمخالفته الواجب، فلو لم يعلم حتى قام إمامه .. لم يعد ولم تحسب قراءته، كمسبوق سمع حسا ظنه سلام إمامه فقام وآتي بما فاته، ثم بان أنه لم يسلم .. لا يحسب له ما آتى به قبل سلام إمامه، أما لو انتصب المأموم عامدا .. فعوده لمتابعة إمامه مندوب. وفرق بين حالتيه: بأن العامد انتقل إلى الواجب وهو القيام، فتخير بين العود وعدمه، لأنه تخيير بين واجبين بخلاف الناسي فإن فعله غير معتد به، لأنه لما كان معذورا .. كان قيامه كالعدم فتلزمه المتابعة كما لو لم يقم، ليعظم أجره، والعامد كالمفوت لتلك السنة بتعمده، ولا يلزمه العود إليها. واستشكل ما تقرر بما قالوه في صلاة الجماعة من أنه إذا تقدم على إمامه بركن ... لا يجب العود، بل يندب في العمد ويتخير في السهو، وفرق بفحش التقدم هنا. وقوله: (وعائد قبل انتصاب يندب سجود إن للقيام يقرب) أي: إن كان للقيام يقرب، يعني: أن المصلي إذا نسي التشهد الأول وذكره قبل انتصابه .. عاد له، لأنه لم يتلبس بفرض، فإن عاد وهو إلى القيام أقرب منه إلى القعود .. سجد للسهو، لأنه لو فعل ذلك عامدا ... بطلت صلاته، أما إذا كان إلى القعود أقرب، أو كانت نسبته غليهما على السواء .. فلا يسجد، لقلة

ما فعله حينئذ، حتى لو فعله عامدا ... لم تبطل صلاته، وهذا التفصيل طريقة القفال وجماعة منهم: البغوي، ورجحاه في (الشرحين) و (الروضة)، وجزما به في (المحرر) و (المنهاج)، لكن صدر كلام (الروضة) يقتضي: أن الراجح عند الأصحاب أنه لا يسجد مطلقا، ولأجل ذلك جعل في (التحقيق) هذا التفصيل وجها ضعيفا، وجعل الأظهر: أنه لا يسجد، وقال في (المجموع): إنه الأصح عند جمهور الأصحاب، وصححه في (تصحيح التنبيه)، قال الإسنوي: وبه الفتوى. ولو تخلف المأموم عن إمامه للتشهد .. بطلت صلاته، لفحش مخالفته، وفارق ما لو قام وحده كما مر، بأنه في تلك اشتغل بفرض وفى هذه بسنة، وما لو ترك إمامه القنوت .. فله أن يتخلف ليقنت إذا لحقه في السجدة الأولي، بأن في تلك لم يحدث في تخلفه قياما، وهنا أحدث فيه جلوسا. ولو صلي قاعدا فافتتح القراءة بعد الركعتين: فإن كان على ظن أنه فرغ من التشهد وأن وقت الثالثة قد حضر .. لم يعد إلى قراءة التشهد، وإن علم أنه لم يتشهد ولكن سبق لسانه إلى القراءة .. فله أن يعود إلى التشهد، لأن تعمد القراءة كتعميد القيام، وسبق اللسان إليها غير معتد به. وترك القنوت يقاس بما ذكرناه في التشهد، فإن نسيه وعاد إليه قبل وضع جبهته على مصلاه .. جاز، أو بعده .. فلا، ويسجد للسهو إن بلغ حد الراكع، وإلا .. فلا. والألف في قوله: (المقدما) و (حرما) و (أبطلا) للإطلاق، وقوله: (نسئ) بسكون الياء وصبه بنية الوقف. (ومقتد لسهوه لن يسجدا ... لكن لسهو من به قد اقتدي) فيه مسألتان:

[سهو المأموم حال القدوة يتحمله الإمام] الأولي: أن سهو المأموم حال قدوته لا يسجد له، لأن غمامه يتحمله عنه كما يتحمل عنه القنوت والجهر والسورة وغيرها، ولأن معاوية شمت العاطس خلف النبي صلى الله عليه وسلم كما مر ولم يسجد ولا أمر بالسجود، ولخبر: (الإمام ضمن) رواه أبو داوود، وصححه ابن حبان. فلو ظن سلام غمامه فسلم فبان خلافه .. سلم معه ولا سجود، لأن سهوه في حال قدرته، ولو ذكر في تشهده ترك ركن غير النية والتكبير .. قام بعد سلام إمامه وأتي بركعة ولا يسجد، لما مر. وشمل كلامه: ما لو سها حال تخلفه عن إمامه بعذر كزحام .. فإنه لا يسجد لسهوه، لبقاء حكم القدوة. وخرج بقوله: (مقتد) سهوه بعد سلام إمامه، كأن سلم المسبوق بسلام إمامه ساهيا أو قبل اقتدائه به، فإنه يسجد له، لعدم اقتدائه به حال سهوه، وإنما لم يتحمله الإمام في الأخيرة كما أنه يلحقه سهو إمامه الواقع قبل اقتدائه، لأنه قد عهد تعدي الخلل من صلاة الإمام إلى صلاة المأموم دون عكسه. ولو شك المسبوق في أدارك الركوع مع إمامه .. لم يحسب له، قال الغزالي: ويسجد للسهو كما لو شك أصلي ثلاثا أم أربعا، قال في (الروضة): وهو ظاهر، ولا يقال: يتحمله الإمام، لأنه بعد سلام الإمام شاك في عدد ركعاته. [سهو الإمام يلحق المأموم] الثانية: أن المأموم يلحقه سهو إمامه، كما يحمل الإمام سهوه، وفيهما خبر: (ليس علي من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام .. فعليه وعلي من خلفه السهو) رواه الدارقطني والبيهقي وضعفه، فإن سجد إمامه .. لزم متابعته، فإن تركها عامدا عالما بالتحريم ... بطلت

واستثني في (الروضة) كـ (أصلها) ما إذا تبين له حدث الإمام .. فلا يلحقه سهوه، وما إذا تيقن غلط الإمام في ظنه وجود مقتض للسجود .. فلا يتابعه فيه، فلو لم يتيقن .. تابعه، بخلاف ما لو قام إلى خامسة .. لا يتابعه حملا على تركه ركنا، لأنه وإن تحقق تركه ركنا .. لم تجز متابعته، إتمامه الصلاة يقينا، بل لو كان على المأموم ركعة .. لم يتبعه فيها، ذكره في (الروضة). وشمل كلام المصنف: ما لو سها قبل اقتدائه به .. فإنه يسجد معه، للمتابعة، ثم يسجد أيضا في آخر صلاته، لأنه محل سجود السهو، وما لو اقتدي به بعد انفراده مسبوق آخر وبهذا ثالث ... فكل يسجد للمتابعة، ثم في آخر صلاته، وما لو ترك الإمام السجود لسهوه، أو واحده من سجدتيه ... فيسجد المأموم في الأول ويكمل في الثاني، لتطرق الخلل لصلاته، بخلاف تركه التشهد الأول وسجدة التلاوة لا يأتي المأموم بهما، لأنهما يفعلان خلال الصلاة، فلو انفرد بهما .. لخالف الإمام، وما لو تركه الإمام لرأيه، كحنفي لا يري السجود لترك القنوت .. فيسجد المأموم اعتبارا بعقيدته، وحينئذ فلا فرق بين أن يوافقه المأموم في تركه وأن يأتي به. وألف (يسجدا) للإطلاق. [الشك قبل السلام في عدد الركعات] (وشكه قبل السلام في عدد ... لم يعتمد فيه على قول أحد) (لكن على يقينه، وهو الأقل ... وليأت بالباقي ويسجد للخلل) أي: وشك المصلي قبل سلامه في عدد من ركعاته أو سجداته .. لم يجز له أن يعتمد فيه على قول أحد وإن كان كثيرا وراقبوه، لما يأتي، ولتردده في فعله كالحاكم الناسي لحكمه، وأما مراجعته صلى الله عليه وسلم للصحابة، ثم عودة للصلاة في خبر ذي اليدين .. فمحمول على تذكره بعد مراجعته، لكن يعتمد على يقينه وهو الأقل، وليأت بالباقي، ويسجد ندبا سجود السهو، للخلل وهو أن المأتي به إن كان زائدا .. فذاك، وإلا .. فالتردد في أصالته

يضعف النية ويحوج إلى الجبر، واعترضه الإمام بما لو شك في قضاء الفائتة فأعادها، وأجيب بأن النية فيها لم تتردد في باطل، بخلاف هذا. والأصل في ذلك: خبر مسلم: (إذ شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم أصلى ثلاثاً أم أربعاً .. فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً .. شفعن له صلاته) أي: ردتها السجدتان إلى الأربع، فلو شك في ركعة أثالثة هى أم رابعة، فزال شكه فيها .. لم يسجد، لأن ما فعله حال الشك أصلي بكل تقدير، فلا تردد في أصالته، أو فيما بعدها .. سجد، لفعله حال الشك زائد بتقدير. ولو شك في تشهد أهو الأولي أم الأخير: فإن زال شكه بعد تشهده .. سجد، لفعله زائد بتقدير، أو فيه .. فلا. وخرج بقوله: (قبل السلام) شكه في ترك فرض بعد السلام .. فإنه لا يؤثر وإن قصر الفصل، لأن الظاهر وقوع السلام عن تمام، ولأنه لو أثر .. لعسر الأمر على الناس خصوصا على ذوي الوسواس، ومقتضاه: أن الشك في الشرط لا يؤثر، وهو ما حكاه في (المجموع) بالنسبة إلى الطهر عن الشيخ أبي حامد والمحاملي وغيرهما، لكنه جزم قبل حكايته له في أخر (باب الشك في نجاسة الماء) بأنه يؤثر فارقا بأن الشك في الركن يكثر، بخلافه في الطهر، وبأن الشك في الركن حصل بعد تيقن الانعقاد والأصل الاستمرار على الصحة، بخلافه في الطهر، فإنه شاك في الانعقاد والأصل عدمه، قال: وقد صرح الشيخ أبو حامد والمحاملي وسائر الأصحاب بمعني ما قلته، فقالوا: إذا جدد الوضوء ثم تيقن أنه نسي مسح رأسه من أحد الوضوءين .. لزمه إعادة الصلاة، لجواز كونه ترك المسح من الأول، ولم يقولوا: إنه شك بعد الصلاة. انتهى. قال في (الخادم): وهو فرق حسن، لكنه المنقول: عدم الإعادة مطلقا، وعلله بالمشقة، وهو الموافق لما نقله هو عن القائلين به عن النص: أنه لو شك بعد طواف نسكه هل طاف متطهرا، أم لا؟ لا تلزمه الإعادة للطواف. وفي (فتاوى القفال): أن من شك في نجاسة على ثوبه هل كانت في الصلاة؟ فهي صحيحة.

ولا دليل للنووي في مسألة التجديد، لأنه في شك استند إلى يقين ترك فأثر في الصلاة، لتأثيره في الطهر، بخلافه في مسألتنا، ولهذا بقي طهره، ولهذا قال بعضهم: إن كلامهم إنما يأتي على طريقة القاضي والبغوي من أن الشك بعد السلام في ترك فرض .. يؤثر، وظاهره أنه وإن صرح بأن كلامه مخالف لكلام الأصحاب .. يمكن حمله على ما إذا لم يتذكر أنه تطهر قبل شكه، وحمل كلامهم على خلافه، وقد نقل هم عن الشيخ أبي حامد: جواز دخول الصلاة بطهر مشكوك فيه، وظاهر أن صورته: أن يتذكر أنه تطهر قبل شكه، وإلا .. فلا تنعقد ويستثني ما لو شك في النية أو تكبيرة الإحرام 00 فإنه يؤثر.

باب صلاة الجماعة

باب صلاة الجماعة (تسن في مكتوبة لا جمعه ... وفي التراويح وفى الوتر معه) (كأن يعيد الفرض ينوى نيته ... مع الجماعة اعتقد نفيلته) فيها خمس مسائل: - [حكم صلاة الجماعة] الأولي: تسن صلاة الجماعة في مكتوبة وهي الصلوات الخمس لا جمعة، لأنها فيها فرض عين كما سيأتي في بابها، وأقل الجماعة فيما عداها: إمام ومأموم، والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [سورة النساء: 102] الآيه، أمر بها في الخوف ففي الأمن أولي، ومواظبته صلى الله عليه وسلم عليها كما هو معلوم بعد الهجرة، والأخبار كخبر (الصحيحين): (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، وفي رواية (بخمس وعشرين درجة)، قال في (المجموع): ولا منافاة، لأن القليل لا ينفي الكثير، أو أنه أخبر أولا بالقليل، ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل فأخبر بها، أو أن ذلك يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة، وقال فيه في (باب هيئة الجمعة): إن من صلي في عشرة آلاف .. له سبع وعشرون درجة، ومن صلي مع اثنين .. له كذلك، لكن درجات الأول أكمل. وخرج بـ (المكتوبة): المنذورة، فلا تسن فيها الجماعة، والمراد بـ (المكتوبة): المؤداه، والمقضية خلف مقضيه من نوعها، كان يفوت الإمام والمأموم ظهر أو عصر، فتسن

فيها الجماعة، لخبر (الصحيحين): (أنه صلى الله عليه وسلم صلي بأصحابه الصبح جماعة حين فاتتهم بالوادي). أما المؤداة خلف المقضية وعكسه، والمقضية خلف مقضيه أخري .. فلا تسن الجماعة فيها، بل الانفراد فيها أفضل، للخلاف في صحة الاقتداء، ولا يتأكد الندب للنساء تأكده للرجال، لمزيتهم عليهن قال تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [سورة البقر: 228]، فيكره تركها للرجال دون النساء، وما قاله أنه سنة في المكتوبة .. هو ما صححه الرافعي، وقال النووي: الأصح المنصوص: أنها فرض كفاية، لخبر: (ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة .. إلا استحوذ عليهم الشيطان) أي: غلب، رواه أبو داوود وغيره، وصححه ابن حبان وغيره، وليست فرض عين، لخبر: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ) فإن المفاضلة تقتضي جواز الانفراد. وأما خبر (الصحيحين): (أثقل الصلاة على المنافقين .. صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما .. لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) ... فوارد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون فرادي، والسياق يؤيده، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرقهم وإنما هم بتحريقهم. فإن قلت: لو لم يجز تحريقهم .. لما هم به؟ قلنا: لعله هم بالاجتهاد، ثم نزل وحي بالمنع، أو تغير الاجتهاد، ذكره في (المجموع). وعل القول بأنه فرض كفاية لو تركها أهل بلد أو قرية .. قاتلهم الإمام، ولا يسقط عنهم الحرج إلا إذا أقاموها، بحيث يظهر شعارها بينهم، ففي القرية الصغيرة تكفي إقامتها بموضع واحد، وفي الكبيرة يجب إقامتها بمواضع ولو بطائفة يسيرة، بحيث يظهر الشعار في المحال وغيرها، فلا تكفي إقامتها في البيوت وإن ظهرت في الأسواق.

ثم إنها إنما تجب لأداء فرض الرجل الحر المقيم الساتر لعورته، فلا تجب في المقضية، ولا على الأنثي بل والخنثي والعبد والمسافر، ولا على العراة، بل الخلاف في ندبها لهم كما صححه الرافعي، وصحح النووي: أنها والانفراد سواء، وقال: لو كانوا عميا أو في ظلمة ... استجبت لهم بلا خلاف. وأكد الجماعات بعد الجمعة: صبحها، ثم صبح غيرها، ثم العشاء، ثم العصر، وأما الجماعة في الظهر والمغرب .. فقال الزركشي: يحتمل التسوية بينهما، ويحتمل تفضيل الظهر، لاختصاصها ببدل وهو الجمعة وبالإبراد، ويحتمل تفضيل المغرب، لأن الشرع لم يخفف فيها بالقصر. [استحباب الجماعة في التراويح والوتر] الثانية: تسن الجماعة في التراويح، للإتباع فيها كما مر، وفي الوتر معه، أى: مع فعل التراويح جماعة أو فرادي، لنقل الخلف له عن السلف، إلا إذا كان له تهجد، فالسنة تأخير الوتر عنه كما مر، فغن صلاة بدون التراويح .. فمقتضي كلامه كـ (الروضة): أن الجماعة لا تسن فيه، لكن مقتضي كلام الرافعي سنيتها فيه أيضا، وهو كذلك. [استحباب إعادة الفرض وشروطه] الثالثة: تسن إعادة الفرض المؤدي ولو في جماعة مرة واحدة مع جماعة في الوقت ولو كان إمامها مفضولا والوقت وقت كراهة، لأنه صلى الله عليه وسلم صلي الصبح فرأي رجلين لم يصليا معه فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: صلينا في رحالنا، فقال: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة .. فصلياها معهم، فإنها لكما نافلة) رواه أبو داوود وغيره، وصححه الترمذي وغيره، وقوله: (صليتما) يصدق بالإنفراد والجماعة، وسواء استوت الجماعتان أم زادت الثانية بفضيلة، ككون الإمام أعلم أو أورع، أو الجمع أكثر، أو المكان

أشرف، أم زادت الأولي بها، لأن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعود إلي قومه فيصلي بهم تلك الصلاة ولم ينكر عليه. وعلم من كلام المصنف: إنه تسن إعادة الفرد مع المصلي منفردا، لصدق إعادته بجماعة، وبه جزم في (الروضة)، وحكي ابن الرفعة الاتفاق عليه، ودليله خبر أبي سعيد الخدري: (أن رجلا جاء إلى المسجد بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) فصلي معه رجلا) رواه أبو داوود والترمذي وحسنه. قال في (المجموع): فيه استحباب إعادة الصلاة في جماعة لمن صلاها في جماعة وإن كانت الثانية أقل من الأولي، وأنه تستحب الشفاعة إلى من يصلى مع الحاضر ممن له عذر في عدم الصلاة معه، وأن الجماعة تحصل بإمام ومأموم، وأن المسجد المطروق لا تكره فيه جماعة بعد جماعة انتهى. وأما خبر أبي داوود والنسائي: (لا تصلوا صلاة مكتوبة في يوم مرتين) .. فعام خص بما مر من الأدلة. قال الأذرعي: إنما تسن الإعادة لغير من الانفراد له أفضل كالعاري، والظاهر: أنه إنما، تستحب الإعادة إذا كان الإمام ممن لا يكره الاقتداء به، وأن الإعادة إنما تستحب ممن لو اقتصر عليها .. لأجزأته، أما لو كانت لا تغني عن القضاء، كمقيم تيمم لفقد ماء أو لبرد .. فلا. انتهى. وخرج بـ (الفرض): النفل، لكن القياس في (المهمات): أن ما تسن فيه الجماعة من النفل .. كالفرض في سن الإعادة. ويستثني من سن الإعادة: صلاة الجنازة، لأنها لا ينتفل بها، وصلاة الجمعة، فإنها لإتقان بعد أخري، فإن فرض الجواز لعذر الاجتماع .. فالقياس في (المهمات): أنها

[نية الصلاة المعادة] الرابعة: أن المعيد ينوى بالمعادة الفرض، لأنه إنما أعادها لينال ثواب الجماعة في فرض وقته، وإنما ينال ذلك إذا نوى الفرض، وهذا ما صححه الأكثرون والنووي في (المنهاج) تبعا (لأصله)، واستبعده إمام الحرمين وقال: كيف ينوي الفرض مع القطع بأن الثانية ليست بفرض؟ ! بل الوجه: أن ينوي الظهر أو العصر مثلا، ولا يتعرض للفرضية، قال في (الروضة): وهذا هو الراجح. وأجاب عنه العلامة الرازي بأنه ينوي ما هو فرض علي المكلف لا الفرض عليه، كما في صلاة الصبي، قال: ولعل الفائدة فيه انه لو تذكر خللا في الأولي .. كفت الثانية، بخلاف ما إذ لم ينوى الفرض، كما أن الصبي لو لم ينوى الفرض .. لم يؤد وظيفة الوقت غذا بلغ فيه، وبما ترجاه افتي الغزالي، ويظهر: أنه بناه على أن الفرض ليس الأولي بعينها، وإلا .. فقد نقل النووي في (رؤوس المسائل) عن القاضي أبي الطيب وجوب الإعادة، لأن الثانية تطوع محض، وأقره عليه، نقله الزركشي. [وقوع المعاد نفلا] الخامسة: أن المعاد يقع نفلا، للخبر السابق، ولسقوط الخطاب بالأول. وقيل: أن الفرض أحدهما يحتسب الله تعالى بما شاء منهما، وربما قيل: يحتسب بأكملهما، وقيل: إن صلي منفردا .. فالفرض الثانية، لكمالها، وقيل: إن كل منهما فرض، لأن الثانية مأمور بها والأولي مسقطة للحرج لا مانعة من وقوع الثانية فرضا، بدليل سائر فروض الكفايات كالطائفة الثانية المصلية على الجنازة وغيرها، ثم إنه يكون فرضه الأولي إن أغنت عن القضاء، وإلا .. ففرضه الثانية المغنية عن المذهب. والجماعة للرجال أفضل منها للنساء، ولهم في المساجد أفضل منها خارجها وإن كان أكثر جماعة، لاشتمالها على الشرف، وإظهار الشعار، وكثرة الجماعة، ولخبر (الصحيحين): (صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).

[جماعة النساء في البيوت أفضل] وأما النساء .. فالجماعة لهن في بيوتهن أفضل مناه في المساجد وغيرها، بل يكره حضور الشابة والكبيرة المشتهاة، ويكره للزوج والولي تمكينها منه، لما في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها: (لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي ما أحدث النساء .. لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل)، وأما خبر مسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) .. فمحمول على عجوز لا تشتهي، فإنه يندب للزوج أن يأذن لها إذا استأذنته وأمن المفسدة، لخبر مسلم: (إذا استأذنتكم نساؤكم بالليل إلى المسجد .. فأذنوا لهن)، وخبر (الصحيحين): (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى مسجد .. فلا يمنعها). وإذا أرادت المرأة الحضور .. كره لها الطيب وفاخر الثياب، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد ووجدت شروط الحضور .. حرم المنع، وإمامة رجل لهن بغير خلوه محرمة .. أفضل من إمامة امرأة. (وكثرة الجمع استحب حيث لا ... بالقرب منه مسجد تعطلا) (أو فسق الإمام أو ذو بدعة ... وجمعة يدركها بركعة) فيهما مسألتان: [كثرة الجماعة أفضل وما يستثني منه] الأولي: كثرة الجمع أفضل من قلته، لخبر: (صلاة الرجل مع الرجل .. أزكي من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين .. أزكي من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر .. فهو أحب إلى الله) رواه أبو داوود وغيره، وصححه ابن حبان وغيره، إلا إذا تعطل مسجد قريب منه عن الجماعة بغيبته، لكونه إمام أو يحضر الناس بحضوره، أو كان إمام الكثير فاسقا أو مبتدعا كرافضي، أو مخالفا في بعض الأركان والشروط، فإن الجماعة في الجمع القليل في المسجد

القريب أو الخالي إمامه عما ذكر .. أفضل، لتكثر الجماعة بالمسجد في الأول، وليأمن الخيانة في الثني، وفي معني الفاسق: كل من يكره الاقتداء به، كولد الزنا والتمتام واللاحن لحنا لا يغير المعني، فإن لم تحصل الجماعة إلا بفاسق أو نحوه .. فالصلاة معه أفضل، كذا ذكره الدميري رحمه الله تعالى، وقال السبكى: إن كلامهم يشعر به. انتهى، وهو وجه حكاه المحاملي وغيره. لكن الذي في (البحر): أن صلاته منفردا أفضل، ونقله في (الروضة) كـ (أصلها) عن أبي إسحاق المروزي، لكن في مسألة الحنفي فقط، ومثلها البقية، بل أولي. والجمع القليل في أحد المساجد الثلاثة أفضل من الجمع الكثير في غيرها، بل الانفراد فيها أفضل كما قاله المتولي. وأفتى الغزالي بأن الانفراد أفضل فيما لو كان لو صلى منفردا .. خشع، ولو صلي في جماعة .. لم يخشع، ونقل في (الخادم) عن ابن عبد السلام موافقته، ثم صوب خلافه. قال في (البحر): ولو تساوت جماعة مسجدي الجوار .. قدم مات يسمع نداءه، ثم الأقرب، ثم يتخير. انتهى، وهذا جري على الغالب، فلو فرض أنه يسمع نداء الأبعد دون الأقرب لحيلولة ما يمنع السماع أو نحوها .. قدم الأقرب. [بما تدرك الجمعة] الثانية: تدرك الجمعة بركعة مع الإمام لا بما دونها، لخبر: (من أدرك ركعة من الصلاة .. فقد أدركها) رواه الشيخان، ولخبر: "من أدرك من الجمعة ركعة .. فليصل إليها أخرى" وخبر " من أدرك من صلاة الجمعة ركعة .. فقد أدرك الصلاة" رواهما

الحاكم، وقال في كل منهما: إسناده صحيح على شرط الشيخان. وعلى هذا: فلو أدرك ركوع الثانية المحسوب للإمام واطمئن قبل أن يرفع الإمام رأسه عن أقل الركوع .. أدرك الجمعة، فيصلي ركعة أخري جهرا، فإن أدرك الإمام بعد ركوعها .. نوى الجمعة تبعا للإمام وأتمها ظهرا أربعة. وخرج بـ (الجمعة): غيرها، فتدرك الجمعة فيها بجزء منها وإن قل ما لم يسلم، لكن فضيلتها دون فضيلة من يتركها من أولها، إذ لو لم تحصل بذلك .. لمنع من الاقتداء، لأنها حينئذ تكون زيادة بلا فائدة، ومتى فارق الإمام .. فاتته فضيلة الجماعة إلا إذا فارقه بعذر وألف (تعطلا) للإطلاق. [فضيلة إدراك تكبيرة الإحرام] (والفضل في تكبيرة الإحرام ... بالاشتغال عقب الإمام) أى: والفضل في تكبيرة الإحرام يحصل بالاشتغال بالتحرم عقب تحرم إمامه أى: بشرط حضوره تكبيرة الإمام، غذ الغائب عن تحرمه والشاهد له من غير تعقب إحرامه له .. لا يسميان مدركين له. والأصل فيه: خبر: (إنما جعل الإمام .. ليؤتم به، فإذا كبر .. فكبروا) رواه الشيخان، وخبر: (من صلي أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولي كتب له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق) رواه الترمذي منقطعا، وقيد في (المجموع) ذلك بأن يكون بغير وسوسه ظاهرة، وإلا .. فلا يدرك الفضل، وهذا نظير قولهم: إن الوسوسة في القراءة غير عذر في التخلف بتمام ركنين فعليين، لطول زمنها. ولا يسرع الساعي إلى الجماعة وإن خاف فوات فضيلة التحرم، لخبر (الصحيحين): (إذا أقيمت الصلاة .. فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم .. فصلوا، وما فاتكم .. فأتموا).

ولو خاف فوات الجماعة .. فقضية كلام الرافعي في (باب الجمعة) أنه يسرع، وبه صرح الفارقي بحثاً، وتبعه ابن أبي عصرون، لكن المنقول خلافه، فقد صرح به أصحاب "الشامل" و"التنمية" و"البحر"، ونقله في "المجموع" عن الأصحاب، ويستحب للأمام انتظار من أحس به في الركوع غير الثاني من الكسوف أو التشهد الأخير بشروط: أحدها: أن يكون قد دخل محل الصلاة. ثانيها: ألاّ يبالغ في الانتظار. ثالثها: ألا يميز بين الداخلين؛ لملازمة، أو دين، أو صداقة، أو استمالة. رابعها: أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى؛ للإعانة على إدراك الركوع في الأولى، وفضل الجماعة في الثانية، ولأنه صلى الله عليه وسلم انتظر في صلاة الخوف؛ للحاجة وهي موجودة هنا فيما ذكر. وحيث فقد شرط منها .. كره الانتظار ولم تبطل الصلاة على المذهب، والمبالغة في الانتظار: أن يشق به على الحاضرين، وضبط الإمام المشقة بما يظهر أثره لو وزع على كل الصلاة. قال في "المجموع": إذا لم يدخل الإمام في الصلاة وقد جاء وقت الدخول وحضر بعض المأمومين ورجوا زيادة .. ندب له أن يعجل ولا ينتظرهم؛ لأن الصلاة أول الوقت بجماعة قليلة أفضل منها آخره بجماعة كثيرة، وإدراك الصف الأول أولى من إدراك غير الركعة الأخيرة. [أعذار الجمعة والجماعة] (وعذر تركها وجمعة: مطر ... ووحل وشدة البرد وحر) (ومرض وعطش وجوع ... قد ظهر أو غلب الهجوع) (مع أتساع وقتها وعري ... وأكل ذي الريح الكريه ني) (إن لم يزل في بيته فليقعد ... ولا تصح قدوة بمقتدى)

وفيها مسألتان: الأولى: عذر تركها؛ أي: الجماعة والجمعة أمور: الأول: المطر بشرط المشقة به؛ بحيث يبل الثياب ليلاً أو نهاراً؛ للإتباع، رواه الشيخان، فإن كان خفيفاً أو وجد كنا يمشي فيه .. لم يعذر، قال في "الروضة": والثلج عذر إن الثياب، وإلا .. فلا. الثاني: الوَحل بفتح الحاء ليلاً أو نهاراً، لأنه اشق من المطر، وترك المصنف التقييد بالشديد كـ"المجموع" و"التحقيق"، ومقتضاه: أنه لا فرق بينه وبين الخفيف، قال الأذرعي: وهو الصحيح؛ والأحاديث دالة عليه. الثالث والرابع: البرد والحر الشديدان ليلاً أو نهاراً؛ للمشقة، بخلاف الخفيف منهما. الخامس: مرض مشقته كمشقة المطر وإن لم يبلغ به حداً يسقط القيام في الفريضة؛ للحرج، قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]، فإن كان خفيفاً؛ كوجع ضرس، وصداع يسير، وحمى خفيفة .. فليس بعذر. السادس والسابع: العطش والجوع الظاهران؛ لخبر: "لا صلاة بحضرة طعام"، قال ابن الرفعة تبعاً لابن يونس: أو لم يحضر الطعام؛ أي: وقرب حضوره، وإذا أكل من به جوع .. فليأكل لقيمات يكسر بها سورة الجوع، إلا أن يكون الطعام مما يؤتي عليه مرة واحدة كالسويق واللبن، وصوب في "شرح مسلم" إكمال حاجته من الأكل. الثامن: غلبة الهجوع وهو النوم، وفي معناه: غلبة النعاس؛ لخبر "الصحيحين": "إذا نعس أحدكم في صلاته .. فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس .. لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه"، فإذا كان عذراً لمن هو في صلاته .. فبالأولى أن يكون عذراً لمن يريد الدخول فيها.

وإنما يعذر المكلف في تأخير الصلاة مع اتساع وقتها، فإن ضاق عنها .. بدأ بها؛ لأن إخراج بعضها عنه حرام. التاسع: العري؛ بألاّ يجد ثوباً يليق به؛ كأن وجد الفقيه قباء، أو لم يجد ما يستر به رأسه وإن وجد ساتر العورة، وكذا لو لم يجد ما يلبسه في رجله وليس عادته الحفاء؛ للمشقة، فإن اعتاد سترها فقط؛ كبعض أطراف الحجاز والسراة واليمن .. فليس بعذر. العاشر: أكل كريه الرائحة؛ كثوم وبصل وفجل بشرط كونه نيئاً، وعدم زواله بالغسل والمعالجة، فليقعد في بيته حينئذ؛ والأصل في ذلك: خبر "الصحيحين": "من أكل بصلاً أو ثوماً أو كراتاً .. فلا يقربن مسجدنا- وفي رواية: المساجد- فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو أدم"، زاد "البخاري": قال جابر: (ما أراه يعني إلا نيئة)، وزاد الطبراني: "أو فجلاً". قال في "المهمات": ويؤخذ منه: سقوطها بالبخر والصنان المستحكم بطريق الاولى. وخرج بـ (النيء): المطبوخ؛ لزوال ريحه، و (نيّ) بالمد والهمز، لكن الأنسب هنا قصره وإبدال همزته ياء وإدماغها فيما قبلها. ومن الأعذار: أن يرجو من عليه عقوبة تقبل العفو؛ كقصاصٍ وحد قذف العفو عنه بتغييبه، والخوف على نفس أو مال، وخوف المعسر من غريمه إن عسر عليه إثبات إعساره، والخوف من الانقطاع عن رفقته، واشتغاله بالتمريض؛ وهو تعهد المريض الذي لا متعهد له، أو اشتغل متعهده بشراء الأدوية ونحوها قريبا كان أو أجنبياً، وحضور نحو قريب محتضر أو يأنس به، والريح الشديدة بالليل دون النهار، ونشد ضالة يرجوها، واسترداد مال مغصوب، وزلزلة، وسمن مفرط، وجذام وبرص. قال الإسنوي: إنما يتجه جعل هذه الأمور أعذاراً لمن يتأتى له إقامة الجماعة في البيت، وإلا .. لم يسقط عنه طلبها؛ لكراهة الانفراد للرجل وإن قلنا: إنها سنة. قال في "المجموع": ومعنى كونها أعذاراً: سقوط الإثم على قول الفرض، والكراهة على قول السنة، لا حصول فضلها، ويوافقه جواب الجمهور عن خبر مسلم: سأل أعمى النبيَّ

صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في الصلاة في بيته؛ لكونه لا قائد له فرخص له، فلما ولى .. دعاه، فقال: "هل تسمع النداء؟ " فقال: نعم، قال: "فأجب": بأنه سأل هل له رخصة في الصلاة ببيته منفرداً تلحقه بفضيلة من صلى جماعة فقيل: لا. وهذا كما قال السبكي ظاهر فيمن لم يكن يلازمها، وإلا .. فيحصل له فضلها؛ ففي "البخاري": "إذا مرض العبد أو سافر .. كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"، وقد نقل في "الكفاية" عن"تلخيص الروياني" وأقره حصولها إذا كان ناوياً الجماعة لولا العذر، ونقله في "البحر" عن القفال، وجزم به الماوردي ومجلي وغيرهما. وحمل بعضهم كلام "المجموع" على متعاطي السبب؛ كأكل بصل وثوم، وكون خبزه في الفرن، وكلام هؤلاء على غيره كمطر ومرض، وجعل حصولها له كحصولها لمن حضرها لا من كل وجه، بل في أصلها؛ لئلا ينافيه خبر الأعمى. [عدم صحة القدوة بمقتد] الثانية: لا تصح قدوة بمقتد حال اقتدائه، ولا بمن شك في كونه مقتدياً؛ كأن رأى رجلين يصليان جماعة وشك أيهما الإمام؛ إذ لا يجتمع وصفا الاستقلال والتبعية، وما في "الصحيحين": (من أن الناس اقتدوا بأبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم) .. محمول على أنهم كانوا مقتدين به صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعهم التكبير؛ كما في "الصحيحين" أيضاً، وقد روى البهيقي وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض وفاته خلف أبي بكر رضي الله عنه). قال في "المجموع": إن صح هذا .. كان ذلك مرتين؛ أجاب به الشافعي والأصحاب. ولو ظن كل من مصليين أنه مأموم .. لم تصح؛ لأن كلاَّ مقتد بمن يقصد الاقتداء به، أو

إمام .. صحت، أو شكا .. فلا، أو أحدهما .. صحت للظانِّ أنه إمام دون غيره، وهذا من المواضع التي فرق الفقهاء فيها بين الظن والشك، قال في "الكفاية": والبطلان بمجرد الشك؛ بناء على طريق العراقيين، أما على طريق المراوزة .. ففيه التفصيل في الشك في النية. [لا تصح القدوة بمن تلزمه الإعادة أو قام إلى زيادة] (ولا بمن تلزمه إعادة ... ولا بمن قام إلى زيادة) أي: لا تصح قدوة تلزمه إعادة لصلاته وإن كانت صحيحة؛ كفاقد الطهورين، والمتيمم لشدة البرد، والمقيم المتيمم لفقد الماء ولو كان المقتدي مثله؛ إذ هي لحق الوقت لا للاعتداد بها. ولا تصح قدوة بمن قام لإلى زيادة على صلاته؛ كخامسة من عالم بسهوه بأن يتابعه فيها؛ لتلاعبه، فلو قام إمامه إليها .. فارقه أو انتظره، وقيل: لا يجوز له انتظاره، أما إذا اقتدى به وتابعه فيها جاهلاً بها .. فتحسب له تلك الركعة إن بقي عليه شيء؛ لعذره وإن لم تحسب للإمام، فإذا سلم الإمام .. تدارك باقي صلاته حتى في الجمعة، فيضيف إليها أخرى؛ كما لو بان إمامه محدثاً، بل أولى. [شروط القدوة] (والشرط: علمه بأفعال الإمام ... برؤية أو سمع تابع الإمام) (وليقترب منه بغير المسجد ... ودون حائل إذا لم يزد) (على ثلاث مئةٍ من الذراع ... ولم يحل نهر وطرق وتلاع) أي: للقدوة شروط: الأول: علم المأمور بأفعال إمامه؛ ليتمكن من متابعته، والمراد ب (العلم): ما يشمل الظن، ويحصل علمه برؤية له من أمامه أو يمينه أو يساره، أو للصف الذي خلفه، أو لأحد الصفوف المقتدين به، أو لبعض صف، او سمع صوت الإمام، أو صوت المبلغ الثقة خلفه وإن لم يكن مصلياً، أو بهداية ثقة بجنب أعمى أصم، أو بصير أصم في ظلمة أو نحوها.

الثاني: أن يجمعهما موقف؛ إذ من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان؛ كما عهد عليه الجماعات في العصر الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الإتباع، ولاجتماعهما أربعة أحوال؛ لأنهما إما أن يكونا بغير مسجد في فضاء، أو بناء، أو بمسجد، أو يكون أحدهما بمسجد والآخر بغيره. فإن كانا بغير مسجد .. اشترط في الفضاء ولو محوطاً أو مسقفاً مملوكاً أو مواتا أو وقفا أو مختلفاً منها: ألا يزيد ما بين الإمام ومن خلفه، أو من على أحد جانبيه، ولا ما بين كل صفين أو شخصين ممن يصلى خلفه أو بجانبه على ثلاث مئة ذراع بذراع الآدمي وهو شبران تقريباً، فلا تضر زيادة أذرع يسيرة كثلاثة ونحوها كما في "المجموع"، ولا بلوغ ما بين الإمام والأخير من صف أو شخص فراسخ، وهذا التقدير: مأخوذ من العرف، وقيل: مما بين الصفين في صلاة الخوف؛ إذ سهام العرب لا تجاوز ذلك. ويشترط مع ذلك فيما إذا كانا في بناءين، أو أحدهما في بناء والآخر في فضاء، ولو كان أحدهما في علو والآخر في سفل، أو كان البناء مدرسة أو رباطاً: ألاّ يحول بينهما حائل يمنع الاستطراف، أو المشاهدة للإمام أو لمن خلفه؛ كشباك أو باب مردود، أو جدار صفة شرقية أو غربية لمدرسة إذا كان الواقف فيها لا يرى الإمام ولا من خلفه؛ إذ الحيلولة بذلك تمنع الاجتماع، بخلاف حيلولة النهر والشارع كما سيأتي. وكذا إن كان أحدهما خارج المسجد والآخر داخله وبينهما منفذ، أو كان في بيتين من غير المسجد وبينهما منفذ .. اشترط مع ما مر لصحة اقتداء من ليس في بناء الإمام ولم يشاهده، ولا من يصلي معه في بنائه: أن يقف واحد من المأمومين مقابل المنفذ يشاهد الإمام، أو من معه في بنائه: أن يقف واحد من المأمومين مقابل المنفذ يشاهد الإمام، أو من معه في بنائه، فتصح صلاة من في المكان الآخر؛ تبعاً له، ولا يضر الحائل بينهم وبين الإمام، ويصير المشاهد في حقهم كالإمام فلا يحرمون قبله، لكن لو فارقهم أو زال عن موقفه .. لم يضر؛ إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. وقوله: (ولم يحل نهر وطرق وتلاع) أي: لم يحل بين الإمام والمأموم نهر وإن احتاج عابره إلى سباحة، وطرق وإن كثر طروقها، وتلاع؛ لأنها لم تعد للحيلولة، قال في "الصحاح": التلعة: ما ارتفع من الأرض وما انهبط أيضاً وهو من الأضداد، والتلاع: مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية واحدتها تلعة.

وإن كانا في مسجد .. صح الاقتداء وإن بعدت مسافته واختلفت أبنيته؛ كبئر وسطح ومنارة بشرط أن تكون أبوابها نافذة وإن أغلقت؛ لأنه كله مبني للصلاة، فالمجتمعون فيه .. مجتمعون لإقامة الجماعة مؤدون لشعارها، أما إذا لم تنفذ أبوابها إليه .. فلا يعد الجامع لها مسجداً واحداً، والمساجد المتلاصقة المتنافذة كالمسجد الواحد، ورحبة المسجد منه. الثالث: ألا يتقدم المأموم على إمامه في الموقف؛ لأنه لم ينقل عن أحد من المقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ولخبر "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، والاعتبار بالعقب للقائم، وبالإلية للقاعد، وبالجنب للمضطجع. ويستحب أن يقف الذكر عن يمين الإمام وأن يتأخر عنه قليلاً، فإن جاء آخر .. أحرم عن يساره ثم يتقدم الإمام، أو يتأخران حالة القيام وهو أفضل إن أمكن، وأن يصطف الذكران خلفه، وإن أم امرأة .. وقفت خلفه، وكذا النساء، أو رجلاً وامرأة .. وقف الرجل عن يمينه والمرأة خلف الرجل، أو رجلين وامرأة .. وقفا خلفه وهي خلفهما، أو رجلاً وامرأة وخنثى .. اصطفا وتخلف الرجل قليلاً، ووقف الخنثى خلفهما والمرأة خلفه، فإن كثروا .. فالرجال، ثم الصبيان، ثم الخناثى، ثم النساء. الرابع: توافق الصلاتين في الأفعال الظاهرة، فلا تصح المكتوبة خلف الجنازة أو الكسوف ولا العكس، ويصح نحو الظهر خلف من يصلي الصبح أو المغرب، وله مفارقته عند القنوت والتشهد، ويصح الصبح خلف من يصلي نحو الظهر، ثم الأفضل أن ينتظره ليسلم معه، فلو صلى المغرب خلف من يصلي نحو الظهر .. لزمه أن يفارقه عند قيامه للرابعة ويتشهد ويسلم، وتصح العشاء خلف من يصلي التراويح والأولى أن يتمها منفرداً، فإن اقتدى به ثانياً .. جاز. الخامس: الموافقة، فإن ترك الإمام فرضاً .. لم يتابعه، أو سنة .. أتى بها إن لم يفحش تخلفه لها؛ كجلسة الاستراحة، وقنوت يدرك معه السجدة الأولى. السادس: المتابعة في أفعال الصلاة، فينبغي ألا يسبقه بالفعل، ولا يقارنه فيه، ولا يتأخر إلى فراغه منه، فإن قارنه .. لم تبطل وكره وفاته فضل الجماعة إلا تكبيرة الإحرام؛ فإنه إن قارنه فيها أو في بعضها، أو شك في أثنائها، أو بعدها ولم يتذكر عن قرب هل قارنه فيها أو لا، أو ظن التأخر فبان خلافه .. لم تنعقد.

ولو تخلف عن المتابعة بلا عذر؛ كالاشتغال بالسورة أو التسبيحات بركنين فعليين وإن لم يكونا طويلين .. بطلت لا بأقل منهما، والتخلف بركنين: أن يتمهما الإمام والمأموم فيما قبلهما؛ كما لو ركع واعتدل، ثم هوى إلى السجود والمأموم قائم: فإن كان لعذر؛ كإبطاء قراءة لعجز لا لوسوسة، واشتغال باستفتاح .. لزمه إتمام (الفاتحة) ويسعى خلف الإمام على نظم صلاة نفسه ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة وهي الطويلة، فإن سبقه به .. وافقه فيما هو فيه وفعل ما فاته بعد سلام إمامه هذا كله في الموافق. أما مسبوق ركع الإمام في (فاتحته) .. فالأصح: أنه إن لم يشتغل بافتتاح وتعوذ .. تابعه وأجزأه، فإن تخلف لإتمامها وفاته الركوع .. بطلت ركعته، وإن اشتغل بافتتاح أو تعوذ .. لزمه قراءة بقدره، فإن لم يدرك الإمام في الركوع .. فاتته الركعة ولا يركع، بل يتابعه، وإن سبقه بركن .. لم تبطل، أو بركنين بأن فرغ منهما وإقامة قبلهما .. بطلت صلاته إن كان عامداً عالماً بالتحريم، وإلا .. فركعته، وسيأتي في كلام المصنف الإشارة إلى هذا. الشرط السابع: نية الاقتداء أو الائتمام أو الجماعة، كما سيأتي في كلام المصنف. [الصلاة خلف العبد والصبي والفاسق] (يؤم عبد وصبي يعقل ... وفاسق لكن سواهم أفضل) أي: يؤم عبد بحر وإن لم يأذن له سيده، وصبي مميز ببالغ، وفاسق بعدل؛ للاعتداد بصلاتهم، ولخبر البخاري: (أن عائشة كان يؤمها عبدها ذكوان)، و (أن عمرو بن سلمة- بكسر اللام- كان يؤم قومه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست أو سبع سنين)، ولخبر البخاري: (أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج)، قال الشافعي رضي الله عنه: وكفى به فاسقاً، ولخبر الدارقطني: "صلوا خلف كل بر وفاجر"، وفي

"تاريخ البخاري" عن الكريم البكاء قال: أدركت عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يصلون خلف أئمة الجور. لكن الحر من العبد، والبالغ أولى من الصبي المميز، والعدل أولى من الفاسق وإن اختص الصبي والفاسق بكونه أفقه وأقرأ؛ لكمالهم، وخروجاً من خلاف من منع الاقتداء بالصبي والفاسق، ولخبر الحاكم في "مستدركه": "إن سركم أن تقبل صلاتكم .. فلؤمكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم". ولو اجتمع عبد فقيه وحر بضده .. فهما سواء على الأصح، بخلاف نظيره في صلاة الجنازة؛ حيث صححوا أولوية صلاة الحر؛ لأن القصد منها الدعاء والشفاعة والحر أولى بهما، والمبغض أولى من كامل الرق. [الأحق بالإمامة] والأولى بالإمامة: ألأفقه الأقرأ، ثم ألأفقه، ثم الأقرأ، ثم الأورع، ثم الأقدم هو أو أبوه وإن علا هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى دار الإسلام، ثم الأسن في الإسلام، ثم الأنسب، فإن استويا .. قدم بحسن الذكر، ثم بنظافة الثوب والبدن وطيب الصنعة، ثم بحسن الصوت، ثم الصورة، فإن استويا وتشاحا .. أقرع بينهما، والمقيم أولى من المسافر إلا إن كان السلطان، ومعروف النسب أولى من غيره، والساكن بحق مقدم على هؤلاء وإن كان عبداً، والمالك أولى من المستعير؛ لأنه مالك المنفعة، والمكاتب والمبغض أولى من السيد فيما سكنه بحق، ولا بد من إذن الشريكين وإذن أحدهما لصاحبه، وإمام المسجد أولى من غيره، ويستحب أن يبعث له إن أبطأ، فإن خيف فولت أول الوقت وأمنت الفتنة .. أم غيره، وإلا .. صلوا فرادي، وتندب الإعادة معه، والوالي في محل ولايته أولى من الكل، فيقدم الأعلى فالأعلى، ومن قدمه المقدم بالمكان .. فهو أولى، أما المقدم بالصفات .. فلاحق له في تقديم غيره. (لا امرأة بذكر، ولا المخل ... بالحرف من (فاتحة) بالمكتمل)

فيه مسألتان: [لا تؤم المرأة ذكراً] الأولى: لا تؤم امرأة؛ أي: ولا خنثى بذكر ولو صبياً، ولا بخنثى؛ لخبر "البخاري": "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، مع خبر ابن ماجة: "لا تؤمن امرأة رجلاً"، فقوله: "رجلاً" شامل للصبي؛ لأنه في مقابلة المرأة، ولاحتمال أنوثة الخنثى، ولا تتبين الصحة إذا بان الإمام ذكراً أو المأموم امرأة، ويصح اقتداء كل من الرجل والخنثى والمرأة بالرجل، والمرأة بالخنثى وبالمرأة. [لا يؤم الأمي قارئاً] الثانية: لا يؤم الأمي وهو من لا يحسن (الفاتحة) أو بعضها ولو حرفاً أو شدة؛ كأرت يدغم في غير موضع الإدغام، وألثغ يبدل حرفاً بحرف بمن يحسنها، أو ما جهله إمامه منها ولو في السرية؛ لأن الإمام بصدد تحمل القراءة، وهذا لا يصلح للتحمل، وكذا من يصلي بسبع آيات غير (الفاتحة) لا يقتدي بمن يصلي بالذكر. فلو عجز إمامه في أثناء الصلاة عن القراءة؛ لخرس .. فارقه، بخلاف عجزه عن القيام؛ لصحة اقتداء القائم بالقاعد، بخلاف اقتداء القارئ بالأخرس، قاله البغوي في "فتاويه"، قال: ولو يعلم بحدوث الخرس حتى فرغ من الصلاة .. أعاد؛ لأن حدوث الخرس نادر. وخرج بقوله: (بالمكتمل) غيره، فيصح اقتداء أمي بمثله إن اتفقا عجزاً؛ لاستوائهما نقصاً فكالمرأتين، ولا يشكل بمنع اقتداء فاقد الطهورين ونحوه بمثله؛ لوجوب القضاء هناك، بخلافه هنا. ولا يصح اقتداء قارئ أول (الفاتحة) دون آخرها بقارئ آخرها دون أولها وإن كثر ولا عكسه، ولا ألثغ بأرت ولا عكسه، ولا الثغ الراء السين ولا عكسه، أما لو كانت اللثغة يسيرة لا تمنع أن يأتي بالحرف على معناه .. فهي غير مؤثرة في صحة الاقتداء، حكي لروياني عن أبي غانم: أن ابن سريج انتهى إلى هذه المسألة فقال: لا تصح إمامة الألثغ، وكانت به لثغة يسيرة وفي مثلها، فاستحييت أن أقول له: هل تصح إمامتك، فقلت: هل تصح إمامتي؟ فقال: نعم، وإمامتي.

[تأخر المأموم أو تقدمه على إمامه بركنين فعليين] (وإن تأخر عنه أو تقدما ... بركني الفعلين ثم علما) (وأربع تمت من الطوال ... للعذر، والأفعال كالأقوال) (كشكه والبطء في (أم القران) ... ورحم وضع جبهة ونسيان) أي: والشرط للقدوة علمه بأفعال الأمام ... إلى آخره، وإن تأخر المأموم عن أمامه أو تقدم عليه بركنين فعليين؛ بأن فرغ إمامه منهما وهو فيما قبلهما وعكسه ناسياً أو جاهلاً، ثم تذكر أو علم .. فإن صلاته لا تبطل، ولكن لا يحسب للمأموم الركنان اللذان سبق إمامه بهما. وخرج بقوله: (ثم علما) ما إذا تأخر عن إمامه بركنين فعليين وإن لم يكونا طويلين بغير عذر، أو تقدم عليه بهما عامداً عالماً بالتحريم، فإن صلاته تبطل؛ لفحش المخالفة كما قدمته. وتقدم المأموم في الأفعال بلا عذر .. حرام وإن لم يبطل؛ كأن تقدم بركن، وتقدمه بالسلام .. مبطل، إلا أن ينوي الفارقة .. ففيه الخلاف فيمن نواها، وما وقع لابن الرفعة ومن تابعه من أنه لا يبطل .. خلاف المنقول. وقوله: (وأربع ... ) إلى آخره؛ أي: وإن تأخر المأموم عن إمامه بأربع من الأركان تامة طويلة للعذر .. فإن صلاته لا تبطل؛ لعذره، والأفعال كالأقوال؛ يعني: أن ألقولي ك (الفاتحة) معدود من الأربعة؛ بأن يسبقه الإمام ب (الفاتحة) والركوع والسجدتين .. فتجب عليه متابعة إمامه بعدها فيما هو فيه، ثم يأتي بركعة بعد سلامه. والعذر كشكِّ المأموم في قراءته الواجبة قبل ركوعه، والبطء منه دون إمامه في قراءة (أم القرآن) أي: أو بدلها فيتخلف لقراءته بعد ركوع إمامه، وزحمِ وضع جبهة للمأموم؛ بأن منعته الزحمة من سجوده على أرض أو ظهر إنسان أو قدمه أو نحوها، وذكر الزحمة هنا إشارة إلى عدم اختصاصها بالجمعة، وإنما ذكروها فيها؛ لكثرة الزحمة فيها غالباً، ولاختصاصها بأمور أخر: كالتردد في حصولها بالركعة الملفقة، والقدوة الحكمية، وفي بناء الظهر عليها عند تعذر إتمامها، ونسيان من المأموم؛ بأن نسي كونه في الصلاة فتخلف، ولو انتظر سكتة إمامه ليقرأ

فيها (الفاتحة) فركع إمامه عقبها .. فهو كالناسي، خلافاً لبعض المتأخرين في قوله بسقوط (الفاتحة) عنه. وألف (تقدما) و (عدما) للإطلاق، وقوله: (القران) بنقل حركة الهمزة إلى الراء، والأبيات الثلاثة ساقطة من بعض النسخ. [نية الاقتداء من شروط صحة القدوة] (ونية المأموم أولاً تجب ... وللإمام -غير جمعةِ- ندب) أي: السابع من شروط القدوة: نية المأموم الاقتداء، أو الائتمام، أو الجمة بالإمام ولو في الجمعة؛ لأن التبعية عمل فافتقرت إلى نية؛ إذ ليس للمرء إلا ما نوى، وتجب أولاً؛ أي: إن أراد الاقتداءً؛ بأن يقرنها بتكبيرة الإحرام كسائر ما ينويه من صفات الصلاة. ولو أحرم منفرداً، ثم نوى القدوة غي خلال صلاته .. جاز، فإن لم ينو ذلك .. انعقدت صلاته منفرداً، إلا في الجمعة .. فلا تنعقد أصلاً؛ لاشراط الجماعة فيها، فإن تابعه بلا نية أو وهو شاك فيها .. بطلت صلاته إذا انتظره طويلاً ليفعل مثله؛ لأنه ارتبط بمن ليس بإمام له، فأشبه الارتباط بتغير المصلي، حتى لو عرض له الشك في تشهده الأخير .. لم يجزله أن يقف سلامه على سلامه، فإن وقعت متابعتة اتفاقاً، أو بانتظار يسير عرفاً .. لم تضر. ولا يؤثر شكه فيما ذكر بعد السلام كما في "التحقيق" وغيره، بخلاف الشك في أصل النية؛ لأنه شك في الانعقاد، بخلافه هنا. ولا يشرط تعيين الإمام، فلو نوى الاقتداء بالإمام الحاضر .. صحت صلاته؛ لأن مقصود الجماعة لا يختلف بتعيينه وعدمه، بل قال الإمام وغيره: الأولى ألاّ يعينه؛ لأنه ربما أخطأ، فإن عينه وأخطا .. لم تصح صلاته؛ لأنه ربطها بمن لم ينو الاقتداء به؛ كمن عين الميت في صلاته عليه، أو نوى العتق عن كفارة ظهار فأخطأ فيهما. ولو علق القدوة بشخصه سواء أعبر عنه (بمن في المحراب)، أم (بزيد هذا)، أم (بهذا الحاضر)، أم 0 بهذا)، أم (بالحاضر) وظنه زيداً فبان عمراً .. صحت صلاته؛ الآن الخطأ لم يقع في الشخص لعدم تأتيه فيه، بل في الظن، ولا عبرة بالظن البين خطؤه، بخلاف ما لو

نوى الاقتداء بالحاضر ولم يعلقها بشخصه؛ لأن الحاضر صفة لزيد الذي عينه وأخطأ فيه، والخطأ في الموصوف يستلزم الخطأ في الصفة فبان أنه اقتدى بغير الحاضر. وفهم من كلام المصنف: أنه يجوز اقتداء المؤدي بالقاضي، والمفترض بالمتنفل وبالعكس، وهولك؛ إذ لا يتغير نظم الصلاة باختلاف النية. ولا تجب في غير الجمعة نية الإمام الإمامة أو الجماعة؛ لأن أفعاله غير مربوطة بغيره، بخلاف أفعال المأموم؛ فإنه إذا لم يربطها بصلاة إمامه .. كان موقفاً صلاته على صلاة من ليس إماماً له، لكن لو تركها .. لم يحز فضيلة الجماعة، وإن اقتدى به جمع ولم يعلم بهم .. نالوها بسببه؛ إذ ليس للمرء من علمه إلا ما نوى فتستحب له؛ ليحوز الفضيلة، وتصح نيته لها مع تحرمه وإن لم يكن إماماً في الحال؛ لأنه سيصير إماماً، وبصحتها حينئذ صرح الجويني، وقال الأذرعي: إنه الوجه. وإذا نواها في أثناء الصلاة .. حاز الفضيلة من حين النية، ولا تنعطف نيته على ما قبلها، وأما في الجمعة .. فتشترط نيته فيها، فلو تركها .. بطلت جمعته؛ لعدم استقلاله فيها، سواء أكان من الأربعين، أم زائداً عليهم. نعم؛ إن لم يكن من أهل الوجوب ونوى غير الجمعة .. صحت صلاته، فإن نواها في غيرها وعين المؤتم به فأخطأ .. لم يضر؛ لأن خطأه في النية لا يزيد على تركها، وإن نوى فيها كذلك فأخطأها .. ضر؛ لأن ما يجب التعرض له .. يضر الخطأ فيه. ولو أدرك الإمام راكعاً .. كبر للإحرام ثم للهوي، فإن اقتصر على تكبيرة: فإن نوى بها الإحرام فقط وأتمها قبل هوية .. انعقدت صلاته، وإلا .. فلا. وتكره مفارقة الإمام بغير عذر، ويعذر بما يعذر به في الجماعة، وبترك الإمام سنة مقصودة، وكذا لو طول وبالمأموم ضعف أو له شغل. وتدرك الركعة بإدراك الركوع المحسوب للإمام بشرط أن يطمئن قبل ارتفاع الإمام عن أقل الركوع، ولو شك في إدراك حد الأجزاء .. لم يدركها؛ كمن أدركه بعد الركوع، وعليه أن يتابعه في الفعل الذي أدركه فيه، ويكبر لما تابع إمامه فيه. وتستحب موافقته في التشهد والتسبيحات، وما أدركه المسبوق مع الإمام .. فهو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلامه .. فهو آخرها فيعيد فيه القنوت وسجود السهو.

باب صلاة المسافر

باب صلاة المسافر أي: كيفيتها، شرعت تخفيفاً عليه؛ لما يلحقه من تعب السفر، وهي نوعان: القصر والجمع، وذكر فيه الجمع بالمطر للمقيم، وأهمها القصر؛ ولهذا بدأ المصنف به كغيره فقال: (رخص قصر أربع فرض أدا ... وفائت في سفر إن قصدا) (ستة عشر فرسخا ذهابا ... في السفر المباح حتى آبا) [قصر الفرائض الرباعية] أي: رخص قصر صلاة ذات أربع من الركعات، فرض من الصلوات الخمس، أداء؛ أي: مؤدي ولو بإدراك ركعة منه في وقته، وفائت في سفر سواء أقضاه في ذلك السفر أم في سفر آخر إلى ركعتين بالإجماع، وقال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} [النساء: 101] الآية، قال يعلي بن أمية: قلت لعمر: إنما قال تعالى: {إن خفتم} [التوبة: 28] .. وقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى عليه وسلم، فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» رواه مسلم. وعلم من كلامه: أنه لو أتم .. جاز، وهو كذلك؛ فقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة قالت: يا رسول الله؛ قصرت وأتممت وأفطرت وصمت؟ قال: "أحسنت يا عائشة"، وأما خبر: "فرضت الصلاة ركعتين"، أي: في السفر .. فمعناه: لمن أراد الاقتصار عليهما؛ جمعاً بين الأخبار، قاله في "المجموع"، ولكن القصر أفضل من الإتمام إذا بلغ السفر ثلاث مراحل؛ للاتباع، رواه الشيخان، وللخروج من خلاف من

يوجب القصر حينئذ كأبي حنيفة، إلا لملاح يسافر في البحر ومعه أهله وأولاده، ومن لا وطن له وعادته السير أبداً .. فالأفضل لهما الإتمام كما في "الروضة" وغيرها، فإن لم يبلغها .. فالإتمام أفضل؛ لأنه الأصل، إلا في صلاة الخوف؛ فالقصر أفضل، وكذا في حق من وجد في نفسه كراهة القصر، بل يكره له الإتمام إلى أن تزول الكراهة، وكذا القول في سائر الرخص. وخرج بما ذكره: الثنائية والثلاثية والنافلة والمنذورة؛ فلا تقصر إجماعاً، وفائت الحضر؛ فلا يقصر في السفر كالحضر، ولاستقرار الأربع في ذمته، وما شك في أنه فائتة سفر أو حضر؛ فلا يقصر احتياطاً؛ لان الأصل الإتمام، وأما خبر مسلم: «فرضت الصلاة في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» .. فمحمول على أن المراد: ركعة مع الإمام، وينفرد بالأخرى. [المسافة التي يترخص المسافر فيها بالقصر] والترخيص بالقصر؛ أي: ونحوه؛ إن قصد ستة عشر فرسخاً يقيناً أو ظناً ولو باجتهاد، ولخبر: (كان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في أربعة برد)، علقه البخاري بصيغة جزم، وأسنده البيهقي بسند صحيح، ومثله إنما يفعل عن توقيف، وهي ستة عشر فرسخاً؛ إذ كل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، فهي ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية؛ نسبة لبني هاشم وقت خلافتهم لا هاشم نفسه كما وقع للرافعي، والميل: أربعة آلاف خطوة، والخطوة ثلاثة أقدام، فهي اثنا عشر ألف قدم، وبالذراع ستة آلاف ذراع، والذراع، أربعة وعشرون إصبعاً معترضات، والإصبع: ست شعيرات معتدلات معترضات، والشعيرة: ست شعرات من شعر البرذون. فمسافة القصر بالبرد: أربعة، وبالفراسخ: ستة عشر، وبالأميال: ثمانية وأربعون، وبالأقدام: خمس مئة ألف وستة وسبعون ألفاً، وبالأذرع: مئتا ألف وثمانية وثمانون ألفاً، وبالأصابع: ستة آلاف ألف وتسع مئة ألف واثنا عشر ألف، وبالشعيرات أحد وأربعون ألف ألف، وأربع مئة واثنان وسبعون ألفاً، وبالشعرات مئتا ألف ألف وثمانية وأربعون ألف ألف وثمان مئة ألف واثنان وثلاثون ألفاً.

والزمن يوم وليلة مع المعتاد؛ من النزول والاستراحة، والأكل والصلاة ونحوها، وذلك مرحلتان بسير الأثقال، ودبيب الأقدام، وضبطها بذلك تحديد؛ لثبوت تقديرها بالأميال عن الصحابة، ولأن القصر أو الجمع على خلاف الأصل، فيحتاط فيه بتحقق تقدير المسافة، بخلاف تقدير القلتين وتقدير مسافة الإمام والمأموم. والبحر كالبر في المسافة المذكورة، فلو قطع الأميال فيه في ساعة أو لحظة لشدة جري السفينة بالهواء .. قصر فيها كما يقصر لو قطع الأميال في البر في يوم بالسعي. [شرط الترخص بالقصر] وشرط الترخص بالقصر ونحوه: قصد موضع معين أول السفر؛ ليعلم أنه طويل فيقصر، فلا ترخص للهائم، وهو: الذي لا يدري أين يتوجه وإن سلك طريقاً، ولا لراكب التعاسيف، وهو: الذي لا يدري أين يتوجه ولا يسلك طريقاً، سواء أطال سفرهما أم لا، ونقل الإمام عن الصيدلاني أن، الهائم عاص؛ أي: لأن إتعاب النفس بالسفر بلا غرض .. حرام، ومثله: راكب التعاسيف، بل أولى. وخرج بقوله: (إن قصد ستة عشر فرسخاً) ما لو قصد دونها؛ فإنه لا يترخص بالقصر ونحوه، وما لو شك في بلوغ سفره لها كالرقيق والزوجة والجندي إذا اتبعوا متبوعهم ولم يعرفوا مقصده لا يترخصون، فلو نووا مسافة القصر .. قصر الجندي دونهما؛ لأنه ليس تحت قهر الأمير، بخلافهما؛ فنيتهما كالعدم، ذكره الشيخان. ولا يخالفه في الجندي قولهما: لو نوى العبد أو الزوجة أو الجيش إقامة أربعة أيام ولم ينو السيد ولا الزوج ولا الأمير .. فأقوى الوجهين: أن لهم القصر؛ لأنهم لا يستقلون، فنيتهم كالعدم؛ لأنه يلزم من عدم حجر الأمير على الآحاد عدمه على الجيش؛ لعظم الفساد بمخالفة الجيش دون الجندي، فلو ساروا مرحلتين .. قصروا، ذكره في "المجموع" أخذاً من مسألة النص المذكورة في "الروضة"، وهي: لو أسر الكفار رجلاً فساروا به ولم يعلم أين يذهبون به .. لم يقصر، وإن سار معهم يومين .. قصر بعد ذلك، وما تفقهه، صرح به في "التتمة".

ويؤخذ مما مر: أنهم لو عرفوا أن سفره مرحلتان .. قصروا؛ كما لو عرفوا أن مقصده مرحلتان. وقوله: (ذهاباً) أي: إنما تعتبر المسافة ذهاباً، فلو قصد مكاناً على مرحلة بعزم العود من غير إقامة .. فلا ترخص له بقصر ونحوه وإن نالته مشقة سفر مرحلتين؛ لخبر الشافعي بإسناد صحيح عن ابن عباس: أنه سئل أتقصر الصلاة إلى عرفة؟ فقال: لا، ولكن إلى عسفان، وإلى جدة، وإلى الطائف، فقدره بالذهاب وحده، ولأن ذلك لا يسمى سفراً طويلاً، والغالب في الرخص الإتباع. ثم إن يسافر من بلد لها سور في جهة مقصده .. فابتداء سفره مجاوزته وإن تعدد كما قاله الإمام وإن كان داخله مزارع وخراب؛ لأن ذلك معدود من البلد؛ فإن كان وراءه عمارة .. لم يشترط مجاوزتها في الأصح؛ لأنها لا تعد من البلد، ولهذا يقال: مدرسة كذا خارج البلد، وصحح الرافعي مجاوزتها؛ لتبعيتها للبلد بالإقامة فيها. ولو جمع سور قرى متفاصلة .. لم تشترط مجاوزته، وكذا لو قدر ذلك في بلدتين متقاربتين. وإن لم يكن لها سور أو لم يكن في صوب مقصده .. فمجاوزة العمران وإن تخلله خراب أو نهر أو ميدان؛ ليفارق وضع الإقامة. ولو خرب طرف البلد وبقاية الحيطان قائمة؛ ولم يتخذوه مزارع ولا هجروه بالتحويط على العامر .. اشترط مجاوزته على الأصح في "المجموع"، وإلا .. فلا تشترط مجاوزته كالبساتين والمزارع المتصلة بالبلد ولو محوطة؛ لأنها لم تتخذ للإقامة، فإن كان فيها دور أو قصور تسكن في بعض فصول السنة .. ففي "الروضة" كـ "أصلها" و"الشرح الصغير": اشتراط مجاوزتها، وأطلق "المنهاج" كـ "أصله" عدم اشتراطها، وقال في "المجموع": لم يذكره الجمهور، والظاهر: عدم اشتراطها؛ لأن ذلك لا يجعلها من البلد، وفي "المهمات": أن الفتوى عليه.

والقريتان المتصلتان .. يشترط مجاوزتهما لا المنفصلتان، خلافاً لابن سريج في المتقاربتين. أومن الصحراء .. فمجاوزة بقعة رحله، أو من خيام .. فمجاوزة حلته، وضابطها: أن يجتمع أهلها للسمر في ناد واحد، ويستعير بعضهم من بعض وإن تفرقت منازلهم، ومنها: مرافقها كمطرح رماد، وملعب صبيان، وناد، وعطن، وماء، ومحتطب، إلا أن يتسعا بحيث لا يختصان بالنازلين، والحلتان كالقريتين. أو من وادٍ سافر في عرضه .. فمجاوزة العرض، إلا أن تفرط سعته .. فيشترط مجاوزة ما يعد من منزله أو من حلة هو فيها؛ كما لو سافر من طوله. أو من ربوة .. فأن يهبط، أو وهدة .. فأن يصعد إن اعتدلتا، وإلا .. فما يعد من منزله، أو من حلة هو فيها. [ترخص المسافر في السفر المباح] وإنما يترخص المسافر في السفر المباح؛ أي: الجائز وإن عصى فيه، واجباً كان؛ كحجة الإسلام والجهاد، أو مندوباً؛ كزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مباحاً؛ كالتجارة، أو مكروهاً؛ كسفر من تلزمه الجمعة ليلتها، أو خلاف الأولى؛ فلا يترخص العاصي بسفره؛ كأن هرب رقيق من سيده، أو زوجة من زوجها، أو غريم موسر من غريمه، أو سافر ليسرق أو يزني، أو يقتل بريئاً، أو يأخذ المكوس؛ فلا يترخص بقصر ولا جمع ولا إفطار، ولا تنفل على راحلة، ولا مسح الخف ثلاثاً، ولا سقوط جمعة، ولا أكل ميتة ونحوها؛ لما فيه من الإعانة على المعصية. وقوله: (حتى آبا) أي: يترخص بالقصر ونحوه حتى رجع إلى مكان شرط مجاوزته ابتداء؛ من سور أو عمران أو غير ذلك، فينقطع ترخصه بعودة إلى وطنه وإن نوى أنه إذا رجع إليه .. خرج في الحال على المذهب، وبوصوله لموضع عزم أن يقيم به مدة تمنع الترخص، وبنية إقامة أربعة أيام بموضع وإن لم يصلح لها، ولا يحسب منها يوما دخوله وخروجه على الأصح، ولو أقام بمكان بنية أن يرحل إذا حصلت حاجة يتوقعها كل وقت .. ترخص ثمانية عشر يوماً في الأظهر. وألف (قصدا) و (آبا) للأطلاق.

[شرط القصر نيته وترك منافيها] (وشرطه: النية في الإحرام ... وترك ما خالف في الدوام) أي: شرط القصر: نيته في الإحرام؛ لئلا تنعقد صلاته على الأصل وهو الإتمام، وترك ما خالف حكم نية القصر في دوام الصلاة؛ كنية الإتمام، والاقتداء بمتم ولو لحظة، فلو نوى الإتمام أو لم ينو قصراً ولا إتماماً، أو تردد في أنه يقصر أو يتم ولو في بعض الصلاة .. لزمه الإتمام؛ لأنه المنوي في الأولى، والأصل في الأخيرتين. ويشترط أيضاً: علمه بجوازه، فلو قصر جاهلاً بجوازه .. لم تصح صلاته؛ لتلاعبه؛ إذ هو عابث في اعتقاده غير مصل. (وجاز أن يجمع بين العصرين ... في وقت إحدى ذين كالعشاءين) (كما يجوز الجمع للمقيم ... لمطرٍ لكن مع التقديم) (إن مطرت عند ابتداء البادية ... وختمها وفي ابتداء الثانيه) (لمن يصلي مع جماعةٍ إذا ... جا من بعيدٍ مسجداً نال الأذى) (وشرطه: النية في الأولى، وما ... رتب، والولا وإن تيمما) فيها ثلاث مسائل: [جواز الجمع للمسافر] الأولى: يجوز للمسافر سفراً طويلاً مباحاً أن يجمع بين العصرين- تثنية الظهر والعصر تغليباً، وغلبت العصر؛ لخفة لفظها وشرفها- في وقت إحداهما تقديماً أو تأخيراً، وبين العشاءين- تثنية المغرب والعشاء تغليباً، وغلبت العشاء؛ لما مر- تقديماً أو تأخيراً، وروى الشيخان عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس .. أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل .. صلى الظهر والعصر، ثم ركب).

ورويا أيضاً واللفظ لمسلم عن ابن عمر: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير .. جمع بين المغرب والعشاء). وروى مسلم عن أنس: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به السير .. يؤخر الظهر إلى وقت العصر يجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق). وروى أبو داوود عن معاذ: (أنه صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا غابت الشمس قبل أن يرتحل .. جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس .. أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم جمع بينهما) وحسنة الترمذي، وقال البيهقي: هو محفوظ، والسفر فيها محمول على الطويل؛ لأن ذلك إخراج عبادة عن وقتها فاختص بالطويل؛ كالفطر، والقصر بجامع الرخصة. وخرج بـ (العصرين) و (العشاءين): الصبح مع غيرها، والعصر مع المغرب، فلا يجمعان؛ لأنه لم يرد، ويجوز جمع الجمعة والعصر بالسفر تقديماً كما قاله بعضهم واعتمده الزركشي، ويستثنى من جمع التقديم المتحيرة؛ كما في "الروضة" في بابها. [جواز الجمع لأجل المطر وشروطه] الثانية: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء للمقيم لأجل المطر ولو ضعيفاً، إن كان بحيث يبل ثيابه، لكن جمع تقديم لا تأخير؛ لخبر "الصحيحين" عن ابن عباس: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً؛ الظهر والعصر والمغرب والعشاء)، وفي رواية لمسلم: (من غير خوف ولا سفر)، قال الشافعي رضي الله عنه كمالك: أرى ذلك بعذر المطر، ويجوز جمع الجمعة والعصر بالمطر كما في "الروضة" و"أصلها".

وإنما امتنع الجمع به تأخيراً؛ لأن استدامته ليست إليه، بخلاف السفر، ومثل المطر الشفان، وكذا الثلج والبرد وإن ذابا؛ لتضمنها القدر المبيح من بل الثوب. وقوله: (إن مطرت ... ) إلى آخره؛ أي: شرط الجمع بالمطر تقديماً: وجوده عند افتتاح الأولى التي يبدأ بها، وعند ختامها؛ أي: سلامها المحلل منها، وعند ابتداء الثانية، أما اشتراط وجوده عند التحرمين .. فليقارن الجمع العذر، وأما عند تحلل الأولى .. فليتحقق اتصال آخرها بأول الثانية مقروناً بالعذر، وعلم: أنه لا يضر انقطاعه في أثناء الأولى أو الثانية أو بعدها. وإنما يجوز الجمع بالمطر تقديماً لمن يصلي مع جماعة إذا جاء المسجد من مكانٍ بعيدٍ يناله الأذى بالمطر في طريقه ببل ثيابه، بخلاف من يصلي منفرداً أو مع جماعة ببيته أو بمسجد قريب .. فلا يجمع؛ لانتفاء المشقة لغيره عنه. وأما جمعه صلى الله عليه وسلم مع أن بيوت أزواجه كانت بجنب المسجد .. فأجيب عنه بأن بيوتهن كانت مختلفة، وأكثرها كانت بعيدة، فلعله حين جمع لم يكن بالقريب، وبأن للإمام أن يجمع بالمأمومين وإن لم يتأذ بالمطر كما صرح به ابن أبي هريرة وغيره. قال المحب الطبري: ولمن خرج إلى المسجد قبل وجود المطر فاتفق وجوده وهو في المسجد أن يجمع؛ لأنه لو لم يجمع .. لاحتاج إلى صلاة العصر أيضاً في جماعة، وفيه مشقة في رجوعه إلى بيته ثم عوده، أو في إقامته في المسجد. انتهى. وذكر المسجد جري على الغالب؛ إذ مثله في ذلك الرباط ونحوه من أمكنة الجماعة. [شروط جمع التقديم] الثالثة: شرطه؛ أي: الجمع بالسفر أو المطر تقديماً ثلاثة: أولها: نية الجمع في الصلاة الأولى؛ تمييزاً للتقديم المشروع عن التقديم سهواً أو عبثاً، سواء أنواه عند التحرم، أم التحلل، أم بينهما؛ لأن الجمع ضم الثانية إلى الأولى فيكفي سبق النية حالة الجمع، ويفارق القصر بأنه لو تأخرت نيته .. لتأدى جزء على التمام فيمتنع القصر. وشمل كلامه: ما لو نواه ثم نوى تركه ثم نواه، وقد صرح به في "الروضة"، وما لو

شرع في الأولى بالبلد فسارت السفينة فنوى الجمع، وقد نقله في "المجموع" عن المتولي وأقره. وثانيها: الترتيب بين الصلاتين وهو تقديم الظهر على العصر، والمغرب على العشاء؛ لأنه المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولأن الوقت لها والثانية تبع، فلو صلى الثانية قبل الأولى .. لم تصح، أو الأولى قبل الثانية وبان فسادها .. فسدت الثانية أيضاً؛ لانتفاء الترتيب. وثالثها: الولاء بينهما؛ لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة فوجب الولاء كركعات الصلاة، ولأنه صلى الله عليه وسلم لما جمع بين الصلاتين بنمرة .. والى بينهما، وترك الرواتب، وأقام الصلاة بينهما، رواه الشيخان، ولولا اشتراط الولاء .. لما ترك الرواتب، وإن تيمم للثانية أو أقام لها أو صلاها بعد بأن طلب الماء ولم يطل الفصل عرفاً .. فالولاء حاصل، أما الإقامة .. فللخبر السابق، وأما التيمم والطلب .. فلأن كلا منهما فصلٌ يسير لمصلحة الصلاة كالإقامة، بل أولى؛ لأنه شرط دونها، بخلاف ما إذا طال الفصل ولو بعذر كسهوٍ وإغماءٍ. ولو جمع تأخيراً .. لم تجب نية الجمع والترتيب والولاء، ولكن تستحب، ويجب كون التأخير بنية الجمع قبل خروج وقت الأولى بزمن لو ابتدئت فيه .. كانت أداءً، وإلا .. فيعصي وتكون قضاءً، نقله في "الروضة" كـ"أصلها" عن الأصحاب، وفي "المجموع" و"شرح مسلم" عنهم: بزمن يسعها أو أكثر وهو مبين؛ إذ المراد بالأداء في "الروضة": الأداء الحقيقي؛ بأن يؤتي بجميع الصلاة قبل خروج وقتها، بخلاف الإتيان بركعة منها في الوقت والباقي بعده، فتسميته أداء بتبعية ما بعد الوقت لما فيه، لكن جرى جماعة من المتأخرين على ما اقتضاه كلام "الروضة" و"أصلها" في الاكتفاء بقدر ركعة. ولو جمع تقديماً فصار قبل الشروع في الثانية مقيماً .. بطل الجمع، أو في الثانية وبعدها .. فلا في الأصح؛ لانعقادها أو تمامها قبل زوال العذر، أو تأخيراً فأقام بعد فراغها .. لم يضر،

وقبله .. يجعل الأولى قضاء؛ لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر وقد زال قبل تمامها. قال صاحب "التعليقة": وإنما اكتفي في جمع التقديم بدوام السفر إلى عقد الثانية، ولم يكتف به في جمع التأخير، بل شرط دوامه إلى تمامهما؛ لأن وقت الظهر ليس وقت العصر إلا في السفر وقد وجد عند عقد الثانية، فيحصل الجمع، وأما وقت العصر .. فيجوز فيه الظهر بعذر السفر وغيره، فلا ينصرف فيه الظهر إلى السفر إلا إذا وجد السفر فيهما، وإلا .. جاز أن ينصرف إليه؛ لوقوع بعضها فيه، وأن ينصرف إلى غيره؛ لوقوع بعضها في غيره الذي هو الأصل. وقوله: (جا) و (الولا) بالقصر للوزن، وألف (تيمما) للإطلاق. [أفضلية التقديم والتأخير بحسب الأرفق] (والجمع بالتقديم والتأخير ... بحسب الأرفق للمعذور) أي: والجمع الفاضل بالتقديم والتأخير كائن بحسب الأرفق للمسافر، فإن كان سائراً وقت الأولى .. فتأخيرها أفضل، وإن لم يكن سائراً وقت الأولى .. فتقديمها أفضل؛ لما مر في الأحاديث السابقة. قال بعضهم: وسكتوا عما إذا كان سائراً فيهما .. فيحتمل أن التقديم أفضل؛ رعاية لفضيلة أول الوقت، ويحتمل- وهو ظاهر كلام كثير- عكسه؛ لظاهر الأخبار السابقة، ولانتفاء سهولة جمع التقديم مع الخروج من خلاف من منعه. [حكم الجمع بالمرض] (في مرضٍ قول حكي وقوي ... واختاره حمد ويحيى النووي) أي: أنه يجوز الجمع تقديماً وتأخيراً بالمرض في قول حكي وقوي بما في "صحيح مسلم" عن ابن عباس: (أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوفٍ ولا مطرٍ)، وفي

رواية: (من غير خوف ولا سفر)، واختاره حمد الخطابي ويحيى النووي والماوردي في "الإقناع". وستحب أن يراعي الأرفق بالمريض والأسهل عليه في مرضه كالمسافر، فإن كان يحم في وقت الثانية .. قدمها إلى الأولى بالشروط المتقدمة، وإن كان يحم في وقت الأولى .. أخرها إلى الثانية، فإن استوى في حقه الأمران .. فالتأخير أولى؛ لأنه أخذ بالاحتياط، وخروج من الخلاف، ولكن المشهور: أنه لا جمع بمرضٍ ولا ريحٍ ولا ظلمةٍ ولا خوفٍ ولا وحلٍ ولا نحوها؛ لأنه لم ينقل، ولخبر المواقيت؛ فلا يخالف إلا بصريحٍ.

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف أي: كيفيتها من حيث إنه يحتمل في الفرائض فيه في الجماعة وغيرها ما لا يحتمل في غيره على ما سيأتي بيانه، وقد جاءت في الأخبار على ستة عشر نوعاً اختار الشافعي رضي الله عنه منها أربعة أنواع ترجع إلى الثلاثة الآتية. والأصل فيها: قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء: 102] الآية، والأخبار الآتية، مع خبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، واستمرت الصحابة على فعلها بعده صلى الله عليه وسلم، وادعى المزني نسخها؛ لتركه صلى الله عليه وسلم لها يوم الخندق، وأجابوا عنه؛ بتأخر نزولها عند؛ لأنها نزلت سنة ستة والخندق سنة أربع، وقيل: خمس، وتجوز في الحضر، خلافاً لمالك رحمه الله تعالى ورضي عنه. [أنواع صلاة الخوف] (أنواعها ثلاثةٌ: فإن يكن ... عدونا في غير قبلةٍ فسن) (تحرس فرقةٌ، وصلى من يؤم ... بالفرقة الركعة الاولى وتتم) (وحرست، ثم يصلي ركعه ... بالفرقة الأخرى ولو في الجمعه) (ثم أتمت، وبهم يسلم ... وإن يكن في قبلةٍ صفهم) (صفين، ثم بالجميع أحرما ... ومعه يسجد صفٌّ منهما) (وحرس الآخر، ثم حيث قام ... فليسجد الثاني ويلحق الإمام) (وفي التحام الحرب صلوا مهما ... أمكنهم ركباناً أو بالإيما) أي أنواع صلاة الخوف ثلاثة: أحدها: أن يكون عدونا في غير جهة القبلة؛ أي: أو فيها ولكن حال دونهم حائل يمنع رؤيتهم، فيسن أن يفرقهم الإمام فرقتين: تقف فرقة في وجه العدو وتحرس، وينحاز بالفرقة الأخرى بحيث لا تبلغهم سهام العدو فيصلي بهم الركعة الأولى، فإذا قام للثانية .. فارقته بنية المفارقة، وأتمت لنفسها وذهبت إلى وجه العدو لتحرس، ولو فارقته عند رفع رأسه من السجدة

الثانية .. جاز، وجاءت الفرقة الأخرى التي كانت في وجه العدو فاقتدوا به في الثانية، ويطيل القيام؛ ليلحقوه، ويصلي بهم الثانية، فإذا جلس للتشهد .. قاموا فأتموا ثانيتهم، فإذا لحقوه .. سلم بهم، فتحوز الفرقة الأولى فضيلة التحرم مع الإمام، والثانية فضيلة التسليم معه. ويقرأ الإمام في انتظاره الفرقة الثانية في القيام، ويتشهد في انتظارها في الجلوس؛ لأنه لو لم يقرأ ولم يتشهد: فإما أن يسكت، أو يأتي بغير القراءة والتشهد، وكلٌّ خلاف السنة. ويستحب لهم تخفيف ثانيتهم؛ لئلا يطول الانتظار، وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، رواها الشيخان. ولو لم تفارقه الأولى، بل ذهبت إلى العدو ساكتة وجاءت الأخرى فصلت معه الثانية، فلما سلم ذهبت إلى العدو وجاءت الأولى إلى محل الصلاة، وأتمت وذهبت إلى العدو وجاءت الأخرى وأتمت .. فالمشهور: الصحة، وهذه رواية ابن عمر، والأولى رواية سهل بن أبي حثمة، واختارها الشافعي رضي الله عنه؛ لأنها أوفق للقرآن لإشعار: {ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا} [النساء: 102] بصلاة الأولى؛ ولأنها أليق بالصلاة لقلة الأفعال، ولأنها أحوط للحرب؛ فإنها أخف على الطائفتين. وإنما صحت الصلاة على رواية ابن عمر رضي الله عنهما مع كثرة الأفعال فيها بلا غرض؛ لصحة الخبر فيها مع عدم المعارضة؛ لأن إحدى الروايتين كانت في يوم والأخرى في يوم آخر، ودعوى النسخ باطلة؛ لاحتياجه لمعرفة التاريخ وتعذر الجمع، وليس هنا واحد منهما، قاله في "المجموع". وقوله: (ولو في جمعة) أي: ولو كانت صلاة ذات الرقاع في جمعة حيث وقع الخوف ببلد، فإنها تجوز بشرط أن يخطب بجميعهم، ثم يفرقهم فرقتين لا تنقص كل منهما عن أربعين أو بفرقة، ثم يجعل منها مع كل فرقة أربعين، فلو خطب بفرقة وصلى بأخرى، أو نقص العدد فيهما، أو في الأولى .. لم تنعقد الجمعة، أو في الثانية .. فالأصح: أنه لا يضر، وتصح إقامة الجمعة أيضاً بصلاة عسفان، بخلاف إقامتها بصلاة بطن نخل؛ إذ لا تقام جمعة بعد أخرى.

فإن صلى مغرباً .. فبفرقة ركعتين وبالثانية ركعة؛ وهو أفضل من عكسه الجائز أيضاً في الأظهر؛ لأن السابقة أحق بالتفضيل، ولسلامته من التطويل في عكسه؛ بزيادة التشهد في أولى الثانية، وينتظر في جلوس تشهده أو قيام الثالثة وهو أفضل في الأصح؛ لأنه محل للتطويل بخلاف جلوس التشهد الأول. أو رباعية .. فبكل ركعتين. ولو صلى بكل فرقة ركعة .. صحت صلاة الجميع في الأظهر، وتجوز في هذه الحالة صلاة بطن نخل؛ وهي أن يجعل الإمام الناس فرقتين: فرقة في وجه العدو، وفرقة ينحاز بها بحيث لا يبلغها سهام العدو ويصلي بها جميع الصلاة، سواء أكانت ركعتين أم ثلاثاً أم ثلاثاً أو أربعاً، فإذا سلم بها .. ذهبت إلى وجه العدو وجاءت الأخرى فيصليها بهم مرة ثانية، وهذه الصلاة وإن جازت في غير الخوف .. ندب إليها فيه عند كثرة المسلمين وقلة عدوهم وخوف هجومهم عليهم في الصلاة، لكن صلاة ذات الرقاع أفضل منها في الأصح؛ لسلامتها عما في هذه من اقتداء المفترض بالمتنفل المختلف فيه، ولأنها أخف وأعدل بين الفرقتين. ثانيها: أن يكون عدونا في جهة القبلة، ولا حائل دونهم وفي المسلمين كثرة، فيصفهم الإمام صفين، ثم يحرم بالجميع ويقرأ ويركع ويعتدل بهم، فإذا سجد .. سجد معه صف سجدتيه وحرس الصف الآخر، فإذا قاموا .. سجد من حرس ولحقوه، وقرأ وركع واعتدل بالجميع، فإذا سجد .. سجد معه من حرس أولاً وحرس الآخرون، فإذا جلس .. سجد من حرس وتشهد بالجميع وسلم، وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، رواها مسلم ذاكراً فيها سجود الصف الأول في الركعة الأولى، والثاني في الثانية. وعبارة المصنف ككثير صادقة بذلك وبعكسه، وهو جائز أيضاً. ويجوز فيه أيضاً: أن يتقدم في الركعة الثانية الصف الثاني وبتأخر الأول إذا لم تكثر أفعالهم؛ بأن يكون كل من المتقدم والمتأخر بخطوتين ينفذ كل واحد في التقدم بين اثنين، وهل هذا التقدم والتأخر أفضل، أو ملازمة كل واحد مكانه أفضل؟ وجهان، والأول موافق للوارد في العكس في الحديث المذكور، ويجوز أن يزاد على صفين ويحرس صفان. ولو حرس في الركعتين فرقتا صف على المناوبة، ودام غيرهما على المتابعة .. جاز، وكذا فرقة في الأصح.

ويسن فيما مر من الصلوات حمل السلاح الطاهر إذا لم يمنع ركناً، ولم يتأذ به أحد، وظهرت السلامة مع احتمال الخطر؛ احتياطاً، وخروجاً من الخلاف في وجوبه، وإنما لم يجب؛ لأن وضعه لا يفسد الصلاة، فلا يجب حمله كسائر ما لا يفسد تركه، وقياساً على صلاة الأمن، وحملوا الآية على الاستحباب. وخرج بما ذكر: السلاح النجس، والمانع من الركن، كالحديد المانع من الركوع، والبيضة المانعة من مباشرة الجبهة فيحرم حملهما، والسلاح المؤذي؛ كالرمح وسط القوم فيكره حمله كما في "الروضة" و"أصلها"، قال الأذرعي: عبارة غيرهما: (لا يجوز)، ولا شك أنه كذلك إذا كثر به الأذى، والكراهة فيما يخف. انتهى. وخرج (بظهور السلامة): ما إذا ظهر الهلاك .. فيجب حمله، وإلا .. فهو استسلام للكفار، قال الإمام: ووضع السلاح بين يديه كحمله إن سهل تناوله كالمحمول. انتهى، بل يتعين إن منع حمله الصحة. ثالثها: أن ينتهي الخوف إلى حيث لا يتمكن أحد من ترك القتال؛ بأن التحم القتال والعدو كثير، أو اشتد الخوف ولم يؤمن هجومه لو انقسمنا، وقد أشار إليه بقوله: (وفي التحام الحرب ... ) إلى آخره، فيصلون كيف أمكنهم ركباناً ومشاة، ولا تؤخر الصلاة عن الوقت، ولهم ترك القبلة عند العجز بسبب العدو، فإن كان لجماح دابة وطال .. بطلت؛ قال تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} [البقرة: 239]، قال ابن عمر: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، قال نافع لا أراه إلا مرفوعاً، رواه البخاري. ويجوز اقتداء بعضهم ببعض مع اختلاف الجهة؛ وهو أفضل من الانفراد، فإن عجزوا عن ركوع وسجود .. أومؤوا، والسجود أخفض. ويعذر في الأعمال الكثيرة؛ لحاجة في الأصح، لا في الصياح، ويلقي سلاحاً دمي، فإن احتاجه .. أمسكه ويقتضي، خلافاً للإمام. ويصلى عيدٌ وكسوفٌ في شدة الخوف، لا الاستسقاء. وتجوز صلاة شدة الخوف في كل قتال وهزيمة مباحين، وهرب من سبع أو سيل، أو حريق ليس عنها معدل، وكذا غريم عند إعساره وخوف حبسه، ومن عليه قصاص يرجو العفو عنه لو

تغيب، ودفع من قصد نفساً أو حريماً أو مالاً ولو غير حيوان في الأظهر، ولا يصليها محرم خاف فوات الحج، بل يؤخرها ويحج. وقوله: (تحرس) بتقدير (أن) في محل رفع نائب فاعل (سن) أي: سن حراسة فرقة، وقوله: (الأولى) بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وألف (أحرما) للإطلاق، وقوله: (ركباناً أو) بحذف الهمزة للوزن. [تحريم الذهب والحرير على الرجال] (وحرموا على الرجال العسجدا ... بالنسج والتمويه لا حال الصدا) (وخالص القز أو الحرير ... أو غالباً إلا على الصغير) أي: وحرم العلماء على كل من الرجال استعمال حلي الذهب واتخاذه ليستعمله؛ لخبر أبي داوود بإسناد صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ في يمينه قطعة حرير، وفي شماله قطعة ذهب وقال: "هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم"، وعلة تحريم العين بشرط الخيلاء. واستثنى منه اتخاذ الأنف لمن قطع أنفه وإن أمكن اتخاذه من فضة؛ لأن عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب- بضم الكاف؛ اسم لماء كانت الوقعة عنده في الجاهلية- فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب، رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه. والسن وإن تعددت، والأنملة ولو لكل إصبع قياساً على الأنف، وقد شد عثمان وغيره أسنانهم به ولم ينكره أحد، وجاز ذلك بالذهب وإن أمكن بالفضة الجائزة لذلك بالأولى؛ لأنه لا يصدأ ولا يفسد المنبت. ولا يجوز له تعويض كف وإصبع وأنملتين من إصبع من ذهب ولا فضة؛ لأنها لا تعمل فتكون لمجرد الزينة، بخلاف السن والأنملة. وكذا يحرم على الرجل لبس المنسوج بالذهب؛ أي: أو الفضة، والمموه؛ أي: المطلي

بواحد منهما إن حصل منه شيء بالعرض على النار؛ لما فيه من الخيلاء وكسر قلوب الفقراء فإن لم يحصل منه شيء .. حل. وخرج بـ (الذهب): الفضة؛ فيحل للرجل منها لبس الخاتم، وتحلية آلة الحرب كالسيف والرمح، وتحرم تحلية السرج واللجام والركاب، وقلادة الدابة والسكين، والكتب والدواة وسرير المصحف ونحوها. وبـ (الرجل): المرأة، فيحل لها استعمال حلي الذهب والفضة ولو تاجاً لم يعتدنه، ولبس ما نسج بهما إلا أن تسرف؛ كخلخال وزنه مئتا مثقال، وإلا تحلية آلة الحرب، ويجوز تحلية المصحف بفضة، وكذا للمرأة بذهب، والخنثى في كل من حلي الرجل والمرأة كالآخر، فيحرم عليه ما يحرم على كل منهما احتياطاً. وقوله: (لا حال الصدأ) أي: إن صدئ؛ لا يظهر لون الذهب أو الفضة لغلبة الصدأ عليه .. جاز استعماله، فإن قيل: إن الذهب لا يصدأ .. قلنا: محله إذا كان منفرداً، أما إذا كان مشوباً بغيره .. فيصدأ. ويحرم على الرجل؛ أي: والخنثى استعمال الخالص من القز أو الحرير، من عطف العام على الخاص، فـ (أو) بمعنى (الواو)، أو ما غالبه من القز أو الحرير؛ لخبر "الصحيحين" عن حذيفة: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج"، وخبر البخاري عنه أيضاً: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه"، ولخبر أبي داوود السابق، بخلاف ما إذا كان غيره أكثر، أو استويا وزناً .. فلا يحرم؛ لأنه لا يسمى ثوب حرير، والأصل: الحل. ويجوز لبسه لضرورة؛ كفجأة حرب إذا لم يجد غيره، ولحاجة؛ كحكة وقمل، ويحل للولي إلباس الصبي ولو مميزاً الحرير والمزعفر، وتزيينه بحلي الذهب والفضة ولو في غير يوم العيد؛ إذ ليس له شهامة تنافي خنوثة ذلك، ولأنه غير مكلف، وألحق به الغزالي في "الإحياء": المجنون. وألف (العسجدا) للإطلاق.

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها، وحكي كسرها، وهي كغيرها من الخمس في الأركان والشروط، وتختص باشتراط أمور في لزومها، وأمور في صحتها، والباب معقود لذلك مع آداب تشرع فيها. (وركعتان فرضها لمؤمن ... كلف حرٍّ ذكرٍ مستوطن) (ذي صحةٍ، وشرطها: في أبنيه ... جماعةً، بأربعين- وهيه) (بصفة الوجوب- والوقت، فإن ... يخرج يصلوا الظهر بالبنا، ومن) (شروطها: تقديم خطبتين ... يجب أن يقعد بين تين) [شروط وجوب الجمعة] أي: والجمعة ركعتان، فرضها فرض عين على كل مؤمن مكلف؛ أي: بالغ عاقل حر ذكر مستوطن- أي: مقيم إقامة تمنع حكم السفر بمحل الجمعة وإن لم يتوطن بها، أو حيث يبلغ نداؤها، وعبر بـ (مستوطن) لأنه أحال عليه فيما سيأتي صحتها اختصاراً، وإلا .. فالشرط هنا الإقامة؛ كما حملت عليه كلامه- صحيح. فلا جمعة على كافر، ولا صبي ومجنون؛ كغيرها من الصلوات، قال في "الروضة": والمغمى عليه كالمجنون، بخلاف السكران، فإنه يلزمه قضاؤها ظهراً كغيرها. ولا على غير الحر ولو مكاتباً، أو مبعضاً وإن وقعت في نوبته حيث تكون مهايأة، ولا على امرأة وخنثى، ومسافر سفراً مباحاً ولو قصيراً، ومريض؛ أي: ومعذور بمرخص في ترك الجماعة. والأصل في ذلك: قوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] أي: فيه {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} وقال صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن ودعهم

الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"، وقال: "رواح الجمعة واجب على كل محتلم"، وقال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض"، وقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فعليه الجمعة، إلا امرأة، أو مسافر، أو عبد، أو مريض"، روى الأول: مسلم، والثاني: النسائي بإسناد على شرط مسلم، والرابع: الدارقطني وغيره، والثالث: أبو داوود عن طارق بن شهاب بإسناد على شرط الشيخين، إلا أنه قال: طارق رأى النبي ولم يسمع منه شيئاً، قال في "المجموع": وما قاله لا يقدح في صحة الخبر؛ لأنه على هذا التقدير مرسل صحابي، وهو حجة عند كل العلماء، إلا أبا إسحاق الإسفراييني. ويسن لمسافر وصبي وعبد حضورها إذا أمكن، ولهم الانصراف ويصلون الظهر، وكذا النساء، لا المريض أو نحوه؛ فيحرم انصرافه إن حضر في الوقت، ولم يزد ضرره بانتظاره، والفرق: أن المانع في المريض ونحوه من وجوب الجمعة: المشقة في حضور الجامع، وقد حضروا متحملين لها، وتعب العود لا بد منه، والمانع في غيرهم: صفات قائمة بهم لا تزول بالحضور. نعم؛ إن أقيمت الصلاة .. فليس للمعذورين الانصراف، فإن أحرم بها المريض والمسافر ونحوهما، وكذا المرأة والعبد والخنثى .. أجزأتهم وحرم الخروج منها. وتلزم شيخاً هرماً وزمناً وجدا مركباً ولم يشق الركوب، وأعمى وجد قائداً، وأهل القرية إن كان فيهم جمع تصح به الجمعة .. لزمتهم فيها، فإن صلوها في مصر .. سقط الفرض وأثموا على الصحيح، وإلا: فإن بلغهم صوت عال في هدوء من طرف يليهم لبلد جمعة، والمستمع مصغ معتدل السمع .. لزمتهم، وإلا .. فلا، ولو سمعوا من بلدين .. تخيروا بينهما، ويشترط استواء الأرض في الأصح، فلو سمعوا لكونهم في علو .. لم تجب، أو لم يسمعوا لكونهم في وهدة .. وجبت، لكن عكسه في "الشرح الصغير". ولو لازم أهل الخيام موضعاً: فإن سمعوا النداء .. لزمتهم، وإلا .. فلا، والعذر الطارئ

بعد الزوال يبيح تركها، إلا السفر فيحرم إنشاؤه إلا أن يمكنه الجمعة، أو يتضرر بتخلفه عن الرفقة، وقبل الزوال كبعده ولو كان السفر طاعة، ومتى حرمناه فسافر .. لم يترخص حتى تفوت الجمعة، فمنه ابتداء سفره. ويسن لمن أمكن زوال عذره تأخير ظهره إلى اليأس من الجمعة؛ وذلك برفع الإمام رأسه من الركوع الثاني، ولغيره كزمن وامرأة تعجيلها في الأصح، وتسن الجماعة في ظهرهم في الأصح، وإخفاؤها إن خفي عذرهم. ولو زال العذر بعد فراغه من الظهر وأمكنته الجمعة .. لم تلزمه إلا الخنثى، وغير المعذور إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة .. لم تصح، وفواتها بسلام الإمام منها. [شروط صحة الجمعة] وقوله: (وشرطها) أي: الجمعة: كونها في أبنية من خطة أوطان المجمعين، سواء أكانت الأبنية من حجر أم طين، أم خشب ام قصب، أم سعف أم غيرها، وسواء في ذلك المسجد والفضاء والدار، بخلاف خارج الخطة الذي ينشأ منه سفر القصر؛ لأنها لم تقم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين إلا في دار الإقامة كما هو معلوم، وهي ما ذكر، بخلاف الخيام وإن استوطنها أهلها دائماً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر المقيمين حول المدينة بها، فإنهم على هيئة المستوفزين. ولو انهدمت أبنية الخطة، فأقام أهلها على عمارتها .. لزمتهم الجمعة فيها؛ لأنها وطنهم، وسواء أكانوا في مظال أم لا، ولا تنعقد في غير بناء إلا في هذه؛ ذكره في "المجموع". وكونها جماعة؛ لأنها لم تفعل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فمن بعدهم إلا كذلك كما هو معلوم، وشرطها فيها كشرطها في غيرها؛ كنية الاقتداء، والعلم بانتقالات الإمام، وعدم التقدم عليه، وغير ذلك مما مر في (باب صلاة الجماعة)، وزيادة: أن تقام بأربعين رجلاً ولو بالإمام في كل من الخطبة والجمعة؛ لخبر كعب بن مالك قال: (أول من جمع بنا في المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في نقيع الخضمات وكنا أربعين) رواه أبو داوود وغيره، وروى البيهقي عن ابن مسعود:

(أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلاً)، قال في "المجموع": قال أصحابنا: وجه الدلالة: أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم تثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه، قال: وأما خبر: (انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر) .. فليس فيه أن ابتداءها باثني عشر، بل يحتمل عودهم أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة، وفي "مسلم": (انفضوا في الخطبة)، وفي رواية للبخاري: (انفضوا في الصلاة)، وهي محمولة على الخطبة جمعاً بين الأخبار. واعلم: أنه لا يلزم من اشتراط العدد اشتراط الجماعة، ولا العكس؛ لانفكاك كل منهما عن الآخر، أما العدد .. فلأنه قد يحضر أربعون من غير جماعة، وأما الجماعة .. فلأنها للارتباط الحاصل بين صلاتي الإمام والمأموم؛ وهو لا يستدعي عدد الأربعين؛ قاله الرافعي. وقوله: (وهبه) أي: الجماعة الأربعون بصفة الوجوب؛ بأن يكون كل منهم مسلماً مكلفاً حراً ذكراً، مستوطناً بمحل الجمعة؛ أي: لا يظعن عنه شتاء ولا صيفاً إلا لحاجة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجمع بحجة الوداع مع عزمه على الإقامة أياماً؛ لعدم الاستيطان، وكان يوم عرفة فيها يوم الجمعة؛ كما ثبت في "الصحيحين"، وصلى به الظهر والعصر تقديماً؛ كما ثبت في حديث مسلم، ولكن الصحيح: انعقادها بالمرضى؛ لكمالهم، وإنما لم تجب عليهم تخفيفاً. قاعدة [أقسام الناس في الجمعة] الناس في الجمعة ستة أقسام: الأول: من تلزمه وتنعقد به؛ وهو من اجتمعت فيه هذه الصفات المعتبرة ولا عذر له. والثاني: من تنعقد به ولا تلزمه؛ وهم المعذورون بمرض ونحوه.

والثالث: من لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه؛ وهو من به جنون، أو إغماء، أو كفر أصلي. والرابع: من لا تلزمه ولا تنعقد به، لكن تصح منه؛ وهو العبد، والمبعض، والمسافر، والمقيم خارج البلد إذا لم يسمع النداء، والصبي المميز، والأنثى، والخنثى. والخامس: من تلزمه ولا تصح منه؛ وهو المرتد. والسادس: من تلزمه وتصح منه ولا تنعقد به؛ وهو المقيم غير المتوطن، والمتوطن خارج بلدها إذا سمع نداءها. [شرط الجمعة فعلها وقت الظهر] وشرطها: الوقت؛ أي: وقت الظهر؛ بأن تفعل مع خطبتيها كلها فيه؛ لخبر البخاري عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)، وخبر مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: (كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتبع الفيء)، فلا يجوز شيء من ذلك قبل وقت الظهر ولا بعده. ولو جاز تقديم الخطبة .. لقدمها صلى الله عليه وسلم؛ لتقع الصلاة أول الوقت. ولو ضاق الوقت عن الواجب .. صلوا ظهراً، ولو شرعوا فيه ووقع بعض الصلاة ولو تسليمة المسبوقة خارجه .. صلوا الظهر وجوباً؛ لأنها عبادة لا يجوز الابتداء بها بعده، فتنقطع بخروجه كالحج، وإلحاقاً للدوام بالابتداء كدار الإقامة؛ بناء على ما فعل منها، فيسر القراءة من حينئذ؛ لأنهما صلاتا وقت واحد فجاز بناء أطولهما على أقصرهما؛ كالإتمام والقصر. ولو شك في أثنائها في خروجه .. أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه. [من شروط الجمعة تقديم الخطبتين] ومن شروطها: تقديم خطبتين يجب أن يقعد بينهما مطمئناً؛ للاتباع. قال في "المجموع": ثبتت صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خطبتين، وقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولخبر "الصحيحين" عن ابن عمر قال: (كان

رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما)، وهذا بخلاف العيد، فإن الخطبتين فيه مؤخرتان؛ للاتباع، ولأن خطبة الجمعة شرط، والشرط مقدم على مشروطه، ولأن الجمعة إنما تؤدي جماعة فأخرت؛ ليدركها المتأخر، وللتمييز بين الفرض والنفل. ولو خطب قاعداً لعجزه عن القيام .. لم يضطجع بينهما للفصل، بل يفصل بينهما بسكتة قدر الطمأنينة للجلوس. وأشار بقوله: (ومن شروطها) إلى أنه لم يستوفها؛ إذ بقي منها: ألا يسبقها، أو يقارنها جمعة في بلدتها، إلا إذا كبرت وعسر اجتماعهم في موضع واحد؛ فيجوز التعدد في الأصح بحسب الحاجة، وحيث منعنا فسبقت جمعة .. فهي الصحيحة، ولا أثر لكون السلطان مع الثانية في الأظهر. والأصح: أن السبق بالإحرام، وأنه بالفراغ منه، ولو أخبروا فيها بكونهم مسبوقين .. سن استئنافها ظهراً، ولهم إتمام الجمعة ظهراً، وإن وقعتا معاً، أو شك .. بطلتا، واستؤنفت جمعة، وإن سبقت إحداهما ولم تتعين، أو تعينت ونسيت .. صلوا ظهراً. وقوله: (وهيه) الهاء فيه للسكت. [أركان الخطبتين] (ركنهما: القيام، والله أحمد ... وبعده صل على محمد) (وليوص بالتقوى أو المعنى كما ... نحو: (أطيعوا الله) في كلتيهما) (والستر، والولاء بين تين ... وبين ما صلى، وبالطهرين) (ويطمئن قاعداً بينهما ... ويقرأ الآية في إحداهما) (واسم الدعا ثانية للمؤمنين ... وحسن تخصيصه بالسامعين) أفاد كلامه: أن أركان الخطبتين عشرة أشياء، وأراد بها ما لا بد منه فيهما، وإلا فأركانهما خمسة، وهي: حمد الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى، وقراءة آية، والدعاء للمؤمنين، وما عداها من شروطهما:

أولها: القيام فيهما للقادر عليه؛ للاتباع، روى مسلم عن جابر بن سمرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يجلس بينهما، وكان يخطب قائماً)، ولأنهما ذكر يختص بالصلاة وليس من شرطه القعود، فيشترط فيه القيام؛ كالقراءة والتكبير. فإن عجز عنه .. خطب قاعداً، فإن عجز .. فمضطجعاً، والأولى: أن يستنيب كالصلاة، ويجوز الاقتداء به سواء أقال: لا أستطيع القيام أم سكت؛ لأن الظاهر أنه إنما ترك القيام لعجزه، فإن بان أنه كان قادراً .. فهو كما لو بان محدثاً. والحكمة في جعل القيام والقعود شرطين لهما وركنين للصلاة: أن الخطبة ليست إلا الذكر والوعظ، ولا شك أن القيام والقعود ليسا بجزأين لها، بخلاف الصلاة؛ فإنها جملة أعمال، وهي كما تكون أذكاراً تكون غير أذكار. ثانيها: حمد الله تعالى فيهما؛ للاتباع، روى مسلم عن جابر قال: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه ... ) الحديث. وأشار المصنف بقوله: (والله أحمد) إلى إجزاء نحو: (أحمد الله)، أو (نحمد الله)، أو (حمداً لله)، أو (لله الحمد)، أو (حمدت الله)، أو (أنا حامد لله)، وقد صرح به الجيلي وغيره؛ وإن صرح القاضي أبو الطيب وغيره بتعين (الحمد لله) وقد خرج بلفظ (الحمد) نحو: لفظ التكبير والثناء، وبلفظ (الله) نحو: لفظ (الرحمن الرحيم). ثالثهما: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما؛ كـ (أصلي)، أو (نصلي على الرسول)، أو (محمد)، أو (الماحي)، أو (العاقب)، أو (الحاشر)، أو (البشير)، أو (النذير) لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى .. افتقرت إلى ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم؛ كالأذان والصلاة. وخرج بلفظ (الصلاة) نحو: لفظ الرحمة، وبالصلاة عليه: الإتيان فيها بلفظ الضمير وإن تقدم اسمه عليه، والصلاة على غيره. رابعها: الوصية بالتقوى فيهما؛ للاتباع، روى مسلم عن جابر: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب على الوصية بالتقوى)، ولأن معظم مقصود الخطبة الوصية، ولا يتعين لفظها،

بل يكفي ما بمعناهما من الوعظ؛ نحو: أطيعوا الله وامتثلوا أوامره، واجتنبوا مناهيه؛ لأن غرضها الوعظ وهو حاصل بغير لفظها، فلا يكفي التحذير من الاغترار بالدنيا وزخرفتها، فقد يتواصى به منكرو الشرائع، بل لا بد من الحث على طاعة الله تعالى واجتناب معاصيه. وقوله: (في كلتيهما) أي: يجب القيام، وحمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى في كل واحدة من الخطبتين. خامسها: الستر للعورة في الخطبتين كالصلاة؛ كما جرى عليه السلف والخلف في الجمعة. سادسها: الولاء بين الخطبتين، وكلماتهما، وبينهما وبين الصلاة؛ كما جرى عليه السلف والخلف، ولأن له أثراً ظاهراً في استمالة القلوب، والصلاة والخطبة شبهتا بصلاتي الجمع. سابعها: الطهران في الخطبتين؛ أي: طهر الحدث الأصغر والأكبر، وطهر الخبث في البدن والثوب والمكان؛ كما جرى عليه السلف والخلف، فلو تطهر وعاد .. وجب استئناف الخطبة وإن لم يطل الفصل كالصلاة. ثامنها: طمأنينة الخطيب حال كونه قاعداً بين الخطبتين؛ كما في الجلوس بين السجدتين؛ كما جرى عليه السلف والخلف. تاسعها: قراءة آية؛ للاتباع، رواه الشيخان، وسواء في الآية الوعد والوعيد والحكم والقصة في إحدى الخطبتين، لا بعينها؛ لأن المنقول القراءة في الخطبة دون تعيين، ويعتبر فيها كونها مفهمة؛ فلا يكفي {ثم نظر} وإن عد آية، ولو قرأ شطر آية طويلة .. جاز. قال في "الروضة" كـ"أصلها": ولا تجزئ آية موعظة بقصد إيقاعها عن الوعظ والقراءة، ولا آيات شاملة للأركان؛ لأنها لا تسمى خطبة، ولو أتى ببعضها في ضمن آية .. جاز. عاشرها: ما يقع عليه اسم دعاء للمؤمنين في الثانية؛ كما جرى عليه السلف والخلف، ولأن الدعاء يليق بالخواتم، والمراد بـ (المؤمنين): الجنس الشامل للمؤمنات، وبهما عبر في "الوسيط"، وفي التنزيل: {وكانت من القانتين} [التحريم: 12].

قال الإمام: وأرى أن يكون الدعاء متعلقاً بأمور الآخرة غير مقتصر على أوطار الدنيا، وحسن تخصيصه بالسامعين؛ كأن يقول: (رحمكم)، أما الدعاء للسلطان بخصوصه .. ففي "المهذب": لا يستحب؛ لما روي عن عطاء: أنه محدث، وفي "شرحه": اتفق أصحابنا على أنه لا يجب ولا يستحب، والمختار: أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ونحوها، ويستحب بالاتفاق الدعاء لأئمة المسلمين، وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك، ولجيوش الإسلام، وفي "الروضة" بعض ذلك. [من شروط الخطبتين] ومن شروطها: كونها عربية على الأصح، فإن لم يكن في المصلين من يحسن العربية خطب أحدهم بلسانه، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة، فإن مضت مدة إمكان التعلم ولم يتعلمها أحد منهم .. عصوا كلهم بذلك ولا جمعة لهم، بل يصلون الظهر، هذا ما في "المجموع"، وهو مبني على أن فرض الكفاية على البعض، وقد اختاره بعضهم. وما في "الروضة" كـ"أصلها": من أنه يجب أن يتعلهما كل واحد منهم، وأنهم إن لم يتعلموا عصوا .. مبني على قول الجمهور- وهو الأصح-: أن فرض الكفاية على الجميع ويسقط بفعل البعض، وسقطت لفظة (كل) من بعض نسخ "الشرح"، ويدل عليها ضمير الجمع في (لم يتعلموا)، ومعناه: انتفى التعلم عن كل واحد منهم. وأجاب القاضي حسين عن سؤال: ما فائدة الخطبة بالعربية إذا لم يعرفها القوم؟ بأن فائدتها العلم بالوعظ من حيث الجملة، ويوافقه ما في "الروضة" كـ"أصلها": فيما لو سمعوا الخطبة ولم يفهموا معناها .. أنها تصح. ومنها: إسماع العدد الذي تنعقد به الجمعة أركان الخطبتين؛ لأن مقصودها الوعظ وهو لا يحصل إلا بالإبلاغ، فلا يكفي الإسرار كالأذان، فلو كانوا كلهم أو بعضهم صماً .. لم

تصح؛ كبعدهم عنه، وكشهود النكاح، وعلم من ذلك أنه يجب عليهم السماع، فيشترط الإسماع والسماع؛ وبه صرح الشيخان وغيرهما. وقول الناظم: (الدعا) بالقصر للوزن. [سنن الجمعة] (سننها: الغسل وتنظيف الجسد ... ولبس أبيضٍ، وطيب إن وجد) (وبكر المشي لها من فجر ... وازداد من قراءةٍ وذكر) (وسنة الخطبة بالإنصات ... والخف في تحية الصلاة) ذكر في هذه الأبيات من سنن الجمعة تسعة أشياء: الأول: الغسل لمن يريد حضورها وإن لم تجب عليه، بل يكره تركه؛ لأخبار "الصحيحين": "إذا جاء أحدكم الجمعة .. فليغتسل" أي: إذا أراد مجيئها، و"غسل" الجمعة واجب على كل محتلم"، و"حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً"، زاد النسائي: "هو يوم الجمعة"، وخبر ابن حبان وأبي عوانة: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء .. فليغتسل". وصرفها عن الوجوب أخبار، منها: خبر: "من توضأ يوم الجمعة .. فبها ونعمت، ومن اغتسل .. فالغسل أفضل" رواه الترمذي وحسنه، وخبر مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت .. غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام".

ووقته: من الفجر؛ لخبر "الصحيحين": "من اغتسل يوم الجمعة ... " وسيأتي بتمامه، وتقريبه من ذهابه أفضل؛ لأنه أفضى إلى الغرض من انتفاء الرائحة الكريهة حال الاجتماع. فإن عجز عن الغسل حساً أو شرعاً .. تيمم بنية الغسل، وحاز الفضيلة؛ كسائر الأغسال المسنونة. الثاني: تنظيف الجسد؛ بإزالة الشعر والظفر والروائح الكريهة كالصنان؛ لأنه يتأذى به، فيزال بالماء ونحوه. الثالث: لبس الثياب البيض؛ لخبر: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم" رواه الترمذي وغيره، وصححوه. قال في "الروضة و"أصلها": فإن لبس مصبوغاً .. فما صبغ غزله ثم نسج كالبرد لا عكسه، ويستحب أن يزيد الإمام في حسن الهيئة والتعمم، ويرتدي؛ للاتباع، ولأنه منظور إليه. الرابع: التطيب إن وجد الطيب؛ لخبر: "من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته .. كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها" رواه ابن حبان والحاكم، وصححه على شرط مسلم، وأحب طيب الرجال: ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء: ما ظهر لونه وخفي ريحه. قال الشافعي: من نظف ثوبه .. قل همه، ومن طاب ريحه .. زاد عقله. ولا بأس للعجوز بحضورها بإذن زوجها أو سيدها بلا طيب وتزين. الخامس: التبكير إليها؛ لخبري "الصحيحين": "على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول"، و"من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة" أي: كغسلها "ثم

راح" أي: في الساعة الأولى .. "فكأنما قرب بدنة" أي: واحداً من الإبل "ومن راح في الساعة الثانية .. فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة .. فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة .. فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة .. فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام .. حضرت الملائكة يستمعون الذكر". وروى النسائي: في الخامسة: "كالذي يهدي عصفوراً"، وفي السادسة: "بيضة". والساعات: من طلوع الفجر؛ كما جرى عليه المصنف، لا الشمس ولا الزوال على الأصح؛ لأنه أول اليوم شرعاً، وبه يتعلق جواز غسل الجمعة. قال في "الروضة" كـ"أصلها": وليس المراد الساعات الفلكية، وإلا .. لاختلف الأمر باليوم الشاتي والصائف، وفي خبر أبي داوود والنسائي بإسناد صحيح: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة" وهو شامل لجميع أيامه، بل المراد: ترتيب الدرجات وفضل السابق على من يليه؛ لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة. وقال في شرحي "المهذب" و"مسلم": بل المراد الفلكية، لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر، وبدنة المتوسط متوسطة، وعلى هذا القياس؛ كما في درجات الجمع الكثير والقليل. ثم محل ندب التبكير في المأموم، أما الإمام .. فيندب له التأخير إلى وقت الخطبة؛ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه؛ قال الماوردي، ونقله في "المجموع" عن المتولي وأقره. السادس: المشي إليها، بل وإلى غيرها من العبادات كعيادة المريض، فلا يركب إلا لعذر؛ للحث على ذلك مع غيره في خبر رواه أصحاب السنن الأربعة، وحسنة الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين.

السابع: إكثار القراءة والذكر؛ أي: أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقة، وحضوره قبل الخطبة، وفي التنزيل: {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور: 36]، وفي "الصحيحين": "إن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه"، وفي "مسلم": "إذا كان أحدكم يعمد إلى الصلاة .. فهو في صلاة"، ويسن أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها، وأن يقرأ (سورة الكهف) فيهما. الثامن: الإنصات للخطبة؛ لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرءان فاستعموا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] فسره كثيرون بالخطبة، وسميت قرآناً؛ لاشتمالها عليه، والإنصات: السكوت، والاستماع: شغل السمع بالسماع. وصرف الأمر عن الوجوب خبر البيهقي بإسناد جيد عن أنس: أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: متى الساعة؟ فأومأ الناس إليه بالسكوت، فلم يقبل، وأعاد الكلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة: "ماذا أعددت لها؟ " قال: حب الله ورسوله، قال: "إنك مع من أحببت"، وجه الاستدلال: أنه لم ينكر عليه الكلام، ولم يبين له وجوب السكوت، وأما خبر مسلم: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب .. فقد لغوت" .. فمعناه: تركت الأدب، وندب الإنصات لا ينافي ما مر من وجوب السماع، ويستوي في ندب الإنصات سامع الخطبة وغيره؛ كما صححه في "الروضة" كـ"أصلها"، ونقلاه عن النص وعن قطع كثيرين، ثم نقلا عنهم: أن غير السامع بالخيار بين الإنصات والاشتغال بالتلاوة والذكر، وكلام "المجموع" يقتضي أن الثاني أولى. التاسع: تخفيف ركعتي التحية لداخل المسجد حال الخطبة؛ ليتفرغ لسماعها، ولخبر مسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب .. فليركع ركعتين وليتجوز فيهما"،

قال في "الأم": وأرى للإمام أن يأمره بهما، فإن لم يفعل .. كرهت له، فإن لم يكن صلى الراتبة .. صلاها وحصلت التحية، أما غير التحية من الصلوات .. فيحرم ابتداؤها إذا جلس الخطيب على المنبر وإن لم يسمع الخطبة. وقوله: (أبيضٍ) بصرفه؛ للوزن.

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين أي: عيد الفطر وعيد الأضحى، والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، والمشهور في التفسير: أن المراد به صلاة الأضحى، وأول عيد صلاه النبي صلى الله عليه وسلم عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة. (تسن ركعتان لو منفردا ... بين طلوع وزوالها أدا) (تكبير سبع أول الأولى يسن ... والخمس في ثانيةٍ من بعد أن) (كبر في إحرامه وقومته ... وخطبتان بعدها كجمعته) (كبر في الأولى منهما تسعاً ولا ... والسبع في ثانية، أي: أولا) فيها خمس مسائل: [صلاة العيد سنة مؤكدة] الأولى: صلاة العيد ركعتان، وهي سنة مؤكدة؛ لما مر؛ ولمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها، وليست بواجبة؛ لخبر "الصحيحين": هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع". وتسن جماعة كما فعلها صلى الله عليه وسلم، وفي المسجد إن اتسع، وتسن للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر؛ كسائر النوافل، ولا يخطب المنفرد، ويخطب إمام المسافرين. [وقت صلاة العيد] الثانية: وقتها بين طلوع الشمس وزوالها، فتقع فيه أداء؛ لأن مبنى المواقيت على أنه إذا خرج وقت صلاة .. دخل وقت غيرها، وبالعكس، إلا أنه يسن تأخيرها إلى ارتفاع الشمس كرمح كما فعلها صلى الله عليه وسلم، وليخرج وقت الكراهة.

[كيفية صلاة العيد] الثالثة: يسن أن يكبر سبع تكبيرات في أول الركعة الأولى، وخمسة في أول الثانية، من بعد أن كبر لإحرامه في الأولى ولقومته في الثانية؛ لخبر الترمذي وحسنه: (أنه صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الثانية خمساً قبل القراءة). ويسن أن يقف بين كل ثنتين كآية معتدلة يهلل ويكبر ويمجد، رواه البيهقي عن ابن مسعود بنحوه بسند جيد، ويحسن في ذلك: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، وهي الباقيات الصالحات في قول ابن عباس وجماعة. ويسن أن يقرأ بعد (الفاتحة) في الأولى (ق) أو (سبح اسم ربك الأعلى)، وفي الثانية (اقتربت الساعة) أو (هل أتاك حديث الغاشية) بكمالها جهراً. [استحباب خطبتين بعد صلاة العيد] الرابعة: يسن بعدها خطبتان كخطبتي الجمعة في أركانهما؛ لخبر "الصحيحين" عن ابن عمر: (أنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيد قبل الخطبة)، وتكريرها مقيس على الجمعة، ولم يثبت فيه حديث كما قاله النووي في "الخلاصة". ولو قدمت على الصلاة .. قال في "الروضة": لم يعتد بها؛ كالسنة الراتبة بعد الفريضة إذا قدمت، وأما شروط خطبتي الجمعة؛ كالقيام فيهما، والجلوس بينهما، والطهارة، والستر .. فلا تشترط في خطبتي العيد، لكن يعتبر في أداء السنة الإسماع والسماع وكون الخطبة عربية. ويسن أن يعلمهم في عيد الفطر أحكام زكاة الفطر، وفي عيد الأضحى أحكام الأضحية. [استحباب التكبير أول الخطبتين] الخامسة: يسن أن يكبر في أول الخطبة الأولى تسع تكبيرات ولاءً، وفي أول الثانية سبع تكبيرات ولاءً؛ لقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود من التابعين: إن ذلك من السنة، رواه الشافعي والبيهقي.

ولو فصل بينهما بالحمد والتهليل والثناء .. جاز. قال في "الروضة": ونص الشافعي رضي الله عنه وكثيرون من الأصحاب: على أنها ليست من الخطبة، وغنما هي مقدمة لها، ومن قال منهم: يفتتح الخطبة بها .. يحمل على ذلك؛ لأن افتتاح الشيء قد يكون ببعض مقدماته التي ليست من نفسه. وقول المصنف: (في الأولى) بنقل الهمزة إلى الساكن قبلها. (وسن من قبل صلاة الفطر ... فطرٌ، كذا الإمساك حتى النحر) (وبكر الخروج لا الخطيب ... والمشي والتزيين والتطييب) (وكبروا ليلتي العيد إلى ... تحرم بها، كذا لما تلا) (ألصلوات بعد صبح التاسع ... إلى انتهاء عصر يوم الرابع) فيها خمس مسائل: [استحباب الفطر في عيد الفطر والإمساك في الأضحى قبل الصلاة] الأولى: يسن أن يفطر في عيد الفطر قبل صلاته، ويمسك في عيد الأضحى عن الأكل حتى يصلي وينحر؛ لخبر البخاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وتراً). ولما روى بريرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) رواه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم. وحكمته: امتياز يوم العيد عما قبله بالمبادرة بالأكل أو تأخيره. [استحباب التبكير لصلاة العيد] الثانية: يسن التبكير في الخروج لصلاة العيد بعد صلاة الصبح؛ ليأخذوا مجالسهم إلا الخطيب، فيتأخر إلى وقت الصلاة؛ لخبر "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري: (أنه

صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة ... ) إلى آخره. [استحباب المشي لصلاة العيد] الثالثة: يسن المشي في الذهاب لصلاة العيد بسكينة، فلا يركب إلا لعذر، سواء فيه الإمام والمأموم، أما الإياب .. فإنه مخير فيه بين المشي والركوب ما لم يتأذ به أحد. ويسن لكل منهما أن يذهب في طريق ويرجع في أخرى؛ لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك، رواه أبو داوود وغيره، وفي "صحيح البخاري" عن جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد .. خالف الطريق)، والأرجح في سبب ذلك: أنه كان يذهب في أطول الطريقين؛ تكثيراً للأجر، ويرجع في أقصرهما، وقيل: لشهادة الطريقين، وقيل: ليتبرك به أهلهما، وقيل: ليستفتى فيهما، وقيل: ليتصدق على فقرائهما، وقيل: لنفاذ ما يتصدق به، وقيل: ليزور قبور أقاربه فيهما، وقيل: ليزداد غيظ المنافقين، وقيل: للحذر منهم، وقيل: للتفاؤل بتغير الحال إلى المغفرة، وقيل: لئلا تكثر الزحمة. ويسن الذهاب في طريق والرجوع في آخر في الجمعة وغيرها؛ كما ذكره النووي في "رياضه". [استحباب الغسل للعيد] الرابعة: يسن التزين بالغسل، ويدخل وقته بنصف الليل، ولبس أحسن ثيابه، وإزالة الشعر والظفر والرائحة الكريهة، والتطيب بأجود ما عنده من الطيب؛ كالجمعة، وسواء في الغسل وما بعده القاعد في بيته والخارج للصلاة؛ لأن اليوم يوم سرور وزينة. قال النووي: ولبس أحسن الثياب هنا أولى من الأبيض الأدون. انتهى. فإن لم يجد إلا ثوباً .. سن له أن يغسله للجمعة والعيد، هذا حكم الرجال. أما النساء .. فيكره لذوات الجمال والهيئة الحضور، ويستحب للعجائز، ويتنظفن بالماء، ولا يتطيبن، ولا يلبسن ما شهر من الثياب، بل يخرجن في ثياب بذلتهن.

[استحباب التكبير في العيدين] الخامسة: يسن التكبير بغروب الشمس ليلتي العيد في المنازل والطرق والمساجد والأسواق ليلاً ونهاراً إلى تحرمه بصلاة العيد. ويسن للذكر: أن يرفع صوته به، ويسمى هذا التكبير مرسلاً ومطلقاً؛ لأنه لا يتقيد بحال. وأما التكبير في عيد الفطر .. فلقوله تعالى: {ولتكملوا العدة} [البقرة: 185] أي: عدة صوم رمضان {ولتكبروا الله] أي: عند إكمالها؛ كما نقله الشافعي رضي الله تعالى عنه عمن يرضاه من العلماء بالقرآن. وأما في عيد الأضحى .. فبالقياس على عيد الفطر، قال البيهقي: وصح عن ابن عمر: (أنه كان يفعله ليلة الفطر حتى يغدو إلى المصلى)، قال: وروى ذلك عنه مرفوعاً في العيدين، ولا يكبر الحاج ليلة الأضحى، بل يلبي. وأما التكبير المقيد .. فيسن عقب الصلوات ولو فائتة أو نافلة، أو جنازة أو منذورة، لكل أحد حاج أو غيره، مقيم أو مسافر، ذكر أو غيره، منفرد أو غيره. ولا يسن ليلة الفطر عقب الصلوات؛ لعدم وروده، وغير الحاج يكبر من صبح التاسع؛ وهو يوم عرفة، ويختم بعصر اليوم الرابع؛ أي: من أيام التضحية، وهو الثالث من أيام التشريق الثلاثة. وأما الحاج .. فيكبر من ظهر يوم النحر؛ لأنها أول صلاته بعد انتهاء وقت التلبية، ويختم بصبح آخر أيام التشريق؛ لأنها آخر صلاته بمنى، والأصل في ذلك: قوله تعالى: {واذكروا الله فى أيام معدودات} [البقرة: 203] وهي أيام التشريق. وما جرى عليه المصنف في غير الحاج .. هو ما اختاره النووي في "مجموعة"، قال: وعليه العمل، وصححه في "أذكاره"، قال في "الروضة": وهو الأظهر عند المحققين؛ للحديث؛ أي: الذي رواه الحاكم: (أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك)،

وقال فيه: صحيح الإسناد، قال: وصح فعله عن عمر وعليٍّ وابن مسعود وابن عباس من غير إنكار، فجملة الصلوات التي يكبر خلفها غير الحاج ثلاث وعشرون، وصحح الرافعي: أن غير الحاج كالحاج قياساً عليه، وقال النووي في "مجموعه" وغيره: إنه المشهور في مذهبنا. ولو خالف اعتقاد الإمام المأموم فكبر من يوم عرفة، والمأموم لا يرى التكبير فيه، أو عكسه .. فالأصح: اعتبار اعتقاد نفسه، بخلاف تكبير الصلاة لانقطاع القدوة بالسلام. ولا يكبر عقب فائت هذه الأيام إذا قضاة في غيرها؛ لأن التكبير شعارها وقد فات. وجميع ما ذكر هو في التكبير الذي يرفع به صوته ويجعله شعاراً، أما لو استغرق عمره بالتكبير في نفسه .. فلا منع منه؛ نقله في "الروضة" و"أصلها" عن الإمام من غير إنكار. * * *

باب صلاة الخسوف للقمر والكسوف للشمس

باب صلاة الخسوف للقمر والكسوف للشمس هذا هو المشهور، وقد استعمله المصنف أيضاً فيما يأتي، ويقال فيهما أيضاً: خسوفان وكسوفان، وفي الأول: كسوف، وفي الثاني: خسوف. (ذي ركعتان، وكلا هاتين ... حوت ركوعين وقومتين) (يسن تطويل اقترا القومات ... وسبحه الركعات والسجدات) (والجهر في قراءة الخسوف ... لقمر، والسر في الكسوف) (وخطبتان بعدها كالجمعة ... قدم على فرض بوقت وسعه) فيها خمس مسائل: [صلاة الخسوف والكسوف ركعتان] الأولى: هذه الصلاة ركعتان، في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجودان كما فعلها صلى الله عليه وسلم، وهي سنة مؤكدة، فيحرم بنية صلاة الكسوف، ويقرأ (الفاتحة)، ثم يركع ثم يرفع، ثم يقرأ (الفاتحة)، ثم يركع ثم يعتدل، ثم يسجد السجدتين، ويأتي بالطمأنينة في محالها، فهذه ركعة، ثم يصلى ثانية كذلك، هذا أقلها كما في "الروضة" و"أصلها"، ولا تجوز زيادة ركوع لتمادي الكسوف ولا نقصه للانجلاء، ولا إعادة للصلاة إذا بقي الكسوف على الأصح في الجميع، وما في رواية مسلم: (أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ركعتين في كل ركعة ثلاثة ركوعات)، وفي أخرى له: (أربعة ركوعات)، وفي رواية أبي داوود وغيره خمسة ركوعات .. أجاب الأئمة عنها بأن رواية الركوعين أشهر وأصح فقدمت.

وما في حديثي أبي داوود وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم صلاة ركعتين) أي: من غير تكرير ركوع كما قاله أبو حنيفة .. قال في "المجموع": أجاب عنهما أصحابنا بجوابين: أحدهما: أن أحاديثنا أشهر وأصح وأكثر رواة. والثاني: أنا نحمل أحاديثنا على الاستحباب، والحديثين على بيان الجواز. قال: ففيه تصريح منهم بأنه لو صلاها ركعتين كسنة الظهر ونحوها .. صحت، وكان تاركا للأفضل. ولا ينافى هذا ما مر من امتناع نقص ركوع منها؛ لأنه بالنسبة لمن قصد فعلها بالركوعين، ومن أدرك الإمام في الركوع الأول من ركعة .. أدركها، أو في غيره .. لم يدرك شيئاً منها. وفي "المجموع" عن "الأم": أن من صلى الكسوف وحده ثم أدركها مع الإمام .. صلاها معه. وتفوت صلاة كسوف الشمس بالانجلاء؛ لأنه المقصود بها، وقد حصل، ولو انجلى بعضها .. فله الشروع في الصلاة للباقي كما لو لم ينكسف إلا ذلك القدر، ولو حال سحاب وشك في الانجلاء .. صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، فلو كانت تحت غمام وظن الكسوف .. لم يصل حتى يتيقن، وبغروبها كاسفة؛ لعدم الانتفاع بها بعد الغروب. وتفوت صلاة خسوف القمر بانجلائه كما مر، وبطلوع الشمس؛ لعدم الانتفاع به بعد طلوعها، ولا تفوت بطلوع الفجر؛ لبقاء الانتفاع به. [الأكمل في صلاة الكسوف] الثانية: الأكمل في هذه الصلاة: تطويل قراءة المقومات وتسبيح الركوعات والسجودات، فيقرأ في القيام الأول بعد (الفاتحة) وما يتقدمها من دعاء الافتتاح والتعوذ: (البقرة) أو قدرها إن لم يحسنها، وفي الثاني: كمئتي آية منها، والثالث: مئة وخمسين منها، والرابع: مئة منها تقريباً، وفي نص آخر: في الثاني: (آل عمران) أو قدرها، وفي الثالث: (النساء) أو قدرها، وفي الرابع: (المائدة) أو قدرها وهما متقاربان، والأكثرون على الأول. ويسبح في كل من الركوع والسجود الأول قدر مئة آية من (البقرة)، والثاني ثمانين،

والثالث سبعين، والرابع خمسين تقريباً، ويقول في الرفع من كل ركوع: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)، قال في "المجموع": إلى آخره، روى الشيخان عن ابن عباس قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى- قال مسلم: والناس معه- فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة "سورة البقرة"، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياما طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قياماً طويلاً وهو دون الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس). ورويا أيضاً عن عائشة رضى الله تعالى عنها: أنه قرأ في القيام الثاني قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، وأنه قال في الرفع من الركوعين: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد". وتطويل السجدات ثبت في "الصحيحين" في صلاته صلى الله عليه وسلك لكسوف الشمس من حديث أبي موسى ولفظه: (فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله في صلاته)، ومن حديث عائشة رضى الله عنها ولفظها في "صحيح البخاري" في الركعة الأولى: (فسجد سجوداً طويلاً)، وفي الثانية: (ثم سجد وهو دون السجود الأول) وفي "صحيح مسلم": (ما ركعت ركوعاً قط ولا سجدت سجوداً قط أطول منه). وخرج بما ذكره: الجلوس بين السجدتين والاعتدال من الركوع الثاني فلا يطولهما. وتسن الجماعة فيها، وتسن للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر، كما ذكره في "المجموع". [استحباب الجهر في قراءة الخسوف والإسرار في الكسوف] الثالثة: يسن الجهر في قراءة صلاة خسوف القمر، والإسرار في قراءة صلاة كسوف الشمس؛ لأن الأولى ليلية والثانية نهارية لها مثل من صلاة الليل، وما روى الشيخان عن عائشة

رضى الله عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته)، والترمذي عن سمرة قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم في كسوف لا نسمع له صوتاً) وقال: حسن صحيح .. قال في "المجموع": يجمع بينهما بأن الإسرار في كسوف الشمس، والجهر في كسوف القمر، وقد ذكر ابن حبان في كتابه "الثقات": أن القمر خسف في السنة الخامسة من الهجرة في جمادى الآخر، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخسوف، وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم صلى لخسوف القمر، وقال في "الكفاية": حكاه عنه عبد الحق ولم يعترضه. [استحباب خطبتين بعدها] الرابعة: يسن بعدها خطبتان؛ للاتباع، رواه الشيخان، كالجمعة؛ أي: كخطبتي الجمعة في أركانهما وفي الإسماع والسماع، وكون الخطبة عربية، ويندب أن يحث الناس فيهما على التوبة والخير، ويحرضهم على الإعتاق والصدقة، ويحذرهم الغفلة والاغترار، ويخطب إمام المسافرين، ولا يخطب المنفرد ولا إمامة النساء، ولو قامت واحدة ووعظتهن .. فلا بأس. وأفهم كلامه كغيره: أنه لا تجزئ خطبة واحدة، وهو كذلك. [اجتماع الكسوف مع فرض عيني واتسع الوقت] الخامسة: لو اجتمع كسوف وفرض عيني من جمعة أو غيرها واتسع وقته لفعله بعد صلاة الكسوف- وهذا معنى قوله: (بوقت وسعه) أي: وسع الوقت الفرض- قدم أنت الكسوف عليه ندباً؛ لخوف فواته بالانجلاء، ولأنه لا يقضى. قال الشافعي رضى الله تعالى عنه في "الأم": وإذا بدأ بالكسوف قبل الجمعة .. خففها؛ فقرأ بـ (الفاتحة) و (قل هو الله أحد) وما أشبهها، ثم يخطب الجمعة متعرضاً للكسوف، كما

أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في خطبة الجمعة، ثم يصلى الجمعة، ولا يحتاج إلي أربع خطب، ويقصد بالخطبتين الجمعة خاصة، ولا يجوز أن يقصد الجمعة والكسوف معاً؛ لأنه تشريك بين فرض ونفل، بخلاف العيد والكسوف؛ فإنه يقصدهما بالخطبتين؛ لأنهما سنتان. قال النووي في "مجموعه": وفيه نظر؛ لأن السنتين إذا لم تتداخلا .. لا تصح نيتهما بفعل واحد؛ كسنة الصبح والضحى، بخلاف سنة الصبح والتحية. قال السبكي: وكأنهم اغتفروا ذلك في الخطبة؛ لحصول القصد بها بخلافه في الصلاة. وخرج بقوله: (بوقت وسعه): ما لو خيف فوت الفرض؛ فإنه يقدمه وجوباً لتعينه ولضيق وقته، ففي الجمعة يخطب لها ثم يصليها ثم يصلى الكسوف ثم يخطب لها، فلو اجتمع عيد أو كسوف وجنازة .. قدمت صلاة الجنازة وإن خيف فوات غيرها؛ لما يخشى من تغير الميت بتأخيرها، ولأنها فرض كفاية، ولأن فيها حق الله تعالى وحق الآدمي، وإن اجتمع فرض وجنازة ولم يضق وقته .. قدمت الجنازة، وإن ضاق .. قدم، ولو اجتمع خسوف ووتر .. قدمت صلاة الخسوف وإن خيف فوات الوتر؛ لأنها آكد. وقول المصنف: (اقترا) بالقصر للوزن.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء وهو لغة: طلب السقيا، وشرعاً: طلب سقيا العباد من الله تعالى عند حاجتهم إليها، والأصل في الباب قبل الإجماع: الاتباع، رواه الشيخان وغيرهما، والاستسقاء ثلاثة أنواع ثابتة بالأخبار الصحيحة، أدناها: الاستسقاء بالدعاء خالياً عما يأتي، وأوسطها: الاستسقاء بالدعاء بعد صلاة، أو في خطبة جمعة أو نحوها، وأفضلها: الاستسقاء بصلاة وخطبة، وقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى هذا النوع فقال: (صلى كعيد عبد أمر الحاكم ... بتوبة والرد للمظالم) (والبر والإعتاق والصيام ... ثلاثة، ورابع الأيام) (فليخرجوا بذلة التخشع ... مع رضع ورتع وركع) (والخطب- كما في العيد- باستدبار ... وأبدل التكبير باستغفار) فيها أربع مسائل: [استحباب أمر الإمام بالتوبة ورد المظالم والصوم] الأولى: يسن للإمام أن يأمر الناس بالتوبة من المعاصي، والرد للمظالم في الدم والعرض والمال؛ لأنه أرجى للإجابة، قال الله تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا}، ومعلوم أن التوبة واجبة أمر بها الإمام أم لا، وذكر الرد للمظالم اهتماماً بشأنه، وإلا .. فهو داخل في التوبة، وبالبر، وهو اسم جامع لكل خير، ومنه الإعتاق والصيام، ولكونهما أرجى للإجابة، صرح بهما وبالإعتاق للرقاب؛ لأن المعاصي سبب للجدب، والطاعات سبب للبركات كما قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، وبصوم ثلاثة أيام قبل خروجهم؛ أي: وبصوم الرابع وهو يوم خروجهم؛ لأنه معين على رياضة النفس وخشوع القلب، وروى الترمذي عن أبي هريرة خبر:

"ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم" وقال: حديث حسن، ورواه البيهقي عن أنس وقال: "دعوة الصائم، والوالد، والمسافر". والصوم لازم للقوم بأمر الإمام امتثالاً له كما أفتى به النووي؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله} الآية، قال في "المهمات": وهل يتعدى ذلك إلى كل ما يأمرهم به من الصدقة وغيرها أم يختص بالصوم؟ فيه نظر. انتهى. ومال ابن العماد إلي الاختصاص، قال الأذرعي: والمختار عندي: أنه لا يجب التبييت ولا الصوم؛ لأنه تطوع. نعم؛ يتأكد امتثال ما أمر به كما يفهمه كلام الجمهور، وهو القياس؛ كما لو أمرهم بالعتق وصدقة التطوع وغيرهما من القرب المندوبة، بخلاف ما لو أمرهم بالاستسقاء للجدب؛ فتجب طاعته بخلاف التتمات، ويبعد تأثيم من لم يصم. [استحباب الخروج للصحراء بثياب بذلة] الثانية: يخرجون إلى الصحراء في الرابع صياماً في ثياب بذلة، وتخشع في مشيهم وجلوسهم وغيرهما، قال ابن عباس: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء متبذلاً متواضعاً متضرعاً حتى أتى المصلى، فلم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلى العيد) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وقوله: (متبذلاً) كما يؤخذ من "النهاية": من تبذل؛ أي: لبس ثياب البذلة؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة: المهنة. قال في "المجموع": وثياب البذلة: هي التي تلبس في حال الشغل ومباشرة الخدمة وتصرف الإنسان في بيته، فعلم أنهم لا يتزينون ولا يتطيبون، بل يتنظفون بالماء والسواك وقطع الروائح الكريهة، وفارق العيد بأنه يوم زينة وهذا يوم مسألة واستكانة. ويخرجون الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والمشايخ الركع؛ لأن دعاءهم أقرب إلى

الإجابة؛ إذ الشيخ أرق قلباً، والطفل لا ذنب له، وقال صلى الله عليه وسلم: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم"، وأخرج أبو نعيم في "المعرفة": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا عباد لله ركع، وصبية رضع، وبهائم رتع .. لصب عليكم العذاب صباً" ورواه البيهقي وابن عدى ومالك. وأخرج أبو نعيم عن أبي الزاهرية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم إلا وينادي مناد: مهلاً أيها الناس مهلاً؛ فإن لله سطوات، ولولا رجال خشع وصبيان رضع ودواب رتع .. لصب عليكم العذاب صباً، ثم رضضتم به رضاً". وقال صلى الله عليه وسلم: "خرج نبي من الأنبياء يستسقي؛ فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال: ارجعوا؛ فقد استجيب لكم من أجل شأن النملة" رواه الدارقطني والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وفي "البيان": أن هذا النبي هو سليمان عليه الصلاة والسلام، وأن النملة وقفت على ظهرها ورفعت يديها وقالت: (اللهم؛ أنت خلقتنا، فإن رزقتنا وإلا ... فأهلكنا). قال: وروى أنها قالت: (اللهم؛ إنا خلق من خلقك لا غنى بنا عن رزقك، فلا تهلكنا بذنوب بنى آدم). وخرج بما ذكره المصنف: أهل الذمة، فلا يستحب خروجهم، لكن لا يمنعون منه لا في يومنا ولا في غيره؛ لأنهم مسترزقة، وفضل الله تعالى واسع، وقد يجيبهم استدراجاً لهم؛ قال تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} ولا يختلطون بنا؛ لأنه قد يحل بهم عذاب بسبب كفرهم المتقرب به في اعتقادهم، فإن خالطونا .. كره. [متى تسن صلاة الاستسقاء وكيفيتها] الثالثة: تسن صلاة الاستسقاء، وهي ركعتان عند الحاجة؛ لانقطاع ماء الزرع أو قلته بحيث لا يكفي، أو صيرورته مالحاً أو نحوها، بخلاف انقطاع ما لا يحتاج إليه في ذلك الوقت، ولو

انقطع عن طائقة من المسلمين واحتاجت .. سن لغيرهم أيضاً أن يصلوا ويستسقوا لهم، ويسألوا الزيادة لأنفسهم؛ لأن المؤمنين كالعضو الواحد إذا اشتكى بعضه .. اشتكى كله، وسواء في سنها أهل الأمصار والقرى والبوادي والمسافرون؛ لاستواء الكل في الحاجة. ولو تركها الإمام .. لم يتركها الناس، وتعاد ثانيا وثالثا وأكثر حتى يسقيهم الله تعالى، فإن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء، فإن تأهبوا للصلاة فسقوا قبلها .. اجتمعوا للشكر والدعاء، ويصلون على الصحيح شكراً، وأجرى الوجهان فيما إذا لم ينقطع الماء وأرادوا أن يصلوا للاستزادة، فقول المصنف (صلى) أي: المحتاج وغيره ندباً. وقوله: (كعيد) أي: كصلاته؛ للاتباع كما مر في خبر الترمذي، فيكبر في أول الركعة الأولى سبعاً وأول الثانية خمساً، ويرفع يديه، ويقف بين كل تكبيرتين مسبحاً حامداً مهللاً مكبراً، ويجهر بالقراءة، ويقرأ في الأولى (ق) وفي الثانية (اقتربت)، لكن لا تختص بوقت؛ بل جميع الليل والنهار وقت لها كما لا تختص بيوم. [استحباب خطبتين للاستسقاء كالعيد] الرابعة: يسن أن يخطب خطبتين كخطبتي العيد في الأركان وغيرها مستدبراً بهما القبلة؛ للاتباع، رواه أبو داوود بإسناد صحيح، ويجوز كما في "الروضة" وغيرها تقديم الخطبة على الصلاة؛ للاتباع، رواه أبو داوود وغيره بأسانيد صحيحة، ولهذا عبر المصنف بالواو في قوله: (واخطب) ليفيد ذلك. ويبدل الخطيب التكبير المشروع في خطبتي العيد باستغفار في خطبتي الاستسقاء فيقول: (استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) لأنه أليق بالحال، ويكثر فيهما من الاستغفار ومن قوله: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا}، ومن دعاء الكرب وهو: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم). ويبدل أيضاً ما يتعلق بالفطرة والأضحية بما يتعلق بالاستسقاء، ويدعو في الخطبة الأولى: (اللهم؛ اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، مريعاً غدقاً مجللاً سحاً طبقاً دائماً، اللهم؛ اسقنا

الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم؛ إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً). ويستقبل القبلة بعد صدر الخطبة الثانية، وهو نحو ثلثها كما قاله النووي في "دقائقه"، ويبالغ في الدعاء حينئذ سراً وجهراً، فإذا أسر .. دعا الناس سراً، وإذا جهر .. أمنوا، ويرفعون كلهم أيديهم في الدعاء مشيرين بظهور أكفهم إلى السماء، والحكمة فيه: أن القصد رفع البلاء، بخلاف قاصد حصول شيء فيجعل باطن كفيه إلى السماء. ويحول رداءه عند استقباله فيجعل يمينه يساره وعكسه، وينكسه فيجعل أعلاه أسفله وعكسه، ويحصل التحويل والتنكيس بجعل الطرف الأسفل الذي على شقه الأيسر على عاتقه الأيمن، والطرف الأسفل الذي على شقه الأيمن على عاتقه الأيسر ويفعل الناس مثله. ولو تضرروا بكثرة المطر .. سن سؤال رفعه بـ (اللهم؛ حوالينا ولا علينا)، ولا يصلى له. [ما يستحب عند نزول المطر] ويسن أن يبرز لأول مطر السنة، ويكشف غير عورته ليصيبه، وأن يغتسل في السيل أو يتوضأ، وأن يسبح للرعد والبرق بقوله: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)، وروى عن ابن عباس أنه قال: (من قال عند الرعد: "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير" فأصابته صاعقة .. فعلى ديته). ونقل الشافعي عن مجاهد: أن الرعد ملك والبرق أجنحته. ولا يتبع بصره البرق، ويقول عند المطر: (اللهم؛ صيباً نافعاً). ويكره سب الريح، فإن كرهها .. قال: (اللهم؛ إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به). ويسن الدعاء عند نزول المطر، ويشكر لله تعالى عليه ويقول بعده: (مطرنا بفضل الله ورحمته)، ويكره: (مطرنا بنوء كذا)، ومن اعتقد أن النوء فاعل .. كفر.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز بالفتح: جمع جنازة، بالفتح والكسر: اسم للميت في النعش، وقيل بالفتح: اسم لذلك، وبالكسر: اسم للنعش وعليه الميت، وقيل: عكسه، فإن لم يكن عليه ميت .. فهو سرير ونعش، وهي من جنزه؛ أي: ستره، وذكره هنا دون الفرائض؛ لاشتماله على الصلاة. (الغسل والتكفين والصلاة ... عليه ثم الدفن مفروضات) (كفاية، ومن شهيداً يقتل ... في معرك الكفار لا يغسل) (ولا يصلى، بل على الغريق ... والهدم والمبطون والحريق) (وكفن السقط بكل حال ... وبعد نفخ الروح باغتسال) (وإن يصح فكالكبير يجعل ... وسن ستره، ووتراً يغسل) (بالسدر في الأولى وبالكافور ... الصلب، والآكد في الأخير) فيها أربع مسائل: [تجهيز الميت والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية] الأولى: غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ثم دفنه .. فروض كفاية في حق الميت المسلم بالإجماع. أما الكافر .. فتحرم الصلاة عليه حربياً كان أو ذمياً؛ لقوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً}، ولا يجب غسله على المسلمين، ذمياً كان أو حربياً، لكن يجوز لهم، ويجب تكفين الذمي ودفنه على الأصح. وأشار بقوله: (ثم الدفن) إلى أنه يجب تقديم الصلاة على الدفن، لكن لو دفن قبلها .. لا ينبش القبر، بل يصلى عليه، ويسقط بها الفرض وتصح بعده، والأصح: تخصيص الصحة بمن كان من أهل فرضها وقت الموت. ولا يصلى على قبور الأنبياء بحال.

ويشترط لصحة الصلاة على الميت: تقدم غسله أو تيممه، فلو مات بهدم ونحوه وتعذر إخراجه وغسله .. لم يصل عليه. ويشترط: ألا يتقدم على الجنازة الحاضرة ولا القبر على المذهب فيهما. وأقل الغسل: تعميم بدنه بالماء مرة، ولا تجب نية الغاسل في الأصح، فيكفي غسل الكافر. والمخاطب بهذه الأمور أقارب الميت والأجانب وكل من علم بموته، وتسن المبادرة بها إذا علم موته بظهور أماراته مع وجود العلة؛ كأن تسترخي قدماه فلا تنتصبا، أو يميل أنفه، أو ينخسف صدغاه، أو تمتد جلدة وجهه، أو تنخلع كفاه من ذراعيه، أو تتقلص خصيتاه مع تدلى الجلدة. فإن شك في موته؛ بأن احتمل عروض سكتة أو ظهرت أمارات فزع أو غيره .. وجب التأخير إلى العلم بموته بتغير الرائحة أو غيره. [لا يغسل الشهيد ولا يصلى عليه] الثانية: من قتل شهيداً في قتال الكفار الحربيين بسبب من أسبابه ولو امرأة أو رقيقاً أو صبياً أو مجنوناً؛ كأن قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو تردى في حملته في وهدة، أو سقط عن فرسه، أو رمحته دابة فمات فيه أو بعده إذا انقضى الحرب ولم تبق فيه حياة مستقرة، أو وجد قتيلاً عند انكشاف الحرب ولم يعلم سبب موته وإن لم يكن عليه أثر دم؛ لأن الظاهر أن موته بسببه .. لا يغسل ولا يصلى عليه؛ أي: يحرمان وإن كان جنباً أو حائضاً أو نفساء؛ لخبر البخاري عن جابر: (أنه صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم، ولم يغسلهم ولم يصل عليهم)؛ وفي لفظ له: (ولم يغسلوا ولم يصل عليهم) بفتح اللام، ولخبر أحمد: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تغسلوهم؛ فإن كل جرح أو كلم أو دم يفوح مسكاً يوم القيامة" ولم يصل عليهم. والحكمة في ذلك: إبقاء أثر الشهادة عليهم، والتعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم مع التخفيف عليهم.

وإنما سقط غسل الجنب ونحوه بالشهادة؛ لأن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد وهو جنب ولم يغسله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "رأيت الملائكة تغسله" رواه ابن حبان والحاكم، فلو كان واجباً .. لم يسقط إلا بفعلنا، ولأنه ظهر عن حدث فسقط بالشهادة كغسل الموت. وخرج بما ذكر: من انقضى القتال وفيه حياة مستقرة وإن قطع بموته بذلك؛ فإنه يغسل ويصلى عليه؛ لأنه عاش بعده فأشبه ما لو مات بغيره، ومن قتله كافر في غير القتال ولو في أسره، ومن قتل في قتال أهل الذمة أو البغاة أو قطاع الطريق، ومن مات فجأة أو بمرض أو غرق أو هدم، أو بطن أو حرق أو طاعون، أو طلق أو عشقاً أو في غربة، أو في دار الحرب أو نحو ذلك، فيجب غسلهم والصلاة عليهم؛ لأن الأصل وجوبهما، وإنما خالفناه في الميت بسبب قتال الحربيين؛ تعظيماً لأمره وترغيباً فيه. [الشهداء ثلاثة أقسام] وبالجملة: فالشهداء ثلاثة أقسام: - شهيد في حكم الدنيا: بمعنى أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وفي حكم الآخرة: بمعنى أن له ثواباً خاصاً، وهو من قتل في قتال الحربيين بسببه، وقد قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا. - وشهيد في الآخرة دون الدنيا: وهو من قتل ظلماً بغير ذلك، والغريق والهدم- بكسر الدال، وهو من مات تحت الهدم- والمبطون والحريق ونحوهم. - وشهيد في الدنيا دون الآخرة: وهو من قتل في قتال الحربيين بسببه وقد غل من الغنيمة أو قتل مدبراً أو قاتل رياء أو نحوه. [حكم السقط] الثالثة: يكفن السقط بتثليث سينه، والأفصح كسرها، وهو الذي أسقطته الحامل قبل تمامه بكل حال من أحواله، فما لم تظهر فيه خلقة الآدمي ... تكفي مواراته بخرقة، والمواراة قد تكون على هيئة التكفين، وقد تكون على غير تلك الهيئة، وبعد نفخ الروح؛ أي: ظهور خلق الآدمي يجب تكفينه مع غسله ودفنه ولا يصلى عليه، لأنها أوسع باباً من الصلاة، بدليل أن الذمي يغسل ويكفن ويدفن ولا يصلى عليه.

أما إذا لم يظهر فيه خلق الآدمي .. فلا يجب غسله ولا ستره ولا دفنه؛ لأنها من أحكام من كان حياً أو توقع فيه الحياة، وما قيل من أنه يلف بخرقة ويدفن معاه: أنه يندب، خلافاً لمن زعم وجوبه. فإن تيقن حياته؛ كأن صاح أو بكى، أو ظهرت أمارتها؛ كاختلاج أو تحرك .. فكالكبير، فيجب غسله وتكفينه والصلاة عليه؛ لتيقن حياته وموته بعدها، أو لظهورها بالأمارة. [الأكمل في غسل الميت] الرابعة: الأكمل في غسل الميت: وضعه بموضع خال من الناس مستور عنهم؛ لا يدخله إلا الغاسل ومن يعينه والولي؛ لأنه كان يستتر عند الاغتسال فيستتر بعد موته، ولأنه قد يكون ببعض بدنه ما يكره ظهوره، وقد تولى غسله صلى الله عليه وسلم علي والفضل بن العباس وأسامة بن زيد يناول الماء والعباس واقف ثم رواه ابن ماجه وغيره، على لوح أو سرير على قفاه، وأخمصاه إلى القبلة وموضع الرأس أعلى. ويغسل في قميص بال أو سخيف، فإن كان واسعاً .. أدخل يده في كمه، أو ضيقاً .. فتق رأس الدخاريص وأدخلها، وإن لم يوجد أو لم يتأت .. ستر ما بين سرته وركبته، وحرم النظر إليه. ويكره للغاسل النظر إلى شيء من بدنه، إلا لحاجة، ولا ينظر المعين إلا لضرورة، والبارد أولى من السخن إلا لحاجة، ويكون إناء الماء كبيراً، وينبغي إبعاده بحيث لا يصيبه رشاش. ويعد الغاسل خرقتين نظيفتين، ويجلسه على المغتسل برفق مائلاً إلى ورائه، ويضع يمينه على كتفه وإبهامه في نقرة قفاه، ويسند ظهره إلى ركبته اليمنى، ويمر يساره على بطنه إمراراً بليغاً؛ ليخرج ما فيه، وتكون عنده مجمرة فائحة بطيب، ويكثر المعين صب الماء؛ لئلا تظهر رائحة ما يخرج، ثم يضجعه مستلقياً، ويغسل يساره- وعليها خرقة- سوءتيه وعانته ثم يلقيها، ويغسل يده بماء وأشنان إن تلوثت، وقيل: يغسل كل سوءة بخرقة وهو أبلغ، ثم يتعهد ما على بدنه من قذر ونحوه، ثم يلف أخرى ويدخل إصبعه فمه بماء ويمرها على أسنانه ولا يفتحها، وكذا منخريه ليزيل ما فيهما، ثم يوضئه كالحي بتثليث، وكذا مضمضة واستنشاق في الأصح، ويميل فيهما رأسه.

ثم لحيته بسدر وخطمي ويسرحهما بمشط واسع الأسنان إن تلبدا برفق، ويرد المنتتف إليه، ثم يغسل شقه الأيمن المقبل من عنقه إلى قدميه، ثم الأيسر كذلك، ثم يحوله إلى جنبه الأيسر فيغسل شقه الأيمن مما يلي القفا والظهر إلى القدم، ثم يحوله إلى جنبه الأيمن فيغسل الأيسر كذلك، ويجب الاحتراز عن كبه على الوجه، وهذه غسلة. ويسن التثليث، فإن لم ينق .. وجب الإنقاء، وسن الإيتار. ويسن أن يستعان في الأولى بسدر أو خطمي، ثم يصب عليه ماء قراحاً من فرقه إلى قدمه بعد زوال السدر، والأصح: أنه لا يسقط الفرض بالغسلة المتغيرة بسدر ولا بتاليتها، فيغسل بعد زوال السدر ثلاثاً بالماء القراح. ويسن أن يجعل في الماء القراح كافوراً لا يفحش التغير به أو صلباً، وفي الآخرة آكد، ويتعهد مسح بطنه في كل مرة بأرفق مما قبلها، ثم ينشفه تنشيفاً بليغاً. ولو خرج آخر غسله أو بعدها نجس .. وجبت إزالته فقط، ولا يقرب المحرم طيباً بخلاف المعتدة. وقول المصنف: (كفاية) يجوز نصبه وجره. [كيفية تكفين الذكر والأنثى] (وذكر كفن في عراض ... لفائف ثلاثة بياض) (لها لفافتان والإزار ... ثم القميص البيض والخمار) ذكر فيهما كيفية تكفين الذكر والأنثى كما سيأتي، وتقدم عليه أن الميت يكفن بما له لبسه حياً، فيجوز تكفين المرأة بالحرير والمزعفر بخلاف الرجل والخنثى، ويعتبر حال الميت سعة وتوسطاً وضيقاً، وتكره المغالاة فيه، والمغسول والقطن أولى من غيرهما. وأقله: ثوب، وهو ما يستر العورة، أو جميع البدن إلا رأس المحرم ووجه المحرمة، وجهان: أصحهما في "الروضة" و"المجموع": أولهما؛ فيختلف قدره بذكورة الميت وأنوثته لا برقه وحريته؛ كما اقتضاه كلامهم، وهو الظاهر في "الكفاية"، وجزم بالثاني الإمام

والغزالي والبغوي وجمهور الخراسانيين، وقال النووي في "مناسكه": إنه المذهب الصحيح، وجزم به صاحب "الحاوي الصغير"، ورجحه جمع من المتأخرين، وجمع بينهما بحمل الأول على بيان الواجب لحق الله تعالى، والثاني على بيان الواجب لحق الميت الذي يتقدم به على غيره. والأفضل للذكر: ثلاث لفائف بيض؛ لخبر "الصحيحين" عن عائشة قالت: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة)، ويجوز رابع وخامس من غير كراهة. والأفضل للمرأة- أي: والخنثى-: خمسة؛ رعاية لزيادة الستر فيهما، والزيادة على الخمسة مكروهة في الذكر وغيره؛ وهي إزار، ثم قميص، ثم خمار، ثم لفافتان بيض، والإزار والمئزر: ما تستر به العورة، والخمار ما يغطى به الرأس؛ لخبر أبي داوود: (أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الغاسلات في تكفين أبنته أم كلثوم الحقا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر). و(الحقا) بكسر الحاء: الإزار، و (الدرع): القميص. وتبسط أحسن اللفائف وأوسعها والثانية فوقها، والثالثة فوق الثانية، ويذر على كل واحدة حنوط وكافور؛ يذر على الأولى قبل وضع الثانية، وعلى الثانية قبل وضع الثالثة، ويوضع الميت فوقها مستلقياً على ظهره وعليه حنوط وكافور. ويستحب تبخير الكفن بالعود أولاً، ويدس بين ألييه قطن عليه حنوط وكافور، ثم تشدان بخرقة، ويجعل على منافذ بدنه من المنخرين والأذنين والعينين قطن عليه حنوط وكافور، وتلف عليه اللفائف؛ بأن يثنى كل منها من طرف شقه الأيسر على الأيمن، ثم من طرف شقه الأيمن على الأيسر كما يفعل الحي بالقباء، ويجمع الفاضل عند رأسه ورجليه، ويكون الذي عند رأسه أكثر، ويشد بشداد خوف الانتشار عند الحمل، فإذا وضع في قبره .. نزع الشداد. ولا يلبس المحرم الذكر مخيطاً، وتقدم أنه لا يستر رأسه ولا وجه المحرمة. ولو أوصى بأن يكفن في ثوب واحد .. نفذت وصيته.

والأصح: الاقتصار على ثوب إذا طلبه الغرماء المستغرقون، أو كفنه من تلزمه نفقته، أو كفن من بيت المال حيث يجب؛ لفقد تركته ومن عليه نفقته، أو من مال المسلمين عند فقد بيت المال، وكذا من وقف الأكفان كما في "فتاوى ابن الصلاح". والأصح: منعه إذا لم يوص به الميت وطلبه بعض الورثة، وكذا لو اتفقوا، علي الأقيس في "الزوائد" و"المجموع". وقوله: (لفائف) بالصرف للوزن. [أركان الصلاة على الميت] (والفرض للصلاة كبر ناويا ... ثم اقرأ "الحمد" وكبر ثانيا) (وبعده صل على المقفى ... وثالثا تدعو لمن توفي) (من بعده التكبير والسلام ... وقادر يلزمه القيام) ذكر فيها أركان الصلاة على الميت وهي سبعة: أولها: القيام إن قدر عليه كغيرها من الفرائض. ثانيها: النية كغيرها، ولخبر: "إنما الأعمال بالنيات"، ويغني مطلق الفرض عن فرض الكفاية، ولا يجب تعيين الميت ولا معرفته، بل لو نوى على من صلى عليه الإمام .. جاز، ولو عينه وأخطأ .. لم يصح إلا مع الإشارة، ولو نوى أحدهما غائباَ والآخر حاضراً .. صح؛ إذ توافق النيات ليس بشرط كما مر. ثالثها: أربع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام؛ للاتباع، رواه الشيخان، ولو كبر زائداً .. لم يضر. رابعها: قراءة (الفاتحة) كغيرها من الصلوات، ولخبر البخاري: أن ابن عباس قرأها في

صلاة الجنازة وقال: (لتعلموا أنها سنة)، ولعموم خبر: "لا صلاة لمن لم يقرأ بـ (فاتحة الكتاب) " بعد التكبيرة الأولى؛ لخبر البيهقي عن جابر: (أنه صلى الله عليه وسلم كبر على الميت أربعاً وقرأ بـ"أم القرآن" بعد التكبيرة الأولى)، ولخبر النسائي بإسناد على شرط الشيخين عن أبي أمامة قال: (السنة في صلاة الجنازة: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بـ"أم القرآن" مخافتة، ثم يكبر ثلاثاً، والتسليم عند الآخرة)، وتجزئ (الفاتحة) بعد غير التكبيرة الأولى. خامسها: الصلاة على المقفى بكسر الفاء المشددة؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم عقب التكبيرة الثانية؛ لخبر: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور والصلاة على" رواه البيهقي وغيره وضعفوه، لكن له ما يعضده، وأقلها: (اللهم؛ صل على محمد)، أو نحوه. سادسها: الدعاء بعد الثالثة للميت بالخصوص بما يقع عليه اسم الدعاء نحو: (اللهم؛ ارحمه)، أو: (اللهم؛ اغفر له) لخبر أبي داوود والبيهقي وابن حبان: "إذا صليتم على الميت .. فأخلصوا له الدعاء"، فلا يكفي الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، ولا يجب عقب الرابعة ذكر. سابعها: السلام، وهو كسلام غيرها من الصلوات في كيفيته وتعدده ونية الخروج معه، وغير ذلك. ويندب إكثار الدعاء للميت عقب الثالثة فيقول: (اللهم؛ اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم؛ من أحييته منا .. فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا .. فتوفه على الإيمان، اللهم؛ هذا عبدك وابن عبديك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحبائه فيها إلي ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم؛ إنه نزل بك، وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلي رحمتك، وأنت غنى عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم؛ إن كان محسناً .. فرد في إحسانه، وإن كان مسيئاً .. فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة

القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك، يا أرحم الراحمين). وفي المرأة يقول: (هذه أمتك وبنت عبديك ... )، ويؤنث الضمائر ويجوز تذكيرها بقصد الشخص. ويقول في الطفل بعد الأول: (اللهم؛ اجعله فرطاً لأبويه، وسلفاً وذخراً، وعظة واعتباراً وشفيعاً، وثقل به موازينهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره). ويقول بعد الرابعة: (اللهم؛ لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده). وتشترط شروط الصلوات في هذه الصلاة، ويسقط فرضها بواحد، ولا يسقط بالنساء وهناك رجل أو صبى مميز. ويحرم نقل الميت إلى بلد آخر، وقيل: يكره إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، وحيث منع لا تنفذ وصيته به. وقول المصنف: (كبر) في الموضعين و (اقرأ) و (صل) بلفظ الأمر فيها. [دفن الميت وما يتعلق بالقبر] (ودفنه لقبلة قد أوجبوا ... وسن في لحد بأرض تصلب) ذكر فيه أنه يجب دفن الميت؛ أي: في قبر أقله حفرة تمنع الرائحة والسبع، قال الرافعي: والغرض من ذكرهما- إن كانا متلازمين- بيان فائدة الدفن، وإلا .. فبيان وجوب رعايتهما فلا يكفي أحدهما. انتهى. وأنه يجب أن يوضع في القبر للقبلة؛ كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو دفن مستديراً أو مستلقياً .. نبش ووجه للقبلة ما لم يتغير، فإن تغير .. لم ينبش وجوباً، وأما الاضطجاع على الأيمن .. فسنة، فلو وضع على يساره مستقبل القبلة .. كره. ويندب أن يوسع القبر ويعمق قامة وبسطة؛ بأن يقوم رجل معتدل ويبسط يديه مرفوعتين، وهي أربعة أذرع ونصف.

ويسن دفنه في لحد بأرض صلبة؛ بأن يحفر في أسفل حائط القبر الذي من جهة القبلة مقدار ما يسع الميت؛ لخبر مسلم عن سعد ابن أبي وقاص: أنه قال في مرض موته: (الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً؛ كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم). فإن كانت الأرض رخوة .. فالشق أفضل؛ بأن يحفر في وسطه كالنهر، ويبنى الجانبان باللبن أو غيره، ويوضع الميت بينهما، ويسقف عليه باللبن أو غيره. قال في "المجموع": ويرفع السقف قليلاً بحيث لا يمس الميت. [المواضع التي يجوز فيها نبش القبر] ويحرم نبش القبر إلا إذا بلى الميت، ويعرف من أهل الخبرة، أو دفن لغير القبلة كما مر، أو بلا غسل على المذهب بشرط عدم التغير على الصحيح، أو دفن في أرض مغصوبة وشح صاحبها ويسن له تركه، أو كفن بمغصوب أو مسروق في الأصح، أو وقع في القبر خاتم أو نحوه، أو بلع مال الغير ثم مات وطولب به، فيشق جوفه ويرد، قال في "المعدة": إلا أن تضمن الورثة بدله فلا ينبش في الأصح، أو مال نفسه فوجهان، أصحهما: المنع، أو لحق أرض الدفن سيل أو نداوة في الأصح، أو قال: (إن ولدت ذكراً .. فأنت طالق طلقة، أو أنثى .. فطلقتين)، فولدت ميتاً ودفن ولم يعرف، أو ماتت وفي جوفها ولد ترجى حياته .. شق جوفها وأخرج، فإن لم يرج ولم تكن دفنت .. تركت حتى يموت، أو دفن الكافر في حرم مكة، لا إن دفن بلا كفن، أو كفن في حرير في الأصح. ويسن جمع الأقارب في موضع، وزيارة القبور للرجال، وتكره للنساء، والدفن بالمقبرة أفضل، ويكره المبيت بها. (تعزية المصاب فيها السنة ... ثلاث أيام توالى دفنه) (وجوزوا البكا بغير ضرب ... وجه ولا نوح وشق ثوب) فيهما مسألتان:

[استحباب التعزية] الأولى: تعزية المصاب بالميت؛ أي: جميع من أصيب به؛ بأن حصل له عليه وجد من أقاربه وغيرهم ولو صبياناً ونساء قبل الدفن وبعده .. سنة، ولكن تأخيرها أفضل؛ لاشتغال أهل الميت بتجهيزه، إلا أن يرى من أهل الميت جزعاً شديداً فيختار تقديمها؛ ليصبرهم، ومعناها: الأمر بالصبر والحمل عليه بوعد الأجر، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة، وللمصاب بجبر المصيبة؛ لخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم مر على امرأة تبكى على صبى لها فقال لها: "اتقى الله واصبري"، ثم قال: "إنما الصبر- أي: الكامل- عند الصدمة الأولى"، ولخبرهما عن أسامة بن زيد قال: أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه وتخبره أن ابناً لها في الموت فقال للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب"، ولخبر البيهقي: "من عزى أخاه بمصيبته .. كساه الله تعالى من حلل الكرامة يوم القيامة"، لكن لا يعزى الشابة من الرجال إلا محارمها وزوجها، ومن يباح نظره إليها كعبدها. وتمتد التعزية ثلاثة أيام تقريباً؛ لأن الحزن فيها موجود، وتكره بعدها؛ إذ الغرض منها تسكين قلب المصاب والغالب سكونه فيها فلا يجدد حزنه، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم نهاية الحزن بقوله: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" رواه البخاري، ومن هنا كان ابتداء الثلاثة من الموت كما هو ظاهر كلام "الروضة" و"أصلها"، وبه صرح جمع منهم القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ والماوردي وابن أبي الدم والغزالي في "خلاصته"، والقول بأن ابتداءها من الدفن مفرع على ابتداء التعزية منه أيضاً لا من الموت، قال بعضهم: فقول النووي في "مجموعه" وغيره: قال أصحابنا: وقتها من الموت إلى الدفن وبعده بثلاثة أيام .. مراده به

ما قلناه، بقرينة قوله بعد: قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابها قبل الدفن وبعده بثلاثة أيام، وبه قال أحمد. انتهى، والذي قلناه هو قول أحمد؛ كما اقتضاه كلام "المستوعب" وغيره من كتب الحنابلة. انتهى. وقد جرى المصنف على ظاهر كلام "المجموع" حيث قال: (ثلاث أيام توالى دفنه). وما ذكر من أن التعزية تنتهي بثلاثة أيام محله في غير الغائب، أما الغائب من المعزي أو المعزى .. فتمتد التعزية إلى قدومه، قال المحب الطبري: والظاهر: امتدادها بعده ثلاثة أيام. وحذف المصنف التاء من (ثلاث) للوزن، أو باعتبار الليالي. ويقال في تعزية المسلم بالمسلم: (أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك)، وبالكافر: (أعظم الله أجرك، وصبرك، وأخلف عليك)، وفي تعزية الكافر بالمسلم: (غفر الله لميتك، وأحسن عزاءك). [حكم البكاء على الميت] الثانية: جوز العلماء البكاء قبل الموت وبعده بغير ضرب وجه ولا نوح ولا شق ثوب؛ أي: ونحوها؛ لخبر "الصحيحين" عن أنس قال: (دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ولده يجود بنفسه، فجعلت عيناه تذرفان) أي: يسيل دمعهما، وخبر البخاري عن أنس قال: (شهدنا دفن بنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت عينيه تدمعان وهو جالس على القبر)، وخبر مسلم عن أبي هريرة: (أنه صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله). أما ضرب الوجه، والندب بتعديد شمائله، والنوح وهو رفع الصوت بالندب، والجزع بشق الثوب ونشر الشعر وضرب الصدر .. فيحرم كل منها؛ لخبر "الصحيحين": "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب، ودعي بدعوى الجاهلية"، وفي رواية لمسلم في (كتاب

الجهاد) بلفظ: (أو) بدل (الواو)، ولخبر مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها .. تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" و (السربال): القميص كالدرع، و (القطران) بكسر الطاء وسكونها: دهن شجر تطلى به الإبل الجرب ويسرج به، وهو أبلغ في اشتعال النار في النائحة. [مسائل منثورة تتعلق بالباب] ولنختم الباب بمسائل منثورة: الرجال أولى بغسل الرجل، والنساء بالمرأة، وللرجل غسل زوجته ولها غسله بلا مس؛ لئلا ينتقض وضوء الحي وإن انقضت عدتها وتزوجت لا مطلقته ولو كانت رجعية، وله غسل أمته إلا المعتدة والمزوجة والمستبرأة، وليس لأمته غسله، ولرجال المحارم غسلها. ولو مات رجل وليس هناك إلا أجنبية أو عكسه .. يمما، والصغير الذي لا يشتهى والخنثى يغسله الفريقان. والرجال يقدمون على الزوجة، وأولاهم بغسل الرجل أولاهم بالصلاة عليه، ثم الرجال الأجانب، ثم الزوجة، ثم النساء المحارم. والأولى بغسل المرأة نساء القرابة، وأولاهن ذات رحم محرم وإن كانت حائضاً، وإن تساوتا .. فالتي في محل العصوبة؛ فالعمة أولى من الخالة، فإن عدمت المحرمية .. فالقربى فالقربى، ثم ذات الولاء، ثم الأجنبيات، ثم الزوج، ثم رجال المحارم كترتيبهم في الصلاة. وأولى الناس بالصلاة على الميت وإن أوصى لغيره: الأب ثم أبوه وإن علا، ثم الابن ثم أبنه وإن سفل، ثم العصبات على ترتيب الإرث، ويقدم الأجنبي على امرأة قريبة. ولو اجتمع ابنا عم أحدهما أخ من أم .. قدم كما يقدم الأخ من الأبوين، ثم المولى المعتق، ثم عصباته، ثم السلطان، ثم ذوو الأرحام الأقرب فالأقرب، فيقدم أبو الأم، ثم الأخ للأم، ثم الخال، ثم العم للأم، فإن استوى اثنان في درجة .. قدم الأسن العدل. ويدخل الميت القبر أولاهم بالصلاة عليه، لكن الزوج أحق، ثم الأفقه القريب على الأقرب، ثم الأقرب فالأقرب من المحارم، ثم عبيدها، ثم الخصيان، ثم العصبة، ثم ذوو

الأرحام الذين لا محرمية لهم، ثم صالح الأجانب، ويستحب أن يكون عددهم وعدد الغاسلين وتراً، ويجزئ كاف. وقوله: (البكا) بالقصر، وهو الدمع، وأما بالمد .. فهو رفع الصوت كما قاله الجوهري.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة هي لغة: التطهير والإصلاح والنماء والمدح، وشرعاً: اسم لما يخرج عن مال أو بدن على وجه مخصوص. والأصل في وجوبها قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {وآتوا الزكاة}، وقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، وأخبار؛ كخبر: "بنى الإسلام على خمس". وهي نوعان: زكاة بدن؛ وهي الفطرة، وزكاة مال؛ وهي ضربان: زكاة تتعلق بالقيمة؛ وهي زكاة التجارة، وزكاة تتعلق بالعين في ثمانية أصناف من أجناس الأموال وهي: زكاة الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، والزرع، والنخل، والكرم؛ ولذلك وجبت لثمانية أصناف من طبقات الناس. (وإنما الفرض على من أسلما ... حر معين، وملك تمما) (في إبل وبقر وأغنام ... بشرط حول ونصاب واستيام) (وذهب وفضة غير حلى ... جاز ولو أوجر للمستعمل) (وعرض متجر وربح حصلا ... بشرط حول ونصاب كملا) (وجنس قوت باختيار طبع ... من عنب ورطب وزرع) (وشرطه: النصاب إذ يشتد ... حب، وزهو في الثمار يبدو) [شروط وجوب الزكاة] أي: إنما فرض الزكاة في الأموال الآتية على من أسلم وإن ارتد بعد وجوبها، أو كان غير مكلف؛ لقوله في خبر الصدقة الآتي: (فرضها على المسلمين)، فلا تجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة بها في الدنيا، لكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة كما تقرر في الأصول، ويسقط عنه بالإسلام ما مضى ترغيباً فيه.

أما المرتد قبل وجوبها: فإن عاد إلي الإسلام .. لزمته؛ لتبين بقاء ملكه، وإن هلك مرتداً .. فلا، ويجزئه الإخراج في حال الردة في هذه وفي التي قبلها؛ نظراً إلي جهة المال، وفيه احتمال لصاحب "التقريب" نظراً إلي أن الزكاة قربة تفتقر إلى النية. حر كله أو بعضه؛ لأن ملكه تام على ما ملكه ببعضه الحر، ولهذا يكفر كالحر الموسر على ما سيأتي، ويزكي فطرة حريته، فلا تجب على الرقيق ولو مكاتباً؛ إذ ملك المكاتب ضعيف، وغيره لا ملك له، فإن عجز المكاتب .. صار ما بيده لسيده، وابتدأ حوله من حينئذ، وإن عتق ... ابتدأ حوله من حين عتقه. معين حتى في ريع ما وقف عليه، فلا تجب على غيره كالفقراء الموقوف عليهم ضيعة مثلاً فلا زكاة عليهم في ريعها؛ كما لا زكاة في بيت المال من قئ وغيره ومال المساجد والربط، وكالحمل فلا زكاة في المال الموقوف له؛ لأنه غير معين وغير موثوق بوجوده وحياته. وقوله: (وملك تمما) أي: والحال أن ملك من ذكر- لما يأتي- تام، فتجب في الضال والمغصوب والمسروق والمجحود والمرهون والغائب وما اشتراه قبل قبضه أو حبس دونه، ولكن لا يجب إخراجها إلا عند تمكنه منه، وفي كل دين لازم من نقد، وعرض تجارة لا ماشية ونحوها، فإن كان حالا على ملئ باذل أو جاحد عليه بنية .. لزمه إخراجها في الحال، وإلا .. فعند القدرة على قبضه؛ كالضال ونحوه، ولا يمنع الدين وجوبها وإن استغرق النصاب. وخرج بـ (تام الملك) غيره؛ كنجوم الكتابة، وجعل الجعالة، ومال المحجور عليه بفلس إذا عين الحاكم لكل من غرمائه منه شيئاً وسلطه على أخذه فلم يتفق الأخذ حتى حال عليه الحول .. فلا زكاة فيها؛ لأن الملك فيها غير تام. [زكاة النعم وشروطها] وقوله: (في إبل وبقر وأغنام) أي: وهي النعم متعلق بقوله: (الفرض) وإنما اختصت بها من الحيوان؛ لأنها تتخذ للنماء غالباً لكثرة منافعها، وللإجماع، فلا تجب في غيرها كالخيل والرقيق والمتولد من غنم وظباء؛ لخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة".

والأصل عدم الوجوب في المتولد المذكور بشرط حول؛ أي: مضيه في ملكه؛ لخبر أبي داوود وغيره: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"، لكن ما نتج من نصاب .. يزكى بحوله؛ بأن وجد فيه في ملك شخص ملكه بسبب ملك أصله؛ كمئة شاة نتج منها إحدى وعشرون فتجب شاتان، وكأربعين شاة ولدت أربعين ثم ماتت وتم حولها على النتاج. وقيل: يشترط بقاء شيء من الأمهات ولو واحدة، والأصل في ذلك: ما روى مالك رحمه الله تعالى في "الموطأ" عن عمر رضى الله عنه: أنه قال لساعيه: (اعتد عليهم بالسخلة) وهو اسم يقع على الذكر والأنثى، ويوافقه أن المعنى في اشتراط الحول أن يحصل النماء، والنتاج نماء عظيم فيتبع الأصول في الحول وإن ماتت فيه. ولو زال ملكه في الحول ثم عاد، أو بادل بمثله .. استأنف الحول؛ لانقطاع الحول بما فعله وإن قصد به الفرار من الزكاة، والفرار منها مكروه، وقيل: حرام. ونصاب كما سيأتي، واستيام لها من مالكه أو ممن يخلفه شرعاً كوكيل وولي على ما يأتي بيانه، والأصل في ذلك: ما يأتي في خبر البخاري: "وفي صدقة الغنم في سائمتها .. " إلي آخره، دل مفهومه على نفي الزكاة في معلوفة الغنم، وقيس عليها معلوفة الإبل والبقر، وفي خبر أبي داوود وغيره: "في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون"، قال الحاكم: صحيح الإسناد، واختصت بالسائمة؛ لتوفر مؤنتها بالرعي في كلأ مباح. قال في "الروضة": لو أسيمت في كلأ مملوك .. فهل هي سائمة، أو معلوفة؟ وجهان في "البيان" انتهى، ورجع منهما السبكي: أنها سائمة إن لم يكن له قيمة، أو كانت قيمته يسيرة لا يعد مثلها كلفة في مقابلة نمائها، وإلا .. فمعلومة، ورجح منها الشيخ جلال الدين البلقيني: أنها معلوفة؛ لوجود المؤنة. وقال القاضي أبو الطيب: لو أسامها في أرضه الخراجية .. وجبت الزكاة. وقال القفال: لو كان له غنم فاشترى كلأ ورعاها فيه .. فسائمة، فلو جزه وأطعمها إياه في

المرعى أو البلد .. فمعلوفة، ولو رعاها ورقاً تناثر .. فسائمة، فلو جمعه وقدمه لها .. فمعلوفة. ونقل في "المهمات" كلام القفال واستحسنه وقال: ينبغي الأخذ به. انتهى، ويمكن حمله على كلام السبكي. فإن علفت معظم الحول ليلاً ونهاراً .. فلا زكاة فيها، وإلا .. فالأصح: إن علفت قدراً تعيش بدونه بلا ضرر بين ولم يقصد به قطع السوم .. وجبت زكاتها، وإلا .. فلا تجب، ولو أسامها الغاصب أو المشترى شراء فاسداً, أو سامت بنفسها، أو اعتلفت السائمة، أو كانت عوامل في حرث أو نضح ونحوه .. فلا زكاة في الأصح. [زكاة الذهب والفضة] وقوله: (وذهب وفضة) أي: مضروباً كان أو غير مضروب؛ كالتبر والقراضة والسبائك، فلا تجب في غيرهما من سائر الجواهر كاللؤلؤ والياقوت؛ لعدم ورودها فيها، والأصل في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها: إلا إذا كان يوم القيامة .. صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جبهته وجنباه وظهره، كلما بردت .. أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" رواه مسلم. وقوله: (غير حلى جاز) أي: أبيح استعماله فلا زكاة فيه؛ لحاجة الانتفاع بعينه، ولأنه معد لاستعمال مباح فأشبه العوامل من الإبل والبقر، ولأن زكاة النقدين تناط بالاستغناء عن الانتفاع بهما، لا بجوهرهما؛ إذ لا غرض في ذاتهما، وصح عن ابن عمر: أنه كان يحلى بناته وجواريه بالذهب، ولا يخرج زكاته، وصح نحوه عن عائشة وغيرها، وما ورد مما ظاهره بخلاف ذلك .. فأجابوا عنه بأن الحلي كان محرماً أول الإسلام، أو بأن فيه إسرافاً. أما الحلي المحرم لعينه كالأواني، أو بالقصد كحلي النساء اتخذه الرجل ليلبسه وبالعكس؛ كما في السيف والمنطقة .. فتجب زكاته إجماعاً؛ لأن الممنوع منه كالمعدوم، وكذا المكروه

كالضبة الصغيرة للزينة، ويخالف ما لو قصد بعرض التجارة استعمالاً محرماً أو مكروهاً؛ لتعلق الزكاة بعين النقد. وقوله: (ولو أوجر للمستعمل) أي: لمن يحل له استعماله بلا كراهة .. فإنه لا زكاة فيه، سواء اتخذه بلا قصد، أو بقصد إجارته، أو إعارته لمن يحل له استعماله؛ لأنها إنما تجب في مال نام والنقد غير نام، وإنما التحق بالنامي لتهيؤه للإخراج، وبالصياغة بطل تهيؤه، ويخالف نية كنزه؛ لصرفها هيئة الصياغة عن الاستعمال فصار مستغنى عنه كالدراهم المضروبة، ويستثنى من كلامه: حلي مباح مات عنه مالكه ولم يعلم به وارثه حتى مضى عليه عام .. فتجب زكاته، فاله في "البحر"، ثم حكى عن والده احتمال وجه إقامة نية مورثه مقام نيته. ولو انكسر الحلي المباح ولم يحوج انكساره إلى صوغ، بل إلى إصلاح باللحام وقصد إصلاحه .. فلا زكاة فيه في الأصح وإن تعذر استعماله ودارت عليه أحوال؛ لبقاء صورته وقصد إصلاحه، فإن لم يعلم بانكساره إلا بعد عام فقصد إصلاحه .. فكذلك؛ لأن القصد يبين أنه كان مرصداً له، قاله في "الوسيط". وذكر العام مثال؛ فما فوقه كذلك، فإن لم ينو إصلاحه بل نوى جعله تبراً أو دراهم أو كنزه، أو لم ينو شيئاً، أو أحوج انكساره إلى صوغ وإن نوى صوغه .. فتجب زكاته وينعقد حوله من حين انكساره؛ لأنه ليس مستعملاً ولا معداً للاستعمال. [زكاة عروض التجارة] وقوله: (وعرض متجر) أي: تجارة، وهي تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح. وقوله: (وربح حصلا) أي: من مال المتجر، والأصل في ذلك: ما روى الحاكم بإسنادين وقال: هما صحيحان على شرط الشيخين عن أبي ذر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته" وهو بفتح الموحدة، وبالزاي يطلق على الثياب المعدة للبيع، وما روى أبو داوود عن سمرة: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع).

[شرط وجوب زكاة النقدين وعروض التجارة] ثم ذكر شرط وجوب الزكاة في الذهب والفضة وعرض المتجر وربحه بقوله: (بشرط حول ونصاب كملا) أي: كغيرهما، ولعموم خبر أبي داوود وغيره المار: (لا زكاة في مال حنى يحول عليه الحول). ويعتبر النصاب في التجارة آخر الحول فقط كما سيأتي؛ لأنه وقت الوجوب دون ما عداه؛ لأن الاعتبار فيها بالقيمة وتعسر مراعاتها كل وقت؛ لاضطراب الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً، فلو بيع مال التجارة في أثناء الحول بالنقد واشتري به سلعة .. فالأصح: أنه ينقطع الحول، ويبتدئ حولها من حين شرائها. ولو تم الحول وقيمة العرض دون النصاب .. فالأصح: أنه يبتدئ حول ويبطل الأول. ولو كان معه من أول الحول ما يكمل به النصاب .. زكاهما آخره؛ كما قال في "المجموع": لو كان معه مئة درهم فاشتري عرضاً للتجارة بخمسين منها، فبلغت قيمته في آخر الحول مئة وخمسين .. لزمه زكاة الجميع، ويصير عرض التجارة للقنية بنيتها؛ لأنها الأصل، وإنما يصير العرض للتجارة إذا اقترنت نيتها بكسبه بمعاوضة كشراء، سواء أكان بعرض أم نقد أم دين حال أم مؤجل، ومنه الهبة بثواب، وكذا المهر، وعوض الخلع؛ كأن زوج أمته أو خالع زوجته بعرض نوى به التجارة فيهما، يصير مال تجارة بنيتها في الأصح، لا بالهبة المحضة، والاحتطاب، والاسترداد بعيب؛ كأن باع عرض قنية بما وجد به عيباً فرده واسترد عرضه؛ فالمكسوب بما ذكر ونحوه؛ كالاحتشاش والاصطياد والإرث ورد العرض بعيب .. لا يصير مال تجارة بنيتها؛ لانتفاء المعاوضة عنه. ولو تأخرت النية عن الكسب بمعاوضة .. فلا أثر لها. وإذا ثبت حكم التجارة .. فلا يحتاج في كل معاملة إلى نية جديدة. وإذا ملك عرض التجارة بعين نقد نصاب؛ كأن اشتراه بعين عشرين ديناراً أو مئتي درهم .. فحوله من حين ملك ذلك النقد، بخلاف ما إذا اشتراه بنصاب في الذمة ثم نقده؛ ينقطع حول النقد ويبتدئ حول التجارة من حين الشراء، وفرق بين المسألتين: بأن النقد لم يتعين صرفه

للشراء في الثانية بخلاف الأولى، أو بدون النصاب، أو بعرض قنية .. فمن الشراء، وإن ملكه بنصاب سائمة .. فكذلك على الأصح. ويضم الربح إلى الأصل في الحول كما علم مما مر إن لم ينض، فلو اشترى عرضاً بمئتي درهم .. فصارت قيمته في الحول ولو قبل آخره بلحظة ثلاث مئة .. زكاها آخره، لا إن صار الكل ناضاً دراهم أو دنانير من جنس رأس المال الذي هو نصاب، وأمسكه إلى آخر الحول، أو اشترى به عرضاً قبل تمامه؛ فيفرد الربح بحوله في الأظهر. فإذا اشترى عرضاً بمئتي درهم وباعه بعد ستة أشهر بثلاث مئة، وأمسكها إلى تمام الحول، أو اشترى بها عرضاً وهو يساوى ثلاث مئة في آخر الحول .. فيخرج الزكاة عن مئتين، فإذا مضت ستة أشهر أخرى .. أخرج عن المئة. ولو كان الناض المبيع به من غير جنس رأس المال .. فهو كبيع عرض بعرض؛ فيضم الربح إلى الأصل. ولو كان رأس المال دون نصاب؛ كأن اشترى عرضاً بمئة درهم، وباعه بعد ستة أشهر بمئتي درهم وأمسكهما إلى تمام حول الشراء .. زكاهما. والأصح: أن ولد العرض وثمره .. مال تجارة، وأن حوله حول الأصل. وواجبها: ربع عشر القيمة؛ كأن ملكه بنقد قوم به وإن كان دون نصاب، أو غير نقد البلد الغالب، أو بعرض قوم بغالب نقد البلد من الدراهم والدنانير، وكذا لو ملكه بنكاح أو خلع، فإن غلب نقدان على التساوي وبلغ بأحدهما دون الآخر نصاباً .. قوم به، فإن بلغ نصاباً بهما .. فهل يقوم بالأنفع للمستحقين، أو يتخير المالك فيقوم بما شاء منهما؟ وجهان، صحح في "المنهاج" كـ"أصله" أولهما، وعزاه الإمام للجمهور، وصحح في "الروضة" و"المجموع" ثانيهما؛ تبعاً لنقل الرافعي له عن العراقيين والروياني، قال في "المهمات": وهو ما عليه الأكثر، وبه الفتوى. انتهي. وإن ملكه بنقد وعرض .. قوم ما قابل النقد به، والباقي بالغالب من نقد البلد.

[زكاة المعشرات] وقوله: (وجنس قوت باختيار طبع من عنب ورطب وزرع) أي: وتجب الزكاة في جنس قوت باختيار طبع الآدمي، وهو من الثمار: الرطب والعنب، ومن الحب: الحنطة والشعير والسلت، والأرز، والعدس والحمص والباقلاء، والدخن والذرة واللوبيا، والماش والهرطمان؛ أي: الجلبان ونحوها؛ لورود بعضها في الأخبار الآتية، وألحق به الباقي، فلا تجب في السمسم والتين والجوز واللوز، والرمان والتفاح ونحوها قولاً واحداً، ولا في الزيتون والزعفران والورس، والقرطم والعسل من النحل في الجديد. واحترزوا بقيد (الاختيار) عما يقتات حال الضرورة؛ كحبي الحنظل والغاسول. ومن الأخبار: ما روى أبو داوود والترمذي وابن حبان عن عاب بن أسيد- بفتح الهمزة- قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ زكاة النخل تمراً)، وما روى الحاكم- وقال: إسناده صحيح- عن أبي موسى الأشعري: أنه صلى الله عليه وسلم قال له ولمعاذ حين بعثهما إلى اليمن: "لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر" وهذا الحصر إضافي؛ لما روى الحاكم- وقال: صحيح الإسناد- عن معاذ: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والسيل والبعل .. العشر، وفيما سقي بالنضح .. نصف العشر" وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأما القثاء والبطيخ والرمان والقضب .. فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (القضب) بسكون المعجمة: الرطبة بسكون الطاء. [شروط وجوب الزكاة في المعشرات] وقوله: (وشرطه النصاب إذ يشتد حب، وزهو في الثمار يبدو) أي: وشرط وجوب الزكاة في المقتات المذكور: النصاب الآتي، وهو خمسة أوسق وقت اشتداد الحب؛ لأنه

حينئذ طعام وهو قبل ذلك بقل، وزهو الثمار، وهو بدو صلاحها؛ لأنه حينئذ ثمرة كاملة وهو قبل ذلك بلح وحصرم. والمراد: أن الزكاة تجب باشتداد الحب وبدو صلاح التمر، ولا يشترط تمام الاشتداد كما لا يشترط تمام الصلاح في الثمر، واشتداد بعض الحب كاشتداد كله، وبدو الصلاح في بعض الثمر كبدوه في الجميع، فلو اشترى أو ورث نخيلاً مثمرة وبدا الصلاح عنده .. كانت الزكاة عليه، لا على من انتقل الملك عنه. وليس المرد بوجوب الزكاة بما ذكر وجوب الإخراج في الحال، بل المراد: انعقاد سبب وجوب إخراج التمر والزبيب والحب المصفى عند الصيرورة كذلك. ولو أخرج في الحال الرطب والعنب مما يتتمر ويتزبب جيداً .. لم يجزه، ولو أخذه الساعي .. لم يقع الموقع. ومؤنة جذاذ التمر وتجفيفه، وحصاد الحب وتصفيته .. من خالص مال المالك لا يحسب شيء منها من مال الزكاة. والألف في قول المصنف: (أسلما)، و (تمما)، و (حصلا)، و (كملا) للإطلاق، والأحسن جعل ألف (كملا) للتثنية. [نصاب الإبل] (في إبل أدنى نصاب الأس ... خمس لها شاة، وكل خمس) (منها لأربع مع العشرين ضان ... تم له عام، وعنز عامان) (في الخمس والعشرين بنت للمخاض ... وفي الثلاثين وست: افتراض) (بنت لبون سنتين استكملت ... ست وأربعون: حقة ثبت) (وجذعة للفرد مع ستين ... ست وسبعون: ابنتا لبون) (في الفرد والتسعين: ضعف ألحقه ... والفرد مع عشرين بعد المئة) (ثلاثة البنات من لبون ... بنت اللبون كل أربعين) (وحقه لكل خمسين أحسب ... واعف عن الأوقاص بين النصب) أي: في الإبل أقل نصاب الأس- بضم الهمزة، وهو أولها: خمس وفيها: شاة، فلا

زكاة فيما دونها، وفي عشر: شاتان، وخمسة عشر: ثلاث، وعشرين: أربع إلى أربع وعشرين. ويتخير المالك بين إخراج ضأن تم له عامان، أو معز له عامان، ولا يتعين غالب غنم البلد. والأصح: أنه يجزئ الذكر؛ أي: جذع الضأن أو ثنى المعز؛ لصدق الشاة على الذكر، وإنما وجبت الشاة فيما ذكر؛ وفقاً بالفريقين؛ لأنه لو وجب بعير .. لأضر بأرباب الأموال، أو جزء .. لأضر بالفريقين بالتشقيص. والأصح: أنه يجزئ بعير الزكاة عن دون خمس وعشرين؛ لأنه يجزئ عنها؛ فعما دونها أولى، والبعير يطلق على الذكر والأنثى، والمراد به: بنت المخاض فما فوقها. وفي خمس وعشرين: بنت مخاض لها سنة، وفي ست وثلاثين: بنت لبون لها سنتان، وست وأربعين: حقه لها ثلاث سنين، وإحدى وستين: جذعة لها أربع سنين، وست وسبعين: بنتا لبون، وإحدى وتسعين: حقتان، ومئة وإحدى وعشرين: ثلاث بنات لبون، ثم في الأكثر من ذلك: في كل أربعين بنت لبون، وكل خمسين: حقة. وكسر المصنف نون (ستين) ونون (أربعين) وهو لغة وإن كان الأفصح فتحها، وقوله: (وحقة) بالرفع والنصب. والأصل في ذلك: خبر "الصحيحين": "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة"، وخبر البخاري وغيره عن أنس: أن أبا بكر رضى الله عنه كتب له لما وجهه إلى البحرين: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها .. فليعطها، ومن سئل فوقها .. فلا يعط في أربع وعشرين فما دونها [من] الغنم؛ في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين .. ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم يكن فيها بنت مخاض .. فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين .. ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين .. ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين .. ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين .. ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومئة .. ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومئة .. ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة).

قوله: (واعف عن الأوقاص بين النصب) أي: فلا يتعلق به شيء من الزكاة. ولو اتفق فرضان كمئتي بعير .. فواجبها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، فإن وجدا عنده .. تعين الأغبط للمستحقين، أو أحدهما .. أخذ ولا يكلف الآخر، ولا يجوز الصعود والنزول مع الجبران. وإن وجد بعض الآخر سليماً، أو كله معيباً .. فكالمعدوم. وإن فقدا أو كانا معيبين .. فله تحصيل أيهما شاء، ولو الصعود من الحقاق إلى أربع جذاع، وأخذ أربع جبرانات، لا النزول إلى أربع بنات مخاض ودفع ثمان جبرانات، وله النزول من بنات اللبون إلى خمس بنات مخاض. ودفع خمس جبرانات، لا الصعود إلى خمس جذاع وأخذ عشر جبرانات. ولو وجدهما الساعي بلا عيب وأخذ غير الأغبط: فإن كان بتقصير منه أو بتدليس المالك .. لم يجزه وعليه رده أو قيمته إن تلف، وإلا ... أجزأ، ويجب عليه قدر التفاوت بين القيمتين يخرجه دراهم من نقد البلد؛ كما يجوز إخراج القيمة عند تعذر تحصيل الواجب، وإن أخرج شقصاً .. جاز. وإن وجد بعض كل كثلاث حقاق وأربع بنات لبون: فإن شاء دفع الحقاق مع بنت اللبون وجبران، أو مع جذعة ويأخذ جبراناً، وكذا حقة مع ثلاث بنات لبون وثلاث جبرانات، وإن وجد بعض أحدهما فقط كحقتين .. أخرجهما مع جذعتين ويأخذ جبرانين، أو خمس بنات مخاض مع خمس جبرانات. ولو أخرج حقتين وبنتي لبون ونصفاً .. لم يجز؛ للتشقيص. ومن لزمه سن من الإبل وعدمه .. أخذ منه سن أسفل مع شاتين، أو عشرين درهماً، أو أعلى ورد عليه شاتان، أو عشرون درهماً، والخيرة في الشاتين والدراهم لدافعها، لكن يراعي الساعي مصلحة المستحقين، وفي الصعود والنزول للمالك، فإن دفع ولو غير الأغبط .. لزم الساعي أخذه. ولو كانت إبله معيبة .. فله النزول ودفع الجبران، لا الصعود وأخذه. ولو أخرج ثنية بدل الجذعة بلا جبران .. جاز، وإن طلبه .. فكذا في الأصح، وله صعود درجتين وأخذ جبرانين، ونزولهما مع جبرانين بشرط تعذر الدرجة القربى في تلك الجهة، أما وجود الدرجة القربى في غير تلك الجهة .. فلا يؤثر.

(نصاب أبقار ثلاثون، وفي ... كل ثلاثين تبيع يقتفى) (مسنة في كل أربعين ... أي: ذات ثنتين من السنين) (وضعف عشرين نصاب الغنم ... شاة لها كشاة إبل النعم) (وضعف ستين إلى واحدة ... شاتان، والإحدى وضعف المئة) (ثلاثة من الشياه ثما ... شاة لكل مئة اجعل حتما) فيها مسألتان: [نصاب البقر] الأولى: أول نصاب البقر ثلاثون، وفيها: تبيع ابن سنة وطعن في الثانية، وفي كل ثلاثين: تبيع، وكل أربعين: مسنة لها سنتان وطعنت في الثالثة؛ لخبر الترمذي وغيره وصححه الحاكم وغيره، عن معاذ قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعاً)، والبقرة تقع على الذكر والأنثى، ففي ستين: تبيعان، وفي سبعين: تبيع ومسنة، وفي ثمانين: مسنتان، وفي تسعين: ثلاث أتبعة، وفي مئة: مسنة وتبيعان، وفي مئة وعشرة: مسنتان وتبيع، وفي مئة وعشرين: ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة، وحكمه حكم بلوغ الإبل مئتين في جميع ما تقدم، لكن لا جبران في البقر. [نصاب الغنم] الثانية: أول نصاب الغنم أربعون، وفيها: شاة كشاة إبل النعم في أنها جذعة ضأن أو ثنية معز، وفي مئة وإحدى وعشرين: شاتان، ومئتين وواحدة: ثلاث، ثم في كل مئة: شاة؛ لخبر البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر السابق ذكره: (وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة، فإذا زادت على عشرين ومئة إلى مئتين .. ففيها شاتان، فإذا زادت على مئتين إلى ثلاث مئة .. ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاث مئة .. ففي كل مئة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة .. فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها).

وفي بعض النسخ: بدل (اجعل حتما): (قد حتما)، والألف فيه وفي (ثما) للإطلاق. (مال الخليطين كمال المفرد ... إن مشرع ومسرح يتحد) (والفحل والراعي وأرض الحلب ... وفي مراح ليلها والمشرب) (عشرون مثقالاً نصاب للذهب ... ومئتا درهم فضة وجب) (في ذين ربع العشر لو من معدن ... وما يزيد بالحساب البين) (وفي ركاز جاهلي منهما ... الخمس حالاً كالزكاة قسما) (في التمر والزرع النصاب الرملي ... قل: خمسة وربع ألف رطل) (وزائد جف، ومن غير نقي ... العشر إذ بلا مؤونة سقي) (ونصفه مع مؤن للزرع ... أو بهما وزع بحسب النفع) (وعرض متجر أخير حوله ... قومه مع ربح بنقد أصله) فيها خمس مسائل: [زكاة الخليطين] الأولى: مال الخليطين خلطة شيوع وهي: ما لا يتميز فيها مال أحد الخليطين عن مال الآخر؛ كموروث ومشترى شركة، أو جوار وهي: ما يتميز فيها أحدهما عن الآخر؛ كصفي نخيل أو زرع بحائط واحد .. كمال شخص مفرد في أنه يضم الجنس بعضه إلى بعض فيعتبر دوامها سنة، وألا يتميز مال أحدهما عن الآخر في شيء مما يأتي إن يتحد مشرع؛ أي: الموضع الذي تسرح إليه لتجتمع وتساق إلى المرعى، والموضع الذي ترعى فيه وطريقها إليه؛ لأنها مسرحة إليها، والفحل سواء أكان مملوكاً لأحدهما أم مشتركاً أم مستعاراً. نعم؛ إن اختلف نوع الماشية كضأن ومعز .. فلا يضر اختلافه؛ للضرورة كما جزم به في "المجموع"، والراعي بألا يختص أحدهما براع، ولا بأس بتعدد الرعاة، وأرض الحلب، الحلب: بفتح اللام مصدر، وحكى سكونها، وهو المحلب بفتح الميم، ويتحد في

مراح ليلها بضم الميم؛ أي: مأواها ليلاً، والمشرب؛ أي: موضع شربها بأن تسقى من ماء واحد من نهر أو عين أو بئر أو حوض، أو من مياه متعددة. ويشترط: ألا يتميز الناطور والجرين والدكان والحارس، والماء والحراث والعامل، وجذاذ النخل والملقح واللقاط، والحمال والكيال والوزان والميزان للتاجرين في حانوت واحد ونحوها، ولا تشترط نية الخلطة، ولا اتحاد الحالب ولا المحلب بكسر الميم؛ أي: الإناء الذي يحلب فيه. والأصل في ذلك: ما روى البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر السابق: (ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)، وفي خبر الدارقطني بعد ذلك في رواية سعد بن أبي وقاص: (والخليطان: ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي)، نبه بذلك على غيره من الشروط، لكن ضعف الخبر المذكور، ومن الجمع بين متفرق: أن يكون لكل واحد أربعون شاة فيخلطاها، ومن مقابله: أن يكون لهما أربعون فيفرقاها، فخلط عشرين بمثلها يوجب الزكاة، وأربعين بمثلها يقللها، ومئة وواحدة بمثلها يكثرها. [نصاب الذهب والفضة] الثانية: أول نصاب الذهب: عشرون مثقالاً، ونصاب الفضة: مئتا درهم بوزن مكة، وفيهما: ربع العشر ولو حصل ذلك من معدن؛ أي: مكان خلقه الله تعالى فيه، ويشترط في المعدن النصاب لا الحول، وما زاد بحسابه سواء المضروب وغيره كما مر. وأشار بقوله: (لو من معدن) إلى الخلاف فيه، ففي قوله: زكاته الخمس كالركاز، وقول: إن حصل بتعب .. فربع عشره، وإلا .. فخمسه. وأفاد قوله: (وما يزيد بالحساب البين) أنه لا وقص في الذهب والفضة كالقوت؛ لإمكان التجزي بلا ضرر، بخلاف النعم كما مر. والأصل في ذلك: خبر "الصحيحين": "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" وأواق كجوار، وإذا نطق بيائه .. تشدد وتخفف، وخبر البخاري في كتاب أبي بكر السابق:

(وفي الرقة ربع العشر) والرقة والورق: الفضة، والهاء عوض من الواو، والأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء: أربعون درهماً، قال في "المجموع": بالنصوص المشهورة وإجماع المسلمين، قال: وروى أبو داوود وغيره بإسناد صحيح أو حسن عن علي رضى الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في أقل من عشرين ديناراً شيء، وفي عشرين نصف دينار"، وقال صلى الله عليه وسلم: "المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن مكة" رواه أبو داوود والنسائي بإسناد صحيح. والدرهم: ستة دوانق، والمثقال: درهم وثلاثة أسباعه، فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل. ولو نقص عن النصاب حبة أو بعضها .. فلا زكاة وإن راج رواج التام. ولو نقص في ميزان وتم في آخر .. فالصحيح: لا زكاة، ولا يكمل نصاب أحد النقدين بالآخر، ولا شيء في المغشوش منهما حتى يبلغ خالصه نصاباً، فإذا بلغه .. أخرج الواجب خالصاً، أو أخرج من المغشوش ما يعلم اشتماله على خالص بقدر الواجب. [زكاة الركاز] الثالثة: يجب في الركاز الجاهلي الضرب؛ كأن يكون عليه اسم ملك منهم أو صورة من الذهب والفضة .. الخمس حالاً، فلا يشترط فيه الحول؛ لأنه إنما اشترط للتمكن من تنمية المال، وكل من المعدن والركاز نماء في نفسه يصرف مصرف الزكاة؛ لأنه حق واجب في المستفاد من الأرض، فأشبه الواجب في الثمار والزروع، سواء أوجده في مكان أحياه أو أقطعه، أو في موات بدار الإسلام، أو الحرب وإن كانوا يذبون عنه، وبلغ ذلك نصاباً ولو بما عنده من جنسه؛ لخبر "الصحيحين": "وفي الركاز الخمس"، وهو المال المدفون في الأرض، بخلاف المعدن فإنه المخلوق فيها كما مر. واستشكل الرافعي ذلك بأنه لا يلزم من ضرب الجاهلية دفنها؛ لجواز أن يظفر مسلم بكنز جاهلي ويكنزه ثانياً بهيئته، فمدار الحكم على دفن الجاهلية لا ضربها، وأجيب بأنه لا سبيل

إلى العلم بدفنها، والمعتبر إنما هو وجود علامة من ضرب أو غيره، ولهذا قال في "المجموع": متى كان عليه ضرب الجاهلية .. فركاز بلا خلاف، قال فيه نقلاً عن جماعة من غير إنكار: وليس دفين كافر بلغته الدعوة ركازاً، بل في خمسه لأهل الخمس وبقيته لواجده؛ لأن الركاز إنما هو أموال الجاهلية الذين لا يعرف هل بلغتهم دعوة أم لا؟ وخرج بـ (ضرب الجاهلية): ما وجده بضرب الإسلام، وأما إذا لم يعلم من أي الضربين هو .. فإنه لقطه أيضاً، أو بملك أهل الحرب؛ فإنه فئ أو غنيمة، إلا إذا دخله بأمان .. فلا يجوز له أخذه، وما وجده بملك غيره، أو بملك له تلقاه من غير .. فإنه للمالك في الأولى، ولمن تلقى منه في الثانية بلا يمين إن ادعياه كأمتعة الدار، وإلا .. فلمن فوقهما .. وهكذا حتى ينتهى إلى المحيي، فله وإن لم يدعه؛ لأنه بإحيائه الأرض ملك ما فيها، ولا يدخل في المبيع؛ لأنه منقول، وتقييد الملك لمن ذكر بدعواه له ذكره الشيخان، وتركه ابن الرفعة والسبكي، بل شرطا ألا ينفيه، قال في "المهمات": وهو الصواب، كسائر ما بيده، وفي "أصل الروضة": أن ما وجده في موقوف بيده .. فهو ركاز له كذا في "التهذيب"، وفي قوله: (كذا في "التهذيب") إشارة إلي استشكاله، وقد استشكله والد الجاربردي بأنه ليس أقوى من الموجود في الملك المنتقل إليه من غيره، قال: وأظن أن عليه عرضه على واقفه .. وهكذا حتى ينتهى إلى المحيي. [نصاب الزروع والثمار] الرابعة: أقل النصاب في الثمر والزرع بالرطل القدسي والرملي: مئتا رطل وخمسة وخمسون رطلاً؛ لأن الرطل ثمان مئة درهم، وهذا بناء على أن رطل بغداد مئة وثلاثون درهماً على ما قاله الرافعي، وهو خمسة أوسق جمع وسق؛ وهو ستون صاعاً، والصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث بالبغدادي، فالأوسق الخمسة: ألف وست مئة رطل بالبغدادي، وهو بالمن الصغير: ثمان مئة من؛ لأن المن رطلان، وبالكبير الذي وزنه ست مئة درهم كالرطل الدمشقي: ثلاث مئة من وستة وأربعون منا وثلثا من على قول الرافعي.

وأما على قول النووي: إن رطل بغداد مئة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم .. فهي ثلاث مئة من واثنان وأربعون منا وستة أسباع من، والأصح: أن الاعتبار بالكيل لا الوزن إذا اختلفا، والتقدير بذلك تحديد. قال القمولي وغيره: وقدر النصاب بإردب مصر: ستة أرادب وربع بجعل القدحين صاعاً؛ كزكاة الفطرة وكفارة اليمين. وقال السبكي: خمسة أرادب ونصف وثلث، فقد اعتبرت القدح المصري بالمد الذي حررته فوسع مدين وسبعاً تقريباً، فالصاع: قدحان إلا سبعي مد، وكل خمسة عشر مداً سبعة أقداح، وكل خمسة عشر صاعاً ويبة ونصف وربع، فثلاثون صاعاً ثلاث ويبات ونصف، فئلاث مئة صاع خمسة وثلاثون ويبة، وهي خمسة أرادب ونصف وثلث، فالنصاب على هذا: خمس مئة وستون قدحاً، وعلى الأول: ست مئة. وقوله: (وزائد جف) أي: أن ما زاد بحسابه، فلا وقص فيه، وأن النصاب يعتبر في حال جفافه بأن يصير تمراً أو زبيباً؛ أي: إن تتمر أو تزبب جيداً، وإلا .. فرطباً وعنباً، ويعتبر الحب مصفى منقي من تبن ونحوه. وواجب ما سقي بلا مؤنة كأن سقي بالمطر أو ماء القناة، أو بماء ينصب إليه من جبل أو نهر أو عين كبيرة، أو عروقه لقربه من الماء من ثمر وزرع .. العشر، وما سقي بمؤنة كناضح ودولاب، وما اشتراه أو اتهبه أو غصبه .. نصفه، والفرق: ثقل المؤنة في هذا وخفتها في الأولى. والأصل في ذلك: خبر البخاري: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً .. العشر، وما سقي بالنضح .. نصف العشر"، وخبر: "فيما سقت الأنهار والغيم .. العشر، وفيما سقي بالسانية .. نصف العشر"، وخبر أبي داوود: "فيما سقت السماء والأنهار والعيون، أو كان بعلا .. العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح .. نصف العشر". و(العثري) بفتح المهملة والمثلثة: ما سقي بماء السيل، قاله الأزهري وغيره، والغيم

المطر، و (السانية) و (الناضح): اسم للبعير أو البقرة الذي يسقى عليه من البئر أو النهر، والأنثى ناضحة. وما سقي بهما؛ أي: بما لا مؤنة فيه، وبما فيه مئؤنة .. وزع أنت الواجب على سقي المقتات بالنوعين؛ عملاً بواجبهما بحسب النفع؛ أي: باعتبار نشوء الزرع ونمائه، وإنما اعتبر النشوء دون عدد السقيات؛ لأنه المقصود، فلو كانت المدة من يوم الزرع إلى يوم الإدراك ثمانية أشهر، واحتاج في ستة أشهر زمن الشتاء والربيع إلى سقيتين فسقي بماء السماء، وفي شهرين من زمن الصيف إلى ثلاث سقيات فسقي بما فيه مؤنة .. وجب ثلاثة أرباع العشر وربع نصف العشر، فإن سقي بهما سواء .. وجب ثلاثة أرباع العشر. ولو سقي بهما وجهل مقدار كل منهما .. وجب فيه ثلاثة أرباع العشر؛ أخذاً بالأسوء، وسواء في جميع ما ذكر في المسقي بمائين أنشأ الزرع على قصد السقي بهما، أم أنشأه قاصداً السقي بأحدهما ثم عرض السقي بالآخر، وقيل في الحال الثاني: يستصحب حكم ما قصده. ولو اختلف المالك والساعي في أنه بماذا سقي؟ صدق المالك؛ لأن الأصل عدم وجوب الزيادة عليه، قال في "المجموع": فإن اتهمه الساعي .. حلفه، وهذه اليمين مستحبة بالاتفاق؛ لأن قوله لا يخالف الظاهر. ولو كان له زرع مسقي بماء السماء، وآخر مسقي بالنضح، ولم يبلغ واحد منهما نصاباً .. ضم أحدهما إلى الآخر؛ لتمام النصاب وإن اختلف قدر الواجب وهو العشر في الأول ونصفه في الثاني. ولا يكمل في النصاب جنس بجنس، فلا يضم التمر إلى الزبيب، ولا الحنطة إلى الشعير، ويضم النوع إلى النوع كأنواع التمر وأنواع الزبيب وغيرهما، ويخرج من كل بقسطه، فإن عسر؛ لكثرة الأنواع وقلة مقدار كل نوع منها .. جاز له إخراج الوسط منها، ويضم العلس إلى الحنطة؛ لأنه نوع منها؛ وهو قوت صنعاء اليمن، والسلت - بضم السين وسكون اللام: جنس مستقل فلا يضم إلى غيره، وقيل: شعير فيضم إليه، وقيل: حنطة فيضم إليها؛ وهو حب يشبه الحنطة في اللون والنعومة والشعير في برودة الطبع، وقيل: إنه في صورة الشعير وطبعه حار كالحنطة، فألحق بها في وجه وبه في آخر، والأول قال: اكتسب من تركب الشبهين طبعاً انفرد به وصار أصلاً برأسه.

ولا يضم ثمر عام وزرعه ألى ثمر وزرع عام آخر في إكمال النصاب؛ وإن فرض إطلاع ثمرة العام الثاني قبل جذاذ ثمرة الأول. ويضم ثمر العام بعضه إلى بعض وإن اختلف إدراكه، أو طلع الثاني بعد جذاذ الأول. نعم؛ لو أثمر نخيل في العام مرتين .. فهما كثمرة عامين، وزرعا العام يضمان، وذلك كالذرة تزرع في الخريف والربيع والصيف، والأظهر: اعتبار وقوع حصاديهما في سنة، وإن كان الزرع الأول خارجاً عنها: فإن وقع حصاد الثاني بعدها .. فلا ضم؛ لأن الحصاد هو المقصود وعنده يسقر الوجوب. ولو اختلف المالك والساعي في أنه زرع عام أو عامين .. صدق المالك في قوله: (عامين)، فإن اتهمه الساعي .. حلف استحباباً؛ لأن ما ادعاه ليس مخالفاً للظاهر، ذكره في "المجموع". [اسحباب الخرص] ويسن خرص التمر الذي تجب فيه الزكاة على مالكه؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بخرصه في خبر عتاب بن أسيد المار، فيطوف الخارص بكل نخلة ويقدر ما عليها رطباً ثم تمراً، ولا يقتصر على رؤية البعض وقياس الباقي به، وإن اتحد النوع .. جاز أن يخرص الجميع رطباً ثم تمراً، والمشهور: إدخال جمعية في الخرص، وأنه يكفي خارص واحد؛ لأم الخرص ينشأ عن اجتهاد، وشرطه: كونه عدل رواية حراً ذكراً خبيراً، فإذا خرص .. فالأظهر: أن حق المستحقين ينقطع من عين الثمر ويصير في ذمة المالك التمر والزبيب؛ ليخرجهما بعد جفافه إن صرح الخارص بتضمين المالك حقهم وقبله، وإلا .. بقي حقهم على ما كان، ومتى انقطع حقهم من المخروص .. جاز تصرف المالك في جميعه بالبيع وغيره. ولو ادعى هلاك المخروص كله أو بعضه بسبب خفي كسرقة، أو ظاهر عرف؛ كالبرد والنهب والجراد ونزول العسكر واتهم في الهلاك به .. صدق بيمينه، وإن لم يتهم في ذلك .. صدق بلا يمين، وإن لم يعرف الظاهر .. طولب ببينة بوقوعه؛ لإمكانها ثم يصدق بيمينه في الهلاك به، واليمين فيهما مستحبة، وقيل: واجبة. ولو اقتصر على دعوى الهلاك .. قال الرافعي: فالمفهوم من كلام الأصحاب قبوله مع

اليمين؛ حملاً على وجه يغني عن البينة، قال في "المجموع": وهو كما قال الرافعي. ولو قال: (هلك بحريق وقع في الجرين) وعلمنا أنه لم يقع في الجرين حريق .. لم يبال بكلامه. ولو ادعى حيف الخارص فيما خرصه .. لم يلتفت إليه؛ كما لو ادعى ميل الحاكم أو كذب الشاهد .. لا يقبل إلا ببينة، أو ادعى غلطه بما يبعد .. لم يقبل في حط جميعه، وفي حط المحتمل منه وجهان، أصحهما: قبوله، أو بمحتمل بفتح الميم: فإن كان فوق ما يقع بين الكيلين؛ كوسق في مئة، وادعاه بعد الكيل .. فوجهان: أحدهما لا يحط؛ لاحتمال أن النقص وقع في الكيل ولو كيل ثانياً .. لو فى، وأصحهما: يحط؛ لأن الكيل يقين، والخرص تخمين، فالإحالة عليه أولى، هذا إن تلف المخروص، فإن بقي .. أعيد كيله وعمل به، ولو ادعى غلط الخارص ولم يبين قدراً .. لم تسمع دعواه. [تقويم عرض التجارة وربحه بنقد أصله] الخامسة: أن عرض التجارة مع ربحه يقوم آخر بنقد أصله الذي ملكه به وإن أبطله السلطان، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (وعرض متجر أخير حوله قومه مع ربح بنقد أصله) وقد مر أنه إن ملكه بدون نصاب أو بعرض .. فابتداء حوله من حين الشراء، أو بنقد نصاب .. فحوله من حين ملك النقد، والنقد، ضد العرض؛ فيشمل التبر والسبائك والحلي التي تجب فيها الزكاة. وألف (قسما) للإطلاق.

باب زكاة الفطر

باب زكاة الفطر سميت بذلك؛ لأنها تجب بدخول الفطر، ويقال لها: زكاة الفطرة؛ أي: الخلقة، ولهذا ترجمها بعضهم بزكاة الأبدان، والمشهور: أنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة عام فرض صوم رمضان. والأصل فيها قبل الإجماع: خبر ابن عمر رضي الله عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس؛ صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين)، وخبر أبي سعيد: (كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت) رواهما الشيخان. وقد تكلم الناظم في هذا الباب على وقت وجوبها، ثم وقت أدائها، ثم قدر المؤدى، ثم جنسه، ثم صفة المؤدي، ثم صفة المؤدى عنه فقال: (إن غربت شمس تمام الشهر ... يجب إلى غروب يوم الفطر) (أداء مثل صاع خير الرسل ... خمسة أرطال وثلث رطل) (رطل العراق وهو بالأحفان ... قريب أربع يدي إنسان) (وجنسه القوت من المعشر ... غالب قوت بلد المطهر) (والمسلم الحر عليه فطرته ... وفطرة الذي عليه مؤنته) (واستثن من يكفر مهما يفضل ... عن قوته وخادم ومنزل) (ودينه وقوت من مؤونته ... يحمل يوم عيده وليلته) فيها سبع مسائل:

[وقت وجوب زكاة الفطر] الأولى: في وقت وجوبها؛ وهو غروب شمس تمام شهر رمضان؛ أي: تجب بإدراك آخر جزء منه أول جزء من شوال؛ لإضافتها إلى الفطر، فتخرج عمن مات أو ارتد أو بيع أو بانت بعد الغروب، دون من ولد أو ملك أو أسلم أو نكح. ولو مات مالك العبد ليلة العيد .. فالفطرة في تركته. [وقت أداء زكاة الفطر] الثانية: في وقت أدائها، يجب أداؤها قبل غروب شمس يوم عيد الفطر، فيحرم تأخيره عنه بلا عذر؛ كغيبة ماله أو الآخذ لها؛ لأن القصد إغناء المستحقين عن الطلب فيه، ويلزمه فضاؤها على الفور. قال في "المجموع": وظاهر كلامهم: أن زكاة المال المؤخرة عن التمكن تكون أداء، والفرق: أن الفطرة مؤقتة بزمن محدود كالصلاة، ولو مات المؤدى عنه قبل التمكن .. فالأصح: بقاء الوجوب، بخلاف ما لو تلف المال قبله على الأصح كزكاة المال. انتهى. ويسن إخراجها يوم العيد قبل صلاته؛ لخبر "الصحيحين" عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)، والتعبير بـ (الصلاة) جري على الغالب من فعلها أول النهار، فإن أخرت .. استحب إخراجها أول النهار؛ للتوسعة على المستحقين، ويجوز تعجيلها من أول رمضان. [مقدار زكاة الفطر] الثالثة: وهي صاع بصاع خير الرسل صلى الله عليه وسلم؛ وهو خمسة أرطال وثلث رطل بالبغدادي، وهو مئة وثلاثون درهماً على الأصح عند الرافعي، ومئة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم على الأصح عند النووي، فالصاع على الأول: ست مئة درهم وثلاثة وتسعون درهماً وثلث درهم، وعلى الثاني: ست مئة درهم وخمسة وثمانون درهماً وخمسة أسباع درهم.

قال ابن الصباغ وغيره: الأصل في ذلك الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهاراً. قال في"الروضة": قد يستشكل ضبط الصاع بالأرصال؛ فإن الصاع المخرج به في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكيال معروف، ويختلف قدره باختلاف جنس ما يخرج؛ كالذرة والحمص وغيرهما، والصواب ما قاله الدرامي: أن الاعتماد على الكيل بصاع معاير بالصاع الذي كان يخرج به في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يجده .. وجب عليه إخراج قدر يتيقن أنه لا ينقص عنه، وعلى هذا: فالتقدير بخمسة أرطال وثلث .. تقريب؛ كما أشار إليه الناظم بقوله: (وهو بالأحفان قريب أربع يدي إنسان) أي: قريب أربع حفان بكفي إنسان معتدلتين، وهو مراد النووي بقوله في "الروضة": وقال جماعة من العلماء: الصاع: أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين. [جنس زكاة الفطر] الرابعة: جنس الصاع الواجب: القوت من المعشر؛ أي: الذي يجب فيه العشر وكذا نصفه، غالب قوت بلد المطهر بفتح الهاء؛ أي: المؤدى عنه، لا غالب قوت المؤدي أو بلده كثمن المبيع، ولتشوف النفوس إليه، ويختلف ذلك باختلاف النواحي فـ (أو) في خبر: "صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير" لبيان الأنواع لا للتخيير كما في آية: {إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله}، وإنما اعتبر بلد المؤدى عنه؛ بناء على أنها تجب عليه ابتداء، ثم يتحملها المؤدي وهو الأصح. فإن لم يكن في بلده غالب .. أدى ما شاء، والأعلى أولى، فإن لم يكن قوت البلد مجزئاً .. اعتبر أقرب البلاد إليه، وإن كان بقربه بلدان متساويان قرباً .. أدى من أيهما شاء، وإذا أوجبنا غالب قوت البلد .. ففي "الوجيز": اعتبار الغلبة يوم العيد، واستغرباه في "الشرحين" و "الروضة" و "المجموع"، ونقلا عن "الوسيط": اعتبار وقت الوجوب لا كل السنة، ثم قال في "المجموع": إن المراد قوت السنة كما سنوضحه، ومراده: انه إذا اختلف القوت باختلاف الوقت فأخرج من الأدنى .. أجزأه في الأصح؛ لدفع الضرر؛ لأنه

يسمى مؤدياً لقوت البلد، وصورته: أن يكون غالب قوتها، أو لا يكون فيها غالب، وفي "المهمات": أن ما في "الوسيط" هو القياس، وصرح به غيره، ومال إليه الأذرعي ونقله عن جمع. وفي معنى المعشر: الأقط والجبن واللبن إن بقي زبدها؛ لثبوت الأقط في الخبر السابق، وقيس عليه الجبن واللبن. والأقط: لبن يابس فيه زبده، فإن أفسد الملح جوهره .. لم يجز، وإن ظهر عليه ولم يفسده .. وجب بلوغ خالصه صاعاً. ولا يجزاء المصل، وهو ماء الأقط كما في "المجمل" وغيره، أو لبن منزوع الزبد كما في "البيان" وغيره، أو المخيض كما في "النهاية"، ولا السمن ولا القيمة ولا الدقيق والسويق والخبز والعنب واللحم وإن كان قوت البلد؛ لأنه ليس في معنى ما نص عليه. قال في "المجموع": قال أصحابنا: يشترط في المخرج أن يكون من الأقوات المعشرة، فلا يجزاء غيرها إلا الأقط والجبن واللبن. ويجزاء القوت الأعلى عن الأدنى ولا عكس، ويخالف زكاة المال حيث لا يجزاء جنس أعلي؛ لتعلقها بالمال، والاعتبار بالقيمة في وجه، وبزيادة الاقتيات في الأصح. قال بعضهم: فأعلى الأقوات البر، ثم الشعير، ثم التمر، كما نقله الرافعي عن ترجيح البغوي، ورجحه في "المحرر" و "الشرح الصغير"، ورجحه في "المنهاج" و "المجموع"، وخالف أبو محمد الجويني فقدم التمر على الشعير، وقطع به الروياني في "البحر"، ثم بعده الزبيب. انتهى. ويجوز إخراج الفطرة عن أحد عبديه أو قريبيه من القوت الواجب، وعن الآخر أعلى منه؛ كما يؤدي لأحد جبرانين شاتين وللآخر عشرين درهماً، ولا يبعض الصاع المخرج عن واحد وإن تعدد المؤدي كعبد لاثنين؛ لأنه واجب واحد فلا يبعض كالكفارة.

[صفة المؤدي لزكاة الفطر] الخامسة: في صفة المؤدي، والمسلم الحر عليه فطرته وفطرة من تلزمه مؤنته، وذلك بملك ولوآبقاً ومغصوباً ومؤجراً ومرهوناً ومنقطع الخبر ما لم تنته غيبته إلى مدة يحكم فيها بموته، أو قرابة، أو نكاح، وهذه الثلاثة جهات التحمل بالشرط الآتي. وخرج بـ (المسلم): الكافر الأصلي، فلا تلزمه فطرته؛ لقوله في الخبر السابق: (من المسلمين)، وتجب عليه فطرة رقيقه وقريبه وزوجته المسلمين على الأصح، المبني على الأصح: أنها تجب ابتداء على المؤدى عنه، ثم يتحملها عنه المؤدي. قال الإمام: ولا صائر إلى أن المحتمل عنه ينوي، والكافر لا تصح منه النية، وذلك يدل على استقلال الزكاة بمعنى المراساة. قال في "البسيط": فتصح من غير نيه؛ تغليباً لسد الحاجة، كما في المرتد. أما المرتد .. ففي وجوب الزكاة عليه أقوال بقاء ملكه، أظهرها: انه موقوف؛ إن عاد إلي الإسلام تبينا بقاءه .. فتجب، وإلا .. فلا، ذكره في "المجموع". وخرج بـ (الحر): الرقيق، فلا فطره عليه، أما غير المكاتب .. فلعدم ملكه، وفطرته على سيده كما أفاده كلامه، قناً كان أو مدبراً أو أم ولد أو معلق العتق بصفة، وأما المكاتب .. فلصعف ملكه، ولا فطرة على سيده عنه؛ لنزوله معه منزلة الأجنبي. ومن بعضه حر يلزمه من الفطرة قسطه من الحرية إذا لم يكن بينه وبين مالك بعضه مهايأة، وكذا يلزم كلاً من الشريكين في رقيق بقدر حصته منه إذا لم تكن بينهما مهايأة، فإن كانت في المسألتين .. اختصت الفطرة بمن وقع زمن وجوبها في نوبته. [الإسلام شرط في المؤدى عنه] السادسة: يشترط إسلام المؤدى عنه، فلا يلزم المسلم فطرة رقيقه وقريبه وزوجته الكفار؛ لقوله في الخبر السابق: "من المسلمين"، ومما يستثنى أيضاً: أنه لا يلزم الفرع فطرة زوجة الأصل، ولا مستولدته في الأصح وإن لزمته مؤنتهما؛ لأن الأصل في المؤنة والفطرة الأصل وهو معسر، ولا تجب الفطرة على المعسر بخلاف المؤنة فيتحملها الفرع، ولأن عدم الفطرة

لا يمكن الزوجة من الفسخ بخلاف المؤنة، وأنه لا فطرة لرقيق بيت المال، ولا للموقوف ولو على معين في الأظهر، ولا للحرة التي تخدم الزوجة كما في "المجموع" لأنها في معنى المستأجرة، لكن مقتضى كلام "الروضة" و "أصلها" الوجوب؛ لأنها تتبع النفقة، وصرح به جماعة، بخلاف ما إذا كانت مملوكة له أو لها .. فإنها تجب فطرتها، وأنه تجب فطرة المكاتب كتابة فاسدة على سيده مع أنه لا تلزمه مؤنته. [يشترط يسار المؤدي] السابعة: يشترط أيضاً يسار المؤدي؛ بأن وجد ما يفضل عن قوته وقوت من تلزمه مؤنته ليلة العيد ويومه؛ لأن القوت لابد منه دون ما وراءهما لعدم ضبطه. وعن خادم ومنزل يحتاجهما ويليقان به، وعن دست ثوب له، ولمن في نفقته يليق بهم كالكفارة؛ لأنها من الحوائج المهمة، فلو كان الخادم والمنزل نفيسين يمكن إبدالهما بلائقين ويؤدي التفاوت .. لزمه ذلك؛ كما ذكره الرافعي في (الحج) قال: لكن في لزوم بيعهما إذا كانا مألوفين وجهان في الكفارة، فيجريان هنا، وفرق في "الشرح الصغير" و "الروضة" بأن للكفارة بدلاً؛ أي: في الجملة، فلا ينتقض بالمرتبة الأخيرة منها، ومحل اعتبار كونها فاضلة عن الخادم والمنزل في الابتداء، فلو ثبتت في ذمته .. بيعا فيها، لالتحاقها بالديون. والمراد بـ (حاجته للخادم): أن يحتاجه لخدمته، أو خدمة من تلزمه خدمته، لا لعمله في أرضه وماشئته، ذكره في "المجموع"، ويقاس به حاجته للمنزل. وعن دينه على ما جزم به الناظم كـ"الحاوي الصغير" والنووي في "نكته"، ونقل الشيخان عن الإمام الاتفاق عليه؛ كنفقة القريب، قالا: لكن قول الشافعي رضي الله عنه والأصحاب: إنه لو مات بعد أن هل شوال .. فالفطرة في ماله مقدمة على الديون .. يقتضي: أن الدين لا يمنع وجوبها، قال في "الشرح الصغير": وهو الأشبه بالمذهب. انتهى، وهو الموافق لما في زكاة المال، وقال ابن العماد: إن به الفتوى.

وخرج بـ (الموسر): المعسر، فلا تجب الفطرة عليه، ويلزم سيد زوجته فطرتها، ولا يلزم زوجته الحرة فطرتها. ولو كان في نفقته ابن كبير فوجد قوت ليلة العيد ويومه فقط .. لم تجب فطرته، أو صغير .. لم تجب على الأب في الأصح. ولو أدتها زوجة الموسر، أو من فطرته على قريبه بلا إذن .. فالنص الإجزاء، أو بإذن .. فقطعاً؛ كما لو أداها عنه غيره بإذنه. والأصح: أن من أيسر ببعض صاع .. يلزمه إخراجه. والأصح: أنه لو وجد بعض الصيعان .. قدم نفسه ثم زوجته، ثم ولده الصغير، ثم الأب، ثم الأم، ثم ولده الكبير، فإن استووا درجة؛ كزوجات وبنين .. أخرج عمن شاء. ولو باع رقيقاً ووقع زمن الوجوب في زمن الخيار، وقلنا: الملك للبائع .. فعليه الفطرة وإن أمضي البيع، أو للمشتري .. فعليه وإن فسخ، أو موقوف وتم البيع .. فعلى المشتري، وإلا .. فعلى البائع. ولو أخرج من ماله فطرة ولده الصغير الغني .. جاز بخلاف الكبير. ولو اشترك موسر ومعسر في رقيق .. لزم الموسر قسط حصته. وقوله: (الذي عليه مؤنته) بضم الميم وسكون الواو.

باب قسم الصدقات

باب قسم الصدقات أي: الزكوات على مستحقيها، وسميت بذلك؛ لإشعارها بصدق باذلها. والأصل في الباب: آية: {إنما الصدقات للفقراء}، وأضاف فيها الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك، وإلى الأربعة الأخيرة بـ (في) الظريفة؛ للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى وتقييده في الأخيرة، حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها .. استرجع، بخلافه في الأولى على ما يأتي، وقد ذكر الناظم آخر الباب صدقة النفل. (أصنافه- إن وجدت- ثمانية ... من يفقد اردد سهمه للباقيه) فيه مسألتان: [أصناف قسم الصدقات] الأولى: أصناف قسم الصدقات ثمانية؛ للآية، فيجب استيعابهم بها عند وجودهم حتى في زكاة الفطر؛ لإضافة الصدقات إليهم بـ (اللام) و (في) كالإقرار والوصية، فإن فرقها المالك بنفسه، أو الإمام ولا عامل .. فالقسمة على سبعة، وإذا قسم الإمام .. لزمه أن يستوعب من الزكاة الحاصلة عنده آحاد كل صنف؛ لقدرته عليه لا من زكاة كل واحد، وله أن يخص بعضهم بنوع وآخرين بنوع، وكذا يلزم المالك استيعابهم إن انحصر المستحقون في البلد ووفى بهم المال، وإلا .. فيجب إعطاء ثلاثة من كل صنف كما سيأتي، إلا العامل فإنه يجوز أن يكون واحداً كما سيأتي، فلو صرف ما عليه لاثنين مع وجود ثالث .. غرم له أقل متمول، وتجب التسوية بين الأصناف وإن كان بعضهم أحوج، لكن لا يزاد العامل على أجرة عمله، وتسن بين آحاد الصنف عند تساوي الحاجات، إلا أن يقسم الإمام؛ فيحرم عليه التفضيل مع تساوي الحاجات؛ لأنه نائبهم فلا يفاوت بينهم عند تساوي حاجاتهم.

[إذا فقد أحد الأصناف أو من آحاد صنف] الثانية: من يفقد من الأصناف؛ أي: غير العامل، أو من آحاد صنف؛ بأن لم يوجد منه إلا واحد أو اثنان .. اردد أنت سهمه وجوباً للبقية من الأصناف في الأولى، ومن الصنف في الثانية، فلا ينقل إلى غيرهم؛ لانحصار الاستحقاق فيهم، ولأن عدم الشيء بموضعه كالعدم المطلق؛ كما في عدم الماء المبيح للتيمم، وليس هذا كما لو أوصى لاثنين فرد أحدهما؛ حيث يكون المردود للورثة لا للآخر؛ لأن المال للورثة لولا الوصية وهي تبرع، فإذا لم يتم أخذ الورثة للمال، والزكاة حق لزمه .. فلا يرد إليه، ولهذا لو لم توجد المستحقون .. لم تسقط الزكاة، بل توقف حتى يوجدوا أو يوجد بعضهم. ولو فضل نصيب بعضهم عن كفايته ونقص نصيب بعضهم عنها .. لم ينقل الفاضل إلى ذلك الصنف، بل يرد إلى من نقص سهمه؛ كما اقتضاه كلام "الروضة" و "أصلها" من جعله على الخلاف في نقل الزكاة، لكن صحح في "تصحيح التنبيه": نقله إلى ذلك الصنف، وعلى الأول: لو استغني بعضهم المردود .. قسم الباقي بين الآخرين بالسوية، ولو زاد نصيب جميعهم على الكفاية أو نصيب بعضهم ولم ينقص البعض الآخر .. نقل الفاضل إلى ذلك الصنف، ذكره في "الروضة" و "أصلها". ولما ذكر أن أصناف الزكاة ثمانية .. شرع في تفصيلها فقال: [تفصيل أصناف الزكاة الثمانية] (فقير العادم والمسكين له ... ما يقع الموقع دون تكمله) (وعامل كحاشر الأنعام ... مؤلف يضعف في الإسلام) (رقابهم، مكاتب، والغارم ... من للمباح أدان وهو عادم) (وفي سبيل الله غاز احتسب ... وابن السبيل ذو افتقار اغترب) الأول: الفقير، وهو العادم للمال والكسب الذي يقع موقعاً من حاجته؛ كمن يحتاج إلى

عشرة دراهم ولا يملك، أو لا يكتسب إلا درهمين أو ثلاثة، ولا يشترط فيه الزمانة، ولا التعفف عن المسألى على الجديد، ولا يمنع الفقر مسكنه وثيابه ولو كانت للتجمل، ورقيقه الذي يحتاج إلى خدمته، وماله الغائب في مرحلتين والمؤجل، فيأخذ كفايته ألى حلوله، وكسب مباح لا يليق به. ولو كان له مال يستغرقه الدين .. قال البغوي: لا يعطى حتى يصرفه في الدين. قال السبكي: فلو اعتاد السكنى بالأجرة أو في المدرسة .. فالظاهر: خروجه عن اسنم الفقر بثمن المسكن، ولو اشتغل بعلم شرعي والكسب يمنعه .. ففقير، أو بالنوافل .. فلا، وكذا المعطل المعتكف في مدرسة، ومن لا يتأتى منه تحصيله مع القدرة على الكسب. الثاني: المسكين، وهو الذي له مال أو كسب مباح لائق به يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه؛ كمن يملك أو يكتسب سبعة أو ثمانية ولا يكقته إلي عشرة؛ فهو أحسن حالاً من الفقير، واحتجو به بقوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمسكين}، وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم؛ إحيني مسكناً، وأميي مسكيبا}، مع أنه كان يتعوذ من الفقر. قال في "الروضة" كـ"أصلها": وسواء أكان ما يمكله نصاباً أو أقل أو أكثر، والمعتبر فيما يقع موقعاً من حاجته: المطعم والملبس والمسكن، وسائر ما لابد منه على ما يليق بالحال من غير إسراف ولا تقتير للشخص ولمن هو فى نفقته، والعبرة عند الجمهور في عدم كفايته بالغمر الغالب بناءً على أنه يعطى ذلك، وأما ما جزم به البغوي، وصححه ابن الصلاح في "فتاويه" والنووي في "فتاويه" الغير المشهورة، واستنبطه الإسنوي من كلامهم من أن العبرة بعدم كفايته بالسنة .. فإنما يأتي على قول من قال كالبغوي: أنه إنما يعطى كفاية سنة. قال في "الروضة": قال الغزالي في "الإحياء": لو كان له كتب فقه .. لم تخرجه عن المسكنة، ولا تلزمه زكاة الفطر كأثاث البيت؛ لأنه محتاج إليها. والكتاب يطلب إما للتفرج بالمطالعة؛ ككتب الشعر والتواريخ ونحوهما مما لا ينفع في الدارين .. فهذا يمنع المسكنة، وإما للتعليم للتكسب كالمؤدب والمدرس بأجرة أو للقيام بفرض .. فلا يمنع المسكنة، وأما للاستفادة كطب يعالج به نفسه، أو وعظ يتعظ به: فإن لم يكن في البلد طبيب وواعظ .. فكذلك، وإلا .. فمستغن عنه.

فإن كان له من كتاب نسختان .. فهو مستغن عن إحداهما، فإن كانت إحداهما أصح والأخرى أحسن .. باع الأحسن، وإن كانتا من علم وإحداهما وجيزة: فإن كان مقصوده الاستفادة .. فليكتف بالبسيطة، أو التدريس .. احتاج إليهما، هذا كلام الغزالي، والمختار في الواعظ: أنه لا أثر لوجوده. الثالث: العامل في الزكاة، وهو: ساع، وكاتب، وقاسم، وحاشر يجمع ذوي الأموال أو ذوي السهمان، وعريف، وحاسب، وحافظ للمال، وجندي، لا الإمام والوالي والقاضي، ويجب على الإمام بعث السعاة لأخذ الزكوات، وإذا لم يكف .. زيد قدر الحاجة. والأصح: أن أجرة الكيال والوزان، وعاد النعم على المالك إن كان يميز الزكاة عن المال، فإن كان يميز بين الأصناف .. فمن سهم العامل قطعاً، وأجرة الراعي والحافظ بعد قبضها في جملة الزكوات لا من سهم العامل في الأصح، وأجرة الناقل والمخزن في الجملة، ومؤنة إحضار الماشية للعد على المالك. الرابع: المؤلفة، وهو من أسلم ونيته ضعيفة؛ أي: أو له شرف يرجى بإعطائه إسلام نظرائه، والمذهب: أنهم يعطون من الزكاة، ومن جاهدوا من يليهم، أو قبضوا الزكاة من مانعيها .. يعطون من سهم المؤلفة في أرجح الأقوال. قال الإمام: وتسميتهم مؤلفة مجاز، وأما مؤلفة الكفار كمن يرجى إسلامه بإعطائه، أو يخاف شره .. فلا يعطون من زكاة ولا غيرها، وقيل: يعطون من خمس الخمس. الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون، فيدفع لهم ما يعينهم على العتق؛ بشرط ألا يكون معهم وفاء بالنجوم، وصحة الكتابة لا إذن السيد، والأحوط: الصرف إليه بإذن المكاتب، ولا يجزاء بغير إذنه، لكن يسقط عنه بقدره، ويجوز الصرف إليه قبل حلول النجم في الأصح، وليس له الصرف إلى مكاتبه، ولا لمن كوتب بعضه على الصحيح. ولو استغنى عن المعطي بإعتاق أو إبراء أو أداء الغير، أو أدائه من مال آخر .. استرد في الأصح، ويجزاء في غارم استغنى، وإن تلف بعد العتق .. غرمه، أو قبله .. فلا على الصحيح.

قال الغزالي: وكذا لو أتلفه، ولو عجز .. استرد منه، فإن كان تالفاً .. غرمه في الأصح، ويتعلق بذمته لا برقبته في الأصح، ولو دفعه إلى السيد وعجز ببقية النجوم .. ففي الاسترداد والغرم عند التلف الخلاف، ولو اقترض وأدى فعتق .. لم يعط من سهم الرقاب بل الغارمين؛ كما لو قال لعبده: (أنت حر على ألف) فقيل. السادس: الغارم، وهو ثلاثة أنواع: غارم استدان لنفسه لمباح- أي: غير معصية- من مؤنته ومؤنة عياله، كأكل وشرب وتزوج وهو عادم للمال؛ أي: عاجز عن وفاء دينه بما يزيد على كفايته، فإن لم يعجز عن وفائه بما يزيد عليها .. لم يعط؛ لأنه يأخذ لحاجته إلينا، فاعتبر عجزه كالمكاتب وابن السبيل، بخلاف الغارم للإصلاح كما سيأتي، فإنه يأخذ لحاجتنا إليه؛ لتسكين الفتنة. فعلم أنه يعطى مع قدرته على وفاء دينه ببيع ملبوسه أو فراشه أو مركوبه أو خادمه المحتاج إليه، وأنه لو لم يملك شيئاً لكن يقدر على كسب يفي بدينه .. أعطي أيضاً كالمكاتب، ويفارق الفقير والمسكين؛ بأن حاجتهما إنما تتحقق بالتدريج، والكسوب يحصلها كل يوم، وحاجة المكاتب والغارم ناجزة؛ لثبوت الدين في ذمتهما والكسب لا يدفعها إلا بالتدريج غالباً. وخرج بقوله: (من للمباح ادان): من استدان لمعصية؛ كأن اشترى به خمراً، أو صرفه في زناً أو قمار، أو إسراف في نفقة .. فلا يعطى، فإن تاب .. فوجهان، أصحهما: يعطى إذا غلب على الظن صدق توبته، وإن قصرت المدة كالخارج لمعصية إذا تاب وأراد الرجوع .. فإنه يعطى من سهم ابن السبيل. قال الإمام: ولو استدان لمعصية ثم صرفه في مباح .. أعطي، وفي عكسه يعطى أيضاً إن عرف قصد الإباحة أو لا، لكنا لا نصدقه فيه، ولو كان الدين مؤجلاً .. فوجوه، أصحها: لا يعطى؛ لأنه غير محتاج إلى وفائه حينئذ، والفرق بينه وبين المكاتب: الاعتناء بالحرص على تعجيل العتق، وربما يعجز السيد مكاتبه عند الحلول. وغارم استدان لإصلاح ذات البين؛ كتحمل دية قتيل، أو قيمة متلف تخاصم فيه قبيلتان أو شخصان فسكن الفتنة بذلك، فيعطى وإن كان غنياً ولو بالنقد على الصحيح؛ لعموم الآية،

ولأنا لو اعتبرنا الفقر .. لقلا الرغبة في هذه المكرمة، وحكم من استدان لعمارة مسجد أو قرى ضيف .. كالمستدين لمصلحة نفسه؛ كما قال السرخسي، وحكى الروياني: أنه يعطى مع الغنى بالعقار، قال: وهو الاختيار، ونقل الشيخان ذلك وأقراه، وجزم صاحب "الأنوار" بالأول، وصاحب "الروض" بالثاني. وغارم للضمان لدين على غيره فيعطى مع بقائه عليه ما يقضيه به إن أعسر هو والأصيل، أو وجده وكان متبرعاً؛ لعدم رجوعه حينئذ على الأصيل، فإن أيسرا أو الضامن .. لم يعط، أو بالعكس. .أعطي الأصيل لا الضامن في الأصح. فإن أدى الغارم الدين من ماله، أو بذل ماله ابتداء .. لم يعط، وإذا وفى الضامن من سهم الغارمين .. لا يرجع على الأصيل وإن ضمن بإذنه، وإنما يرجع إذا غرم من عنده. قال الماوردي: فلو أخذ سهمه فلم يصرفه في دينه حتى أبراء منه، أو قضي عنه، أو قضاه من غير ما أخذه .. استرجع، إلا أن يقضيه من قرض .. فلا يسترجع؛ إذ لم يسقط عنه دينه، وإنما صار لآخر كالحوالة عليه، فلو أبراء منه أو قضاه من غير قرض فلم يسترجع منه ما أخذه، حتى لزمه دين صار به غارماً .. فوجهان: أحدهما: لا يسترجع منه؛ لأنه يجوز دفعه إليه، والثاني: يسترجع؛ لأنه صار كالمستسلف له قبل غرمه. السابع: في سبيل الله، وهو غاز محتسب بغزوه بألا يأخذ شيئاً من الفيء فيعطى مع الغنى؛ لعموم الآية، أما المرتزق .. فلا يعطى شيئاً من الزكاة وإن لم يوجد ما يصرف له من الفيء، ويجب على المسلمين إعانته حينئذ. الثامن: ابن السبيل، وهو معسر بما يوصله مقصده، أو موضع ماله، غريب مجتاز بمحل الزكاة؛ أي: أو منشاء سفر منه، فيعطى ولو كسوباً إذا كان سفره مباحاً، بخلاف سفر المعصية. ومن طلب زكاة وعلم الإمام استحقاقه أو عدمه .. عمل بعمله، وإلا: فإن ادعى فقراً أو مسكنة أو أن نيته في الإسلام ضعيفة .. صدق.

ومن عرف له مال وادعى تلفه .. كلف البينة، وكذا من ادعى عيالاً في الأصح، ويعطى غاز وابن السبيل بقولهما، فإن لم يخرجا .. استرد، ويطالب عامل ومكاتب وغارم ببينة، وكذا مؤلف ادعى أنه شريف مطاع، والمراد بالبينة: إخبار عدلين، ويغني عنها الاستفاضة، وكذا تصديق المولى ورب الدين في الأصح. ويعطى المكاتب والغارم قدر دينهما، أو ما عجزا عنه، والفقير والمسكين كفايتهما، فيعطى المحترف ما يشتري به آلة حرفته قلت أو كثرت، والتاجر رأس مال يفي ربحه بكفايته غالباً، ومن لا يحسن الكسب كفاية العمر الغالب لا سنة في الأصح .. فيعطى ما يشتري به عقاراً تكفيه غلته، وابن السبيل ما يوصله مقصده، أو موضع ماله من نفقة وكسوة يحتاجها لشتاء أو صيف، ومركوب إن كان ضعيفاً عن المشي أو السفر طويلاً، وما ينقل زاده ومتاعه إلا أن اعتاد مثله حمله بنفسه، فإن ضاق المال .. أعطي أجرة للمركوب، وإلا .. اشتري له، وإذا تم سفره .. استرد على الصحيح، ويعطى كذلك لرجوعه على الصحيح إن أراده ولا مال له بمقصده، ولا يعطى لمدة الإقامة إلا إقامة المسافرين. ويعطى الغازي نفقته وكسوته، ونفقه عياله ذهاباً ورجوعاً وإقامة في الثغر وإن طالت، ويعطى هو ابن السبيل جميع المؤنة، وقيل: الزائد للسفر، وما يشتري به السلاح وآلة القتال، وكذا الفرس إن كان يقاتل فارساً ويصير ملكاً له، أو يستأجر له، ويختلف الحال بكثرة المال وقلته. وأما ما يحمل عليه الزاد ومتاعه ويركبه في الطريق .. فكابن السبيل، وإنما يعطى إذا حضر وقت الخروج؛ ليهياء به أسباب سفره. وإن مات في الطريق أو امتنع .. استرد ما بقي، وإن غزا ورجع وبقي منه بقية صالحة ولم يقتر على نفسه .. استردت، أو يسيره أو قتر .. فلا، وفي مثله في ابن السبيل يسترد مطلقاً. ويتخير الإمام بين أن يدفع الفرس والسلاح إلى الغازي ملكاً، وبين أن يستأجر له مركوباً، وبين أن يشتري خيلاً من السهم ويقفها في سبيل الله تعالى ويعيرهم إياها عند الحاجة، فإذا انقضت .. استردت. ويعطى المؤلف ما يراه الإمام، والعامل أجرة مثل عمله، فإن زاد سهم العاملين عليها .. رد الفاضل على بقية الأصناف، أو نقص عنها .. كمل من مال الزكاة على المذهب، ويجوز من سهم المصالح، بل للإمام جعل الإجرة كلها من بيت المال، ويقسم الزكاة على بقية الأصناف.

(ثلاثة أقل كل صنف ... في غير عامل، وليس يكفي) (دفع لكافر ولا ممسوس رق ... ولا نصيبين بوصفي مستحق) (ولا بني هاشم والمطلب ... ولا الغني بمال أو تكسب) (ومن بإنفاق من الزوج، ومن ... حتماً من القريب مكفي المؤن) (والنقل من موضع رب الملك ... في فطرة والمال فيما زكي) (لا يسقط الفرض، وفي التكفير ... يسقط والإيصاء والمنذور) فيها أربع مسائل: [أقل ما يجزاء في الزكاة من كل صنف] الأولى: أقل ما يجزاء في الزكاة: إعطاء ثلاثة من كل صنف إن وجدهم؛ عملاً بأقل الجمع في غير الأخيرين في الآية، وبالقياس عليه فيهما، ومحله كما علم مما مر: إذا قسم المالك ولم ينحصر المستحقون في البلد، أو انحصروا [و] لم يوف بهم المال، أما إذا قسم الإمام أو المالك وانحصر المستحقون في البلد ووفى بهم المال .. فيجب استيعاب الآحاد إلا العامل؛ فإنه يجوز أن يكون واحداً إذا حصلت الكفاية به؛ لحصول المقصود به، ويجوز أن يستغنى عنه؛ بأن يقسم المالك أو الإمام ولا عامل؛ بأن حمل أصحاب الأموال زكاة أموالهم إلى الإمام. [من لا يجزاء دفع الزكاة إليهم] الثانية: أنه لا يكفي دفع شيء من الزكاة لكافر؛ لخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، لكن يجوز أن يكون الكيال والحمال والحافظ ونحوهم كفاراً مستأجرين من سهم العامل، لأن ذلك أجرة لا زكاة؛ ذكره الأذرعي والزركشي وغيرهما. ولا لممسوس برق ولو مبعضاً إلا المكاتب؛ كما مر. ولا دفع نصيبين من زكاة واحدة لوصفي مستحق اجتمعا فيه من أوصاف الاستحقاق؛ كفقير

غاز، بل يدفع إليه بما يختاره منهما؛ لاقتضاء العطف في الآية التغاير، وفي "الروضة" عن الشيخ نصر المقدسي: إذا قلنا: لا يعطى إلا بوصف واحد .. فأخذ الفقير الغارم بالفقر أو بالغرم، وأخذه غريمه بدينه، فإن بقي فقيراً .. أعطي من سهم الفقراء؛ لأنه الآن محتاج. انتهي. ويؤخذ منه أيضاً: أن محل منع إعطائه بوصفين: إذا أعطي بهما دفعة أو مرتباً ولم يتصرف فيما أخذه أولاً. ولا يكفي دفع شيء منهما لبني هاشم أو المطلب ولو انقطع عنها خمس الخمس؛ لخلو بيت المال عن الفيء والغنيمة، أو استيلاء الظلمة عليهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا آل محمد" رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل لكم أهل البيت من الصدقات شيئاً، ولا غسالة الأيدي، إن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم أو يغنيكم" رواه الطبراني في "معجمه الكبير". ومثلهم مولاهم في الأصح؛ لخبر: "مولى القوم منهم" صححه الترمذي وغيره. نعم؛ لو استعملهم الإمام في الحفظ والنقل .. فلهم أجرته؛ كما في "المجموع" عن صاحب "البيان"، وجزم به ابن الصباغ وغيره، وينبغي أن يكون محله إذا استؤجروا للنقل ونحوه كما مر نظيره. ولا يكفي دفع شيء من سهم الفقراء والمساكين للمكفية بنفقة زوجها؛ لاستغنائها بنفقته ولو كانت ناشزة على الصحيح، وللزوج أن يعطيها من سهم المكاتب والغارم قطعاً، ومن سهم المؤلفة في الأصح، لا من سهم ابن السبيل إن سافرت معه. وإن سافرت وحدها بغير إذنه .. لم تعط منه، وتعطى هي والعاصي بالسفر من سهم الفقراء أو المساكين، بخلاف الناشزة المقيمة؛ فإنها قادرة على الغنى بالطاعة، فأشبهت القادر على الكسب، والمسافر لا يقدر على العود في الحال، فإن تركت السفر وعزمت على العود إليه ..

أعطيت من سهم ابن السبيل، أو بإذنه .. أعطيت منه مؤنة السفر فقط إن سافرت لحاجته، وإلا .. فكفايتها، ولا تكون عاملة ولا غازية. والمكفي بنفقة قريب تلزمه نفقته .. لا يعطيه غيره من سهم الفقراء أو المساكين؛ لاستغنائه بالنفقة، ويجوز من غيرهما قطعاً، ولا يعطيه المنفق منهما ويجوز من غيرهما، لا من سهم المؤلفة وإن كان فقيراً، ويعطيه من سهم ابن السبيل مؤنة السفر فقط. [نقل الزكاة لا يسقط الفرض] الثالثة: نقل الزكاة من موضع رب الملك في الفطرة حال وجوبها [و] من موضع المال حال وجوبها، فيما زكي منه مع وجود الأصناف أو بعضهم فيه إلى غيره، وإن قربت المسافة .. لا يسقط فرضها؛ لأنه حرام؛ لخبر معاذ، ولأن نقلها يوحش أصناف البلد بعد امتداد أطماعهم إليها، ولو كان من تلزمه فطرته .. فالعبرة ببلد المؤدى عنه؛ لأن الوجوب بسببه؛ لأنها صدقة البدن، هذا إن نقلها المزكي، فإن نقلها الإمام ولو بنائبه .. سقط الفرض؛ لأن له النقل. ولو كان له مال ببلدين وكان في تفرقة زكاة كل طائفة ببلدها تشقيص؛ كأن ملك أربعين شاة بكل بلد عشرون .. فالأصح: جواز إخراج شاة في أحدهما؛ حذراً من التشقيص. وأهل الخيام الذين لا قرار لهم يصرفون زكاتهم لمن معهم، فإن لم يكن معهم مستحق .. فلأقرب بلد إليهم عند تمام الحول، وإن كان لهم مسكن، وربما ارتحلوا عنه منتجعين ثم عادوا: فإن لم يتميز بعضهم عن بعض في الماء والمرعى .. صرفوه إلى من دون مرحلتين من موضع المال، والصرف إلى من معهم في الإقامة والظعن .. أفضل، وإن تميز .. فالأصح: أن كل حلة كقرية. [النقل من بلد المال في التكفير يسقط الفرض] الرابعة: النقل من بلد المال في التكفير .. يسقط الفرض، وكذا في الإيصاء لصنف والمنذور؛ إذ الأطماع لا تمتد إليها امتدادها إلي الزكاة، وكذا لو وقف على صنف، ومحله فيها وفي اللتين قبلها: إذا لم ينص رب المال على بلد. وقول الناظم: (هاشم) غير منون للوزن، وقوله: (الغني) بسكون الياء؛ إجراء للوصل مجرى الوقف، وقوله: (أو تكسب) بإسقاط الهمزة للوزن.

[صدقة التطوع] (وصدقات النفل في الإسرار ... أولى، وفي قريبه والجار) (ووقت حاجة وفي شهر الصيام ... وهو بما أحتاج عياله حرام) (وفاضل الحاجة فيه أجر ... لمن له على اضطرار صبر) أي: صدقات التطوع سنة؛ لقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً}، ولخبر: "ما تصدق أحد من كسب طيب .. إلا أخذها الله سبحانه وتعالى بيمينه، فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله؛ حتى تكون أعظم من الجبل"، وخبر: "ليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق من درهمه، وليتصدق من صاع بره" رواهما مسلم، وخبر: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس" رواه ابن حبان والحاكم وصححاه، وهي في الإسرار- بكسر الهمزة؛ أي: السر- أولى منها في الجهر؛ لقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات} ولما في "الصحيحين" في خبر السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظل عرشه من قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تدري شماله ما أنفقت يمينه" وهذا بخلاف الزكاة، فإن إظهارها أفضل. والصدقة في قريبه وإن لزمته نفقته أولى منها في غيره؛ لخبر: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان؛ صدقة وصلة" رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه. والصدقة في الجار أولى منها في غيره؛ لخبر البخاري عن عائشة: قلت: يا رسول الله؛ إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ فقال: "إلى أقربهما منك باباً". والصدقة وقت الحاجة؛ أي: أمامها أولى من غيره؛ لأنه أقرب إلى قضائها وإلى الإجابة. والصدقة في شهر الصيام أولى منها في غيره؛ لخبر البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم

كان أجود ما يكون في رمضان)، وخبر الترمذي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: "صدقة في رمضان"، ولأن الناس فيه مشغولون بالطاعات فلا يتفرغون لمكاسبهم. وتتأكد الصدقة أيضاً عند الأمور المهمة، وفي الغزو والحج والكسوف والمرض والسفر، وفي سائر الأوقات الفاضلة؛ كعشر ذي الحجة وأيام العيد، وفي الأماكن الشريفة؛ كمكة والمدينة وبيت المقدس. والأولى: أن يبدأ بذي رحم محرم الأقرب فالأقرب، وألحق بهم الزوجات، ثم بذي رحم غير محرم؛ كأولاد العم والخال، ثم بمحرم الرضاع، ثم المصاهرة، ثم المولى من أعلى، ثم المولى من أسفل الأقرب فالأقرب، ثم جار أقرب، ثم جار أقرب، ثم أبعد. ويقدم قريب بعدت داره على جار أجنبي، إلا أن يكون خارج البلد .. فيقدم الأجنبي، ويقصد بصدقته من أقاربه أشدهم له عداوة؛ لخبر الدارقطني: "أفضل الصدقة: الصدقة على ذي الرحم الكاشح" إذ المراد بـ (الكاشح): العدو كما جزم به الهروي، وليتألف قلبه، ولما فيه من سقوط الرياء وكسر النفس. ويكره التصدق بالرديء، وبما فيه شبهة، وينبغي ألا يمتنع من الصدقة بالقليل احتقاراً له. ويسن أن يدفعها بطيب نفس، وأن يتصدق بما يحبه، ويتأكد بالماء، ويحرم المن بها، فإذا من بها .. بطل ثوابها، وتحل لغني وكافر. قال في "الروضة": ويستحب للغني التنزه عنها، ويكره له التعرض لها، وفي "البيان": يحرم عليه أخذها مظهراً للفاقة، قال: وهو حسن، وعليه حمل قوله صلى الله عليه وسلم في الذي مات من أهل الصفة، فوجدوا له دينارين: "كيتان من نار". قال: وأما سؤالها .. فقال الماوردي وغيره: إن كان محتاجاً .. لم يحرم، وإن كان غنياً بمال أو صنعة .. فحرام وما يأخذه حرام، ومن تصدق بشيء .. كره له أن يتملكه من جهة من

دفعه إليه بمعاوضة أو هبة، ولا بأس بملكه منه بالإرث، ولا يتملكه من غيره. قول الناظم: (وهو) أي: التصدق بما احتاج إليه عياله الذين تلزمه مؤنتهم .. حرام، وكذا يحرم عليه التصدق بما يحتاجه لدين لا يرجو له وفاء؛ لأن كلا منهما حق واجب فلا يترك لسنة، فإن رجا وفاءه من جهة أخرى واستند ذلك إلى سبب ظاهر .. فلا بأس بالتصدق، أما التصدق بما يحتاجه لمؤنة نفسه .. فصحح في "الروضة": عدم استحبابه، وفي "المجموع": تحريمه. قوله: (وفاضل الحاجة) أي: حاجة دينه ومؤنة نفسه وممونه .. فيه؛ أي: في التصدق به أجر لمن له على اضطرار صبر بلا مشقة؛ لقضية الصديق في التصدق بجميع ماله وقبول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه، صححه الترمذي، فإن شق عليه الصبر على الاضطرار والفاقة .. فليس له في التصدق به أجر؛ لأنه غير مستحب حينئذ، بل هو مكروه، أما قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" .. فالمراد به: غنى النفس وصبرها على الفقر. قال بعض المتأخرين: والظاهر أن المراد بـ (ما يحتاجه): ما يلزمه من نفقة ليومه وكسوة لفصله، لا ما يلزمه في الحال فقط، ولا ما يلزمه في سنة بأن يدخر قوتها ويتصدق بالفاضل.

باب الصيام

باب الصيام هو لغة: الإمساك، قال تعالى: {فقولى إنى نذرت للرحمن صوماً} أي: إمساكاً عن الكلام. وشرعاً: إمساك عن الفطر على وجه مخصوص. والأصل في وجوبه قبل الإجماع مع ما يأتي: آية: {كتب عليكم الصيام}، وخبر: "بني الإسلام على خمس"، وفرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة. [ما يجب به صوم رمضان] وقد ذكر الناظم ما يجب به صوم رمضان فقال: (يجب صوم رمضان بأحد ... أمرين: باستكمال شعبان العدد) (أو رؤية العدل هلال الشهر ... في حق من دون مسير القصر) أي: يجب صوم رمضان بأحد أمرين: إما باستكمال شعبان العدد وهو ثلاثون يوماً؛ لخبر البخاري: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم .. فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". وإما برؤية العدل الواحد هلال الشهر المذكور؛ لقول ابن عمر: (أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيت الهلال، فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داوود، وصححه ابن حبان، والمعنى في ثبوته بالواحد: الاحتياط للصوم، وطريقه الشهادة لا الرواية؛ فتشترط فيه صفة الشهود، والأداء عند القاضي، لكن صحح في "المجموع": الاكتفاء بظاهر العدالة؛ وهو الذي لم يزك، واستشكل بتصحيحهما أنه شهادة، ولهذا تشترط صيغتها، ويجب العدد في الشهادة على الشهادة به؛ كما صححه في "المجموع" وإن لم تتوقف على

الدعوى؛ لكونها شهادة حسبة، وأما اختصاصها بمجلس القاضي .. فقد جزم به صاحب "الأنوار" وابن المقري، وكذا الإسنوي؛ تفريعاً على كونها شهادة كما قررته فيما مر. قال الشيخان: وفرع الإمام وابن الصباغ على كونها رواية وجوب الصوم على من أخبره موثوق به بالرؤية وإن لم يذكره عند القاضي. وقالت طائفة منهم ابن عبدان والغزالي والبغوي: يجب إذا اعتقد صدقه، ولم يفرعوه على شيء، ومثله في "المجموع" بزوجته وجاريته وصديقه، وظاهر كلامه: ترجيح الثاني، وصرح به في "الخادم". ويكفي الشاهد أن يقول: (أشهد أني رأيت الهلال)، كما صرح به جماعة، منهم الرافعي في (صلاة العيد)، خلافاً لابن أبي الدم قال: لأنها شهادة على فعل نفسه. وخرج بـ (رمضان): غيره؛ فلا يثبت بواحد، وبـ (الصوم): غيره؛ كوقوع ما علق من طلاق ونحوه بالهلال وحلول الدين به؛ فلا يثبت بواحد في حق غير الرائي. قال الرافعي: ولو قيل: هلا يثبت ضمناً كما يثبت شوال بثبوت رمضان بواحد، والنسب والإرث بثبوت الولادة بالنساء؟ .. لأحوج إلى الفرق، وفرق هو في (الشهادات): بأن الضمني في هذه الأمور لازم للمشهود به، بخلاف الطلاق ونحوه. واشتراط العدلة محله: في ثبوت الشهر في حق غير الرائي، أما الرائي .. فيجب عليه الصوم وإن لم يكن عدلاً، قال الأذرعي: والأمارة الظاهرة الدلالة في حكم الرؤية مثل: أن يرى أهل القرى القناديل المعلقة بمنابر المصر ليلة الثلاثين من شعبان كما هو العادة. وخرج بـ (أحد الأمرين): ما لو عرفه حاسب أو منحم؛ فلا يلزم به الصوم، ولا يجوز كما نقله ابن الصلاح وغيره عن الجمهور، لكن صحح في "المجموع": أنه يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما، قال الإسنوي: وهو بعيد مخالف لكلامهم، ولما جزم به في "الكفاية" نقلاً عن الأصحاب من الإجزاء. انتهى، وصوبه السبكي.

وقد قال الشيخان في بحث النية: يدخل في قسم استناد الاعتقاد إلى ما يثير ظناً بناء الأمر على الحساب حيث جوزناه. وخرج به أيضاً: ما لو عرفه أحد في منامه بقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصح الصوم به بالإجماع؛ لاختلال ضبط الرائي، لا للشك في الرؤية. قال السبكي في "بيان الأدلة في إثبات الأهلة": إذا دل الحساب على عدم إمكان الرؤية، وذلك يدرك بمقدمات قطعية .. ففي هذه الحالة لا يمكن تقدير الرؤية؛ لاستحالتها، فمن شهد بها .. رددنا شهادته؛ لأن من شرط البينة: إمكان المشهود به حساً وعقلاً وشرعاً، وفي مثل هذا ينقض قضاء القاضي. انتهى. وتبعه عليه ابن العراقي وغيره. لكن توقف الأذرعي في موافقة الأصحاب له فيما إذا شهد عدلان بالرؤية وقال أهل الحساب: لا تمكن. ولا يكره ذكر رمضان بغير شهر، كما صوبه في "المجموع". وإذا ثبت رمضان برؤية الهلال بمكان .. ثبت في حق من قرب منه دون من بعد؛ لماا روى مسلم عن كريب قال: (رأيت الهلال بالشام ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة، فقال ابن عباس: متى رأيتم الهلال؟ قلت: ليلة الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم؛ ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقياساً على طلوع الفجر والشمس وغروبها. وقد نبه على القريب بقوله: (في حق من دون مسير القصر) أي: مسافته من محل الرؤية؛ لأن من بدونها كالحاضر بدليل القصر والفطر وغيرهما، بخلاف من فوقه، وهذا ما قطع به البغوي والغزالي وغيرهما، وادعى الإمام الاتفاق عليه، وصححه الرافعي في "المحرر"، و "الشرح الصغير"، والنووي في "شرح مسلم"، وصحح في بقية كتبه اعتبار اتحاد

المطالع؛ إذ لا تعلق للرؤية بمسافة القصر؛ فيثبت حكمه في حق من بمكان اتحد مطلعه بمطلع مكان الرؤية دون غيره، فإن شك في اتحاده .. فلا وجوب؛ لأن الأصل عدمه. قال السبكي: ومع الاختلاف قد تستلزم الرؤية بأحد المكانين الرؤية بالآخر بدون العكس؛ إذ دخول الليل بالشرق قبل دخوله بالغرب، فتستلزم رؤيته شرقاً رؤيته غرباً بدون العكس، فرؤيته بالشام لكونها غربية بالنسبة للمدينة لا تستلزم رؤيته بالمدينة. وإذا صمنا بعدل، ولم نر الهلال بعد ثلاثين .. أفطرنا في الأصح وإن كانت السماء مصحية؛ لكمال العدة؛ إذ الشيء يثبت ضمناً بما لا يثبت به أصلاً؛ بدليل ثبوت النسب والإرث ضمناً للولادة بشهادة النساء عليها كما مر. ومن سافر من بلد الرؤية إلى البلد البعيد .. فالأصح: أنه يوافقهم في الصوم آخراً؛ لأنه صار منهم، ومن سافر من البلد الآخر إلى بلد الرؤية .. عيد معهم، وقضى يوماً إن لم يصم إلا ثمانية وعشرين، وإلا .. فلا قضاء عليه. ومن أصبح معيداً؛ فسارت سفينته إلى بلدة بعيدة أهلها صيام .. فالأصح: أنه يمسك بقية اليوم، وتتصور المسألة: بأن يكون ذلك اليوم يوم الثلاثين من صوم أهل البلدين، لكن المنتقل إليهم لم يروه، وبأن يكون التاسع والعشرين من صومهم؛ لتأخر ابتدائه بيوم. ورؤية الهلال نهاراً لا أثر لها. ومن انفرد برؤية هلال شوال .. لزمه مقتضاها وأخفى فطره؛ لئلا يتهم، ولا تقبل شهادته بعده؛ لتهمة دفع تعزيره، بخلاف ما لو شهد فردت شهادته ثم أكل .. لا يعزر؛ لعدم التهمة حالة الشهادة. [شروط وجوب الصوم] وقد ذكر الناظم من يجب عليه صوم رمضان بقوله: (وإنما الفرض على شخص قدر ... عليه مسلم مكلف طهر) أي: إنما فرض صوم رمضان على شخص قدر عليه، مسلم مكلف؛ أي: بالغ عاقل،

طهر عن الحيض والنفاس، بخلاف العاجز عنه؛ لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فلا يجب عليه، وتجب عليه الفدية كما سيأتي، وبخلاف الكافر؛ فلا يجب عليه وجوب مطالبة به في الدنيا؛ لعدم صحته منه، لكن يجب عليه وجوب عقاب عليه في الآخرة؛ لتمكنه من فعله بالإسلام، ولا قضاء عليه إذا أسلم؛ ترغيباً له في الإسلام. ويلزم المرتد إذا عاد إلي الإسلام قضاء ما فاته في زمن الردة، حتى زمن جنونه أو إغمائه فيها؛ لالتزامه بالإسلام، ويلزم القضاء من تعدى بسكره، ويخالف الصبي والمجنون؛ لعدم تكليفهما. ويؤمر به الطفل لسبع إذا أطاقه وميز، ويضرب على تركه لعشر كالصلاة، وبخلاف الحائض والنفساء؛ لعدم صحة الصوم منهما، ويجب عليهما قضاء ما فاتهما في زمن الردة والسكر. [شروط صحة الصوم] (وشرط نفل: نية للصوم ... قبل زوالها لكل يوم) (وإن يكن فرضاً شرطنا نيه ... قد عينت من ليله مبيته) (وبانتفاء مفطر الصيام ... حيض نفاس ردة الإسلام) (جنون كل اليوم لكن من ينام ... جميع يومه فصحح الصيام) (وإن يفق مغمى عليه بعض يوم ... ولو لحيظة- يصخ منه صوم) (وكل عين وصلت مسمى ... جوف بمنفذ وذكر صوما) (كالبطن والدماغ ثم المثن ... ودبر وباطن من أذن) (والعمد للوطء وباستقاء ... أو أخرج المني باستمناء) ذكر في هذه الأبيات: أن شرط صحة الصوم أمران: النية، وانتفاء المفطر؛ يعني: أنه لابد للصوم منهما، وإلا .. فهما ركنان له. أي: وشرط صحة صوم النفل: نية للصوم بالقلب؛ كالصلاة، ولخبر: "إنما الأعمال بالنيات"، قبل زوال الشمس، وأعاد الضمير عليها وإن لم يتقدم لها ذكر؛ للعلم بها، لكل

يوم، وإن لم ينو ليلاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوماً: "هل عندكم من غداء؟ " قالت: لا، قال: "فإني إذن أصوم"، قالت: وقال لي يوماً آخر: "أعندكم شيء؟ "، قلت: نعم، قال: "إذن أفطر، وإن كنت فرضت الصوم" رواه الدارقطني، وصحح إسناده. واختص بما قبل الزوال؛ للخبر؛ إذ (الغداء) بفتح الغين: اسم لما يؤكل قبل الزوال، و (العشاء): اسم لما يؤكل بعده، ولأنه مضبوط بين، ولإدراك معظم النهار به؛ كما في ركعة المسبوق، وهذا جري على الغالب ممن يريد صوم النفل، وإلا: فلو نوى قبل الزوال وقد مضى معظم النهار .. صح صومه، والأصح: أن صومه من أول النهار، حتى يثاب على جميعه؛ إذ صوم اليوم لا يتبعض؛ كما في الركعة بإدراك الركوع؛ فلا بد من اجتماع الشرائط أوله، ولو كان قد تمضمض ولم يبالغ، وسبقه الماء .. صحت النية بعده. وإنما اشترطت النية لكل يوم؛ لأنه عبادة؛ لتخلل اليومين ما يناقض الصوم؛ كالصلاتين يتخللهما السلام. قوله: (وإن يكن فرضاً) أي: وإن يكن صومه فرضاً رمضان أو غيره .. شرطنا نية الفرض حالة كونها قد عينت؛ كقوله: (من رمضان) كما في الصلاة، وكمال التعيين فيه: أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى، وفي الأداء والفرضية والإضافة إلى الله تعالى الخلاف المذكور في الصلاة، لكن صحح في "المجموع": أن رمضان لا تشترط فيه نية الفرضية، فلو أطلق النية؛ كما لو اقتصر على نية صوم الغد .. لم يصح، وكذا لو أخطأ في التعيين فنوى في رمضان قضاء أو كفارة. ولا يشترط تقييد رمضان بالسنة أو الشهر؛ لإغناء التبييت عنه، بل لو أخطأ في صفة المعين فنوى الغد وهو الأحد بظن الإثنين، أو رمضان سنته وهي سنة اثنتين بظن سنة ثلاث .. صح، بخلاف ما لو نوى الأحد ليلة الإثنين، أو رمضان سنة اثنتين في سنة ثلاث؛ لأنه لم يعين الوقت. وينبغي اشتراط التعيين في النفل المؤقت، وماله سبب؛ كالصلاة، بحث الأول في "المجموع"، والثاني في "المهمات"، وأجيب عن الأول بأن الصوم في الأيام المتأكد

صومها منصرف إليها، بل لو نوى به غيرها .. حصلت أيضاً كتحية المسجد؛ لأن المقصود: وجود صوم فيها. ولو كان عليه قضاء رمضانين فنوى صوم غد عن قضاء رمضان .. جاز وإن لم يعين أنه عن قضاء أيهما؛ لأنه كله جنس واحد، قاله القفال في "فتاويه". قال: وكذا إذا كان عليه صوم نذر من جهات مختلفة فنوى صوم النذر .. جاز وإن لم يعين نوعه، وكذا الكفارات. قوله: (من ليله) أي: شرطنا نية الفرض مبيتة من ليل كل يوم وإن كان الناوي صبياً؛ لخبر: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر .. فلا صيام له" رواه الدارقطني وغيره وصححوه، وهو محمول على الفرض بقرينة خبر عائشة السابق، فلا تجزاء النية مع طلوع الفجر؛ لظاهر الخبر. ولا تحتص بالنصف الأخير من الليل؛ لإطلاقه، والصحيح: أنه لا يضر الأكل والجماع، وأنه لا يجب تجديدها إذا نام ثم تنبه قبل الفجر، ولو شك في تقدمها على الفجر .. لم يصح صومه؛ لأن الأصل عدم التقديم. نعم؛ إن تذكر ولو بعد مضي أكثر النهار .. صح، وكذا لو نوى ثم شك: أطلع الفجر أم لا؟ ولو علم أن عليه صوماً وجهل عينه، فنوى صوماً واجباً .. صح؛ للضرورة كنظيره من الصلاة. وأفاد قوله: (من ليله): عدم الاكتفاء بنية واحدة من أول الشهر. ولو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد عن رمضان إن كان منه، فكان منه وصامه .. لم يقع عنه؛ للشك في أنه منه حال النية؛ فليست جازمة، إلا إذا اعتقد كونه منه بقول من يثق به؛ كعبد وامرأة .. فإنه يقع عنه؛ لظن أنه منه حال النية، وللظن في مثل هذا حكم اليقين؛ فتصح النية المبنية عليه. ولو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد عن رمضان إن كان منه .. أجزأه إن كان منه؛ لأن الأصل بقاء رمضان. ولو اشتبه رمضان على نحو محبوس .. صام شهراً بالاجتهاد، ولا يكفيه صوم شهر بلا اجتهاد وإن وافق رمضان، فإن وافق صومه بالاجتهاد رمضان .. فذاك واضح، وإن وافق

ما بعده .. أجزأه وهو قضاء على الأصح؛ لأنه بعد الوقت، فلو نقص وكان رمضان تاماً .. لزمه يوم آخر، ولو كان الأمر بالعكس .. فله إفطار اليوم الأخير إذا عرف الحال، ولو وافق صومه شوالاً .. حصل منه تسعة وعشرون إن كمل، وثمانية وعشرون إن نقص؛ فإن كان رمضان ناقصاً .. فلا شيء عليه على التقدير الأول، ويقضي يوماً على التقدير الثاني، وإن كان كاملا .. قضى يوماً على التقدير الأول، ويومين على التقدير الثاني، ولو وافق صومه ذا الحجة .. حصل منه ستة وعشرون يوماً إن كمل، وخمسة وعشرون يوماً إن نقص، فإن كان رمضان ناقصاً .. قضى ثلاثة أيام على التقدير الأول، وأربعة على التقدير الثاني، وإن كان كاملاً .. قضى أربعة على التقدير الأول، وخمسة على التقدير الثاني. ولو غلط بالتقدير وأدرك رمضام بعد بيان الحال .. لومه صومه، ولو أدرك بعضه .. لزمه صومه، فإن لم يتبين له الحال إلا بعد رمضان .. وجب عليه قضاؤه. ولو نوت الحائض صوم غد قبل انقطاع دمها، ثم انقطع ليلاً .. صح صومها بهذه النية؛ إن تم لها في الليل أكثر الحيض مبتدأة كانت أو معتادة بأكثره، وكذا إن تم لها قدر عادتها التي هي دون أكثر الحيض .. فإنه يصح صومها بتلك النية في الأصح؛ لأن الظاهر استمرار عادتها، وإن لم يتم لها ما ذكر .. لم يصح صومها بتلك النية؛ لعدم بنائها على أصل، وكذا لو كانت لها عادات مختلفة. [شروط الصوم من حيث الفاعل] قوله: (وبانتفاء مفطر الصيام) أي: وشرط الصوم كائن بانتفاء مفطر الصيام، ثم بين الفطر، بقوله: (حيض نفاس ردة الإسلام جنون كل يوم) فعلم أن شرط الصوم من حيث الفاعل: النقاء عن الحيض والنفاس؛ أي: والولادة بلا بلل؛ فلا يصح صوم الحائض والنفساء ومن ولدت، والإسلام؛ فلا يصح صوم الكافر، أصلياً كان أو مرتداً، والعقل؛ أي: التمييز؛ فلا يصح صوم غير المميز من صبي ومجنون كل اليوم؛ أي: يوم الصوم؛ فلو حاضت أو نفست أو ولدت أو ارتد أو جن في أثناء اليوم .. بطل صومه كالصلاة. قوله: (لكن من ينام جميع يومه فصحح الصيام) أي: صيامه؛ لبقاء أهليته للخطاب، بخلاف المغمى عليه؛ إذ النائم يتنبه إذا نبه؛ ولهذا يجب قضاء الصلاة الفائتة به دون الفائتة بالإغماء. وقوله: (فصحح) يصح كونه فعل أمر، أو ماضياً مبنياً للمفعول.

[حكم الإغماء أثناء الصوم] قوله: (وإن يفق مغمى عليه بعض يوم ولو لحيظة يصح منه صوم) أي: إتباعاً بزمن الإغماء زمن الإفاقة؛ فجعلوا الإغماء لقصوره عن الجنون وزيادته على النوم بينهما في الحكم، فإن لم يفق .. لم يصح صومه. وقوله: (لحيظة) تصغير لحظة. وفي "الروضة" و "أصلها": لو شرب دواء ليلاً، فزال عقله نهاراً .. ففي "التهذيب": إن قلنا: لايصح الصوم في الإغماء .. فهنا أولى، وإلا .. فوجهان، والأصح: أنه لا يصح؛ لأنه بفعله، ولو شرب المسكر ليلاً، وبقي سكره جميع النهار .. لزمه القضاء، وإن صحا في بعضه .. فهو كالإغماء في بعض النهار، قاله في "التتمة". انتهى. وقال القفال في "فتاويه": إنه يصح صومه مطلقاً؛ لأنه مخاطب، بدليل وجوب القضاء عليه، فهو شبيه بالنائم، بخلاف المغمى عليه. [شرط الصوم من حيث الفعل] قوله: (وكل عين) عطف على قوله: (حيض) أي: وشرط الصوم من حيث الفعل كائن بانتفاء كل عين وصلت من الظاهر وإن لم تؤكل عادة كحصاة، وإلى مسمى جوف؛ وإن لم يحل الغذاء أو الدواء؛ لخبر البيهقي بإسناد حسن أو صحيح عن ابن عباس قال: (إنما الفطر مما دخل وليس مما خرج) أي: الأصل ذلك، بمنفذ بفتح الفاء مفتوح؛ فلا يضر وصول الدهن إلي الجوف بتشرب المسام، كما لو طلى رأسه أو بطنه به، كما لا يضر اغتساله بالماء وإن وجد له أثراً في باطنه، ولا يضر الاكتحال وإن وجد طعم الكحل بحلقه؛ لأنه لا منفذ من العين إلى الحلق والواصل إليه من المسام. والباء قوله: (بمنفذ) بمعنى (في) أو (من) أو سببية. قوله: (وذكر صوماً) أي: فلا يفطر بالأكل ناسياً وإن كثر؛ لخبر "الصحيحين": "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب .. فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه"، وفي رواية صحيحة: "ولا قضاء عليه".

ويشترط أيضاً: كونه مختاراً، فلا يفطر بالأكل مكرهاً عليه وإن كثر كالناسي. ويشترط أيضاً: قصده وصول العين جوفه؛ فلا يضر الإيجار والطعن في الجوف بلا اختيار وإن تمكن من دفع الطاعن على أقيس الوجهين في "المجموع" إذ لا فعل له، ولا وصول ذباب وغربلة دقيق، وغبار طريق؛ لعسر تجنبها، بل لو تعمد فتح فيه للغبار حتى وصل جوفه .. لم يضر على الأصح؛ لأنه معفو عن جنسه؛ نقله الشيخان عن البغوي وأفتى به النووي، قال في "المجموع" تبعاً للرافعي: وشبهوه بالخلاف في العفو عن دم البراغيث المقتولة عمداً. انتهى. ولو خرجت مقعدة المبسور ثم عادت .. لم يفطر، وكذا إن أعادها على الأصح؛ لاضطراره إليه، كما لا يبطل طهر المستحاضة بخروج الدم؛ ذكره البغوي والخوارزمي. والجوف المذكور؛ كالبطن، والدماغ، ثم المثن- بضم الميم والثاء المثلثة-: جمع مثانة بالمثلثة؛ وهي مجمع البول، ودبر، وباطن الأذن، ووصول العين إلى الأول يحصل بأكل أو شرب أو جائفة، وإلى الثاني باستعاط أو مأمومة أو دامغة، وإلى الثالث بالتقطير في الإحليل وإن لم يجاوز الحشفة، وإلى الرابع بحقنة أو نحوها، وإلى الخامس بنحو التقطير. ويشترط أيضاً كونه عالماً بالتحريم؛ فلا يفطر بالأكل جاهل تحريمه؛ لقرب إسلامه أو نشأته ببادية بعيدة عن العلماء؛ كما في "الروضة" و"أصلها" و "المجموع"، وفي "الشرح الصغير": أنه كالناسي. ولا يفطر ببلغ ريقه من معدنه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه؛ فلو خرج عن فمه لأعلى لسانه ثم رده إليه وابتلعه، أو بل خيطاً بريقه ورده إلى فمه كما يعتاد عند الفتل أو الغزل- وعليه رطوبة تنفصل وابتلعها، أو ابتلع ريقه مخلوطاً بغيره أو متنجساً .. أفطر. ولو سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى جوفه من باطن أو دماغ .. فالمذهب: أنه إن بالغ .. أفطر؛ لأنه منهي عن المبالغة، وإن لم يبالغ .. لم يفطر؛ لأنه متولد من مأمور به بغير اختياره، ولو سبق من الرابعة مثلاً .. فنقلا عن البغوي أنه: إن بالغ .. أفطر، وإلا .. ترتب على الغسلة المشروعة، وأولى بالفطر، زاد النووي: المختار: الجزم بالفطر.

قال السبكي: وهو متعين، وغسل الفم من النجاسة كالمضمضة. قال الرافعي: والمبالغة هنا للحاجة ينبغي أن تكون كالمضمضة بلا مبالغة، وجزم به في "الشرح الصغير"، وقال في "المجموع": هو متعين. [من شروط الصوم انتفاء الوطء عمداً والاستقاءة] قوله: (والعمد للوطء) أي: وشرط الصوم انتفاء الوطء عمداً؛ فيفطر بالوطء عمداً ولو بغير إنزال بالإجماع؛ ولقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}، و (الرفق): الجماع؛ فلا يفطر بالوطء ناسياً؛ أي: أو مكرهاً عليه، أو جاهلاً تحريمه بشرطه المار. قوله: (وباستقاء) أي: تكلف القيء، فيفطر بعمده وإن لم يعد منه شيء إلى جوفه؛ قوله مفطر لعينه لا لعود شيء منه، بخلاف سهوه؛ كالأكل سهواً، وبخلاف غلبة القيء؛ لخبر: "من ذرعه القيء وهو صائم .. فليس عليه قضاء، ومن استقاء .. فليقض" رواه الترمذي، وحسنه وابن حبان وصححه. ولو اقتلع نخامة ولفظها .. لم يفطر في الأصح؛ لأن الحاجة إليه مما يتكرر، فيرخص فيه؛ فلو نزلت من دماغه وحصلت في حد الظاهر من الفم .. فليقطعها من مجراها وليمجها، فإن تركها مع القدرة على ذلك، فوصلت الجوف .. أفطر في الأصح؛ لتقصيره، ولو لم تحصل في حد الظاهر من الفم، أو حصلت فيه، ولم يقدر على مجها وقطعها .. لم يضر. قال الغزالي: ومخرج الحاء المهملة من الباطن، والخاء المعجمة من الظاهر. قال الرافعي: وهو ظاهر؛ لأن المهملة تخرج من الحلق والحلق باطن، والمعجمة تخرج مما يلي الغلصمة، قال: ويشبه أن يكون قدر مما بعد مخرج الحاء من الظاهر أيضاً. قال النووي: والمختار: أن المهملة أيضاً من الظاهر، وعجيب ضبطه بها، وهي من وسط الحلق، لا بالهاء والهمزة التي كل منهما من أقصاه، وأما المعجمة .. فمن أدناه. انتهى.

[الفطر بإخراج المني] قوله: (أو أخرج المني باستمناء) أي: وهو تعمد إخراج المني بغير جماع فيفطر به إذا كان مختاراً عالماً بتحريمه ولو كان بنحو: قبلة ولمس ومباشرة فيما دون الفرج؛ لأنه إذا أفطر بالوطء بال إنزال، فبالإنزال بمباشرة فيها نوع شهوة أولى، بخلاف خروج المني بنظر أو فكر، أو ضم المرأة إلى نفسه بحائل وإن تكررت الثلاثة بشهوة؛ إذ لا مباشرة كالاحتلام، مع أنه يحرم تكريرها وإن لم ينزل. ولو لمس شعرها فأنزل .. قال في "المجموع": قال المتولي: ففي فطره وجهان؛ بناء على انتقاض الوضوء بلمسه. قال: ولو حك ذكره لعارض فأنزل .. لم يفطر على الأصح؛ لتولده من مباشرة مباحة. ولو قبلها وفارقها ساعة ثم أنزل .. فالأصح: إن كانت الشهوة مستصحبة والذكر قائماً .. أفطر، وإلا .. فلا؛ قاله في "البحر". قال: فلو أنزل بلمس عضوها المبان .. لم يفطر. هذا كله في الواضح، أما المشكل .. فلا يضر وطؤه وإمناؤه بأحد فرجيه؛ لاحتمال زيادته، جزم به في "المجموع" في (باب ما ينقض الوضوء) بالنسبة إلى الإمناء. (وسن مع علم الغروب يفطر ... بسرعة، وعكسه التسحر) (والفطر بالماء لفقد التمر ... وغسل من أجنب قبل الفجر) (ويكره العلك وذوق واحتجام ... ومج ماء عند فطر من صيام) (أما استياك صائم بعد الزوال ... فاختير: لم يكره، ويحرم الوصال) فيها ثلاث مسائل: [سنن الصوم] الأولى: في سنن الصوم: سن لصائم فرضاً أو نفلاً مع علمه بغروب الشمس .. إفطاره بسرعة بتناول المأكول أو المشروب، وإلا .. فهو قد أفطر بالغروب؛ لخبر "الصحيحين":

"لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"، وفي "ثقات ابن حبان" بإسناد صحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان صائماً .. لم يصل حتى نأتيه برطب وماء فيأكل، وإذا كان الشتاء .. لم يصل حتى نأتيه بتمر وماء). وخرج بقوله: (مع علم الغروب يفطر): ظنه؛ فلا يسن إسراع الفطر به، ولكنه يجوز، والشك فيه؛ فيحرم به. ويسن له: السحور؛ لخبر "الصحيحين": "تسحروا، فإن في السحور بركة"، ولفظ الحاكم في "صحيحه": "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار، وبقيلولة النهار على قيام الليل". و(السحور) بفتح السين: المأكول في السحر، وبضمها: الأكل حينئذ. قال في "الروضة" كـ"أصلها": ويدخل وقته بنصف الليل، ويحصل بقليل المطعوم وكثيره؛ لخبر ابن حبان في "صحيحه": "تسحروا ولو بجرعة ماء". ويسن له: تأخير السحور مع علمه ببقاء الليل؛ لخبر الإمام أحمد: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور"، وخرج بـ (علم بقاء الليل): ظنه والشك فيه؛ فالأفضل تركه، قاله في "المجموع". ويسن له أيضاً: الفطر بالتمر، فإن فقده .. فبالماء؛ لخبر: "إذا كان أحدكم صائماً .. فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر .. فعلى الماء؛ فإنه طهور" صححه الترمذي وابن حبان، والحاكم وقال: على شرط الشيخين؛ ولخبر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يكن .. فعلى تمرات، فإن لم يكن .. حسا حسوات

من ماء) رواه أبو داوود والترمذي، وحسنه، و (الحسو) بالضم: ملء الفم. وقضيته: تقديم الرطب على التمر، وجرى عليه جماعة، وأن السنة تثليث ما يفطر عليه، وهو قضية نص الشافعي رضي الله تعالى عنه في "حرملة"، وجماعة من الأصحاب، وهو محمول على كمال السنة، وتعبير جماعة بـ (تمرة): محمود على أصل السنة، قال المحب الطبري: والقصد بذلك ألا يدخل جوفه أولاً ما مسته النار. ويسن الغسل قبل الفجر لمن أجنب؛ أي: أو انقطع حيضها أو نفاسها ليلاً؛ ليؤدي العبادة من أولها على الطهارة، ولا يفسد بتأخيره الصوم؛ لقوله تعالى: {فالئن بشروهن} الآية؛ ولخبر "الصحيحين": (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم)، زاد مسلم: (ولا يقضي)، وأما خبر البخاري عن أبي هريرة: "من أصبح جنباً .. فلا صوم له" .. فحملوه على من أصبح مجامعاً واستدام الجماع، وقال ابن المنذر: أحسن ما سمعت في حديث أبي هريرة أنه منسوخ؛ لأن الجماع كان محرماً في أول الإسلام على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله تعالى الجماع إلى طلوع الفجر .. جاز للجنب الصوم إذا أصبح قبل الاغتسال. ومن سنن الصوم: أن يقول عند فطره: (اللهم؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت)، وأن يصون لسانه عن قبيح الكلام؛ كالكذب والغيبة والنميمة والمشاتمة ونحوها؛ لخبر البخاري: "من لم يدع قول الزور والعمل به .. فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". وترك الشهوات التي لا تبطل الصوم؛ كشم الرياحين والنظر إليها ولمسها؛ لما في ذلك من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم. وأن يحترز عن القبلة إن لم تحرك شهوته، وإلا .. فهي حرام. وأن يكثر الصدقة وتلاوة القرآن في رمضان، وأن يعتكف فيه لاسيما في العشر الأواخر منه؛ لخبر "الصحيحين" عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهور رمضان، إن جبريل كان يلقاه في كل سنة في رمضان، حتي ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن)، وفي رواية: (وكان يلقاه

في كل ليلة)، ولخبرهما عن ابن عمر: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله)، وفي رواية للبخاري: (كان يعتكف في كل رمضان). [مكروهات الصوم] الثانية: يكره للصائم أشياء، منها: العلك بفتح العين؛ أي: مضغه؛ لأنه يجمع الريق، فإن ابتلعه .. أفطر في وجه، وإن ألقاه .. عطشه. وكذلك يكره مضغ الخبز وغيره، إلا أن يكون له طفل ليس له من يمضغ له، أو يمضغ التمر ليحنك به المولود؛ فلا يكره للحاجة. وذوق الطعام أو غيره؛ خوف وصوله إلى حلقه. والحجامة؛ أي: والفصد؛ لأنهما يضعفانه، وللخروج من الخلاف في الفطر بهما، وأما خبر أبي داوود: "أفطر الحاجم والمحجوم" .. فأجابوا عنه: بأنه منسوخ بخبر البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم)، وبأن خبر البخاري أصح، ويعضده أيضاً القياس، وبأن المعنى: أنهما تعرضا للإفطار؛ المحجوم للضعف، والحاجم؛ لأنه لا يأمن أن يصل شيء إلى جوفه بمص المحجمة؛ وبأنهما كانا يغتابان في صومهما؛ كما رواه البيهقي في بعض طرقه، والمعنى: أنه ذهب أجرهما، وما تقرر من كراهتهما .. هو ما جزم به في "الروضة" و"أصلها"، لكن جزم في "المجموع" بأنهما خلاف الأولى، قال الإسنوي: وهو المنصوص وقول الأكثرين، فلتكن الفتوى عليه، وهو مقتضى كلام

"المنهاج" و"أصله"، وجزم المحاملي بأنه: يكره أن يحجم غيره أيضاً. ويكره له أن يتمضمض بماء ويمجه عند فطره، وأن يشربه ويتقأياه إلا لضرورة، نقلهما النووي في "مجموعه" عن صاجب "البيان"، ثم قال: وكأنه شبيه بالسواك للصائم بعد الزوال؛ لكونه يزيل الخلوف، قال الزركشيك وهذا إنما يأتي إذا قلنا: إن كراهة السواك لا تزول بالغروب، والأكثرون على خلافه. انتهى. وكره بعضهم أن يتمضمض للعطش ويمجه، والسواك للصائم بعد الزوال مكروه وإن كان صومه نفلاً؛ لخبر "الصحيحين": "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، وقد تقدم إيضاحه في (باب السواك). وما تقرر من كراهة السواك للصائم بعد الزوال هو المشهور، لكم نقل الترمذي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه: أنه لا يكره مطلقاً، وبه قال المزني، واختاره جماعة؛ منهم النووي وابن عبد السلام وأبو شامة. [حرمة الوصال في الصوم] الثالثة: يحرم الوصال في الصوم نفلاً كان أو فرضاً؛ للنهي عنه في "الصحيحين"، وهو: أن يصوم يومين فأكثر ولا يتناول في الليل مطعوماً عمداً بلا عذر؛ ذكره في "المجموع"، ومقتضاه: أن الجماع ونحوه لا يمنع الوصال، قال في "المهمات": وهو ظاهر المعنى؛ لأن تحريم الوصال للضعف وترك الجماع ونحوه لا يضعف بل يقوي، لكن قال في "البحر": هو أن يستديم جميع أوصاف الصائمين، وذكر الجرجاني وابن الصلاح نحوه، قال: وتعبير الرافعي: (بأن يصوم يومين). يقتضي أن المأمور بالإمساك كتارك

النية؛ لا يكون امتناعه ليلاً من تعاطي المفطر وصالاً؛ لأنه ليس بين صومين، إلا أن الظاهر: أنه جري على الغالب. انتهى. وقول الناظم: (يفطر) تقديره: أن يفطر؛ كما في: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه). (وسنة صيام يوم عرفة ... إلا لمن في الحج حيث أضعفه) (وست شوال، وبالولاء ... أولى، وعاشورا وتاسوعاء) (وصوم الاثنين، كذا الخميس مع ... أيام بيض، وأجز لمن شرع) (في النفل أن يقطعه بلا قضا ... ولم يجز قطع لما قد فرضا) فيها ثلاث مسائل: [ما يسن صومه من الأيام] الأولى: يسن صيام يوم عرفة لغير الحاج، وهو التاسع من ذي الحجة، قال (صلى الله عليه وسلم): «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» رواه مسلم، وفيه تأويلان: أحدهما: أن الله تعالى يغفر ذنوب سنتين. وثانيهما: أن الله تعالى يعصمه في هاتين السنتين عن المعصية، والمعنى في تكفير هذا سنتين: أن الله تعالى اختص بصيامه هذه الأمة؛ فأكرموا بتكفير سنتين، بخلاف عاشوراء؛ فإنه شاركهم فيه الأمم قبلهم. قال الإمام: والمكفر: الصغائر، ويوم عرفة أفضل أيام السنة. أما الحاج ... فلا يسن له صيام يوم عرفة، بل يسن له فطره. وأفهم قوله: (حيث أضعفه): أن صومه إذا لم يضعفه عن الدعاء وأعمال الحاج .. يسن، وهو وجه، والأصح: أنه يسن له فطره وإن كان قويا؛ للإتباع، رواه الشيخان، وليقوى

على الدعاء، فصومه له خلاف الأولى، وقيل: مكروه؛ لخبر أبي داوود: (أنه (صلى الله عليه وسلم) نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة)، وضعف بأن في إسناده مجهولاً. وفي «نكت التنبيه» للنووي: أنه يسن صومه لحاج لم يصل عرفة إلا ليلاً؛ لفقد العلة، وهذا محمول على غير المسافر، أما المسافر .. فيسن له فطره مطلقاً كما نص عليه الشافعي، نقله في «المهمات». ويسن صوم ثامن الحجة؛ احتياطا لعرفة، قاله المتولي وغيره، بل يسن صوم عشر ذي الحجة غير العيد. ويسن صيام ستة أيام من شوال بعد يوم العيد؛ قال (صلى الله عليه وسلم): «من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال .. كان كصيام الدهر» رواه مسلم، وروي النسائي خبر: «صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام السنة»، وخص شوال بذلك؛ لمشقة الصيام مع تشوف النفس إلى الأكل وصبرها على طول الصوم. وحذفت تاء التأنيث عند حذف المعدود جائز؛ كما سلكه الناظم تبعاً للخبر. وصومها بالولاء ومتصلة بيوم العيد أولى من تفريقها، ومن صومها غير متصلة بيوم العيد؛ مبادرة للعبادة. ويسن صيام عاشوراء: وهو العاشر من المحرم، وتاسوعاء: وهو التاسع منه؛ قال (صلى الله عليه وسلم): «صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»، وقال: «لئن بقيت إلى قابل .. لأصومن اليوم التاسع، فمات قبله» رواهما مسلم، ويسن صوم الحادي عشر أيضاً، نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، وحكمه صوم تاسوعاء مع عاشوراء: الاحتياط لعاشوراء، ولمخالفة اليهود. و (عاشوراء): ممدود، وقصره في النظم. ويسن صيام يوم الاثنين والخميس، لأنه (صلى الله عليه وسلم) (كان يتحرى صومهما)،

وقال: «تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» رواهما الترمذي وغيره؛ الأول من حديث عائشة، والثاني من حديث أبي هريرة، والمراد: عرضها على الله تعالى، وأما رفع الملائكة لها .. فإنه بالليل مرة وبالنهار مرة، ولا ينافي هذا رفعها في شعبان؛ كما في خبر «مسند أحمد»: أنه (صلى الله عليه وسلم) سئل عن إكثاره الصوم في شعبان؟ فقال: «أنه شهر ترفع فيه الأعمال؛ فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة وأعمال العام جملة. ويسن صيام أيام الليالي البيض؛ وهي الثالث عشر وتالياه؛ قال أبو ذر: (أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة) رواه النسائي وابن حبان، والمعنى: أن الحسنة بعشرة أمثالها؛ فصومها كصوم الشهر. ومن ثم سن صوم ثلاثة أيام من كل شهر ولو غير أيام البيض؛ كما في «البحر» وغيره؛ للأخبار الصحيحة. قال السبكي: والحاصل: أنه يسن صوم ثلاثة أيام، وأن تكون أيام البيض، فإن صامها .. أتى بالسنتين. قال بعضهم: ويستثنى من ذلك ذو الحجة؛ فإن صوم ثالث عشرة حرام، فهل يسقط في هذا الشهر، أو يعوض عنه السادس عشر، أو يوم من التسعة الأول؟ فيه احتمال، ولم أر من تعرض لذلك. انتهى. -قال الماوردي: ويسن صوم أيام السود: الثامن والعشرين وتالييه، ولا يخفى سقوط الثالث منها إذا كان الشهر ناقصاً، ولعله يعوض بأول الشهر الذي بعده؛ فهو من أيام السود؛ لأن ليلته كلها سوداء. وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك؛ لتعميم ليالي الأولى بالنور، والثانية بالسواد، فناسب صوم الأولى شكراً، والثانية لطلب كشف السواد، ولأن الشهر ضيف قد أشرف على الرحيل، فناسب تزويده بذلك.

والاحتياط صوم الثاني عشر مع أيام البيض، وصوم السابع والعشرين مع أيام السود. ويكره إفراد الجمعة، وإفراد السب، وإفراد الأحد بالصوم. وأما صوم الدهر غير العيدين والتشريق .. فمكروه لمن خاف به ضرراً أو فوت حق، ويستحب لغيره، وعلى الحالة الأولى حمل خبر مسلم: «لا صام من صام الأبد». [جواز قطع النفل إذا شرع فيه] الثانية: من شرع في النفل صوماً أو غيره؛ أي: أو في فرض الكفاية .. فله قطعه، ولا يجب قضاؤه؛ لئلا يغير الشروع حكم المشروع فيه؛ ولخبر: «الصائم المتطوع أمير نفسه؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطر» رواه الترمذي والحاكم، وصحيح إسناده، ولخبر أبي داوود: (أن أم هانئ كانت صائمة صوم تطوع، فخيرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أن تفطر بلا قضاء، وبين أن تتمم صومها)، ولخبر عائشة المتقدم في الكلام على نية الصوم، ويقاس بالصوم غيره، ويكره له قطع ذلك بلا عذر، وإذا قطعه .. قال المتولي: لا يثاب على ما مضى؛ لأن العبادة لم تتم، وعن الشافعي: أنه يثاب، وهو محمول على ما إذا قطعه بعذر. وإنما وجب إتمام الحج والعمرة؛ لتأكد احترامهما؛ لأن نفلهما كفرضهما نية وكفارة وغيرهما، وإتمام صلاة الميت والجهاد؛ لئلا تنتهك حرمة الميت، ويحصل الخلل بكسر قلوب الجند. [لا يجوز قطع الفرض إذا شرع فيه] الثالثة: لا يجوز لمن شرع في فرض من فروض الأعيان قطعه، سواء أكان صوماً، أم صلاة أم غيرهما، أداء كان أو قضاء وإن كان موسعاً؛ لأنه شرع في الفرض ولا عذر له في الخروج منه. وألف (فرضا) في قول الناظم للإطلاق.

[ما لا يصح صومه من الأيام] ومن شروط الصوم أيضاً: قبول اليوم لذلك الصوم، وقد أشار الناظم إلى ذلك بقوله: (ولا يصح صوم يوم العيد ... ويوم تشريق ولا ترديد) (لا إن يوافق عادة أو نذرا ... أو وصل الصوم بصوم مرا) أي: لا يصح صوم يومي العيدين؛ لخبر «الصحيحين»: (أنه (صلى الله عليه وسلم) نهى عن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى). ولا صوم أيام التشريق الثلاثة ولو للمتمتع العادم للهدي؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) (نهى عن صيامها، رواه أبو داوود بإسناد صحيح، وفي «مسلم»: «إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى». ولا يصح صوم يوم الترديد؛ أي: الشك في أنه من رمضان؛ لأنه غير قابل للصوم بلا سبب كما سيأتي؛ لقول عمار بن ياسر: (من صام يوم الشك .. فقد عصى أبا القاسم (صلى الله عليه وسلم) رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم، وعقله البخاري، وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث الناس برؤية الهلال ليلته، ولم يقل عدل: رأيته، أو لم يقبل الواحد، أو شهد بها عدد من النساء أو العبيد أو الفساق أو الصبيان وظن صدقهم، والسماء مصحية، بخلاف ما إذا أطبق الغيم .. فليس بشك وإن تحدث الناس برؤيته أو شهد بها من ذكر؛ لخبر «فإن غم عليكم .. فأكملوا العدة ثلاثين»، ولا أثر لظننا الرؤية لولا الغيم. نعم؛ من اعتقد صدق من قال: إنه رآه ممن ذكر .. يجب عليه الصوم؛ كما تقدم عن

البغوي وطائفة أول الباب، وتقدم في أثنائه صحة نية المعتقد لذلك، ووقوع الصوم عن رمضان. فلا تنافي بين ما ذكر في المواضع الثلاثة، ومحل عدم قبوله للصوم: إذا كان بغير سبب، وإلا .. فيصح صومه؛ كما أشار بقوله: (لا إن يوافق عادة) [أي]: له؛ كمن يسرد الصوم، أو يصوم يوماً معيناً كالاثنين والخميس، فوافق أحدهما؛ فيصح صومه؛ نظرا للعادة، ولقوله (صلى الله عليه وسلم): «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً .. فليصمه» رواه الشيخان، و (تقدموا) أصله: تتقدموا بتاءين، حذفت منه إحداهما تخفيفاً، ولفظ النسائي: «لا تستقبلوا الشهر بصوم يوم أو يومين، إلا أن يوافق ذلك صياماً كان يصومه». ولا أن يوافق نذراً؛ أي: بأن صامه عن نذر؛ أي: أو قضاء أو كفارة؛ فإنه يصح صومه قياساً على الورد، ولا يشكل الخبر بخبر: «إذا انتصف شعبان .. فلا تصوموا» لتقدم النص على الظاهر. وسواء في القضاء الفرض والنفل، ولا كراهة في صومه لورد، وكذا الفرض كما في «المجموع» عن مقتضى كلام الجمهور، ونقله في «الروضة» و «أصلها» عن ابن الصباغ، ونقل الكراهة عن القاضي أبي الطيب، ونقلها الإسنوي عن جمع ورجحها، ومنع قياس الفرض على النفل بأن ذمته لا تبرأ منه بتقدير كونه من رمضان، قال: فلو أخر صوماً ليوقعه يوم الشك .. فقياس كلامهم في الأوقات المنهي عنها: تحريمه، ولا خلاف أنه لا يجوز صومه؛ احتياطاً لرمضان. قوله: (أو وصل الصوم بصوم مرا) أي: فإن وصله بما قبل نصف شعبان .. فإنه يصح صومه، بخلاف ما إذا وصله بما بعده .. فإنه لا يصح صومه؛ لأنه إذا انتصف شعبان .. حرم الصوم بلا سبب إن لم يصله بما قبله على الصحيح في «المجموع» وغيره؛ لخبر: «إذا

انتصف شعبان .. فلا تصوموا» رواه أبو داوود وغيره بإسناد صحيح، لكن ظاهره أنه يحرم وإن وصله بما قبله وليس مراداً؛ حفظاً لأصل مطلوبية الصوم. وألف (مرا) للإطلاق. ولا يصح صوم شيء من رمضان عن غيره ولو في سفر أو مرض؛ لتعين الوقت له، فلو لم يبيت النية فيه، ثم أراد أن يصومه نفلاً .. لم يصح، بل يلزمه الإمساك والقضاء. ولو نذر صوم يوم معين وقلنا: يتعين وهو الأصح .. فهل يقبل غير النذر؟ وجهان، أصحهما: نعم. [وجوب الكفارة على من أفسد يوماً من رمضان بجماع] (يكفر المفسد صوم يوم ... من رمضان إن يطأ مع إثم) (كمثل من ظاهر لا على المرة ... وكررت إن الفساد كرره) أي: تجب الكفارة على المفسد صوم يوم من رمضان ولو انفرد برؤية هلال؛ بجماع منه ولو بلواط، أو إتيان بهيمة بلا إنزال، أثم به؛ بسبب صومه؛ لخبر «الصحيحين» عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله؛ هلكت، قال: «وما أهلكك؟ » قال: واقعت امرأتي في رمضان، قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟ » قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ » قال: لا، قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ » قال: لا، ثم جلس فأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) بعرق فيه تمر -والعرق بالفتح: مكيل ينسج من خوص النخل -فقال: «تصدق بهذا» فقال: أعلى أفقر منا يا رسول الله؟ ! فوالله، ما بين لابتيها أهل بيت أحوج غليه منا! فضحك النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى بدت أنيابه، ثم قال: «اذهب فأطعمه أهلك». وفي رواية للبخاري: «فأعتق رقبة»، «فصم شهرين»، «فأطعم ستين مسكيناً» بلفظ الأمر، وفي رواية لأبي داوود: (فأتى بعرق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعاً)،

قال البيهقي: وهي أصح من رواية: (فيه عشرون صاعاً). وخرج بـ (المفسد): غيره؛ كالمجامع ناسياً، أو مكرهاً، أو جاهلاً بشرطة، وبـ (الصوم): غيره من سائر العبادات، وبـ (رمضان): غيره كقضاء ونذر وكفارة؛ لورود النص في رمضان، وهو مختص بفضائل لا يشركه فيها غيره؛ إذ هو سيد الشهور، وبـ (الجماع): غيره كاستمناء وأكل؛ لورود النص في الجماع، وهو أغلظ من غيره، وبقوله: (مع إثم): ما إذا لم يأثم به؛ كجماع المسافر والمريض بنية الترخص والصبي، ومن ظن الليل وقت جماعه فبان نهاراً، ومن جامع عامداً بعد أكله ناسياً وظن أنه أفطر به، وإن كان الأصح: بطلان صومه بالجماع. وبقولنا: (بسبب صومه): ما لو أفسد المسافر والمريض صومهما بالزنا أو بغيره، لكن بغير نية الترخص؛ فإن إثمهما ليس للصوم، بل له مع عدم نية الترخص في الثاني، وللزنا في الأول، فلا تجب الكفارة؛ لأن الإفطار مباح فيصير شبهة في درئها. والكفارة الواجبة بالجماع المذكور مرتبة كمثل كفارة من ظاهر كما سيأتي الكلام عليها في (باب الظهار)، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد .. فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطيع .. فإطعام ستين مسكيناً، والكفارة على الزوج عنه؛ فلا كفارة على المرأة الموطوءة وإن كانت صائمة وبطل صومها؛ إذ لم يؤمر بها إلا الرجل المواقع مع الحاجة إلى البيان، ولنقصان صومها بتعرضه للبطلان بعروض الحيض أو نحوه، فلم تكمل حرمته حتى تتعلق به الكفارة، ولأنها غرم مالي يتعلق بالجماع فيختص بالرجل الواطئ؛ كالمهر فلا يجب على الموطوءة، ولا على الرجل الموطوء في دبره كما نقله ابن الرفعة. وأورد على الضابط: ما لو طلع الفجر وهو مجامع فاستدام .. فإنه تلزمه الكفارة مع أنه لا إفساد؛ لأنه فرع الانعقاد ولم ينعقد، وما لو جامع معذور امرأته .. فإنه لا كفارة بإفساد صومها كما مر، وما لو جامع شاكاً في الغروب .. فإنه لا كفارة وإن بان له الحال؛ للشبهة كما في «التهذيب». وأجيب عن الأولى: بأنها مفهومة من الضابط بالمساواة، وعن الثانية: بمنع صدق الضابط عليها؛ إذ محله في إفساد صومه، ولأن المفسد لصومها هي بتمكينها لا الوطء، مع أنها إذا مكنت ابتداء .. إنما يفسد صومها بدخول بعض الحشفة باطنها لا بالجماع، وعن الثالثة: بأن

الكلام بقرينة السياق فيما إذا علم الجماع بأنه وطئ وهو صائم. قوله: (وكررت إن الفساد كرره) أي: تكرر الكفارة وجوباً إن كرر الفساد؛ بأن جامع في يومين ولو من رمضان واحد وإن لم يكفر عن الأول؛ إذ كل يوم عبادة برأسها، فلا تتداخل كفارتاهما؛ كالحجتين إذا جامع فيهما، بخلاف الحدود المبنية على التساقط، وبخلاف ما إذا تكرر الجماع في يوم واحد؛ لعدم تكرر الفساد، وحدوث السفر بعد الجماع لا يسقط الكفارة، وكذا المرض على المذهب؛ لأنهما لا ينافيان الصوم فيتحقق هتك حرمته. ويجب معها قضاء يوم الإفساد على الصحيح، وتستقر في ذمة العاجز عنها كجزاء الصيد؛ لأن حقوق الله تعالى المالية إذا عجز عنها وقت وجوبها: فإن كانت بغير سبب من العبد؛ كزكاة الفطر .. لم تستقر في ذمته، وإن كانت بسبب منه .. استقرت في ذمته، سواء أكانت على وجه البدل؛ كجزاء الصيد وفدية الحلق، أم لا؛ ككفارة الظهار والقتل والجماع واليمين ودم التمتع والقران. والأصح: أنه لا يجوز للفقير صرف كفارته إلى عياله؛ كالزكوات وسائر الكفارات، وأما قوله (صلى الله عليه وسلم): «فأطعمه أهلك» .. ففي «الأم» كما في «الرافعي»: يحتمل أنه لما أخبره بفقره .. صرفه له صدقة، أو أنه ملكه إياه وأمره بالتصدق به، فلما أخبره بفقره .. أذن له في صرفها لهم؛ للإعلام بأنهما إنما تجب بعد الكفارة، أو أنه تطوع بالتكفير عنه، وسوغ له صرفها لأهله؛ للإعلام بأن لغير المكفر التطوع بالتكفير عته بإذنه، وأن له صرفها لأهل المكفر عنه، فأما أن الشخص يكفر عن نفسه ويصرفه إلى أهله .. فلا. وقول الناظم: (المره) لغة في المرأة. (ولازم بالموت دون صوم ... بعد تمكن لكل يوم) (مد طعام غالب في القوت ... وجوزوا الفطر لخوف موت) (ومرض وسفر إن يطل ... وخوف مرضع وذات الحمل) (منه على نفسيهما ضرا بدا ... ويوجب القضاء دون الافتدا) (ومفطر لهرم لكل يوم ... مد كما مر بلا قضاء صوم) (والمد والقضا لذات الحمل ... ومرضع إن خافتا للطفل)

فيها أربع مسائل: [لزوم المد على من تمكن من القضاء فلم يقض حتى مات] الأولى: يلزم بموت من تمكن من قضاء رمضان، أو صوم الكفارة، أو النذر ولم يصم في تركته لكل يوم مد طعام من غالب قوت أرض وجوبه، وجنسه جنس الفطرة، سواء أترك الأداء بعذر أم بغيره؛ لخبر: «من مات وعليه صيام شهر .. فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً» رواه ابن ماجه الترمذي، وقال: الصحيح وقفه على رواية ابن عمر، ورواه البيهقي عن فتوى عائشة وابن عباس. وأفهم كلام الناظم: أنه لا يصام عنه، وهو الجديد؛ لأن الصوم عبادة بدنية لا تدخلها النيابة في الحياة، فكذلك بعد الموت؛ كالصلاة، وفي القديم: يجوز لوليه أن يصوم عنه، وصححه النووي وصوبه، بل قال: يسن له ذلك؛ للأخبار الصحيحة كخبر «الصحيحين»: «من مات وعليه صيام .. صام عنه وليه»، وتأوله ونحوه المصححون للجديد بأن المراد: أن يفعل وليه ما يقوم مقام الصيام وهو الإطعام؛ لما مر. وهل المعتبر على القديم الولاية كما في الخبر، أو مطلق القرابة، أو بشرط الإرث، أو العصوبة؟ فيه احتمالات للإمام، قال الرافعي: والأشبه: اعتبار الإرث، ونقل عن جمع، وفي «المجموع»: أنه ليس ببعيد، لكنه اختار في «زوائد الروضة» و «المنهاج» اعتبار مطلق القرابة، ونقل عن القاضي أبي الطيب، وصححه في «المجموع». قال: وقوله (صلى الله عليه وسلم) في خبر مسلم لامرأة قالت له: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفاصوم عنها؟ قال: «صومي عن أمك» .. يبطل احتمال ولاية المال والعصوبة. قال: ومذهب الحسن البصري: أنه لو صام عنه ثلاثون بالإذن في يوم واحد .. أجزأه،

قال: وهو الظاهر الذي اعتقده، وكالولي فيما ذكره مأذونه ومأذون الميت. أما من مات قبل تمكنه من قضاء الصوم؛ كأن مات عقب رمضان، أو استمر به العذر إلى موته .. فلا فدية عليه إن فاته الصوم بعذر، وإلا .. فكمن مات بعد تمكنه منه. ومصرف المد هنا وفيما يأتي: الفقراء والمساكين؛ لأن المسكين ذكر في الآية والخبر، والفقير أسوأ حالاً منه، أو داخل على ما هو المعروف من أن كلا منهما منفرداً يشمل الآخر. وله صرف أمداد إلى شخص واحد، ولا يجوز صرف مد منها إلى شخصين، خلافاً لصاحب «التعليقة» والبارزي؛ لأن كل مد كفارة، ومد الكفارة لا يعطى لأكثر من واحد. ومن أخر قضاء رمضان مع تمكنه حتى دخل رمضان آخر .. لزمه مع القضاء لكل يوم مد بمجرد دخول رمضان؛ لخبر أبي هريرة: «من أدركه رمضان فأفطر لمرض، ثم صح ولم يقضه حتى أدركه رمضان آخر .. صام الذي أدركه، ثم يقضي ما عليه، ثم يطعم عن كل يوم مسكيناً». رواه الدارقطني والبيهقي وضعفاه، قالا: وروي موقوفاً على رواية بإسناد صحيح، قال الماوردي: وقد أفتى بذلك ستة من الصحابة ولا مخالف لهم. والأصح: تكرره بتكرر السنين، وأنه لو أخر القضاء مع تمكنه منه فمات .. أخرج من تركته لكل يوم مد للفوات على الجديد، ومد للتأخير. [من يجوز له الفطر من الصوم الواجب] الثانية: يجوز الفطر من الصوم الواجب؛ لخوف موت على نفسه أو غيره؛ كأن رأى غريقاً لا يتمكن من إنقاذه إلا بفطره، ولا ينافي التعبير بالجواز ما صرح به الغزالي وغيره من وجوب الفطر لذلك؛ لأنه يجامعه، أو خوف مرض وهو ما تقدم بيانه في (التيمم)، قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي: فأفطر فعدة {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. ثم المرض إن كان مطبقاً .. فله ترك النية، وإن كان يحم وينقطع: فإن كان يحم وقت الشروع .. فله ترك النية، وإلا .. فعليه أن ينوي، فإن عاد واحتاج إلى الإفطار .. أفطر، ومن غلبه الجوع أو العطش .. فحكمه حكم المريض.

وقول الناظم: (وجوز) يصح كونه أمراً، أو ماضياً مبنياً للفاعل أو المفعول. ويجوز الفطر أيضا من الصوم الواجب لسفر طويل مباح؛ وهو سفر القصير؛ للآية السابقة، ثم إن تضرر به .. فالفطر أفضل، وإلا .. فالصوم أفضل؛ لقوله تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ}، ولبراءة الذمة وفضيلة الوقت. نعم؛ إن شك في جواز الفطر به، أو كره الأخذ به، أو كان ممن يقتدي به .. فالفطر أفضل. وخرج بالسفر المذكور: السفر القصير، وسفر المعصية. ولو أصبح المقيم صائما فمرض .. أفطر؛ لوجود المبيح للإفطار، وإن سافر .. فلا يفطر؛ تغليباً لحكم الحضر كالصلاة، وقيل: يفطر؛ تغليباً لحكم السفر. ولو أصبح المسافر والمريض صائمين، ثم أراد الفطر .. جاز لهما؛ لدوام عذرهما، ولا يكره في «المجموع»؛ وقد أفطر النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد العصر بكراع الغميم بقدح الماء؛ لما قيل: إن الناس يشق عليهم الصيام، رواه مسلم. فلو أقام المسافر وشفي المريض .. حرم عليهما الفطر على الصحيح؛ لزوال عذرهما. وكل من أفطر لعذر أو غيره يلزمه القضاء، سوى صبي مجنون وكافر أصلي؛ فيقضي المريض والمسافر والحائض والنفساء، ومن ولدت ولداً جافاً، وذو إغماء وسكر استغرقا، والمجنون زمن سكره، ويقضي المرتد حتى زمن جنونه، ويستحب التتابع في القضاء. ولو بلغ الصبي بالنهار مفطراً، أو فاق المجنون فيه، أو أسلم الكافر فيه .. فلا قضاء عليهم في الأصح؛ لأن ما أدركوه منه لا يمكن صومه، ولم يؤمروا بالقضاء، ولا يلزمهم إمساك بقية النهار في الأصح؛ بناء على عدم لزوم القضاء، ويلزم الإمساك من تعدى بالفطر أو نسي النية؛ لأن نسيانه يشعر بترك الاهتمام بالعبادة فهو ضرب تقصير، وكذا من أكل يوم الشك ثم ثبت كونه من رمضان في الأظهر، بخلاف مسافر أو مريض زال عذره بعد الفطر أو قبله، ولم ينو ليلاً، وإمساك بقية اليوم من خواص رمضان، بخلاف النذر والقضاء والكفارة. ويجوز الفطر أيضا من الصوم الواجب؛ لخوف المرضع والحامل منه على نفسيهما

وحدهما، أو مع ولديهما -كما قاله في «المجموع» - ضراً بدا؛ أي: ظهر؛ بأن يبيح التيمم، ويوجب فطرهما القضاء عليهما دون الفدية؛ كالمريض. [وجوب الفدية على من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه] الثالثة: يجب على من أفطر لكبر لا يطيق معه الصوم، أو يلحقه به مشقة شديدة لكل يوم مد طعام، وكذا من لا يطيقه لمرض لا يرجى برؤه؛ قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} المراد: لا يطيقونه، أو يطيقونه حال الشباب ثم يعجزون عنه بعد ذلك، وروي البخاري: أن ابن عباس وعائشة كانا يقرآن: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}، ومعناه: يكلفون الصوم فلا يطيقونه. وهل المد بدل عن الصوم أو واجب ابتداء؟ وجهان، أصحهما في «المجموع»: الثاني، ويظهر أثرهما فيما لو قدر بعد الصوم، فعلى الأصح: لا يلزمه القضاء، وفي انعقاد نذره الصوم، والأصح في «الروضة»: عدمه، ولو أعسر بالفدية .. ففي استقرارها في ذمته القولان كالكفارة، أظهرهما فيها: الاستقرار كما مر، وقضيه كلام «النظم» و «أصله» كـ «الروضة» و «أصلها»: استقرار الفدية؛ كالقضاء في حق المريض والمسافر، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وقال في «المجموع»: ينبغي تصحيح سقوطها؛ لأنها ليست في مقابلة جناية بخلاف الكفارة. [لزوم المد والقضاء على حامل ومرضع أفطرتا خوفاً على الطفل] الرابعة: المد والقضاء لازم للحامل والمرضع؛ أي: لكل منهما إن خافتا؛ للطفل؛ أي: أخذاً من قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}، قال ابن عباس: (إنه نسخ حكمها إلا في حقهما حينئذ) رواه البيهقي عنه، والناسخ له قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ

فَلْيَصُمْهُ}، والقول بنسخه قول أكثر العلماء، وقال بعضهم: إنه محكم غير منسوخ بتأويله بما مر في الاحتجاج به. وسكت الناظم عن الضرر المخوف؛ للعلم به من المرض. وهل تفطر المستأجرة لإرضاع ولد غيرها؟ قال الغزالي في «الفتاوى»: لا، وقال صاحب «التتمة»: نعم وتفدى، وصححه في «الروضة»، وتستثنى المتحيرة فلا فدية عليها على الأصح في «الروضة» لاحتمال كونها حائضاً، ويؤخذ هذا التعليل: أن محل ذلك إذا أفطرت ستة عشر يوماً فأقل، أما إذا زادت عليها .. فيلزمها الفداء عن الزائد؛ لأنه المتيقن فيه طهرها، بدليل أنه لا يصح لها من رمضان التام إلا أربعة عشر يوماً. ولا تتعدد الفدية بتعدد الولد، والأصح: أن يلحق بالمرضع في لزوم الفدية مع القضاء من أفطر لإنقاذ مشرف على هلاك بغرق أو غيره؛ لأنه فطر ارتفق به شخصان، فيتعلق به بدلان القضاء والفدية، كما في الحامل والمرضع. ولو أفطر لإنقاذ ماله المشرف على الهلاك .. فلا فدية؛ لأنه فطر ارتفق به شخص واحد، وقول الرافعي في المحتاج لإنقاذ المذكور إلى الفطر: له ذلك، قال في «الروضة»: مراده أن يجب عليه، وقد صرح به أصحابنا. وقول الناظم: (والقضا لذات الحمل) بالقصر، واللام في قوله: (للطفل) تعليلية، أو بمعنى (على)

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف وهو لغة اللبث والحبس، والملازمة على الشيء خيراً كان أو شراً؛ قال تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وقال تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} وشرعاً: لبث شخص مخصوص في مسجد بنية. والأصل فيه: الإجماع والأخبار؛ كخبر «الصحيحين»: (أنه (صلى الله عليه وسلم) اعتكف العشر الأوسط من رمضان)، (ثم اعتكف العشر الأواخر ولازمه حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده)، وخبر البخاري: (أنه (صلى الله عليه وسلم) اعتكف عشراً من شوال)، قال جماعة: وهو من الشرائع القديمة، قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}. وأركانه: لبث، ونية، ومعتكف، ومعتكف فيه؛ كما يعلم من كلامه. (سن، وإنما يصح إن نوى ... بالمسجد المسلم بعد أن ثوى) (لو لحظة، وسن يوماً يكمل ... وجامع وبالصيام أفضل) فيها خمس مسائل: [استحباب الاعتكاف كل وقت] الأولى: يسن الاعتكاف كل وقت؛ للأخبار السابقة، ولا يجب إلا بالنذر، وهو في العشر الأواخر من رمضان أفضل منه في غيره؛ لمواظبته (صلى الله عليه وسلم) على الاعتكاف فيه كما تقدم، وقالوا في حكمة ذلك: لطلب ليلة القدر؛ التي هي كما قال تعالى: {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقال (صلى الله عليه وسلم): «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا .. غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه الشيخان وهي في العشر

المذكور، وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي أو الثالث والعشرين منه؛ دل على الأول خبر «الصحيحين»، وعلى الثاني خبر مسلم، وقال المزني وابن جزيمة: إنها تنتقل كل سنة إلى ليلة جمعاً بين الأخبار، قال في «الروضة»: وهو قري، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه: أنها تلزم ليلة بعينها. وعلامتها: أنها لا حارة ولا باردة، وتطلع الشمس صبيحتها بيضاء ليس لها كثير شعاع، ويسن أن يكثر فيها من قول: (اللهم، إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وأن يجتهد في يومها كليلتها. [شروط صحة الاعتكاف] الثانية: أن الاعتكاف إنما يصح بأمور: الأول: النية في ابتدائه كالصلاة؛ لأنها تميز العبادات عن العادات، ويتعرض في نذره للفرضية؛ ليمتاز عن النفل، وإذا أطلق الاعتكاف .. كفت نيته وإن طال مكثه، لكن لو خرج من المسجد ولو لقضاء الحاجة ولم يكن قدر زمناً لاعتكافه .. احتاج إلى استئناف النية؛ لأن ما مضى عبادة تامة، والثاني اعتكاف جديد، إلا أن يعزم عند خروجه على العود فلا يجب تجديدها؛ كما قاله المتولي، وصوبه في «المجموع» لأنه يصير كنية المدتين ابتداء؛ كما في زيادة عدد ركعات النافلة. ولو نوى مدة؛ كيوم أو شهر فخرج فيها وعاد: فإن خرج لغير قضاء الحاجة .. لزمه استئناف النية وإن لم يطل الزمان؛ لقطعه الاعتكاف، أو لها .. فلا يلزمه وإن طال الزمان؛ لأنها لا بد منها، فهي كالمستثنى عند النية. ولو نذر مدة متتابعة فخرج لعذر لا يقطع التتابع وعاد .. لم يجب استئناف النية؛ لشمولها جميع المدة، أو لعذر يقطع التتابع كعيادة المريض .. وجب استئنافها عند العود. الثاني: أن يكون الاعتكاف في المسجد؛ للإتباع، رواه الشيخان، وللإجماع، ولقوله

تعالى: {وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَكِفُونَ فِى الْمَسَجِدِ} إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطاً في منع مباشرة المعتكف؛ لمنعه منها وإن كان خارج المساجد، ولمنع غيره أيضا منها في المساجد، فتعين كونها شرطاً لصحة الاعتكاف، ولا يفتقر شيء من العبادات للمسجد إلا تحيته والاعتكاف والطواف. ولو عين المسجد الحرام في نذره الاعتكاف .. تعين، وكذا مسجد المدينة والمسجد الأقصى إذا عينهما في نذره .. تعينا في الأظهر، ولا يقوم غير الثلاثة مقامها لمزيد فضلها، قال (صلى الله عليه وسلم): «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» رواه الشيخان، ويقوم المسجد الحرام مقامهما المسجد الحرام مقامهما ولا عكس؛ لمزيد فضله عليهما، ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى ولا عكس؛ لأن مسجد المدينة أفضل من المسجد الأقصى، قال (صلى الله عليه وسلم): «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة في مسجدي هذا» رواه الإمام أحمد، وصححه ابن ماجه. ولو عين زمن الاعتكاف في نذره .. تعين على الصحيح، فلا يجوز التقديم عليه، ولو تأخر .. كان قضاء. الثالث: المعتكف؛ وشرطه الإسلام، أي: والعقل، والنقاء عن الحيض والنفاس والجنابة ولو صبياً ورقيقاً وزوجة، لكن يحرم بغير إذن السيد والزوج، فلهما إخراجهما منه، وكذا من تطوع أذنا فيه. نعم؛ للمكاتب أن يعتكف بغير إذن سيده؛ إذ لاحق له في منفعته كالحر، وكذا للرقيق إذا اشتراه سيده بعد نذره اعتكاف زمن معين بإذن بائعه، وقياسه في الزوجة كذلك، والمبعض إن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة .. فكالرقيق، وإلا .. فهو في نوبته كالحر وفي نوبة سيده كالرقيق. وخرج بـ (المسلم): الكافر، وبـ (العقل): المجنون والسكران والمغمى عليه والصبي غير المميز، فلا يصح اعتكافهم؛ إذ لا نية لهم، وبـ (النقاء عما ذكر): الحائض والنفساء والجنب، فلا يصح اعتكافهم؛ لحرمة المكث في المسجد عليهم.

الرابع: اللبث في المسجد ولو متردداً قدر ما يسمى عكوفاً؛ أي: إقامة؛ لإشعار لفظه به، وذلك بأن يزيد على قدر طمأنينة الصلاة، فلا يكفي مجرد عبوره، ولا أقل ما يكفي في طمأنينة الصلاة. وقول الناظم: (ثوى) بالمثلثة؛ أي: أقام، يقال: ثوى يثوى؛ مثل: مضى يمضي. [استحباب كون الاعتكاف يوماً كاملاً] الثالثة: يسن أن يكون الاعتكاف يوماً كاملاً؛ خروجاً من الخلاف، فإن من قال: إن الصوم في الاعتكاف شرط .. لا يصح عنده اعتكاف أقل من يوم. [فضيلة الاعتكاف في المسجد الجامع على غيره] الرابعة: الجامع أفضل للاعتكاف من بقية المساجد؛ للخروج من الخلاف، ولكثرة الجماعة، وللاستغناء عن الخروج للجمعة، بل يتعين فيما لو نذر اعتكاف مدة متابعة تخللها جمعة وهو من أهلها؛ لأن الخروج لها يقطع التتابع. [فضيلة الاعتكاف صائماً] الخامسة: الاعتكاف بالصيام أفضل منه بدونه؛ خروجاً من خلاف من شرط فيه الصوم. وقول الناظم: (إن نوى) يصح كون (إن) فيه شرطية ومصدرية؛ أي: بأن نوى، وقوله: (بالمسجد) متعلق بقوله: (ثوى) بمعنى: أقام، وقوله: (المسلم) فاعل (نوى) أي: إنما يصح الاعتكاف إن نواه المسلم بعد أن أقام في المسجد ولو لحظة. [لو نذر اعتكاف مدة متتابعة] إذا نذر مدة متتابعة؛ كأن قال: (لله على اعتكاف عشرة أيام متتابعة)، أو (شهر متتابع) .. لزمه التتابع؛ لأنه وصف مقصود فيلزمه فيها، وفي مدة الأيام يلزمه اعتكاف الليالي المتخللة بينها في الأرجح. والصحيح: أنه لا يجب التتابع بلا شرط، ويفارق ما لو حلف لا يكلم فلاناً شهراً؛ بأن مقصود اليمين الهجران، ولا يتحقق بدون التتابع. وعلى الأول: لو نوى التتابع ولم يتلفظ به .. لا يلزمه في الأصح؛ كما لو نذر أصل الاعتكاف بقلبه، واختار السبكي اللزوم، وصوبه في «المهمات».

ولو شرط التفرق .. خرج عن العهدة بالتتابع في الأصح؛ لأنه أفضل. والأصح: أنه لو نذر يوماً .. لم يجز تفريق ساعاته على الأيام؛ لأن المفهوم من لفظ (اليوم) المتصل، وقد حكي الخليل أن اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. والأصح: أنه لو نذر مدة ونذر تتابعها وفاتته .. لزمته التتابع في قضائها، وإذا ذكر التتابع وشرط الخروج لعارض مباح مقصود غير مناف .. صح الشرط في الأظهر، فإن عين العارض .. خرج لما عينه دون غيره وإن كان أهم، وإن أطلق فقال: (لا أخرج إلا لعارض أو شغل) .. خرج لكل شغل ديني كالعبادة، أو دنيوي مباح كلقاء السلطان، وليست النزهة من الشغل. وفي «زوائد الروضة» عن الروياني عن الأصحاب: أنه لو نذر اعتكافاً وقال: (إن اخترت .. جامعت)، أو (إن اتفق لي جماع) .. لم ينعقد نذره. انتهى. ويلزمه العود بعد قضاء الشغل، والزمان المصروف إلى العارض لا يجب تداركه إن عين المدة كهذا الشهر؛ لأن النذر في الحقيقة لما عداه، وإلا .. فيجب تداركه؛ لتتم المدة، وتكون فائدة الشرط تنزيل ذلك العارض منزلة قضاء الحاجة في أن التتابع لا ينقطع به. [مبطلات الاعتكاف المتتابع] ثم ذكر ما يبطل الاعتكاف المتتابع فقال: (وأبطلوا إن نذر التوالي ... بالوطء واللمس مع الإنزال) (لا بخروج منه بالنسيان ... أو لقضاء حاجة الإنسان) (أو مرض شق مع المقام ... والحيض والغسل من احتلام) (والأكل والشرب أو الأذان ... من راتب والخوف من سلطان) أي: وأبطل علماؤنا الاعتكاف -إن نذر تواليه- بالوطء وإن لم ينزل؛ أي: إذا كان ذكراً له عاملاً بتحريم الجماع فيه مختارا، سواء أجامع في المسجد أم عند الخروج منه لقضاء الحاجة؛ لانسحاب حكم الاعتكاف عليه حينئذ، وبالمباشرة بشهوة؛ كالوطء فيما دون الفرج واللمس والقبلة مع الإنزال؛ لزوال الأهلية بمحرم كالصوم، فإن لم ينزل، أو أنزل بنظر أو فكر، أو لمس بلا شهوة أو احتلام .. لم يبطل اعتكافه.

ومحل ذلك: في الواضح، أما المشكل .. فلا يضره وطؤه وإمناؤه بأحد فرجيه؛ لاحتمال زيادته كما في الصوم، وبالخروج من المسجد بلا عذر وإن قل زمنه؛ لمنافاته اللبث، وهذا في العامد العالم المختار. ولا يضر إخراج بعض الأعضاء؛ كرأسه أو يده، أو إحدى رجليه أو كلتيهما وهو قاعد ماد لهما؛ لأنه لا يسمى خارجاً، وفي «الصحيحين»: (أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يدني رأسه الشريف إلى عائشة فترجله وهو معتكف في المسجد). قال البغوي في «فتاويه» فيما إذا أخرج إحدى رجليه: إنا نراعي التي اعتمد عليها؛ أي: جعل ثقله عليها، بحيث لو زالت .. لسقط، قال الإسنوي: وهو الصواب، قال: وسكت عما لو اعتمد عليهما على السواء، وفيه نظر. انتهى، وقضية كلامهم: أنه لا يضر، وهو ظاهر. ولا ينقطع التتابع بخروج المعتكف من المسجد ناسياً للاعتكاف وإن طال زمن خروجه لعذر؛ لخبر: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»، وكما لا ينقطع التتابع بالجماع ناسياً، وكما لا يبطل الصوم بالأكل ناسياً، ولا بخروجه منه لقضاء حاجته من بول أو غائط؛ لأنه لا بد منه فكأنه استثناه، ولا يضر بعد داره عن المسجد، إلا أن يفحش بعدها منه .. فيضر في الأصح؛ لأنه قد يأتيه البول إلى أن يرجع فيبقى طوال يومه في الذهاب والرجوع، ويستثنى ما إذا لم يجد في طريقه موضعاً لقضاء الحاجة، أو كان لا يليق بحاله أن يدخل لقضائها غير داره .. فإنه لا ينقطع حينئذ، ولا يكلف فعلها في سقاية المسجد؛ لما فيه من خرم المروءة، ولا بدار صديقه بجوار المسجد؛ للمنة. قال الأذرعي: والظاهر: أن من لا يحتشم من السقاية .. لا تجوز له مجاوزتها إلى منزله. ولو كان له منزلان لم يفحش بعدهما .. تعين الأقرب منهما؛ لاغتنائه به عن الأبعد. ولو عاد مريضاً، أو صلى على جنازة في طريقه لقضاء الحاجة .. لم يقطع ما لم يطل وقوفه، أو يعدل عن طريقه.

ولو كثر خروجه لقضاء الحاجة لعارض يقتضيه .. لم يقطع التتابع؛ نظراً إلى جنسه، ولا يكلف في الخروج لها الإسراع، بل يمشي على سجيته المعهودة، وإذا فرغ منها واستنجى .. فله أن يتوضأ خارج المسجد؛ لأنه يقع تابعاً لها، بخلاف ما لو خرج له مع إمكانه في المسجد .. فإنه يقطع في الأصح. ولا ينقطع التتابع بالخروج لمرض شق معه المقام بضم الميم؛ أي: الإقامة في المسجد، سواء أكان ذلك لحاجة إلى الفراش والخادم وتردد الطبيب أم لخوف تلويث المسجد منه؛ كالإسهال وإدرار البول، بخلاف الحمى الخفيفة والصداع ونحوهما، وفي معنى المرض: الجنون والإغماء اللذان يشق معهما المقام فيه. ولا ينقطع التتابع بخروج المرأة للحيض؛ أي: إن طالت مدة الاعتكاف؛ بأن كانت لا تخلو عنه غالباً كشهر؛ لكونها معذورة، فتبني على المدة الماضية إذا طهرت؛ كما لو حاضت في صوم الشهرين عن الكفارة، فإن كانت بحيث تخلو عنه .. انقطع في الأظهر؛ لأنها بسبيل من أن تشرع في الاعتكاف عقب طهرها فتأتي به زمن الطهر، والنفاس في حكم الحيض، وفي حكمهما كل ما لا يمكن معه اللبث في المسجد من النجاسات؛ كالدم والقيح. ولا ينقطع التتابع للاغتسال من الاحتلام وإن أمكن اغتساله في المسجد؛ لأن الخروج أقرب إلى المروءة وإلى صيانة المسجد لحرمته، ويلزمه أن يبادر به كي لا يبطل تتابع اعتكافه. ولا ينقطع التتابع بالخروج للأكل؛ لأنه يستحيا منه في المسجد، ولا للشرب عند العطش ولم يجد الماء في المسجد أو لم يمكنه الشرب فيه، فإن أمكنه الشرب فيه .. لم يجز الخروج له، فإن خرج له .. انقطع التتابع؛ لأنه لا يستحيا منه فيه، ولا يخل بالمروءة. ولا ينقطع التتابع بخروج المؤذن الراتب للأذان؛ أي: بمنارة المسجد المنفصلة عنه وعن رحبة قريبة منهما؛ لإلفه صعودها للأذان، وإلف الناس صوته، بخلاف خروج غير الراتب للأذان، وخروج الراتب لغير الأذان، أو للأذان لكن بمنارة ليست للمسجد، أو له لكن بعيدة عنه وعن رحبته، أما التي بابها في المسجد أو في رحبته .. فلا يضر صعودها للأذان، ولا لغيره كسطح المسجد، وسواء أكانت في نفس المسجد أم الرحبة، أم خارجة عن سمت البناء وتربيعه.

ولا ينقطع الاعتكاف بالخروج للخوف من سلطان ظالم؛ أي: أو نحوه وإن طال استتاره وفهم من كلامه: أنه لا ينقطع التتابع بالخروج مكرهاً، وهو كذلك؛ للخبر السابق. نعم إن خرج مكرهاً بحق مطل به .. قطع؛ لتقصيره بعدم الوفاء. * * *

باب الحج

باب الحج أي: والعمرة. وهو بفتح الحاء وكسرها، لغة: القصد، شرعاً: قصد الكعبة للنسك الآتي بيانه. والعمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد إلى مكان عامر، وشرعاً: قصد الكعبة للنسك الآتي بيانه. (الحج فرض، وكذاك العمرة ... لم يجبا في العمر غير مره) [وجوب الحج والعمرة على المستطيع] أي: الحج فرض على المستطيع؛ للإجماع، ولقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، ولقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}؛ أي: ائتوا بهما تامين، ولخبر: «بني الإسلام على خمس»، وخبر مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: «يا أيها الناس؛ قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، فقال رجل: يا رسول الله؛ كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال (صلى الله عليه وسلم): «لو قلت ذلك .. لو جبت، ولما استطعتم». والحج مطلقاً إما فرض عين؛ وهو ما هنا، أو فرض كفاية؛ وقد ذكروه في (السير)، أو تطوع، واستشكل تصويره، وأجيب بأنه يتصور في العبيد والصبيان؛ لأن الفرضين لا يتوجهان إليهم، وبأن في حج من ليس عليه فرض عين جهتين: جهة تطوع؛ من حيث إنه ليس عليه فرض عين، وجهة فرض كفاية؛ من حيث إحياء الكعبة. قال الزركشي: وفيه التزام السؤال؛ إذ لم يخلص لنا حج تطوع على حدته، وفي الأول التزامه بالنسبة للأحرار المكلفين. وكذلك العمرة فرض على المستطيع؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}، ولما روى ابن

ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله؛ هل على النساء جهاد؟ قال: «جهاد لا قتال فيه؛ الحج والعمرة». ولما روي البيهقي بإسناد موجود في «صحيح مسلم» في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان»، وروى الدارقطني هذا اللفظ بحروفه ثم قال: هذا إسناد صحيح ثابت. ولما روى الترمذي وصححه: أن أبا رزين لقيط بن عامر الطفيلي أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله؛ إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: «حج عن أبيك واعتمر». ولا يغني عنها الحج وإن اشتمل عليها، ويفارق الغسل حيث يغني عن الوضوء؛ بأن الغسل أصل فأغنى عن بدله، والحج والعمرة أصلان. وأما خبر الترمذي عن جابر: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمر .. فهو أفضل» .. فأجيب عنه بضعفه، قال في «المجموع»: اتفق الحفاظ على ضعفه، ولا يغتر بقول الترمذي فيه: حسن صحيح. ووجوبهما على التراخي؛ لأن الحج فرض سنة خمس؛ كما جزم به الرافعي هنا، أو سنة ست؛ كما صححه في (السير)، وتبعه عليه في «الروضة»، ونقله في «المجموع» عن الأصحاب، وأخره (صلى الله عليه وسلم) إلى سنة عشر بلا مانع، وقيس به العمرة، وتضيقهما بنذر أو بخوف عضب، أو بقضاء لزمه عارض، ثم جواز التأخير في هذين وفي كل واجب موسع مشروط بالعزم على الفعل في المستقبل.

والحج والعمرة لم يجبا في العمر غير مرة واحدة؛ لخبر أبي هريرة السابق، ولخبر الدارقطني عن سراقة قال: قلت: يا رسول الله؛ عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «لا، بل للأبد»، ووجوبهما أكثر من مرة بنذر أو قضاء عارض. وشرط صحة كل منهما: الإسلام فقط، فللولي أن يحرم عن الصبي والمجنون، ويصح إحرام المميز بإذن الولي، وإنما تصح مباشرته من المسلم المميز، وإنما يقع عن فرض الإسلام بالمباشرة إذا باشره المكلف الحر، فيجزئ من الفقير دون الصبي والعبد إذا كملا بعده. (وإنما يلزم حراً مسلماً ... كلف ذا استطاعة لكل ما) (يحتاج من مأكول أو مشروب ... إلى رجوعه ومن مركوب) (لاق به بشرط أمن الطرق ... ويمكن المسير في وقت بقي) أي: إنما يلزم كل من الحج والعمرة حراً مسلماً مكلفاً، أما الكافر .. فلا يجب عليه وجوب مطالبة به في الدنيا، لكن يجب عليه وجوب عقاب عليه في الآخرة؛ كما تقرر في الأصول، فإن أسلم وهو معسر بعد استطاعته في الكفر .. فلا أثر لها إلا في المرتد، فإن كلا منهما يستقر في ذمته باستطاعه في الردة، ذكره في «المجموع». [بيان استطاعة المباشرة وشروطها] ويعتبر في لزومهما الاستطاعة؛ لقوله تعالى: {اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، وهي نوعان: استطاعة مباشرة، واستطاعة تحصيلهما بغيره، وقد ذكر الناظم الأولى بقوله: (ذا استطاعة لكل ما يحتاج من مأكول أو مشروب) أي: وملبوس، وأوعيتها حتى السفرة التي يأكل عليها في ذهابه ورجوعه إلى بلده وإن لم يكن له بها أهل وعشيرة؛ لما في الغربة من الوحشة وانتزاع النفوس إلى الأوطان، فلو لم يجد ما ذكر، لكن كان يكسب في سفرة ما يفي بمؤنته وسفره طويل؛ أي: مرحلتان فأكثر .. لم يكلف الحج؛ لأنه قد ينقطع عن الكسب لعارض، وبتقدير ألا ينقطع عنه فالجمع بين تعب السفر والكسب تعظم فيه المشقة، وإن قصر سفره وهو يكسب

في يوم كفاية أيام .. كلف الحج بأن يخرج له؛ لقلة المشقة فيه، بخلاف ما إذا كان لا يكسب في يوم إلا كفاية يومه .. فلا يلزمه؛ لأنه قد ينقطع عن كسبه في أيام الحج فيضرر. ويعتبر كونه ذا استطاعة لمركوب بشرائه بثمن مثله، أو استئجاره بأجرة مثله، لائق به؛ بأن يصلح لمثله ويثبت عليه، هذا إن كان بينه وبين مكة مرحلتان أو دونهما وضعف عن المشي، وسواء أقدر الأول على المشي أم لا، لكن يستحب للقادر عليه الحج، وصحح الرافعي أن المشي أفضل، والنووي أن الركوب أفضل، لكن يستحب أن يركب على القتب والرحل دون المحمل والهودج؛ اقتداء به (صلى الله عليه وسلم). أما اعتبار الزاد والراحلة .. فلتفسير السبيل في الآية بهما في خبر الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأما الأوعية ونحوها .. فللضرورة إليها، فإن لحقه بالركوب مشقة شديدة .. اشترط وجود محمل، واشترط شريك يجلس في الشق الآخر، فإن لم يجد الشريك .. لم يلزمه الحج وإن وجد مؤنة المحمل بتمامه. قال في «الشامل»: ولو لحقه مشقة عظيمة في ركوب المحمل .. اعتبر في حقه الكنيسة، وأطلق المحاملي وغيره أن المرأة يعتبر في حقها المحمل؛ لأنه أستر لها. وأما من بينه وبين مكة دون مرحلتين وهو قوي على المشي .. فيلزمه الحج، ولا يعتبر في حقه وجود المركوب. ويشترط فيما مر: كونه فاضلاً عن دينه، ومؤنة من عليه مؤنتهم مدة ذهابه وإيابه، وصرح الدارمي بمنعه من الحج حتى يترك لممونه مؤنته مدة الذهاب والإياب، وسواء في الدين الحال؛ لأنه ناجز والحج على التراخي، والمؤجل؛ لأنه إذا صرف ما معه إلى الحج .. فقد يحل الأجل، ولا يجد ما يقتضي به الدين، وقد تخترمه المنية فتبقى ذمته مرهونة، ولو كان ماله ديناً في ذمة إنسان: فإن أمكن تحصيله في الحال .. فكالحاصل، وإلا .. فكالمعدوم. والأصح: اشتراط كونه فاضلاً عن مسكنه، ورقيق يحتاج إليه لخدمته لزمانته أو منصبه، والخلاف فيما إذا كانت الدار مستغرقة بحاجته، وكانت سكنى مثله، والرقيق رقيق مثله، فأما إذا أمكن بيع بعض الدار أو الرقيق، ووفى ثمنه بمؤنة الحج، أو كانا نفيسين لا يليقان بمثله ولو

أبدلهما لو في التفاوت بمؤنة الحج .. فإنه يلزمه ذلك جزماً، ولا يلزم أن يأتي في النفيسين المألوفين الخلاف فيهما في الكفارة؛ لأن لها بدلاً، قاله في «الروضة» معترضاً به قول الرافعي: لا بد من عوده هنا. والأصح: أنه يلزمه صرف مال تجارته فيما ذكر، وفارق المسكن والرقيق؛ بأنه محتاج إليهما في الحال، وهذا يتخذ ذخيرة للمستقبل، ولو كان له مستغلات يحصل له منها نفقته .. لزمه بيعها وصرفها فيما ذكر في الأصح. ولا يلزم الفقيه بيع كتبه للحج في الأصح، إلا أن يكون له بكل كتاب نسختان، فيلزمه بيع إحداهما؛ لعدم حاجته إليها؛ ذكره في «المجموع». ولو ملك ما يمكنه به الحج واحتاج إلى النكاح لخوفه العنت .. فصرف المال إلى النكاح أهم؛ لأن الحاجة إليه ناجزة والحج على التراخي، وصرح الإمام بعدم وجوبه عليه، وصرح كثير من العراقيين وغيرهم بوجوبه، وصححه في «الروضة»، وعلله صاحب «الشامل» وغيره بأن النكاح من الملاذ فلا يمنع وجوب الحج. وخيل الجندي وسلاحه ككتب الفقيه. ويشترط أمن الطريق ظناً بحسب ما يليق به، فلو خاف في طريقه على نفسه أو ماله سبعاً أو عدواً أو رصدياً -وهو من يأخذ مالاً على المراصد- ولا طريق له سواه .. لم يجب عليه الحج وإن كان الرصدي يرضى بشيء يسير، ويكره بذل المال لهم؛ لأنه يحرضهم على التعرض للناس. نعم؛ إن كان الباذل هو الإمام أو نائبه .. وجب الحج؛ كما نقله المحب الطبري عن الإمام، وسواء أكان الذين يخافهم مسلمين أم كفاراً، لكن إن كانوا كفاراً وأطاقوا مقاومتهم .. استحب لهم أن يخرجوا للحج ويقاتلوهم؛ لينالوا ثواب الحج والجهاد، وإن كانوا مسلمين .. لم يستحب الخروج والقتال. ولو كان له طريق آخر آمن .. لزمه سلوكه وإن كان أبعد من الأول؛ إذا وجد ما يقطعه به.

قال السبكي والبلقيني وغيرهما: والمراد: الخوف العام، حتى لو كان الخوف في حقه وحده .. قضى من تركته كالزمن. والأظهر: وجوب ركوب البحر لمن لا طريق له سواه إن غلبت السلامة في ركوبه؛ كسلوك طريق البر عند غلبة السلامة، فإن غلب الهلاك أو استوي الأمران .. لم يجب، بل يحرم: لما فيه من الخطر، وليس النهر العظيم كجيحون في معنى البحر؛ لأن المقام فيه لا يطول وخطره لا يعظم. والأصح: أنه تلزمه أجرة البذرقة؛ أي: الخفارة؛ لأنها من أهب الحج؛ فيشترط في وجوبه القدرة عليها. ويشترط وجود الماء والزاد في المواضع المعتاد حمله منها بثمن المثل، وهو القدر اللائق به في ذلك الزمان والمكان، فإن كان لا يوجد بها زاد؛ لخلوها من أهلها وانقطاع الماء، أو كان يوجد بها بأكثر من ثمن المثل .. لم يجب الحج ويشترط وجود علف الدابة في كل مرحلة؛ لأن المؤنة تعظم بحمله لكثرته، وفي «المجموع»: ينبغي اعتبار العادة فيه كالماء. ويشترط في حق المرأة أن يخرج معها زوج أو محرم، أو نسوة ثقات، أو عبدها الأمين، لتأمن على نفسها، والأصح: أنه لا يشترط وجود محرم أو زوج لإحداهن؛ لأن الأطماع تنقطع بجماعتهن. والأصح: أنه تلزمها أجرة المحرم إذا لم يخرج إلا بها؛ لأنه من أهبة سفرها، ففي خبر «الصحيحين»: «لا تسافر امرأة إلا مع محرم»، فيشترط في وجوب الحج عليها: قدرتها على أجرته، وأجرة الزوج كأجرة المحرم، قال في «المهمات»: والمتجه: الاكتفاء باجتماع امرأتين معها، ثم اعتبار العدد إنما هو بالنظر إلى الوجوب، وإلا .. فلها أن تخرج مع الواحدة لفرض الحج على الصحيح في شرحي «المهذب» و «مسلم». قال في «المجموع»: والخنثى المشكل يشترط في حقه من المحرم ما يشترط في المرأة، فإن كان معه نسوة من محارمه كأخواته وعماته .. جاز، وإن كن أجنبيات .. فلا؛ لأنه يحرم عليه الخلوة بهن، ذكره صاحب «البيان» وغيره. انتهى.

وقال قبل هذا بيسير: المشهور: جواز خلوة رجل بنسوة لا محرم له فيهن، معترضاً به قول الإمام وغيره بحرمة ذلك، فاستغنى بهذا الاعتراض عن مثله في الخنثى الملحق بالرجل احتياطاً. ويشترط في حق الأعمى مع ما مر وجود قائد له، وهو كالمحرم في حق المرأة، والمحجوز عليه بسفه كغيره، لكن لا يدفع المال إليه؛ لتبذيره، بل يخرج معه الولي، أو ينصب شخصاً له لينفق عليه في الطريق بالمعروف، وأجرته كأجرة المحرم. ويدخل في شرط أمن الطريق -كما قال الرافعي- ما ذكره البغوي وغيره: أنه يشترط أن يجد رفقة يخرج معهم على العادة، قال المتولي: فإن كانت الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها .. فلا حاجة إلى الرفقة. ويشترط إمكان السير؛ وهو أن يبقى بعد الاستطاعة زمن يمكن السير فيه إلى الحج السير المعهود، فلو احتاج إلى أن يقطع كل يوم، أو في بعض الأيام أكثر من مرحلة .. لم يلزمه. فإمكان السير شرط لوجوب الحج؛ كما نقله الرافعي عن الأئمة، وقال ابن الصلاح: إنما هو شرط استقراره في ذمته؛ ليجب قضاؤه من تركته لو مات قبل الحج، وليس شرطاً لأصل الوجوب، فيجب على المستطيع في الحال؛ كالصلاة تجب بأول الوقت قبل مضى زمن يسعها، وتستقر في الذمة بمضي زمن التمكن من فعلها، وصوب في «الروضة» الأول، وأجاب عن الصلاة بأنها إنما تجب في أول الوقت؛ لإمكان تتميمها. وقول الناظم: (أو مشروب) بدرج الهمزة للوزن. [استطاعة تحصيل الحج بالغير] النوع الثاني: استطاعة تحصيله بغيره؛ فالعاجز عن الحج بالموت أو عن الركوب، إلا بمشقة شديدة؛ لكبر أو زمانه .. يحج عنه، ويجب على المغصوب أن يستأجر من يحج عنه ولو أجيراً ماشياً بأجرة المثل بشرط كونها فاضلة عن الدين والمسكن والخادم، وكذا الكسوة والنفقة، لكن ليوم الاستئجار فقط، ولو وجد دون الأجرة ورضي بها .. لزمه، ويشترط

لاستنابة المعضوب أن يكون بينه وبين مكة مرحلتان؛ كما نقله في «المجموع» وأقره. ولو بذل ولده أو أجنبي مالا للأجرة .. لم يجب قبوله في الأصح؛ لما فيه من المنة الثقيلة. ولو بذل ولده الطاعة في الحج .. وجب قبوله بالإذن له، وكذا الأجنبي في الأصح، والمنة في ذلك ليست كالمنة في المال، ألا ترى أن الإنسان يستنكف عن الاستعانة بمال الغير، ولا يستنكف عن الاستعانة ببدنه في الأشغال. ويشترط لوجوب قبول الطاعة: كون المطيع موثوقاً به مؤدياً لفرضه ولو نذراً، غير معضوب، وكذا كونه راكباً، وغير معول على الكسب أو السؤال إن كان أصلا أو فرعاً في الأصح. والأصح: وجوب التماس الحج من ولد توسم طاعته. [أركان الحج] (أركانه: الإحرام بالنية، قف ... بعد زوال التسع إذ تعرف) (وطاف بالكعبة سبعاً، وسعى ... من الصفا لمروة مسبعا) (ثم أزل شعراً ثلاثا نزره ... وما سوى الوقوف ركن العمرة) أي أركان الحج الخمسة: [الركن الأول: الإحرام بالحج] الأول: الإحرام بالحج: وهو نية الدخول فيه؛ لخبر: «إنما الأعمال بالنيات»، ويستحب أن يتلفظ بما نواه، وأن يلبي فيقول بقلبه ولسانه: (نويت الحج وأحرمت به الله تعالى، لبيك اللهم ... ) إلى آخره، وسمي بذلك؛ لاقتضائه دخول الحرم، أو تحريم الأنواع الآتية. وينعقد معيناً؛ بأن ينوي حجاً أو عمرة أو كليهما، ومطلقاً بألا يزيد في النية على نفس الإحرام، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: «من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة .. فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج ..

فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة .. فليفعل»، وروى الشافعي: (أنه صلى الله عليه وسلم) خرج هو وأصحابه مهلين ينتظرون القضاء؛ أي: نزول الوحي، فأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجاً). والتعيين أفضل؛ ليعرف ما يدخل فيه، فإن أحرم مطلقاً في أشهر الحج .. صرفه بالنية إلى ما شاء من النسكين، أو إليهما، ثم اشتغل بالأعمال، ولا يجزئه العمل قبل النية. وإن أطلق في غير أشهره .. فالأصح: انعقاده عمرة، فلا يصرفه إلى الحج في أشهره، ولعمرو أن يحرم كإحرام زيد، روى الشيخان عن أبي موسى: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «بم أهللت؟ » فقلت: لبيت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل»، فإن كان زيد محرماً .. انعقد إحرامه كإحرامه؛ إن كان حجاً .. فحج، وإن كان عمرة .. فعمرة، وإن كان قراناً .. فقران، وإن كان مطلقاً .. فمطلق، ويتخير كما يتخير زيد، ولا يلزمه الصرف إلى ما يصرف إليه زيد، إلا إذا أراد إحراماً كإحرامه بعد تعيينه، ولا التمتع إن كان زيد أحرم بعمرة بنية التمتع. وإن كان زيد أحرم فاسداً .. فهل ينعقد إحرام عمرو مطلقاً أو لا؟ وجهان، أصحهما: الأول، أو أحرم زيد مطلقاً، ثم عينه قبل إحرام عمرو .. فالأصح: انعقاد إحرامه مطلقاً. ويجريان فيما لو أحرم زيد بعمرة ثم أدخل عليها الحج .. فعلى الأصح: عمرو معتمر، والوجهان فيما لو أطلق عمرو، أما لو خطر له التشبيه بأوله أو في الحال .. فالعبرة به قطعاً، ولو أخبره زيد بما أحرم به ووقع في نفسه خلافه .. فوجهان، أصحهما: يعمل بخبره. ولو قال: (أحرمت بعمرة)، فعمل بقوله فبان حجاً .. تبين إحرام عمرو بحج، فإن فات الوقت .. تحلل وأرق دماً من ماله على الأصح، وإن لم يكن زيد محرماً .. انعقد إحرامه مطلقاً وإن علم عدم إحرام زيد، فإن تعذر معرفة إحرامه بموته أو جنونه أو غيبته .. نوى القران وعمل أعمال التسكين؛ ليتحقق الخروج عما شرع فيه. ثم لكل من الحج والعمرة ميقاتان: زماني، ومكاني. فالزماني للحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، فإن أحرم به في غير

أشهره .. انعقد عمرة على الصحيح، أو أحرم بحجتين أو عمرتين .. انعقدت واحدة ولا تلزمه الأخرى. وللعمرة: جميع السنة، إلا لمحرم بالحج في الأظهر، وعاكف بمنى للمبيت والرمي، ويسن الإكثار منها، ولا تكره في وقت، ويكره تأخيرها عن سنة الحج. والميقات المكاني للحج في حق من بمكة: نفس مكة، ومن باب داره أفضل في الأظهر، ويأتي المسجد محرماً، ولو جاوز البنيان وأحرم في الحرم .. أساء، وعليه دم على الأصح إن لم يعد، أو في الحل .. فمسيء قطعاً وعليه دم، إلا أن يعود قبل الوقوف إلى مكة. وأما غيره: فميقات المتوجه من المدينة: ذو الحلفية، ومن الشام ومصر والمغرب: الجحفة، ومن تهامة اليمن: يلملم، ومن نجد اليمن ونجد الحجاز: قرن، ومن المشرق: ذات عرق ومن العقيق أفضل والعبرة بمواضعها، ومن مسكنه بين مكة والميقات: فميقاته مسكنه، والأفضل: أن يحرم من أول الميقات، ويجوز من آخره. ومن سلك البحر أو طريقاً لا ميقات به: فإن حاذى ميقاتاً .. أحرم من محاذاته، فإن اشتبه .. تحرى، ولا يخفى الاحتياط، أو ميقاتين .. أحرم من محاذاتهما إن تساوت مسافتهما إلى مكة، وإن تفاوتا وتساويا في المسافة إلى طريقه .. أحرم من محاذاة أبعدهما في الأصح، وإن تفاوتا في المسافة إلى مكة وإلى طريقه .. فالعبرة بالقرب إليه في الأصح، وإن لم يحاذ ميقاتاً .. أحرم على مرحلتين من مكة: إذ ليس شيء من المواقيت أقل مسافة من هذا القدر. ومن مر بميقات غير مريد نسكاً ثم أراده .. فميقاته موضعه، أو مريده .. لم تجز مجاوزته بغير إحرام. وهل الأفضل أن يحرم من دويرة أهله؛ لأنه أكثر عملاً، أو من الميقات؟ رجح الرافعي الأول، والنووي الثاني، وقال: إنه الموافق للأحاديث الصحيحة. وميقات العمرة لمن هو خارج الحرم: ميقات الحج، ومن بالحرم يلزمه الخروج إلى أدنى الحل ولو بخطوة من أي جهة شاء، فإن لم يخرج وأتى بأفعال العمرة .. أجزأته في الأظهر، وعليه دوم، ولو خرج إلى الحل بعد إحرامه، ثم أتى بأفعالها .. اعتد بها قطعا ولا دم عليه على المذهب. وأفضل بقاع الحل: الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية.

[الركن الثاني: الوقوف بعرفة] الثاني: الوقوف بعرفة: وواجبه: أن يحضر بجزء من أرضها وإن كان ماراً في طلب آبق ونحوه. وأول وقته: بعد زوال الشمس يوم عرفة؛ وهو اليوم التاسع حين يعرف بها، ويمتد وقته إلى فجر يوم النحر؛ لخبري مسلم: «عرفة كلها موقف»، (وأنه (صلى الله عليه وسلم) وقف بعد الزوال)، وخبر أبي داوود بإسناد صحيح: «الحج عرفة، من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر .. فقد أدرك الحج»، وفي رواية: «من جاء عرفة ليلة جمع قبل طلوع الفجر .. فقد أدرك الحج»، و (ليلة جمع): هي ليلة المزدلفة. ويشترط أهليته للعبادة، فلو حضرها ولم يعلم أنها عرفة، أو نائماً، أو قبل الزوال ونام حتى خرج الوقت .. أجزأه، ولا يصح وقوف المغمى عليه والمجنون والسكران، قال المتولي: لكن حج المجنون يقع نفلاً؛ كحج الصبي غير المميز، وحكاه عنه الشيخان وأقراه، واستشكل بقوله الشافعي في «الأم» و «الإملاء» في المغمى عليه: فاته الحج، وأجيب بأن الجنون لا ينافي الوقوع نفلاً؛ فإنه إذا جاز للولي أن يحرم عن المجنون ابتداء .. ففي الدوام أولى أن يتم حجة فيقع نفلاً، بخلاف المغمى عليه؛ إذ ليس للولي أن يحرم عنه ابتداء، فليس له أن يتم حجه. ولو اقتصر على الوقوف ليلاً .. صح على المذاهب، أو نهاراً وأفاض قبل الغروب .. صح قطعاً. نعم؛ إن لم يعد .. أراق دماً استحباباً، وفي قول: وجوباً، وإن عاد فكان بها عند الغروب .. فلا دم. ولو غلطوا فوقفوا اليوم العاشر .. أجزأهم، إلا أن يقلوا على خلاف العادة، أو تأتي شرذمة يوم النحر على ظن أنه عرفة فيقضون في الأصح، وليس من الغلط المراد لهم ما إذا وقع ذلك

بسبب الحساب؛ كما ذكره الرافعي، أو وقفوا في الحادي عشر، أو في غير عرفة .. لم يجزئهم، أو في الثامن .. فكذلك، ثم إن علموا قبل فوات الوقت .. وجب الوقوف فيه، أو بعده .. وجب القضاء في الأصح. ولو قامت بينة برؤية الهلال ليلة العاشر وهم بمكة، ولم يتمكنوا من الوقوف ليلاً .. وقفوا من الغد، ومن ردت شهادته في هلال ذي الحجة .. لزمه أن يقف في التاسع عنده. [الركن الثالث: الطواف بالبيت] الثالث: الطواف بالبيت، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} سبعاً من المرات ولو متفرقة وفي الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، ماشياً كان أو راكباً، بعذر أو غيره، فلو اقتصر على ست .. لم يجزه؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) طاف سبعاً وقال: «خذوا عني مناسككم». ويدخل وقته بانتصاف ليلة النحر بعد الوقوف. ثم للطواف بأنواعه واجبات وسنن: [واجبات الطواف] أما الواجب: فيشترط ستر العورة، وطهارة الحدث والنجس حتى ما يطأه من المطاف، بخلاف السعي والوقوف وباقي الأعمال، قال (صلى الله عليه وسلم): «الطواف بمنزلة الصلاة، إلا أن الله قد أحل فيه المنطق، فمن نطق .. فلا ينطق إلا بخير» رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، فول طاف عارياً أو محدثاً، أو على بدنه أو ثوبه نجاسة غير معفو عنها .. لم يصح طوافه، وكذا لو كان يطأ في مطافه النجاسة. قال في «المجموع»: وغلبتها فيه مما عمت به البلوى، وقد اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين العفو عنها، وينبغي أن يقال: يعفى عما يشق الاحتراز عنه من ذلك، ولو أحدث فيه .. توضأ وبنى، وفي قول: يستأنف كما في الصلاة، وفرق الأول بأن الطواف يحتمل فيه ما لا يحتمل في الصلاة؛ كالفعل الكثير والكلام.

وأن يجعل البيت عن يساره، ويمر تلقاء وجهه مبتدئاً في ذلك بالحجر الأسود، محاذياً له في مروره عليه ابتداء بجميع بدنه؛ بألا يقدم جزءاً من بدنه على جزء من الحجر، وفي «المهذب» و «شرحه» يستحب استقباله، ويجوز جعله عن يساره، وذكر الإمام والغزالي أن المراد بجميع البدن: جميع الشق الأيسر، فلو بدأ بغير الحجر .. لم يحسب، فإذا انتهى إليه .. ابتدأ منه، ولو حاذاه ببعض بدنه وبعضه مجاوز إلى جانب الباب .. فالحديد: أنه لا يعتد بهذه الطوفة، ولو حاذى بجميع بدنه بعض الحجر دون بعض .. أجزأه، ذكره العراقيون، كذا في «الروضة» كـ «أصلها» في المسألتين، وفي «المجموع» في الثانية: إن أمكن ذلك، ثم قال: وذكر صاحب «العدة» وغيره في المسألتين قولين. انتهى. وظاهر أن المراد بمحاذاة الحجر في المسألتين: استقباله، وأن عدم الصحة في الأولى؛ لعدم المرور بجميع البدن، فلا بد في استقباله المعتد به مما تقدم، وهو ألا يقدم جزءاً من بدنه على جزء من الحجر، المذكور في «الروضة» و «أصلها» وإن عبر فيه بـ (ينبغي). ولو استقبل البيت أو استدبره، أو جعله عن يمينه ومشى نحو الركن اليماني، أو نحو الباب، أو عن يساره ومشى القهقرى نحو الركن اليماني .. لم يصح طوافه، ولو مشى على الشاذروان؛ وهو الجدار البارز عن علوة بين ركن الباب والركن الشامي، أو كان يضع رجلاً عليه أحياناً ويقفز بالأخرى، أو دخل من إحدى فتحتي الحجر وخرج من الأخرى .. لم تصح طوفته، أو مس جزءاً من البيت في موازاته .. فكذا على الصحيح. والحجر كله من البيت في وجه، والصحيح: قدر ستة أذرع فقط. وأن يطوف سبعاً داخل المسجد ولو في أخرياته، ولا بأس بالحائل فيه كالسقاية والسواري، ولو وسع المسجد .. اتسع المطاف. والأصح: أنه لا يجب نية الطواف؛ لشمول نية الحج أو العمرة له. وأنه يشترط ألا يصرفه لغيره. وأنه لو نام فيه على هيئة لا تنقض الوضوء .. صح.

ولو حمل الحلال محرماً أو محرمين، وطاف .. حسب للمحمول بشرطه، وكذا لو حمل محرم قد طاف عن نفسه، أو لم يدخل وقت طوافه، وإلا .. فالأصح: أنه إن قصده للمحمول .. فله، أو قصده أولهما أو لا قصد .. فللحامل فقط. ولو طاف المحرم بالحج معتقداً أنه في عمرة .. أجزأه عن الحج؛ كما لو طاف عن غيره وعليه طواف. [سنن الطواف] وأما السنن: فإنه يطوف ماشياً إلا لعذر؛ كمرض أو نحوه، أو يحتاج لظهوره ليستفتى، فإن ركب بلا عذر .. لم يكره. وأن يستلم الحجر الأسود بيده أول طوافه ويقبله، ويضع جبهته عليه، فإن عجز .. استلمه، فإن عجز .. أشار بيده لا بفمه، ولا يقبل الركنين الشاميين ولا يستلمهما، ولا يقبل اليماني، بل يستلمه ثم يقبل يده؛ وكذا إذا اقتصر على استلام الحجر الأسود؛ لزحمة، أو استلم بخشبة؛ للعجز، ويراعي ذلك في كل طوفة، وفي الأوتار آكد؛ لأنها أفضل. ولا يسن للنساء استلام ولا تقبيل، إلا عند خلو المطاف. وأن يقول أول طوافه: (باسم الله، والله أكبر، اللهم؛ إيمانا بك، وتصديقاً بكتبك، ووفاء بعهدك، وإتباعاً لسنة نبيك محمد (صلى الله عليه وسلم)). وبين الركنين اليمانيين: (اللهم، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، ويدعو بما شاء، ومأثور الدعاء أفضل من القراءة على الصحيح، وهي أفضل من غير المأثور. وأن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى؛ بأن يسرع مشيه مع تقارب خطاه، والمشهور: استيعاب الثلاث بالرمل، ويمشي في الأربعة الأخيرة على هينته، ويختص الرمل بطواف يعقبه سعي، وفي قول: بطواف القدوم. وعلى القولين: لا يرمل في طواف الوداع، ويرمل المعتمر والحاج الآفاقي الذي لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف، وكذا قبله إن سعى عقب طواف القدوم، وإلا .. فلا في الأظهر. وإذا رمل فيه وسعى بعده .. لم يقضه في طواف الإفاضة في الأصح، أو طاف ورمل ولم يسع .. رمل في طواف الإفاضة عند الأكثر، ويرمل مكي أنشأ حجة من مكة في الأظهر، ولو ترك الرمل في الثلاثة الأولى .. لم يقضه في الأربعة الأخيرة.

وليقل فيه: (اللهم؛ اجعله حجاً مروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً). وأن يقرب من البيت، فلو تعذر الرمل مع القرب؛ لزحمة: فإن رجا فرجة .. وقف ليرمل، وإلا .. فالرمل مع البعد أفضل، إلا أن يخاف صدم النساء .. فالقرب بلا رمل أولى، ولو خافه مع القرب أيضاً، وتعذر في جميع المطاف .. فتركه أولى. ويسن أن يتحرك في مشيه، ويرى أنه لو أمكنه .. لرمل. ولو طاف محمولاً أو ركباً .. فالأظهر: أنه يرمل به الحامل ويحرك الدابة. وأن يضطبع في كل طواف يرمل فيه، وكذا في السعي على المذهب لا في ركعتي الطواف في الأصح؛ وهو جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على الأيسر. ولا ترمل المرأة ولا تضطبع، وكذا الخنثى. وأن يصلي بعد الطواف ركعتين، وقول: تجب، وأن يقرأ في الأولى: (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية: (الإخلاص) خلف المقام، وإلا .. ففي الحجر، وإلا .. ففي المسجد، وإلا .. ففي الحرم، وإلا .. ففي أي موضع شاء من غيره، ويجهر ليلاً ويسر نهاراً. وأن يوالي بين الطوفات؛ فلو فرق كثيراً .. لم يبطل، وفي قول: تجب إلا لعذر؛ كالتفريق بمكتوبة أقيمت. ويكره قطع طواف واجب لجنازة أو راتبة، وسيأتي بعض هذه السنن في كلام الناظم. ويسن أن يستلم الحجر بعد الطواف وصلاته، ثم يخرج من باب الصفا للسعي. [الركن الرابع: السعي] الرابع: السعي بين الصفا والمروة سبعاً ولو متفرقة، ذهابه من الصفا إلى المروة مرة، وعوده منها إليه أخرى؛ للإتباع في ذلك، رواه الشيخان، وقال (صلى الله عليه وسلم): «أبدأ بما بدأ الله به» رواه مسلم، ورواه النسائي: «ابدؤوا» بلفظ الأمر. فليلصق عقبه بأصل ما يذهب منه، ورؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، والراكب يلصق حافر دابته، وأن يسعى بعد طواف ركن أو قدوم؛ بحيث لا يتخلل بينهما الوقوف بعرفة، ومن سعى بعد قدوم .. لم يعده.

ولو شك في عدد السعي أو الطواف .. أخذ بالأقل، ولو اعتقد التمام فأخبره ثقة ببقاء شيء .. لم يلزمه، لكن يسن. ويسن أن يرقى على الصفا والمروة قدر قامة، فإذا رقي .. استقبل البيت وقال: (الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)، ثم يدعو بما أحب ديناً ودنيا، ويعيد الذكر والدعاء ثانياً وثالثاً. وأن يمشي أول السعي وآخره، ويعدو في الوسط، وموضع النوعين معروف هناك، فيمشي حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ستة أذرع، فيعدوا حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين؛ أحدهما في ركن المسجد، والآخر متصل بدار العباس، فيمشي حتى ينتهي إلى المروة، وإذا عاد منها إلى الصفا .. مشى في موضع مشيه، وسعى في موضع سعيه أولاً. ولا ترقى المرأة على الصفا والمروة، ولا تعدو في وسط المسعى، ومثلها الخنثى. وأن يقول في سعيه: (رب؛ اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك تعلم ما لا نعلم إنك أنت الأعز الأكرم). وأن يسعى ماشياً، ويجوز راكباً، وأن يوالي بين مرات السعي، وبين الطواف والسعي، فلو تخلل فصل طويل .. لم يضر بشرط ألا يتخلل ركن، فلو طاف للقدوم ثم وقف بعرفة ثم سعى .. لم يصح السعي، وأن يتحرى لسعيه وقت خلوه، وإذا عجز عن العدو؛ لزحمة .. فليتشبه. [الركن الخامس: الحلق أو التقصير] الخامس: إزالة ثلاث شعرات من الرأس، وهو أقل ما يجزئ حلقاً أو تقصيراً أو نتفاً أو إحراقاً أو قصاً أو بنورة، ويكتفي بإزالتها في دفعات؛ كما صححه النووي في «مجموعه» و «مناسكه»، لكن ظاهر كلام «الروضة» و «أصلها» تصحيح عدم الاكتفاء بأخذها بذلك،

فإنهما بنياه على تكميل الدم بذلك، والأصح: عدم التكميل، بل يجب ثلاثة أمداد، وأجيب بأنه لا يلزم من البناء الاتحاد في التصحيح، والحلق أفضل. وتقصر المرأة بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها، ومثلها الخنثى. ويسن أن يبدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر، وأن يستقبل القبلة، وأن يدفن شعره. ومن لا شعر برأسه .. لا شيء عليه، ويسن إمرار الموسى على رأسه، وإن أخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئاً .. كان أحب. ومن برأسه علة تمنعه من التعرض للشعر .. يصبر إلى الإمكان ولا يفدي؛ إذ الركن لا يجبر بدم؛ لأن الماهية لا تحصل إلا بجميع أركانها. ومن نذر الحلق في وقته .. لزمه، ووقت حلق المعتمر إذا فرغ من السعي. وينبغي -كما قاله الشيخان- عد ترتيب الأركان ركناً؛ لأنه معتبر في معظمها، فيقدم الإحرام والوقوف على الطواف والحلق، ويؤخر السعي عن الطواف. وما سوى الوقوف أركان العمرة؛ لشمول الأدلة السابقة لها. (والدم جابر لواجبات ... أولها: الإحرام من ميقات) (والجمع بين الليل والنهار ... بعرفة، والرمي للجمار) (ثم المبيت بمنى، والجمع ... وآخر الست طواف الودع) تقدم في الكلام على (المقدمة) أن الفرض والواجب مترادفان خلافاً للحنفية، لكن قال أصحابنا هنا: إن الركن ما لا يجبر بدم، والواجب ما يجبر بدم. [واجبات الحج] وقد ذكر الناظم في هذه الأبيات: أن الدم جابر لترك واجبات ستة: أولهما: الإحرام من الميقات؛ لأن من بلغه مريداً للنسك .. لم تجز مجاوزته بغير إحرام، فإن فعل ولو ناسياً أو جاهلاً .. لزمه العود ليحرم منه إلا العذر؛ كخوف الطريق، أو انقطاع عن

رفقة، أو ضيق الوقت، فإن لم يعد .. لزمه دم وهو شاة أضحية، فإن عجز .. فالأصح: أنه كالمتمتع يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. وإن عاد ثم أحرم منه .. فالمذهب: أنه لا دم عليه، وكذا إن أحرم ثم عاد قبل تلبسه بنسك. ثانيها: الجمع بين الليل والنهار بعرفة؛ لأنه ترك نسكاً، والأصل في ترك النسك إيجاب الدم، إلا ما خرج بدليل؛ وقد صرح عن ابن عباس: «من نسي من نسكه شيئاً أو تركه .. فليهرق دماً» رواه ابن حزم مرفوعاً، وما تقرر من وجوب الدم بترك الجمع بين الليل والنهار بعرفة .. قول مرجوح صححه جماعة منهم ابن الصلاح، والأظهر: أن الجمع بينهما سنة، وأن الدم لتركه مندوب. ثالثها: الرمي للجمار؛ أي: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ورمي الجمار الثلاث إذا عاد إلى منى وبات بها ليالي التشريق الثلاث؛ وهي الحادي عشر وتالياه، كل جمرة بسبع حصيات؛ فمجموع الرمي سبعون حصاة برمي جمرة العقبة؛ ودليل ذلك كله: الإتباع. ويدخل وقت رمي جمرة العقبة بانتصاف ليلة النحر لمن وقف قبل ذلك، والأفضل أن يرمي بعد طلوع الشمس، ويبقى وقت الاختيار إلى آخر يوم النحر، ويدخل رمي التشريق بزوال الشمس، ويخرج وقت الاختيار بغروبها. وإذا ترك رمي يوم أو يومين عمداً أو سهواً .. تداركه في باقي الأيام على الأظهر، ولا دم، فيتدارك الأول في الثاني، أو الثالث والثاني، أو الأولين في الثالث، ويكون ذلك أداء فيكون الوقت المضروب وقت اختيار؛ كوقت الاختيار للصلاة. وجملة الأيام في حكم اليوم الواحد، فإن لم يتدارك .. وجب الدم كما مر، فإن ترك رمي يوم النحر، أو يوم من أيام التشريق .. فدم، وكذا في اليومين والثلاثة، وكذا لو ترك الكل عند الجمهور، والمذهب: تكميل الدم في ثلاث حصيات أيضاً؛ كما يكمل في حلق ثلاث شعرات، وفي الحصاة الواحدة مد طعام، وفي الحصاتين مدان. ويشترط: رمي السبع واحدة واحدة، وترتيب الجمرات؛ بأن يرمي أولا إلى الجمرة التي

تلي مسجد الخيف، ثم إلى الوسطى، ثم إلى جمرة العقبة، ويكون المرمي حجراً فيجزئ بأنواعه؛ كالكذان والبرام والمرمر، وكذا ما يتخذ منه الفصوص؛ كالياقوت والعقيق في الأصح، ولا يجزئ اللؤلؤ وما ليس بحجر من طبقات الأرض؛ كالإثمد والزرنيخ والجص، وما ينطبع؛ كالذهب والفضة، وأن يسمى رمياً؛ فلا يكفي الوضع في المرمى، وقصد المرمى؛ فلو رمى في الهواء فوقع في المرمى .. لم يكف. والسنة: أن يرمي بقدر حصى الخذف، ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، فلو تدحرج وخرج منه .. لم يضر، ولا كون الرامي خارجاً عن الجمرة، فلو وقف بطرفها ورمى إلى الطرف الآخر .. جاز، وسيأتي هذا مع زيادة بسط. ومن عجز عن الرمي لعلة لا يرجى زوالها قبل خروج وقت الرمي .. استناب ولا يمنع زوالها بعده، ولا يصح رمي النائب عن المستنيب إلا بعد رميه عن نفسه، فلو خالف .. وقع عن نفسه، ولو زال عذر المستنيب بعد رمي النائب والوقت باق .. فليس عليه إعادة الرمي. رابعها: المبيت بمنى في لياليها؛ ويحصل بمعظم الليل، وإنما يلزم مبيت الليلة الثالثة لمن غربت الشمس عليه وهو مقيم بمنى، وحينئذ يلزمه رمي اليوم الثالث، فمن ترك المبيت في الليالي الثلاث .. لزمه دم، أو في ليلة .. فمد، أو ليلتين .. فمدان. نعم؛ يجوز تركه للمعذور ولا دم عليه؛ كرعاء الإبل وأهل سقاية العباس ولو من غير بني هاشم، فللصنفين أن يدعوا رمي يوم ويقضوه في تاليه قبل رميه، لا رمي يومين متواليين، فلو نفروا يوم النحر بعد رميه .. عادوا في ثاني التشريق، ولهم النفر مع الناس على الصحيح. ولأهل السقاية فقط إذا كانوا بمنى عند الغروب .. أن ينفروا بعده، ويتركوا المبيت، ورمي الغد، وفي شمول الرخصة لأهل سقاية أحدثت للحاج وجهان، أصحهما في «المجموع» و «زوائد الروضة»: نعم. ومن المعذورين: من له مال يخاف عليه ضياعه لو بات، أو مريض يحتاج إلى تعهده، أو يطلب آبقا، أو أمراً يخاف فوته، فلا شيء عليهم على الصحيح، ولهم النفر بعد الغروب.

وشرط جوازه لغير المعذور قبل غروب شمس اليوم الثاني: أن يكون بات الليلتين قبله، أو تركه لعذر. والتأخير إلى اليوم الثالث أفضل، وللإمام آكد؛ كما نقله في «المجموع» وأقره، ولو نفر فغربت قبل انفصاله من منى، أو عاد لشغل قبل الغروب أو بعده .. لم يلزمه المبيت على الصحيح، فلو تبرع به .. لم يلزمه الرمي في الغد، ولو غربت وهو في شغل الرحيل .. فالأصح في «الروضة»: جواز النفر. خامسها: المبيت بالجمع؛ وهي المزدلفة؛ للإتباع المعلوم من الأحاديث الصحيحة، ومن دفع منها قبل نصف الليل وعاد قبل الفجر .. فلا دم عليه، وإن لم يعد أو ترك المبيت أصلاً .. لزمه دم. وشرط مبيتها: أن يكون بها في ساعة من النصف الثاني. نعم؛ يستثنى المعذور بما مر في المبيت بمنى، ومن جاء عرفة ليلاً فاشتغل بالوقوف عنه، ومن أفاض من عرفة إلى مكة وطاف ففاته المبيت. سادسها: طواف الوداع لمن أراد الخروج من مكة، أو الانصراف من منى سواء أكان حاجاً أم لا، آفاقيا يقصد الرجوع إلى وطنه، أو مكياً يسافر لحاجة ثم يعود، وسواء أكان سفره طويلاً أم قصيراً؛ لثبوته عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قولاً وفعلاً، وفي «الصحيحين» عن ابن عباس: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)؛ أي: ومثلها النفساء، فمن تركه .. لزمه دم. فمن لم يرد الخروج من مكة .. لا يشرع له طواف الوداع، ومن خرج بلا وداع، وعاد قبل مسافة القصر وطاف .. سقط الدم، أو بعدها .. فلا في الأصح، ويجب العود في الحالة الأولى لا الثانية، وللحائض والنفساء النفر بلا وداع، فلو طهرت قبل مفارقة خطة مكة .. لزمها العود والطواف، أو بعد مسافة القصر .. فلا، وكذا قبلها على المذهب، فعلى هذا المسقط للعود: مفارقة مكة لا الحرم في الأصح. وينبغي وقوعه بعد فراغ الأشغال، ولا يمكث بعده، فإن مكث لغير عذر، أو لشغل غير

أسباب الخروج .. أعاده، أو لأسبابه؛ كشراء الزاد وشد الرحل .. فلا عند الجمهور، ولو أقيمت الصلاة فصلاها .. لم يعد، والأصح: أنه ليس من المناسك. وقول الناظم (بعرفه) بسكون الهاء: إجراء للوصل مجرى الوقف. (وسن: بدء الحج ثم يعتمر ... وليتجرد محرم، وبتزر) (يرتدي البياض، ثم التلبيه ... وأن يطوف قادم، والأدعية) (يرمل في ثلاثة مهرولا ... والمشي باقي سبعة تمهلاً) (والاضطباع في طواف يرمل ... فيه، وفي سعي به يهرول) (وركعتا الطواف من ورا المقام ... فالحجر فالمسجد إن يكن زحام) (وبات في منى بليل عرفة ... وجمعة بها، وبالمزدلفة) (بت وارتحل فجراً، وقف بالمشعر ... تدعو، وأسرع وادي المحسر) (وفي منى للجمرة الأولى رميت ... بسبع رميات الحصى حين انتهيت) (مكبراً للكل، واقطع تلبيه ... ثم اذبح الهدى بها كالأضحية) (واحلق بها أو قصرن مع دفن ... شعر، وبعده طواف الركن) (وبعد يوم العيد للزوال ... ترمي الجمار الكل بالتوالي) (باثنين من حلق ورمي النحر ... أو الطواف حل قلم الظفر) (والحلق واللبس وصيد، ويباح ... بثالث وطء وعقد ونكاح) (وأشرب لما تحب ماء زمزم ... وطف وداعاً، وأدع بالملتزم) [كيفيات الحج والأفضل منها] أي: وسن الابتداء ثم الإتيان بالعمرة، وهذا هو المسمى بالإفراد، فهو أفضل من التمتع والقران؛ أي: إن اعتمر في سنته؛ لأن الذين رووه عن حجه (صلى الله عليه وسلم) أكثر، ولأن جابراً منهم، وهو أقدم صحبة، وأشد عناية بضبط المناسك وأفعال النبي (صلى الله عليه وسلم) من لدن خروجه من المدينة إلى أن تحلل؛ ولأنهم أجمعوا على عدم كراهته، واختلفوا في كراهة التمتع، ولأن التمتع والقران وجب فيهما الدم بخلافه، والجبر دليل النقصان، ولأن المفرد لم يربح ما ربحه المتمتع من استباحة المحظورات، ولا ما ربحه القارن من اندراج أفعال

العمرة تحت الحج، أما إذا لم يعتمر في سنته .. فكلاهما أفضل منه؛ لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه. و (التمتع): أن يحرم بالعمرة ويفرغ منها، ثم ينشئ حجاً من مكة. و (القران): أن يحرم بهما معاً من الميقات ويعمل عمل الحج فيحصلان، أو يحرم بعمرة ثم يحج قبل الطواف، ولا يصح عكسه في الجديد. وقد انعقد الإجماع على جواز هذه الكيفيات الثلاث. والتمتع أفضل من القران؛ لأنه يعمل بعملين كاملين بخلاف القران. [سنن الإحرام] قوله: (وليتجرد محرم) أي: ويجب أن يتجرد الذكر لإحرامه عن مخيط الثياب والخفاف والنعال؛ لينتفي عنه لبسها في الإحرام الذي هو محرم عليه كما سيأتي. وما اقتضاه كلام الناظم من وجوب تجرده لإحرامه .. هو ما جزم به الرافعي في «العزيز»، والنووي في «المجموع»، وهو مقتضى ضبطه قول «المنهاج»: (ويتجرد) بالضم، لكن جرى في «مناسكه» على أنه مندوب، واستحسنه السبكي وغيره تبعاً للمحب الطبري، واستشهدوا له بأنه لم يحصل قبل الإحرام سبب وجوب النزع؛ ولهذا قالوا في الصيد: إنه لا يجب إرساله قبل الإحرام بلا خلاف. ويسن أن يلبس إزاراً ورداء أبيضين جديدين، إلا .. فمغسولين؛ أي: ونعلين، ويصلي ركعتين للإحرام، وتجزئ عنهما الفريضة والنافلة؛ لخبر «الصحيحين»: (أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في إزار ورداء)، (وأنه (صلى الله عليه وسلم) بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم)، وخبر أبي داوود وغيره: «البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها خير ثيابكم»، وقال ابن المنذر: ثبت أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «ليحرم أحدكم في إزار

ورداء ونعلين» انتهى، ورواه أبو عوانة في «صحيحه». ويسن أن يطيب بدنه للإحرام؛ للإتباع، ويجوز أن يطيب ثوبه في الأصح، ولا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا بطيب له جزم؛ لخبر «الصحيحين» عن عائشة قال: (كأني أنظر إلى وبيص -أي: بريق الطيب في مفرق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو محرم) لكن لو نزع ثوبه المطيب ثم لبسه .. لزمته الفدية في الأصح، كما لو أخذ الطيب من بدنه ثم رده إليه. ويسن للمرأة أن تخضب للإحرام يديها إلى الكوع، وأن تسمح وجهها بشيء من الحناء ثم الأفضل أن يحرم إذا استوت راحلته قائمة إلى طريقه، أو توجه لطريقه ماشياً. ويسن التلبية وإكثارها، وأن يرفع الرجل صوته بها؛ بحيث لا يضر نفسه ما دام محرماً في جميع أحواله، خصوصاً عند تغاير الأحوال؛ كركوب ونزول، وصعود وهبوط، واختلاط رفقة، وفراغ الصلاة، وإقبال الليل والنهار، ووقت السحر، فالاستحباب في ذلك متأكد؛ لخبر مسلم عن جابر في صفة حج النبي (صلى الله عليه وسلم): (أنه لزم تلبيته)، وخبر الترمذي: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال»، وقال: حسن صحيح. والمرأة لا ترفع صوتها، بل تقتصر على إسماع نفسها، فإن رفعته .. كره، والخنثى كالمرأة، ذكره في «المجموع». ولا تستحب في الطواف والسعي، وتستحب في سائر المساجد، ويرفع الصوت فيها، ولفظها: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، وإذا رأى ما يعجبه .. قال: (لبيك إن العيش عيش الآخرة)، وإذا فرغ من تلبيته .. صلى على النبي (صلى الله عليه وسلم) وسأل الله تعالى الجنة ورضوانه، واستعاذ به من النار.

[استحباب طواف القدوم لدخل مكة] ويسن لحاج دخل مكة قبل الوقوف أن يبدأ بطواف القدوم ومثله الحلال؛ لخبر «الصحيحين» عن عائشة: (أنه (صلى الله عليه وسلم) أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ، ثم طاف بالبيت)، وأورده الرافعي: (حج، فأول شيء بدأبه ... ) إلى آخره. ولو دخل والناس في مكتوبة .. صلاها معهم أولاً، ولو أقيمت الجماعة وهو في أثناء الطواف .. قدم الصلاة، وكذا لو خاف فوت فريضة أو سنة مؤكدة. ولو قدمت المرأة نهاراً وهي جميلة أو شريفة لا تبرز للرجال .. أخرت الطواف إلى الليل. وفي «الكفاية» عن الماوردي: أن من له عذر .. يبدأ بإزالته، وهو تحية البقعة؛ أي: المسجد الحرام؛ كما ذكره في «المجموع» قال: وفي فواته بالتأخير وجهان حكاهما إمام الحرمين، ويؤخر عنه اكتراء منزله وتغيير ثيابه. أما الداخل مكة بعد الوقوف والمعتمر .. فلا يطلب منهما طواف القدوم؛ لدخول وقت الطواف الذي عليهما، فلا يصح قبل أدائه أن يتطوعا بطواف؛ قياساً على أصل الحج والعمرة. ويسن لمن قصد حرم مكة لا لنسك؛ كأن دخل لتجارة أو رسالة أو زيادة أن يحرم بحج أو عمرة؛ كتحية المسجد لداخله. [سنن الطواف] وتسن الأدعية المأثورة لدخول المسجد، والطواف بالبيت وغير ذلك، فيقول أول طوافه: (باسم الله والله أكبر، اللهم؛ إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، وإتباعاً لسنة نبيك محمد (صلى الله عليه وسلم)، كذا ذكره الشافعي، وقال الرافعي: روي ذلك عن عبد الله بن السائب عن النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ وهو غريب، وقوله: (إيماناً) مفعول له؛ أي: لـ (أطرف) مقدراً. ويقول إذا وصل إلى الجهة التي تقابل باب الكعبة: (اللهم؛ البيت بيتك، والحرم

حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار)، ويشير بلفظه: (هذا) إلى مقام إبراهيم عليه السلام. ويقول عند الانتهاء إلى الركن العراقي: (اللهم؛ إني أعوذ بك من الشك والشرك، والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد). وعند الانتهاء إلى تحت الميزاب: (اللهم؛ أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقني بكأس محمد (صلى الله عليه وسلم) شراباً هنيئاً لا أظمأ بعده أبداً يا ذا الجلال والإكرام). وبين الركن اليماني والشامي: (اللهم؛ اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً مقبولاً، وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور). قال في «المهمات»: والمناسب للمعتمر أن يقول: (عمرة مبرورة)، ويحتمل استحباب التعبير بالحج؛ مراعاة للحديث ويقصد المعنى اللغوي وهو القصد. ويقول بين الركنين اليمانيين: «ربنا؛ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» رواه أبو داوود عن عبد الله بن السائب، ويدعو بما شاء في جميع طواف. ومأثور الدعاء أفضل من القراءة؛ للتأسي به (صلى الله عليه وسلم)، والقراءة فيه أفضل من غير مأثورة؛ لخبر الترمذي: «فضل كلام الله تعالى على سائر الكلام؛ كفضل الله على خلقه». ويسن للذكر أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى؛ أي: مسرعاً في مشيه مع تقارب خطاه، ويسمى الخبب، ويمشي الأربعة البواقي متمهلاً في مشيه؛ لخبر مسلم عن ابن عمر: (رمل النبي (صلى الله عليه وسلم) من الحجر إلى الحجر ثلاثاً ومشى أربعاً). ويسن له الاضطباع في كل طواف فيه، وفي السعي؛ بأن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، ويكشف الأيمن؛ كدأب أهل الشطارة؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى، وقيس بالطواف السعي بجامع قطع مسافة مأمور بتكررها سبعاً.

ويسن ركعتا الطواف بعده من وراء المقام؛ أي: مقام إبراهيم؛ للإتباع، رواه الشيخان، مع خبر: «خذوا عني مناسككم»، ومنع وجوبهما خبر: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا تطوع»، ويتأديان بالفريضة والنافلة، ويقرأ بعد (الفاتحة) في الأولى: (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية: (الإخلاص)، فإن لم يصلهما وراء المقام .. ففي الحجر، قال في «المجموع»: تحت الميزاب، ثم إن لم يصلهما في الحجر .. ففي المسجد الحرام (إن لم يكن زحام)؛ أي: ثم في الحرم، ثم في غيره متى شاء، ولا تفوت إلا بموته. [استحباب المبيت بمنى ليلة عرفة] ويسن أن يبيت بمنى ليلة يوم عرفة؛ لأنه يستحب أن يخرج من مكة في ثامن ذي الحجة إلى منى، وأن يصلي بها الظهر والعصر جمعاً، وأن يبيت بها ويصلي المغرب والعشاء جمعاً، وقد يشمل الجمعين المذكورين قول الناظم: (وجمعه بها). فإذا طلعت الشمس على ثبير .. سار إلى نمرة بقرب عرفات حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس .. اغتسل للوقوف، وقصد مسجد إبراهيم، ويصلي به الظهر والعصر، ويسمع خطبة الإمام، ثم يبادر للوقوف، والأصل في ذلك: ما روى مسلم عن جابر في حديثه الطويل: قال: (فلما كان يوم التروية .. توجهوا إلى منى وأهلوا بالحج، وركب النبي (صلى الله عليه وسلم) فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة). [المسير إلى عرفة وسنن الوقوف] ويستحب أن يسيروا ملبين ذاكرين الله تعالى، ويستحب أن يسيروا على طريق ضب، ويعودوا على طريق المأزمين؛ اقتداء برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا يدخل عرفة إلا في وقت الوقوف بعد الزوال، وأما ما يفعله الناس في هذا الزمان؛ من دخولهم أرض عرفات في اليوم الثامن .. فمخالف للسنة، فيفوتهم بسببه سنن كثيرة؛ منها: الصلوات بمنى، والمبيت

بها، والتوجه منها إلى نمرة، والنزول بها، والخطبة، والصلاة قبل دخول عرفات مع الإمام الظهر ثم العصر جامعاً بينهما؛ فقد جمع النبي (صلى الله عليه وسلم) بين الظهر والعصر. فإذا فرغ من الصلاة .. سار إلى الموقف بعرفة، وعرفات كلها موقف، ففي أي موضع منها وقف .. أجزأه، لكن أفضلها موقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند الصخرات الكبار المفروشة في أسفل جبل الرحمة؛ الذي بوسط عرفة. وليس من عرفة مسجد إبراهيم الذي يصلي فيه الإمام، وبين هذا المسجد وجبل الرحمة قدر ميل. ويسن للإمام إذا غربت الشمس وتحقق غروبها أن يفيض من عرفات، ويفيض الناس معه إلى المزدلفة، ويؤخروا صلاة المغرب بنية الجمع إلى العشاء؛ ليصليهما جمعاً بمزدلفة ليلة العيد، والجمع هنا وفي ما مر سببه السفر عند الشافعي لا النسك. [المسير إلى مزدلفة والمبيت بها] وإذا سار إلى المزدلفة .. سار ملبياً مكثراً منها، ويسير على هينة بوقارٍ، فإذا وجد فرجةً .. أسرع، فإذا وصل المزدلفة .. استحب له أن يصلي قبل حط رحله. قوله: (وبالمزدلفة بت) أي: للإتباع المعلوم من الأخبار الصحيحة؛ وقد تقدم بيان القدر الواجب من مبيتها. قوله: (وارتحل فجراً) يعني: يسن لغير النساء والضعفة الارتحال منها في الفجر بعد صلاة الصبح بغلس إلى منى؛ للإتباع، رواه الشيخان، ويتأكد التغليس هنا على باقي الأيام؛ ليتسع الوقت لما بين أيديهم من أعمال يوم النحر، أما النساء والضعفة .. فيسن تقديمهم إليها بعد نصف الليل ليرموا قبل الزحمة، وفي «الصحيحين» عن عائشة: (أن سودة أفاضت في النصف الأخير من مزدلفة بإذن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولم يأمرها بالدم ولا النفر الذين كانوا معها)، وفيهما عن ابن عباس قال: (أنا ممن قدم النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلة المزدلفة في ضعفة أهلها).

ويسن لهم أن يأخذوا ما يرمون به يوم النحر من مزدلفة، قال الجمهور: ليلاً، وقال البغوي: بعد صلاة الصبح، قال في «المهمات»: وهو الصواب نقلاً ودليلاً، فقد رأيته منصوصاً عليه في «الأم» و «الإملاء»، وروى البيهقي والنسائي بإسناد صحيح على شرط مسلم -كما في «المجموع» - عن الفضل بن العباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال له غداة يوم النحر: «التقط لي الحصى»، قال: فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف، ويأخذ بقية ما يرمى به من وادي محسر أو غيره. قوله: (وقف) أي: ندباً بالمشعر الحرام. قال ابن الصلاح والنووي: وهو جبل صغير بآخر المزدلفة يقال له: قزح، وهو منها؛ لأنها ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر، قالا: وقد استبدل الناس الوقوف به على بناء محدث هناك يظنونه المشعر الحرام، وليس كما يظنون، لكن يحصل بالوقوف عنده أصل السنة؛ أي: وكذا بغيره من مزدلفة على الأصح. وقال المحب الطبري: هو بأوسط المزدلفة وقد بني عليه بناء، ثم حكى كلام ابن الصلاح، ثم قال: الظاهر أن البناء إنما هو على الجبل، والمشاهدة تشهد له، قال: ولم أر ما ذكره -يعني: ابن الصلاح- لغيره. ويحصل أصل السنة بالمرور وإن لم يقف؛ كما في عرفة، نقله في «الكفاية» عن القاضي حسين وأقره. قال في «المجموع»: (والمشعر) بفتح الميم، ويجوز كسرها، ومعنى الحرام؛ أي: الذي يحرم فيه الصيد وغيره، فإنه من الحرم، قال: ويجوز أن يكون معناه ذا الحرمة. قوله: (تدعو) أي: وتذكر الله فيه مستقبل البيت إلى الإسفار؛ للإتباع في ذلك، رواه مسلم، ويقول: (اللهم؛ كما وفقتنا فيه ورأيتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَات} إلى قوله:

{غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ويكثر من قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، ويدعو بما أحب، ويصعد الجبل إن أمكن، وإلا .. فيقف تحته، ثم يسير بعد الإسفار بسكينة، ومن وجد فرجة .. أسرع كالدفع من عرفة. قوله: (وأسرع وادي المحسر) أي: يسرع في مشيه إن كان ماشياً، ومشي دابته إن كان راكباً حتى يقطع عرض وادي محسر؛ وهو قدر رمية بحجر؛ للإتباع، رواه مسلم؛ ولنزول العذاب فيه على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، ولأن النصارى كانت تقف فيه فأمرنا بمخالفتهم. و (وادي محسر) بكسر السين: موضع فاصل بين مزدلفة ومنى؛ سمي به؛ لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه؛ أي: أعيي، قال في «المجموع»: قال الأزرقي: وادي محسر خمس مئة ذراع وخمس وأربعون ذراعاً. انتهى، والإضافة للبيان؛ كما في (جبل أحد)، و (شجر أراك). [رمي جمرة العقبة وذكر بعض سنن وشروط الرمي] قوله: (وفي منى للجمرة الأولى) أي: جمرة العقبة التي تلي مكة، (رميت بسبع رميات الحصى) أي: الحجر ولو نحو ياقوت وزمرد وزبرجد وبلور وعقيق ورخام وبرام وحجر وحديد وذهب وفضة (حين انتهيت) أي: وصلت إلى منى بعد طلوع الشمس؛ للإتباع، رواه مسلم، ولخبره: «عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة». وخرج بـ (الحجر): ما لا يسمى حجراً؛ كإثمد ولؤلؤ، وزرنيخ ومدر، وجص ونورة، وآجر وخزف وملح، وجواهر من ذهب أو فضة، أو نحاس أو رصاص؛ فلا يكفي الرمي به، وكذا ما ليس من طبقات الأرض، ويكفي حجر النورة قبل الطبخ. ويسن أن يرمي بقدر حصى الخذف؛ وهو قدر الباقلاء، ويكره أن يرمي بأصغر من ذلك أو أكبر، والمتنجس وبالمأخوذ من الحل، أو من المسجد إن لم يكن جزءاً منه، وإلا .. حرم، وبالمرمي به؛ لما قيل: إن المقبول يرفع، والمردود يترك، فإن رمى بشيء منها .. جاز.

والمعتبر تعدد الرمي؛ كما أفهمه تعبيره بـ (سبع رميات)، فلو رمى عدداً معاً .. فرمية واحدة سواء أوقع معاً أو مرتباً. ولو رمى السبع دفعة، ثم أخذها ورماها دفعة وهكذا سبع مرات .. أجزأ، وكذا لو رمى واحدة، ثم أخذها ورماها وهكذا سبعاً في الأصح؛ كما لو دفع مداً إلى فقير عن كفارته، ثم اشتراه منه ودفعه إلى آخر، قال في «المجموع»: ولو رمى حصاة ثم أتبعها أخرى .. حسبتا له وإن وقعتا معاً، أو وقعت الثانية قبل الأولى على الأصح عند جماعات، ولو رمى اثنتين معاً إحداهما باليمنى والأخرى باليسرى .. حسبت واحدة بالاتفاق. وأفهم تعبيره بـ (الرمي): أنه لا يكفي وضع الحجر في المرمى، وهو كذلك، ويشترط قصد المرمى، فلو رمى في الهواء فوقع فيه .. لم يكف، وكذا تحقق وقوع الحجر فيه على المذهب، فلو شك فيه .. لم يكف، ولا يشترط بقاؤه فيه، فلو تدحرج وخرج منه .. لم يضر، ولا كون الرامي خارجاً عن الجمرة، فلو وقف في طرف منها ورمى إلى طرف آخر .. أجزأه. ويجب كون الرامي باليد، فلا يجزئ بقوس أو رجل، ولو أنصدم الحجر بمحمل أو بعير أو ثوب إنسان، فحرك المحمل أو الثوب صاحبه، أو تحرك البعير فدفعه فوقع في المرمى .. لم يعتد به، وكذا لو وقع على المحمل أو البعير فتدحرج إلى المرمى على الأشبه؛ لاحتمال تأثره به، بخلاف ما لو أنصدم الحجر بذلك، أو بأرض خارج الحرم، ثم رجع فوقع في المرمى، وكذا لو وقع في غير المرمى ثم تدحرج إليه أو رده الريح إليه في الأصح؛ لحصوله فيه لا بفعل غيره. قال في «المجموع»: ويسن أن يغسل حصى الجمار وألا يكسرها. قوله: (مكبراً للكل) أي: لكل حصاة؛ لخبر مسلم عن جابر: (أنه (صلى الله عليه وسلم) أتى الجمرة -يعني: يوم النحر -فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، قدر حصى الخذف). قوله: (واقطع تلبيه) أي: عند ابتداء الرمي؛ لأخذه في أسباب التحلل، هذا إن سلك الأفضل من تقديم الرمي، فلو قدم الطواف أو الحلق عليه .. قطع التلبية من حينئذ.

قوله: (ثم اذبح الهدي بها) أي: بعد الرمي اذبح الهدي بها؛ أي: بمنى إن كان معك هدي (كالأضحية) أي: في صفاتها وفي ذبحها فيها. [الحلق والتقصير وما يستحب فيه] قوله: (واحلق بها أو قصرن) أي: ثم احلق أيها الذكر بمنى أو قصرن؛ للإتباع في الحلق، رواه مسلم، والحلق أفضل، قال الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}، وقال (صلى الله عليه وسلم): «اللهم؛ ارحم المحلقين»، فقالوا: يا رسول الله؛ والمقصرين؟ فقال: «اللهم؛ ارحم المحلقين»، قال في الرابعة: «والمقصرين» رواه الشيخان. وتقتصر المرأة بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها، ولا تؤمر بالحلق؛ لخبر أبي داوود بإسناد حسن كما قاله في «المجموع»: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير»، وفي «المجموع» عن جماعة: يكره للمرأة الحلق؛ أي: لخبر الترمذي: (أنه (صلى الله عليه وسلم) نهى أن تحلق المرأة رأسها). والخنثى كالأنثى فيما ذكرناه. قوله: (مع دفن شعر) أي: يسن دفن شعره. قوله: (وبعده) أي: بعد الحلق أو التقصير طواف الركن المسمى أيضا بطواف الإفاضة والزيارة، والفرض والصدر بفتح الدال؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، وللإتباع رواه مسلم. ويسعى بعده إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، والأفضل: أن يطوف قبل الزوال، وإذا فرغ من طوافه .. استحب أن يشرب من سقاية العباس؛ للإتباع، رواه مسلم. قوله: (وبعد يوم العيد للزوال ترمي الجمار الكل بالتوالي) أي: يدخل رمي كل يوم من أيام التشريق الثلاثة بزوال شمسه؛ للإتباع، رواه مسلم.

وتسن الموالاة في رمي الجمار، وأما ترتيب الجمرات .. فشرط. [التحلل الأول والثاني] قوله: (باثنين من حلق) أي: أو تقصير، ورمي يوم النحر أو الطواف؛ أي: المتبوع بالسعي إن لم يفعل قبل .. حصل التحلل من تحلل الحج، وحل قلم الظفر والحلق إن لم يفعل، واللبس أي: وستر رأس الرجل ووجه المرأة، والصيد، والطيب، بل يسن التطيب؛ لحله بين التحللين؛ لخبر «الصحيحين» عن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، وخبر النسائي وابن ماجه: «إذا رميتم الجمرة .. فقد حل لكم كل شيء إلا النساء»، وخبر البيهقي وغيره: «إذا رميتم وحلقتم -وفي رواية: وذبحتم -فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء»، وضعفوه. ويباح بفعل الثالث باقي المحرمات وهي: الوطء، والمباشرة فيما دون الفرج، وعقد النكاح؛ لحصول التحلل الثاني. وقول الناظم (ونكاح): عطف تفسير، ولو فات الرمي .. توقف التحلل على بدله ولو صوماً؛ كما صححه في «الروضة» و «أصلها». قال في «المهمات»: والمشهور: عدم التوقف؛ وهو الذي نص عليه الشافعي، ونقل في «الكفاية» فيه عن بعضهم الإجماع، قال: فإن قيل: ما الفرق على الأول بين هذا وبين المحصر إذا عدم الهدي؛ فإن الأصح: عدم توقف التحلل على بدله وهو الصوم؟ قلنا: الفرق: أن التحلل إنما أبيح للمحصر تخفيفاً عليه حتى لا يتضرر بالمقام على الإحرام، فلو أمرناه بالصبر إلى أن يأتي بالبدل .. لتضرر. والحكمة في أن للحج تحللين: أنه يطول زمانه وتكثر أفعاله، فأبيح بعض محرماته في وقت، وبعضها في آخر؛ كالحيض لما طال زمنه .. جعل له تحللان: انقطاع الدم والغسل، بخلاف العمرة ليس لها إلا تحلل واحد؛ لقصر زمنها؛ كالجنابة.

[استحباب شرب ماء زمزم] ويسن شرب ماء زمزم؛ للإتباع، رواه الشيخان، وخبر مسلم: «إنها مباركة، إنها طعام طعم»، زاد أبو داوود الطيالسي في «مسنده»: «وشفاء سقم». ويستحب أن يشربه لما أحب من مطلوبات الدنيا والآخرة؛ لخبر الحاكم في «المستدرك»: «ماء زمزم لما شرب له». فإذا شربه للمغفرة .. استقبل القبلة، ثم سمى الله تعالى وقال: (اللهم، إنه بلغني عن رسولك (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له»، وإني أشربه لتغفر لي، اللهم؛ اغفر لي)، وكذا إذا شربه للشفاء من مرض ونحوه، قال الحاكم: كان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم .. قال: (اللهم، إني أسالك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء)، وللبيهقي: (أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «ماء زمزم لما شرب له، وأنا أشربه لعطش يوم القيامة» ثم شرب). قوله: (وطف وداعا) أي: وجوباً كما مر إيضاحه. قوله: (وادع بالملتزم) أي: بعد فراغك من طواف الوداع، وهو بين الركن والباب؛ سمي بذلك؛ لأن الداعين يلزمونه عند الدعاء، وهو من الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء. وتسن زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد فراغ الحج، ففي خبر: «من حج ولم يزرني .. فقد جفاني» رواه ابن عدي في «الكامل» وغيره، وروى الدارقطني وغيره: «من زار قبري .. وجبت له شفاعتي»، ومفهومه: أنها تجوز لغير زائره. وفي «المجموع»: زيارة قبره (صلى الله عليه وسلم) من أهم القربات، فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة .. استحب لهم استحباباً متأكداً أن يتوجهوا إلى المدينة؛ لزيارة (صلى الله عليه وسلم)، وليكثر المتوجه إليها في طريقه من الصلاة والتسليم عليه، ويزيد منهما إذا أبصر

أشجارها مثلاً، ويستحب أن يغتسل قبل دخوله، ويلبس أنظف ثيابه، فإذا دخل المسجد .. قصد الروضة؛ وهي ما بين القبر والمنبر، فيصلي تحية المسجد بجنب المنير، ثم يأتي القبر فيستقبل رأسه ويستدبر القبلة، ويبعد منه نحو أربعة أذرع ونصف، ناظراً إلى أسفل ما يستقبله في مقام الهيبة والإجلال، فارغ القلب من علائق الدنيا، ويسلم ولا يرفع صوته، وأقل السلام عليه: (السلام عليك يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم))، وروى أبو داوود بإسناد صحيح: «ما من أحد يسلم علي .. إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام»، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه؛ فإن رأسه عند منكب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم يتأخر قدر ذراع فيسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويتوسل به في حق نفسه، ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ثم يستقبل القبلة ويدعو لنفسه ولمن شاء من المسلمين. انتهى. (ولازم لمتمتع دم ... أو قارن إن كان عنه الحرم) (مسافة القصر، وعند العجز صام ... من قبل نحره ثلاث أيام) (وسبعة في داره، وليحتلل ... لفوت وقفة بعمرة عمل) (وليقض مع دم، ومحصر أحل ... بنية والحلق مع دم حصل) فيها ثلاث مسائل. [لزوم الدم على المتمتع والقارن وشروطه] الأولى: يلزم كلا من المتمتع والقارن دم؛ أما الأول .. فلقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} أي: بسببها {إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، إذ التمتع: التلذاذ بما كان حرم عليه بعد تحلله من العمرة، وأما الثاني .. فلخبر «الصحيحين» عن عائشة: (أنه (صلى الله عليه وسلم) ذبح عن نسائه البقر يوم النحر قال: وكن قارنات)، ووجوب الدم فيه أولى من وجوبه في التمتع؛ لأنه أقل عملاً. وإنما يلزم كلا منهما الدم فيه، إن كان عنه؛ أي: عن مسكنه الحرم مسافة القصر، قال

تعالى في المتمتع: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وقيس عليه القارن، فعلم أنه لا دم على حاضريه، وهم من مسكنه دون مسافة القصر من الحرم، والقريب من الشيء يقال: إنه حاضره، قال تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي: قريبة منه، ومن إطلاق المسجد الحرام على جميع الحرم؛ كما هنا قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}. قال الماوردي: وإنما اعتبر الحرم دون مكة؛ لأن كل موضع ذكر الله المسجد الحرام أراد به الحرم، إلا قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فالمراد به الكعبة، فالحمل على الأغلب أولى. ومن جاوز الميقات فير مريد نسكاً، ثم بدا له فأحرم بالعمرة قرب دخول مكة، أو عقب دخولها .. لزمه دم التمتع على الأصح في الأولى، والمختار في «الروضة» في الثانية؛ لأنه ليس من الحاضرين، والثاني: يعده منهم. ويشترط أيضا لوجوب الدم على المتمتع أمران آخران: أحدهما: أن تقع عمرته في أشهر الحج من سنته؛ فلو وقعت قبل أشهره أو فيها والحج في سنة قابلة .. فلا دم، ولو أحرم بها قبل أشهره، وأتى بجميع أفعالها في أشهره .. فالأظهر: لا دم؛ لتقدم أحد أركانها. ثانيهما: ألا يعود لإحرام الحج إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه؛ فلو عاد إليه أو إلى مثل مسافته وأحرم بالحج .. فلا دم، وكذا لو عاد إلى ميقات أقرب إلى مكة من ميقات عمرته وأحرم منه .. لا دم عليه في الأصح؛ لانتفاء تمتعه وترفهه، ولو أحرم به من مكة ثم عاد إلى الميقات .. سقط عنه الدم في الأصح. ثم الشرط الثاني: مناط وجوب الدم، والخارج بالأول والثالث كالمستثنى منه. ولا تعتبر هذه الشروط في التسمية بالتمتع، وقيل: تعتبر فيها أيضا، حتى لو فات شرط منها .. يكون مفرداً، ولو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة ثم عاد إلى الميقات .. سقط عند الدم؛ كما يسقط عن التمتع إذا عاد بعد الإحرام بالحج إلى المقيات، وقيل: لا يسقط، والفرق: أن اسم القران لا يزول بالعود إلى الميقات، بخلاف التمتع.

ووقت وجوب الدم: إحرامه بالحج؛ لأنه حينئذ يصير متمتعاً بالعمرة إلى الحج، ولا تتأقت إراقته بوقت؛ وهو شاة بصفة الأضحية، ويقوم مقامها سبع بدنة أو سبع بقرة. والأفضل: ذبحه يوم النحر، ويجوز قبل الإحرام بالحج بعد التحلل من العمرة في الأظهر، ولا يجزئه قبل التحلل منها في الأصح، فإن عجز عنه في موضعه وهو الحرم؛ بأن لم يجده فيه، أو لم يجد ما يشتريه به، أو وجده بأكثر من ثمن مثله .. صام بدله عشرة أيام؛ ثلاثة أيام في الحج قبل يوم النحر، ويستحب قبل يوم عرفة؛ لأنه يستحب للحاج فطره؛ كما تقدم في صوم التطوع، ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج؛ لأنها عبادة بدنية فلا تقدم على وقتها، ولا يجوز صوم شيء منها في يوم النحر، ولا في أيام التشريق في الجديد، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله في الأظهر، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}، وقال (صلى الله عليه وسلم) للمتمتعين: «من كان معه هدي .. فليهد، ومن لم يجد .. فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» رواه الشيخان، ولو توطن مكة بعد فراغه من الحج .. صام بها، وإن لم يتوطنها .. لم يجز صومه بها، ولا يجوز صومها بالطريق إذا توجه إلى وطنه؛ لأنه تقديم للعبادة البدنية علة وقتها، ويندب تتابع الثلاثة، وكذا السبعة. ولو فاتته الثلاثة في الحج ورجع إلى أهله .. فالأظهر: أنه يلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة، كما في الأداء، والأظهر: انه يفرق بأربعة أيام، ومدة إمكان سيره إلى أهله على العادة الغالبة؛ لتتم محاكاة القضاء للأداء. [تحلل من فاته الوقوف] الثانية: يجب أن يتحلل من فاته الوقوف -وبفواته يفوت الحج- بعمل عمرة من طواف وسعي، إن لم يكن سعى وحلق؛ لأن في بقائه محرماً حرجاً شديداً يعسر احتماله، فيحرم عليه استدامة إحرامه إلى قابل؛ لزوال وقته كالابتداء، فلو استدامة حتى حج به من قابل .. لم يجزه؛ كما نقله ابن المنذر عن الشافعي. أما من سعى عقب طواف القدوم .. فلا يحتاج في تحلله إلى سعي، وما تحلل به ليس بعمرة حقيقة، ولهذا لا تجزئه عن عمرة الإسلام، لأن إحرامه انعقد لنسك فلا ينصرف إلى الآخر كعكسه.

قال في «المجموع»: وبما فعله من عمل العمرة يحصل التحلل الثاني، وأما الأول فيحصل بواحد من الحلق والطواف المتبوع بالسعي؛ لسقوط حكم الرمي بالفوات؛ فصار كمن رمى. ولا يحتاج إلى نية العمرة؛ كما أفهمه كلام الناظم. ويجب عليه القضاء للحج الذي فاته بفوات الوقوف تطوعا كان أو فرضاً؛ لخبر عمر الآتي، ولأنه لا يخلو عن تقصير كالمفسد، وبهذا فارق المحصر، وعبر في «الروضة» كـ «أصلها» و «المحرر»: بأن الفرض يبقى في ذمته، ثم القضاء على الفوز في الأصح. قوله: (مع دم) أي: مع وجوب دم في القضاء، والأصل في ذلك كله: ما رواه مالك رضي الله تعالى عنه في «الموطأ» بإسناد صحيح؛ كما قاله «المجموع»: (أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أخطأنا العد وكنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة؛ فقال له عمر: اذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومن معك، واسعوا بين الصفا والمروة، وانحروا هدياً إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا ثم ارجعوا، فإذا كان عام قابل .. فحجوا وأهدوا، فمن لم يجد .. فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)، واشتهر ذلك في الصحابة ولم ينكر. أما العمرة المفردة .. فلا يتصور فواتها بغير الموت. [حكم المحصر عن الحج والعمرة] الثالثة: المحصر عن إتمام حج أو عمرة أو قران؛ أي: منعه عن ذلك عدو من المسلمين أو الكفار من جميع الطرق .. يجوز له التحلل، والأفضل له تأخيره إن اتسع الوقت، وإلا .. فتعجيله. نعم؛ لو علم انكشافه في مدة الحج بحيث يمكن إدراكه، أو في العمرة إلى ثلاثة أيام .. لم يجز له التحلل، وكذا لو منع عن غير الأركان كالرمي والمبيت؛ لإمكان الجبر بالدم والتحلل بالطواف والحلق، وتجزئة عن حجة الإسلام.

ومن صد عن عرفة دون مكة .. فليدخلها ويتحلل بعمل عمرة، أو عكسه .. وقف ثم تحلل ولا قضاء فيهما في الأظهر، والأصل في جواز التحلل: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي: وأردتم التحلل {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، وخبر «الصحيحين»: (أنه (صلى الله عليه وسلم) تحلل بالحديبية لما صده المشركون، وكان محرماً بالعمرة). ومقتضى كلام الناظم: أنه لا فرق بين حصر الكل والبعض، وهو كذلك على الأصح؛ لأن مشقة كل واحد التي جاز له التحلل بها لا تختلف بين أن يتحمل غيره مثلها أو لا. ولو منعوا ولم يتمكنوا من المضي إلا ببذل مال .. فلهم أن يتحللوا، ولا يبذل المال وإن قل؛ إذ لا يتحمل الظلم في أداء الحج والعمرة، ولو منعوا من الرجوع أيضاً .. جاز لهم التحلل في الأصح. ويحصل تحلل المحصر بالحلق، وذبح شاة حيث أحصر من حل أو حرم، ويفرق لحمها على مساكين ذلك الموضع، ولا يلزمه إذا أحصر في الحل أن يبعث بها إلى الحرم، وبنية التحلل عند كل منهما؛ لاحتماله لغير التحلل، فإن فقد الدم .. فالأظهر: أن له بدلاً، وأنه طعام بقيمة الشاة، فإن عجز عنه .. صام عن كل مد يوماً، وله إذا انتقل إلى الصوم التحلل في الحال في الأظهر بالحلق والنية عنده. ولا تحلل بعذر كالمرض؛ لأنه لا يفيد زواله، بخلاف التحلل بالإحصار، فإن شرطه .. تحلل به على المشهور، ولا يجب الهدي إلا إن شرطه. ولا قضاء على المحصر المتطوع إذا تحلل؛ لعدم وروده، فإن كان فرضاً مستقراً؛ كحجة الإسلام بعد السنة الأولى من سني الإمكان، وكالقضاء والنذر .. بقي في ذمته، أو غير مستقر؛ كحجة الإسلام في السنة الأولى من سني الإمكان .. اعتبرت الاستطاعة بعد. ومتى أحرم الرقيق بلا إذن .. فلسيده تحليله بأن يأمره بالتحلل، فيجوز له حينئذ، فيحلق وينوي التحلل. وللزوج تحليل زوجته من حج تطوع لم يأذن فيه، وكذا من حج الفرض في الأظهر؛ لأن تقريرها عليه يعطل حقه من الاستمتاع بها. * * *

باب محرمات الإحرام

باب محرمات الإحرام أي: ما يحرم بسبب الإحرام. (حرم بالإحرام مسمى لبس ... خيط، وللراجل ستر الرأس) (وامرأة وجهاً ودهن الشعر ... والحلق والطيب وقلم الظفر) (واللمس بالشهوة، كل يوجب ... تخييره ما بين شاة تعطب) (أو آصع ثلاثة لستة ... مسكين أو صوم ثلاث، بيت) (وعمد وطء للتمام حققا ... مع الفساد والقضا مضيقا) (كالصوم تكفير صلاة باعتدا ... وبالقضا يحصل ما له الأدا) (وصح في الصبا ورق، كفره ... بدنة، إن لم يجد فبقره) (ثم الشياه السبع، فالطعام ... بقيمة البدنة، فالصيام) (بالعد من أمداده، وحرما ... لمحرم ومن يحل الحرما) (تعرض الصيد، وفي الأنعام ... المثل، فالبعير كالنعام) (والكبش كالضبع، وعنزٍ ظبي ... وكالحمام الشاة، ضب جدي) (أو الطعام قيمة، أو صوما ... بعدها عن كل مد يوما) (بالحرم اختص طعام والدم ... لا الصوم، إن يعقد نكاحاً محرم) (فباطل، وقطع نبت الحرم ... رطباً وقلعاً دون عذرٍ حرم) [لبس المخيط على الرجال] أي: حرم أنت بإحرام ولو مطلقاً على الرجل مسمى لبس من مخيط وما في معناه؛ كالمنسوج والمعقود في سائر بدنه وإن بدت البشرة من ورائه؛ كما في الزجاج الشفاف، إلا إذا لم يجد غيره .. فيجوز له لبس السراويل منه، والخفين إذا قطعا أسفل من الكعبين ولا فدية. وإن احتاج إلى لبس المخيط لمداواة أو حر أو برد .. جاز ووجبت الفدية.

ومن المحرم عليه: القفاز وسيأتي، وألحق به ما لو اتخذ لساعده مثلاً مخيطاً، أو للحيته خريطة يغلفها بها إذا خضبها. وأما المرأة .. فلها لبس المخيط في الرأس وغيره، إلا القفاز في الأظهر؛ وهو مخيط محشو بقطن يعمل لليدين ليقيهما من البرد، ويزر على الساعدين؛ والأصل في ذلك: خبر «الصحيحين» عن ابن عمر: أن رجلاً سأل النبي (صلى الله عليه وسلم): ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: «لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات، ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس»، زاد البخاري: «ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين»، وخبرهما: أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «السراويل لمن لم يجد الإزار»، وخبر مسلم: «من لم يجد إزاراً .. فليلبس سراويل». والأصل في وجوب الفدية: قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} أي: فحلق ففدية، وقيس على الحلق باقي المحرمات للعذر، فلغيره أولى، ثم اللبس مراعى في وجوب الفدية على ما يعتاد في كل ملبوس، فلو ارتدى بقميص أو اتزر بسراويل .. فلا فدية، كما لو اتزر بإزار ملفق من رقاع. ولو لم يجد رداء .. لم يجز له لبس القميص، بل يرتدي به. ولم لم يجد إزاراً ووجد سراويل يتأتى الاتزار به على هيئته .. اتزر به، ولم يجز له لبسه؛ كما صرح به في «المجموع». والمراد بعدم وجدان الإزار والنعل المذكور في الحديث: ألا يكون في ملكه، ولا يقدر على تحصيله بشراء، أو استئجار بعوض مثله، أو استعارة، بخلاف الهبة فلا يلزم قبولها؛ لعظم المنة فيها. وإذا وجد الإزار أو النعلين بعد لبس السراويل أو الخفين الجائز له .. وجب نزع ذلك، فإن أخر .. وجبت الفدية.

ويجوز له أن يعقد الإزار ويشد عليه خيطاً ليثبت، وأن يجعل له مثل الحجزة ويدخل فيها التكة إحكاماً، وأن يغرز طرف ردائه في طرف إزاره، ولا يجوز عقد الرداء، ولا خلة بخلال أو مسلةٍ، ولا ربط طرفها في طرفه بخيط ونحوه، فإن فعل ذلك .. لزمته الفدية؛ لأنه في معنى المخيط من حيث إنه يستمسك بنفسه؛ قاله في «المجموع». [ستر رأس الرجل ووجه المرأة] وحرم بإحرام للراجل؛ بمعنى الرجل؛ أي: عليه الرأس؛ أي: أو بعضه حتى البياض الذي وراء أذنه، وامرأةٍ وجهاً؛ أي: ستره بما يعد ساتراً عرفاً من مخيط أو غيره؛ كقلنسوة وعمامة، وخرقة وعصابة، وكذا طين ثخين في الأصح. والأصل في ذلك: خبر «الصحيحين»: أنه (صلى الله عليه وسلم) قال في المحرم الذي خر من بعيره ميتاً: «لا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً»، وخبر البخاري المار: «ولا تنتقب المرأة». نعم؛ تستر منه ما يتوقف على ستره ستر الرأس؛ لأن شعار الإحرام يحصل بما عداه، ولأن رأسها عورة، ومنه يؤخذ أن الأمة لا تستر ذلك؛ لأن رأسها ليس بعورةٍ، لكن قال في «المجموع»: ما ذكر في إحرام المرأة ولبسها .. لم يفرقوا فيه بين الحرة والأمة، وهو المذهب. وشذ القاضي أبو الطيب فحكى وجهاً أن الأمة كالرجل، ووجهين في أن المبعضة هل هي كالأمة أو كالحرة. ولها أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبةٍ ونحوها؛ لحاجة من حر أو برد، أو فتنة أو نحوها، أو لغير حاجة، فإن وقعت الخشبة فأصاب الثوب وجهها بغير اختيارها، ورفعته في الحال .. فلا فدية، وإن كان عمداً أو استدامته .. لزمتها الفدية. وإذا ستر الخنثى المشكل رأسه فقط، أو وجهه فقط .. فلا فدية، وإن سترهما .. وجبت،

وفي «المجموع» عن القاضي أبي الفتوح: وليس له كشفهما؛ لأن فيه تركاً للواجب، وله كشف الوجه، قال صاحب «البيان»: وقياسه لبس المخيط. ويستحب أن يستر بغيره؛ لجواز كونه رجلاً، فإن لبسه .. فلا فدية؛ لجواز كونه امرأة. وقال القاضي أبو الطيب: لا خلاف أنا نأمره بالستر ولبس المخيط؛ كما نأمره أن يستتر في صلاته كالمرأة ولا تلزمه الفدية؛ لأن الأصل براءته، وقيل: تلزمه احتياطاً. ثم محل التحريم المذكور: إذا لم يكن عذر، فإن كان؛ كمداواة أو حر أو برد .. جاز ووجبت الفدية. واحترز في ستر الرأس بالرجل عن المرأة، وفي ستر الوجه بالمرأة عن الرجل، وبما يعد ساتراً عما لا يعد، كوضع يده أو يد غيره، أو زنبيل أو حمل، والتوسد بوسادة أو عمامة، والانغماس في الماء، والاستظلال بالمحمل، وإن مس رأسه وشده بخيط لمنع الشعر من الانتشار وغيره. [دهن الشعر] وحرم بإحرام على المحرم ولو امرأة دهن الشعر؛ أي: من الرأس أو اللحية بدهن غير مطيب؛ من سمنٍ وزبد وزيت، وذائب شحم وشمعٍ وغيرهما؛ لما فيه من تزيين الشعر وتنميته المنافيين لخبر: «المحرم أشعث أغبر» أي: شأنه المأمور به ذلك، ففي مخالفته بالدهن المذكور الفدية، بخلاف اللبن وإن كان يستخرج منه السمن. وخرج بـ (الدهن): الأكل فلا يحرم، وفي دهن الرأس المحلوق الفدية في الأصح؛ لتأثيره في تحسين الشعر الذي ينبت بعده. ولا فدية في دهن رأس الأقرع والأصلع وذقن الأمرد؛ لانتفاء المعنى، ويجوز استعمال هذا الدهن في سائر البدن شعراً وبشراً، ظاهراً وباطناً؛ إذ لا يقصد به التزين، لكن قال المحب الطبري: الظاهر: أن غير اللحية من شعر الوجه؛ كالحاجب والشارب والعنفقة

والعذارين كاللحية، وفي «المهمات»: أنه القياس، وقال ابن النقيب: هو ظاهر فيما اتصل باللحية؛ كالشارب لا الحاجب ونحوه. ولا يكره غسل بدنه ورأسه بخطمي أو سدرٍ، لكن المستحب ألا يفعل. [حلق الشعر وقلم الظفر] وحرم بإحرام الحلق للشعر وقلم الظفر؛ يعني: إزالة الشعر من الرأس أو غيره حلقاً أو غيره، أو الظفر من اليد أو الرجل قلماً أو غيره؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} أي: شعرها {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، وقيس على شعر الرأس شعر باقي البدن، وعلى الحلق غيره، وعلى إزالة الشعر إزالة الظفر بجامع الترفه في الجميع، والمراد بالشعر في الآية: الجنس الصادق بالواحدة فصاعداً، وتكمل الفدية في إزالة ثلاث شعرات، أو ثلاثة أظفار؛ لأنها تجب على المعذور بالحلق للآية كما سيأتي، فعلى غيره أولى، والشعر يصدق بالثلاث، وقيس بها الأظفار، ولا يعتبر جميعه بالإجماع، ويعتبر إزالة الثلاث أو الثلاثة دفعة واحدة في مكان واحد. ولو حلق جميع شعر رأسه دفعة واحدة في مكان واحد .. لم تلزمه إلا فدية؛ لأنه يعد فعلاً واحداً، وكذا لو حلق شعر رأسه وبدنه على التواصل، ويقاس بالشعر في ذلك الأظفار من اليدين والرجلين. ولو حلق شعر رأسه في مكانين، أو مكان واحد، لكن في زمانين متفرقين .. وجبت فديتان. ولو أزال ثلاث شعرات، أو ثلاثة أظفار في ثلاثة أمكنة، أو ثلاثة أوقات .. وجب في كل واحدة ما يجب فيها لو انفردت؛ وهو مد طعام على الأظهر، وفي الثنتين أو الاثنين مدان. ويجوز قطع ما غطى عينيه من شعر حاجبه أو رأسه، ومنكسر ظفر، وقلع شعر داخل جفنه تأذى بهما، ولا فدية في الجميع، ولا في قطع عضو، أو جلدة عليه شعر أو ظفر، ولا في إزالة محرم مجنون أو مغمى عليه أو صبي لا يميز شعراً أو ظفراً على الأصح في «المجموع». ويجوز للمعذور في الحلق أن يحلق ويفدي؛ للآية المتقدمة؛ كأن يحتاج إليه لكثرة قمل أو وسخ، أو حاجة أخرى في رأسه، أو سائر بدنه.

[استعمال الطيب] وحرم بإحرام الطيب؛ أي: استعماله في بدنه أو ملبوسه، ولو نعلاً كالمسك والكافور والورس؛ وهو أشهر طيب في بلاد اليمن، والزعفران وإن كان يطلب للصبغ والتداوي أيضاً، وقد تقدم ذكره مع الروس في الخبر في الثوب، وقيس عليه البدن، وعليهما بقية أنواع الطيب، وأدرج فيه ما معظم الغرض منه رائحته الطيبة؛ كالورد والياسمين والنرجس والبنفسج والريحان الفارسي، وما اشتمل على الطيب من الدهن؛ كدهن الورد ودهن البنفسج. وعد من استعمال الطيب أن يأكله، أو يحتقن به، أو يستعط، وأن يحتوي على مجمرة عود فيتبخر به، وأن يشد المسك أو العنبر في طرف ثوبه، أو تضعه المرأة في جيبها، أو تلبس الحلي المحشو به، وأن يجلس أو ينام على فراش مطيب، أو أرض مطيبة، وأن يدوس الطيب بنعله؛ لأنها ملبوسه. ومعنى استعمال الطيب في محل: إلصاقه به تطيباً، فلا يحرم استعمال بشم ماء الورد، ولا بحمل المسك ونحوه في كيس أو نحوه، ولا بأكل العود أو شده في ثوبه؛ لأن التطيب به إنما يكون بالتبخر به. ولا يحرم على المحرم استعمال الطيب جاهلاً كونه طيباً، أو ظاناً أنه يابس لا يعلق به منه شيء، أو ناسياً لإحرامه، ولا فدية في ذلك، ولا فيما إذا ألقت عليه الريح الطيب، لكن تلزمه المبادرة إلى إزالته في هذه الصورة، وفيما قبلها عند زوال عذره، فإن أخر .. وجبت الفدية؛ كما تجب في استعماله المحرم، وتجب فيه المبادرة إلى الإزالة أيضاً. [اللمس بالشهوة] وحرم بإحرام اللمس بشهوة؛ يعني: مقدمات الجماع بشهوة، كالقبلة والمفاخذة قبل التحللين، فإن فعل ذلك عمداً .. لزمته الفدية سواء أنزل أم لا، ولا تحرم بغير شهوة، ومن فعلها ناسياً .. لا شيء عليه، والاستمناء حرام يوجب الفدية بشرط الإنزال؛ كما ذكره في «المجموع» و «الكفاية».

[دم التخيير والتقدير] قوله: (كل) أي: من لبس المخيط وما ذكر بعده .. يوجب تخيير المحرم بين شاة بصفة الأضحية تعطب؛ أي: تذبح، وثلاثة آصع لستة مساكين لكل مسكين نصف صاعٍ، وصوم ثلاثة أيام بيت؛ أي: أنت نية صومها بليل. ولو عبر الناظم بدل (أو) الجارية على الألسنة في مثل هذا الكلام بـ (الواو) .. كان أقوم، بل قال بعضهم: إنه الصواب؛ لأن (بين) إنما تكون بين شيئين. والأصل في ذلك: قوله تعالى: {تعلى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} أي: فحلق ففدية {صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}، وخبر «الصحيحين»: أنه (صلى الله عليه وسلم) قال لكعب بن عجرة: «أيؤذيك هوام رأسك؟ »، قال: نعم، قال: «انسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقاً من الطعام على ستة مساكين»، و (الفرق) بفتح الفاء والراء: ثلاثة آصع، وقيس القلم على الحلق، وغير المعذور فيهما عليه، والفقراء على المساكين، وهذه فدية الحلق ومثلها فدية الاستماع؛ كالتطيب والادهان واللبس ومقدمات الجماع؛ لاشتراكها في الترفه، وسيأتي فدية الجماع، وهذا دم تخيير وتقدير. [دم الترتيب والتعديل في إفساد الحج بالجماع] قوله: (وعمد وطء) بالنصب عطفاً على (مسمى لبس)، وبالرفع مبتدأ خبره (للتمام حققا)، فيحرم بالإحرام الوطء ولو لبهيمة من عاقل عامد عالم بالتحريم مختار في الأصح، قال تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} و (الرفث): الجماع، و (الفسوق): العصيان، والآية لفظها لفظ الخبر، ومعناها النهي؛ أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا؛ إذ لو كان معناها الإخبار عن نفي هذه الأشياء في الحج .. لاستحال وقوعها فيه. قوله: (للتمام حققا مع الفساد) فتفسد به العمرة مطلقاً، وكذا الحج قبل التحلل الأول بعد الوقوف أو قبله، ولا يفسد به بين التحللين، ولا تفسد به العمرة في ضمن القران أيضا؛ لتبعها له وإن لم يأت بشيء من أعمالها، ولا فساد بجماع الناسي والجاهل بالتحريم ومن جن بعد أن أحرم عاقلاً في الجديد.

ويجب إتمام ذلك النسك من حج أو عمرة أو قران، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}، وهو يتناول الصحيح والفاسد، وروي البيهقي بأسانيد صحيحة عن ابن عباس وابن عمر وعمرو بن العاص: أنهم أفتوا لمجامع بالمضي في فاسده، والقضاء من قابل، ولا يعرف لهم مخالف، والمراد بالمضي فيه: أن يأتي بما كان يأتي به قبل الجماع، ويجتنب ما كان يجتنبه قبله، فإن ارتكب محظوراً .. لزمته الفدية، وغير النسك من العبادات لا يمضي في فاسده؛ إذ يحصل الخروج منه بالفساد، ويجب القضاء اتفاقاً وإن كان نسكه تطوعاً، فإن التطوع منه يصير بالشروع فيه فرضاً؛ أي: واجب الإتمام كالفرض، بخلاف غيره من التطوع مضيقاً؛ لأنه تضيق بالشروع فيه، روى مالك: أن عمر أمر الذي فاته الحج بالقضاء من قابل. وتعبير الناظم كـ «أصله» بما ذكر أحسن من تعبير كثير: (بالقضاء من قابل) لشموله القضاء قبله؛ إذ العمرة يمكن قضاؤها في عام الإفساد، وكذا الحج فيما إذا أحصر عن إتمامه قبل وطئه، أو بعده ثم تحلل، ثم زال الحصر والوقت باق .. فيلزمه القضاء في عامه، واستشكل تسمية ذلك قضاء؛ بأن من أفسد الصلاة ثم أعادها في الوقت .. كانت أداء لا قضاء؛ لوقوعها في وقتها الأصلي خلافاً للقاضي. وأجاب السبكي بأنهم أطلقوا القضاء هنا على معناه اللغوي، وبأنه يتضيق وقته بالإحرام وإن لم يتضيق وقت الصلاة به؛ لأن آخر وقتها لم يتغير بالشروع فيها؛ فلم يكن يفعلها بعد الإفساد موقعاً لها في غير وقتها، والنسك بالشروع فيه تضيق وقته ابتداء وانتهاء، فإنه ينتهي بوقت الفوات، ففعله في السنة الثانية خارج وقته فصح وصفه بالقضاء. وأيد ولده في «التوشيح» الأول بقول ابن يونس في «التنويه»: إنه أداء لا قضاء، ثم قال: وبسط الثاني: أن النسك وإن وقت بالعمر .. فإنما يقع في سنة، فأي سنة وقع فيها .. تبين أنها المطلوبة للإيقاع، وأنها وقته الأصلي لا العارض بالإحرام، فالمعنى بكون العمر وقتاً للحج: أنه يجب ألا يخلو العمر عنه؛ لأن كل جزء منه وقت له، فمتى أفسده .. وقع الثاني بعد وقته المقدر له شرعاً فكان قضاء، ولهذا لو مات مستطيعاً بلا أداء .. عصى من آخر سني الإمكان، ولو كان وقته جميع العمر .. لعصى من أولها، وأما الصلاة .. فوقتها بين شيئين،

فإيقاعه في جزء منه لا يتبين أنه وقتها؛ إذ الإحرام بها لم يتغير وقتها, بل يضيقها لتحريم الخروج من الصلاة الواجبة. انتهى. وهذا إن تم في غير سنة الإفساد .. لا يتم فيها, فالمعتمد: الجواب الأول. قوله: (كالصوم تكفير صلاة باعتدا) أي: كترك الصوم والصلاة باعتداء, فإن قضاءها مضيق, بخلاف تركهما بلا اعتداء, وتكفير ما ارتكب موجبة باعتداء فإنه مضيق وإن كان أصل الكفارات على التراخي؛ لأن المعتدي لا يستحق التخفيف, بخلاف غيره. قوله: (وبالقضا يحصل ما له الأدا) أي: من فرض أو نفل, فلو أفسد النفل, ثم نذر حجاً وأراد تحصيل المنذور بحجة القضاء .. لم يحصل له ذلك, ومحل وجوب القضاء: إذا كان ما أفسده غير قضاء, فإن أفسد قضاء .. لم يقضه, وإنما يقضي ما أفسده أولاً؛ لأن المقضي واحدٌ. قوله: (وصح) أي: القضاء (في الصبا ورق) اعتباراً بالأداء إن لم يكن الصبي والرقيق من أهل الفرض, وإذا أحرما بالقضاء فكملا قبل الوقوف .. انصرف إلى فرض الإسلام وعليهما القضاء, وفي بعض النسخ بعد قوله: (مضيقًا): (عليه كالتكفير للذي اعتدى ... وبالقضا يحصل ما له الأدا) (كترك صوم واعتدا, وكفره ........................... ) قوله: (كفره) أي: عمد الوطء المفسد (بدنه) أي: واحد من الإبل ذكراً كان أو أنثى؛ لقضاء الصحابة بذلك, فأما ما لا يفسد؛ كالوطء في الحج بين التحللين ... فإنه لا يوجب بدنة, بل شاة؛ لأنه محظورٌ لم يحصل به إفساد فأشبه الاستمتاعات, وكذا لو كرر الوطء في الحج قبل التحلل الأول؛ لأن الأول هو المفسد. ولو كانت المرأة محرمة أيضًا, وفسد حجها بالوطء ... فلا كفارة عليها في الأظهر. ثم إن لم يجدها ... فبقرة, ثم إن عجز عنها .. فسبع شياه من الغتم, ويعتبر في كل منها إجزاؤه في الأضحية. ثم إن عجز عنها ... فالطعام بقيمة البدنة؛ بأن يقومها بدراهم, ويخرج بقيمتها طعاماً يتصدق به, ويستحب ألا يزاد في الدفع إلى كل مسكين على مدين, ولا ينقصه عن مد, فإن عجز .. صام عن كل مد يوماً, وهذا دم ترتيب وتعديل.

[التعرض للصيد] قوله: (وحرم لمحرم ومن يحل الحرما تعرض للصيد) أي: وحرم على محرم ولو خارج الحرم وحده أو مع الصيد, وعلى الحلال بالحرم ولو غير محرم, أو كان الصيد بالحل كعكسه المفهوم بالأولى. تعرض الصيد؛ أي: منه ولو بتنفير, أو إعارة آلة, أو نصب شبكة, أو وضع يد بشراء, أو عارية أو وديعة, أو غيرها إلى كل صيد مأكول بري, أو متولد منه ومن غيره من طير أو دابة؛ لقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} أي: أخذه, وقوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} , وخبر "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام بحرمة الله تعالى؛ لا يعضد شجره, ولا ينفر صيده" أي: لا يجوز تنفير صيده لا لمحرم ولا حلال, فغير التنفير أولى, وقيس بمكة باقي الحرم. وخرج بـ (البري): البحري؛ وهو مالا يعيش إلا في البحر, يحرم التعرض له وإن كان البحر في الحرم, قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر} , وما يعيش في البر والبحر بري؛ تغليباً للحرمة. وبـ (المأكول) وما عطف عليه: ما لا يؤكل, وما لا يكون في أصله ما ذكر, فمنه: ما هو مؤذ فيستجيب قتله للمحرم وغيره؛ كنمر ونسر وبق وبرغوث, لو ظهر على المحرم قمل .. لم تكره تنحيته, ولا شيء في قتله, ويكره أن يفلي رأسه ولحيته, فإن قتل منهما قملة .. تصدق ولو بلقمة ندباً, وكالقمل الصيبان وهو بيضه, لكن فديته أقل. ومنه: ما ينفع ويضر؛ كفهد وصقر وباز .. فلا يستحب قتله؛ لنفعه وهو تعلمه الاصطياد, ولا يكره؛ لضرره وهو عدوه على الناس والبهائم. ومنه: ما لا يظهر فيه نفع ولا ضرر؛ كسرطان ورحمة وجعلان وخنافس .. فيكره قتله, ويحرم قتل النحل والنمل السليماني والخطاف والهدهد والصرد, ولا فرق بين المستأنس وغيره, ولا بين المملوك وغيره, ولو توحش إنسي .. لم يحرم التعرض له. وشمل كلامه: التعرض لجزء البري المذكور؛ وكلبنه وشعره وريشه بقطع أو غيره, فإن حصل مع تعرضه للبن نقص في الصيد .. ضمنه.

وبيض المأكول مضمون بقيمته, ولا شيء في المذرة إلا بيض النعامة .. ففيه قيمته, ولو نفر صيداً عن بيض حضنه ففسد .. لزمته قيمته, أو أخذ بيض دجاج مثلاً فأحصنه صيداً ففسد بيض الصيد, أو لم يحصنه .. ضمنه, أو بيض صيد وأحصنه دجاجة .. فهو في ضمانه حتى يفرخ ويمتنع, فلو مات قبل الامتناع .. لزمه مثله من النعم. ولو كسر بيضة فيها فرخ فطار وسلم .. فلا شيء عليه, فإن مات .. فمثله من النعم. ومحل تحريم التعريض المذكور: إذا كان عامداً عالماً بالتحريم مختاراً, ولو رمى صيداً من الحل إلى الحل فاعترض السهم الحرم ... ضمن في الأصح. وفي مثله في إرسال الكلب: إنما يضمن إذا لم يكن للصيد مهرب إلا بالدخول في الحرم. نعم؛ إن جهله .. لم يأثم. ولو أرسل الكلب في الحل إلى صيد في الحل, فدخل الحرم فقتله فيه, أو قتل فيه صيداً غيره .. لم يضمن, بخلاف نظيرهما في السهم. ولو رمى صيداً بعض قوائمه في الحرم, أو تحلل قبل أن يصيبه, أو عكسه .. ضمن, كذا لو نصب شبكة, ثم تحلل فوقع فيها الصيد؛ للتعدي؛ كما في "المهمات" عن "فتاوى البغوي" بخلاف عسكه. ولو وضع يده عليه لا المداواة أو نحوها فتلف هو أو جزؤه .. ضمنه كالغاصب, ولو صال عليه فقتله .. فلا ضمان. وكذا لو عم الجراد الطريق, ولم يجد بداً من وطئه ففعل, أو باض حمام, أو غيره في فراشة أو نحوه وفرخ, ولم يمكن دفعه إلا بالتعرض له, أو انقلب عليه في نومه فأفسده في الأظهر, وكذا لو جن فقتله؛ كما في "الزوائد" وهو مشكل, فلذلك قال في "المجموع" مع ترجيحه: إن الأقيس خلافه؛ لأنه من باب الغرامات. قال ابن المقري: ولعل الفرق: أنه وإن كان إتلافاً فهو حق لله تعالى, ففرق فيه بين من هو من أهل التمييز وغيره. قوله: (وفي الأنعام المثل فالبعير كالنعام) أي: ففي النعامة الذكر أو الأنثى بدنة؛ أي:

واحد من الإبل, وفي بقر الوحش وحماره: بقرة؛ أي: واحد من البقر, وفي الضبع بضم الباء: كبش؛ وهو ذكر الضأن والأنثى نعجة, وفي الظبي: عنز؛ وهي أنثى المعز التي تم لها سنة. وفي الحمام-وهي: كل ما عب وهدر-: شاة من ضأن أو معز بحكم الصحابة, ومستنده توقيف بلغهم, وإلا .. فالقياس إيجاب القيمة, وقيل: مستنده الشبه بينهما وهو إلف البيوت. وفي الضب: جدي: وفي الأرنب: عناق, وهي الأنثى من المعز من حين تولد ما لم تستكمل سنة, وفي اليربوع: جفرة, وهي الأنثى من المعز إذا بلغت أربعة أشهر, والمراد من العناق ما فوق الجفرة, فإن الأرنب خير من اليربوع. روى البيهقي عن عمر وعلي وابن عباس ومعاوية: أنهم قضوا في النعامة ببدنة, وعن ابن عباس: أنه قضى في الأرنب بعناق, وقال: في الضبع كبش, وعن ابن مسعود: أنه قضى في اليربوع بجفرة, وعن عمر وابن عوف: أنهما حكما في الظبي بشاة, وعن عبد الرحمن بن عوف وسعد: أنهما حكما في الظبي بتيس أعفر. وروى الشافعي عن مالك, عن أبي الزبير, وعن جابر: أن عمر قضى في الضبع بكبش, وفي الغزال بعنز, وفي الأرنب بعناق, وفي اليربوع بجفرة, وهذا إسناد صحيح مليح. وما لا نقل فيه عن السلف .. يحكم بمثله من النعم عدلان فقيهان فطنان. ثم الكبير من الصيد يفدى بالكبير من مثله من النعم, والصغير بالصغير, ويجوز فداء الذكر بالأنثى وعكسه, والمريض بالمريض, والمعيب بالمعيب إذا اتحد جنس العيب كالعور وإن كان عور أحدهما في اليمين والآخر في اليسار, فإن اختلف كالعور والجرب .. فلا, ولو قابل المريض بالصحيح, أو المعيب بالسليم .. فهو أفضل. قال في "المجموع": ويفدي السمين بسمين, والهزيل بهزيل, وفيما لا مثل له كالجراد والعصافير القيمة قياساً, ويستثنى منه الحمام كما تقدم, وتعتبر القيمة بمحل الإتلاف, ويقاس به محل التلف.

قوله: (أو الطعام قيمة) أي: يتخير في الصيد المثلي بين ذبح مثله, والصدقة به على مساكين الحرم, وبين أن يقوم المثل بدارهم ويشتري بها طعاماً يجزئ في الفطرة, أو يخرج بقدرها من طعامه لهم؛ أي: لجلهم بأن يتصدق به عليهم, ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم- وأقل ما يجزي الدفع إلى ثلاثة من الفقراء والمساكين, والصرف إلى القاطنين بأرض الحرم أولى من الغرباء- وبين أن يصوم عن كل مد يوما؛ قال تعالى: {هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما}. وغير المثلي يتصدق بقيمته طعاماً لمساكين الحرم ولا يتصدق بالدراهم, أو يصوم عن كل مد يوماً كالمثلي, فإن انكسر مد في القسمين .. صام يوماً؛ لأن الصوم لا يتبعض, ويقاس بالمساكين الفقراء, والعبرة في قيمة غير المثلي بمحل الإتلاف؛ قياساً على كل متلف متقوم, وفي قيمة مثل المثلي بمكة يوم إرادة تقويمه؛ لأنها محل ذبحه لو أريد, ويعتبر في العدول إلى الطعام سعره بمكة, لا بمحل الإتلاف على الراجح. قوله: (بالحرم اختص طعام والدم لا الصوم) أي: يجب اختصاص الطعام بالحر؛ أي: بمساكينه, وكذلك الدم؛ بأن يفرق لحمه على مساكينه, أو يملكهم جملته مذبوحاً لا حياً؛ لأن المقصود من الذبح هو إعطاء اللحم, وإلا .. فنفس الذبح مجرد تلويث الحرم وهو مكروه, ولا يجوز الأكل منه. ولا يختص الصوم بأرض الحرم, بل يجوز أن يصوم حيث شاء؛ إذ لا غرض فيه للمساكين. [عقد نكاح المحرم باطل] قوله: (إن يعقد نكاحاً محرم فباطل) أي: ولو مع حلال ولياً كان العاقد ولو سلطاناً أو زوجاً, أو وكيلاً عن أحدهما, وكذا لو كان العاقد حلالاً والزوجة محرمة, وسواء كان محرماً بحج, أو عمرة أو بهما, لخبر مسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" والنهي يقتضي الفساد. [قطع نبات الحرم وقلعه] قوله: (وقطع نبت الحرم رطباً وقلعاً دون عذر) أي: على الحلال والمحرم, والأظهر: تعلق الضمان بهو والمستنبت كغيره على المذهب, فيحرم قطع كل شجر رطب غير مؤذ حرمي لا اليابس, وكذا العوسج, وكل ذي شوك على الصحيح.

ولو نقل شجرة منه إلى الحل .. حرم وعليه ردها, أو إلى موضع منه .. فلا رد عليه. ولو نقل الشجرة أو الأغصان إلى الحل, أو الحرم فيبست .. ضمن, أو نبتت .. فلا, فلو قلعها قالع .. ضمن. ولو غرس شجرة من الحل في الحرم فنبتت .. لم تصر حرمية بخلاف الصيد. ولو كان أصل الشجرة في الحرم وأغصانها في الحل, فقطع غصناً .. ضمنه, وإن أخذ صيداً عليه .. فلا, أو العكس .. فبالعكس, أو بعض أصلها في الحل وبعضه في الحرم .. فكلها حرمية. ولو انتشرت أغصان الحرمية ومنعت الناس الطريق, أو آذتهم .. قطع المؤذي منها. ولو أخذ غصناً من الشجرة الحرمية ولم يخلف .. ضمنه, وإن أخلف تلك السنة .. فلا ضمان. ويجوز أخذ الأوراق بلا خيط, ويضمن الشجرة الكبيرة ببقرة, وإن شاء ببدنة, ودونها إلى قربها من سُبع الكبيرة شاة, وإن صغرت جداً .. فالقيمة. ويضمن الكلأ بالقيمة, فإن أخلف .. فلا, وإن كان يابساً فقطعه .. فلا بأس, أو قلعه .. ضمن, ويجوز ذلك للعذر؛ كرعي البهائم فيه, وأخذه لعلفها, ويحل الإذخر وكذا غيره للدواء. وصيد المدينة وشجرها حرام على المذهب, ولا يضمن في الجديد, ويحرم صيد وج على المذهب, ولا يضمن على الصحيح. ثم المحرمات تنقسم إلى: استهلاك كالحلق, واستمتاع كالطيب, وهما أنواع, ولا تداخل إلا إن اتحد النوع والزمان والمكان, ولم يتخلل تكفير ولم يكن مما يقابل بمثل, فإن حلق وقلم وتطيب ولبس .. تعددت مطلقاً, لا إن لبس ثوباً مطيباً, أو طلا رأسه بطيب؛ لاتحاد الفعل, وإن اختلف مكان الحلقين أو اللبسين أو التطيبين, أو زمانهما .. تعددت, وتعددت أيضاً بتخلل التكفير, ولا يتداخل الصيد ونحوه وإن اتحد نوعه, والطيب كله نوع, وكذا اللباس.

والألف في قول الناظم: (حققا): للإطلاق إن كان ماضياً, وإلا .. فبدل من نون التوكيد, ومثله قوله: (وحرم لمحرم) , وقوله: (والقضا) بالقصر للوزن, والألف في قوله: (الحرما) للإطلاق.

كتاب البيوع

كتاب البيوع يطلق البيع على أمرين: أحدهما: قسيم الشراء, وهو الذي يشتق منه لمن صدر عنه لفظ البائع, وحده: نقل ملك بثمن على وجه مخصوص, والشراء: قبول ذلك, على أن لفظ كل منهما يطلق على الآخر, تقول العرب: (بعت) بمعنى) (شريت) وبالعكس, ويقال لكل من المتابعين: بائع وبيع, ومشتر وشار. وثانيهما: العقد المركب من الإيجاب والقبول, وهو مرادهم بالترجمة, وهو لغة: مقابلة شيء بشيء, وشرعاً: مقابلة مال بمال على وجه مخصوص. والأصل فيه قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {وأحل الله البيع}. وأركانه ثلاثة: عاقد, ومعقود عليه, وصيغة, وبدأ بها؛ لأنها أهم للخلاف فيها فقال: [صيغة البيع والشراء] (وإنما يصح بالإيجاب ... وبقبوله أو استيجاب) أي: وإنما يصح البيع بالإيجاب من البائع؛ وهو ما دل على التمليك بثمن دلالة ظاهرة؛ كـ (بعتك) , و (ملكتك) , و (شريتك) , و (هذا مبيع منك) , أو (أنا بائعه لك بكذا) , وبقبوله؛ أي: ذلك الإيجاب؛ وهو ما دل على التملك بذلك الثمن دلالة ظاهرة؛ كـ (قبلت) و (تملكت) , و (اشتريت) , و (ابتعت) قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض" رواه ابن حبان وصححه, وأنيط البيع بالرضا وهو أمر خفي؛ لأنه ميل النفس فاعتبر لفظ يدل عليه, أو استيجاب كـ (بعني) , والبيع الضمني ينعقد بهذا الصيغة تقديراً؛ كـ (أعتق عبدك عني بكذا) ففعل؛ فإنه يعتق عن الطالب ويلزمه العوض, فكأنه قال: (بعينه بكذا, وأعتقه عني) وقد أجابه؛ أي: أو استقبال؛ كـ (اشتر

مني) وقبول؛ لأنه استدعاء جازم فقال الأول مقام القبول, والثاني مقام الإيجاب, فلا ينعقد البيع بصيغة الاستفهام ولو مقدراً, ولا بالمعاطاة ولو في المحقرات, والمأخوذ بها كالمأخوذ ببيع فاسد؛ فيطالب كل صاحبه بما دفعه له وببدله إن تلف. ويؤخذ من كلام الناظم: أنه لا يشترط اتفاق لفظ الإيجاب والقبول, وهو كذلك, فلو قال: (ملكتك بكذا) , فقال: (اشتريت) .. صح. ويؤخذ من عطفه القبول بالواو: أنه يجوز تقدم لفظ المشتري على لفظ البائع ولو بلفظ (قبلت) , وهو كذلك, وأنه لابد من الإيجاب والقبول في بيع تولى الأصل طرفيه؛ كبيعه ماله لفرعه, وهو كذلك, وأنه ينعقد بالكناية مع النية؛ كـ (جعلته لك بكذا) , أو (سلطتك عليه بكذا) , وهو كذلك؛ إذ بالكناية مع النية تصح العقود وغيرها ولو لم يقبل التعليق, إلا فيما يجب فيه الإشهاد؛ كالنكاح .. فلا يصح بها وإن توفرت القرائن, وكبيع وكيل شرط عليه الإشهاد إن لم تتوفر القرائن, وإلا .. صح, ومنها الكتابة ولو إلى حاضر لا على المائع والهواء. ويؤخذ من قوله: (وبقبوله) أنه يشترط توافق الإيجاب والقبول في المعنى, وهو كذلك, فلو قال: (بعتك بألف) , فقبل بألف وخمس مئة .. لم يصح؛ لعدم التوافق, بخلاف ما لو قبل: نصفه بخمس مئة ونصفه بخمس مئة. ويعتد بإشارة الأخرس في العقود والحلول ونحوها, ثم إن فهمها الفطن وغيره .. فصريحة, أو الفطن ونحوه .. فكناية. ومن شروط العقد: ألا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول؛ بأن يشعر بإعراضه عن القبول. وألا يتخلل بينهما كلام أجنبي عن العقد ولو يسيراً؛ بألا يكون من مقتضى العقد, ولا من مصالحه, ولا يكون من مستحباته, فلو قال المشتي: (باسم الله, والحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلت) .. صح. وأن يقع الإيجاب بلفظ الخطاب, وأن يسند لجملة المخاطب, فلا يكفي: (بعت يدك) , ولا (بعت موكلك) , ولا (بعت نصفك). نعم؛ لو قال المتوسط للبائع: (بعت هذا بكذا؟ ) فقال: (نعم) أو (بعت) , ثم قال

للمشتري: (اشتريت هذا بكذا) فقال: (نعم) أو (اشتريت) .. صح البيع على الأصح؛ لوجود الصيغة والتراضي. وأن يقع القبول من المخاطب بالإيجاب, فلو قبل وارثه بعد موته, أو وكيله أو موكله .. لم يصح. وأن يعتبر البادئ على ما أتى به من الإيجاب أو القبول, فلو أوجب بمؤجل أو بشرط الخيار, ثم أسقط الأجل أو الخيار قبل القبول .. لم يصح. وأن يبقيا على أهلية العقد إلى تمامه, فلو جن أحدهما, أو أغمي عليه, أو حجر عليه بسفه قبل تمامه .. لم يصح. وأن يتكلم بحيث يسمعه من بقربه وإن لم يسمعه صاحبه, وإلا .. لم يصح. وعدم التعليق إلا في نحو: (بعتك إن شئت) إذا تقدم الإيجاب. ومسألة اختلاف الوكيل والموكل في شراء الجارية؛ إذا قال له الموكل: (إن كنت أمرتك بعشرين .. فقد بعتكما بها) , وما لو قال: (إن كان ملكي .. فقد بعتكه). وعدم التأقيت, فلو قال: (ملكتك كذا بعشرة عمرك) .. لم يصح. الركن الثاني: العاقد, ومن شرطه: أن يكون بالغاً, عاقلاً أو زائل العقل بما تعدى به, رشيداً أو سفيهاً مهملاً, مختاراً أو مكروهاً بحق, بصيراً. [شروط المعقود عليه] الركن الثالث: المعقود عليه, وله شروط بينها بقوله: (في طاهر منتفع به, قدر ... تسليمه, ملك لذي العقد, نظر) (إن عينه مع الممر تعلم ... أو وصفه وقدر ما في الذمم) أي: إنما يصح البيع في طاهر؛ أي: أو يطهر بالغسل؛ كثوب تنجس بما لم يستر شيئاً منه, فلا يصح بيع كلب ولو معلماً, وميتة, وخمر, وخنزير, ونحوها؛ لخبر "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب) , وقال: "إن الله حرم بيع

الخمر والميتة والخنزير", وقيس بها في معناها, ولا بيع ما لا يطهر بالغسل سواء أكان يطهر بالاستحالة كجلد ميتة, أو بالمكاثرة كماء قليل متنجس, أم لم يطهر بذلك كمائع تنجس؛ لأنه في معنى نجس العين, ولأنه لو صح البيع .. لما أمر بإراقة السمن فيما رواه ابن حبان في "صحيحه": أنه صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تقع في السمن: "إن كان جامداً .. فألقوها وما حولها وكلوه, وإن كان ذائباً .. فأريقوه". وأما القز وفي باطنه الدود الميت .. فهو كالحيوان في باطنه النجاسة فيصح بيعه وزناً وجزافاً؛ كما نقله في "الروضة" عن القاضي, وفي "المجموع" عنه وعن آخرين, وقال في "الكفاية": لا يجوز وزناً. منتفع به حساً وشرعاً في الحال؛ كالماء بالشط, والتراب بالصحراء, والحجر بالجبل, أو في المآل؛ كالجحش الصغير, فلا يصح بيع ما لا ينفع فيه؛ إما لقلته كحبتي حنطة أو زبيب وإن حرم أخذهما ووجب ردهما, وإما لخسته؛ كحدأة ورخمة وغراب وإن كان في أجنحة بعضها نفع, وحشرات لا ينفع فيها, وإن ذكر لها منافع في الخواص؛ لأن ذلك لا يعد مالاً؛ فلا يقابل به؛ لأنه إضاعة مال وقد نهي عنها, وكل سبع لا نفع فيه؛ كالأسد والذئب, وما في اقتناء الملوك لها من الهيبة والسياسة وليس من المنافع المعتبرة. فيصح بيع العلق؛ لامتصاص الدم, وما يؤكل من الحشرات كأم حبين, والضب واليربوع, وكل سبع ينتفع به؛ كالضبع للأكل, والفهد والهرة للصيد, والفيل للقتال, والزرافة للحمل, والقرد للحراسة, والطاووس للأنس بلونه. ويصح بيع العبد الزمن لا الحمار الزمن, ويحرم بيع السم, فإن نفع قليله كالسقمونيا والأفيون .. جاز بيعه. ولا يصح بيع آلات الملاهي والصور ولو كانت ذهباً؛ لأنها مادامت على هيئتها لا يقصد منها سوى الأمر المحرم, وقد حرم صلى الله عليه وسلم بيع الأصنام, رواه الشيخان, ولا بيع النرد إلا إن صلح بيادق للشطرنج. ويصح بيع جارية الغناء, وكبش النطاح, وديك الهراش ولو زاد الثمن لذلك, وبيع آنية

الذهب والفضة؛ لأن المقصود عين النقد, ولأن استعمالها عند الحاجة جائز. مقدور على تسليمه حساً وشرعاً؛ ليوثق بحصول العوض, وليخرج عن بيع الغرر والمنهي عنه في "صحيح مسلم". قال الماوردي: والغرر: ما تردد بين متضادين أغلبهما أخوفهما, وقيل: ما انطوت عنا عاقبته, فلا يصح بيع الضال والآبق والمغصوب؛ للعجز عن تسليمها حالاً, والمعتبر ظهور التعذر لا اليأس, فإن كان البيع ضمنياً؛ كأن قال: (أعتق عبدك عني على كذا) , فأعتقه .. صح البيع, وكذا إن كان المشتري قادراً على تسلمها؛ نظر إلى وصوله إليها, إلا إن احتاجت قدرته إلى مؤنة, قال في "المطلب": فينبغي البطلان, ويثبت للمشتري الخيار إن جهل أو عجز, ويصدق بيمينه في العجز. ويصح بيع السمك في البركة, والحمام في البرج إذا سهل أخذه, وإلا .. فلا يصح, ولا يصح بيع بعض معين مما تنقص قيمته بفصله؛ للعجز عن تسليمه شرعاً؛ لأن التسليم فيه لا يمكن إلا بالفصل, وفيه نقص وتضييع مال وهو حرام. قال في "المجموع": وطريق من أراد شراء ذراع من ثوب نفيس أن يواطئ صاحبه على شرائه, ثم يقطعه قبل الشراء فيصح بلا خلاف. ولا يصح بيع بعض معين من إناء أو سيف, أو ثوب نفيس أو سفينة, ولا بيع جذع في بناء, وفص في خاتم, وجزء معين من جدار, أو أسطوانة فوقه شيء, أو كان قطعة واحدة من طين أو خشب أو غيرهما, أو كان لبن أو آجر, ولم تجعل النهاية صفاً. أما بيع بعض شائع, أو معين مما لا ينقص بفصله ككرباس, أو ينقص بتفريقه؛ كفردة خف وجزء من تصنيف, وذراع معين من أرض .. فيصح. ويصح بيع النحل خارج الكوارة إذا الأم في الخلية؛ لأنه لا يقوم إلا بالرعي, وحبسه يفسده بخلاف غيره. ولا يصح بيع المرهون بعد قبضه بغير إذن مرتهنه, ولا الجاني المتعلق برقبته مال قبل قبل اختيار الفداء بغير إذن مستحقه. مملوك لصاحب العقد الواقع؛ وهو العاقد أو موكله أو موليه؛ أي: يكون مملوكاٌ لأحد الثلاثة؛ ليكون للعاقد عليه ولاية؛ فلا يصح بيع الفضولي وسائر تصرفاته؛ لأنه ليس بمالك

ولا وكيل ولا ولي, وقد قال صلى الله عليه: "لا طلاق إلا فيما تملك, ولا عتق إلا فيما تملك, ولا بيع إلا فيما تملك" رواه أبو داوود بإسناد صحيح, وقال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن جزام: "لاتبع ما ليس عندنا" رواه الترمذي وصححه. ولو تصرف في مال مورثه بيع أو نحوه ظاناً حياته وكان ميتاً .. صح, كما لو باع رقيقه ظاناً بقاء كتابته أو إباقه, فبان فاسخاً أو راجعاً. قوله: (نظر) أي: من العاقدين, فلا يصح بيع ما لم يرياه أو أحدهما, وإن وصف بصفة السلم؛ لصحة النهي عن بيع الغرر؛ لأن الرؤية تفيد أموراً تقصر عنها العبارة, وفي الخبر: "ليس الخبر كالعيان", وأما خبر: "من اشترى ما لم يره .. فهو بالخيار إذا رآه" .. فضعيف؛ كما قاله الدارقطني والبيهقي. وتكفي الرؤية قبل العقد فيما لا يتغير غالباً إذا كان حال العقد ذاكراً للأوصاف, وذلك كالأواني والأراضي والحيوان؛ لأن الأصل بقاء المرئي بحاله, فإن بان متغيراً ولو بقول المشتري .. ثبت له الخيار, بخلاف ما يغلب تغيره من وقت الرؤية إلى العقد؛ كالأطعمة التي يسرع فسادها. وتكفي رؤية بعض المبيع إن دل على باقيه؛ كظاهر صبرة الحنطة والشعير, والتمر وإن التصقت حباته, والدقيق وأعلاه السمن والخل, وسائر المائعات في الظروف, وكأنموذج المتماثل بشرط إدخاله في العقد, أو كان صواناً للباقي؛ كقشر الرمان والبيض والخشكنان؛ لأن صلاح باطنه في إبقائه فيه, بخلاف جوز القطن, وجلد الكتاب, والفأرة وفيها المسك, وإن كانت مفتوحة. ولا تكفي رؤية ما في القارورة من رأسها, بخلاف السمك والأرض تحت الماء الصافي؛ إذ به صلاهما. وتعتبر رؤية كل شيء على ما يليق به, فتعتبر في الدار: رؤية البيوت والسقوف, والسطوح والجدران, والمستحم والبالوعة, وفي البستان: رؤية الأشجار والجدران ومسايل الماء,

وفي العبد والأمة: ما عدا العورة واللسان والأسنان, وفي الدابة: رؤية مقدمها ومؤخرها, وقوائمها وظهرها, وفي الثوب الصفيق كالديباج المنقش: وجهيه وكذا البساط, وفي الثوب الرقيق كالكرباس: رؤية أحد وجهيه, وفي الكتب والورق: البياض, وفي المصحف: رؤية جميع الأوراق, ويتسامح في كوز الفقاع. قوله: (إن عينه مع الممر تعلم) أي: بأن يعلم العاقدان عينه في المعين, وممره ثمناً كان أو مثمناً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر رواه مسلم, فلو باع أحد عبديه أو صيعانه مبهماً .. لم يصح وإن تساوت قيمتها, وقال: (على أن تختار أيهم) , أو (أيها شئت). وكذا لو باع داراً محفوفة من كل الجوانب, وشرط للمشتري حق المرور إليها من جانب مبهم؛ لتفاوت الأغراض باختلاف الجوانب, فيفضي إلى المنازعة, فجعل إبهامه كإبهام المبيع, بخلاف ما إذا عينه, أو أثبته له من كل الجوانب, أو أطلق وقال: بعتكها بحقوقها .. فيصح البيع ويتعين في الأولى ما عينه, وله في البقية المرور من كل جانب, فإن كانت الأرض في صورة الإطلاق ملاصقة للشارع, أو لملك المشتري .. لم يستحق المرور في ملك البائع, بل يمر من الشارع, أو ملكه القديم. ولو باع ذراعاً من أرض أو ثوب, وذرعه معلوم لهما .. صح وترك الإشاعة, وإن أراد معيناً .. لم يصح, فإن اختلفا في الإرادة .. صدق المعين, أو غير معلوم .. لم يصح. ويصح بيع صاع من صبرة, فإن علما صيعانها .. ترك على الإشاعة, وإن جهلت .. نزل على صاع مبهم, وله أن يعطيه من أسفلها, ولو لم يبق منها إلا صاع .. تعين, ولو باعه الصبرة إلا صاعاً: فإن علما صيعانها .. صح, وإلا .. فلا. قوله: (أو وصفه وقدر ما في الذمم) أي: بأن العاقدان قدر المبيع ووصفه؛ أي: وجنسه في الذمة ثمناً كان أو مثمناً, فلو قال: (بعتك بملء) أو (ملء ذا البيت حنطة) , أو (بزنة) أو (زنة هذه الحصاة ذهباً) .. لم يصح؛ للجهل بالقدر, فلو عين العوض؛ كأن قال: (بعتك بملء) أو (ملء ذا البيت من هذه الحنطة) .. صح. ولو باع بألف, أو نقد مطلقاً, وثم نقود لا غالب فيها .. لم يصح؛ لجهالة الجنس في الأولى والوصف في الثانية.

نعم؛ إن تساوت قيمة النقود .. صح البيع وسلم المشتري ما شاء منها. وأفهم كلامه: أن المعين لا يعتبر العلم بقدره وهو كذلك, فيصح بيع المشاهد من غير تقدير كصبرة الطعام, والبيع به كصبرة الدراهم, لكنه يكره؛ لأنه قد يوقع في الندم, فإن علم أن تحتها دكة أو منخفضاً, أو اختلاف أجزاء الظرف .. بطل, وإن جهل .. خير. ولو قال: (بعتك هذه الصبرة) أو (القطيع) , أو (الأرض) كل صاع, أو شاة أو ذراع بدرهم .. صح, ولا يصح بيع عشر شياه من هذه المئة, بخلاف مثله من الصبرة والأرض. ولو قال: (بعتك من هذه الصبرة كل صاع بدرهم) , أو (كل صاع من هذه الصبرة بدرهم) , أو (بعتك صاعاً من باطنها) .. لم يصح, أو (بعتكها بعشرة دراهم كل صاع بدرهم .. صح) إن خرجا سواء, وإلا .. فلا على الصحيح. وقول الناظم: (تسليمه) منصوب بنزع الخافض, و (الذمم): جمع ذمة؛ وهي لغة: الأمان, واصطلاحاً: النفس؛ إطلاقاً لاسم الحال على المحل. وقد علم مما تقرر: أن شروط المعقود عليه في غير الربوي ستة: طهارته, ونفعه, والقدرة على تسليمه, وكونه مملوكاً لصاحب العقد, ورؤيته, والعلم به, وممن جرى على جعلها ستة البارزي. قال العراقي: والتحقيق: أن اشتراط الرؤية داخل في اشتراط العلم, فإنه لا يحصل بدون الرؤية ولو وصف, فوراء الوصف أمور تقصر عنها العبارة؛ أي: فتكون الشروط خمسة؛ كما في "المنهاج" وغيره, وأورد على حصرها في الخمسة أو الستة: أنها موجودة في حريم الملك مع أنه لا يصح بيعه وحده, وأجيب بأنه: إن أمكن إحداث حريم للملك .. فالوجه الصحة, وإلا. ز فالمنع راجع إلى عدم القدرة على تسليمه؛ كبيع بعض معين من ثوب ينقص بالقطع. [الربا] ثم شرع في بيان الربا وهو لغة: الزيادة, وشرعاً: عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد, أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما, وهو ثلاثة أنواع:

ربا الفضل: وهو زيادة أحد العوضين على الآخر, وربا اليد: وهو البيع مع تأخير قبض أحدهما, وربا النساء: وهو البيع لأجل, وكل منها حرام فقال: (وشرط بيع النقد بالنقد كما ... في بيع مطعوم بما قد طعما) (تقابض المجلس والحلول, زد ... علم تماثل بجنس يتحد) [شروط بيع العقد بالنقد والمطعوم بالمطعوم] أي: وشرط بيع النقد بالنقد, والمطعوم بالمطعوم: تقابض العوضين في مجلس العقد, وحلولهما, وعلم العاقدين بتماثلهما إن اتحد جنسهما؛ روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل", وأنه قال: "الذهب بالذهب, والفضة بالفضة, والبر بالبر, والشعير بالشعير, والتمر بالتمر, والملح بالملح مثلا بمثل, سواء بسواء, يداً بيد, فإذا اختلفت هذه الأجناس .. فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" أي: متقابضة. قال الرفاعي: ومن لازمه الحلول؛ أي: غالباً, وإلا .. لجاز تأخير التسليم إلى زمنه. وعلة الربا في الذهب والفضة: جوهرية الثمن, وفي المطعوم: الطعم؛ لأنه علق في الخبر الأول الحكم باسم الطعام الذي هو بمعنى المطعوم, والمعلق بالمشتق معلل بما منه الاشتقاق؛ كالقطع والجلد المعلقين باسم السارق والزاني, و (الطعام): ما قصد غالباً لطعم الآدمي اقتياتاً أو تأدما, أو تفكهاً أو تداوياً, وإنما لم يذكروا الدواء فيما يتناوله الطعام في الأيمان؛ لأنه لا يتناوله في العرف وهي مبنية عليه. وهذه الأقسام مأخوذة من الخبر السابق, فإنه نص فيه على أربعة أشياء مختلفة المقاصد. إذا المقصود من البر: ما يقتاته الآمي, فألحق به كل مقتات مختص به؛ كالأرز والذرة. والمقصود من الشعير: جريانه فيما يشارك الآمي في أكله البهائم ولو على السواء, فألحق به الفول ونحوه. والمقصود من التمر: التأدم والتفكه, فالحق به ما في معناه؛ كالزبيب والفواكه.

والمقصود من الملح: الإصلاح, فألحق به ما في معناه؛ كالزعفران والمصطكي والسقمونيا, والطين الأرمني والزنجبيل, ودهن البنفسج والورد, ولا فرق بين ما يصلح الغذاء وما يصلح البدن؛ فإن الأغذية لحفظ الصحة, والأدوية لرد الصحة. فلا ربا فيما اختص به الجن كالعظم, والبهائم كالحشيش والتبن, أو أغلب تناولها له, أو لم يقصد للطعم؛ كالجلود والتراب المأكول سفهاً, وكدهن الكتان ودهن السمك؛ لأنهما معدان للاستصباح ودهن السفن لا للأكل. ولا ربا في الحيوان وإن جاز بلعه كصغار السمك, بخلاف ما يؤكل نادراً كالبلوط؛ وتناول التداوي بالماء العذب فإنه ربوي مطعوم؛ قال تعالى: {ومن لم يطعمه فإنه مني}. غير العرض, فيتناول التبر والحلي وغيرهما, وخرج به: الفلوس وإن راجت. والمراد بالتقابض: ما يشمل القبض, حتى لو كان العوض معيناً .. كفى الاستقلال بقبضه, ولابد من القبض الحقيقي, فلا تكفي الحوالة وإن حصل القبض بها في المجلس, وتكفي الوكالة إن قبض الوكيل قبل مفارقة الموكل المجلس, ولو تقابضا البعض .. صح فيه فقط على المذهب, ولو كان العاقد عبداً مأذوناً فقبض سيده, أو وكيلاً فقبض موكله .. لم يكف, ولو مات أحدهما في المجلس .. قام وارثه مقامه في القبض في الأصح, وحيث شرطنا التقابض في المجلس فأجازا العقد قبله .. بطل كما صححه الشيخان هنا. والمماثلة تعتبر في المكيل كيلاً, وفي الموزون وزناً, والمعتبر في كون الشيء مكيلاً أو موزوناً: غالب عادة الحجاز في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالمكيل لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً وعكسه, فالذهب والفضة, والجوز والسمن, وقطع الملح الكبار واللحم موزونة, والحبوب والزبيب والتين, واللوز والعسل والخل, والعصير والدهن والملح ونحوها مكيلة, وما لم يكن في ذلك العهد أو بالحجاز, أو لم يعلم حاله, أو استعملا فيه ولم يتعين أغلبهما وكان أكبر من التمر .. فالوزن, أو مثله أو دونه .. فعادة بلد البيع وقته. وعلم من قوله: (زد علم تماثل بجنس يتحد) أنه لو بيع ربوي بجنسه جزافاً تخميناً .. لم يصح ولو خرجا سواء.

[قاعدة: مد عجوة ودرهم] وأنه لا يصح البيع في قاعدة (مد عجوة): وهي أن يقع في جانبي العقد ربوي شرطه التماثل, ومعه جنس آخر ولو غير ربوي فيهما, أو في أحدهما أو نوع آخر, أو ما يخالفه في الصفة؛ كمد عجوة ودرهم أو ثوب بمثلهما, أو مد عجوة ودرهم بمدين أو درهمين, أو مد عجوة ومد صيحاني بمثلهما, أو بمدي عجوة أو صيحاني, أو مئتي دينار جيدة أو رديئة أو صحاح أو مكسرة تنقض قيمتها بمئة دينار جيدة ومئة رديئة, أو بمئة صحيحة ومئة مكسرة, وتعدد الصفقة هنا بتعدد البائع والمشتري كالاتحاد. ويصح بيع دار موهت بذهب فظهر فيها معدنه, وبيع دار موهت بذهب تمويهاً لا يحصل منه شيء بالعرض على النار بذهب. والألف في قوله: (طمعا) للإطلاق, والإضافة في قوله: (تقابض المجلس) بمعنى (في). (وإنما يعتبر التماثل ... حال كمال النفع, وهو حاصل) (في لبن والتمر, وهو بالرطب ... رخص في دون نصاب كالعنب) فيهما مسألتان: [اعتبار التماثل في بيع الربوي بجنسه حال كماله] الأولى: أنه إنما يعتبر التماثل في بيع الربوي بجنسه حال كمال النفع به؛ بأن يتهيأ لأكثر الانتفاعات المطلوبة منه, أو يكون على هيئة يتأتى معها ادخاره؛ فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقض الرطب إذا يبس؟ " فقالوا: نعم؛ فنهى عن

ذلك, وفي رواية: "فلا إذن", رواه الترمذي وصححه, فيه إشارة إلى أن التماثل يعتبر عند الجفاف, وقيس بالرطب غيره. قوله: (وهو) أي: حال كمال النفع (حاصل في لبن والتمر) فيباع اللبن باللبن, ولو حامضاً رائباً, وخاثراً ومخيضاً ما لم يغل بالنار, أو يختلط بالماء أو نحوه, ولا يبالي بكون ما يحويه المكيال من الخاثر أكثر وزناً, لكن لا يباع الحليب إلا بعد سكون رغوته. ويباع التمر بالتمر, ولا نداوة لا يظهر أثر زوالها في الكيل, ونزع نوى التمر أو الزبيب يبطل كماله؛ حينئذ لا بقاء له, بخلاف مفلق المشمش والخوخ ونحوهما؛ لأن الغالب في تجفيفها نزع النوى. وكمال الحبوب: بتناهي جفافها, وبقائها على هيئتها, وفيما يتخذ منه الدهن كالسمسم: التناهي والبقاء, أو الدهن, وكمال الفواكه: التناهي والبقاء, أو العصير أو الخل الصرف, وكمال اللحم: التناهي والخلو من الملح المؤثر في الوزن ونزع عظمه, ولا كمال للمطبوخ والمشوي والمقلي والمعروض على النار للعقد لا للتمييز. وما لا كمال له كالحنطة المقلية, أو المبلولة وإن جفت, والدقيق والسويق, والخبز والكشك, والنشا واللبن والمشوب بالماء, والزبد والمصل, والأقط والجبن, والبطيخ والسفرجل, والرمان وحبه الرطب, والمشمش والخوخ الرطبين, والكمثرى والرطب, والعنب والقثاء والبقل, وخل التمر والزبيب وعصيرهما, والدبس والسكر والفانيد واللبأ, واللحم الطري .. لا يجوز بيع بعضه ببعض من جنسه. [الرخصة ببيع العرايا] الثانية: أنه رخص في العرايا ولو للأغنياء؛ وهو بيع الرطب أو العنب على شجرة خرصاً بمثله على الأرض تمراً أو زبيباً كيلاً فيما دون نصاب الزكاة وهو خمسة أو سق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر, ورخص في العرايا أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً, رواه الشيخان, ورويا أيضاً: أنه رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق, أو

في خمسة أوسق, شك داوود بن الحصين أحد رواته, فأخذ الشافعي رضي الله تعالى عنه في أظهر قوليه بالأقل. وقيس بالرطب العنب بجامع أن كلاً منهما زكوي يمكن خرصه ويدخر يابسه, ومثلهما البسر كما قاله الماوردي, بخلاف سائر الثمار كالجوز؛ لأنها متفرقة مستورة بالأوراق فلا يمكن خرصها, وبخلاف الزائد على ما دون النصاب في صفقة واحدة. وسكت عن اشتراط التماثل والتقابض؛ للعلم به مما مر. فإن تلف الرطب أو العنب بأكل أو غيره .. فذاك, وإن جف وظهر تفاوت بينه وبين التمر أو الزبيب: فإن كان قدر ما يقع بين الكيلين .. لم يضر, وإلا فالبيع باطل, وقبض ما على الشجر بالتخلية, وما على الأرض بالكيل. وعلم مما تقرر: أنه يمتنع بيع كل من الرطب والعنب بمثله على الشجر أو الأرض؛ لانتفاء حاجة الرخصة؛ وهي تحصيل الرطب والعنب. وأنه يمتنع بيعه على الأرض بمثله يابساً؛ إذ من جملة المعاني فيها أكله طرياً على التدريج وهو منتف هنا. وأنه يمتنع بيعه على الشجر بمثله يابساً خرصاً؛ لئلا يعظم الغرر في البيع. وأنه يمتنع بيع كل من الرطب والعنب على الأرض بمثله جافاً على الشجر أو الأرض. [حكم بيع الثمر والزرع] ثم ذكر حكم بيع الثمر والزرع بقوله: (واشرط لبيع ثمر وزرع ... من قبل طيب الأكل: شرط القطع) أي: واشرط أنت لبيع ثمر وزرع من قبل طيب أكلهما؛ أي: قبل بدو صلاح الثمر, واشتداد الحب منفرداً عن الأرض: شرط القطع وإن كان المشتري مالك الأرض؛ أخذاً من خبر مسلم عن ابن عمر: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض) أي: يشتد,

وخبر "الصحيحين": "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه" .. ظاهره المنع قبل بدو صلاحه, خرج منه بيعه بشرط القطع بالإجماع على جوازه, فيعمل به فيما عداه. ومفهوم الغاية فيه: جواز البيع بعد بدو الصلاح مطلقاً, وبشرط قطعه, وبشرط إبقائه, والمعنى الفارق بينهما: أمن العاهة بعده غالباً, وقبله تسرع إليه لضعفه فيفوت بتلفه الثمن. أما بيعه مع الأرض .. فيصح من غير شرط القطع؛ لتبعيته لما يؤمن فيه من العاهة, بل لا يجوز شرطه؛ لما فيه من الحجر على المشتري في ملكه, فلو قال (بعتك الشجر أو الأرض بعشرة, والثمر أو الزرع بدينار) .. لم يجز إلا بشرط القطع؛ لأنه فصل, فانتفت التبعية. ويشترط لبيع الثمر بعد بدو صلاحه والحب بعد اشتداده: ظهور المقصود؛ كتين وعنب, وشعير وأرز ليكون مرئياً, بخلاف الحنطة والعدس في السنبل, ولا بأس بكمام لا يزال إلا عند الأكل؛ كقشر الرمان؛ لأن بقاءه فيه من مصلحته, وما له كمامان؛ كالجوز واللوز والباقلاء .. يباع في قشره الأسفل, ولا يصح في الأعلى؛ لاستتاره بما ليس من صلاحه بخلافه في الأسفل. نعم؛ يصح بيع قصب السكر في قشرة الأعلى؛ كما في "المطلب" عن الماوردي, ووجه: بأن قشره الأسفل كباطنه؛ لأنه قد يمص معه, فصار كأنه في قشر واحد كالرمان. قال في "الروضة": ويصح بيع طلع النخل مع قشره. وبدو الصلاح في الأشياء: صيرورتها إلى الصفة التي تطلب فيها غالباً؛ ففي الثمار: ظهور أول الحلاوة بأن يتموه ويلين, وفي المتلون بانقلاب اللون, وفي نحو القثاء بأن يجني مثله للأكل, وفي الحبوب باشتدادها, وفي ورق الفرصاد بتناهيه. وقد جعله الماوردي ثمانية أقسام: أحدهما: باللون؛ كصفرة المشمش, وحمرة العناب. ثانيهما: بالطعم؛ كحلاوة السكر, وحموضة الرمان مع زوال المرارة. ثالثها: بالنضج في البطيخ والتين.

رابعها: بالقوة والاشتداد؛ كالقمح والشعير. خامساً: بالطول والامتلاء؛ كالعلف والبقول. سادسها: بالكبر؛ كالقثاء. سابعها: بانشقاق كمامه؛ كالقطن والجوز. ثامنها: بانفتاحه؛ كالورد وورق التوت. (بيع المبيع قبل قبض أبطلا ... كالحيوان إذ بلحم قوبلا) فيه مسألتان: [بطلان بيع المبيع قبل قبضه] الأولى: أن بيع المبيع قبل قبضه باطل, منقولاً كان أو عقاراً وإن أذن فيه البائع وقبض الثمن؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبيعن شيئاً حتى تقبضه" رواه البيهقي, وقال: إسناده حسن متصل, وقال صلى الله وسلم: "من ابتاع طعاماً .. فلا يبعه حتى يستوفيه", قال ابن عباس: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) رواه الشيخان, وروى أبو داوود عن زيد بن ثابت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم). قال في "المجموع": وفي "الصحيحين" أحاديث بمعنى ذلك, ولضعف الملك قبل القبض؛ بدليل انفساخ العقد بالتلف قبله. وشمل كلامه: بيعه لبائعه وهو الأصح؛ لعموم الأخبار ولضعف الملك, والخلاف في بيعه بغير جنس الثمن, أو بزيادة أو نقص, أو تفاوت صفة, وإلا .. فهو إقالة بلفظ البيع؛ قاله في "التتمة", وأقراه في "الروضة" كـ"أصلها".

ومثل البيع الهبة, والرهن, والإجارة, والكتابة, والقرض, وجعله صداقاً, وعوض خلع وصلح, ورأس مال سلم, ويصح إعتاقه, وإيلاده وتزويجه, ووقفه وقسمته, وكذا بيع العبد من نفسه كما بحثه بعضهم؛ بناء على أنه عقد عتاقة وهو الأصح. وتصح الوصية به وتدبيره, وإباحته للفقراء إذا كان طعاماً واشتراه جزافاً, ومثل المبيع: كل عوض مضمون عليه في اليد الغير ضمان عقد. ويصح بيع ما له تحت يد غيره أمانة؛ كوديعة, ومشترك, وقراض, ومرهون بعد انفكاكه, وموروث, وباق في يد وليه بعد رشده, وكذا عارية ومأخوذ بسوم. ويصح بيع ما عاد إليه بفسخ عقد قبل استرداده كسلم, أو بيع إن رد الثمن, ويجوز الاستبدال عما في الذمة؛ من ثمن وقرض وبدل ونحوها, فإن استبدل موافقاً في علة الربا؛ كدراهم عن دنانير .. اشترط قبض البدل في المجلس لا تعيينه في العقد, أو ما لا يوافق .. اشترط تعيينه في المجلس لا قبضه فيه. ثم الرجوع في حقيقة القبض إلى العرف, فما لم ينقل كالأرض والثمرة .. فقبضه بالتخلية مع تسليم مفتاح الدار, وتفريغها من متاع, لا زرع من أرض بلا إعجال فوق العادة, وإن جمع الأمتعة بمخزن منها .. فما سواه مقبوض, وما ينقل .. فقبضه بالنقل, وما يتناول باليد .. فقبضه بالتناول, والمبيع قبل القبض من ضمان البائع, فإن أتلفه أو تلف .. انفسخ وسقط الثمن, وإتلاف المشتري قبض, ولا تنفسخ بإتلاف الأجنبي, بل يتخير المشتري بين الفسخ والرجوع عليه بالبدل. [بطلان بيع اللحم بالحيوان] الثانية: أنه يبطل بيع اللحم بالحيوان ولو لحم سمك, سواء أكان من جنسه؛ كلحم غنم بغنم, أم من غير جنسه من مأكول وغيره؛ كلحم غنم ببقر أو بعبد؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع الشاة باللحم) رواه الحاكم والبيهقي وقال: إسناده صحيح, و (نهى عن بيع اللحم بالحيوان) رواه أبو داوود عن سعيد بن المسيب مرسلاً, وأسنده الترمذي عن زيد بن سلمة الساعدي.

ومثل اللحم في ذلك سائر أجزاء الحيوان المأكولة؛ كالطحال والكبد والجلد قبل الدبغ, أما بيع بيض الدجاج ونحوه, أو اللبن بالحيوان .. فجائز على الأصح. وظاهر كلامهم والخبر: منع بيع اللحم بالسمك والجراد, وبه صرح صاحب "الخصال": وفرضه في بيع لحم الحيتان, وبيع لحم الجراد بالجراد, فما قيل: من أنه ينبغي جواز بيع السمك الصغير بلحم السمك .. مخالف لذلك. والألف في قو الناظم: (أبطلا) و (قوبلا) للإطلاق. ثم شرع في بيان الخيار؛ وهو ضربان: خيار نقص وسيأتي, وخيار ترو: وهو بمجرد التشهي, وله سببان: المجلس, والشرط, وبدأ بالأول منها؛ لثبوته بالشرع بلا شرط فقال: [خيار المجلس] (والبيعان بالخيار قبل أن ... يفترقا عرفا وطوعا بالبدن) أي: والبيعان بالخيار في أنواع البيع؛ كالصرف, وبيع الطعام بالطعام, والسلم, والتولية, والتشريك, وصلح المعاوضة, وشرائه من يعتق عليه, والهبة ذات الثواب, وبيعه ماله لفرعه وعكسه قبل أن يفترقا من مجلس العقد عرفاً وطوعاً بالبدن, وإن طال مكثهما, أو تماشيا منازل وزادت المدة على ثلاثة أيام؛ قال صلى الله عليه: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا, أو يقول أحدهما للآخر: اختر" رواه الشيخان. و (يقول) قال في "المجموع": منصوب بـ (أو) , بتقدير: (إلا أن) أو (إلى أن) , ولو كان معطوفاً .. لكان مجزوماً, مجزوماً, ولقال: (أو يقل). ولا يثبت خيار المجلس في بيع العبد من نفسه, والقسمة التي لا رد فيها, والحوالة وإن جعلناهما بيعاً, ولا في الإبراء والنكاح والهبة بلا ثواب, وكذا الشفعة والإجازة, والمساقاة والصداق, وعوض الخلع في الأصح.

أما إذا افترقا من المجلس عرفاً وطوعاً ببدنها لو نسياناً أو جهلاً .. فينقطع خيارهما؛ للخبر السابق. ويحصل التفرق بأن يفارق أحدهما الآخر من مجلس العقد وإن استمر الآخر فيه؛ لأن التفرق لا يتبعض, وكان ابن عمر_ رواي الخبر- إذا ابتاع شيئاً .. فارق صاحبه, رواه البخاري, وروى مسلم: قام يمشي هنيهة ثم رجع. ويعتبر في التفرق: العرف, فإن كانا في نحو دار صغيرة .. فبأن يخرج أحدهما منها يصعد السطح, أو كبيرة .. فبأن يخرج أحدهما من بيت إلى صحن أو عكسه, وإن كانا في صحراء أو سوق أو دار متفاحشة الاتساع وولى أحدهما الآخر ظهره ومشى قليلاً .. حصل التفرق, ولا يحصل بإرخاء ستر وبناء جدار؛ لأن المجلس باق, ولو تبايعا متباعدين .. فالأصح: ثبوت الخيار, أنه متى فارق أحدهما موضعه .. بطل خيارهما. قال في "الروضة": ولو تبايعا ببيتين من دار أو صحن وصفة .. ينبغي أن يكونا كالمتباعدين, ولو تبايعا بالمكاتبة وقبل المكتوب إليه .. فله خيار المجلس ما دام في مجلس القبول, ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه. وخرج بقوله: (طوعا) ما إذا افترقا إكراهاً لهما أو لأحدهما .. فإنه يبقى خيارهما, بخلاف الناسي والجاهل كما مر؛ لتقصيرهما, فلو فارق أحدهما مكرهاً .. لم يبطل خياره وإن لم يمنع من النطق بالفسخ؛ لأن فعل المكره كلا فعل, والسكوت عن الفسخ لا يبطل الخيار كم في المجلس. ولا يبطل خيار الماكث إن منع من الخروج معه, وإلا .. بطل. ولو هرب أحدهما ولم يتبعه الآخر: فإن كان مع التمكن .. بطل خيارهما, وإلا .. فخيار الهارب فقط؛ نقله الرافعي عن "التهذيب" وأقره, وأطلق جمع بطلان خيارهما, قال في "الروضة": وهو الأصح: ؛ لتمكنه من الفسخ بالقول, ولأن الهارب فارق مختاراً, بخلاف المكره فإنه لا فعل له.

ولو باع مال محجوره لنفسه, أو عكسه وفارق المجلس .. انتهى خيارهما. وخرج بـ (فرقة البدن): الموت والجنون والإغماء؛ فلا ينقطع بها الخيار, بل يقوم الوارث ولو عاماً مقام الميت, والولي ولو عاماً مقام المجنون, والسيد مقام المكاتب والعبد المأذون له, والموكل مقام الوكيل؛ كخيار الشرط والعيب, ويفعل الولي ما فيه المصلحة من الفسخ والإجازة, فإن كان الوارث طفلاً, أو مجنوناً .. نصب الحاكم من يفعل له ما فيه ذلك, ثم إن كان القائم بذلك في المجلس .. فواضح, أو غائباً عنه وبلغه الخبر .. امتد خياره امتداد مجلس بلوغ الخبر. ولو ورثه اثنان فأكثر في المجلس .. فلهم الخيار حتى يفارقوا العاقد, ولا ينقطع بمفارقة بعضهم, ومتى فسخ بعضهم وأجاز بعضهم .. انفسخ في الكل؛ كما لو فسخ المورث في البعض وأجاز في البعض, وسواء أفسخ بعضهم في نصيبه فقط, أم في الكل, ذكر ذلك في "الروضة". ولو أجاز الوارث, أو فسخ قبل علمه بموت مورثه وقلنا: من باع مال مورثه ظاناً حياته يصح .. قال الإمام: فالوجه نفوذ فسخه دون إجازته؛ لأنها رضا, وإنما يتحقق الرضا مع العلم وفيه احتمال, بهذا الاحتمال أجاب في "البسيط". وكما ينقطع الخيار بالتفرق ينقطع بالتخاير؛ بأن يختارا لزوم العقد؛ كـ (أجزناه) أو (أمضيناه) أ, (أفسدنا الخيار) , فلو اختار أحدهما لزومه .. سقط حقه من الخيار وبقي الحق فيه للآخر, ولو قال أحدهما للآخر: (اختر) .. سقط خياره؛ لتضمنه الرضا باللزوم, ويدل عليه الخبر السابق, وبقي خيار الآخر, ولو اختار أحدهما لزوم العقد والآخر فسخه .. قدم الفسخ, ولو تنازعا في التفرق أو الفسخ قبله .. صدق النافي بيمينه؛ لموافقته الأصل. [خيار الشرط] (ويشترط الخيار في غير السلم ... ثلاثة, ودونها من حين تم) أي: ويجوز أن يشترط الخيار في غير السلم ثلاثة أيام, ودونها من حين تم العقد بالإيجاب والقبول؛ لخبر "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: ذكر رجل لرسول الله

صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال له: "من بايعت فقل: لا خلابة", ورواه البيهقي بإسناد حسن بلفظ: "إذا بايعت .. فقل: لا خلابة, ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال", وفي رواية للدار قطني عن عمر: (فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدة ثلاثة أيام) , وسمي الرجل في هذه الرواية: حبان بن منقذ بفتح المهملة وبالموحدة, وفي التي قبلها منقذاً والده بالمعجمة, وبه جزم البخاري في "تاريخه", وصححه النووي في "مبهماته", وبالأول جزم البيهقي والنووي في "شرح مسلم", وهما صحابيان أنصاريان. وقوله: (لا خلابة) بكسر الخاء المعجمة معناها لغة: لا غبن ولا خديعة, وشرعاً: عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثاً, فإن أطلقاها عالمين بمعناها .. ثبت الخيار, ونبه بعدم جواز شرط الخيار في السلم على غيره من الربويات؛ لأنه إذا امتنع في السلم لاعتبار القبض فيه من جانب واحد .. فامتناعه فيما اشترط فيه القبض من الجانبين بطريق الأولى. والمعنى فيه: أن ما شرط فيه القبض في المجلس لا يحتمل الأجل, فأولى ألا يحتمل الخيار؛ لأنه أعظم غرراً منه؛ لمنعه الملك أو لزومه, لما في السلم من غرر إيراده على معدوم فلا يضم إليه غرر الخيار. وشمل كلامه: شرط الخيار للبائعين ولأحدهما, ولغيرهما حتى للرقيق المبيع في الأظهر, إلا الكافر في بيع العبد المسلم, والمحرم في الصيد على ما قاله الروياني, وخالفه ولده. وإنما يشرطه الوكيل لنفسه أو لموكله, فلو شرطه للآخر .. بطل العقد, وما لا يثبت فيه خيار المجلس كالحوالة .. يمتنع شرط الخيار فيه, وكذا للمشتري وحده في مبيع يعتق عليه, وشرط الثلاث في مصراة للبائع؛ كما في "المطلب" عن الجوري, أو فيما يسرع فساده في تلك المدة على الأصح. وقد علم من كلامه: أنه يجب كون المدة المشروطة معلومة لا تزيد على ثلاثة أيام؛ أي: متوالية متصلة بالعقد, وتحسب من العقد.

نعم إن شرطت في أثناء المجلس .. فابتداؤها من الشرط في الأصح, وإن شرط ابتداؤها من التفرق أو التخابر .. بطل العقد؛ للجهالة, وإن انقضت المدة وهما في المجلس .. بقي خياره فقط, وإن تفرقا والمدة باقية .. فبالعكس. ويجوز إسقاط الخيارين أو أحدهما, فإن أطلقا .. سقطا, وله الفسخ في غيبة صاحبه وبلا إذن حاكم, ومتى كان الخيار لهما .. فملك المبيع موقوف, فإن تم العقد .. بان أنه لمشتري من حين العقد, وإلا .. فللبائع, وإن كان لأحدهما .. فملك المبيع له, وتصرفه فيه نافذ, وله فوائده وعليه مؤنته. وحيث حكم بملك المبيع لأحدهما .. حكم بملك الثمن للآخر, حيث توقف فيه .. توقف في الثمن. ويحصل الفسخ والإجازة في زمن الخيار بلفظ يدل عليهما, ففي الفسخ نحو: (فسخت البيع) , أو (رفعته) , أو (استرجعت المبيع) , وفي الإجازة نحو: (أجزته) , أو (أمضيته). ووطء البائع الأمة المبيعة, وإعتاقه المبيع في زمن الخيار المشروط له أو لها لهما .. فسخ, وكذا بيعه وإجارته وتزويجه في الأصح: أن العرض على البيع والتوكيل فيه ليس فسخاً من البائع, ولا إجازة من المشتري. [خيار النقص] وأما خيار النقص: فهو متعلق بفوات مقصود مظنون نشأ الظن فيه من التزام شرطي, أو تغرير فعلي, أو قضاء عرفي. الأول: ما يظن حصوله بشرط وصف مقصود تبين خلافه؛ كشرط كون الرقيق كاتباً أو خبازاً, أو مسلماً أو كافراً, أو فحلاً أو مختوناً, أو خصيباً أو بكراً, أو جعدة الشعر لا عكسها, ويكفي في الوصف ما يقع عليه الاسم, ولا يشترط فيه النهاية, وخيار خلفه على الفور, فلو تعذر الرد بهلاك أو غيره .. فله الأرش؛ كما في العيب. والثاني: ما يظن حصوله بالتغرير؛ كالتصرية: وهي حرام تثبت الخيار على الفور إذا علم بها ولو بعد ثلاثة أيام, فإن در اللبن بقدر ما أشعرت به التصرية واستمر .. فلا خيار, ولو علم بها بعد الحلب .. ردها, ولزمه صاع تمر بدل لبنها إن تلف أو لم يتراضيا على رده, ويتعين

التمر والصاع, ولو قل اللبن: فإن تراضيا بغيره .. جاز, فإن فقد .. فقيمته بالمدينة, ولا يختص خيارها بالنعم, بل يعم كل مأكول, والجارية والأتان ولا يرد معهما شيئاً. ولو حبس ماء القناة أو الرحى, وأرسله عند البيع أو الإجارة, أو حمر وجنة الرقيق أو ورم وجهه, أو سود شعره أو جعده .. فللمشتري الخيار, بخلاف ما لو لطخ ثوبه بالمداد, أو ألبسه زي خباز مثلاً, أو ورم ضرع البهيمة. وأما الغبن .. فلا يثبت الخيار وإن فحش؛ كمن اشترى زجاجة ظنها جوهرة؛ لتقصيره. والثالث: ما يظن حصوله بالعرف المطرد؛ وهو السلامة من العيب, وضابطه: أن الرد يثبت بكل ما ينقص العين أو القيمة نقصاً يفوت به غرض صحيح إذا غلب في جنس المبيع عدمه, وقد أشار إليه بقوله: (وإن بما أبيع عيب يظهر ... من قبل قبض: جائز للمشتري) (يرده فوراً على المعتاد ... ككون من تباع في اعتداد) أي: وإن يظهر بالذي أبيع عيب من قبل قبض من المشتري للمبيع, سواء أوجد قبل العقد, أم حدث بعده؛ أي: أو حدث بعد القبض, واستند إلى سبب متقدم جهله المشتري .. فجائز له أن يرده فوراً على المعتاد, فلا يكلف غير المبادرة المعتادة, فلو علمه وحضرت صلاة ولو نافلة, أو أكل, أو لبس, أو قضاء حاجة, أو كان في حمام, أو ليل فأخر لذلك .. جاز. ولا يتوقف الرد على حكم القاضي ولا حضور الخصم, وله الرد ولو بوكيل إلى وكيل, وله الرفع إلى القاضي وهو آكد. فإن كان البائع غائباً ولا وكيل له حاضر, ورفع المشتري إلى الحاكم, وأثبت الشراء منه وتسليم الثمن إليه, والعيب والفسخ به, وحلف .. قضى له بالثمن من ماله, ووضع المبيع عند عدل, وإن لم يكن له مال .. بيع فيه المبيع. ولو أمكنه الإشهاد على الفسخ في طريقه أو حال عذره .. لزمه, فإن عجز عن الإشهاد .. لم يلزمه التلفظ بالفسخ في الأصح, وإنما تعتبر فورية الرد في بيع الأعيان, ويعذر في تأخيره؛ لجهله إن قرب إسلامه, أو نشأ بعيداً عن العلماء, ولجهل فوريته أيضاً؛ كما قاله الرافعي,

وقيده النووي بمن يخفى عليه, وكذا الحكم في الشفعة. ولو اشترى عبداً فأبق قبل القبض, فأجاز المشتري البيع, ثم أراد الفسخ .. فله ذلك ما لم يعد إليه. فمن العيوب: كون من تباع في العدة, والخصاء والجب, والزنا والسرقة, والإباق, والبخر من المعدة, والصنان المستحكم المخالف للعادة, واعتياد ابن سبع بوله بالفراش, والبرص, وكونه مجنوناً مخبلاً أو أبله, أو أشل أو أقرع, أو أصم أو أعور, أو أخفش أو أجهر, أو أعشى أو أخشم, أو أبكم أو أرت لا يفهم, أو فاقد الذوق أو أنملة, أو الظفر أو الشعر, أو في رقبته دين, أو له إصبع زائدة, أو سن شاغية, أو سن مقلوعة, أو به قروح, أو ثآليل كثيرة, أو أبهق أو أبيض الشعر في غير سنه, وكونه نماماً أو كذاباً أو ساحراً, أو قاذفاً للمحصنات, أو مقامراً, أو تاركا للصلاة, أو شارباً للخمر أو مزوجاً, أو خنثى مشكلاً أو واضحاً أو مخنثاً, أو ممكناً من نفسه, أو كونها رتقاء أو قرناء أو مستحاضة, أو يتطاول طهرها فوق العادة الغالبة, أو لا تحيض وهي في سنه غالباً, أو حاملاً لا في البهائم, أو محرمة بإذن, وكذا كفر رقيق لم يجاوره كفار, أو كافر يحرم وطؤها, واصطكاك الكعبين, وانقلاب القدمين إلى الوحشي وسواد الأسنان, وتراكم الوسخ الفاحش في أصولها, والكلف المغير للبشرة, وكون الدابة جموحاً أو عضوضاً أو رموحاً, أو تشرب لبنها, أو تسقط راكبها, واختصاص الدار بنزول الجند, ومجاورة قصارين يؤذونها بالدق أو يزعزعونها.

كتاب السلم

كتاب السلم سمي به؛ لتسليم رأس المال في المجلس, وبالسلف؛ تقديمه, يقال: اسلم وسلم, وأسلف وسلف. والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل} الآية, فسرها ابن عباس بالسلم, وخبر "الصحيحين": "من أسلف في شيء .. فليسلف في كيل معلوم, ووزن معلوم, إلى أجل معلوم", وهو: بيع موصوف في الذمة بلفظ السلم أو نحوه, فيعتبر له ما يعتبر للبيع, إلا الرؤية. ويختص بأمور أخذ في بيانها فقال: (ألشرط: كونه منجزاً, وأن ... يقبض في المجلس سائر الثمن) (وإن يكن في ذمة: يبين ... قدراً ووصفاً دون ما يعين) (وكون ما أسلم فيه دينا .. حلولا أو مؤجلا لكنا) (بأجل يعلم, والوجدان عم ... وعندما يحل يؤمن العدم) (دون ثمار من صغيرة القرى ... معلوم مقدار بمعيار جرى) (والجنس والنوع كذا الصفات ... لجلها تختلف القيمات) (وكونها مضبوطة الأوصاف لا ... مختلطا أو فيه نار دخلا) (عين لذي التأجيل موضع الأدا ... وإن لم يوافقه مكان عقدا) [شروط صحة السلم] يشترط لصحة السلم زيادة على شروط البيع أمور: أحدهما: كونه؛ أي: الثمن الذي هو رأس المال منجزاً؛ أي: حالاً لا مؤجلاً؛ فلو أجل ولو بلحظة .. لم يصح, وإنما لم أحمل كلامه على ظاهره؛ من أن شرط السلم كونه منجزاً

لا معلقاً, حتى لو قال: (إذا جاء رأس الشهر أسلمت إليك في كذا) .. لم يصح؛ لأن هذا الشرط ليس من خواص السلم, بل البيع ونحوه من العقود كذلك. ثانيها: أن يقبض جميع الثمن في مجلس العقد, بأن يقبضه المسلم إليه, أو وكيله ولو استوفي المسلم فيه؛ إذ لو تأخر .. لكان ذلك في معنى بيع الكالئ بالكالئ؛ لنزول التأخير منزلة الدينية في الصرف وغيره؛ ولأن السلم عقد غرر فلا يضم إليه غرر آخر, ولأنه جوز للحاجة فاشترط ذلك تعجيلاً لقضائها, فلو تفرقا قبل القبض .. بطل, وكذا لو تخايرا قبله؛ كنظيره في الربا, ولو قبض بعضه في المجلس .. صح من المسلم فيه بقسط ما قبض, وبطل في غيره. ويجوز كون رأس المال منفعة؛ كأن يقول: (أسلمت إليك منفعة هذه الدار شهراً في كذا) , وتقبض بقبض العين في المجلس؛ لأنه الممكن في قبضها فيه, فلا يعكر على هذا ما سيأتي من أن المعتبر في السلم القبض الحقيقي. وبما تقرر علم: أنه لو جعل رأس المال عقاراً غائباً, ومضى في المجلس زمن يمكن فيه المضي إليه .. صح؛ لأن القبض فيه بذلك. وأنه لو جعل المال الذي في ذمة المسلم إليه رأس مال .. لم يصح؛ لتعذر قبضه من نفسه. وأنه لا يشترط تعيينه في العقد؛ كما يعلم مما سيأتي أيضاً, وأن المسلم إليه لو قبض رأس المال في المجلس, وأودعه فيه المسلم .. جاز ذلك وصح العقد, ولو رده إليه عن دين .. قال أبو العباس الروياني: لا يصح؛ أي: العقد؛ لأنه تصرف فيه قبل انبرام ملكه عليه, وأقره الشيخان, والراجح: صحته. وأنه لو أعتق العبد الذي هو رأس المال في المجلس قبل قبضه, وقبضه في المجلس .. صح السلم؛ لما قلناه, ونفذ العتق أيضاً على أحد وجهين في "الروضة" و"أصلها", وصححه في "مختصرها" أبو عبد الله الحجازي, وبه جزم صاحب "العجاب". وأنه لو كان رأس المال في الذمة فأبرأ منه مالكه, أو صالح عنه على مال .. لم يصح وإن قبض ما صالح عليه.

ولو أحال المسلم المسلم إليه برأس المال, وقبضه في المجلس .. لم يصح وإن أذن فيه المحيل؛ لأن بالحوالة يتحول الحق إلى ذمة المحال عليه, فهو يؤديه عن جهة نفسه لا عن جهة المسلم. نعم؛ إن قبضه المسلم من المحال عليه, أو من المسلم إليه بعد قبضه بإذنه, وسلمه إليه في المجلس .. كفى؛ كما صرح به الشيخان. ولو أحال المسلم إليه برأس المال على المسلم: فإن تفرقا قبل التسليم .. بطل العقد وإن جعلنا الحوالة قبضا؛ لأن المعتبر في السلم القبض الحقيقي, وإن قبضه المحتال في المجلس بإذن المسلم إليه .. صح, ويكون وكيلا عنه في القبض, والفرق أن المقبض في تلك أقبض عن غير جهة السلم كما مر, بخلافه في هذه, والحوالة في المسألتين بكل تقدير فاسدة؛ لتوقف صحتها على صحة الاعتياض عن المحال به وعليه, وهي منتفية في رأس المال. وإذا فسخ السلم بسبب يقتضيه؛ كانقطاع المسلم فيه عند حلوله ورأس المال باق .. استرده بعينه, سواء أعين في العقد أم في المجلس, وليس له إبداله مع بقائه؛ لأن المعين في مكان العقد؛ كالمعين في العقد, ولو كن تالفاً .. رجع إلى بدله وهو المثل في المثلي, والقيمة في المتقوم. قوله: (وإن يكن) أي: رأس المال في ذمة يعين وجوباً قدراً له, ووصفاً له بصفات السلم؛ ليعلم, ثم يعين ويسلم في المجلس دون ما إذا كان معينناً؛ فإنه لا تشترط معرفة قدره, بل يكفي كونه جزافاً اكتفاء بالعيان؛ كما في البيع. ثالثها: كون المسلم فيه ديناً؛ لأنه الذي وضع له لفظ السلم, فلو قال: (أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد) , فقبل .. فليس بسلم؛ لانتفاء شرطه, ولا ينعقد بيعاً؛ لاختلال لفظه؛ لأن لفظ السلم يقتضي الدينية. ولو قال: (اشتريت منك ثوباً صفته كذا بهذه الدراهم) وفقال: بعتك .. انعقد بيعاً اعتباراً باللفظ؛ كما صححه الشيخان هنا, وقيل: سلماً اعتباراً بالمعنى؛ كما اقتضى كلامهما في (باب الإجارة) ترجيحه, ونص عليه الشافعي, ونقله الشيخ أبو حامد عنه,

وعن العراقيين, وصححه الجرجاني والروياني وابن الصباغ, وقال الإسنوي بعد نقله ذلك فلتكن الفتوى عليه, واختاره السبكي وغيره, وهذا كله إذا لم يذكر بعده لفظ السلم, فإن قال: (بعتك سلماً) , أو (اشتريته سلماً) .. فسلم؛ كما جزم به الشيخان في تفريق الصفقة. قوله: (حلولاً أو مؤجلاً) أي: كون المسلم فيه ديناً حالاً؛ بأن شرط حلوله في العقد, أو أطلق مؤجلاً بأجل معلوم؛ لقوله تعالى: {إلى أجل مسمى} , وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء .. فليسلف في كيل معلوم, ووزن معلوم, إلى أجل معلوم", وإذا جاز السلم مؤجلاً .. فالحال أولى؛ عن الغرر. وفائدة العدول عن البيع إلى السلم الحال: رخص السعر, وجواز العقد مع غيبة المبيع, والأمن من الانفساخ, إذ هو متعلق بالذمة. وخرج بقوله: (بأجل يعلم) تأجيله بالميسرة والحصاد وقدوم ونحوها, فلا يصح؛ للآية والخبر السابقين, وما روي من أنه صلى الله عليه وسلم: (اشترى من يهودي شيئاً إلى ميسرته) .. فمحمول-إن صح - على زمن معلوم عندهم, فإن عين شهور العرب أو الفرس أو الروم .. جاز؛ لأنها معلومة مضبوطة, وإن أطلق الشهر .. حمل على الهلالي؛ لأنه عرف الشرع, وذلك بأن يقع العقد أوله, فإن انكسر شهر؛ بأن وقع العقد في أثنائه, وأجل بأشهر .. حسب الباقي بعد الأول المنكسر بالأهلة, وتمم الأول ثلاثين مما بعدها, ولا يلغي المنكسر؛ لئلا يتأخر ابتداء الأجل عن العقد. نعم؛ لو عقد في اليوم الأخير من الشهر .. اكتفي بالأشهر الهلالية بعده, ولا يتمم اليوم مما بعدها, فإنها عربية كوامل, فإن تم الأخير منها .. لم يشترط انسلاخه, بل يتمم منه المنكسر ثلاثين, ذكره المتولي, ولو أجل على شهر ربيع, أو إلى أوله .. صح, بخلاف قوله: (يحل فيه) فإنه لا يصح؛ لأنه جعله ظرفاً, فكأنه قال: محله جزء من أجزائه, وذلك مجهول, والأصح: صحة تأجيله بالعيد وجمادى وربيع والنفر, ويحمل على ما ولي العقد من العيدين وجماديين والربيعيين والنفرين؛ لتحقق الاسم به. رابعها: كون المسلم فيه مما يعم وجوده, ويؤمن عدمه عند حلوله؛ ليقدر على تسليمه عند وجوب التسليم, وهو في السلم الحال بالعقد, وفي المؤجل بحلول الأجل؛ فلو أسلم فيما يندر وجوده؛ كلحم الصيد بموضع العزة, أو فيما لو استقصى وصفه عز وجوده كاللؤلؤ الكبار

واليواقيت, وجارية وأختها أو ولدها, أو في منقطع عند الحلول؛ كالرطب في الشتاء, أو مظنون الحصول عنده, لكن بمشقة عظيمة .. لم يصح, فإن كان يوجد ببلد آخر .. صح إن أعتيد نقله للبيع للقدرة عليه, وإلا .. فلا. ولو أسلم فيما يعم, ثم انقطع وقت حلوله .. تخير المسلم بين فسخه والصبر حتى يوجد. ولو علم قبل المحل انقطاعه عنده .. فلا خيار قبله في الأصح؛ لأنه لم يجئ وقت وجوب التسليم, ثم الانقطاع الحقيقي للمسلم فيه الناشئ بيلك البلدة: أن تصيبه جائحة تستأصله. ولو وجد في غير ذلك البلد, لكن يفسد بنقله, أو لم يوجد إلا عند قوم امتنعوا من بيعه .. فهو انقطاع, بخلاف ما إذا كانوا يبيعونه بثمن غال .. فيجب تحصيله, ويجب نقل الممكن نقله مما دون مسافة القصر على الأصح. قوله: (دون ثمار من صغيرة القرى) أي: لا يصح, حتى لو أسلم في قدر معلوم من ثمر, أو زرع قرية صغيرة, أو ثمر بستان معين .. لم يصح؛ لأنه لا يؤمن عدمه عند حلوله؛ إذ قد ينقطع فلا يحصل منه شيء, بخلافه في عظيمة؛ لأنه يؤمن عدمه غالباً فيصح في قدر معلوم منه, والمراد بـ (العظيمة): ما يؤمن فيها الانقطاع غالباً, وبالصغيرة غيرها. خامسها: كون المسلم فيه معلوم المقدار بمعيار جرى في الشرع بالوزن أو بالكيل أو بالعد أو بالذرع كما سيأتي؛ للخبر السابق مع قياس ما ليس فيه على ما فيه, فيشترط العلم بقدره بالوزن فيما كبر جرمه, بحيث يتجافى في المكيال كالبيض والسفرجل, والبطيخ والرمان, والباذنجان والبقل والقصب, فلا يجوز السلم فيه بالكيل؛ للتجافي فيه, ولا بالعد؛ لكثرة التفاوت في أفراده, ولا تقبل أعالي القصب التي لا حلاوة فيها, ويقطع مجامع عروقه من أسفله, ويطرح ما عليه من القشور, وفيما لا يكال عادة وإن صغر جرمه؛ كفتات المسك والعنبر؛ إذ لليسير منه مالية كثيرة, والكيل لا يعد ضبطاً فيه, وهذا ما حكاه الرافعي عن الإمام وأقره, ثم ذكر أنه: لا يجوز السلم في اللآلئ الصغار إذا عم وجودها كيلاً ووزناً, قال في "الروضة": وهو مخالف لما قدمه عن الإمام فيما لا يعد الكيل فيه ضبطاً, فكأنه اختار هنا إطلاق الأصحاب. انتهى. وأجاب البلقيني بأنه ليس مخالفاً له؛ لأن فتات المسك والعنبر إنما لم يعد الكيل فيهما

ضبطاً؛ لكثرة التفاوت بالثقل على المحل أو تركه, وفي اللؤلؤ لا يحصل بذلك تفاوت؛ كالقمح والفول فيصح فيه كيلاً, فلا مخالفة. وأما اللبن .. فالجمع فيه بين الوزن والعد مستحب, والشرط فيه: أن يذكر طوله وعرضه وثخانته, وأنه من طين معروف. وبالوزن وإن كان مكيلاً, أو بالكيل وإن كان موزناً فيما يصغر جرمه مما لا يتجافى في المكيال وعد فيه ضبطاً؛ كالجوز واللوز والمائعات, بخلاف ما تقدم في الربويات: لا يجوز الموزون إلا بالوزن, والمكيل إلا بالكيل؛ لأن المقصود هنا معرفة القدر, وثم المماثلة بعادة عهده صلى الله عليه وسلم كما مر. ويمتنع التقدير بالوزن والكيل معاً في كبير الجرم وصغيره؛ نحو الحنطة؛ لأن ذلك يعز وجوده, وفي معناها الثياب ونحوها, فلا تقدر بالوزن مع وصفها, بخلاف الخشب؛ فإن زائده ينحت, وبالعد والذرع في الثياب ونحوها البسط؛ لأنها منسوجة بالاختيار, وما لا يوزن ولا يكال ولا يصنع بالاختيار .. يكفي فيه العد كالحيوان. ولو عين كيلاً أو ميزاناً أو ذراعاً .. فسد السلم إن لم يكن معتاداً؛ لأنه قد يتلف قبل المحل, ففيه غرر, بخلاف مثله في البيع فإنه يصح في الأصح؛ لعدم الغرر. والسلم الحال كالمؤجل أو البيع؟ وجهان, وقطع الشيخ أبو حامد بأنه كالمؤجل, وإن كان معتاداً بأن عرف قدره .. فلا يفسد في السلم في الأصح وإن فسد التعيين؛ كسائر الشروط التي لا غرض فيها, ويقوم مثل المعين مقامه, فلو شرطا ألا يبدل .. فسد العقد؛ كما أفهمه كلام الرافعي في (المسابقة). سادسها: كون المسلم فيه معلوم الجنس؛ كالحنطة والشعير, والنوع؛ كالتركي والنوبي, والصفات التي تختلف بها القيمة اختلافاً ظاهراً, بخلاف ما يتسامح الناس بإهمال ذكره غالباً؛ كالكحل والسمن, والدعج والتكلثم ونحوها فلا يشترط ذكره في الأصح, ومنهم من يعبر عن هذا الشرط بالصفات التي يختلف بها الغرض اختلافاً ظاهراً, ومنهم من يجمع بينهما.

قال الرافعي: والضوابط الثلاثة ليست على إطلاقها؛ لأن كون العبد ضعيفاً في العمل وقوياً, وكاتباً وأمياً, وما أشبه ذلك صفات يختلف بها الغرض والقيمة, ولا يجب التعرض لها, قال الإسنوي الضابط أن يزاد فيه فيقال: من الصفات التي لا يدل الأصل على عدمها؛ فإن الضعف والكتابة وزيادة القوة الأصل عدمها. ويشترط معرفة العاقدين صفات المسلم فيه المذكورة في العقد, فإن جهلاها أو أحدهما .. لم يصح العقد, وكذا معرفة غيرهما الأصح؛ ليرجع إليه عند تنازعهما وهو عدلان على الأصح, فيضبط الرقيق بالنوع؛ كتركي وزنجي, فإن اختلف صنف النوع .. وجب ذكره, واللون من بياض وسواد, ويصف البياض بالسمرة, أو الشقرة, والسواد بالصفاء أو الكدرة إن اختلف لون الصنف, بالأنوثة أو الذكورة, والثيوبة أو البكارة, وبالسن كمحتلم أو ابن ست أو سبع, والأمر فيه على التقريب, وتحديده مبطل, حتى لو شرط ابن سبع سنين من غير زيادة ولا نقصان .. بطل. ويرجع لقول العبد في الاحتلام, وكذا في السن إن كان بالغاً, ولسيده إن ولد في الإسلام, وإلا .. فالنخاسين, فتعتبر ظنونهم. ويجوز شرط التهود أو التنصر, وبالقد كطويل أو قصير أو ربعة. والإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير: الذكورة أو الأنوثة والسن, واللون والنوع. ويضبط اللحم بالجنس؛ كلحم بقر أو غنم, وبالنوع؛ كعراب أو جواميس, ضأن أو معز, وبالذكورة أو الأنوثة, وبالفحولة أو الخصاء, وبالسن كصغير أو كبير, أو رضيع أو فطيم, جذع أو ثني, وبالرعي أو العلف, من كتف أو جنب, وبالسمن أو الهزال, ويجوز في المملح والقديد, ويقبل بالمعتاد من العظم, إلا إن شرط نزعه, ويجوز في الشحم والألية, والكبد والطحال, والكلية والرئة, لا الرؤوس والأكارع. ولحم الصيد كما قدمنا في اللحم, سوى المعلوف والخصي, ويبين أنه صيد بأحبولة أو سهم أو جارحة, وأنها كلب أو فهد. ولحم الطير والسمك: الجنس والنوع, والصغر أو الكبر, من حيث الجثة لا الذكورة

والأنوثة, إلا إذا أمكن التمييز, وتعلق به غرض, وموضع اللحم إذا كان الطير والسمك كبيرين, ولا يلزمه قبول الرأس والرجل من الطير, والذنب من السمك. والتمر: لونه وبلده, وعتقه أو حداثته, وصغر الحبات أو أكبرها أو توسطها. والحنطة وسائر الحبوب كالتمر, والرطب كذلك, إلا الحداثة والعتق, والدقيق كالحنطة, وزيادة قرب زمن الطحن أو بعده, وما يطحن به, وخشن أو ناعم. والعسل: بلده, والناحية من البلد والمرعى, وجبلي أو بلدي, صيفي أو خريفي, أبيض أو أصفر. والسكر: الناحية ونوع القصب, واللون والقوة أو اللين, والحداثة أو العتق, والقند, ويجوز في قصب السكر وزناً إذا شرط قطع أعلاه الذي لا حلاوة فيه, وقطع مجامع العروق من أسفله. واللبن كاللحم سوى الثالث والسادس, ويبين نوع العلف لا الحلاوة؛ فالمطلق ينصرف إلى الحلو, بل لو أسلم في اللبن الحامض .. لم يجز, إلا أن يكون مخيضاً لا ماء فيه .. فلا يضر وصف الحموضة حينئذ. والسمن كاللبن, وكونه رطباً أو يابساً. والصوف والشعر والوبر: البلد, واللون, والوزن, والطول أو القصر, وخريفي أو ربيعي من ذكر أو أنثى, ولا يقبل إلا خالصاً من الشوك والبعر, وإن كان الغسل لا يعيبه .. جاز شرطه. والقطن: البلد واللون, وكثرة لحمه أو قلته, والخشونة أو النعومة, وعتيق أو جديد إن اختلف به الغرض, والمطلق يحمل على الجاف وعلى ما فيه الحب, ويجوز في كل منهما وحده لا في القطن في الجوز؛ لاستتاره, ولا في الأرز والعلس؛ لاستتارهما بالكمام. الإبرسيم: لونه وبلده, ورقته أو غلظه, لا النعومة والخشونة. ويجوز السلم في القز الخالي من الدود, والغزل كالقطن, ويذكر الرقة أو الغلظ, ويجوز

شرط كونه مصبوغاً مع بيان الصبغ, فيذكر اللون وما يصبغ به, والبلد الذي يصبغ فيه, وأنه صبغ الصيف أو الشتاء. والثبات: الجنس والنوع, والبلد والطول والعرض, والخشونة أو النعومة, والغلظ أو الدقة, والصفاقة أو الرقة, فالغلظ والدقة راجعان إلى كيفية الغزل, والصفاقة والرقة راجعان إلى كيفية النسج؛ فالصفاقة: انضمام الخيوط, والرقة: تباعدها, ويجوز في المقصور, والمطلق محمول على الخام. ويجوز في القمص والسراويلات إذا ضبط طولها وعرضها وضيقها أو سعتها, ويجوز فيما صبغ غزله قبل النسج, لا في المصبوغ بعده. وأما الأخشاب: فلما يطلب للحطب: نوعه وغلظه أو رقته, وأنه من نفس الشجرة, أو من أغصانها, ووزنه, ولا يجب التعرض للرطوبة والجفاف؛ محمول على الجاف, ويجب قبول المعوج والمستقيم. ولما يطلب للبناء والغراس, أو للقسي والسهام: النوع والعدد والطول والغلظ أو الرقة ولا يشترط الوزن. والحديد: النوع واللون, والوزن والخشونة, وأنه ذكر أو أنثى, ويجوز في الدراهم والدنانير إن كان رأس المال غيرهما ويذكر السكة, ومن ضرب فلان. وفي أنواع العطر؛ كالمسك والعنبر والكافور: يذكر النوع والوزن. وفي الزجاج والطين والجص والنورة وحجارة الأرحية والأبنية: النوع والطول, والعرض والسمك, لا الوزن. وفي الكاغد: النوع والطول والعرض, والبلد والزمان والعدد, والوزن فيه أحوط, ولا يجوز في الرق والجلود. سابعها: كونها؛ أي: الصفات التي تختلف بها القيمة مضبوطة, فيصح في المختلط المقصود الأركان المنضبطة؛ كعتابي وخز من الثياب, الأول مركب من القطن والحرير, والثاني من الإبرسيم والوبر أو الصوف, وهما مقصود أركانهما.

وفي المختلط الذي لا يقصد إلا أحد خليطيه والآخر من مصلحته؛ كجبن وأقط كل منهما فيه مع اللبن المقصود الملح والإنفحة من مصالحه, وخل تمر أو زبيب, وهو يحصل من اختلاطهما بالماء, وفي المختلط خلقه كالشهد. ولا يصح في المختلط الأركان التي لا تنضبط؛ كهريسة ومعجون وغالية؛ وهي مركبة من مسك وعنبر وعود وكافور؛ كذا في "الروضة" كـ"أصلها" وفي "التحرير" ذكر الدهن مع الأولين فقط, وخف ونعل وترياق مخلوط. ولا يصح السلم فيما دخلت فيه نار وأثرت فيه؛ كالمطبوخ والمشوي؛ لاختلاف الغرض باختلاف تأثير النار فيه وتعذر الضبط, ولا يضر تأثير الشمس, فيجوز السلم في العسل المصفى بها. ويصح السلم في الجص والنورة والزجاج, وكذا الآجر في الأصح, وفي ماء الورد تردد نقله الشيخان, وفي "المهمات": أن الراجح: الجواز, وفي جوازه في المصفى بالنار وفي السكر والفانيد والدبس واللبأ- بالهمز من غير مد- وجهان, سكت عن الصحيح منهما في "الروضة", وصحح في "تصحيح التنبيه" الجواز في كل ما دخلته نار لطيفة, ومثل بما ذكر غير العسل وهو أولى, ومثله السمن. ثامنها: تعيين مكان أداء المسلم فيه المؤجل إن لم يصلح موضع العقد له؛ كالمفازة؛ أي: أو يصلح, ولكن لحمله مؤنة؛ لتفاوت الأغراض فيما يراد من الأمكنة, فإن صلح وليس لحمله مؤنة .. فلا يشترط التعيين, ويتعين مكان العقد للتسليم, وإن عينا غيره .. جاز وتعين, أما الحال .. فيتعين فيه موضع العقد الداء, قال ابن الرفعة: والظاهر: تقييده بالصالح للتسليم, وإلا .. شرط البيان. انتهى. ولو عينا غيره .. جاز وتعين, والمراد بموضع العقد: تلك المحلة, لا ذلك الموضع بعينه. ولا يجوز أن يستبدل عن المسلم فيه غير جنسه ونوعه, ويجب قبول الأجود, ويجوز قبول

الأردأ, ولا يجبر المسلم على قبول المسلم فيه قبل حلوله إن كان امتناعه لغرض صحيح؛ كأن كان حيواناً أو ثمرة, أو لحماً يريد أكله عند المحل طرياً, أو كان الوقت وقت إغارة, وإلا .. أجبر على القبول أو الإبراء, فإن أصر على الامتناع .. أخذه الحاكم, ولا يلزم المسلم إليه الأداء في غير محل التسليم إن كان لنقله مؤنة, لكن للمسلم الفسخ والرجوع لرأس المال, ولا يلزم المسلم الأخذ في غير المحل إن كان لنقله مؤنة, أو كان الموضوع مخوفاً. في غير المحل إن كان لنقله مؤنة, أو كان الموضع مخوفاً. والرطب والتمر, وما سقي بماء السماء وماء الأرض, والعبد التركي والهندي .. تفاوت نوع, لا تفاوت صفة. وقول الناظم: (حلولاً أو مؤجلاً) بدرج الهمزة, للوزن, والألف في قوله: (لكنا) و (دخلا) و (عقدا) للإطلاق.

باب الرهن

باب الرهن وهو لغة: الثبوت, ومنه الحالة الراهنة؛ أي: الثابتة, وقال الإمام: الاحتباس, ومنه, {كل نفس بما كسبت رهينة}. وشرعا: جعل عين مال وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر استيفائه, والأصل فيه قبل الإجماع: قوله: تعالى: {فرهن مقبوضة} , وخبر "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي بالمدينة- يقال له: أبو الشحم- على ثلاثين صاعاً من شعير لأهله). (يجوز فيما بيعه جاز, كما ... صح بدين ثابت قد لزما) (للراهن الرجوع ما لم يقبض ... مكلف بإذنه حين رضي) (وإنما يضمنه المرتهن ... إذا تعدى في الذي يؤتمن) (ينفك بالإبرا وفشخ الرهن ... كذا إذا زال جميع الدين) [أركان الرهن] أركان الرهن أربعة, ذكر الناظم منها في البيت الأول اثنين: [الركن الأول: المرهون] الركن الأول: المرهون؛ يجوز رهن ما جاز بيعه من الأعيان عند حلول الدين؛ ليستوفي من ثمنها, فاستيفاؤه مقصود الرهن؛ أي: أو من مقاصده, ويصح رهن المشاع من الشريك وغيره كالبيع, ولا يحتاج على إذن الشريك في الأصح كالبيع, ويقبض بتسليم كله, قال في "الروضة": فإن كان مما لا ينقل .. خلى الراهن بين المرتهن وبينه, وإن كان مما ينقل .. لم يحصل قبضه إلا بالنقل, ولا يجوز نقله بغير إذن الشريك, فإن أذن .. قبض, وإن امتنع: فإن رضي المرتهن بكونه في يد الشريك .. جاز وناب في القبض, وإن تنازعاً .. نصب الحاكم

عدلاً يكون في يده لهما, فلو رهن نصيبه من بيت من دار .. صح ولو بغير إذن شريكه. ولو قسمت الدار, فوقع البيت في نصيب شريكه .. فليس كتلف المرهون بآفة سماوية, بل يغرم الراهن قيمة ما رهنه, وتكون رهناً مكانه؛ لأنه قد حصل له بدله. وخرج بـ (العين): الدين, فلا يصح رهنه ولو ممن عليه, خلافاً لصاحب "الاستقصاء"؛ لأنه غير مقدور على تسليمه, والمنفعة كسكنى دار سنة فلا يصح رهنها؛ لأنها تتلف كلها أو بعضها, فلا يحصل بها توثق, والكلام في إنشاء الرهن, فلا ينافي كون المرهون ديناً بلا إنشاء, كما لو جني عليه, فإن بدله في ذمة الجاني .. محكوم عليه بأنه رهن في الأصح؛ لامتناع الإبراء منه. وخرج بـ (ما جاز بيعه عند الحلول): ما لا يجوز بيعه؛ كالمكاتب وأم الولد والموقوف, والمتنجس الذي لا يطهر بغسله, والجاني المتعلق برقبته مال, فلا يصح رهن شيء منها؛ لعدم جواز بيعه. ولا يصح رهن المدبر ولو بدين حال للغرر؛ إذ قد يموت السيد المعلق بموته عتق المدبر فجأة قبل التمكن من بيعه, وكذا معلق العتق بصفة تحتمل مقارنتها حلول الدين؛ لما فيه من الغرر. ويصح رهن الجاني المتعلق برقبته قصاص, والمرتد, والأم دون ولدها الصغير وعكسه, وعند الحاجة يباعان ويوزع الثمن عليهما, والأصح: أنه يقوم المرهون وحده, ثم مع الآخر فالزائد قيمته. ولو رهن ما يسرع فساده: فإن أمكن تجفيفه كرطب .. فع وصح الرهن, وفاعله مالكه يجب عليه مؤنته, قاله ابن الرفعة, وإلا: فإن رهنه بدين حال أو مؤجل يحل قبل فساده, أو شرط بيعه وجعل الثمن رهناً .. صح ويباع عند خوف فساده, ويكون ثمنه رهناً, وإن أطلق .. فسد في الأظهر كما رجحه في "المنهاج" كـ"المحرر" لأنه لا يمكن استيفاء الحق من المرهون عند المحل, والبيع قبله ليس من مقتضيات الرهن, قيل: يصح ويباع عند تعرضه للفساد؛ لأن الظاهر أنه لا يقصد إفساد ماله, وفي "الشرح الكبير": أن الأول أصح عند العراقيين, وميل

من سواهم إلى الثاني, وفي "الشرح الصغير": أنه الأظهر عند الأكثرين, وفي "المهمات" وغيرها: أن الفتوى عليه, وفي "الروضة": أن الرافعي رجح في "المحرر" الأول. وإن لم يعلم هل يفسد المرهون قبل حلول الأجل .. صح الرهن في الأظهر؛ لأن الأصل عدم فساده إلى الحلول. وإن رهن ما لا يسرع فساده, فطرأ ما عرضه للفساد قبل حلول الأجل؛ كحنطة ابتلت وتعذر تجفيفها .. لم ينفسخ الرهن بحال, ويجوز أن يستعير شيئاً ليرهنه بدينه؛ لأن الرهن توثق وهو يحصل بما لا يملك؛ بدليل الإشهاد والكفالة, بخلاف بيع ملك غيره لنفسه لا يصح؛ لأن البيع معاوضة, فلا يميك الثمن من لا يملك المثمن, والأظهر: أنه ضمان دين في رقبة ذلك الشيء لا عارية؛ لأن العارية ينتفع المستعير بها مع بقاء عينها, والانتفاع هنا ببيعه في الدين, فيشترط ذكر جنس الدين وقدره وصفته, وكذا المرهون عنده في الأصح؛ لاختلاف الأغراض بذلك, فلو تلف في يد المرتهن .. فلا ضمان, ولا رجوع للمالك بعد قبض المرتهن, فإذا حل الدين أو كان حالاً .. روجع المالك للبيع؛ لأنه لو رهنه بدينه .. لوجبت مراجعته, فهنا أولى, ويباع إن لم يقض الدين, ثم يرجع مالكه على الراهن بما بيع به. [الركن الثاني: المرهون به] الركن الثاني: المرهون به, وشرطه: كونه ديناً ثابتاً لازماً؛ أي: ومعلوماً لكل منهما, ودخل في الدين: المنافع في الذمة فيصح الرهن بها, ويباع المرهون عند الحاجة ويحصل المنافع بثمنه. وخرج به: العين مضمونة كانت أو أمانة, ومنافعها في إجارة العين؛ لأنه تعالى ذكر الرهن في المداينة فلا يثبت في غيرها, ولأن ذلك لا يستوفى من ثمن المرهون, وذلك مخالف لغرض الرهن عند البيع. وفرقوا بينه وبين صحة ضمان العين المضمونة؛ بأن ضمانها لا يجر إلى ضرر إذا لم تتلف, بخلاف الرهن بها؛ فإنه يجر إلى ضرر دوام الحجر في المرهون, وبأن الضامن للعين يقدر على تخليصها فيحصل المقصود بالضمان, وحصولها من ثمن المرهون لا يتصور. ولا يصح الرهن بما سيقرضه, ولا بثمن ما سيشتريه, ولا بالزكاة قبل تمام الحول؛ لأنه

وثيقة حق فلا يقدم على الحق كالشهادة, وعن ذلك الداخل في الدين بتجوز احترز بقوله: (ثابت). ولو قال: (أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها عبدك) فقال: (اقترضت ورهنت) , أو قال: (بعتكه بكذا وارتهنت به الثوب) , فقال: (اشتريت ورهنت) .. صح في الأصح؛ لأن شرط الرهن فيهما جائز فمزحه أولى؛ لأن التوثق فيه آكد؛ لأنه قد لا يفي بالشرط, واغتفر تقدم أحد طرفيه على ثبوت الدين؛ لحاجة التوثق, وإنما اشترط تأخير طرفي الرهن عن طرفي البيع أو القرض؛ ليتحقق سبب ثبوت الدين من كل من العاقدين, فلو قدم طرفاه على طرفيهما, أو وسطا بينهما .. لم يصح. ولا يصح الرهن بنجوم الكتابة؛ لأن الرهن للتوثق, والمكاتب بسبيل من إسقاط النجوم متى شاء, فلا معنى لتوثيقها. ولا بجعل الجعالة قبل الفراغ من العمل وإن شرع فيه؛ لأن لهما فسخها, فيسقط به الجعل, وإن لزم الجاعل بفسخه وحده أجرة أجرة مثل العمل, وعن المسألتين احترز بقوله: (قد لزما). ويجوز الرهن بالثمن مدة الخيار؛ لأنه آيل إلى اللزوم, والأصل في وضعه اللزوم, بخلاف جعل الجعالة, وظاهر أن الكلام حيث قلنا: ملك المشتري المبيع ليملك البائع الثمن؛ كما أشار إليه الإمام. ولا شك أنه لا يباع المرهون في الثمن ما لم تمض مدة الخيار, ودخلت المسألة في قوله: (قد لزما) بتجوز, ولا فرق في اللازم بين المستقر؛ كدين القرض وثمن المبيع المقبوض, وغير المستقر؛ كثمن المبيع قبل قبضه, والأجرة قبل استيفاء المنفعة. ويجوز بالدين رهن بعد رهن, وهو كما لو رهنهما به معاً, ولا يجوز أن يرهنه المرهون عنده بدين آخر في الجديد وإن وفى بهما, كما لا يجوز رهنه عند غير المرتهن, والفرق بين هذا وما قبله: أن هذا شغل مشغول, وذلك شغل فارغ. نعم؛ لو جنى المرهون ففداه المرتهن بإذن الراهن ليكون مرهوناً بالدين والفداء .. فأصح الطريقين في "الروضة" و"أصلها": القطع بالجواز؛ لأنه من مصالح الرهن لتضمنه استبقاءه, ويجري الطريقان فيما لو أنفق المرتهن على المرهون بإذن الحاكم؛ لعجز الراهن عن النفقة أو غيبته ليكون مرهوناً بالدين والنفقة؛ كما نقله في "الروضة" عن القاضي أبي الطيب من

غير إنكار, وظاهر أن الراهن في صورة عجزه كالحاكم فيكفي إذنه. [الركن الثالث: صيغة الرهن] الركن الثالث: الصيغة, فلا تصح إلا بإيجاب وقبول بشرطهما المعتبر في البيع, وفي المعطاة والاستيجاب مع الإيجاب والاستقبال مع القبول ما في البيع, فإن شرط فيه مقتضاه؛ كتقدم المرتهن بثمنه, أو مصلحة للعقد؛ كالإشهاد أو ما لا غرض فيه .. صح, أو ما ينفع المرتهن ويضر الراهن؛ كشرط منفعته للمرتهن .. بطل الشرط وكذا الرهن في الأظهر. ولو شرط في البيع رهن منفعته للمرتهن سنة مثلاً .. فهو جمع بين بيع وإجارة وهو جائز, أو ينفع الراهن ويضر المرتهن .. بطل, أو أن تحدث زوائده مرهونة .. فالأظهر: فساد الشرط والرهن. [الركن الرابع: العاقد] الركن الرابع: العاقد, وشرطه: كونه مطلق التصرف, فلا يرهن ولي مال صبي أو مجنون أو سفيه, ولا يرتهن له إلا لضرورة, أو غبطة ظاهرة, سواء أكان الولي أباً أم جداً, أم وصياً أم حاكماً أم أمينه. مثالهما للضرورة: أن يرهن على ما يقترضه لحاجة النفقة أو الكسوة ليوفي مما ينتظر من حلول دين, أو نفاق مال كاسد, وأن يرتهن على ما يقرضه, أو يبيعه مؤجلا لضرورة نهب. ومثالهما للغبطة: أن يرهن ما يساوي مئة على ثمن ما اشتراه بمئة نسيئة وهو يساوي مئتين, وأن يرتهن على ثمن ما يبيعه من موسر ثقة نسيئة بغبطة رهناً وافياً ويشهد عليه, فإن لم يفعل .. ضمن, قال الجمهور. [رجوع الراهن عن الرهن] وللراهن الرجوع عن الرهن ما لم يقبضه مكلف يصح ارتهانه بإذن الراهن؛ لعدم لزومه, أما بعد قبضه المذكور .. فليس للراهن رجوع فيه, للزومه بقبضه. أما قبضه .. فلقوله تعالى: {فرهن مقبوضة} فلو لزم بدون القبض .. لم يكن للتقييد به فائدة, وأما كونه من مكلف يصح ارتهانه .. فلأنه الذي يعتد بقبضه؛ كما في

التصرفات المالية, فلا يصح قبض صبي ومجنون وسفيه, وتجري فيه النيابة كالعقد, لكن لا يستنيب راهناً؛ لأن الواحد لا يتولى طرفي القبض. ومنه علم: أنه لو كان الراهن وكيلاً في الرهن فقط .. جاز للمرتهن أن يوكله في القبض من المالك؛ لانتفاء العلة, ولا رقيق الراهن؛ لأن يده كيد سيده, سواء القن والمدبر والمأذون له وغيرهم, إلا المكاتب؛ لاستقلاله باليد والتصرف كالأجنبي, ومثله المبعض إذا كان بينه وبين سيده مهيأة, ووقع التوكيل في نوبته, وقبض المرهون كقبض المبيع. ولو رهن نحو وديعة عند مودع, أو مغصوب عند غاصب .. لم يلزم هذا الرهن ما لم يمض زمن إمكان قبضه, والأظهر: اشتراط إذن الراهن في قبضه؛ لأن اليد كانت عن غير جهة الرهن ولم يقع تعرض للقبض عنه, ولا يبرئه ارتهانه عن نحو الغصب وإن لزم, ويبرئه الإيداع في الأصح؛ لأنه ائتمان ينافي الضمان, والارتهان توثق لا ينافي الضمان, فإنه لو تعدى في المرهون .. صار ضامناً مع بقاء الرهن بحاله, ولو تعدى في الوديعة .. ارتفع كونها وديعة. ويحصل الرجوع عن الرهن قبل قبضه بتصرف يزيل الملك كهبة مقبوضة, وبرهن مقبوض, وكتابة, وكذا تدبيره في الظهر, وبإحبالها لا الوطء والتزويج. ولو مات العاقد, أو جن أو أغمي عليه, أو تخمر العصير, أو أبق العبد قبل القبض .. لم يبطل الرهن في الأصح. [ما يجوز للراهن التصرف فيه وما لا يجوز] وعلم من كلامه: أنه ليس للراهن المقبض تصرف يزيل الملك؛ كالبيع فلا يصح, لكن في إعتاقه أقوال, أظهرها: ينفذ من الموسر ويغرم قيمته يوم عتقه تكون رهناً مكانه من غير عقد, ولا ينفذ من المعسر ولو انفك الرهن بعده, ولو علقه بصفة فوجدت وهو رهن ... فكالإعتاق, أو بعد فكاك الرهن .. نفذ على الصحيح. ولا رهنه لغير المرتهن, ولا التزويج؛ لأنه ينقص المرهون ويقلل الرغبة فيه, قال في "الروضة": فلو خالف فزوج العبد أو الأمة المرهونين .. فالنكاح باطل؛ صرح به القاضي أبو الطيب, ولا الإجارة إن كان الدين حالاً أو يحل قبلها؛ لأنها تقلل الرغبة فتبطل, بخلاف ما إذا كان الدين يحل بعد مدتها أو مع فراغها .. فتجوز الإجارة, وتجوز للمرتهن مطلقاً فلا يبطل الرهن.

ولا الوطء؛ لخوف الحبل فيمن تحبل, وحسماً للباب في غيرها, فإن وطئ فأحبل .. فالولد حر نسيب, ولا قيمة عليه ولا حد ولا مهر, وعليه أرش البكارة إن افتضها, فإن شاء .. جعله رهناً, وإن شاء .. قضاه من الدين. والأظهر: نفوذ الاستيلاء من الموسر, فتلزمه قيمتها تكون رهناً مكانها, لا المعسر فالرهن بحاله, ولا تباع حاملاً؛ لحرية حملها, فإن انفك الرهن ولم تبع, أو بيعت ثم ملكها .. نفذ الاستيلاد في الأصح. والفرق بينه وبين الإعتاق: أن الإعتاق قول يقتضي العتق في الحال, فإذا رد .. لغا, والاستيلاد فعل لا يمكن رده, وإنما يمنع حكمه في الحال لحق الغير, فإذا زال حق الغير .. ثبت حكمه, فلو ماتت بالولادة .. غرم قيمتها تكون رهناً مكانها في الأصح؛ لأنه تسبب إلى هلاكها بالحبال من غير استحقاق. وله كل انتفاع لا ينقص المرهون كالركوب والسكنى؛ لخبر البخاري: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً", لا البناء والغراس؛ لأنهما ينقصان قيمة الأرض. نعم؛ لو كان الدين مؤجلاً, وقال الراهن: أنا أقلع عند الأجل .. لم يمنع منهما؛ كما ذكره الدرامي, ونص عليه في "الأم", فإن فعل ذلك .. لم يقلع قبل حلول الأجل, على الراهن, وألا يأذن في بيع الغراس, والبناء مع الأرض, وإلا .. بيعا ووزع الثمن. ثم إن أمكن الانتفاع بالمرهون بغير استرداد .. لم يسترد؛ كأن يكون عبداً له حرفة يعملها في يد المرتهن, فلا يسترد لعملها, ويسترد للخدمة, وإلا .. فيسترد؛ كأن تكون داراً فتسكن, أو دابة فتركب ويردها وعبد الخدمة إلى المرتهن ليلاً, ويشهد المرتهن على الراهن بالاسترداد للانتفاع شاهدين إن اتهمه, فإن وثق به .. فلا حاجة إلى الإشهاد. وله بإذن المرتهن ما معناه من التصرف والانتفاع, فيحل الوطء, فإن لم تحبل .. فالرهن بحاله, وإن أحبل أو أعتق, أو باع أو وهب وأقبض .. نفذت وبطل الرهن, وله الرجوع قبل تصرف الراهن, وكذا إن وهب ولم يقبض, أو وطء ولم تحبل, فإن تصرف جاهلاً برجوعه .. لم يصح.

ولو أذن في بيعه ليعجل المؤجل من ثمنه .. لم يصح البيع؛ لفساد الإذن بفساد الشرط, وكذا لو شرط في الإذن في بيعه رهن الثمن مكانه .. لم يصح البيع في الأظهر؛ لما ذكر, وفساد الشرط بجهالة الثمن عند الإذن. [ضمان المرهون] وإذا لزم الرهن .. فاليد في المرهون للمرتهن, وهي يد أمانة فلا يضمنه إذا تلف في يده بلا تعد منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الرهن من راهنه" أي: من ضمان راهنه "له غنمه, وعليه غرمه", ولا يسقط بتلفه شيء من دينه, ولا تزال يده عنه, إلا للانتفاع به كما سبق, ثم يرد إليه ليلاً كما مر. وإن كان العبد ممن يعمل ليلاً كالحارس .. رد إليه نهاراً, وقد لا تكون اليد فيه للمرتهن؛ كما لو رهن مسلماً أو مصحفاً من كافر, أو سلاحاً من حربي .. فإنه يوضع عند عدل. ولو رهن جارية كبيرة: فإن كان المرتهن محرماً لها, أو امرأة, أو أجنبياً ثقة وعنده زوجة, أو أمة أو نسوة ثقات .. وضعت عنده, وإلا .. فعند محرم, أو امرأة ثقة, أو عدل بالصفة المذكورة, فإن شرط خلافه .. فشرط فاسد, والخنثى كالأنثى, لكن لا يوضع عند امرأة. ولو شرطا وضعه في يد ثالث .. جاز, أو عند اثنين ونصا على اجتماعهما على حفظه أو الانفراد به .. فذاك, وإن أطلقا .. فليس لأحدهما الانفراد بحفظه في الأصح. ولو مات العدل أو فسق, أو كان فاسقاً فزاد فسقه .. جعلاه حيث يتفقان, وإن تشاحا .. وضعه الحاكم عند عدل, ويستحق بيع المرهون عند الحاجة, ويقدم المرتهن بثمنه, ويبيعه الراهن أو وكيله بإذن المرتهن, فإن لم يأذن .. قال له الحاكم: ائذن في بيعه أو أبرئه. ولو طلب المرتهن بيعه فأبى الراهن .. ألزمه القاضي قضاء الدين أو بيعه, فإن أصر .. باعه الحاكم وقضى الدين من ثمنه, ولو باعه المرتهن بإذن الراهن .. صح إن باع بحضرته, أو قدر له الثمن, أو كان الدين مؤجلا, وإلا .. فلا. ولو شرط أن يبيعه العدل .. جاز, ولا تشترط مراجعة الراهن في الأصح, فإذا باع .. فالثمن عنده من ضمان الراهن حتى يقبضه المرتهن. ولو تلف في يد العدل, ثم استحق المرهون: فإن شاء المشتري .. رجع على العدل, وإن

شاء .. على الراهن والقرار عليه, ولا يبيع العدل إلا بثمن مثله حالاً من نقد بلده كالوكيل, فإن أخل بشيء من هذه الشروط .. لم يصح البيع. والمراد بالنقص عن ثمن المثل: النقص بما لا يتغابن به الناس, فالنقص بما يتغابنون به لا يضر؛ لتسامحهم فيه, فإن زاد راغب قبل انقضاء الخيار .. فليفسخ وليبعه, فإن لم يفعل .. انفسخ في الأصح. ومؤنة المرهون على مالكه, ويجبر عليها لحق المرتهن على الصحيح, ولا يمنع الراهن من مصلحة المرهون؛ كفصد وحجامة, ويصدق المرتهن في دعوى التلف بيمينه, ولا يصدق في دعوى الرد عند الأكثرين. [ما ينفك به الرهن] وينفك الرهن بالإبراء من جميع الدين, فإن بقي شيء منه .. لم ينفك شيء منه؛ لأنه وثيقة لجميع أجزاء الدين, إلا إن تعدد صاحب الدين؛ كأن رهن عبداً من اثنين بدينهما عليه صفقة واحدة, ثم برئ عن دين أحدهما, أو الصفقة وإن اتحد الدائن والمدين؛ كأن رهن نصف عبد في صفقة, وباقية في أخرى, أو من عليه الدين؛ رهن اثنان من واحد بدينه عليهما وإن اتحد وكيلهما؛ لأن المدار على اتحاد الدين وتعدده كما مر, أو صاحب العارية وإن اتحد العاقد, والدين؛ كأن استعار عبداً من مالكيه ليرهنه فرهنه, فينفك نصيب أحدهما بأداء قدر حصته من الدين؛ بأن قصد المؤدي الأداء عن نصيب أحدهما بعينه أو أطلق, ثم جعله عنه, بخلاف ما إذا قصد الشيوع أو أطلق ثم جعله عنهما, أو لم يعرف حاله. وينفسخ الرهن؛ بأن فسخه الراهن والمرتهن, أو المرتهن وحده, وبزوال جميع الدين بقضاء أو حوالة أو غيرهما. والألف في قول الناظم: (لزما) للإطلاق, قوله: (بالإبرا) بالقصر للوزن.

باب الحجر

باب الحجر هو لغة: المنع, وشرعاً: المنع من التصرف المالي, والأصل فيه: قوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} الآية, وقوله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً} الآية, و (السفيه): المبذر, و (الضعيف): الصبي, (الذي لا يستطيع أن يمل): المغلوب على عقله. [من يحجر عليه لمصلحة غيره] وهو نوعان: أحدهما: ما شرع لمصلحة المحجور عليه نفسه, والثاني: ما شرع لمصحة غيره؛ كالحجر على من عنده ماء يتطهر به ودخل وقت الصلاة؛ فلا يصح بيعه, ولا هبته مع احتياجه إليه, وكذلك السترة والمصحف لغير الحافظ, والحجر على معير الأرض للدفن إلى أن يبلى الميت, وعلى المشتري في المبيع قبل القبض, وعلى المردود عليه بالعيب إلى أن يرد الثمن. والحجر الغريب هو الحجر على المشتري في المبيع, وجميع أمواله إلى إعطاء الثمن, وكذلك المستأجر, والحجر على المشتري بشرط الإعتاق, فليس له بيعه ولو بهذا الشرط, وعلى العبد المأذون لحق الغرماء, وعلى المشتري في نعل الدابة المردودة بالعيب المتروك للبائع إذا كان قلعه يحدث عيباً إلى حين سقوطه, وعلى الراهن لحق المرتهن, وعلى المرتهن في بيع الجارية المرهونة إذا أحبلها الراهن المعسر إلى أن تضع وتسقي الولد اللبأ ويوجد من ترضعه, وعلى الممتنع من إعطاء الدين وماله زائد إن التمسه الغرماء, وعلى الغاصب في المغصوب المخلوط بما لا يتميز إلى إعطاء البدل, وعلى المالك فيما استأجر على العمل فيه؛ كما لو استأجر صباغاً لصبغ الثوب وسلمه له .. فليس له بيعه إلا بعد انتهاء العمل وتوفية الأجرة, وعلى المريض لحق الورثة, وعلى الورثة في التركة لحق الميت والغرماء, وعلى الأصل الواجب إعفافه في الأمة التي ملكها له فرعه حتى لا يعتقها, وعلى الموصى له بعين ممن ماله غائب, وعلى السيد في نفقة أمته وكسب عبده؛ اللذين زوجهما إلى إعطاء البدل, وعلى الورثة في الدار التي استحقت المعتدة بالحمل أو الإقراء السكني فيها إلى انقضاء عدتها, وعلى المرتد لحق المسلمين, وعلى السيد في بيع أم الولد, وعلى من نذر إعتاق عبد بعينه .. فلا

يخرج عنه إلا بالإعتاق ومع ذلك ليس له التصرف فيه, بخلاف ما إذا نذر الصداقة بدرهم بعينه .. فإنه يزول ملكه عنه للفقراء, وعلى السيد في الرقيق المكاتب, وعلى المحجور عليه بالفلس لحق الغرماء, وفي الرقيق الجاني لحق المجني عليه, وعلى الرقيق ولو مكاتباً لحق سيده ولله. وقد أشار الناظم إلى النوع الأول, وبعض أقسام النوع الثاني بقوله: (جميع من عليه شرعاً بحجر ... صغير أو مجنون أو مبذر) (تصريفهم لنفسهم قد أبطلا ... ومفلس قد زاد دينه على) (أمواله: بحجر قاض بطلا ... تصريفه في كل ما تمولا) (لا ذمة, والمرض المخوف ... إن مات فيه يوقف التصريف) (فيما على ثلث يزيد عنده ... على إجازة الوريث بعده) (والعبد لم يؤذن له في متجر ... يتبع بالتصريف للتحرر) [من يحجر عليه لمصلحة نفسه] أي: جميع من يحجر عليه شرعاً لمصلحة نفسه: صغير ومجنون وسفيه؛ وهو المبذر في المال؛ بأن يضيعه باحتمال غبن فاحش في المعاملة, أو في رميه في بحر, أو إنفاقه في محرم, والأصح: أن صرفه في الصدقة, ووجوه الخير, والمطاعم والملابس التي لا تليق بحاله .. ليس بتبذير. ويرتفع الحجر عن الصبي ببلوغه رشيداً, والرشد: صلاح الدين والمال؛ كما فسر بهما قوله تعالى: {فإن ءانستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} , فلا يفعل محرماً يبطل العدالة من ارتكاب كبيرة, أو من إصرار على صغيرة, ولم تغلب طاعاته معاصيه, ولو بذر بعد رشده .. أعاد القاضي الحجر عليه وهو وليه حينئذ, ولو فسق .. لم يحجر عليه في الأصح. ويرتفع حجر المجنون بالإفاقة, ومن له أدنى تمييز كالصبي المميز. والبلوغ باستكمال خمس عشرة قمرية, أو بخروج المني لإمكانه, وأقله تسع سنين, ولإنبات شعر العانة الخشن دليل على البلوغ في حق الكفار لا المسلمين, بخلاف شعر الإبط واللحية؛ لندورهما قبل خمس عشرة سنة, ويجوز النظر إلى العانة للشهادة.

وتزيد المرأة بالحيض والحبل، فيحكم ببلوغها قبل الولادة بستة أشهر وشيء، فلو أتت المطلقة بولد يلحق الزوج .. حكمتا ببلوغهما قبل الطلاق، ولو أمنى الخنثى من ذكره وحاض كم فرجه .. حكمنا ببلوغه، لا إن وجد أحدهما. ولا بد من اختبار الرشد، فيختبر ولد التاجر بالمماكسة في البيع والشراء، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوام بها، والمرأة بما يتعلق بالغزل والقطن، وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة، وحفظ متاع البيت مرات، وكل بما يليق بالغزل والقطن، وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة، وحفظ متاع البيت مرات، وكل بما يليق به حتى على الظن رشده وذلك قبل البلوغ، ويسلم إليه المال ليماكس لا ليعقد، فإن تلف في يده .. لم يضمن الولي. ثم ولي الصبي والمجنون ومن بلغ سفيهاً: أبوه، ثم أبو أبيه وإن علا، ثم وصيهما، ثم القاضي، ولا تلي الأم في الأصح، ويتصرف الولي بالمصلحة، ويبني له الدور بالطين والآجر لا باللبن والجص، ولا يبيع العقار وآنية القنية؛ كنحاس ونحوه إلا لضرورة، أو غبطة ظاهرة، وله بيع ماله بعرض ونسيئة .. زاد على ثمنه قدراً لائقاً بالأجل، وأشهد وارتهن رهناً وافياً من مشتر ثقة موسر لأجل قصير عرفاً، ويأخذ له بالشفعة، أو يترك بحسب المصلحة. ثم أشار إلى نتيجة الحجر على الثلاثة، وفائدته بقوله: (تصريفهم لنفسهم قد أبطلا) أي: تصرفهم في المال بيعاً وشراء وقرضاً، وغيرها من التصرف القولي، والفعلي قد أبطله الشارع؛ لمصلحة أنفسهم، ويؤاخذون بما يتلقونه؛ لأنه من باب خطاب الوضع من غير السفيه. وتصح وصية السفيه وتدبيره، وطلاقه وخلعه زوجته، وطلاقه وخلعه زوجته، ونفيه النسب، ولو صالح عن قصاص عليه على الدية فأكثر .. لم يمنعه الولي، وله أن يعقد الجزية بدينار بلا إذن وليه، وتمتنع منه ومن وليه الزيادة عليه على المذهب، ويصح قبوله الهبة، ولو نذر التصدق في الذمة .. انعقد، أو بعين ماله .. فلا؛ كما جزم به الشيخان هنا، ويصح نكاحه بإذن الولي؛ لأنه حر مكلف صحيح العبارة والإذن، ولا تصح تصرفاته المالية بإذنه في الأصح، ويصح إقراره بحد أو قصاص، وحكمه في العبادات كالرشيد، لكن لا يفرق الزكاة بنفسه. [الحجر على الفلس] قوله: (ومفلس) وهو زاد دينه؛ أي: المال الذي عليه لأدمي وهو حال لازم على أمواله بحجر قاضٍ عليه .. بطل تصرفه؛ أي: المالي المفوت لتعلق حق الغرماء به حينئذ،

والأصل في ذلك: ما روى الدارقطني والحاكم - وقال: صحيح الإسناد - عن كعب بن مالك: (أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ في ماله، وباعه في دين كان عليه). وحجر القاضي يكون بسؤال الغرماء أو بعضهم ودينه قدر بحجر به، أو بسؤاله المفلس، وله الحجر من غير سؤال إذا كان الدين لصبي أو مجنون أو سفيه، وإذا وجدت الشروط .. وجب على الحكام الحجر، ولا تحل الديون بالحجر، ولا بالجنون. وخرج بقوله: (قد زاد دينه على أمواله): من زاد ماله على دينه أو استويا .. فإنه لا يحجر عليه وإن لم يكن كسوباً وكانت نفقته من ماله في الأصح، ويستحب للقاضي أن يشهد على حجره؛ ليحذر الناس معاملته. قوله: (لا ذمة) أ]: يبطل تصرفه بعد الحجر في عين ماله، لا تصرفه الكائن في ذمته فإنه لا يبطل؛ إذ لا حجر عليه فيها، ولا ضرر فيه على الغرماء، فلو باع سلماً، أو اشترى في الذمة .. فالصحيح: صحته، ويثبت المبيع والثمن في ذمته، والصحيح: تعدي الحجر إلى ما حدث بعده، ولا يمنع من إقرار بعين مطلقاً، أو دين أسنده إلى ما قبل الحجر، وإن أطلق .. روجع، فإن تعذرت مراجعته .. فكالإسناد إلى ما بعد الحجر، فلا يقبل إلا إذا أسنده لإتلاف أو جناية. وإن نكل المفلس، أو وارثه عن اليمين المردودة، أو عن يمين مع الشاهد .. لم يحلف غريم المفلس، ثم القاضي يبيع مال المفلس، أو يكرهه على البيع، وكذا المديون الممتنع من أداء ما عليه، ويستحب أن يكون ذلك بحضور المفلس ومستحقي الدين، ويقدم بيع ما يخاف فساده، ثم ما تعلق بعينه دين، ثم الحيوان، ثم المنقول، ثم العقار، ويباع مسكنه وخادمه وإن احتاج إليهما، وكذا مركوبه، ويبيع كل شيء في سوقه، فلو باع في غيره بثمن المثل من نقد البلد .. صح، ويقسم الأثمان بين الغرماء بنسبة ديونهم الحالة من غير طلب بينة الحصار، وإن ظهر دين بعد القسمة .. رجع صاحبه بما يخص دينه، ولو ظهر ما باعه القاضي مستحقاً .. رجع المشتري بكل الثمن في مال المفلس. وينفق القاضي على المفلس، وعلى من عليه مؤنته من زوجة سابقة للحجر، وقريب وإن حدث بعد الحجر نفقة المعسرين إلى الفراغ من بيع ماله، ويكسوهم بالمعروف إن لم يكن له كسب يفي بذلك، ويترك له دست ثوب يليق به، ولمن تلزمه مؤنثه وسكنى، ونفقة يوم القسمة، ويؤجر القاضي الموقوف عليه، وأم ولده، ويصرف الأجرة على الغرماء.

[الحجر على المريض لحق الورثة] قوله: (والمرض المخوف) أي: بأن ظنناه مخوفاً إن مات المريض نفسه .. يوقف تصرفه فيما زاد على ثلث ماله عند الموت؛ أي: أو كان تبرعاً لوارثه على إجازة الورثة، أو بقيتهم في الثانية. وخرج بقوله: (المخوف): ما إذا ظنناه غير مخوف فمات؛ فإنه إن حمل على الفجأة كوجع الضرس .. نفذ تصرفه، وإلا كإسهال يوم أو يومين .. فمخوف، وبقوله: (إن مات فيه): ما لو برئ منه؛ فإنه ينفذ. وعلم من كلامه: أن المعتبر في قدر الثلث وقت الموت، وأنه لا عبرة بإجازة الوارث أو رده قبله، والإجازة تنفيذ لا ابتداء عطية، فلا يحسب من ثلث من يجيز في مرضه القدر الذي أجازه، ولا يتوقف على إجازة ورثته. ومن المخوف: قولنج وذات جنب، ورعاف دائم، وإسهال متواتر، أو ينخرق البطن فلا يمكنه الاستمساك، ويخرج الطعام غير مستحيل، أو يكون معه زحير؛ وهو الخروج بشدة ووجع، أو يعجله ويمنعه النوم، أو يكون معه دم من كبد، أو عضو شريف، ودق، وابتداء فالج. ويلحق بالمخوف: أسر من اعتادوا قتل الأسرى، والتحام قتال بين متكافئتين، وتقديم لقصاص أو رجم، واضطراب ريح وهيجان موج في حق راكب سفينة، وطلق حامل، وبعد الوضع ما لم تنفصل المشيمة، ووقوع الطاعون في البلد، وفشوا الوباء مخوفاً ولو في حق من لم يصيبه. وإذا اختلف والوارث والمتبرع عليه في كون المرض مخوفاً .. فالقول قول المتبرع عليه، وعلى الوارث البينة، ولا يثبت إلا بشهادة رجلين، فإن كانت العلة بامرأة على وجه لا يطلع عليه الرجال غالباً .. ثبتت بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو أربعة نسوة مع العلم بالطب. وضابط ما يحسب من الثلث في غير الوارث: كل تصرف فوت مالاً حاصلاً أو كميناً؛ كما في ثمر المساقاة، ومنافع غير بدن المريض بغير عوض المثل المساقاة، ومنافع غير بدن المريض بغير عوض المثل؛ لكونه بغبن فاحش، أو

مجاناً بلا استحقاق شرعي، أو فوت يداً؛ كما في البيع بمؤجل ولو بأكثر من قيمته، أو اختصاصاً؛ كما في السرجين ونحوه. وإذا اجتمع تبرعات معلقة بالموت وعجز عنها الثلث: فإن تمحض العتق .. أقرع، أو غيره .. قسط عليه الثلث، أو اجتمع هو وغيره .. قسط عليهما بالقيمة، أو منجزة .. قدم الأول فالأول حتى يتم الثلث، فإن بقي شيء .. وقف على إجازة الوارث، وإذا وجدت تلك التبرعات دفعة واتحد الجنس؛ كعتق عبيد أو إبراء جمع .. أقرع في العتق، وقسط في غيره. [العبد المأذون له في التجارة وغير المأذون] قوله: (والعبد لم يؤذن له في متجر ينبع بالتصريف للتحرر) أي: العبد إن لم يأذن له سيده في التجارة .. لم يصح تصرفه يبيع ولا شراء، ولا قرض ولا ضمان، ولا غيرها؛ للحجر عليه لحق سيده، فيتبع بما تلف تحت يده، أو أتلفه بعد عتقه؛ لأنه لزمه برضا مستحقه. نعم؛ يصح بدون إذن سيده خلعه، وقبول الوصية له، والهبة له، إلا إن كان الموصى به أو الموهوب أصل سيده أو فرعه، وكانت نفقته واجبه على سيده في الحال. أما إذا أذن للرقيق سيده في التجارة .. فله التجارة بيعاً وشراء ولازمها؛ كالرد بالعيب، والمخاصمة بالعهدة، ولو أبق .. ولم ينعزل، فله التجارة ولو في موضع الإباق، إلا أن يخص سيده الإذن بغيره، ولا يصير بسكوت السيد له على البيع والشراء مأذوناً له في ذلك. وإذن أذن له في التجارة في نوع من المال .. لا يصير مأذوناً له في غيره، أو قيد الإذن بوقت كسنة .. لم يكن مأذوناً له بعد انقضائه، ولا يستفيد بالإذن في التجارة التصرف في رقبته يبيع ولا غيره، ولا في منفعتها بإجازة ولا جعالة، ولا فيما اكتسبه بنحو احتطاب واصطياد، وقبول هبة ونحوها، ولا يكفي فيه قول الرقيق. أما لو قال: (حجر على سيدي) .. لم تجز معاملته، ولو نفى ذلك السيد وقال: (لم أحجر عليه) لأنه هو العاقد وهو يقول: إن عقده باطل، ويحصل الحجر على الرقيق المأذون بإعتاقه أو بيعه. ولو عرف أن الرقيق مأذون له وعامله .. فله أن يمتنع من تسليم المبيع له حتى يشهد بالإذن له

عدلان؛ كما أن له الامتناع من الدفع إلى الوكيل ولو صدقه على الوكالة حتى يثبت ذلك بالبينة. ثم لو أعتق المأذون .. كان لصاحب الدين مطالبته بدين التجارة؛ كما يطالب بذلك عامل القراض والوكيل ولو بعد عزلهما مع رب المال، فلصاحب الدين مطالبته في الصور الثلاث. ولو أدى العامل أو الوكيل .. رجع علة المالك بما أدى، بخلاف العبد لا يرجع على السيد بما أداه بعد عتقه. ويؤدي المأذون ديون التجارة من كسبه الحاصل قبل أن يحجز السيد عليه؛ كالاحتطاب والاصطياد، ومن مال التجارة أصلاً وربحاً، لا من كسبه بعد الحجر عليه، ولا تتعلق برقبته ولا ذمة سيده. وقول الناظم: (أو مجنون أو مبذر) بدرج الهمزة فيما للوزن، والألف في قوله: (أبطلا) و (بطلا) و (تمولا) للإطلاق، وقوله: (الوريث) بفتح الواو وكسر الراء بوزن فعيل؛ بمعنى: الوارث، وقوله: (للتحرر) أي: العتق، واللام فيه بمعنى (في) أو (عند) أو (بعد). * * *

باب الصلح وما ذكر معه

باب الصلح وما ذكر معه وهو لغة، قطع النزاع، وشرعاً: عقد يحصل به ذلك، وهو أنواع: صلح بين المسلمين والكفار، وبين الإمام والبغاة، وبين الزوجين عند الشقاق، وصلح في المعاملة وهو مقصود الباب، والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {والصلح خير} [النساء: 128]، وخبر: "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً" رواه ابن حبان وصححه، والكفار كالمسلمين، وإنما خصهم بالذكر؛ لانقيادهم إلى الأحكام غالباً، فالصلح الذي يحل الحرام؛ كأن يصالح عن خمر أو نحوه، والذي يحرم الحلال؛ كأن يصالح على ألا يتصرف في المصالح به، ولفظه يتعدى للمتروك بمن وعن، وللمأخوذ بالباء وعلى. (الصلح جائز مع الإقرار ... إن سبقت لخصومة الإنكار) (وهو ببعض المدعى فى العين ... هبة أو براءة في الدين) (وفى سواه: بيع أو إجازه ... والدار للمكنى هو الإعارة) (بالشرط أبطل، وأجز في الشرع ... على مروره ووضع الجذع) (وجاز إشراع جناح معتلي ... لمسلم في نافذ من سبل) (لم يؤذ من مر، وقدم بابكا ... وجاز تأخير بإذن الشركا) [الصلح عن المدعى به على غيره] أي: والصلح عما يدعى به عيناً أو ديناً على غير المدعى به، أو على بعضه جائز مع الإقرار به من المدعى عليه إن سبقت خصومة الإنكار، وفي بعض النسخ بدل هذا: (بعد خصومة بلا إنكار)، وخرج بما ذكره: ما إذا جرى الصلح من غير سبق خصومة؛ كأن قال له من غير سبقها: (صالحني عن دارك على كذا) فإنه لا يصح؛ لأن لفظ الصلح يستدعي سبق الخصومة، لكنه كناية في البيع، فإن نوياه به .. صح. وخرج بقوله: (مع الإقرار): الصلح مع إنكار المدعى عليه، وكذا مع سكوته؛ كما نقله في "المطلب" عن سليم الرازي وغيره؛ فإنه لا يصح سواء أصالح على نفس المدعى به، أو

على بعضه عيناً كان أو ديناً، أو على غيره؛ إذ لا يمكن تصحيح التمليك مع الإنكار؛ لاستلزامه أن يملك المدعي ما لا يملكه، ويتملك المدعى عليه ما يمكله، وسواء أصالح عن المدعى به أم عن الدعوى. فلو قال المنكر: (صالحني عن دعواك على كذا) .. لم يصح، بل الصلح عن الدعوى لا يصح مع الإقرار أيضاً؛ لأن الدعوى لا يعتاض عنها ولا يبرأ منها. ولو أقام المدعي بينة بعد الإنكار .. صح الصلح؛ لثبوت الحق بها كثبوته بالإقرار، قاله الماوردي، ووافقه الغزالي بعد القضاء بالملك، واستشكله قبله؛ بأن له سبيلاً إلى الطعن، قال الماوردي: ولو أنكر فصولح ثم أقر .. فالصلح باطل. ولو ادعى عليه عيناً فقال: رددتها إليك ثم صالحه، قال البغوي: إن كانت في يده أمانة .. لم يصح الصلح؛ لأن القول قوله فيكون صلحاً على إنكار، وإن كانت مضمونة .. فقوله في الرد غير مقبول، وقد أقر بالضمان، فيصح الصلح، ويحتمل بطلانه؛ فإنه لم يقر أن عليه شيئاً. نعم؛ إذا قال أجنبي: (إن المدعى ليه أقر عندي سراً ووكلني في مصالحتك) فصالحه .. صح؛ لأن قول الإنسان في دعوى الوكالة مقبول في المعاملات. ومحله كما قال الإمام والغزالي: إذا لم يعد المدعى عليه الإنكار بعد دعوى الوكالة، فلو أعاده .. كان عزلاً، فلا يصح الصلح عنه، ولو قال: (هو منكر، ولكنه مبطل في إنكاره؛ فصالحني له لتقطع الخصونى بينكما) فصالحه .. صح إن كان المدعى به ديناً لا عيناً، وإن قال: (فصالحني لنفسي): فإن كان المدعى به ديناً .. لم يصح، وإن كان عيناً .. فهو شراء مغصوب؛ إن قدر على انتزاعه .. صح، وإلا .. فلا. [الصلح عن المدعى به ببعضه في العين أو الدين] قوله: (وهو) أي: الصلح عما يدعى به ببعض المدعى به في العين؛ كأن صالح من دار على بعضها .. هبة للبعض الآخر؛ لصدق الهبة عليه، قيثبت فيها ما يثبت من الإيجاب والقبول والرفض بالإذن، أو مضي زمن إمكانه، ويصح بلفظ الهبة أيضاً.

وببعض المدعى به في الدين؛ كأن صالح من ألف في الذمة على بعضها .. إبراء من المدعي للمدعى عليه عن البعض الآخر؛ لصدق الإبراء عليه، فيثبت فيه ما يثبت في الإبراء، ويصح بلفظ الإبراء والحط والإسقاط ونحوها؛ كـ (أبرأتك من خمس مئة من الألف الذي لي عليك)، أو (حططتها عنك)، أو (أسقطتها عنك)، و (صالحتك على الباقي)، ولا يشترط في ذلك القبول على الأصح. وإن اقتصر على لفظ الصلح؛ كقوله: (صالحتك عن العشرة التي لي عليك على خمسة) .. اشترط القبول؛ لأن لفظ الصلح يقتضيه، وهذان القسمان يسميان صلح الحطيطة. والصلح على عين غير المدعى به؛ كأن صالح عن دار، أو دين على ثوبه، أو عشرة في الذمة .. بيع من المدعي عليه للشيء المدعى به بلفظ الصلح، تثبت فيه أحكامه؛ كالخيار والشفعة، والرج بالعيب، ومنع تصرفه في المصالح عليه قبل قبضه، واشتراط التقابض في المصالح عنه والمصالح عليه إن اتفقا في علة الربا. أو على منفعة؛ كأن صالح من دار، أو ثوب على خدمة عبده شهراً .. إجازة لمحل المنفعة بالعين المدعاة تثبت فيها أحكامها. وقول الناظم: (وفي سواه) أي: المدعى به، لفظة (في) فيه بمعنى الباء أو على. قوله: (والدار للسكنى هو الإعاره) يعني: إذا صالح على منفعة المدعى به، أو منفعة بعضه كسكنى الدار المدعاة .. فهو إعارة للمدعى به يرجع فيها متى شاء، فإن عين مدة .. كانت إعارة مؤقتة، وإلا .. فمطلقة. وقد يكون الضلح سلماً؛ بأن يجعل المدعى به رأس مال سلم، وجعالة؛ كقوله: (صالحتك من كذا على رد عبدي)، وخلعاً؛ كـ (صالحتك من كذا على أن تطلقني طلقة)، ومعاوضة عن دم؛ كـ (صالحتك من كدا على ما استحقه عليك من القصاص)، وفداء؛ كقوله للحربي: (صالحتك من كذا على إطلاق هذا الأسير)، وفسخاً؛ كأن صالح من المسلم فيه على رأس المال، وقربة في أرض وقفت مسجداً فادعاها شخص، وأنكر الواقف فصالحه آخر. قوله: (بالشرط أبطل) أي: أنت؛ كـ (صالحتك بكذا على أن تبيعني)، أو (تؤجرني المكات الفلاني بكذا)، أو (على إبرائك من كذا إن أعطيتن الباقي) لأنه إما هبة أو إبراء، أو بيع أو إجارة، وكل منها لا يصح مع هذا الشرط ونحوه، فكذلك ما كان بمعناها.

ولو صالح من عشرة مؤجلة على خمسة حالة .. لم يصح؛ لأن صفة الحلول لا يصح إلحاقها، والخمسة إنما تركها في مقابلة ذلك، فإذا انتفى الحلول .. انتفى الترك. [الصلح على حق المرور ووضع الجذع] قوله: (وأجز في الشرع على ووضع الجذع) أي: وأجز أنت الصلح بمال على مروره في درب مثلاً منع أهله استطراق من ليس له فيه حق؛ لأنه انتفاع بالأرض، ثم إن قدر مدة .. فهو إجارة، وإن طلق أو شرط التأييد .. فهو بيع لجزء شائع من الدرب؛ تنزيلاً للمصالح منزلة أحدهم؛ كما لو صالح على إجراء نهر في أوضه .. ويكون ذلك تمليكاً للنهر. ويجوز الصلح بمال على وضع الجذع - بإعجام الذال - على جدار بين دارين يختص به أحد المالكين، أو يكون مشتركاً ولا يجبر عليه؛ لما روى البيهقي من قوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس"، فلو رضي بالوضع بلا عوض .. فهو إعارة يرجع فيها قبل الوضع وبعده كسائر العواري، أو بعوض على مدة معلومة .. فهو إجازة، وإن أذن فيه لفظ البيع أو الصلح وبين والثمن .. فالأصح: أن هذا العقد فيه شوب بيع وإجازة؛ لكونه على منفعة، لكنها مؤبدة للضرورة. [حكم إشراع الجناح] ويجوز إشراع جناح؛ أي: خشب خارج، وكذا ساباط: وهو سقيفة على حائطين هو بينهما، عال؛ بحيث يمر المار تحته منتصباً وعلى رأسه الحمولة العالية، سواء أكان الشارع واسعاً أضيقاً، وإن كان ممر الفرسان والقوافل .. اعتبر أيضاً أن يمر تحته المحمل على البعير مع أخشاب المظلة؛ لأن ذلك وإن ندر قد يتفق لمسلم، فلا يجوز الإشراع للكافر في نافذ - فإعجام الذال - من سبل؛ أي: طرق، أما غير النافذ .. فلا يجوز ذلك فيه إلا بإذن أهله لم يؤذ من مر، فإن آذاه ولو بإظلام الموضع .. لم يجز، وللحاكم إزالته، ولا يجوز الصلح على ذلك بمال وإن كان المصالح هو الإمام، ولم يضر المارة؛ لأن الهواء لا يفرد بالعقد وإنما يتبع القرار، وما لا يضر في الشارع .. يستحق الإنسان فعله فيه من غير عوض كالمرور. واحترظ بـ (الجناح) أي: وما في معتاه من التصرف عن غيره؛ كبناء دكة أو غرس شجرة، فإن ذلك لا يجوز وإن لم يضر؛ لأن شغل المكان بما ذكر مانع من الطروق، وقد تزدحم المارة فيصطكون به.

قوله: (وقد بابكا) أي: جوازاً في درب غير نافذ إلى رأس الدرب؛ لأنه تصرف في ملكك مع تركك لبعض حقك، لكن يلزمك سد الأول. وجاز لك تأخير لبابك عن رأس الدرب بإذن شركائك في الدرب، وأهل الدرب غير النافذ: من نفذ باب داره إليه، لا من لا صقه جداره، وهل الاستحقاق في كله كلهم، أم تختص شركة كل واحد بما بين رأس الدرب وباب داره؟ وجهان، أصحهما: الثاني. وقول الناظم: (أو براءة) (أو إجازة) بدرج الهمزة فيهما للوزن)، والألف في قوله: (بابكا) للإطلاق. * * *

باب الحوالة

باب الحوالة وهي بفتح الحاء أفصح من كسرها من التحول والانتقال، وفي الشرع: عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة، والأصل فيها قبل الإجماع: خبر "الصحيحين": "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملئ .. فليتبع" بإسكان التاء في الموضعين؛ أي: وإذا أحيل أحدكم على مليء .. فليحتل؛ كما رواه البيهقي، والأمر بها فيه للندب، وصرفه عن الوجوب القياس على سائر المعاوضات. ولها ستة أركان: محيل، ومحتال، ومحال عليه، ودين للمحتال على المحيل، ودين للمحيل على المحال عليه، وصيغة. وهي بيع دين بدين جوز للحاجة، ولهذا لم يعتبر التقابض في المجلس وإن كان الدينان ربويين، وقيل: بيع عين بعين، وقيل: بدين. شرط: رضا المحيل والمحتال ... لزوم دبنين، اتفاق المال جنساً وقذراً أأجلاً وكثراً ... بها عن الدين المحيل يبرا [شروط صحة الحوالة] أي: شرط لصحة الحوالة رضا المحيل والمحتال؛ لأن للمحيل إبقاء الحق من حيث شاء فلا يلزم بجهة، وحق المحتال في ذمة المحيل فلا ينتقل إلا برضاه، ومعرفة رضاهما بالإيجاب والقبول؛ كما في البيع ونحوه، وعبروا هنا بالرضا؛ تنبيهاً على أنه لا يجب على المحتال الرضا بالحوالة؛ كسائر المعاوضات، وتوطئة لقولهم: لا يشترط رضا المحال عليه؛ أي: لأنه محل الحق والتصرف؛ كالعبد المبيع، ولأن الحق للمحيل؛ فله أن يستوفيه بغيره؛ كما لو وكل غيره بالاستيفاء. وصيغتها: نحو: (أحلتك على فلان بالدين الذي لك علي)، أو (نقلت حقك إلى

فلان)، أو (جعلت ما أستحقه على فلان لك)، أو (ملكتك الدين الذي لي عليه بحقك). ويشترط: لزوم الدينين المحال به والمحال عليه، وتصح بالثمن في مدة الخيار وعليه؛ لأن أصله اللزوم، ولا تصح بالجعل قبل الفراغ ولا عليه، وتصح بنجوم الكتابة، ولا تصح عليها، والأصح: صحتها بدين المعاملة للسيد على مكاتبه، وفهم من هذا الشرط: أنها لا تصح على من لا دين عليه وهو الأصح، وقيل: تصح برضاه. وقد علم مما مر أنها بيع دين بدين: أنها لا تصح بدين السلم ولا عليه؛ لعدم جواز بيعه، وأنها تصح بالثمن قبل قبض المبيع، والأجرة قبل مضي المدة، والصداق قبل الدخول والموت ونحوها وعليها. ويشترط: اتفاق الدينين جنساً؛ كفضة وفضة، وقدراً؛ كمئة ومئة، وأجلاً وحلولاً، وصحة وكسراً، وهو اتفاقهما في الصفة؛ لأنها ليست على حقيقة المعاوضات، وإنما هي معاوضة إرفاق أجيزت للحاجة فاعتبر فيها التساوي؛ كما في القرض. وقد يفهم من اعتبار التساوي في الصفة: أنه لو كان بأحدها رهن أو ضامن .. اعتبر كون الآخر كذلك، وليس كذلك؛ بل لو أحاله على دين به رهن أو ضامن .. انفك الرهن وبريء الضامن؛ لأن الحوالة كالقبض؛ بدليل سقوط حبس المبيع، والزوجة فيما إذا أحال المشتري بالثمن والزوج بالصداق. ويشترط أيضاً: علمهما بتساوي الدينين في الجنس والقدر والصفة، فلو جهلاء أو أحدهما .. لم تصح الحوالة وإن تساوى الدينان في في نفس الأمر؛ لأنها معاوصة فلا بد من علمهما بحال العوصين، وإنما اشترط استواء القدر في غير الربوي؛ لما مر أن الحوالة عقد إرفاق ... إلى آخره، فلا تصح بإبل الدية ولا عليها. [ما يترتب على صحة الحوالة] ويبدأ بالحوالة المحيل عن دين المختال، وبلزم من ذلك براءة ذمة المحال عليه من دين المخيل، فلا رجوع للمحتال على المحيل وإن كان المحال عليه مفلساً عند الحوالة وجهل إفلاسه أو أفلس، أو أنكر الحوالة، أو دن المحيل؛ كما لا رجوع له فيها لو اشترى شيئاً وعين فيه، أو أخذ عوضاً عن دينه وتلف عنه، ولأنه أوجب في الخبر اتباع المحال عليه مطلقاً، ولأنه لو كان له الرجوع .. لما كان لذكر الملاءة في الخبر فائدة؛ لأنه إن لم يصل إلى حقه .. رجع به، فعلم بذكرها أن الحق انتقل انتقالاً لا رجوع به فيها، وأن فائدة ذكرها حراسة الحق،

وإلا .. فهي صحيحة على غير المليء بالإجماع، فلو شرط الرجوع بشيء من ذلك .. فهل تصح الحوالة والشرط، أو الحوالة فقط، أو لا تصحان؟ فيه ثلاثة أوجه بلا ترجيح في "الروضة" و"أصلها"، ورجح الذرعي الثالث، زجزم به ابن المقري. وتبطل الحوالة بفسخ البيع في زمن الخيار، أو بالإقالة، أو بالتحالف، أو بالعيب إن أحال المشتري البائع، بخلاف ما إذا أحال البائع على المشتري لا تبطل الحوالة برد المبيع بشيء مما ذكر؛ لتعلق الحق هنا بثالث، فيبعد ارتفاعها بفسخ يتعلق بالعاقدين. ثم إذا أخذ المحتال حقه من المشتري .. رجع به المشتري على البائع، ولا يرجع به قبل الأخذ منه وإن كانت الحوالة كالقبض؛ لأن الغرم إنما يكون بعض القبض حقيقة لا حكماً. ولو باع رقيقاً وأحال بثمنه، ثم اتفق المتبايعان والمحتال على حريته، أو ثبتت ببينة .. بطلت الحوالة، وإن كذبهما المحتال ولا بينة .. حلفاه على نفي العلم بحريته، ثم يأخذ المال من المشتري ويرجع المشتري على البائع. * * *

باب الضمان

باب الضمان هو لغة: الالتزام، وشرعاً: يقال لالتزام حق ثابت في ذمة الغير، أو إحضار من هو عليه، أو عين مضمونة، ويقال للعقد الذي يحصل به ذلك. ويسمى الملتزم لذلك ضامناً وضميناً وحميلاً وزعيماً وكفيلاً وصبيراً وقبيلاً. والأصل في قبل الإجماع: قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف: 72] وكان حمل البعير معروفاً عندهم، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وقد ورد فيه ذلك؛ كخبر "الزعيم غارم" رواه أبو داوود والترمذي وحسنه وصحيحه ابن حبان، وخبر الحاكم بإسناد صحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم تحمل عن رجل عشرة دنانير)، وخير "الصحيحين" (أنه صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة فقال: "هل ترك شيئاً؟ "، قالوا: لا، قال: "هل عليه دين؟ "، قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صلوا على صاحبكم"، فقال أبو قتادة: صلى عليه يا رسول الله وعلى دينه، فصلى عليه). وللضمان خمسة أركان: ضامن، ومضمون له، ومضمون عنه، ومضمون به، وصيغة. (يضمن ذو تبرع، وإنما ... يضمن ديناً ثابتاً قد لزما) (يعلم كالإبراء، والمضمون له ... طالب ضامناً ومن تأصله) (ويرجع الضامن بالإذن بما ... أدى إذا أشهد حين سلما) (وألدرك المضمون للرداءة ... يشمل، والعيب نقص الصنجة) (يصح درك بعد قبض للثمن ... وبالرضا صحت كفالة البدن)

(في كل من حضوره استحقا ... وكل جزء دونه لا يبقى) (وموضع المكفول إن يعلم مهل ... قد ذهاب وإياب أكتمل) (وإن يمت أو اختفى لا يغرم ... وبطلت بشرط مال يلزم) فيها عشر مسائل: [شروط الضمان] الأولى شرطه الضامن: أن يكون أهلاً للتبرع؛ أي: ومختاراً، فلا يصح من المكره ولو رقيقاً بإكراه سيده، ولا من غير المكلف إلا السكران، ولا من المحجور عليه بسفه ولو بإذن وليه، ولا من الرقيق ولو مكاتباً ومستولدة، ومبعضاً في غير نوبته بغير إذن سيده؛ لأنه إثبات مال في الذمة بعقد فأشبه النكاح، وفارق صحة خلع الأمة بغير إذنه؛ بأنه لا حاجة إلى الضمان، والأمة قد تحتاج إلى الخلع؛ لسوء العشرة. فإن ضمن الرقيق بإذن سيده .. صح ولو عن السيد لا له؛ لأنه يؤديه من كسبه وهو لسيده. ويؤخذ من التعلليل: صحة ضمان المكاتب لسيده وهو الظاهر، ويحتمل خلافه؛ لاحتمال أن يعجز نفسه. ولو ضمن المأذون له في التجارة وعليه ديون .. فأوجه، ثالثها: يتعلق بما فضل عنها، وصححه في "زوائد الروضة". قال الشيخان: ولو حجر عليه باستدعاء الغرماء .. لم يتعلق بما في يده قطعا، ويصح ضمان المحجور عليه بفلس، ويطالب بما ضمنه بعد فك حجره. ولا يصح ضمان من عليه دين مستغرق في مرض الموت، فلو ضمن في مرضه، ثم أقر بدين مستغرق .. قدم الدين ولا يؤثر تأخير الإقرار به. وشمل كلامه: صحة الضمات عن الخي ولو رقيقاً أو معسراً، وعن الميت وعن الضامن، وظاهر كلامه: أن الضمان تبرع مطلقاً، وبه صرح الإمام والغزالي.

قال الرافعي: وإنما يظهر كون الضمان تبرعاً حيث لا جوع، وإلا .. فهو إقراض لا محض تبرع؛ بدليل النص على أنه إذا ضمن في مرض موته بإذن المديون .. حسب رأس المال؛ لأن للورثة الرجوع على الأصيل، وإن ضمن بغير إذنه .. فمن الثلث، واعترضه في "الروضة" بأن قوله: (إنه ليس تبرعاً) فاسد، فإنه لو سلم أنه كالقرض .. كان القرض تبرعاً، ومحل حسبان ضمان المريض بالإذن من رأس المال إذا وجد موجعاً؛ كما نبه عليه الشيخان آخر الباب. [شروط المضمون به] الثانية: يشترط به أمور: أحدها: كونه ديناً ثابتاً في الذمة، سواء أكان مالاً أم عملاً، فلا ضمان ما ليس بثابت وإن جرى سبب وجوبه؛ كنفقة الزوجة عن الغد، ونفقة القريب، وإبل الدبة على العاقلة قبل تمام السنة؛ لأنه توثقة يتقدم ثبوت الحق كالشهادة، ويكفي ثبوته باعتراف الضامن وإن لم يثبت على المضمون عنه؛ فقد قال الشيخان: لو قال شخص: (لزيد على عمرو ألف وأنا ضامنه)، فأنكر عمرو .. فلزيد مطالبة الضامن في الأصح، قالا: ويصح ضمان الزكاة عمن هي هي عليه على الصحيح، وقيل: لا؛ إنها حق الله تعالى؛ ككفالة بدن الشاهد لأداء الشهادة، فعلى الصحيح: يعتبر الإذن عند الأداء على الأصح؛ لأي: لافتقار: الزكاة إلى النية. قال في "المهمات": وصورته: في الضامن عن الحي، أما الميت .. فيجوز أداء الزكوات والكفارات عنه على الأصح المنصوص وإن انتفى الإذن؛ كما ذكره في "الروضة" كـ"أصلها" في الوصية، ولا فرق فيما ذكره هناك بين أن يسبقه ضمان أم لا، قال: ثم إن كانت الزكاة في الذمة .. فواضح، أو في العين .. فيظهر صحتها أيضاً؛ كما أطلقوه كالعين المغصوبة. انتهى. ثانيها: كونه لازماً؛ أي: أو أصله اللزوم، فيصح ضمان الثمن في زمن الخيار في

الأصح، لا جعل قبل فراغ العمل، ولا نجوم الكتابة؛ إذ للمكاتب إسقاطها، ولا فرق في اللازم بين المستقر؛ كثمن المبيع بعد قبضه، وغير المستقر؛ كثمنه قبل قبضه. ثالثهما: كونه معلماً للضامن جنساً وقدراً وصفة، فلا يصح ضمان المجهول ولا غير المعين؛ كأحد الدينين. ويصح ضمان إبل الدية في الأصح؛ لأنها معلومة السن والعدد، ويرجع في صفتها إلى غالب إبل البلد. ولو ضمن واحد إلى عشرة .. لزمه تسعة في الأصح، ويصح ضمان الحال مؤجلاً وعكسه، ويثبت الأجل دون الحلول. ويشترط فيه أيضاً: كونه قابلاً لأن يتبرع به الإنسان على غيره، فلا يصح ضمان القود، وحد القذف، والأخذ بالشفعة، ومعرفة الضامن المضمون له؛ لتفاوت الناس في الإيغاء والاستيفاء تشتديداً وتسهيلاً، وتكفي معرفة عينه وإن لم يعرف نسبه، وأفتى ابن الصلاح وابن الرفعة وغيرهما بأن معرفة وكيل المضمون له كمعرفته، وابن السلام وغيره بخلافه، ولا يشترط رضا المضمون له؛ لأن الضمان محض التزام، ولا رضا المضمون عنه، ولا معرفته؛ لجواز أداء دين الغير بغير إذنه ومعرفته، فالتزامه في الذمة أجوز. [شروط الإبراء] الثالثة: يشترط في الإبراء: كون المبرأ منه معلوماً في غير إبل الدية، فلا يصح من المجهول؛ يناء على أنه تمليك للمدين ما في ذمته لا إسقاط؛ كالإعتاق، فيشترط علمهما به، وقضية كلام الشيخين: ترجيحه، والذي صححه في "الشرح الصغير" و"الروضة" في (الوكالة) ونص عليه الشافعي رضي الله عنه: أنه لا يشترط علم المدين وهو المعتمد؛ كما لا يشترط قبوله على الأصح؛ لأن الإبراء وإن كان تمليكاً المقصود منه الإسقاط على أنه في (الرجعة) من "الروضة" قال: المختار: أن كون الإبراء تمليكاً، أو إسقاطاً من المسائل التي لا يطلق فيها ترجيح، بل يختلف الراجح بحسب المسائل لقوة الدليل وضعفه.

نعم؛ إن كان الإبراء في مقابلة طلاق .. اعتبر علم الزوج أيضاً؛ لأنه يؤول إلى معاوضة. ويصح الإبراء من إبل الدية مع الجهل بصفتها؛ لأنه اغتفر في إثباتها في الذمة، فيغتفر الإبراء منها تبعاً له. وإذا أراد أن يبرئ من مجهول .. فالطريق أن يذكر عدداً يعلم أنه لا يزيد الدين عليه، فلو كان بعلم أنه لا يزيد على مئة مثلاُ .. فيقول: (أبرأتك من مئة)، ولو قال: (أبرأتك من درهم إلى مئة) .. لم يبرأ من الواحد، ويحتاج إلى إبرائه من درهم ثانياً. ولو قال: (أبرأتك عن الدعوى) .. لم يبرأ، وله العود إلى الدعوى. [مطالبة المضمون له الضامن والأصيل] الرابعة: للمضمون له مطالبة الضامن والأصيل بالدين، وله مطالبة الضامن مع حضور الأصيل ويساره؛ لخبر: "الزعيم غارم"، وإذا طالب المستحق الضامن .. فله مطالبة الأصيل بتخليصه بالأداء إن ضمن بإذنه، وإلا .. فلا، والأصح: أنه لا يطالبه قبل أن يطالب؛ لأنه لم يغرم شيئاً، ولا طولب بشيء. ونقل في "الشامل": أن له أن يقول للمستحق: (إما أن تطالبني وإما أن تبرئني)، وهو أحد وجهين في "التتمة". قال في "المطلب": ولو كان الأصيل محجوراً عليه لصباً .. فللضامن بإذن وليه إن طولب طلب الولي بتخليصه ما لم يزل الحجر، فإن زال .. توجه الطلب على المحجور عليه، ويقاس بالصبي: المجنون، والمحجو عليه بسفه، سواء أكان الضمان بإذنهما قبل الجنون والحجر، أم بإذن وليهما بعد. وليس للضامن حبس الأصيل وإن حبس، قال في "المطلب": ولا ملازمته؛ إذ لا يثبت له حق على الأصيل بمجرد الضمان، واستشكل ذلك بأنه لا فائدة للمطالبة حينئذ؛ لأنه لا يبالي بها، وأجيب بأن فائدتها لا تنحصر في ذلك، بل من فوائدها: إحضاره مجلس الحكم، وتفسيقه إذا امتنع؛ بدليل أن للولد مطالبة والده بدينه، وليس له حبسه. وفهم من التخيير في المطالبة بينهما: أنه لا يصح الضمان بشرط براءة الأصيل، وهو الأصح؛ لمخالفته مقتضى الضمان، ولو أبرأ المستحق الأصيل .. برئ الضامن ولا عكس، ولو مات أحدهما .. حل عليه دون الآخر، وإذا مات الأصيل خلف تركة .. فللضامن بالإذن

مطالبة صاحب الحق بأن يبرئه ولو بإبراء الأصيل، أو يأخذ حقه من تركته؛ لأنها قد تتلف فلا يجد مرجعاً إذا غرم. [رجوع الضامن على الأصيل] الخامسة: يرجع الضامن على الأصيل بما أداه إن أذن له في الضمان والأداء، أو في الضمان فقط، أو في الأداء بشرط الرجوع عليه، وإلا .. فلا يرجع. نعم؛ إن ثبت الضمان بالبينة وهو منكر؛ كأن ادعى على زيد وغائب ألفاً، وأن كلا منهما ضمن ما على الآخر بإذنه فأنكر زيد، فأقام المدعي بينة وغرمه .. لم يرجع زيد على الغائب بالنصف إذا كان مكذباً للبينة؛ لأنه مظلوم بزعمه فلا يرجع على غير ظالمه. ولو أدى الضامن من سهم الغارمين .. فلا رجوع له في الأصح، ومن أدى دين غيره بلا ضمان ولا إذن .. فلا رجوع له، وإن أذن له في الأداء والرجوع، أو في الأداء فقط .. رجع، وفرق بين هذا ونظيره من مسألة الغسال ونحوها؛ بأن المسامحة في المنافع أكثر من الأعيان، وحيث ثبت الرجوع .. فحكمه حكم القرض، حتى يرجع في المقتوم بمثله صورة. ولو أدى مكسراً عن صحاح .. لم يرجع إلا بما غرم، ولو صالح .. رجع بالأقل من قيمة ما أداه يوم الأداء ومن الدين. ولو باعه ثوباً قيمته خمسة بعشرة قدر الدين وتقاصا .. رجع بالعشرة؛ لثبوتها في ذمته، وكذا لو قال: (بعتكه بما ضمنته) على المختار في "الروضة"، ثم إنما يرجع الضامن والمؤدي إذا أشهد كل منهما على الأداء رجلين، أو رجلاً وامرأتين، أو رجلاً ليحلف معه؛ إذ الشاهد مع اليمين حجة كافية، ولا يضر احتمال الرفع إلى حنفي؛ كما لا تضر غيبته ولا موته، ويعتبر في شاهدي الأداء العدالة. نعم؛ لو أشهد مستورين فبان فسقهما .. كفى في الأصح، ولا يكفي إشهاد من يعلم سفره قريباً. ولو قال: (أشهدت وماتوا أو غابوا) .. رجع إن صدقه في الأصح، أو (أشهدت فلاناً وفلاناً) فكذباه .. فكما لو لم يشهد. ولو قالا: (لا ندري وربما نسينا) .. ففيه تردد للإمام نقله الشيخان وسكتا عليه، وفي

"المهمات": أن الإمام بعد حكايته له: رجع عدم الرجوع. ولو أذن المدين للمؤدي في تركه، فتركه وصدقه على الأداء، أو أدى بحضرته، أو صدقه المتسحق في الأداء .. رجع. [ضمان الدرك] السادسة: يصح ضمان الدرك، ويسمى: ضمان العهدة وإن لم يكن بحق ثابت؛ للحاجة إليه، وهو أن يضمن للمشتري الثمن بتقدير خروج المبيع مستحقاً، أو متصفاً بشيء مما سيأتي بعض قبض الثمن، فإن لم يقبض .. لم يصح ضمانه؛ لأنه إنما يضمن ما دخل في ضمان المضمون عنه، ولزمه رده بالتقدير السابق. ولو عير الناظم بـ (العوض) بدل (الثمن) .. لتناول كلامه ضمان الدرك للبائع؛ بأن يضمن له المبيع إن خرج الثمن المعين مستحقاً، إلا أنه تبع الجمهور في فرض ذلك في المشتري، وفي صحة ضمان الدرك للمكتري وجهان في "الروضة" و"أصلها" في آخر (الإجازة)، صحح السبكي منهما الصحة. قوله: (والدرك المضمون للرداءة) أي: رداءة الثمن أو المبيع يشمل؛ أي: يشملها ويشمل العيب؛ أي: في الثمن أو المبيع، ويشمل نقص الصنجة التي وزن بها الثمن أو المبيع؛ بأن يقول: ضمنت لك درك، أو عهدة الثمن، أو المبيع من غير ذكر استحقاق، أو فشاد أو رداءة أو عيب، أو نقص صنجة، وهذا وجه مرجوح جرى عليه الناظم؛ كصاحب "الحاوي الصغير". والأصح في "الشرح الصغير" و"الروضة": عدم شموله للفساد والرداءة، والعيب ونقص الصنجة؛ لأن المتبادر منه الرجوع بسبب الاستحقاق. قال في "الروضة" كـ"أصلها": ولو قال: (ضمنت لك خلاص المبيع) .. لم يصح؛ لأنه لا يستقل بتخليصه إذا اسنحق، بخلاف: (ضمنت لك خلاصك منه) فإنه كضمان الدرك.

ولو اختلف البائع والمشتري في نقص صنجة الثمن .. صدق البائع بيمينه، فإذا حلف .. طالب المشتري بالنقص، ولا يطالب الضامن؛ لأن الأصل براءة ذمته إلا إذا اعترف أو قامت بينة، ولو اختلف البائع والضامن .. صدق الضامن؛ لأن الأصل براءة ذمته، بخلاف المشتري فإن ذمته كانت مشغولة؛ ذكر ذلك في "الروضة" و"أصلها"، ويشترط في ضمان الدرك علم الضامن بقدر الثمن. [كفالة البدن] السابعة: بالرضا من المكفول، أو من وليه إن كان غير مكلف، أو وارثه إن كان ميتاً .. صحت كفالة البدن؛ للحاجة إليها في كل من حضوره إلى الحاكم (استحقا) عند الاستعداء؛ لحق آدمي لازم ولو عقوبة، أو لحق مالي لله تعالى؛ كالمدعى زوجيتها، والميت قبل دفنه ليشهد على عينه من لا يعرف نسبه، بخلاف من لا حق عليه، أو عليه حق آدمي غير لازم؛ كنجوم الكتابة، أو عقوبة لله تعالى. وكفالة كل جزء دونه لا يبقى؛ كالرأس والروح؛ والقلب والكبد والدماغ، والجزء الشائع كالثالث والربع؛ لأنه لا يمكن تسليم ذلك إلا بتسليم كل البدن، فكان كالكفالة بكله، بخلاف ما يبقى الشخص بدونه؛ كاليد والرجل. وتصح الكفالة بالعين المضمومة دون غيرها إذا أذن فيها واضع اليد، أو كان الكفيل قادراً على انتزاعها منه؛ كما نقله شارح "التعجيز" عن الأصحاب. قال في "الروضة" كـ"أصلها": ومن ضمان العين: ما لو تكفل ببدن العبد الجاني جناية توجب مالاً، وما لو ضمن عهدة ما بيع بثمن معين، والثمن باق بيد البائع، وإن تلف في يده فضمن رجل قيمته .. فهو كما لو كان الثمن في الذمة وضمن العهدة، ولو رهن ثوباً، ولم يسلمه فضمن رجل تسليمه .. لم يصح؛ لأنه ضمان ما ليس بلازم. انتهى. ويبرأ الكفيل بتسليم المكفول للمكفول له في مكان عيناه للتسليم، أو في مكان العقد عند الإطلاق بلا حائل كمتغلب، فلو سلمه له في غير ما ذكر .. فللمكفول له الامتناع من تسلمه إن كان له غرض في الامتناع؛ كفوت حاكم أو معين، وإلا .. فالظاهر - كما قاله الشيخان - لزوم

قبوه، فإن أبى .. رفعه إلى الخاكم؛ ليتسلمه عنه، فإن لم يكن حاكم .. أشهد شاهدين أنه سلمه إليه. ولو أحضره قبل زمانه المعين فامتنع المستحق من قبوله .. نظر: هل له غرض؛ كغيبة بينة، أو تأجيل دينه، أو لا؟ والحكم في ذلك كما في المكان، وبأن يحضر المكفول في مكان التسليم بقوله: (سلمت نفسب عن جهة الكفيل)، ولو سلمه أجنبي عن جهة الكفيل بإذنه، أو قبله المستحق .. برئ، وإلا .. فلا. [لزوم إحضار المكفول إذا علم مكانه] الثامنة: موضع المكفول الغائب إن يعلم؛ أي: إن يعلمه الكفيل والطريق آمن، ولم يكن ثم من يمنعه من .. لزمه إحضاره ولو كان فوق مسافة القصر، سواء أكان غائباً حين الكفالة أم غاب بعدها، ولكن يمهل قدر ذهاب إليه وإباب منه. قال الإسنوي: وينبغي أن يعتبر مع ذلم مدة إقامة مدة المسافرين ثلاثة أيام، غير يومي الدخول والخروج؛ للاستراحة وتجهيز المكفول. قال: وإذا أعطى الكفيل ما على المكفول ثم قدم .. ففي استرداد ما أعطاه نظر، والمتجه: أن له ذلك. انتهى. [إذا مات المكفول أو اختفى] التاسعة: إن يمت المكفول أو اختفى؛ أي: أو هرب فلم يعرف مكانه، أو تلفت العين المضمونة .. لا يغرم الكفيل شيئاً من المال؛ لأنه لم يلتزمه، كما لو ضمن المسلم فيه فانقطع .. لا يطالبه برأس المال، وقيل: يغرم المال؛ لأن الكفالة وثيقة؛ فيستوفى منها المال إذا تعذر تحصيله كالرهن. [ما يبطل الكفالة] العاشرة: بطلت الكفالة بشرط مال يلزم الكفيل إذا مات المكفول أو اختفى أو هرب، أو تلفت العين المكفولة؛ لأنه شرط يخالف مقتضاها، ولالتزام المال؛ لأنه صير الضمان معلقاً. قال الإسنوي: ولك أن تقول: هلا بطل الشرط فقط؛ كما لو أقرضه بشرط رد مكسر عن

صحيح، أو شرط الخيار للمضمون له، أو ضمن المؤجل بشرط الحلول؛ بجامع أنه زاد خيراً؟ انتهى. وأجيب بأن المشروط في تلك صفة تابعة، وفي هذه أصل يفرد بعقد، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل. ومن أركان الضمان والكفالة: الصيغة؛ وهي لفظ أو نحوه يشعر بالالتزام؛ كـ (ضمنت دينك عليك)، أو (تلقدته)، أو (تكفلت ببدنه)، أو (أنا بالمال، أو بإحضار الشخص ضامن)، أو (كفيل) أو (زعيم) أو (حميل)، ولو قال: (أؤدي المال)، أو (أحضر الشخص) .. فهو وعد، ولا يجوز تعليقهما ولا توقيتهما، ولو نجز الكفالة وشرط تأخير الإحضار مدة معلومة .. جاز. والألف في قول الناظم: (لزما) و (سلما) و (استحقا) للإطلاق. * * *

باب الشركة

باب الشركة بكسر الشين وإسكان الراء، وحكى فتج الشين وكسر الراء وإسكانها، وهي لغة: الامتزاج، وشرعاً: ثبوت الحق في شيء لاثنين فأكثر على جهة الشيوع بشروط مخصوصة. [أنواع الشركة] وهي أربعة أنواع: الأول: شكرة الأبدان؛ كشركة الحمالين وسائر المحترفة؛ ليكون بينهما كسبهما متساوياً أو متفاضلاً، اتفقت صنعتهما أم لا، وهي باطلة على الصحيح، فإذا اكتسبا وانفردا .. فلكل كسبه، وإلا .. قسم الحاصل على قدرة أجرة المثل. الثاني: شركة المفاوضة؛ ليكون بينهما كسبهما، وعليهما ما يعرض من غرم، وهي باطلة، فإن استعملا لفظ المفاوضة، وأرادا شركة العنان .. جاز. الثالث: شركة الوجوه، وأشهر صورها: أن يشترط وجيهان ليبتاع كل منهما بمؤجل لهما، فإذا باعا .. كان الفاضل عن الأثمان بينهما، أو يبتاع وجيه في الذمة ويفوض بيعه إلى خامل ويشرطا الربح بينهما، أو يشترك وجيه بعمله وخامل بماله؛ ليكون في يده والربح بينهما، أو يبيع الوجيه مال الخامل؛ ليكون له بعض الربح. وكلها باطلة، وما يشتريه أحدهما في الأولى والثانية .. فهو له يختص بربحه، ولا يشاركه فيه الآخر إلا إذا صرح بالإذن في الشراء، وقصد المشتري موكله. الرابع: شركة العنان بكسر العين: من عن الشيء ظهر؛ قاله الجوهري، إما لأنها أظهر الأنواع، أو لأنه ظهر لكل من الشريكين مال الآخر، أو من عنانه الدابة، إما لاستواء الشريكين في ولاية التصرف والفسخ واستحقاق الربح بقدر المالين؛ كاستواء طرفي العنان، أو لمنع كل منهما الآخر من التصرف كما يشاء؛ كمنع العنان الدابة، وقيل: من عن الشيء عرضه؛ لأن كلا منهما قد عرض له أن يشارك الآخر، وقيل بفتح العين: من عنان السماء.

وهذه الشركة هي المرادة هنا، والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه)، وخبر: "يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه .. خرجت من بينهما" رواه أبو داوود والحاكم، وصحح إسناده، ومعنى "أنا ثالث الشريكين": أنا معهما بالحفظ والإعانة، فأمدهما بالمعونة في أموالهما وإنزال البركة في تجارتهما، فإذا وقعت بينهما الخيانة .. رفعت البركة والإعانة عنهما؛ وهو معنى "خرجت من بينهما". ولها أربعة أركان: عاقد، ومعقود عليه، وصيغة، وعمل، وقد أشار إليها بقوله: (تصح ممن جوزوا تصرفه .. واتحد المالان جنساً وصفه) (من نقد أو غير، وخلط ينتفي ... تمييزه، بالإذن في التصرف) (والربح والخسر اعتبر تقسيمه ... بقدر مال شركة بالقيمة) (فسخ الشريك موجب إبطاله ... والموت والإغماء كالوكالة) [شروط صحة الشركة] أي: يعتبر لصحة الشركة أمور: أحدها: أن يكون كل منهما جائز التصرف؛ بأن يكون أهلاً للتوكيل والتوكل؛ لأن كل منهما يتصرف في ماله بالملك، وفي مال الآخر بالإذن، فكل منهما موكل ووكيل، ولو كان أحد الشريكين هو المتصرف .. اشترط فيه أهلية التوكيل، وفي الآخر أهلية التوكيل فقط، حتى يجوز كزن الثاني أعمر؛ كما قاله في "المطلب". وتكره مشاركة الكافر، ومن لا يجوز من الربا ونحوه، وقال الأذرعي: هذا إن شارك لنفسه، فإن شارك لمحجوره .. فلا بد أن يكون الشريك ممكن يجوز إبداع مال المحجور عنده. ثانيها: اتحاد المالين جنساً وصفة من نقد، أو غيره من المثليات ولو دارهم مغشوشة. ثالثها: خلط المالين؛ بحيث لا يتميز مال أحدهما عن مال الآخر عند العقد، فلو عقدا من غير خلط، أو معه مع إمكان التمييز .. لم يصح العقد، حتى لو تلف مال أحدهما قبل التصرف .. تلف على ملكه.

وفهم مما ذكر: عدم الصحة في المتقوم، وهو كذلك؛ لانتفاء الحيثية المذكورة، هذا إذا أخرجا مالين وعقدا، فإن ملكا مشتركاً بإرث أو شراء أو غيره، وأذن كل للآخر في التجارة فيه .. تمت الشركة. والحيلة في الشركة في العروض المتقومة: أن يبيع بعض عرضه ببعض عرض الآخر، ويأذن كل للآخر في التصرف. رابعها: الصيغة بالإذن من كل منهما للآخر في التصرف بالبيع والشراء؛ ليحصل التسلط على التصرف، حتى لو أذن أحدهما دون الآخر .. لم يتصرف الآذن إلا في حصته فقط، ولو شرط عليه ألا يتصرف في نصيب نفسه .. لم يصح العقد؛ لما فيه من الحجر على المالك في ملكه، ولو قالا: (اشتركنا) .. لم يكف في الأصح؛ لقصوره عن الإذن، واحتمال كونه إخباراً عن حصول الشركة في المال، ولا يلزم من حصولها جواز التصرف؛ بدليل المال الموروث شركة. وأفهم كلامه: أنه لا يشترط تساوي قدر مالي الشركة، وأنه لا يشترط العلم بقدرهما عند العقد إذا أمكنت معرفته بعده، وهو كذلك فيهما، ومتى صحت الشركة .. تسلط كل منهما على التصرف بالمصلحة؛ كالوكيل فلا يبيع بنسيئة، ولا يغير نقد البلد، ولا يسافر به ولا يبضعه بلا إذن، ولا يبيع ولا يشتري بغبن فاحش بلا إذن، فإن باع به .. بطل في نصيب شريكه، لا في نصيبه في الأصح، وانفسخت الشركة في المبيع، وصار مشتركاً بين المشتري والشريك، أو اشترى بع بعين مال الشركة .. فكالبيع، أو في الذمة .. لم يقع للشريك، وعليه وزن الثمن من خالص ماله. قوله: (والربح والخسر اعتبر) أي: أنت تقسيمه بقدر مال شريكه بالقيمة؛ أي: باعتبارها؛ لا باعتبار الأجزاء تساوياً في العمل أو تفاوتا، فلو كان لأحدهما رطل زيت، أو قفيز بر قيمته مئة، وللآخر مثل قيمته خمسون .. فالربح والخسران بينهما بالأثلاث، فلو شرطا خلافه .. فسد العقد؛ لمخالفته وضع الشركة، والتصرف صحيح للإذن، ويقسم الربح على قدر ماليهما، ولكل على الآخر أجرة مثل عمله في ماله؛ فإن تساويا في المال والعمل .. تقاصا. وإن تفاوتا في العمل مع التساوي في المال فكان عمل أحدهما يساوي مئتين، وعمل الآخر يساوي مئة: فإن كان عمل المشروط له الزيادة أكثر .. رجع على الآخر بخمسين، وإن كان

عمل الآخر أكثر .. لم يرجع بشيء؛ لتبرعه بعمله، وكذا لو اختص أحدهما بأصل التصرف. وكل من الشريكين أمين، والقول قوه بيمينه في قوله: (اشتريت هذا للشركة) أو (لنفسي)، وفي الربح والخشران، وفي التلف إن ادعاه بلا سبب، أو بسبب خفي؛ كالشرقة، فإن ادعاه بظاهر وجهل .. طولب ببينة، ثم يصدق في التلف به وفي الرد، إلا إذا ادعى رد الكل، وأراد طلب نصيبه .. فلا يكون القول قوله في طلب نصيبه، ولا يقبل قول أحدهما في القسمة. ولو قال أحد الشريكين: (هذا المال لي)، وقال الآخر: (للشركة) .. صدق صاحب اليد بيمينه. قوله: (فسخ الشريك) أي: أحد الشريكين عقد الشركة موجب إبطاله، وموته أو جنونه أو إغماؤه .. مبطل له كالوكالة؛ لأن هذا شأن العقد الجائز من الطرفين. [أقسام العقود من حيث الجواز واللزوم] ثم العقود نوعان: أحدهما: ينفرد به العاقد، وهو ثمانية: النذر، واليمين، والتدبير، والعتق، والعدة، والحج، والعمرة، والصلاة إلا الجمعة. ثانيها: لا بد فيه من متغاقدين، وهو ثلاثة أقسام: جائز من الطرفين، وهو تسعة: الشركة، والوكالة، والقراض، والوديعة، والعارية، والجعالة، والقضاء، والوصية، والوصاية، لكن للموصي في الحياة، ولموصى له بعد الموت. ولازم من الطرفين، وهو خسمة عشر: النكاح، والخلع، والإجازة، والمساقاة، والمزارعة، والوصية إذا قبل بعد الموت، والحوالة، والصلح، والبيع، والسلم، والمأخوذ بالشفعة، والهبة بعد القبض إلا في حق الفرع، والوقف، والصداق، والعتق على العوض. وجائز من طرف لازم من طرف، وهو ثمانية: الرهن، والضمان، والجزية، والكتابة، والإمامة، وهبة الأصل للفرع، والهدية، والأمان. وقول الناظم: (أو غير (بحذغ الهمزة للوزن. * * *

باب الوكالة

باب الوكالة بفتح الواو وكسرها لغة: الحفظ والتفويض، وشرعاً: استبانة جائز التصرف مثله فيما يقبل النيابة في حال حياته، والأصل فيها قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {فابعثوا حكما من أهله} [النساء: 35] الآية، وأخبار؛ كإرساله صلى الله عليه وسلم السعاة لقبض الزكوات، وتوكيله عمرو بن أمية في نكاح أم حبيبة، وأبا رافع في نكاح ميمونة، وعروة البارقي في شراء الشاة، والحاجة داعية إليها، فإن الشخص قد يعجز عن القيام بمصالحه ومعاملاته كلها فهي جائزة، بل قال القاضي حسن وغيره: إنها مندوب إليها؛ لأنها من التعاون على البر، والقيام بمصلحة الغير، وفي الخبر: "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه". ولها أربعة أركان: موكل، ووكيل، وموكل فيه، وصيغة، وقد أشار إليها فقال: (ما صح أن يباشر الموكل ... بنفسه جاز له التوكل) (وجاز في المعلوم من وجه، ولا ... يصح إقرار على من وكلا) (ولم يبع من نفسه ولا أبن ... طفل ومجنون ولو بإذن) (وباع بالتأجيل أو بغبن ... وغير نقد بلد بالإذن) (وهو أمين، وبتفريط ضمن ... يعزل بالعزل وإغماء وجن) [ضابط ما يصح فيه التوكيل وما يستثنى منه] أي: ما يصح أن يباشره الموكل بنفسه .. جاز له أن يوكل فيه، فأفاد كلامه: أن شرط الموكل: صحة مباشرته ما وكل فيه بملك أو ولاية، فيصح توكيل الولي في حق محجوره أباً كان أو جداً في الرويج والمال، أو وصياً أو قيماً في المال مما لم تجر العادة بمباشرته لمثله.

ويستثنى من هذا مسائل: منها أنه ليس للظافر بحقه التوكيل في كسر الباب وأخذه؛ ومثله: العبد المأذون، والسفيه المأذون في النكاح، وكذا من أسلم على أكثر من أربع في الاختيار، إلا إذا عين للوكيل المختارات. وأن ما لا يصح أن يباشره الموكل بنفسه .. لا يجوز له أن يؤكل فيه، فلا يصح توكيل صبي ولا مجنون في شيء، ولا توكيل المرأة غير وليها في تزوجيها، ولا المحرم في تزويجه أو تزويج موليته. ويستثنى الأعمى في نحو البيع فصيح للضرورة، وتوكيل المحرم حلالاً في التزويج، سواء أقال بعد التحلل أم أطلق، والحلال محرماً في التوكيل فيه، والمشتري البائع في أن يوكل من يقبض منه، والمسلم المسلم إليه كذلك، والتوكيل في استيفاء قصاص الطرف وحد القذف وإن شرط الوكيل صحة مباشرته التصرف لنفسه، فيصح توكيل عبد وسفيه في قبول نكاح لا في إيجابه. ويستثنى من هذا مسائل: منها توكيل الولي فاسقاً في بيع مال المحجور عليه. وأن ما لا تصح مباشرته التصرف لنفسه .. لا يصح توكله فيه، ويستثنى منه مسائل: منها اعتماد قول الصبي في الإذن في دخول دار، وإيصال نحو هدية إذا كان مميزاً مأموناً؛ لاعتماد السلف غليه في ذلك، وتوكيل الزوج شخصاً في قبول نكاح محرمه، وموسراً في قبول نكاح أمة، وتوكيل أصناف الزكاة في قبضها لهم من لا بثمنها .. فالأشهر في "المطلب": صحة التوكيل. ويشترط في الموكل فيه: علمه من وجه يقل معه الغرر؛ كـ (وكلتك في بيع أموالي وعتق أرقائي)، ولا يشترط علمه من كل الوجوه؛ لأن تجويز الوكالة للحاجة يقتضي المسامحة فيه، بخلاف ما إذا أكثر الغرور؛ كـ (وكلتك في قليل وكثير)، أو (في كل أموري)، أو (فوضت إليك كل شيء)، أو (اشتر لي عبداً أو حيواناً).

ويشترط فيه أيضاً: أن يكون قابلاً للنيابة، سواء أكان عبادة؛ كالحج والعمرة وتوابعهما، والصوم عن الميت؛ كما رجحه النووي، وذبح الأصحية والهدي والعقيقة، وتفرقة الزكاة والكفارة والصدقة ونحوها، أم عقداً؛ كبيع، أو فسخاً؛ كرد يعيب، أم غيرها؛ كقبض الديون وإقباضها، والدعوى والجواب، واستيفاء عقوبة، وإثبات عقوبة آدمي، وتملك مباح، بخلاف سائر العبادات البدنية كالصلاة، والمعاصي كالقتل، واثبات عقوبة الله تعالى وشهادة وإقرار. ويحتمل أن يكون هذا معنى قول الناظم الآتي: (ولا يصح إقرار على من وكلا) أي: لا يصح إقرار من الوكيل على من وكله فيه؛ لعدم صحة التوكيل على من وكله فيه؛ لعدم صحة التوكيل فيه كما سيأتي، ويجعل مقراً بنفس التوكيل على الأصح في "الروضة"، ويمين وإبلاء ولعان، ونذر وظهار وتعليق نحو عتق. [صيغة الوكالة] وأما الصيغة .. فكوكلتك في كذا، أو فوضته إليك، أو أنت وكيلي فيه، أو بع أو اعتق، ولا يشترط القبول لفظاً على الأصح، بل يكفي الفعل، ولا يصح تعليقها في الأصح، فإن نجزها وشرط للتصرف شرطاً .. جاز، وتصح مؤقتة. ولو قال: (وكلتك، ومتى عزلتك فأنت وكيلي) .. صحت في الحال في الأصح، وفي عوده وكيلاً بعد العزل الوجهان في تعليقها، أصحهما: المنع، ويجريان في تعليق العزل، وأصحهما: عدم صحته. [حكم إقرار الوكيل وإبرائه] قوله: (ولا يصح إقرار على من وكلا) أي: لا يصح إقرار الوكيل في الخصومة بالإبراء، أو الإقرار من موكله بما يبطل حقه من قبض أو تأجيل ونحوه؛ كما لا يصح إبراؤه؛ لأن اسم الخصومة لا يتناوله، ولأن الوكيل إنما يفعل ما فيه الحظ والمصلحة لموكله، وينعزل بإقراره المذكور، ولا ينعزل بإبرائه الخصم، وما قررت به كلامه .. أظهر من حمله على أنه لا يصح التوكيل في الإقرار؛ لأنه إخبار عن حق، فلا يقبل التوكيل فيه؛ كالشهادة.

[التوكيل في البيع وأحكامه] ومتى وكله في البيع، ولم يقيده بثمن ولا حلول، ولا تأجيل ولا نقد .. لم يجز له - نظراً للعرف - البيع بغير نقد البلد ولا بنسيئة ولا بغبن فاحش، وهو ما لا يحتمل غالباً، بخلاف اليسير وهو ما يحتمل غالباً؛ كبيع ما يساوي عشرة دراهم بتسعة، فلو باع بشيء منها وسلم المبيع .. ضمنه؛ لتعديه بتسليمه ببيع بتسليمه ببيع باطل فيسترده إن بقي، وإلا .. غرم الموكل قيمته من شاء من الوكيل والمشتري والقرار عليه، وإذا استرده .. فله بيعه بالإذن السابق، ولا يكون ضامناً لثمنه. ولو كان بالبلد نقدان .. لزمه البيع بأغلبهما، فإن استويا .. فبأنفعهما للموكل، فإن استويا .. تخير بينهما، أما إذا قيد بشيء مما ذكر .. فيتعين، فلو أطلق الأجل .. صح وحمل على المتعارف في مثله، فإن لم يكن في المبيع عرف .. راعى الوكيل الأنفع للموكل. ولو قال الموكل: (بعه بكم شئت) .. فله البيع بالغبن الفاحش، ولا يجوز بالنسيئة، ولا بغير نقد البلد، أو: (بما شئت) .. فله البيع بغير نقد البلد، ولا يجوز بالغبن ولا بالنسيئة، أو: (كيف شئت) .. فله البيع بالنسيئة، ولا يجوز بالغبن ولا بغير نقد البلد. [لا يبيع الموكل من نفسه ولا لمحجوره] وللوكيل بالبيع بيعه لأصوله وفروعه؛ كما يبيعه لصديقه، ولا يصح بيعه لنفسه، ولا لمحجوره بصبي أو مجنون أو سفه، ولو بإذن من موكله له فيه؛ لتضاد غرضي الاسترخاص لهما والاستقصاء للموكل، ولاتحاد الموجب والقابل لغير جهة الأبوة، وقد أشار الناظم إلى هذا بقوله: (ولم يبع من نفسه ولا ابن طفل ومجنون ولو بإذن). وشمل كلامه كغيره: ما لو قدر له مع ذلك الثمن ونهاه عن الزيادة وإن انتفت التهمة؛ لاتحاد الموجب والقابل، ولهذا لو وكله ليهب من نفسه .. لم يصح على الأصح، ويمتنع على الوكيل شرط الخيار لغير نفسه وموكله. ومتى باع بثمن وزاد راغب قبل انقضاء الخيار .. انفسخ بيعه؛ إذ ليس له البيع بثمن المثل وهناك زيادة؛ لأنه مأمور بالمصلحة، فإن رجع من رغب بالزيادة عنها قبل تمكن الوكيل من بيعه منه .. بقي البيع بحاله، فإن لم يرجع إلا بعده .. فقد ارتفع ذلك البيع، فلا بد من بيع جديد.

وللوكيل بالبيع مطلقاً قبض الثمن من المشتري وتسليم المبيع له؛ لأنهما من مقتضيات البيع، لكن لا يسلمه المبيع حتى يقبض ثمنه؛ إذ في تسليمه قبل القبض خطر ظاهر، فإن خالف .. ضمن قيمته للموكل وإن كان الثمن أكثر منها، وإذا قبض الثمن .. دفعه إليه واسترد القيمة. أما لو كان الثمن مؤجلاً .. فله قبل قبضه تسليم المبيع؛ إذ لا حبس بالمؤجل، فإن حل .. لم يملك قبضه إلا بإذن جديد، وحيث نهاه عن التسليم أو القبض .. فليس له ذلك. وإذا وكله في شراء شيء موصوف كان أو معيناً، فاشتراه معيباً بثمن في الذمة جاهلاً بعيبه .. وقع الشراء للموكل وإن لم يساو ما اشتراه به؛ كما لو اشتراه بنفسه جاهلاً، وفارق عدم صحة بيعه بغبن فاحش؛ بأن الغبن لا يثبت الخيار فيتضرر الموكل، أو عالماً .. لم يقع لموكله وإن ساوى ما اشتراه به؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة ولا عذر، وإذا وقع للموكل .. فلكل من الموكل والوكيل الرد بالعيب، وإن رضي الموكل به .. فليس للوكيل الرد، بخلاف العكس. وإن اشترى بعين مال الموكل .. وقع له حال الجهل، وليس للوكيل الرد في الأصح، وبطل حال العلم. [حكم توكيل الوكيل غيره] وليس لوكيل أن يوكل بلا إذن إن تأتى منه ما وكل فيه وإن قال له الموكل: (افعل فيه ما شئت)، أو (كل ما تصنعه فيه جائز)، وإن لم يتأت؛ لكونه لا يحسنه، أو لا يليق به .. فله التوكيل على الصحيح، ولو كثر وعجز عن الإتيان بكله .. فالمذهب: أنه يوكل فيما زاد على الممكن. ولو أذن في التوكيل وقال: (وكل عن نفسك) ففعل .. فالأصح: أن الثاني وكيل الوكيل؛ فينعزل بعزله وانعزاله، وأنه ينعزل بعزل الموكل، أو: (عني) .. فالثاني وكيل الموكل، وكذا إن أطلق في الأصح، وفي الصورتين: لا يعزل أحدهما الآخر، ولا ينعزل با نعزاله. وحيث جوزنا للوكيل التوكيل .. فيشترط أن يوكل أميناً، إلا أن يعين الموكل غيره. ولو كان أميناً ففسق .. لم يملك الوكيل عزله في الأصح؛ لأنه ليس نائباً عنه، ولو عين للبيع شخصاً أو زمناً أو مكاناً .. تعين، ولو قدر له الثمن فباع في مكان غيره بالقدر .. جاز. وإن قال: (بع بمئة) .. لم يبع بأقل، وله أن يزيد عليها إلا أن عين المشتري، أو صرح بالنهي عن الزيادة، وليس له البيع بمئة وهناك زيادة.

ولو قال: (اشتر عبد فلان بمئة) فاشتراه بأقل .. صح. ولو قال: (اشتر بهذا الدينار شاة) ووصفها، فاشترى به شاتين بالصفة: فإن لم تساو واحدة ديناراً .. لم يصح الشراء للموكل، وإن ساوته إحداهما أو كل منهما .. فالأظهر: الصحة وحصول الملك فيهما للموكل. ولو أمره بالشراء بعين مال فاشترى في الذمة .. لم يقع للموكل، وكذا عكسه في الأصح، ومتى خالف الموكل في بيع ماله، أو الشراء بعينه؛ كأن أمره يبيع عبد فباع غيره، أو بشراء ثوب بهذا الدينار فاشترى به آخر .. فتصرفه باطل. ولو اشترى غير المأذون فيه في الذمة ولم يسم الموكل .. وقع للوكيل، وإن سماه فقال البائع: (بعتك)، فقال: (اشتريت لفلان) .. فكذا في الأصح. ولو قال: (بعث موكلك)، فقال: (اشتريت له) .. لم يصح، بخلاف النكاح؛ فإنه لا يصح إلا كذلك، ووكيل المتهب يجب أن يسمي موكله، وإلا .. يقع له، ولا تصرفه النية، ولو وكله في بيع شيء لزيد فباعه لوكيله .. لم يصح. [الوكيل أمين] قوله: (وهو أمين) أي: والوكيل أمين وإن جعل بجعل؛ كما اقتضاه إطلاقه، فلا يضمن ما تلف في يده بلا تفريط؛ لأن الوكالة عقد إرفاق ومعونة، والضمان ينافيه وينبوا عنه. قوله: (وبتفريط ضمن) كأن تصرف على غير الإذن أو المصلحة عند إطلاق الإذن، وسلم العين للغير، أو استعملها، أو وضعها في غير حرزها كسائر الأمناء، فإنهم لا يضمنون إلا بالتفريط، ولا ينعزل بذلك في الأصح؛ لأن حقيقة الوكالة الإذن في التصرف، والأمانة حكم مرتب عليه، فلا يلزم من رفعها رفعه. وإذا باع وسلم المبيع .. زال الضمان عنه، ولا يضمن الثمن، ولو رد المبيع بعيب عليه .. عاد الضمان. ولو دفع إلى وكيله دراهم ليشتري بها شيئاً فيهل قرضاً عليه .. ضمنها، وليس له أن يشتري للموكل بدراهم نفسه، ولا في الذمة، فإن فعل .. فالشراء له، فلو عادت الدراهم إليه فاشترى بها الموكل .. صح على المذهب، والمشترى غير مضمون عليه، فلو رده بعيب واسترد الثمن .. عاد الضمان. ومتى طالبه برد ماله .. لزمه أن يخلي بينه وبينه، فإن امتنع بلا عذر .. ضمن.

[تعلق أحكام العقد بالوكيل] وأحكام العقد بالوكيل دون الموكل؛ لأنه العاقد حقيقة، فيعتبر في الرؤية، ولزوم العقد بمفارقة المجلس والفسخ فيه، والتقابض في المجلس حيث يشترط، وتسليم رأس مال السلم .. الوكيل دون الموكل. وإذا اشترى الوكيل .. طالبه البائع بالثمن إن كان دفعه إليه الموكل، وإلا .. فلا إن كان الثمن معيناً، وإن كان في الذمة .. طالبه به إن أنكر وكالته، أو قال: (لا أعلمها)، وإن اعترف بها .. طالب به أيهما شاء في الأصح، والوكيل كضامن، والموكل كأصيل، وإذا قبض الوكيل بالبيع الثمن وتلف في يده وخرج المبيع مستحقاً .. رجع عليه المشتري ببدل الثمن وإن اعترف بوكالته في الأصح، ثم يرجع الوكيل على الموكل بما غرنه، وللمشتري الرجوع على الموكل ابتداء في الأصح؛ لأن الذي تلف في يده سفيره ويده كيده. [ما ينعزل به الوكيل] ثم شرع فيما ينعزل به الوكيل فقال: (يعزل بالعزل) أي: منه أو من موكله؛ كأن يقول الوكيل: (عزلت نفسي)، أو (أخرجتها من الوكالة)، أو (رددتها)، أو الموكل: (عزلته)، أو (رفعت الوكالة)، أو (فسختها)، أو (أبطلتها)، أو (أخرجته منها) لأن الوكالة جائزة من الجانبيين وإن ذكر فيها جعل ووجدت فيها شروط الإجازة؛ لتضرر العاقدين باللزوم. ولا يتوقف انعزاله على علمه بالعزل كما اقتضاه كلامه؛ لأنه رفع عقد لا يتوقف على الرضا، فكذا العلم: كالطلاق، بخلاف انعزال القاضي؛ لتعلق المصالح الكلية به قاله الرافعي وغيره، وقضبته: أن القاضي في الواقعة الخاصة كالوكيل، وأن الوكيل العام كوكيل السلطان لا ينعزل قبل بلوغ الخبر؛ لعموم نظره، فالأحسن الفرق: بأن القاضي نائب عن المسلمين لا عن الإمام. قال في "الروضة" كـ"أصلها": وينبغي للموكل إذا عزل الوكيل في غيبته أن يشهد على العزل؛ لأن قوله بعد تصرف الوكيل: (كنت عزلته) لا يقبل. قال في "المهمات": ومحله: إذا أنكر الوكيل العزل، فإن وافقه، لكن قال: كان بعد

التصرف .. فهو كدعوى الزوج تقدم الرجعة على انقضاء العدة، وفيه تفصيل معروف؛ قاله الرافعي في اختلاف الموكل والوكيل. ولو أنكر أحدهما الوكالة .. فالأصح أنه: إن كان لنسيان أو لغرض في الإخفاء .. فليس بعزل، وإلا .. فعزل. وأشار بقوله: (وإغماء وجن) إلى أن الوكيل ينعزل بزوال أهلية واحد منهما لذلك التصرف؛ لأن مات أو جن أو أغمي عليه أو رق، أو فسق فيما تعتبر فيه العدالة، أو حجر عليه بسفه، او فلس فيما لا ينفذ لأجلهما، ويستثنى منه إغماء الموكل برمي الجمار فلا ينعزل به الوكيل؛ لأنه قد زاد عجزه. وينعزل أيضاً بخروج محل التصرف عن ملك الموكل بتلف أو بيع، أو عتق أو نحوها، أو عن منفعته؛ كما لو أجره، أو زوج الأمة؛ لإشعار الإجارة والتزويج بالندم على البيع، أو عن الوكيل إذا كان رقيق الموكل؛ كما نقل النووي تصحيحه عن جماعة وأقره، بخلاف زوال الملك عن رقيق غيره فليس بعزل، وينعزل بالإيصاء والتدبير، وتعليق العتق بصفة؛ كما رجحه جماعة من المتأخرين، وفي طحن الحب وجهان أطلقهما الشيخان وغيرهما، ونقل الأذرعي عن "التتمة": أن أصلهما ما لو حلف لا يأكل هذه الحنطة فأكل بعد الطحن، قال: وقضيته: ترجيح العزل، وذكر في "الخادم" أيضاً ذلك، وأن الرافعي إنما أخذهما من "التتمة"، وأن القاضي ذكرهما، وقال: بناء على أن المغلب الإشارة أو العبارة، ولا ينعزل بالعرض على البيع، ولا بتوكيل وكيل آخر. قال في "الروضة": ولو عزل أحد وكيليه مبهماً .. منع كل منهما من التصرف في الأصح حتى يميز، للشك في أهليته، ومن يقبل قوله في الرد؛ كالوكيل والمودع .. ليس له أن يقول بعد طلب المالك: (لا أرد إلا بإشهاد) في الأصح، ومن لا يقبل قوله فيه كالغاصب .. فله الامتناع إن كان عليه بينة بالأخذ، وكذا إن لم تكن بينة في الأصح. ولو قال رجل: (وكلني زيد بقبض ما له عندك من دين أو عين) وصدقه .. فله دفعه إليه،

والمذهب: أنه لا يلزمه إلا ببينة على وكالته، فلو دفع فحضر زيد وأنكر الوكالة .. صدق بيمينه، ثم إن الحق عيناً .. أخذها، وإن تلفت .. فله تغريم من شاء منهما، ولا رجوع للغارم على الآخر، إلا إذا تلفت بتفريط القابض وغرم الدافع .. فإنه يرجع على القابض، أو ديناً .. فله مطالبة الدافع بحقه ويسترد هو المدفوع، فإن تلف بتفريط .. غرمه، وإلا .. فلا، وليس له مطالبة القابض إن تلف المدفوع عنده، وكذا إن بقي في الأصح. وإن لم يصدقه .. لم يكلف الدفع إليه، فإن دفع، ثم حضر زيد وحلف على نفي الوكالة .. غرم الدافع، ثم يرجع هو على القابض. ولو أنكر الوكالة أو الحق، وكان الوكيل مأذوناً له في إقامة البينة .. أقامها وأخذ الحق، وإلا .. فليس له التحليف في الأظهر. ولو قال: (أنا وارثه) وصدقه .. وجب الدفع على المذهب، أو (أحالني عليك) وصدقه .. فكذا في الأصح، وإن كذبه ولا بينة .. فله تحليفه في الأصح. والألف في قول الناظم: (وكلا) للإطلاق، وقوله: (وجن) بكسر الجيم؛ أي: جنون. * * *

باب الإقرار

باب الإقرار هو لغة: الإثبات؛ من قر الشيء يقر قراراً إذا ثبت، وشرعاً: إخبار عن حق سابق، ويسمى اعترافاً أيضاً، والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135] وفسرت شهادة المرء على نفسه بالإقرار، وقوله تعالى: {ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} [آل عمران: 82]، وقوله تعالى: {وليملل الذي عليه الحق} [البقرة: 282] إلى قوله: {فليمدل وليه بالعدل} [البقرة: 282] أي: فليقر بالحق، دل أوله على صحة إقرار الرشيد على نفسه، وآخره على صحة إقرار الولي على موليه، وخبر "الصحيحين": "اغد يا أنيس إلى امرأة هنا، فإن اعترفت .. فارجمها"، والقياس: لأنا إذا قبلنا الشهادة على الإقرار .. فلأم نقبل الإقرار أولى. وله أربعة أركان: مقر، ومقر له، ومقر به، وصيغة. (وإنما يصح مع تكليف ... طوعا ولو في مرض مخوف) (والرشد إذا إقراره بالمال ... وصح الاستثناء باتصال) (عن حقنا ليس الرجوع يقبل ... بل حق ربي، فالرجوع أفضل) (ومن بمجهول أقر قبلا ... بيانه بكل ما تمولا) [الركن الأول: المقر وشروطه] أي: إنما يصح الإقرار مع تكليف المقر؛ بأن يكون بالغاً عاقلاً، فلا يصح إقرار غير المكلف؛ كصبي ومجنون، إلا السكران طوعاً؛ أي: اختياراً، فلا يصح إقرار مكره عليه؛ لقوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] أسقط حكم الكفر به فغيره أولى. ويصح إقرار من ذكر ولو مع مرض ومخوف من المقر، فيصح إقرار المريض والمال عيناً كان أو ديناً لأجنبي أو وارث؛ لأنه في حالة يصدق فيها الكاذب، وينوب فيها الفاجر، فالظاهر صدقه.

ولو أقر في صحته بدين لإنسان، وفي مرضه بدين لآخر .. لم يقدم الأول، بل يتساويان؛ كما لو أقر بهما في الصحة أو المرض. ولو أقر في صحته أو مرضه بدين لإنسان، وأقر وارثه بعد موته بدين لآخر .. لم يقدم الأةل في الأصح؛ لأن إقرار الوارث كإقرار المورث، فكأنه أقر بالدينين. ويشترط مع ما مر في الإقرار بالمال: وشد المقر؛ أي: إطلاق تصرفه في المال، ولهذا قال الناظم: (والرشد إذا إقراره بالمال) فلا يصح إقرار السفيه بمال عين أو دين معاملة أسنده إلى ما قبل الحجر أو بعده، وكذا بإتلاف المال في الأظهر. وخرج بقوله: (إذ إقراراه بالمال): إقراره بغيره؛ كالحد والقصاص فيصح، ويصح خلعه وطلاقه، وظهاره ونفيه النسب ونحوها. وأما المفلس .. فيصح إقراره بعين، أو بدين أسند وجوبه إلى ما قبل الحجر بمعاملة أو مطلقاً أو إتلاف، أو إلى ما بعده بجناية، فيزاحم المقر له فيها الغرماء. وأما الرقيق .. فيقبل إقراره بموجب عقوبة، وأظهر القولين: أنه يضمن مال السرقة في ذمته تالفاً كان أو باقياً في يده أو يد السيد إذا لم يصدقه فيها. ولو أقر بدين جناية لا توجب عقوبة: كجناية الخطأ وإتلاف المال، فكذبه السيد .. تعلق بذمته دون رقبته، فيتبع به إذا عتق، وإن صدقه السيد .. تعلق برقبته فيباع فيها، إلا أن يفديه السيد بأقل الأمرين من قيمته وقدر الدين. وإذا بيع وبقي شيء من الدين .. لا يتبع به إذا عتق، وإن أقر بدين المعاملة .. لم يقبل على السيد إن لم يكن مأذوناً له في التجارة، بل يتعلق المقر به بذمته يتبع به إذا اعتق وإن صدقه السيد، ويقبل على السيد إن كان مأذوناً له في التجارة، ويؤدى من كسبه وما في يده، إلا أن يكون المقر به مما لا يتعلق بالتجارة كالقرض؛ فلا يقبل على السيد. ولو أقر بعد حجر السيد عليه بدين معاملة أضافه إلى حال الإذن .. لم تقبل إضافته في الأصح، وقبل الحجر لو أطلق الدين .. لم ينزل على دين المعاملة في الأصح. [الركن الثاني: المقر له] الركن الثاني: المقر له، ويشترط فيه أهلية استحقاق المقر به، فلو قال: (لهذه الدابة على كذا) .. فلغو؛ لأنها ليست أهلاً للاستحقاق، ولو قال: (علي بسببها لمالكها كذا) ..

صح على الصحيح، وحمل على أنه جنى عليها أو اكتراها، أو (علي بسببها) .. لم يلزم لمالكها الآن، بل يسأل ويعمل ببيانه. ولو أقر لرقيق .. فلسيه، أو لحمل بسبب إرث أو وصية .. ثح؛ لأن ما أسنده ممكن، فإن انفصل ميتاً .. فلا حق له، وتكون لورثة المورث أو الموضي، أو حياً وانفصل لدون ستة أشهر .. استحق، أو لأكثر من أربع سنين .. فلا، أو لما بينهما وهي فراش .. فكذلك، وإلا .. فالأظهر: الاستحقاق، واعتبر الشيخان هذه المدة من الإقرار، وصوب الإسنوي والبلقيني اعتبارها من سبب الاستحقاق. ثم إن استحق بوصية .. فله الكل، أو بإرث من أب وهو ذكر .. فكذلك، أو أنثى .. فلها النصف، وإن أسنده إلى جهة لا تمكن في حقه؛ كقوله: (أقرضنيه) أو (باعني به شيئاً) .. فلغو، وقيل: صحيح وبلغو الإسناد؛ لأنه غير معقول، وقيل فيه قولا تعقيب الإقرار بما يرفعه، وفي "الشرح" تصحيح الطريق الثاني، وتعقبه في "الروضة" بأن الأصح: البطلان، وبه قطع في "المحرر"، قال في "الأنوار": وهم وهم، بل الضمير في قوله "المحرر": (فهو لغة) للإسناد، وأما الإقرار .. فصحيح، وذكر الأذرعي نحوه، وإن أطلق .. صح في الأظهر، ويحمل على الجهة الممكنة في حقه. وعدم تكذيبه المقر، فلو كذب المقر .. ترك المال في يده في الأصح؛ لأن بده تشعر بالملظ ظاهراً إقراره بمعارضة الإنكار. فلو رجع المقر به وصدق المقر .. لم يسلم له إلا بإقرار جديد، أو المقر وقال: (غلطت)، أو (تعمدت الكذب) .. قبل في الأصح. وتعيينه نوع تعيين بحيث تتوقع منه الدعوى والطلب، فلو قال: (لإنسان)، أو (واحد من بني آدم)، أو (من أهل البلد على ألف) .. لم يصح على الصحيح، فلو قال واحد: (أنا المراد ولي عليك ألف) .. صدق المقر بيمينه.

[الركن الثالث: المقر به] الركن الثالث: المقر به، ويشترط ألا يكون ملكاً للمقر وقت الإقرار، فلو قال: (داري) أو (ثوبي) أو (ديني الذي على زيد لعمرو) .. فلغو؛ لأن الإضافة إليه تقتضي الملك له فتنافي الإقرار لغيره؛ إذ هو إخبار بحق سابق عليه، ويحمل كلامه على الوعد بالهبة. ولو قال: (مسكني لزيد) .. فهو إقرار؛ لأنه قد يسكن ملك غيره، ولو قال: (هذا لفلان وكان ملكي إلى أن أقررت) .. فأول كلامه إقرار وآخره لغو، فيطرح ويعمل بأوله. ولو قال: (الدين الذي على زيد لعمرو، واسمي في الكتاب عارية) .. صح. ويشترط أن يكون المقر به في يد المقر ليسلم بالإقرار للمقر له في الحال، وإن لم يكن في يده .. فهو دعوى أو شهادة، فلو صار بيده .. عمل بمقتضى الإقرار؛ بأن يسلم للمقر له في الحال، فلو قال: (العبد الذي في يد زيد مرهون عند عمرو بكذا)، ثم حصل العبد في يده .. أمر ببيعه في دين عمرو. ولو أقر بحرية عبد في يد غيره، أو شهد بها فردت ثم اشتراه .. صح وحكم بحريته، فترفع يده عنه، ثم إن قال: (أعتقه) .. فشراؤه افتداء من جهة المشتري في الأصح، وبيع من جهة البائع، فيثبت له وحده الخياران وولاؤه موقوف، فإن مات وترك مالاً وله وارث بنسب .. فله؛ وإلا فإن صدقه البائع .. أخذه ورد الثمن، أو كذبه وأصر .. فللمشتري منه قدر الثمن، والباقي موقوف، وإن قال: (هو حر الأصل)، أو (عتق قبل شرائك) .. فافتداء من جهته وبيع من جهة البائع، وإذا مات ولا وارث له .. فماله لبيت المال، وليس للمشتري أخذ شيء منه، ولو مات قبل القبض .. لم يكن للبائع مطالبته بالثمن. ولو أقر بحريته ثم استأجره .. لم يحل له استخدامه، وللمؤجر مطالبته بالأجرة. [الركن الرابع: صيغة الإقرار] الركن الرابع: الصيغة، فقوله: (لفلان عندي) أو (علي) أو (معي كذا) .. صيغة إقرار، ثم (علي) و (في ذمتي) للدين ظاهراً فلا يقبل تفسيره بوديعة، ولا دعواه التلف، بل يضمنه، و (معي) و (عندي) للعين؛ أي: محمول عند الإطلاق على الإقرار بالعين، حتى إذا ادعى أنها وديعة وأنها تلفت، أو ردها .. يقبل قوله بيمينه.

ولو قال: (لي عليك ألف)، فقال: (زن) أو (خذ) أو (استوف) .. فليس بإقرار، أو (زنه) أو (أخذه)، أو (هي صحاح)، أو (اختم عليه)، أو (شده في هميانك)، أو (اجعله في كيسك) .. فكذا على الصحيح؛ لأن ذلك يذكر للاستهزاء، أو (بلى)، أو (نعم)، أو (أجل)، أو (صدقت)، أو (أنا مقر به)، أو (بما تدعيه)، أو (لست منكراً له)، أو (لا أنكر ما تدعيه)، أو (لا أنكر أن تكون محقاً فيما تديعه)، أو (أبرأتني منه)، أو (قضيته)، أو (له على ألف في علمي)، أو (فيما أعلم)، أو (أشهد) .. فإقرار بالألف، وعليه بينة الإبراء أو القضاء. أو (أنا مقر)، أو (أقر به)، أو (لست منكراً)، أو (لا أقر)، أو (لا أنكر أن تكون محقاً)، أو (أقررت بأنك أبرأتني)، أو (استوفيت مني)، أو (لعل)، أو (عسى)، أو (أظن)، أو (أحسب)، أو (أقدر)، أو (لا أقر به ولا أنكره) .. فليس بإقرار. وإذا انضم إلى اللفظ قرائن تشعر بالاستهزاء والتكذيب؛ كالأداء [والإبراء]، وتحريك الرأس الدال على شدة التعجب والإنكار، فيشبه ألا يكون إقراراً، ويحمل قولهم: (: أن صدقت" وما في معناه .. إقرار) على غير هذه الحالة، أو يقال: فيه خلاف لتعارض اللفظ والقرينة، فإن المتولي حكى وجهين فيما لو قال: (لي عليك ألف)، فقال مستهزئاً: (لك علي ألف). ولو قال: (أليس عليك كذا؟ ) فقال: (بلى) .. فإقرار، أو (نعم) .. فكذا على الصحيح، وقيل: أنه ليس بإقرار، ؛ لأنه موضوع للتصديق فيكون مصدقاً له في النفي، بخلاف (بلى) فإنه لرد النفي، ونفي النفي إثبات، وأجيب بأن النظر في الإقرار إلى العرف، وأهله يفهمون الإقرار بـ (نعم) فيما ذكر. ولو قال: (اقض الألف الذي لي عليك)، فقال: (نعم)، أو (أقضي غداً)، أو (أمهلني يوماً)، أو (حتى أقعد)، أو (أفتح الكيس)، أو (أجد المفتاح) .. فإقرار في الأصح.

ويصح الإقرار بكل لغة فهمها المقر، فلو أقر عجمي بعربية أو بالعكس، وقال: لقنت .. صدق بيمينه إن أحتمل أن يخفي عليه، وكذا حكم جميع العقود والحلول. ولو قال: كنت يوم الإقرار صبياً وهو محتمل، أو مجنوناً وقد عهد له .. صدق بيمينه، أو مكرهاً وعليه أمارة .. فكذلك، وإلا .. لم يقبل قوله، وإنما تثبت الأمارة ببينة، أو اعتراف المقر له، وحبسه لزيد لا بقدح في إقراره لعمرو. ولو تعرضت البينة لبلوغه وعقله واختياره، وادعى المق خلافه .. لم يقبل، ولا يشترط في الشهادة تعرض لبلوغ وعقل واختيار وحرية ورشد على المذهب، وما يكتب في الوثائق .. فهو احتياط، ولو قيدت بينة الإقرار بالاختيار، وأقام الخصم بينة بالإكراه .. قدمت، ولا تقبل شهادة الإكراه إلا مفصلة. [حكم الاستئناف في الإقرار وشروطه] قوله: (وصح الاستثناء باتصال)، أي: وصح الاستثناء من المقر؛ لأن الاستثناء - وهو إخراج ما لولاه لدخل فيما قبله - بـ (إلا) أو نحوها معهود في القرآن وغيره حال كونه متصلاً بالإقرار؛ بحيث يعد معه كلاماً واحداً، فلو فصل بينهما بكلام أجنبي أو سكوت .. لم يصح. نعم؛ يغتفر الفصل اليسير بسكتة تنفس أو عي أو تذكر أو انقطاع صوت؛ كما نص عليه في "الأم"، قال في "الروضة" و"أصلها": والاتصال المشروط هنا أبلغ مما يشترط بين الإيجاب والقبول؛ لأنه يحتمل بين كلام الاثنين ما لا يحتمل بين كلام الواحد، ولما ذكر فيها أن تخلل كلام الأجنبي يبطل الاستثناء .. قال: هكذا قاله أصحابنا، وقال صاحبا "البيان" و"العدة": إذا قال: (علي ألف - أستغفر الله - إلا مئة) .. صح الاستثناء عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، لنا أنه فصل يسير، فصار كقوله: (علي ألف - يا فلان - إلا مئة)، وما نقلاه فيه نظر. انتهى، ونظيره في المقيس عليه ظاهر، وأما في المقيس .. فجوابه ما قاله الخوارزمي: أن قوله (أستغفر الله) استدراك لما سبق منه فكان لازماً للاستثماء، فلا يمنع الصحة. ويشترط أيضاً لصحة الاستثناء: قصده قبل فراغ الإقرار، فلا يكفي بعده، وعدم استغراقه

للمستثنى منه؛ كـ (عشرة إلا تسعة)، فإن استغفره كـ (عشرة إلا عشرة) .. لم يصح؛ لأنه رفع لما أثبته، وليس من المستغرق: (له على مال إلا مالاً)، أو (شيء إلا شيئاً)، أو نحوها؛ لإمكان حمل الثاني على أقل من الأول، ومحل ذلك: ما لك يخرجه عن الاستغراق، وإلا .. صح، فلو قال: (له علي عشرة إلا عشرة إلا خمسة) .. لزمه خمسة؛ إذ الكلام بآخره، وآخره يخرجه عن الاستغراق؛ لأن عشرة إلا خمسة وخمسة، ويكون المقر به في مثل ذلك الأخير. ولو قال: (له على عشرة إلا خمسة إلا عشرة)، أو (عشرة إلا خمسة إلا خمسة) .. لزمه خمسة، وألغي ما حصل به الاستغراق، ومهما كان في المستثنى أو المستثنى عنه عددان معطوفان أحدهما على الآخر .. ففي الجمع بينهما وجهان، أصحهما وهو المنصوص في (الطلاق) وبه قطع الأكثرون: لا يجمع؛ لأن واو العطف وإن اقتضت الجمع لا تخرج الكلام عن كونه ذا جملتين من جهة اللفظ الذي يدور عليه الاستثناء. فلو قال: (له على درهم ودرهم إلا درهماً)، أو (له علي درهمان ودرهم إلا درهماً) .. لزمه ثلاثة دراهم، لأن المستثنى منه إذا لم يجمع مفرقه .. لم يلغ، إلا ما يحصل به الاستغراق، وهو درهم. ولو قال: (له علي إلا درهماً ودرهمين) .. لزمه درهمان لذلك. ولو قال: (له علي درهم ودرهم إلا درهماً ودرهماً ودرهماً) .. لزمه ثلاثة؛ لأنه إذا لم يجمع مفرق الاستثناء والمستثنى منه .. كان المستثنى درهماً من درهم، وهو من الإثبات نفي وعكسه؛ لأنه مشتق من الثني وهو الصرف، وإنما يكون الصرف من الإثبات إلى النفي وبالعكس. فلو قال: (له على عشرة إلا تسعة إلا ثمانية) ... وهكذا إلى الواحد .. لزمه خمسة، وطريقة: أن تسقط الأعداد المنفية من المثبتة والباقي هو اللازم، فالأعداد المثبتة هنا ثلاثون والمنفية خمسة وعشرون، والعدد المذكور أولاً إن كان شفعاً .. فالأشفاع مثبتة، والأوتار منفية، أو وتراً .. فبالعكس، وشرطه: أن تكون الأعداد المذكورة على التوالي المعتاد، وأن يتول كل شفع وتراً وبالعكس، أو تخرج المستثنى الأخير مما قبله، وما بقي منه .. يخرج مما قبله .. وهكذا حتى ينتهي إلى الأول. ولو قال: (ليس له عشرة إلا خمسة) .. لم يلزمه شيء؛ لأن (عشرة إلا خمسة) خمسة كما مر، فكأنه قال: (ليس له على خمسة).

ولو قال: (ليس له علي شيء إلا عشرة) .. لزمه عشرة. ولو قال: (له علي شيء إلا خمسة) .. لزمه تفسير الشيء بما يزيد على الخمسة وإن قلت الزيادة؛ لتلزمه تلك الزيادة. ولا فرق كما صححه الشيخان في (باب الأيمان) بين تقديم المستثنى منه على المستثنى وتأخيره؛ كقوله: (له على إلا عشرة مئة)، ويصح الاستثناء من غير الجنس؛ كقوله: (له على ألف درهم إلا ثوباً) أو (عبداً)، ثم عليه أن يبينه بما لا تستغرق قيمته الألف، فإن استغرقته .. بطل الاستثناء. [حكم الرجوع عند الاقرار] قوله: (عن حقنا ليس الرجوع يقبل بل حق ربي فالرجوع أفضل) أي: لا يقبل الرجوع من المقر بما أقر به من حقوق الآدميين، سواء أكانت مالية أم غيرها؛ كالقتل والقذف وغيرهما؛ لأنها مبنية على المشاحة، بل يقبل رجوعه عما أقر به من عقوبة لله تعالى، سواء أكانت حداً أم تعزيزاً؛ كالزنا وشرب الخمر وغيرهما؛ لأنها مبنية على المسامحة، فرجوعه عن إقراره بها أفضل؛ لقصة ماعز، ولهذا استحب لمن ارتكب معصية توجب عقوبة لله تعالى أن يستر على نفسه، بخلاف من قتل أو قذف مثلاً .. فإنه يستحب له أن يقر، بل يجب عليه ليستوفى منه الحق؛ لما في حقوق الآدميين من التضييق، بخلاف عقوبة الله تعالى، أما رجوعه عما أقر به من حق مالي لله تعالى؛ كالزكاة والكفارة .. فلا يقبل. [الإقرار بالمجهول] قوله: (ومن بمجهول أقر قبلا ببانه بكل ما تمولا) أي: يصح الإقرار بمجهول؛ كقوله: (له علي شيء) لأنه إخبار عن حق سابق كما مر، والشيء قد يخبر عنه مبيناً، وقد يخبر عنه مبهماً، إما للجهل به، أو لثبوته مجهولاً بوصية أو نحوها، ويلزمه بيان ما أبهمه فيطالب بتفسيره، فإن امتنع منه .. حبس على الأصح؛ لامتناعه من أداء الواجب عليه؛ كما يحبس من امتنع من أداء الحق، ويقبل تفسيره بكل ما يتمول وإن قل كرغيف وفلس، لأن الشيء صادق عليه. ولو فسره بما لا يتمول، لكنه من جنسه؛ كحية حنطة، أو بما يحل اقتناؤه، ككلب معلم

وسرجين .. قبل في الأصح؛ لأن ذلك يحرم أخذه، ويجب على آخذه رده، ويقبل تفسيره بحق شفعة، أو حد قذف. ولا يقبل تفسيره بما لا يقتنى؛ كخنزير وكلب لا نفع فيه؛ إذ لا يجب رده فلا يصدق به قوله: (علي)، بخلاف ما إذا قال: (له عندي شيء) .. فيصدق به. ولا يقبل تفسيره أيضاً بعيادة ورد سلام؛ لبعد فهمهما في معرض الإقرار؛ إذ لا مطالبة بهما. ولو أقر بمال أو بمال عظيم أو كبير، أو كثير أو جليل، أو أكثر من مال السلطان .. قبل تفسيره بما قل منه وإن لم يتمول؛ كحبة حنطة، ويكون وصفه بالعظم ونحوه من حيث إثم غاصبه وكفر مستحله، وكذا يقبل تفسيره بالمستولدة في الأصح؛ لأنها ينتفع بها وتستأجر وإن كانت لا تباع، ولا يقبل تفسيره بمنفعة وكلب جلد ميتة؛ لأنها لا يصدق عليها اسم المال. وقوله: (له علي كذا) كقوله: (له على شيء)، وقوله: (شيء شيء)، أو (كذا كذا) كما لو لم يكرر؛ لأن الثاني تأكيد، ولو قال: (شيء شيء)، أو (كذا وكذا) .. وجب شيئان يقبل كل منهما في تفسير شيء، لاقتضاء العطف المغايرة، ولو بين المبهم بما يقبل، وكذبه المقر له في أنه حقه .. فليبين جنس المقر به وقدره، وليدع به، والقول قول المقر في نفيه، فإذا بين المقر به مئة درهم، فقال المقر له: (ما لي عليك إلا مئة دينار)، وادعي بها .. حلف المقر أنه ليس عليه إلا مئة درهم. ولو قال: (له علي كذا درهماً)، أو رفع الدرهم أو جره أو سكنه .. لزمه درهم، والمذهب: أنه لو قال: (كذا وكذا درهماً) بالنصب .. وجب درهمان وإن لم ينصبه، أو حذف الواو .. فدرهم في الأحوال. والألف في قول الناظم: (قبلا) و (تمولا) للإطلاق. * * *

باب العارية

باب العارية بتشديد الياء وقد تخفف، وفيها لغة ثالثة: عارة حكاها ابن سيده وغيره، وهي اسم لما يعار. وحقيقتها شرعاً: إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع بع مع بقاء عينه. والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون: 7] قال كثير من المفسرين: المراد: ما يستعيره الجيران بعضهم من بعض، وقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2]، وخبر "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم استعار فرساً من أبي طلحة فركيه)، وخبر أبي داوود وغيره بإسناد جيد: أنه صلى الله عليه وسلم استعار درعاً من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال: أغصب يا محمد؟ وروي: أغصباً؟ فقال: "بل عارية مضمونة". قال الماوردي والروياني وغيرهما: وكانت واجبة أول الإسلام؛ للآية السابقة، ثم نسخ وجوبها فصارت مستحبة؛ أي: أصالة، وإلا .. فقد تجب؛ كإعارة الثوب لدفع حر أو برد، وإعارة الحبل لإنقاذ غريق، والسكين لذبح حيوان محترم يخشى موته، وقد تحرم كإعارة الصيد من المحرم، والأمة من الأجنبي، وقد نكره كإعارة العبد المسلم من كافر. ولها أربعة أركان: معير، ومستعير، ومعار، وصيغة. (تصح إن وقتها أو أطلقا ... في عين انتفاعها مع البقا) (يضمنها وؤن الرد، وفي ... سوم بقيمة ليوم التلف)

(والنسل والدر بلا ضمان ... ولا يعير أول لثاني) (فإن يعر وهلكت تحت يديه ... يضمنها ثان ولم يرجع عليه) فيها خمسة مسائل: [صحة العارية مؤقتة ومطلقة وبيان كل منهما] الأولى: تصح العارية أن أقتها بمدة معلومة، أو أطلقها؛ بأن لم يقيدها بمدة. مثال الثانية: أعاره أرضاً للبناء أو الغراس ولم يذكره مدة .. فللمستعير أن يبني ويغرس فيها ما لم يرجع المعير، فإن رجع .. لم يكن للمستعير البناء والغراس، فلو فعل عالماً بالرجوع .. قلع مجاناً، وعليه تسوية الأرض؛ كالغاصب، أو جاهلاً .. فكذا في الأصح. وما بني وغرس قبل الرجوع إن أمكن رفعه من غير نقص يدخله .. رفع، وإلا: فإن شرط القلع عند رجوعه وتسوية الحفر .. لزمه، فإن امتنع .. فللمعير قاعه مجاناً، أو شرط القلع فقط .. لم تلزمه تسوية الحفر، وإن لم يشرط القلع: فإن اختار المستعير القلع .. قلع وتلزمه التسوية في الأصح، وإن لم يختر القله .. لم يكن للمعير قلعه مجاناً؛ لأنه محترم، والأصح: أن للمعير أن يبقيه بأجرة، أو يقلع ويضمن أرش النقص؛ وهو التفاوت بين قيمته قائماً ومقلوعاً، أو يمتكله بقيمته حين التملك. وإذا اختار ما له اختياره .. لزم المستعير موافقته، فإن أبى .. كلف تفريغ الأرض، فإن لم يختر المعير شيئاً مما ذكر .. لم يقلع مجاناً إن بذل المستعير الأجرة، وكذا إن لم يبذلها في الأصح. والأصح: أن الحاكم يعرض عنهما حتى يختارا شيئاً، وللمعير في مدة التوقف دخولها والانتفاع بها، والاستظلال بالبناء والشجر، ولا يدخلها المتسعير بغير إذن لتفرج، ويجوز للسقي والإصلاح في الأصح، فلو تعطلت منفعة الأرض بدخوله .. لم يمكن إلا بأجرة، ولكل بيع ملكه للآخر ولثالث على الصحيح، والمشتري من المعير كهو فيتخير، أو من المستغير فكهو، وللمشتري الفسخ إن جهل. ولو اتفق المعير والمستعير على بيع الأرض بما فيها بثمن واحد .. جاز في الأصح؛ للحاجة، ثم كيف يوزع الثمن؟ قال المتولي: هو على الوجهين فيما إذا غرس الراهن الأرض المرهونة؛ أي: وهما السابقان في رهن الأم دون الولد، وقال البغوي: يوزع على الأرض

مشغولة بالغراس أو البناء، وعلى ما فيها وحده، فحصة الأرض للمعير، وحصة ما فيها للمتسعير. ومثال الأولى: أعاره أرضاً للبناء، أو الغراس سنة مثلاً .. فللمستعير البناء والغراس في المدة إلى أن يرجع المعير، وله أن يجدد ذلك كل وقت، وبعد انقضاء المدة ليس له إحداث البناء والغراس، وإذا رجع المعير قبل المدة أو بعدها .. فالحكم كما لو رجع في المطلقة. ولو وقف المستعير البناء والغراس .. فليس للمعير التمكل بالقيمة، ويتخير بين الخصلتين الأخيرتين، ولو كان على الشجر ثمر لم يبد صلاحه .. فالتخيير بعد جذاذه؛ كما نقله ابن الرفعة وأقره. قال الإسنوي: لكن المنقول في نظيره من الإجازة التخيير، فإن اختار التملك .. ملك الثمرة أيضاً إن كانت غير مؤبرة، وأبقاها إلى الجذاذ إن كانت مؤبرة. ولو بنى أحد الشريكين أو غرس بإذن الآخر .. فليس له إذا رجع إلا الإبقاء بأجرة، فإن لم يرض بها .. فالأصح: أن الحاكم يعرض عنهما. وإذا أعاره لزراعة، ثم جعل قبل إدراك الزرع: فإن اعتيد قطعه حينئذ .. كلفه، وإلا .. فالصحيح: أن عليه الإبقاء إلى الحصاد، والأصح: أن له الأجرة. ولو عين مدة ولم يدرك فيها؛ لتقصيره بتأخير الزراعة .. قلع مجاناً، أو بلا تقصير .. فكالإعارة مطلقاً، والإعارة للغسيل إن اعتيد نقله .. فكالزرع، وإلا .. فكالبناء. وشرط المعير: صحة تبرعه، فلا تصح من الصبي والسفيه والمفلس، والمكاتب بغير إذن سيده؛ لأنها تبرع بالمنفعة وليسوا أهلاً له، وإنما جعل المفلس أهلاً له في الضمان من جهة تصرفه في الذمة، وهنا المراد: التصرف في العين. نعم؛ قال الإسنوي وغيره: المنجه: جواز إعارتها إذا لم يكن فيها تعطيل اليد عنها؛ كإعارة الدار يوماً، بخلاف الإجارة. انتهى. وملكه المنفعة ولو بإجازة أو وصية أو قف، فيعير مستأجر وموصى له بمنفعة ونحوهما، إلا المستعير كما سيأتي.

وشرط المستعير: صحة التبرع عليه بعقد معه، فلا تصح الإعارة لصبي ونحوه. وشرط الصيغة: أن تدل على الإذن في الانتفاع بلفظ أو غيره؛ كـ (أعرتك)، أو (خذه لتنتفع به)، و (أعرني)، ويكفي فعل من الآخر. [شروط العين المعارة] الثانية: تصح العارية من عين ينتفع بها مع بقائها؛ كالعبيد والدور، فلا تصح فيما لا نفع به؛ كالحمار الزمن، وما فيه نفع لكن باستهلاكه كالأطعمة؛ لانتفاء المعنى المقصود من العارية. ولو دفع شاة لرجل وقال: (ملكتك درها ونسلها) .. فهما موهوبان هبة فاسدة، والشاة مضمونة بالعارية الفاسدة، ولو قال: (أبحت لك درها ونسلها) .. فالأصح في "الروضة" من وجهين في "أصلها" بلا ترجيح: أنها إباحة صحيحة، والشاة عارية صحيحة، قال: وحكم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي بصحة إعارة الشاة للبنها والشجرة لثمرها، قال: فعلى هذا قد تكون العارية لاستفادة عين، وليس من شرطها أن يكون المقصود مجرد المنفعة، بخلاف الإجارة. انتهى. فالشرط في العارية: ألا يكون فيها استهلاك المعار لا ألا يكون استيفاء عين، ولا يشترط تعيين العين؛ كما اقتضاه كلام الناظم، فلو قال: (أعرني دابة)، فقال: (ادخل الإصطبل وخذت ما أردت) .. صحت، بخلاف الإجازة، لأن الغرر لا يحتمل في المعاوضات. ويشترط في المعار أيضاً: أن تكون منفعته قوية، فلا تصح إعارة النقد؛ إذ نفعته التزيين، والضرب على طبعه منفعة ضعيفة فلما تقصد، ومعظم منفعته في الإنفاق والإخراج، وقيل: تصح. قال الشيخان: ويشبه تخصيص الخلاف فيما إذا أطلق وقلنا بجواز الإعارة المطلقة، أما إذا صرح بالتزيين، أي: أو الضرب على طبعه .. فالأسبق إلى الفهم من كلامهم: صحة إعارته؛ لاتخاذه المنفعة مقصداً وإن ضعفت، وبه أجاب في "التتمة". وكونها مباحة، فلا تصح إعارة الصيد لمحرم، ولا الأمة الكبيرة الحسناء لأجنبي؛ لخوف الفتنة.

قال الإسنوي: ويفارق هذا جواز إجارتها، والوصية بمنفعتها له على ما دل عليه عموم كلامهم: بأن المستأجر والموصى له يملكان المنفعة، فيعيران ويؤجران لمن يخلو بها إن امتنع عليهما الانتفاع بأنسفهما، والإعارة إباحة له فقط، وإذا لم يستبح بنفسه .. لم يكن لها فائدة، أما إعارتها من محرم بنسب أو غيره .. فصحيحة، وكذا إعارتها من امرأة وممسوح وزوجها ومالكها؛ كأن يستعيرها من مستأجرها أو الموصى له بمنفعتها. فإن كانت صغيرة لا تشتهي أو قبيحة .. فوجهان، أصحهما في "الروضة": الجواز: ورجح في "الشرح الصغير": المنع فيهما، وقال في "المهمات": الصواب: التفرقة، فتجوز في الصغيرة بخلاف الكبيرة. قال الإسنوي: وسكتوا عن إعارة العبد للمرأة، وهو كعكسه بلا شك. ولو كان المستعير أو المستعار خنثى .. امتنعت احتياطاً، والمفهوم من الامتناع فيه وفي الأمة: الفساد، وهو ما اقتضاه كلامهم وبحثه الرافعي بعد نقله عن الغززال الصحة، وبها جزم ابن الرفعة وعللها بأن المنع في ذلك لغيره؛ كالبيع وقت النداء، وجعل فائدة الصحة عدم وجوب الأجرة. ويكره تنزيهاً إعارة الأصل وإن علا من رفعه للخدمة .. فيكره له قبولها، كما يكره له استئجاره لها؛ لأن استخدامه مكروه. نعم؛ إن قصد باستعارته لذلك ترفهه .. فلا كراهة فيها، بل هي مستحبة؛ كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره، وتكره إعارة عبد مسلم لكافر. وقد تجوز إعارة ما لا تجوز إجارته كالفحل للضراب، والكلب للصيد، وللمستعير الانتفاع بحسب الإذن، فإن أعاره لزراعة حنطة .. زرعها ومثلها ودونها إن لم ينهه، لا ما فوقها، وحيث زرع ما ليس له .. فللمعير قلعه مجاناً، فلو أطلق الزراعة .. صح في الأصح، ويزرع ما شاء. ولو أعاره لزراعة .. لم يكن له بناء ولا غراس، أو لأحدهما .. فله الزراعة وليس له الأخرى في الأصح، وإذا صلح المستعار لجهتين فأكثر .. شرط تعيين المنفعة على الصحيح، وإلا .. فلا. نعم؛ لو قال: (أعرتك لتنتفع به كيف شئت)، أو (لتفعل به ما بدا لك) .. جاز.

[ضمان العارية] الثالثة: يضمن المستعير العارية إذا تلفت؛ أي: لا بالاستعمال المأذون فيه ولو لم يستعملها ولم يفرط؛ لخبر: "العارية مضمونة" رواه أبو داوود وغيره، ولأنه مال يجب رده إلى مالكه فتجب قيمته عند تلفه؛ كالمأخوذة بجهة السوم. نعم؛ إن استعار من مستأجر إجارة صحيحة، أو موصى له بمنفعته، أو نحوهما .. لم يضمنها؛ لابتناه يده على يد غير ضامنة، أما إذا تلفت بالاستعمال المأذون فيه؛ كانسحاق الثوب أو انمحاقه باللبس، وتلف الدابة بالحمل المعتاد، وانكسار السيف في القتال .. فلا يضمنها، إلا في الهدي والأضحية المنذورين، ويضمن المستعير مؤن رد العارية حيث له مؤنة؛ لخبر: "على يد ما أخذته ختى تؤديه" رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه على شرط البخاري، ولئلا يمتنع الناس منها. ويستثنى ما إذا استعار من مستأجر، أو موصى له بالمنفعة، أو نحوهما ممن يستحق المنفعة دون الرقبة استحقاقاً لازماً ورد على المالك، فمؤن الرد على المالك؛ كما لو ورد عليه المعير، بخلاف ما إذا رد على المعير، ويضمن المستام قيمة ما أخذه بجهة السوم ومؤن رده. والرد المبرئ من الضمان: أن يسلم العين لمالكها، أو وكيله في ذلك، فلو رد الدابة للإصطبل، أو الثوب ونحوه للبيت الذي أخذه منه .. لم يبرأ. ولو لم يجد المالك فسلمها لزوجته أو ولده، فأرسلها إلى المرعى فضاعت .. فالمالك إن شاه غرم الراد أو المستلم منه، والقرار عليه. ويضمن كل منهما ما ذكر بقيمة يوم التلف، لا بأقصى القيم، ولا بقيمة يوم القبض؛ لأن اعتبارهما يؤدي إلى تضمين المستعير للأجزاء المنمحقة أو المنسحقة بالاستعمال، والأصح: أنه لا يضمن ذلك؛ لأنه مأذون فيه. وظاهر كلامهم: لزوم قيمة العارية وإن كانت مثلية؛ كالحب والحجر، وهو قضية بناء الروياني والبغوي وغيرهما ضمان المثلي على الخلاف في المتقوم حيث قالوا: إن اعتبرنا أقصى القيم .. أوجبنا المثل، أو قيمة يوم التلف، وهو الأصح .. فالقيمة، وخالف ابن أبي عصرون فضمن المثلي بالمثل على القياس، وجرى عليه السبكي.

[لا تضمن أولاد العارية ولا لبنها] الرابعة: لا يضمن المستعير أولاد العارية ولا لبنها؛ لأنه لم يأخذها للانتفاع بها. [حكم إعارة المستعير العارية لشخص آخر] الخامسة: لا يجوز للمستعير الأول أن يعيرها لثان بغير إذن مالكها؛ لأنه غير مالك للمنفعة، وإنما أبيح له الانتفاع، ولهذا لا يؤجر، أما إذا أذن له المالك في الإعارة .. فإنها تجوز له، فإن يعر الأول بغير إذن المالك، وهلكت تحت يد الثاني .. ضمنها ولم يرجع على الأول وإن جهل كونه مستعيراً؛ لأنه قد دخل على حكم الضمان وقد تلف المستعار تحت يده. وفي نسخه: (والمستعير لم يعر لثاني)، والألف في قول الناظم: (أطلقا) للإطلاق. * * *

باب الغضب

باب الغضب هو لغة: أخذ الشيء ظلماً، وشرعاً: الاستيلاء على حق الغير عدواناً، ذكره النووي في "تحريره" وغيره، قال: ولا يصح قول من قال: (على مال الغير) لأنه يخرج المنافع والكلب والسرجين وجلد الميتة وخمر الذمي، وسائر الاختصاصات. انتهى، وهو مجمع على تحريمه. والأصل فيه قبل الإجماع: آيات، منها قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، وأخبار؛ منها خبر: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم"، وخبر: "من ظلم قيد شبر من الأرض .. طوقه من سبع أرضين" رواهما الشيخان، وإثبات اليد العادية سبب للضمان. وينقسم إلى مباشرة؛ كأخذه من مالكه، وإلى سب؛ كولد المغصوب وزوائده. ولو ركب دابة، ـو جلس على فراش .. فغاصب وإن لم ينقل في الأصح. ولو أزعجه عن داره .. فغاصب لها وإن لم يدخلها، ولو دخلها بقصد الاستيلاء وليس المالك فيها .. فغاصب، وإن كان ولم يزعجه .. فغاصب لنصفها، إلا أن يكون ضعيفاً لا بعد مستوياً على صاحبها. وقد ذكر الناظم شيئاً من أحكامه فقال: (يجب رده ولو بنقله .. وأرش نقصه وأجر مثله) (يضمن مثلي بمثله تلف ... بنفسه أو متلف، لا يختلف) (وهو الذي فيه أجازوا السلما .. وحصره بالكيل والوزن، كما) (لا في مفازة ولا قاه بيم ... في ذا، وفي مقوم: أقصى القيم) (من غضبه لتلف الذي اتغصب ... من نقد أرض تلف فيها غلب)

فيها أربع مسائل: [وجوب رد المغصوب] الأولى: يجب على الغاصب رد المغصوب على المغصوب منه ولو غرم عليه أضعاف قيمته؛ لخبر أبي داوود وغيره: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، فإذا كان داراً أو نحوها .. فيجب الرد بالخروج منها ليتسلمها مالكها، أو منقولاً واحتاج إلى نقل .. وجب رده مع نقله إلى الموضع المغصوب منه؛ كما لو نقل المغصوب المثلي إلى دار أو بلد .. فجب على الغاصب رده، وكذا لو انتقل المغصوب بنفسه، ويجب الرد ولو كان غير مال كالاختصاصات؛ للخبر، ولأنه حق المغصوب منه، ويبرأ بالرد على المالك أو وكيله أو وليه. [وجوب أرش نقص المغصوب على الغاصب] الثانية: يجب على الغاصب أيضاً: أرش نقص المغصوب ولو كان النقص بسبب غير الاستعمال؛ كأن غصب ثوباً أو عبداً، فنقصت قيمته لآفة سماوية، كسقوط عضو من العبد لمرض. [وجوب أجرة مثل المغصوب على الغاصب] الثالثة: يجب على الغاصب أيضاً: أجرة مثل المغصوب ولو فاتت منفعته بغير استعمال؛ وهي أجرة مثله سليماً قبل النقص، ومعيباً بعده. [ضمان المغصوب] الرابعة: يضمن الغاصب للمال المغصوب التالف عنده بما سيأتي، سواء أتلف بنفسه أم أتلفه متلف، لكن يستثنى منه مسائل: منها: ما لو غصب حربي مال مسلم أو ذمي ثم أسلم أو عقدت له ذمة بعد تلفه، وما لو كان النغصوب غير متمول؛ كحبة حنطة، أو رفيقاً وجب قتله لحق الله تعالى بردةى أو نحوها فقتله، وما لو غصب رقيق غير مكاتب مال سيده. فيضمن الغاصب المثلي بمثله؛ لأنه أقرب إلى التالف، وهو؛ أي: المثلي: ما حصره كيل أو وزن وجاز السلم فيه؛ كماء وتراب، ونحاس وحديد، وتبر وسبيكة، ومسك وعنبر، وكافور وثلج وجمد، وقطن ودقيق وحبوب، وتمر وزبيب، وعنب ورطب، وكل فاكهة رطبة، ودراهم ودنانير ولو مكسرة أو مغشوشة.

وخرج بقيد (الكيل أو الوزن): ما بعد؛ كالحيوان، أو يذرع؛ كالثياب، وبقيد (جواز السلم فيه): نحو الغالية والمعجون، وإنما اشترطوا جواز السلم؛ لأنه بعد تلفه يشبه المسلم فيه من جهة ثبوته في الذمة، وشمل التعريف الردي نوعاً، أما الرديء عيباً .. فليس بمثلي؛ لأنه لا يجوز السلم فيه. ومحل ضمان المثلي بمثله: إذا كان له عند المطالبة به قيمة، وإلا؛ كأن أتلف الماء بمفازة وطولب به عند يم؛ أي: بحر، أو شاطئ نهر، أو الجمد بالصيف وطولب به في الشتاء .. ضمنه بقيمته في تلك الحالة، وقد أشار الناظم إلى هذا بقوله: (كما لا في مفازة ولاقاه بيم في ذا) أي: في الماء. ولو تلف في يده والمثل موجود، فلم يسلمه حتى فقد في البلد وحواليه حساً أو شرعاً؛ بأن لم يجده، أو وجده بأكثر من ثمن مثله، أو منعه من الوصول إليه مانع .. فالقيمة، والأصح: أن المعتبر أقصى القيم من الغصب إلى الإعواز. أو مفقود .. فالقياس: وجوب أقصى قيمة من الغصب إلى التلف، ولو وجد المثل بعد تغريم القيمة .. فالأصح: أنه ليس للمالك ردها وطلب المثل، ولا للغاصب رد المثل وطلب القيمة. ولو نقل المغصوب المثلى إلى بلد آخر، فللمالك أن يكلفه رده، وأن يطالبه بقيمته في الحال، فإذا رده .. ردها، فإن تلف في البلد المنقول إليه .. طالبه بالمثل فيما وصل إليه من المواضع، فإن فقد .. فقيمة أكثرها قيمة. ولو ظفر باالغاصب في غير بلد التلف .. فالصحيح: أنه إن لم يكن لنقله مؤنة كالنقد .. طالب بالمثل، وإلا .. فلا. ويضمن الغاصب المتقوم بأقصى قيمة من الغصب إلى التلف؛ لأنه في زمن الزيادة غاصب يجب عليه الرد، فإذا لم يرد .. ضمن الزيادة، ولا عبرة بالزيادة بعد التلف؛ كما لا عبرة بالنقص بالكساد، وسواء أتلف كله أم بعضه. ولو غصب ثوباً قيمته عشرة، ثم عاد إلى درهم، ثم لبسه فعاد يلبسه إلى نصف درهم .. رد

الثوب مع خمسة لنصفه التالف باللب؛ أنها أقصى قيمه، ولو أنلف متقوماً بلا غصب .. ضمنه بقيمة يوم التلف، فإن حصل بتدريج وسراية .. فبأقصى قيم تلك المدة، فإن الإتلاف أبلغ من اليد العادية، وفي الإباق ونحوه؛ كصباغ الثوب يضمن بالأقصى من الغصب إلى المطالبة بالقيمة. وعلم من كلامه: أنه لو تكرر الارتفاع والانخفاض .. لا يضمن كل زيادة، بل بالأقصى، ومحله في الأعيان، أما المنافع .. فتضمن في كل بعض من أبعاض المدة بأجرة مثلها فيه على الأصح. قوله: (من نقد أرض تلف - وفي بعض النسخ: بلد - فيها غلب) أي: وتجب القيمة من نقد أرض تلف للمغصوب فيها ذلك النقد، أي: من نقدها إن كان بها نقد واحد، فإن كان فيها نقدان .. فمن نقدها الغالب؛ لأنها محل وجوب الضمان، واعتبر صاحب "التنبيه" بلد الغصب، قال في "المهمات": واعتبار نقد بلد التلف محمول على ما إذا لم ينقله، وإلا .. فيتجه - كما في "الكفاية" -: اعتبار نقد البلد الذي تعتبر قيمته، وهو أكثر البلدين قيمة، وفي "البحر" عن والده ما يقاربه؛ عملاً بمحل وجوب الضمان الحقيقي. ولا تضمن الخمر ولا تراق على ذمي، إلا أن يظهر شاربها أو بيعها، وترد عليه في غير ذلك إن بقيت العين، وكذا ترد المحترمة إذا غصبت من مسلم. والأصنام وآلات الملاهي لا يجب في إبطالها شيء، والأصح: أنها لا تكسر الكسر الفاحش، بل تفصل لتعود كما قبل التأليف، فإن عجز المنكر عن رعاية هذا الحد لمنع صاحب المنكر .. أبطله كيف تيسر. وتضمن الدار والعبد ونحوهما بالتفويت والفوات تحت يد عادية، ولا تضمن منفعة البضع والحر إلا بالتفويت. والأيدي المترتبة على الغاصب أيدي ضمان، وإن جهل صاحبها الغصب وكانت أيدي أمانة ثم إن علم الغصب .. فكغاصب من غاصب، فيستقر عليه ضمان ما تلف عنده، وكذا إن جهل وكانت يده أصلها يد ضمان؛ كالعارية، وإن كانت يد أمانة؛ كوديعة .. فالقرار على الغاصب، ومتى أتلف الآخذ من الغاصب مستقلاً به .. القرار عليه مطلقاً.

ولو أخذ الحاكم أو أمينه المغصوب من الغاصب فتلف في يده .. لم يضمن، وكذا من انتزعه على مالكه والغاصب حربي، أو عب المغصوب منه غير المكاتب، ولو كانت قيمة المغصوب عند الثاني أقل منها عند الغاصب .. فالمطالب بالزيادة الغاصب، وتستقر عليه. ولو صال المغصوب على شخص فأتلفه، فضمانه على الغاصب مستقراً، فلو كان مالكه .. لم يبرأ الغاصب. ومن تزوج المغصوبة جاهلاً بالغصب فتلفت عنده .. لم يضمنها على المذهب، ولو كان هو المالك ولم يولدها .. لم يبرأ الغاصب. ولو أسند خشية إلى جدار بلا إذن .. ضمن الجدار إن وقع بإسناده، والتالف بوقوعه عليه، وإن وقعت الخشبة وأتلفت، أو كان الجدار له، أو لغيره وقد أذن: فإن وقعت في الحال .. ضمن، وإلا .. فلا. ولو غصب داراً فنقضها وأتلف النقض .. ضمنه وما نقص من قيمة العرصة، وهل يضمن أجرة مثلها داراً إلى وقت النقض أم إلى وقت الرد؟ وجهان، أرجحها: أولهما، أو بهيمة وأنزى عليها فحلاً .. فالولد له ولا شيء عليه للإنزاء؛ لأنه لا يقابل بعوض، فإن نقص .. غرم الأرش. أو جارية ناهداً ثديها، أو شاباً فشاخ، أو أمرد فالتحى .. ضمن النقض. أو ثوباً ونجسه، أو تنجس عنده .. لم يجز له تطهيره، ولا للمالك تكليفه ذلك، فإن غسله .. ضمن النقص، أو رده نجساً .. فمؤنة التطهير، والنقص اللازم منه عليه، وتنجس مائع لا يمكنه تطهيره .. هلاك. ولو طرح في مسجد متاعاً وأغلقه .. لزمه أجرة جميعه، وإن لم يغلقه .. فأجرة ما شغله. والألف في قول الناظم: (السلما) للإطلاق، والواو في قوله: (والوزن) بمعنى (أو)، وقوله: (كما) بالقصر، وهو لغة في الممدود. * * *

باب الشفعة

باب الشفعة بإسكان الفاء وحكي ضمها، وهي لغة: الضم على الأشهر، من شفعت الشيء ضممته، فهي بضم نصيب إلى نصيب، ومنه شفع الأذان، وشرعاً: حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث فيما ملكه بعوض. والأصل فيها: خبر البخاري عن جابر: (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق .. فلا شفعة)، وفي رواية له: (في أرض أو أربعة أو حائط)، وفي رواية لمسلم: (قضى بالشفعة في كل شرك لم يقسم؛ ربع أو حائط، ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء .. ترك، فإن باع ولم يؤذنه .. فهو أحق به)، والمعنى فيه: دفع ضرر مؤنة القسمة، واستحداث المرافق في الحصة الصائرة إليه. و(الربعة): تأنيث الربع، وهو المنزل، و (الحائط): البستان. ولها أربعة أركان: آخذ، ومأخوذ، ومأخوذ منه، وصيغة. وقد ذكر الناظم بعض أحكامها فقال: (تثبت في المشاع من عقار ... منقسم مع نابع القرار) (لا في بناء أرضه محتكرة ... - فهي كمنقول - ولا مستأجره) (بدفع مثل ثمن أو بذل ... قيمته أن بيع، ومهر مثل) (أن أصدقت لكن على الفور اخصص ... للشركا بقدر ملك الحصص) فيها أربع مسائل: [ما تثبت فيه الشفعة وبيان أركانها] الأولى: تثبت الشفعة في المشاع؛ أي: المشترك من عقار، وإن بيع من منقول منقسم -

أي: قسمة يجبر عليها أحد الشريكين بطلب آخر، وهو ما ينفع به بعدها من الوجه الذي كان ينتفع به قبلها، ولا عبرة بالانتفاع به من وجه آخر؛ للتفاوت العظيم بين أجناس المنافع - مع ثابت القرار الذي يندرج في بيعه؛ كأبنية وأشجار ثابتة فيه، وثمرة لها غير مؤبرة عند البيع، وأبواب منصوبة، بخلاف ما لا يندرج فيه كشجر جاف وزرع، فلا تثبت في منقول وإن بيع مع عقار؛ لأنه لا يدوم فلا يدوم ضرر الشركة فيه، ولا في أشجار بيعت مع مغارسها فقط، ولا في جدران مع أسها فقط، ولا في بناء مشترك أرضه محتكرة أو موقوفة أو مستأجرة؛ لأنه في حكم المنقول، ولا في طاحونة وحمام وبئر لا يمكن جعلها طاحونين وحمامين وبئرين؛ لما مر أن علة ثبوت الشفعة ددفع ضرر مؤنة القسمة، واستحداث المرافق في الحصة الصائرة إلى الشفيع؛ كمصعد ومنور وبالوعة. قال الرافعي: وهذا الضرر وإن كان واقعاً قبل البيع لو اقتسم الشريكان، لكن كان من حق الراغب في البيع تخليص شريكه ببيعه منه، فإذا لم يفعل .. سلطه الشرع على أخذه منه. فلو كان بينهما دار صغيرة لأحدهما عشرها فباع حصته .. لم تثبت الشفعة للآخر؛ لأمنه من القسمة؛ إذ لا فائدة فيها فلا يجاب طالبها لتعنته، بخلاف العكس. وأما الآخذ .. فكل شريك في رقبة العقار، سواء فيه المسلم والذمي والحر والمكاتب، حتى لو كان السيد والمكاتب شريكين .. فلكل منهما الشفعة على الآخر، فلا شفعة لمالك المنفعة فقط، ولا لجار ولو ملاصقاً، فلو كان بينهما أرض، ولأحدهما فيها أشجار أو أبنية، فباعها مع حصته من الأرض .. لم تثبت الشفعة إلا في الأرض؛ لعدم الشركة في الأشجار والأبنية. ولو قضى بها حنفي لجار .. لم ينقض في الأصح، ولو قضى بها لشافعي .. لم يعترض، ولو باع داراً وله شريك في ممرها .. فلا شفعة له فيها على الصحيح. وتثبت في الممر إن كان ينقسم، أو كان للمشتري طريق آخر إلى الدار، أو أمكن فتج باب إلى شارع، وإلا .. فلا على الصحيح، وإن باع نصيبه من الممر فقط .. لم تثبت فيه الشفعة. ولو باع ذمي شقصاً لذمي بخمر أو خنزير، وترافعوا إلينا بعد الأخذ بالشفعة .. لم ترده، أو قبله .. لم تحكم بها. ولو باع نصيبه من دار وباقيها لمسجد اشتراه قيمه، أو وهب له ليصرف في عمارته .. فللقيم

أخذه بالشفعة إن رآه مصلحة؛ كما للإمام في شركة بيت المال، ولو اشتري للمسجد شقص .. فللشريك الأخذ بالشفعة. وأما المأخوذ منه .. فهو للمشتري ومن في معناه، وله شروط: الأول: طروء ملكه على ملك الآخذ، فلو اشتريا داراً أو شقصاً منها معاً .. فلا شقعة لأحدهما على الآخر. الثاني: لزومه، فلو باع بشرط الخيار لهما أو للبائع .. فلا شفعة زمن الخيار، أو للمشتري .. فللشفيع الأخذ في الحال في الأظهر. ولو باع شريكه حصته بشرط الخيار له أو لهما، ثم باع الآخر حصته في زمن الخيار بيع بت .. لم تثبت الشفعة للمشتري الثاني على الأول وإن طرأ على ملكه ملك الأول؛ لأن سبب الشفعة البيع وهو متقدم على ملكه. ولو وجد المشتري بالشقص عيباً وأراد رده به، وأراد الشفيع أخذه ويرضى بعيبه .. أجيب الشفيع في الأظهر، ولو رده ثم طلب الشفيع .. أجيب في الأصح وارتفع الرد. الثالث: أن يملكه بمعاوضة؛ كبيع، وأجرة، ورأس مال سلم، ومهر، وعوض خلع ومتعة، وصلح عن دم، فلو ملكه بإرث أو هبة أو وصية .. فلا شفعة. ولو باع الوصي أو القيم شقص الصبي وهو شريكه .. فلا شفعة له، ولو اشتراه له .. فله الشفعة، وللأب والجد الشريكين الشفعة باعا أو اشتريا. ولو كان للوصي يتيمان فباع نصيب أحدهما .. فله أخذه بالشفعة للآخر. ولو وكله المشتري في شراء الشقص .. فله الشفعة، أو في بيعه .. فكذا في الأصح، ولو كان المشتري شريكاً .. فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر في الأصح، ولا يشترط في التملك بها حكم حاكم/ ولا حضور الثمن، ولا المشتري، ولا رضاه. وأما الصيغة: فهو لفظ من الشفيع؛ كـ (تملكت) أو (أخترت الأخذ)، أو (أخذت بالشفعة)، وشبهه، لا (أنا مطالب بالشفعة) في الأصح، وتشترط رؤيته الشقص على المذهب، وليس للمشتري منعه منها، وعلمه بالثمن في التملك لا في الطلب. وتملكه: إما بتسليم العوض إلى المشتري، فإذا امتنع المشتري من القبض .. خلي بينه وبينه، أو رفع إلى القاضي ليلزمه التسلم أو يقبض عنه.

وإما بتسليم المشتري الشقص، ورضاه يكون الثمن في الذمة، إلا أن يبيع شقصاً من دار عليها صفائح ذهب بفضة أو عكسه .. فيجب التقابض في المجلس، ويكفي رضاه بكون الثمن في الذمة دون تسليم الشقص في الأصح. وإما بقضاء القاضي له بالشفعة إذا حضر مجلسه وأثبت حقه، واختار التملك في الأصح، وإذا ملكه الشفيع بغير الطريق الأول .. لم يكن له أن يتسلمه حتى يؤدي الثمن وإن تسلمه المشتري قبل أدائه، وإذا لم يكن الثمت حاضراً وقت التملك .. أمهل ثلاثاً، فإن لم يحضره .. فالجمهور أن الحاكم يفسخ تملكه. ولو اتفق المتبايعان على حط أو زيادة .. فالأصح: اللحوق قبل لزوم العقد، فلو حك كل الثمن .. فلا شفعة. [ما يدفعه الشفيع للمأخوذ منه الشقص] الثانية: يدفع الشفيع للمأخوذ منه الشقص مثل ثمنه إن بيع بمثلي، ثم إن قدر بمعيار الشرع .. دفعه به، وإن قدر بغيره؛ كأن اشتراه بمئة رطل حنطة .. دفع مثله وزناً لا كيلاً في الأصح، فلو فقد المثل وقت الأخذ .. فالقيمة، ويبذل قيمته؛ أي: يوم البيع إن بيع بمقوم، إن بيع بمؤجل .. فالأظهر: أنه مخير بين أن يعجل ويأخذ في الحال، وأن يصبر إلى المحل ويأخذ، ولا يبطل حقه بالتأخير. ولو مات المشتري وحل عليه الثمن .. فالشفيع على خيرته، أو مات الشفيع .. فالخيرة لوارثه، ولو باعه المشتري .. صح، وإن شاء الشفيع .. أخذ بالبيع الثاني، أو نقضه وأخذ بالأول. وإن بيع شقص وغيره .. أخذه بحصته من الثمن ولا خيار للمشتري. وإن جعل الشقص رأس مال سلم .. أخذه بمثل المسلم فيه أو بقيمته، أو صداقاً أو عوض خلع .. أخذه بمهر مثل المرأة، والاعتبار به يوم النكاح ويوم الخلع على الصحيح المعروف، أو متعة .. فيمتعة مثلها، أو أجرة .. فبأجرة مثل، ولو صالح من دين عليه .. فمثل الدين أو قيمته، أو من دم عليه .. فبقيمة الدية يوم الجناية. [ثبوت الشفعة على الفور] الثالثة: تثبت الشفعة على الفور؛ لأنه خيار ثبت بنفسه لدفع الشرر فكان على الفور؛ كالرد بالعيب، فإذا علم شفيع بالبيع .. فليبادر على العادة في طلبها، فلا يكلف العدو ونحوه، فإن

كان مريضاً لا تمكنه المطالبة، أو غائباً من بلد المشتري، أو خائفاً من عدو، أو من حبس ظلماً، أو بدين وهو معسر عاجز عن بينة الإعسار .. فليوكل إن قدر، وإلا .. فليشهد على الطلب، فإن ترك المقدور عليه منهما .. بطل حقه في الأظهر؛ لتقصيره، والحر والبرد المفرط عذر، وكذا خوف الطريق حتى توجد رفقة تعتمد، والأظهر: أنه لا يجب الإشهاد إذا سار طالباً في الحال؛ كما لو أرسل وكيلاً، وليطرد في حاضر خرج للطب. ولو كان في صلاة أو حمام أو قضاء حاجة أو طعام .. فله الإتمام على الصحيح، ولو دخل وقت هذه الأمور .. فله تقديمها، ولا يلزمه تخفيف الصلاة. ولو ترك الشفيع المشتري ورفع إلة القاضي .. جاز، أو أشهد على الطلب، ولم يلاراجع المشتري ولا القاضي .. لم يكف. وإن كان المشتري غائباً .. فالقياس: أن يرفع إلى القاضي ويأخذ؛ كما في البيع. ولو تلاقيا في غير بلد الشقص فأخر إلى بلده .. بطل حقه، ولو أخر وقال: (لم أصدق المخبر) .. لم يعذر إن أخبره عدلان، وكذا ثقة في الأصح، أو من لا يمكن تواطؤهم على الكذب، ويعذر إن أخبره من لا يقبل خبره؛ ككافر وفاسق وصبي. ولو أخبر البيع ألف فترك فبنا بخمس مئة .. بقي حقه، أو بان بأكثر .. فلا. ولو كذب في تعيين المشتري، أو في جنس الثمن أو نوعه أو حلوله، أو تأجيله إلى شهر فبان إلى شهرين، أو في قدر المبيع، أو بالبيع من رجل فبان من رجلبن، أو عكسه .. بقي حقه، أو بمقدار مؤجل فبان حالاً، أو ببيع كله بألف نصفه بألف .. بطل. ولو لقي المشتري فسلم عليه، أو قال له: (بارك الله لك في صفقتك)، أو (بكم اشتريت) .. لم يبطل حقه، بخلاف قوله: (اشتريت رخيصاً). ولو أخر ثم اعتذر بمرض أو حبس أو غيبة .. صدق إن علم العارض، وإلا .. فالمصدق المشتري، أو أنه لم يعلم ثبوت حق الشفعة، أو كونها على الفور .. فكما في الرد بالعيب. ولو باع الشفيع نصيبه أو وهبه ولو جاهلاً بثبوت شفعته .. بطل حقه، أو بعضه عالماً .. فكذا في الأظهر، أو جاهلاً .. فلا في الأصخ. [ثبوت الشفعة للشركاء بقدر حصصهم] الرابعة: تثبت الشفعة للشركاء بقدر ملك حصصهم؛ لأنها من مرافق الملك فتتقدر بقدره؛ ككسب المشتري ونتاجه وثماره.

فلو كانت دار بين ثلاثة لواحد نصفها ولآخر ثلثها ولآخر سدسها، فباع الأول حصته .. أخذ الثاني سهمين والثالث سهماً واحداً، وقيل: بعدد الرؤوس، فيقسم النصف بينهما سواء؛ لأن سبب ثبوتها اسم الشركة، وهو في الجميع سواء كأجرة الصك، واختاره السبكي، ونص الشافعي على كل من القولين، ورجح الأصحاب الأول؛ لما مر، ولأن الشفعة إنما تثبت لدفع مؤنة القسمة كما مر، لا لدفع سوء المشاركة، والمؤنة تختلف باختلاف الحصص فأخذوا بقدرها؛ لأن كلا يدفع عن مفسه ما يلزمه بالقسمة، قال في "المهمات": وهذا خلاف مذهب الشافعي، فإنه لما حكى القولين في "الأم" قال: والقول الثاني: أنهما في الشفعة سواء، وبهذا القول أقول. قال البندنيجي في الكلام على أقوال التقاص: والأصحاب كثيراً ما يخالفون الشافعي لا عن قصد، ولكن لقلة اطلاعهم علة نصوصه، قال في "المطلب": وما قاله الأصحاب هنا عجب. وقول الناظم: (بذل) بسكون الدال المعجمة مصدر بذل بمعنى: أعطى، وقوله: (أن بيع) بدرج الهمزة للوزن. * * *

باب القراض

باب القراض مشتق من القرض وهو القطع، سمي بذلك؛ لأن المالك قطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها، وقطعة من الربح، ويسمى أيضاً: مضاربة؛ لأن كل منهما يضرب له بسهم من الريخ، ومقارضة؛ وهي المساواة؛ لتساويهما في الربح، وهو: أن يدفع لغيره مالاً؛ ليتجر فيه والريح مشترك بينهما. والأص ل فيه: الإجماع، والخاجة، واحتج له القاضي أبو الطيب بقوله تعالى: {وءاخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20]، والماوردي بقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة: 198]، وبأنه صلى الله عليه وسلم ضارب لخديجة بمالها إلى الشام، وأنفذت معه عبدها ميسرة. وله خمسة أركان: عاقد، وصيغة، ورأس مال، وعمل، وربح. وقد أشار الناظم إلى ذلك فقال: (صح بإذن مالك للعامل ... في متجر، عين نفد الحاصل) (وأطلق التصريف أو فيما يعم ... وجوده، لا كثرا بنت وأم) (غير مقدر لمدة العمل ... كسنة، وإن يعلقه بطل) (معلوم جزء ريحيه بينهما ... ويجبر الخشر بربح قد نما) (ويملك العامل ربح حصته ... بالفسخ والنضوض مثل قسمته) [شروط عقائد القراض] أما العقائد - وهو المالك والعامل - فيشترط في المالك: أهلية التوكيل، وفي العامل: أهلية التوكل. ويجوز لولي الطفل والمجنون والمحجور عليه بسفه أن يقارض بمالهم، سواء في الأب

والجد والوصي والحاكم وأمينه، ويصح القراض في مرض الموت، وللعامل الربح المشروط وإن زاد على أجرة المثل غير معتبر من الثلث. ويجوز أن يقارض الواحد اثنين متساوياً أو متفاضلاً إذا بين ما لكل وإن لم يثبت لكل منهما الاستقلال، وأن يقارض الاثنان واحداً، والربح بعد نصيب العامل بينهما على قدر ماليهما، ولو قالا: (لك من نصيب أحدنا الثلث ومن الآخر الربع): فإن أبهما .. لم يجز، وإن عينا وهو يعلم ما لكل .. جاز، وإذا فسد القراض .. نفذ تصرف العامل والربح للمالك، وعليه أجرة المثل للعامل وإن لم يكن ربح، إلا إن قال: (قارضتك وجميع الربح لي) .. فلا أجرة له في الأصح. [صيغة القراض] وأما الصيغة - وهي المراد بقول الناظم: (بإذن مالك) - فنحو قول المالك: (فارضتك)، أو (ضاربتك)، أو (عاملتك على أن الربح بيننا نصفين)، وقبول العامل متصلاً الاتصال المعتبر في سائر العقود، ولو قال: (قارضتك على أن نصف الربح لي) .. لم يصح في الأصح، أو (نصفه لك وسدسه لي) .. صح على الصحيح، وكان بينهما نصفين. [ما يشترط في رأس المال] وأما الصيغة - وهي المراد بقول الناظم: (بإذن مالك) - فنحو قول المالك: (فارضتك)، أو (ضاربتك)، أو (عاملتك على أن الربح بيننا نصفين)، وقبول العامل متصلاً الاتصال المعتبر في سائر العقزد، ولو قال: (فارضتك على أن نصف الربح لي) .. لم يصح في الأصح، أو (نصفه لك وسدسه لي) .. صح على الصحيح، وكان بينهما نصفين. [ما يشترط في رأس المال] وأما رأس المال الحاصل .. فشرطه: أن يكون نقداً، وهو الدراهم والدنانير المضروبة؛ فلا يجوز على المغشوش منها على الصحيح، ولا على الفلوس على المذهب كسائر العروض؛ لأن في القراض غراراً؛ لأن العمل فيه غير مضبوط، والربح غير موثوق به، وإنما جوز للحاجة، فاختص بما يروج بكل حال وتسهل التجارة به. وأن يكون معلوماً، فلا يصح على المجهول القدر؛ للجهل بالربح، ويفارق رأس مال السلم؛ بأن القراض عقد ليفسخ، ويميز بين رأس المال والربح بخلاف السلم. وأن يكون معيناً؛ فلا يصح على أحد هذين الألفين، ولا على دين، ولو في ذمة العامل؛ لأن الدين إنما يتعين بالقبض، بل لو قال لغريمه: (اعزل قدر حقي من مالك)، فعزله ثم قال: (قارضتك عليه) .. لم يصح؛ لأنه لم يمكله. ولو قارضه على دراهم عند غيرع وديعة أو مغصوبة أو غيرهما .. صح؛ لتعينعا في يده، بخلاف ما في الذمة.

ولو قارضه على دراهم غير معينة ثم عينها في المجلس .. جاز؛ كالصرف ورأس مال السلم، كما رجحه في "الشرح الصغير"، وهو ظاهر كلام "الروضة" و"أصلها"، وجزم به صاحب "الأنوار" وابن المقري، ومثله يأتي في مجهول القدر به أولى. فقول الناظم: كغيره: (عين) أي: (ولو في المجلس، وقضيته: أنه لو قارضه على أحد هذين الألفين مثلاً، قم عينه في المجلس .. صح وبه صرح ابن المقري. ولو كان بين اثنين دراهم مشتركة، فقال أحدهما للآخر: (قارضتك على نصيبي منها) .. صح؛ لأن الإشاعة لا تمنع صحة التصرف، وكذا لو خلط ألفين بألف لغيره وقال له: (قارضتك على أحدهما وشاركتك في الأخرى) فقبل، ثم ينفرد العامل بالتصرف في ألف القراض، ويتصرفان في باقي المال. ويشترط فيه: أن يكون مسلماً للعامل ومستقلاً للتصرف فيه؛ فلا يجوز شرط كونه في يد المالك أو مشرفه ليوفي منه ثمن ما اشتراه العامل؛ لأنه قد لا يجده العامل عند الحاجة فيفوت التصرف الرابح. [ما يشترط في العمل] وأما العمل .. فشرطه: أن يكون تجارة؛ بأن يأذن له فيها، أو في البيع والشراء، فلو قارضه ليشتري حنطة فيطحنها ويخبزها، أو غزلاً ينسجه، أو ثوباً يقصره أو يصبغه، أو نخلاً أو دواب أو مستغلات، ويسك رقابها لثمارها ونتاجها وغلاتها والفوائد بينهما، أو شبكة ويصطاد بها والصيد بينهما .. ففاسد، والصيد للصياد، وعليه أجرة الشبكة. ولو اشترى العامل حنطلة وطحنها بلا شرط .. فالأصح: أنه لا ينفسخ القراض، لكن إن استقل العامل بالطحن .. ضمنه، فإن نقص .. لزمه الغرم، فإن باعه .. لم يضمن ثمنه، ولا يستحق بهذه الصناعات أجرة، ولو استأجر عليها .. فالأجرة عليه، والربح بينه وبين المالك. ويشترط ألا يكون العمل مضيقاً عليه بالتعيين والتوقيت، وإليه أشار بقوله: (وأطلق التصريف أو فيما يعم وجوده) بأن يأذن له في التجارة مطلقاً عن قيد التعيين، أو يعين في شيء

يعم وجوده، فإن عين نوعاً يندر؛ كياقوت أحمر، وخيل بلق، وأمة وبنتها أو أختها .. فسد؛ لأنه تصييق يخل بمقصود العقد، وكذا لو أقته أو أقت البيع؛ كـ (قارضتك على ألا تتصرف، أو لا تبيع بعد عام) لإخلال ذلك بمقصود القراض، فقد لا يجد راغباً في العام ونحوه، ولمخالفته مقتضاه، فقد يحتاج العامل إلى تنضيض ما بيده آخراً؛ ليتميز رأس المال، وإلى هذا أشار الناظم بقوله: (غير مقدر لمدة العمل كسنة)، بخلاف ما لو أقت الشراء فقط؛ لحصول الاسترباح بالبيع الذي له فعله بعد المدة، ولتمكن المالك من منعه من الشراء متى شاء، وصورته: (قارضتك على ألا تشتري بعد عام) مثلاً، ولا يحتاج إلى زيادة (ولك البيع) كما هو ظاهر كلام "التنبيه" و"المنهاج" كـ"أصله"، واختاره في "المطلب"، وذكرها في "شرحي الرافعي" و"الروضة" و"الكفاية" للتمثيل لا للتقييد. ويمتنع تعليقه كما نبه عليه بقوله: (وإن يعلقه بطل) للتعليق؛ لأن التأقيت أسهل منه، بدليل احتماله في الإجازة والمساقاة، ويمتنع أيضاً تعليق التصرف بخلاف الوكالة؛ لمنافاته غرض الربح. ولو شرط عمل المالك، أو مشرفه مع العامل .. فسد؛ لعد استقلال العامل حينئذ بالتصرف، واستقلاله به شرط كاستقلاله باليد، ويجوز شرط عمل مملوك المالك معه؛ لأنه مال فجعل عمله تبعاً للمال. نعم؛ إن ضم إلى ذلك ألا يتصرف العامل دونه، أو يكون المال أو بعضه بيده .. لم يصح. ويشترط أن يكون معلوماً بالرؤية أو بالوصف. [شروط الربح] وأما الربح .. فيشترط: كونه معلوماً لهما بالجزئية؛ كالنصف أو الثالث أو الربع، فلو قال: (على أن لك فيه شركة) أو (نصيباً) .. لم يصح، وإن قال: (مثل ما شرط فلان لفعلان): فإن كانا عالمين به .. صح، وإلا .. فلا. وخرج بجزئيته: العلم بقدره، فلو شرط أن لأحدهما درهماً والباقي للآخر، أو بينهما .. لم يصح؛ فقد لا يربح إلا الدرهم فيفوز به أحدهما، وكذا لو شرط لأحدهما نصف الربح إلا درهماً، أو أنه يختص بربح صنف، أو بربح أحد الألفين مختلطين، أو متميزين.

ولو قال: (على أن ثلثه وثلثي باقيه لك) .. صح وإن لم يعلما عند العقد قدره وهو سبعة أتساعه؛ لسهولة معرفته، كما في "الروضة" و"أصلها". ويشترط اختصاصه بالمتعاقدين وشتراكهما فيه، فلو شرطاء لأحدهما أو لثالث .. بطل، وكذا إن شرطا شيئاً منه لثالث، إلا أن يكون مملوك أحدهما؛ لرجوع ما شرطه لمملوكه إليه، ولو قال: (نصف نصيبي لزوجتي مثلاً) .. صح، وهو وعد هبة. [تصرف العامل بالمصلحة] ويتصرف العامل بالمصلحة لا بغبن ونسيئة بلا إذن؛ فإن باع نسيئة بإذن .. وجب الإشهاد، فن تركه .. ضمن، وله البيع بعرض، وشراء معيب فيه ربح، وله الرد بعيب للمصلحة، ولا يمنعه رضا المالك، وإن اقتصت الإمساك .. فلا في الأصح. وحيث ثبت الرد للعامل، فللمالك أولى، وإن اختلفا .. عمل بالمصلحة، وعلى العامل فعل ما يعتاد؛ كنشر الثوب وذرعه وطيه، وإدراجه في السفط وإخراجه، ووزن الخففيف؛ كذهب ومسك وعود، وقبض الثمن وحمله، وحفظ المتاع على باب الحاتوت، وفي السفر بالنوم عليه ونحوه، لا وزن الأمتعة الثقيلة وحملها، ولا نقل المتا من حانوت إلى حانوت، والنداء عليه. ثم لو استأجر على ما هو عليه .. فالأجرة في ماله، وإلا .. ففي مال القراض، فإن باشره .. فلا أجرة له، ولا يتصدق من مال القراض، ولا ينفق منه على نفسه ولو في السفر. [جبر الخسران بالربح الحاصل] قوله: (ويجبر الخسر بربح قد نما) أي: ويجبر النقص الحاصل بالرخص، أو بالمرض والتعيب الحادثين، أو بتلف بعضه بآفة أو غصب أو سرقة، وتعذر أخذ بدله بعد تصرف العامل بيعاً وشراء في الأصح، أو شراء فقط على المذهب .. بربح في المال قد نما؛ أي: زاد ما أمكن؛ لأنه وقاية لرأس المال، ولاقتضاء العرف ذلك، فإن تلف قبل تصرفه .. فمن رأس المال في الأصح؛ لأن العقد لم يتأكد بالعمل، فإن تلف كله بآفة أو أتلفه المالك .. ارتفع القراض، أو أتلفه أو بعضه أجنبي .. أخذ بدله واستمر فيه. وثمار الشجر والنتاج، وكسب الرقيق، والولد، والمهر وبدل المنافع يفوز بها المالك عند الجمهور.

[باب يملك العامل ربع حصته]

[باب يملك العامل ربع حصته] قوله: (ويملك العامل ربح حصته بالفسخ) أي: لعقد القراض، والنضوض مثل قسمته؛ أي: كما بملكه بقسمة مال القراض بعد فسخ عقده، فلا يملكه بظهوره وإن ثبت له به حق يورث عنه، ويتقدم به على الغرماء، وإلا .. لصار شريكاً فيشيع النقص الحادث بعده في جميع المال أصلاً وربحاً، فلما انحصر في الربح .. دل على عدم الملك، ولأن القراض عقد جائز، ولا ضبط للعمل فيه، فلا يملك العوض إلا بتمام العمل؛ كالجعالة، ولا يمكله بالنضوض ولا بالقسمة قبل الفسخ؛ لبقاء العقد، حتى لو حصل بعد ذلك نقص .. جبر بالربح، ولكل فسخه متى شاء ومن غير حضور صاحبه ورضاه. ولو مات أحدهما أو جن أو غمي عليه أو حجر عليه بسفه .. انفسخ، ومتى فسخ .. فليس للعامل الشراء. ثم إن كان المال ديناً .. فعليه الاستيقاء، أو نقداً من جنس رأس المال .. أخذه المالك واقتسما الربح إن كان، أو مكسراً ورأس المال صحاحاً: فإن وجد من يبدلها بوزنها صحاحاً، وإلا .. باعها بنقد غير الجنس، وكذا يعرض في الأصح، واشترى به الصحاح. وإن كان نقداً من غير الجنس، أو عرضاً وهناك ربح .. لزم العامل بيعه إن طلبه المالك، وله بيعه وإن أباه المالك، وليس له تأخيره إلى موسم، ولو ترك العامل حقه ليكفى البيع .. لم تلزمه إجابته في الأصح، وحيث لزمه البيع إنما يلزمه تنضيض رأس المال، وأما الزائد .. فكعرض مشترك؛ فلا يكلف الشريك البيع، وإنما يبيع بنقد البلد. فإن كان من غير جنس رأس المال .. فعل المصلحة؛ فإن باع بنقد البلد .. حصل به رأس المال، فإن لم يكن في المال ربح .. فللمالك تكليفه البيع في الأصح، فإن رضي المالك بإمساكه .. فللعامل البيع على الصحيح إذا توقع ربحاً، ولو أخذ المالك العرض باتفاقهما، ثم ظهر ربح بارتفاق السوق .. فلا شيء للعامل فيه في الأصح. ويصدق العامل في دعوى التلف، فإن ذكر سبباً .. فكما في الوديعة، وفي دعوى الرد في الأصح، وفي أن الشراء له لا للقراض، وكذا العكس على المشهور، وفي قوله: (لم تنتهي عن شراء كذا)، أو (كنس رأس المال كذا)، أو (لا ربح)، أو (لم أربح إلا كذا)، ولو قال: (ربحت كذا)، ثم قال: (غلطت، إنما هو كذا)، أو (تبينت أن لا ربح)، أو (كذبت خوف انتزاع المال) .. لم يقبل، أو (خسرت بعده) .. قبل عند الاحتمال.

ولو ادعى الخسران واحتمل، أو التلف بعد اعترافه بالكذب .. قبل وهو على أمانته، ولو اختلفا في المشروط له .. تحالفا، ثم يفسخ العقد كما في البيع، ويختص الربح والخسران بالمالك، وللعامل أجرة مثل عمله، أو في قدر رأس المال، ولا ربح .. صدق العامل، وكذا إن كان في الأصح. * * *

باب المساقاة

باب المساقاة وهي مأخوذة من السفي المحتاج إليه فيها غالباً؛ لأنه أنفع أعمالها وأكثرها مؤنة، وحقيقتها: أن يعامل غيره على نخل أو شجر عنب لتيعهده بالشقي والتربية على أن الثمرة لهما. والأصل فيها قبل الإجماع: خبر "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر)، وفي رواية: (دفع إلى يهود خيبر نخلها وأرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) والمعنى فيها: أن مالك الأشجار قد لا يحسن تعهدها أو لا يتفرغ له، ومن يحسن ويتفرغ قد لا يملك الأشجار، فيحتاج ذاك إلى الاستعمال وهذا إلى العمل، ولو اكترى المالك .. لزمته الأجرة في الحال، وقد لا يحصل شيء من الثمار ويتهاون العامل، فدعت الحاجة إلى تجويزها. وأركانها خمسة: عاقد، وصيغة، وشجر، وثمر، وعمل. وقد أشار الناظم إليها بقوله: (صحت على أشجار نخل أو عنب ... إن أقتت بمدة فيها غلب) (تحصيل ريعه بجزء علما ... من ثمر لعامل، وإنما) (عليه أعمال تزيد في الثمر ... ومالك يحفظ أصلا كالشجر) (إجارة الأرض ببعض ما ظهر ... من رعها عنه نهى خبر البشر) [عاقدة المساقاة] أما العاقد - وهو المالك والعامل - فشرطه: كما مر في القراض، فتصح لصبي ومجنون، ومحجور عليه بالسفه بالولاية.

[صيغة المساقاة] وأما الصيغة .. فنحو قول المالك: (ساقيتك على هذا النخل أو العنب بكذا)، أو (سلمته إليك لتتعهده بكذا)، أو (تعهده بكذا)، أو (اعمل عليه بكذا)، وهذه الثلاثة تحتمل أم تكون كناية وأن تكون صريحة، قاله في "الروضة" كـ"أصلها"، وقول العامل: (قبلت). [شروط شجر المساقاة] وأما الشجر .. فقد بينه بقوله: (صحت) أي: المساقاة على أشجار نخل أو عنب، أما النخل .. فللخبر السابق، وأما العنب .. فلأنه في معناه بجامع وجوب الزكاة، وتأتي الخرص في ثمرتيهما؛ فجوزت المساقاة فيهما سعياً في تثميرهما، ورفقاً بالمالك والعامل والمساكين. دون غيرهما من البقول والزروع، والأشجار المثمرة وغيرها كالخلاف؛ لعدم وجوب الزكاة مع عدم تأتي الخرص في ثمرها، ومحل المنع: أي تفرد بالمساقاة، فإن ساقى عليها تبعاً لنخل أو عنب .. فالأصح في "الروضة" و"أصلها": الصحة كالمزارعة، ويؤخذ من التشبيه: أنه يعتبر في ذلك عسر إفرادها بالسقي كالمزارعة، وكلام الماوردي يفهمه. وقضية كلامهم: عدم صحتها في شجر العقل، وهو ما صححه في "الروضة"، وقال في "المهمات": الفتوى على الجواز؛ فقد نص عليه كما نقله القاضي أبو الطيب. ويشترط كون الأشجار: مغروسة، فلا يصح أن يساقيه على ودي ليغرسه ويكو نالثمر بينهما؛ كما لو سلمه البذر ليزرعه، ولأن الغرس ليس من عمل المساقاة، فضمه إليها كضم غير التجارة إلى عمل القراض، فلو وقع ذلك وعمل العامل .. فله على المالك أجرة عمله إن توقعت الثمرة في المدة وإلا .. فلا في الأصح. مرتبة للعاقدين على المذهب، فلا تصح على غير المرئي لهما؛ لأنها عقد غرر من حيث إن

العوض معدوم في الحال، وهما جاهلان بقدر ما يحصل وبصفاته، فلا يحتمل ضم غرر آخر. معينة، فلو ساقاه على أحد الحائطين .. لم تصح؛ للجهل بالمعقود عليه، وإنما لم يكتفى بالرؤية والتعيين في مجلس العقد كالقراض؛ لأن هذا عقد لازم فاحتيط له بخلاف القراض. قوله: (إن أقتت) أي: صحت المساقاة على ما ذكر إن أقتت بمدة معلومة؛ لأنها عقد لازم كالإجارة، ولأن لحصول الثمار غاية تنتظر يسهل ضبطها، بخلاف الربح في القراض، فلا تصح إن أقتت بمدة مجهولة؛ كإدراك الثمار. (تحصيل ريعه) أي: يحصل ثمره فيها غالباً، فلو أقتت بمدة لا يحصل ريعه فيها غالباً .. لم تصح؛ لخلوها عن العوض. ولو ساقاه على ودي مغروس: فإن قدر بمدة يثمر فيها غالباً .. صحت، فإن لم يثمر فيها .. لم يستحق شيئاً؛ كما لو قارضه فلم يربح، أو ساقاه على مثمر فلم يثمر، أو لا يثمر فيها غالباً .. لم تصح، ولا أجرة له في الأصح، وإن احتمل الأمران .. لم تصح في الأصح، وله أجرة مثل عمله. [شروط ثمر المساقاة] وأما الثمر .. فيشترط: تخصيصه بهما واشتراكهما فيه، والعلم بالنصيبيين بالجزئية كالقراض، وقد أشار إليه الناظم بقوله: (بجزء علما من ثمر لعامل)، فلو شرط بعض الثمر لغيرهما، أو كله لأحدهما، أو جزء منه للعامل، أو المالك غير معلوم .. فسدت. ولو قال: (على أن الثمر بيننا)، أو (أن نصفه لي)، أو (نصفه لك) وسكت عن الباقي .. صحت في الأولى مناصفة، والثالثة دون الثانية على الأصح في الثلاث، أو على أن ثمرة هذه النخلة، أو النخلات لي، أو لك والباقي بيننا .. فسدت. والأظهر: صحتها بعد ظهور الثمر قبل بدو صلاحه؛ إذ العقد بعد ظهور الثمر أيعد عن الغرر بالوثوق بالثمر الذي منه العوض، فهو أولى بالجواز، أما بعد بدو الصلاح .. فلا تصح؛ لفوات معظم الأعمال. [شروط عمل المساقاة] وأما العمل .. فيشترط فيه: ألا يشرط على العامل ما ليس جنس أعمالها، وأن ينفرج بالعمل واليد في الحديقة.

ولو شرط المالك دخوله عليه وسلم له المفتاح .. جاز على الصحيح، أو أن بعمل معه غلامه ويكون تحت تدبير العامل .. جاز بشرط رؤية الغلام أو وصفه، فإن شرطا نفقته على العامل .. جاز؛ لأن العمل عليه؛ فلا يبعد أن يلتزم مؤنة من يعمل معه، وهل يجب تقديرها أو تحمل على الوسط المعتاد؛ لأنه يتسامح بمثله في المعاملات؟ وجهان، وبالثاني قطع الشيخ أبو حامد، ولو شرطاها في الثمرة .. قال البغوي: لا يجوز؛ لأن ما يبقى يكون مجهولاً، وجوزه صاحب "الإفصاح" لأنه قد يكون من صلاح المال. قال في "الروضة" كـ"أصلها": ويشبه أن يقال: إن شرطاها بوجه معلوم؛ كأن شرطا لكل منهما الثالث، ولنفقة المملوك الثلث. جاز، وكان المشروط للمالك الثلثان، وإن شرطاها بغير تقدير جزء .. فلا، وإن لم يتعرضا لها .. فهي على المالك، وليس للعامل استعمال الغلام في عمل نفسه. [ما يلزم العامل من الأعمال] ثم بين الناظم ما على العامل بقوله: (وإنما عليه أعمال تزيد في الثمر) فعليه كل عمل تحتاج إليه الثمار لزيادتها أو صلاحها، ويتكرر كل سنة، وإنما اعتبرنا التكرار؛ لأن ما لا يتكرر .. يبقى أثره بعد فراغ المساقاة، وتكليف العامل مثل هذا إجحاف به، فمما يجب عليه: السقي وما يتبعه؛ من إصلاح طرق الماء والأجاجبين التي يقف فيها الماء، وتنقية الآبار والأنهار من الحجارة ونحوها، وإدارة الدولاب، وفتح رأس الساقية، وسدها عند السقي على ما يقتضيه الحال، والتلقيح، ثم الطلع الذي يلقح به على الممالك؛ لأنه عين ماله، وإنما يكلف العامل العمل، ومنه تنحية الحشيش المضر، والقضبان المضرة، ومنه تصريف الجريد؛ وهو سعف النخل، وحاصل ما قالوه في تفسيره شيئان: أحدهما: قطع ما يضر به تركه يابساً وغير يابس. والثاني: ردها عن وجوه العناقيد بينها؛ لتقيها الشمس، [وليتيسر] قطعها عند الإدراك، ومنه تعريش شجر العنب حيث جرت العادة به، ووضع حشيش فوق العناقيد عند الحاجة، وكذا حفظ الثمر حتى عن طير وزنبور اعتيد في الأصح، وجذاذه،

وتجفيف اعتيد أو شرطاه، وتهيئة جرين، ونقل الثمر إليه، وتقليبه في الشمس، وتقليب الأرض بالمساحي، وحرثها في الزراعة. [ما يلزم المالك فعله] ثم بين الناظم ما على المالك بقوله: (ومالك يحفظ أصلاُ كالشجر) فعليه ما قصد به حفظ الأصل ولا يتكرر كل سنة؛ كحفر بئر أو نهر، وبناء حيطان ونصب أبواب ودولاب ونحوها، وخراج وقوصرة لطير، وطلع تلقيح، وكل عين تتلف في العمل، وآلو يوقى بها العمل؛ كفأس ومعول، ومنجل ومسحاة، وثيران وفدان في المزارعة وثور دولابها. والأصح: اتباع العرف في وضع الشرك على رأس الجدار، وردم ثلمة يسيرة فيه. ولو شرط بشيء مما على العامل على المالك أو عكسه .. فسدت. ولو عمل العامل ما على المالك بلا إذن .. فلا شيء له، وإلا .. فله الأجرة. والمساقاة لازمة، ويملك العامل حصنه بالظهور. [هروب العامل قبل فراغ العمل] ولو هرب العامل قبل فراغ العمل، وأتمه المالك متبرعاً .. بقي استحقاق العامل، وإلا .. رفع إلى الحاكم، وأثبت عنده المساقاة وهريه ليطلبه، فإن وجده .. أجبره عليه، وإلا .. استأجر عليه من يتمه من ماله، فإن لم يكن له مال .. باع نصيبه، أو بعضه من الثمرة إن بدأ صلاحها، وإلا .. اقترض عليه ولو من بيت المال، ثم يقضيه العامل إذا رجع، أو يقضى من نصيبه من الثمرة بعد الإدراك. ولو وجد أجيراً بمؤجل .. استغنى به، ولو عمل المالك بنفسه، أو أتفق بإذن الحاكم ليرجع: فإن عجز عن الحاكم .. رجع إن أشهد على العمل أو الاستئجار، وأنه فعله ليرجع، ولا فرق في ذلك بين المساقاة على العين أو الذمة، إلا أن له الفسخ في الأولى عند الهرب دون الثانية، والعجز بمرض ونحوه كالهرب. [بطلان المخابرة والمزارعة] ثم بين أن المخابرة والمزارعة باطلتان بقوله: (إجازة الأرض ببعض ما ظهر من ريعها عنه نهى خير البشر) ففي "الصحيحين" عن جابر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)، وفي "صحيح مسلم" عن ثابت بن الضحاك: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى

عن المزارعة) فالمخابرة: إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل، والمزراعة: إجارة الأرض ببعض ما يخرج من ريعها والبذر من المالك، فلو كان بين الشجر أرض خالية من الزرع وغيره .. صحت المزارعة عليا مع المساقاة على الشجر تبعاً له؛ لعسر الإفراد، وعلى هذا حملت معاملة أهل خيبر السابقة بشرط أن يكون عامل المزارعة في عقد، وتقديم المساقاة. والأصح: أن كير البياض كقليله، وأنه لا يشترط تساوي الجزء المشروط وم نالزرع والثمر، وأنه لا يجوز أن يخابر تبعاً للمساقاة؛ لعدم ورود ذلك، والفرق بينها وبين المزارعة: أن المزارعة أشبه بالمساقاة وورد الخبر يصحتها. ومتى أفرد عقد مخابرة أو مزارعة: فإن كان البذر للمالك .. فالغلة له، وعليه التعامل أجره عمله وآلاته ودوابه، أو للعامل .. فالغلة له، وعليه لمالك الأرض أجرة مثلها، أو لهما .. فالغلة لهما، وعلى كل أجرة في صحته. والحيلة في تصحيحهما والبذر لهما: أن يعبر نصف أرضه للعامل، ويتبرع هو بمنفعته وآلاته في حصة الآخر، أو يؤجره نصف الأرض بنصف منفعته وآلته وهو أحوط. وإن كان البذر للعامل .. اكترى منه نصف الأرض بنصف البذر ونصف منفعته وآلته، أو بنصف البذر وتبرع بمنفعته وآلته، أو بصف منفعته وآلته ويقرضه نصف البذر. والألف في قول الناظم: (علما) للإطلاق. * * *

باب الإجازة

باب الإجازة بكسر الهمزة، وحكي فتحها وضمها، وهي لغة: اسم للأجرة، وشرعاً: عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم، فالمعقود عليه المنفعة؛ لأنها التي تستحق بالعقد، ويتصرف فيها المستأجر، وقيل: العين؛ ليستوفي منها المنفعة؛ لإضافة اللفظ إليها غالباً، ولأن المنفعة معدومة، ومورد العقد يجب أن يكون موجوداً. والأصل فيها قبل الإجماع: خبر البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم والصديق استأجر رجلاً من بني الديل)، وخبر مسلم: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة)، والحاجة داعية إليها. ولها أربعة أركان: عاقد، وصيغة، وأجرة، ومنفعة. وقد أشار إليها بقوله: (شرطهما: كبائع ومشتري ... بصيغة من مؤجر ومكتري) (صحتها: إما بأجرة ترى ... أو علمت في ذمة الذي أكترا) (في نحض نفع مع عين بقيت ... مقدورة التسليم، شرعاً قومت) (إن قدرت بمدة أو عمل ... قد علما، وجمع ذين أبطل) (تجوز بالحلول والتأجيل ... ومطلق الأجر: على التعجيل) (تبطل إذ تتلف عين مؤجره ... لا عاقد لكن بغصي خبره) (والشرط في إجارة في الذمم ... تسليمها في مجالس السلم) (ويضمن الأجير بالعدوان ... وبده فيها بد ائتمان) (والأرض إن أجرتها بمطعم ... أو غيره صحت ولو في ألذمم) (لا شرط جزء علما من ربعه ... لزارع ولا بقدر شبعه)

[عاقد الإجارة وشروطه] أما العاقد - وهو المؤجر والمستأجر - فشرطهما كشرط البائع والمشتري؛ من الرشد وعدم الإكراه بغير حق؛ كما مر في البيع، وأعاد الناظم ضمير التثنية عليهما؛ لفهمهما من لفظ الإجارة. [صيغة الإجارة] وأما الصيغة .. فإيجاب من المؤجر؛ كـ (أجرتك هذا سنة بكذا)، أو (أكريتكه سنة بكذا)، أو (ملكتك)، أو (أعطيتك منفعته سنة بكذا)، أو (أجرتك منفعته سنة بكذا) لأن المنفعة مملوكة بالإجازة؛ فذكرها فيها تأكيد كما في: (بعتك رقبة هذا أو عينه)، ولا تنعقد بلفظ البيع في الأصح، ولأنه وضع لتمليك العين فلا يستعمل في المنفعة؛ كما لا يستعمل لفظ الإجارة في البيع، وتنعقد بالكناية مع النية؛ كـ (أسكن الدار شهراً أو سنة بكذا). وقبول من المكتري متصل بالإيجاب؛ كسائر عقود المعاوضات؛ كـ (استأجرته)، أو (اكترتيته)، أو (استأجرت منفعته)، لا (اشتريتها). وهي قسمان: واردة عن العين؛ كإجارة عقار، أو دابة أو شخص معينين، وعلى الذمة؛ كاستئجار دابة موصوفة، أو بأن يلزم ذمته خياطة أو بناء، ولو قال: (استأجرتك لكذا)، أو (لتفعل كذا) .. فإجارة عين في الأصح؛ كما لو قال: (استأجرت عينك)، أو (نفسك) أو (لتفعل بنفسك). [الأجرة وشروطها] وأما الأجرة .. فقد أشار إليها بقوله: (ًحتها) أي: الإجارة؛ إما بأجرة ترى بأن يراها المتعاقدان إن كانت معينة، ولا يضر بالجهل بقدرها؛ كثمن المبيع، أو علمت للمتعاقدين جسناً وقدراً وصفة إن كانت في ذمة الذي اكترى كالثمن، فلو قال: (أجرتك هذا بنفقته) أو (كسوته) .. لم تصح. وأما جواز الحج بالرزق .. فليس بإجازة؛ كما اقتضاه قول "الشرح الصغير" و"الروضة": يجوز الحج بالرزق كما يجوز بالإجارة، بل هو نوع من التراضي والمعونة؛

كما أشار إليه البيهقي، واختاره السبكي، وأما إيجار عمر أرض السواد بأجرة مجهولة .. فلما فيه من المصلحة العامة المؤبدة. ولو أجر داراً بعمارتها، أو دابة بعلفها، أو أرضاً بخراجها ومؤنتها، أو بدراهم معلومة على أن يعمرها من عنده، أو على أن يصرفها في العمارة .. لم تصح؛ للجهالة، ولأن العمل في الصرف مجهول، ويرجع بها إن صرفها، فلو أطلق العقد ثم أذن له في الصرف .. جاز كما جزم به الشيخان، قال ابن الرفعة: ولم يخرجوه على اتحاد القابض والمقبض؛ لوقوعه ضمناً، فإن اختلفا في قدر ما أنفق .. ففي المصدق منهما وجهان، أشبههما في "الأنوار": المتفق إن ادعى محتملاً، ولا يجوز جعل الأجرة شيئاً يحصل بعمل الأجير، فلو استأجره ليسلخ بالجلد، أو يطحن ببعض الدقيق أو بالنخالة، أو لترضع رقيقاً ببعضه بعد الفطام، أو ليقطف الثمر بجزء منه بعد القطاف، أو لينسج الثوب بنصفه .. فسد، وله أجرة مثله. [شروط المنفعة] وأما المنفعة .. فلها شروط: الأول: أن تكون محضة مع بقاء العين؛ بألا تتضمن الإجارة استيفاء عين قصداً، ولا استهلاكها؛ إذ هي عقد يراد به المنافع دون الأعيان، فلو استأجر بستاناً لثماره، أو شاة لنتاج أو صوف أو لبن، أو شمعاً للإيقاد له، أو طعاماً للأكل .. لم تصح؛ لما علم من أن الأعيان لا تملك بالإجارة، وقد تستحق بها الأعيان؛ تبعاً للضرورة أو الحاجة؛ كاستئجار بئر أو قناة للانتفاع بمائها؛ لتعذر بيعه، واستئجار المرأة للإرضاع مطلقاً يتضمن استيفاء اللين والحضانة الصغرى؛ وهي: وضع الطفل في الحجر، وإلقامه الثدي، وعصره له بقدر الحاجة. والأصح: أن الأصل الذي يتناوله العقد فيما ذكر فعلها، واللبن تابع لا عكسه؛ لتعلق الأجرة في الآية بفعل الإرضاع لا باللبن، ولأن الإجارة موضوعة لاستحقاق المنافع، فإذا استحقت عين لضرورة .. فهي تابعة؛ كالبئر تستأجر ليستقى ماؤها، والدار تستأجر وفيها بئر ماء يجوز الاستيفاء منها.

والمراد بالنفع: النفع الحالي؛ فلا يجوز اكتراء الجحش الصغير؛ لأن وضع الإجارة على تعجيل المنافع. الثاني: أن تكون مقدورة التسليم حساً وشرعاً؛ كما في البيع، فلا يصح استئجار آبق ومغصوب، وأخرس للتعليم، وأعمى للحفظ، وحائض أو نفساء لتعليم قرآن أو خدمة مسجد إجارة عين، وكذا من لا يحسن القرآن لتعليمه وإن وسع الوقت لتعلمه قبل التعليم؛ لأن المنفعة مستحقة من عينه، والعين لا تقبل التأخير، وأرضٍ للزراعة لا ماء لها دائم ولا يكفيها المطر المعتاد، فإن كفاها، او كان لها ماء دائم، أو ماء ثلج، أو مطر في الجبل والغالب حصوله .. جاز. ولو استأجر أرضاً للزراعة على شط النيل، أو الفرات ونحوهما، بعدما علاها الماء وانحسر، وكان يكفي لزرعها .. جاز، وكذا قبل انحساره إذا كان مرجواً وقت الزراعة عادة، وإن كانت الأرض غير مرئية على المذهب، أو قبل أن يعلوها، ووثق بحصوله كالمد بالبصرة .. صح، وكذا إن كان الغالب حصوله في الأصح. الثالث: أن تكون متقومة؛ ليحسن بذل المال في مقابلتها، فلا يصح استئجار تفاحة للشم، لأنها لا تقصد له؛ فهي كحبة بر في البيع، فإن كثر التفاح .. فالوجه: الصحة؛ لأنهم نصوا على جواز استئجار المسك والرياحين للشم، ومن التفاح ما هو أطيب من كثير من الرياحين، قاله في "الروضة" و"أصلها"، وفرق في "المهمات" تبعاً للسبكي: بأن المقصود من المسك والرياحين الش، ومن التفاح الأكل دون الرائحة. ولو استأجر دراهم أو دنانير وأطلق .. فباطل، أو للتزيين. فكذا في الأصح، أو الأطعمة للتزيين .. فكذا على المذهب، أو الأشجار للتجفيف أو لظلها أو لربط الدواب بها .. فالوجهان، وقال بعضهم: الأصح هنا: الصحة؛ لأنها منافع مهمة، واستئجار الببغاء للاستئناس قال البغوي: فيه وجهان، وقطع المتولي بالجواز، وكذا ما يستأنس بلونه كالطاووس، أو بصوته كالعندليب. واستئجار البياع على كلمة لا تتعب؛ ككلمة البيع .. باطل وإن روجت السلعة؛ إذ لا قيمة لها، قال محمد بن يحيي: هذا في مستقر القيمة؛ كالخبز واللحم، أما الثياب والعبيد، وما يختلف ثمنه باختلاف المتعاقدين .. فللبائع فيه مزيد نفع، فتجوز الإجارة له وأقره

الشيخان, وبه جزم في "الكفاية", وحيث منعنا ولم يتعب .. فلا أجرة له, وإن تعب بكثرة التردد والكلام .. فله أجرة المثل لا ما تواطأ عليه البياعون. الرابع: حصولها للمستأجر لا للمؤجر; لئلا يجتمع العوضان في ملك واحد, فلو قال: (اكتريت دابتك لتركبها بمئة) .. لم يصحَّ, ولا يصح استئجار مسلمِ لجهاد, ولا لعبادة تجب لها نية, إلا لنحو حج, وتفرقة زكاة, وذبح أضحية, ويصح لفرض كفايةِ, كتجهيز ميت ودفنه, وتعليم قرآن, وكذا إن تعين عليه في الأصح, ولشعارِ كأذان في الأصح, والأجرة للأذان بجميع صفاته في الأصح, لا الإقامة في صلاة فرض, وكذا نفل في الأصح, ولا لقضاء أو تدريسِ, وجَوَّزه الإمام لتعليم معيَّن مسألةَ أو مسائل مضبوطة, وحمل إطلاقهم المنع على غيره, وكذلك يمتنع استئجار من يقرئ. الخامس: العلم بها عيناً وقدراً وصفةَ, كما في البيع, فإذا لم يكن للعين إلا منفعة .. حمل العقد عليها, أو منافع .. وجب البيان, فلا يصح إيجار أحد الشَّيئين مبهماً, لا إيجار ما تعددت منفعته بلا تعيين. نعم, لو قال في إجارة الأرض: (إن شئت فازرع, وإن شئت فاغرس) , أو قال: (أجرتكها لتنتفع بها ما شئت) .. صحَّ, بخلاف ما لو قال: (أجَّرتك الدابة لتحمل عليها ما شئت) للضرر, فلا يصحُّ إيجار العين الغائبة, ولا إيجارٌ بلا تقديرِ للمنفعة, وتقديرها إما بمدة, كسكنى دارِ سنةّ, أو بعملِ كخياطة ذا الثَّواب, ثم قدر يتعين الطريق الأول كاستئجار العقار, فإن منفعته لا تنظبط إلا بالزمان, وكالإرضاع, فإن تقدير اللَّبن لا يمكن, ولا سبيلَ فيه إلا الضَّبط بالزمان, ويجب فيه تعيين الصبي, الاختلاف الغرض باختلافه, وتعيين موضع الإرضاع أهو بيته أم بيتها؟ وقد تتأتى الطريقان كما إذا استأجر عين شخص أو دابة, فيمكن أن يقول في الشخص: (لتعمل لي كذا شهرًا) , أو (تخيط لي هذا الشهر) , وفي الدابة: (لأتردد عليها في حوائجي يوماً) , أو (لأركبها إلي موضع كذا). قوله: (علما) أي: شرط المدة والعمل: أن يكونا معلومين للمتعاقدين. قوله: (وجمع ذين أبطل) أي: أبطل أنت جمع الزَّمان والعمل في الإجازة, كأن استأجره ليَخِيط ذا الثَّوب اليوم, إذ تمام العمل قد يتقدم عن آخر النهار أو يتأخر, فعلم أن (أو) في

قوله: (بمدة أو عمل) للتخيير نحو: تزوَّج عائشةَ أو أختها, لا للإباحة, نحو: جالس الحسنَ أو ابن سيرين, إذ يمتنع الجمع فيه دونها. ] جواز الحلول والتأجيل في الإجارة [ قوله: (تجوز بالحلول والتأجيل) أي: تجوز الإجارة بالحلول, أو التأجيل للأجرة في إجارة العين إذا كانت في الذَّمة, كالثَّمن في البيع, فلا يشترط تسليمها في المجلس, ويجوز الاستبدال عنها, والحوالة بها وعليها, والإبراء منها كالثمن, وسيأتي الكلام على أجرة إجارة الذَّمة, ويجوز التَّأجيل للمنفعة في إجارة الذَّمة, كـ (ألزمت ذمتك الحمل إلى مكة غرة شهر كذا) , وإن أطلقت .. فحالَّةٌ. ولا تؤجل في إجارة العين, كـ (أجرتك الدار سنةَ أولها غداً) , لأن منفعتها في الغد غير مقدورة التَّسليم في الحال, لكن تجوز إجارة العين ليلاً لعملِ لا يعمل إلا نهارًا إذا لم يصرح بالإضافة لأول المدة, وإجارة عين الشَّخص للحجَّ عند خروج الناس وإن كان قبل أشهره, إذا لم يتأت الإتيان به من بلد العقد إلا بالسَّير قبله, أو في أشهره ليحرم من الميقات, وإجارة دارِ ببلد آخر على الأصح عند النووي, وإن كان التسليم لا يتأتَّى إلا بقطع المسافة, ودارِ مشحونة بأمتعة يمكن الاشتغال بنقلها في الحال على الأصح, إن أمكن تفريغها في مدَّةِ لا أجرة لها, وإلا .. فلا. ولو أجَّر داره مثلًا لزيدِ سنةَ, ثمَّ في المدَّة أجرها السنةَ الثانية لغيره .. لم يجز, أو له .. جاز في الأصح, لاتصال المدَّتين. ويصحُّ كراء العقب في الأصح وهو: أن يؤجِّر رجلاً دابة ليركبها بعضَ الطريق, أو رجلين ليركبها هذا زمانًا وذاك زماناً, ويُبيِّن البعضين, ثمَّ يقتسمان, فإن انضبطت الطريقُ عادة, كيوم ركوب ويوم مشي, أو فرسخ وفرسخ .. حُمِلَ العقد عليه, وليس لواحد طلب ركوب ثلاثٍ ومشي ثلاثٍ, وإن لم تكن عادةٌ مضبوطةٌ .. وجب البيان, وإن اختلفا في البدأة .. أقرع بينهما, وإن أكراهما وأطلق واحتملت ركوبَهما معاً .. ركبا, وإلاَّ .. فبالمهايأة. قوله: (ومطلق الأجر على التَّعجيل) أي: ومطلق الأجر, بأن لم يقيد بتعجيل ولا تأجيل .. يُحمل على التعجيل, كالثمن, فإن قيد بتعجيل أو تأجيل .. فهو كما قيَّد, وإلاَّ إذا كان لا يَحتمل التأجيل, بأن كان مُعيَّناً .. فيتعين تعجيله, فلا يجوز تأجيله. ويملك المؤجَّر الأجرة بنفس العقد سواءٌ كانت في الذَّمة أم معينةً.

[بطلان الإجارة بتلف العين لا بموت العاقد] قوله: (تبطل إذ تتلف عين مُؤجرة) أي: تبطل الإجارة إن تلفت العين المؤجَّرة, كدار أو دابة معيَّنة فيها, لفوات محل المنفعة, هذا في الزمن المستقبل بخلاف الماضي, إن كان لمثله أجرة, لاستقراره بالقبض, فيستقر قسطه من المسمَّى باعتبار أجرة المثل, وكما تبطل الإجارة بتلف العين المؤجرة يثبت الخيار بعيبها. وخرج بما ذكر: العين في إجارة الذَّمة فلا تبطل بتلفها, ولا يثبت الخيار بعيبها, بل على المؤجَّر إبدالها, والدابة المسلمة عما في الذمة يثبت للمستأجر فيها حق الاختصاص, حتى يجوز له إيجارها, والأصح: أنه ليس للمؤجر إبدالها, وللمستأجر الاعتياض عن حقه فيها لا قبل تسلمها. قوله: (لا عاقد) أي: لا تبطل الإجارة بموت عاقديها أو أحدهما, بل إن مات المكتري .. خلفه وارثه في استيفاء المنفعة, أو المكري .. تركت العين المكتراة عند المكتري إلى انقضاء المدة, وإن كانت الإجارة في الذمة .. فما التزمه دين عليه, فإن وفت به التركة .. اكترى منها, وإلا .. فإن وفاه الوارث .. تقرر الأجر, أو لم يوفِّه .. فسخ المكتري, وأما انفساخها بموت الأجير المعين .. فلأنه مورد العقد, لا لأنه عاقد. ويستثنى من ذلك صور: منها: ما لو مات البطن الأول من الموقوف عليهم بعد أن أجر الوقف, فإنها تنفسخ, بمعنى أنا نتبين بطلانها فيما بعد موته, لأن المنافع بعد موته لغيره ولا ولاية له عليه ولا نيابة, إذ البطن الثاني لا يتلقى من الأول, بل من الواقف, فلا ينفذ تصرفه في حق من بعده, وصورتها: أن يشترط الواقف النظر لكل بطن في حصته, فلا نظر له على من بعده. ومنها: ما لو كان الناظر هو المستحق, ثم أجر الموقوف بدون أجرة مثله, ثم مات في أثناء المدة. ومنها: ما لو أجر مالك المنفعة بإقطاع, أو وصية ثُمَّ مات. ومنها: ما لو أجَّر رقيقه المعلَّق عتقُه بصفة, فوجدت مع موته. وما لو أجَّر مُدبَّره ثمَّ مات, كما اقتضاه كلام الشيخين هنا, لكنهما نقلا عن المتولي في

(كتاب الوقف) بقاء إجارتهما, قال السبكي: وما ذكراه هنا أصحُّ. قوله: (لكن بغضب خيره) أي: خير الشَّارع المستأجر بغضب العين المؤجَّرة, أو إبقاءها في الإجارة العينية إذا لم تنقض المدَّة فيهما, وإلاَّ .. فتفسخ الإجارة, ومثلُ الغصب في ثبوت الخيار للمستأجر كلُّ نقصٍ بها تتفاوت به الأجرةُ, كمرض الدَّابة, وانكسار دعائم الدار, وانهدام بعض جدرانها, هذا إذا لم ببادر المؤجَّر إلى إزالة ذلك قبل مضي مدَّةٍ لمثلها أجرة, وإلا .. فلا خيارَ للمستأجر, لزوال موجبه, فإن كانت الإجارة في الذَّمة .. فلا خيار ولا انفساخ، بل على المؤجِّر الإبدال. ] ... شرط إجارة الذمة [ قوله: (والشرط في إجارة في الذِّمم تسليمها) أي: الأجرة في مجلس لعقدها وحلولها, كالسَّلم, أي: كرأس مال السَّلم, لأنَّ الإِجارة في الذمة سلَمٌ فى المنافع, وإن لم تعقد بلفظه .. فلا يجوز لمالك هذه الأجرة استبدالٌ عنها, ولا الإبراء منها, ولا الحوالة بها, ولا عليها. ] ... ضمان الأجير بالعدوان [ قوله: (ويضمن الأجير) أي: العين المؤجَّرة بالعدوان, أي: بتعدَّيه فيها, كأن ضرب الدابة, أو نخعَها باللجام فوق العادة, أو أركبها أثقل منه, أو اكتراها لحمل مئة رطل حنطة فحملها مئة شعير, أو عكس, أو لعشرة أقفزةٍ شعيراً فحملها حنطةً، أو نام ليلاً في الثوب أو ألبسه من هو دونه كقصار أو دبَّاغٍ, أو أسكن أضرَّ منه كقصَّارٍ أو حدَّادٍ. قوله: (ويده فيها يد ائتِمان) أي: على ما اكتراه ولو بعد مدة الإجارة, سواءٌ أكان منفرداً وهو المعيَّن, أم مشتركاً وهو الملتزم للعمل في ذمته, إذ ليس أخذه العين لغرضه خاصةً فأشبه عامل القِراض. قوله: (والأرض إن أجَّرتها بمطعم) أي: طعام أو غيره, كذهب أو فضة .. صحَّت, أي: إجارتها, لأن الإجارة كالبيع, فكلُّ ما صحَّ بيعه بالطعام وغيره صحَّت إجارته بذلك ولو كانت في الذمة, وقد علم مما مر أنه يشترط العلم بالأجرة. قوله: (لا شرط جزء) يعني: لا تصحُّ الإجارة بشرط جزءِ معلوم من محل العمل يستحقُه من بعد العمل, كشرط جزء من ريع الأرض لزراعها, وصاعٍ من دقيق الحنطة وجلد الشَّاة لسالخها, ونصف رقيق لمرضعته, لأنَّه-صلى الله عليه وسلم- (نهى عن قفيز الطَّحَّان) رواه

البيهقي بإسنادٍ حسنٍ, وفسروه استئجار الطَّحَّان على طحن الحنطة ببعض دقيقها, ولأنَّه جعل الأجرة ممَّا يحصل بعمل الأجير وهي غير مقدور عليها في الحال, وللجهل بها حينئذ, أما إذا كان قبل العمل, كأن استأجره لطحن الحنطة بصاع منها, أو لإرضاعِ الرَّقيق بنصفه الآن .. فيجوز. قوله: (ولا بقدر شبعه) أي: لا يصحُّ الإجارة بقدر شبع الأجير, ولا بغدائه وعشائه, لأنَّه غير معلوم, وقد علم مما مر أنَّ الأجرة لا بدَّ أن تكون معلومة. قوله: (والأرض) بالرفع والنصب, والألف في قوله: (جزء علما) للإطلاق. * * *

باب الجعالة

بابُ الجُعَالة بتثليث الجيم كما قاله ابن مالك وغيره, وهي لغة: اسم لما يجعل للإنسان على فعل شئ, وكذا الجعل والجعيلة, وشرعاً: التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو مجهول. والأصل فيها: الإجماع, وخبر اللديغ الذي رقاه الصحابي بـ (الفاتحة) على قطيع من الغنم كما في "الصحيحين" ] ... أركان الجعالة وما يشترط في كل منها [ وأركانها: عاقد, وصيغة, وعمل, وجعل؛ كما يؤخذ من كلامه حيث قال: (صِحَّتُهَا مَن مُطلَقِ التَّصَرُّفِ ... بِصِيغَةٍ, وَهيَ بِأَن يَشرِطَ فِي) (رُدُودِ آبِقٍ وَمَا قَد شَاكَلَه ... مَعلُومَ قَدرِ, حَازَةُ مَن عَمِلَه) (وَفَسخُهَا قَبلَ تَمَامِ اُلعَمَلِ ... مِن جَاعِلٍ عَلَيهِ أَجرُ اُلمِثلِ) الأول: العاقد؛ فشرطه: أن يكون مطلق التصرف؛ بأن يكون بالغاً عاقلاً غير محجور عليه بسفهٍ، فلا يصح التزام الصبي وزوائل العقل بما لم يتعدَّ به والسفيه, ولا شيء للراد عليهم. وأما العامل إذا كان معيَّناً .. فيشترط فيه كما في "الروضة" و "أصلها" أهلية العمل فيدخل فيه العبد وغير المكلف؛ كما قاله السبكي وغيره, ويخرج عنه العاجز عن العمل كصغير لا يقدر عليه؛ لأن منفعته معدومة, فأشبه استئجار الأعمى للحفظ, كما قاله ابن العماد. عامّاً أم خاصّاً؛ كقوله: (من ردَّ آبقي-أو آبق زيد مثلاً-فله درهم) , ولا يشترط القبول لفظاً وإن كان العامل معيناً, فلو رد آبقاً أو ضالاً بغير إذن مالكه, أو بإذن بلا التزام .. فلا شيء له, ولو قال لزيد: (إن رددته فلك دينار) , أو (رده ولك دينار) , فرده عمرو .. فلا شيء له,

ولو رده عبد زيد .. استحقه زيد, أو وكيله أو مكاتبه .. فلا شيء لواحد منهم؛ لأن النيابة لا تجري فيها. ولو قال: (من رده .. فله كذا) فرده من لم يبلغه النداء .. لم يستحق وإن اعتقد أن مثل هذا العمل ملزم لا يحبط. ولو قال: (إن رده زيد .. فله كذا) فرده زيد جاهلاً بإذنه .. لم يستحق، ولو التزام غير المالك وقال: (من رد عبد زيد .. فله كذا) .. استحقه الراد على القائل. ولو قال كاذباً: (قال فلان: من رد عبدي .. فله كذا) , فرُد .. لم يستحق الراد لا على المالك ولا على القائل ولو كان صادقاً, فإن كان ممن يعتمد قوله .. استحقه على المالك, وإلا .. فكأن لا خبرَ؛ فلا يستحق على أحد, ولو شهد المخبر على المالك بالإذن وكان عدلاً .. لم يقبل. الثالث: العمل, وهو كل أمر فيه كفلة أو مؤنة؛ كرد آبق أو ضال, أو حج أو خياطة, أو تعليم علم أو حرفة, أو إخبار فيه تعب, فلو قال: (من رد مالي .. فله كذا) فرده من هو في يده .. استحقه, أو (من دلني عليه) فدله من هو في يده .. لم يستحق, أو غيره .. استحق, وما شرط في عمل الإجارة .. شرط في عمل الجعالة, إلا كونه معلوماً. الرابع: الجعل, ويشترط كونه معلوماً, وشروطه إن كان معيناً: شروط المبيع المعين, وإن كان في الذمة: شروط المبيع في الذمة, فلو قال: (من رد عبدي .. فله ثوب) أو (دابة) , أو (أُرضيه) أو (أعطيه شيئاً) .. فسدت واستحق أجرة المثل؛ وكذا لو جعله خمراً أو خنزيراً أو مغصوباً. ولو قال: (فله سلبه) أو (ثيابه): فإن كانت معلومة أو وصفها بما يفيد العلم .. استحقها, وإلا .. فأجرة المثل. ولو قال: (من رده من بلد كذا) .. فله دينار, فرده من نصف الطريق .. استحق نصف المسمى, أو من ثلثه .. فثلثه ... وهكذا, أو من أبعد منه .. فلا شيء للزيادة. وقول الناظم: (شاكله) أي: ماثله. قوله: (حازه) أي: جمعه؛ يعني: مَلَكه؛ أي: العوضَ من عمل العمل جمعيه بنفسه أو بعبده, أو بمعاون له بعد بلوغه النداء, فلا يستحق من لم يتم العمل؛ كأن رد الآبق فمات على باب دار مالكه, أو غُصِب أو هرب؛ إذ لم يحصل شيء من المقصود, بخلاف ما إذا

اكترى من يحج عنه .. فأتى ببعض الأعمال ومات؛ حيث يستحق من الأجرة بقدر ما عمل؛ لأن المقصود من الحج الثواب وقد حصل ببعض العمل. نعم؛ إن وقع العمل مسلَّماً أو ظهر أثره على المحل .. استحق بقسطه من الجعل. والجعالة جائزة من الجانبين ما لم يتم العمل؛ لأنها تعليق استحقاق بشرط كالوصية, فتفسخ بفسخ أحدهما وجنونه وإغمائه وموته, ولا شيء لما عمله بعد موت المالك, ولا أثر للفسخ بعد تمام العمل, فإن فسخ العامل قبل تمامه .. فلا شيء له, إلا أن يكون بسبب زيادة الملتزِم في العمل, وإن فسخ الجاعل .. لزمه أجرة مثل ما قبل الفسخ. * * *

باب إحياء الموات

بابُ إحياء المَوات هو مستحب ويحصل به الملك, و (الموات): الأرض التي لم تعمر, أو عمرت جاهلية, ولا هي حريم لمعمور. والأصل في إحيائه قبل الإجماع: أخبار؛ كخبر: "من عمر أرضاً ليست لأحد .. فهو أحق بها" رواه البخاري, وخبر: "من أحيا أرضاً ميتة .. فهي له, وليس لعرق ظالم حق" رواه الترمذي وحسنه, وخبر: "من أحيا أرضاً ميتة .. فله بها أجر, وما أكلت العوافي منها .. فهو صدقة" رواه النسائي وغيره, وصححه ابن حبان, و (العوافي): طلاب الرزق. (يَجُوزُ لِلمُسِلمِ إحيَا مَا قَدَر ... إذ لاَ لِمِلكِ مُسلِمٍ بِهِ أَثر) (بمَا لإِحيَاءِ عِمَارَةِ يُعَد ... يَختَلِفُ الحُكمُ بحَسبِ مَن قَصَد) (وَمَالِكُ البِئرِ أَوِ العَينِ بَذَل ... عَلَى المَوَاشِي لاَ الزُّرُوعِ مَا فَضَل) (والمَعدِنِ الظَّاهِرِ فَهوَ الخَارِج ... جَوهَره مِن غيرِ مَا يُعَالَجُ) (كَالنِّفطِ وَالكِبرِيتِ ثُمَّ القَارِ ... وَسَاقِطِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ) ] ... شرط المحيي والمحيا [ أي: يجوز للمسلم إحياء ما قدر على إحيائه من كل أرض لم ير بها أثر ملك مسلم؛ من عمارة وغيره, ولا دل عليها دليل؛ كأصل شجر, أذن له فيه الإمام أو لم يأذن. وخرج بقوله: (للمسلم): الكافر, فلا يجوز له ذلك وإن أذن فيه الإمام؛ لما فيه من الاستعلاء, وروى الشافعي رضي الله تعالى عنه خبر: "عاديُّ الأرض لله ولرسوله, ثم هي لكم مني أيها المسلمون"

وللكافر غير الحربي الاصطياد والاحتطاب, والاحتشاش في دار الإسلام. وبقوله: (إذ لا لملك مسلم به أثر) ما كان معموراً, فإن عرف مالكه .. فهو له مسلماً كان أو ذمياً أو لوارثه, فإن لم يعرف: فإن كانت عمارة إسلامية .. فحكمها حكم الأموال الضائعة؛ للإمام حفظها إلى ظهور مالكها, أو بيعها وحفظ ثمنها, أو استقراضه على بيت المال, وإن كانت جاهلية .. ملكها المسلم بإحيائها كالركاز؛ لأنه لا حرمة لملك الجاهلية, وإن كانت الأرض الموات ببلاد كفار دارِ حرب أو غيرها .. فلهم إحياؤها؛ لأنه من حقوق دارهم ولا ضرر علينا فيه, فملكوه بالإحياء كالصيد, وكذا المسلم إن كانت مما لا يدفعون المسلمين عنها؛ كموات دارنا, وإلا .. فليس له إحياؤها؛ كالعامر من دارهم. وقول الناظم: (إحيا) بالقصر؛ للوزن. ] ... ما يحصل به الإحياء [ ويحصل الإحياء بكل ما يعد عمارة للمحيي في العرف, ويختلف الإحياء بحسب غرضِ المحيي وقصدهِ؛ تحكيماً للعرف. فإن أراد مسكناً .. اشترط لحصول الملك التحويط باللبن أو الآجر, أو الطين أو الخشب, أو القصب وتسقيف البعض, ونصب الباب. أو زريبة للدواب , أوحظيرةً لتجفيف الثمار أو لجمع الحطب أو العلف فيها .. اشترط التحويط ونصب الباب لا التسقيف, ولا يكفي نصب سعف وقصب وأحجار من غير بناء, ولا حفر خندق, ولا التحويط في طرف, ونصب الأحجار أو السعف في طرف. أو مزرعةً .. اشترط جمع التراب أو القصب أو الحجر, أو الشوك حولها, وتسوية الأرض بطم المنخفض وكسح المستعلي وحراثتها وتليين ترابها, فإن لم يتيسر ذلك إلا بما يساق إليها .. فلا بد منه؛ لتهيَّأ للزراعة, وترتيب مائها بشق ساقية من نهر, أو حفر بئر, أو قناة إن لم يكفها المطر المعتاد, وإن كفاها .. فلا, وحبس الماء عنها إن كانت من البطائح, ولا يشترط التحويط, ولا إجراء الماء ولا الزراعة. أو بستاناً .. اشترط جمع التراب حول الأرض؛ كالمزرعة إن لم تجر العادة بالتحويط, والتحويط حيث جرت العادة به, وتهيئة ماء كما سبق في المزرعة, ويشترط الغرس.

] ... وجوب بذل الفاضل عن حاجة مالك البئر أو العين [ ويجب على مالك البئر أو العين أو نحوها بذل الفاضل عن حاجته لماشية غيره مجاناً؛ لحرمة الروح بشرط ألاَّ يجد مالكها ماءً آخرَ مباحاً, وأن يكون هناك كلأ ترعاه, وأن يكون الماء في مستقره, وأن يفضل عن مواشيه وزرعه وأشجاره, وألا يتضرر بورود المواشي في زرع أو غيره, ولا يجب بذله للزرع. ويجب على السابق إلى المعدن الظاهر, وهو ما خرج جوهره بلا علاج, وإنما العلاج في تحصيله؛ كالنَّفط بكسر النون أفصح من فتحها, والكِبريت بكسر أوله, وهو عين تجري ويضيء في معدنه, فإذا فارقة .. زال ضوؤه, والقار وهو الزفت, والملح والكحل والجص .. ألاَّ يمنع غيره من الفاضل عن حاجته, قال الإمام: هو ما تقتضيه العادة لأمثاله فيما إذا ضاق نيله, ولو طلب زيادة عليها .. أزعج, فإن جاءا إليه معاً .. أقرع, فإنه لا يملك بإحياء ولا يثبت فيه اختصاص بتحجر ولا إقطاع, وكذا الواصل إلى شيء من المباحات؛ كالصيد والسمك. وما نبت في الموات من الكلأ والحطب, وكذا ما يسقطه الناس ويرمونه رغبة عنه, وما ينتثر من الزرع والثمار من سبق إلى شيء منه .. فهو أحق به من غيره. والمعدن الباطن: ما كان مستتراُ لا يظهر جوهره إلا بالعمل؛ كالذهب والفضة, والفيروزج والياقوت, والعقيق والرصاص, والنحاس والحديد يملكه بالإحياء, ولا يملكه بالحفر والعمل وأخذ النَّيل وإن ملك النَّيل به. ولو أحيا مواتاً فظهر فيه معدن باطن أو ظاهر لم يعلمه عند الإحياء .. ملكه, وإن علمه .. لم يملكه. ] حكم الوقوف في الشوارع ونحوها والجلوس فيها [ ويجوز الوقوف في الشوارع والجلوس؛ للمعاملة والحرف وغيرها إن لم يضيق على المارة, والسابق إلى مكان منها أحق به؛ كالمقطع له إلى أن يفارقه تاركاً لحرفته, أو منتقلا إلى غيره, أو منقطعاً عنه معاملوه, وكذا الأسواق المقامة في كل أسبوع أو شهر مرة, إذا اتخذ فيها

مقعداَ .. كان أحق به في النوب الآتية, والجوال الذي يقعد كل يوم في موضع من السوق يبطل حقه بالمفارقة. ولو جلس في مسجد ليقرأ عليه القرآن أو نحوه, أو ليستفتى .. فالحكم كما في مقاعد الأسواق, أو لصلاة .. لم يصر أحق به في غيرها, وهو أحق به فيها وإن فارقه لعذر. و (ما) في قول الناظم: (من غير ما يعالج) موصول حرفي؛ أي: من غير علاج * * *

باب الوقف

بابُ الوَقف هو لغة: الحبس, يقال: وقفت كذا؛ أي: حبسته, ويقال: أوقفته في لغة رديئة, وشرعاً: حبس مال يمكن الانتفاع به مع عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح. والأصل فيه: خبر مسلم: "إذا مات ابن آدم .. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له", والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف. وأركانه أربعة: واقف, وموقوف, وموقوف عليه, وصيغة؛ وقد أشار إليها فقال رحمه الله: (صحَّتُهُ مَن مَالِكٍ تَبَرَّعَا ... بِكُلَّ عّينٍ جَازَ أّن يُنتَفَعَا) (بهَا مَعَ البَقَا مُنَجَّزاً عَلَى ... مَوجُودٍ ان تَملِيكُهُ تَأَهَّلاَ) (وَوَسَطٌ وَآخِرٌ إِنِ انقَطَع ... فَهوَ إِلى أَقرَبِ وَاقِفٍ رَجَع) (وَالشَّرط فِيمَا عَمَّ: نَفيُ المَعصِيه ... وَشَرطَ (لاَ يُكرَى) اتَّبِع, وَالتَّسوِيَه) (وَالضَّدُّ وَالتَّقدِيمُ وَالتَّأخُّرُ ... نَاطِرُهُ يَعمُرهُ وَيُؤجِرُ) (وَالوَقفُ لاَزِمٌ, وُمِلكُ البَارِي ... أَلوَقفُ, وَالمَسِجدُ كَالأَحرَارِ) ] أركان الوقف وشروطها [ الأول: الواقف, وشرطه: أن يكون مالكاً للتبرع في رقبة الموقوف, فلا يصح من الصبي والمجنون والولي في مالهما, ولا من المحجور عليه بالسفه والفلس, ولا من المستأجر والموصى له بالمنفعة مؤقتاً أو مؤبداً. الثاني: الموقوف, وشرطه: أن يكون عيناً معينة مملوكة قابلة للنقل يحصل منها عين, أو منفعة يستأجر لها غالباً, فلا يصح وقف المنفعة المجردة, ولا وقف الجنين, ولا أحد عبديه, ولا وقف ما لا يملك, ولا وقف الحر نفسه, ولا وقف أم الولد والمكاتب

والموقوف, وآلات الملاهي والكلب المعلم, ولا وقف الطعام والرياحين المشمومة, ولا وقف الدراهم والدنانير. ويصح وقف العقار والمنقول, والشائع والمقسوم, والمصائد والعيون, والآبار للماء, والأشجار للثمار, والبهائم للبن والصوف والوبر والبيض والإنزاء, والعبد والمهر والجحش الصغار, والزَّمِن المرجوَّ الزوال. ] ... شروط الوقف [ وشروط الوقف أربعة: الأول: التنجيز, فلو علق لفظاً كقوله: (إذا قدم فلان فقد وقفت كذا) , أو ضمناً ويسمى منقطع الأول؛ كقوله: (وقفت على من سيولد لي) , أو (على مسجد سيبنى, ثم على الفقراء) , أو (على ولدي- ولا ولد له- ثم على الفقراء) , أو (على نفسي ثم على الفقراء) .. فسد. الثاني: التأبيد؛ بأن يقف على من لا ينقرض؛ كالفقراء والعلماء, والمساجد والقناطر والربط, أو على من ينقرض ثم على من لا ينقرض؛ كزيد ثم الفقراء, فلو قال: (وقفت هذا سنة) مثلاً .. لم يصح, أما منقطع الوسط والآخر .. فسيأتي. الثالث: الإلزام, فلو وقف بشرط الخيار أو أن يبيعه, أو أن يرجع فيه متى شاء, أو يحرم من شاء, أو يزيده أو يقدمه أو يؤخره .. لم يصح. الرابع: بيان المصرف, فلو اقتصر على قوله: (وقفت كذا) , أو (وقفت على من أشاء) .. لم يصح. الركن الثالث: الموقوف عليه: فإن كان شخصاً معيناً, أو جماعة معينين .. فالشرط أن يمكن تمليكه, فيصح على الذمي والمدرسة والمسجد والرباط, ولا يصح على الحربي والمرتد, ولا على الجنين إلا تبعاً, ولا على العبد نفسه, والوقف عليه مطلقاً .. وقف على سيده. ] صيغة الوقف [ الركن الرابع: الصيغة؛ نحو: (وقفت كذا على كذا) , أو (حبسته) , أو (سبّلته) , أو (جعلته وقفاً) أو (أرضي موقوفة) , أو (حبيسة) , أو (محبسة) , أو (مسبلة) , أو

(تصدقت على فلان صدقة محرمة) , أو (محبسة) , أو (حبيسة) , أو (موقوفة) , أو (صدقة لا تباع ولا توهب) , أو (تصديق على فلان ما حيي, فإذا مات .. فعلى الفقراء). ولو قال: (تصدقت) .. لم يحصل به الوقف, إلا أن يضيف إلى جهة عامة؛ كالفقراء وينوي الوقف فيحصل به. وقوله: (جعلت البقعة مسجداً) .. تصير به مسجداً, والأصح: أن الوقف على معين يشترط فيه قبوله؛ نظراً إلى أنه تمليك, فليكن متصلاً بالإيجاب؛ كالهبة. والوقف إن انقطع وسطه؛ كـ (وقفت على أولادي ثم بهيمة- أو رجلٍ أو عبدِ فلانٍ نَفسِهِ- ثم الفقراء) , أو انقطع آخره؛ كـ (وقفت على أولادي) ولم يزد .. فهو إلى الأقربِ لواقفٍ يومَ الانقطاع رجع, فيصير وقفاً عليهم؛ لأن وضع الوقف القربة ودوام الثواب, وأوله موجود صحيح, فيدام سبيل الخير والصدقة على الأقارب أفضل؛ لما فيه من صلة الرحم. والمعتبر قرب الرحم لا الإرث, فيقدم ابن البنت على ابن ابن الابن وعلى ابن العم, ويختص بفقرائهم على الأصح, لكن هل يختص بهم وجوباً أو ندباً؟ وجهان, أصحهما: أولهما؛ وهو قضية كلام الجمهور كما قال الأذرعي, فإن عدمت أقاربه .. فالمنصوص في "البويطي": أن الإمام يصرف ريعه إلى مصالح المسلمين, وقال سليم الرازي والمتولي وغيرهما: يصرف إلى الفقراء والمساكين. ومحل ما ذكره: في منقطع الوسط إذا أمكنت معرفة أمد الانقطاع, أما إذا وقف على زيد ثم رجل مجهول ثم الفقراء .. فإنه بعد زيد يصرف إلى الفقراء, ولا أثر لهذا الانقطاع, صرح بذلك ابن المقري؛ أخداً من تفريع "الروضة" كـ"أصلها" له على القول بصحة منقطع الأول. ] شرط صحة الوقف على الجهة العامة [ والشرط في صحة الوقف على جهة عامة: عدم المعصية؛ بأن كانت جهة قربة؛ كالمساكين والحجاج, والمجاهدين والعلماء والمتعلمين, والمساجد والمدارس, والربط والخانقات والقناطر, أو جهة لا تظهر فيها القربة؛ كالأغنياء. فإن كانت جهة معصية؛ كعمارة الكنائس والبِيَع, وكتابة التوراة والإنجيل .. لم يصح؛ لأنه إعانة على معصية.

] وجوب اتباع شرط الواقف [ واتبع أنت وجوباً شرط الواقف ألاَّ يُكرى الموقوف أصلاً, أو أكثر من سنة مثلاً. وأفتى ابن الصلاح بأنه إذا شرط ألاَّ ي} جر أكثر من سنة, ولا يُورَد عقد على عقد فخرب, ولم تمكن عمارته إلا بإيجاره سنين .. أنه يصح إيجاره سنين بعقود متفرقة؛ لأن المنع حينئذ يفضي إلى تعطيله وهو مخالف لمصلحة الوقف, ووافقه السبكي والأذرعي, إلا في اعتبار التقييد بعقود متفرقة فرداه عليه. وإذا شرط منه الإجارة وكان الوقف على جماعة .. تهايؤوا في السكن, وأقرع بينهم, قاله الجُورِي. واتبع وجوباً شرط الواقف: التسويةَ بين الذكور والإناث, والضد وهو تفضيل الذكور على الإناث أو عكسه, فلو أطلق .. حمل على التسوية, والتقديمَ؛ كتقديم البطن الأول على الثاني, والتأخرَ؛ كمساواته له كسائر شروطه. ] لزوم الوقف [ والوقف لازم, فلا يفتقر إلى قبض ولا إلى حكم حاكم به , ووظيفة ناظره الإجارة والعمارة, وتحصيل ريعه وقسمته, وحفظ أصوله وغلاته على الاحتياط, فإن عين له بعض هذه الأمور .. اقتصر عليه, ويجوز أن ينصب واحداً لبعض هذه الأمور, وآخر لبعض آخر. ولو نصب اثنين .. لم يستقل أحدهما. ورقبة الموقوف ملك الباري سبحانه وتعالى؛ أي: ينفك عن اختصاص الآدمي كالعتق, فلا يكون للواقف ولا للموقوف عليه, ومنافعه ملك للموقوف عليه يستوفيها بنفسه وبغيره, والمساجد والجوامع كالأحرار؛ لأنها تملك ويوقف عليها. والألف في قول الناظم: (ينتفعا) مبنياُ للمفعول أو الفاعل, و (تأهلا) للإطلاق, وقصر (البقا) للوزن, وقوله: (موجود ان) بدرج الهمزة للوزن, وقوله: (وشرطُّ) بالنصب ويجوز رفعه, وقوله: (والشرطُ) مرفوع بالابتداء, وما بعده معطوف عليه وخبره محذوف؛ أي: كذلك؛ أي: اتبع شرط الواقف فيها.

باب الهبة

بابُ الهِبَة هي شاملة للصدقة والهدية, وهي تمليك بلا عوض: فإن ملك محتاجاً أو لثواب الآخرة .. فصدقة, وإن نقله إلى مكان الموهوب له إكراماً له .. فهدية, فكل من الصدقة والهدية هبة ولا عكس, وغيرهما اقتصر فيه على اسم الهبة, وانصرف الاسم عند الإطلاق إليه, ومن ذلك ما سيأتي في كلامه من اشتراط الصيغة فيها. والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: (فَإِن طِبنَ لَكُم عَن شَيءٍ مِنهُ نَفسًا فَكُلُوُه هَنِيئًا مَرِيئَا) , وأخبار؛ كخبر "الصحيحين": "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" أي: ظلفها, وفي البخاري: "لو دعيت إلى كراع .. لأجبت, ولو أهدي إليَّ كراع .. لقبلت" (تصح فيما بيعه قد صحا ... واستثن نحو حبتين قمحا) (بصيغة, وقوله: (أعمرتكا ... ما عشت) أو (عمرك) أو (أرقبتكا)) (وإنما يملكه المتهب ... بقبضه والإذن ممن يهب) (ولا رجوع بعده إلا الأصول ... ترجع إذ ملك الفروع لا يزول) ] ضابط ما تصح فيه الهبة وما يستثنى منه [ تصح الهبة فيما قد صح بيعه من باب أولى, فإن بابها أوسع, ويستثنى منه صور, منها: الموصوف في الذمة يصح بيعه ولا تصح هبته. وما لا يصح بيعه؛ كمجهول ومغضوب وآبق وضال, لغير قادر على انتزاعها .. لا تصح هبته؛ بجامع أنهما تمليك في الحياة, واستثن نحو حبتين من الحنطة من المحقرات؛ فإنها لا يصح بيعها وتصح هبتها. ويستثنى أيضاً صور, منها: لا يصح بيع جلد الأضحية ولحمها, وما تحجره المتحجر, ونوبة إحدى الضرتين للأخرى, وما أخذه المتبسط من طعام الغنيمة وتصح هبة كلٍّ منها,

ولا بيع الكلب ونحوه, وجلد الميتة قبل الدباغ, والدهن النجس, ويصح هبة كلٍّ منها على معنى نقل الاختصاص واليد. ] صيغة الهبة [ تصح الهبة فيما صح بيعه بصيغة وهي الإيجاب من الواهب؛ كـ (وهبتك كذا) , أو (ملكتكه) , أو (أعطيتكه) , والقبول من المتهب باللفظ متصلاً؛ كـ (اتهبت) , و (تملكت) , أو (قبلت) , أو (رضيت) , أو الاستيجاب والإيجاب, أو الاستقبال والقبول, وبقول: (أعمرتك هذه الدار ما عشت) , أو (عمرك) , أو (جعلتها لك عمرك) وإن زاد: (فإذا مت .. عادت إلي) , أو (أرقبتك هذه الدار) , أو (جعلتها لك رقبى) أي: إن مت قبلي .. عادت إليَّ, وإن مت قبلك .. استقرت لك, وسميت رقبى؛ لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه, وفي"الصحيحين" حديث "العمرى ميراث لأهلها" ولا تشترط الصيغة في الهدية ولا في الصدقة. ] ملك الموهوب بالقبض [ وإنما يملك الموهوبَ بمعناه الأعم المتهبُ بقبضه, وإذن واهبه فيه إن لم يقبضه بنفسه لا بالعقد, وإلا .. لما قال أبو بكر لعائشة-رضي الله تعالى عنهما- في ما نحلها في صحته عشرين وسقاً: (وددت أنك حزته أو قبضته, وإنما هو اليوم مال الوارث) رواه مالك, وروي نحوه عن جمع من الصحابة, ولأنه عقد إرفاق كالقرض. ولو كان الموهوب في يد المتهب .. اعتبر في قبضه مضي زمن يتأتى فيه من وقت الإذن قبضه, وكيفية القبض في العقار والمنقول؛ كما مر في (البيع). ولو مات أحدهما قبل القبض .. قام وارثه مقامه, فيتخير وارث الواهب في الإقباض, ووارث المتهب في القبض إن أقبضه الواهب أو وارثه؛ فلا ينفسخ العقد بالموت؛ لأنه يؤول إلى اللزوم كالبيع, بخلاف نحو الشركة والوكالة.

[الرجوع في الهبة] ولا يصح رجوع أحد في هبته بعد قبضها, وإن وهبه لأعلى منه إلا للأصول, سواء أكان أباً أم أماً, أم جداً أم جدة من جهة الأب أو الأم, اتفقا ديناً أو اختلفا, قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية, أو يهب هبة فيرجع فيها, إلا الوالد فيما يعطي ولده» "رواه الترمذي والحاكم وصححاه, والوالد يشمل كل الأصول إن حمل اللفظ على حقيقته ومجازه, وإلا ... ألحق به بقية الأصول, بجامع أن لكل ولادةً كما في النفقة, وحصول العتق وسقوط القود. وأما خبر: «من وهب هبة .. فهو أحق بها, ما لم يثب منها» .. فيحمل على الأصول. وللرجوع شروط: منها: عدم زوال ملك الفرع المتهب عن الموهوب, فلو زال وعاد .. لم يكن للأصل الرجوع فيه؛ لأن ملكه الآن غير مستفاد منه. وألاَّ يتعلق به حق يمنع البيع؛ كالكتابة. وأن يكون الرجوع منجزاً. وأن يكون باللفظ لا بالفعل؛ كـ (رجعت فيما وهبت) , أو (ارتجعت) , أو (نقضت الهبة) , أو (أبطلتها). والألف في قوله: (صحا) , و (أعمرتكا) , (أرقبتكا) للإطلاق. * * *

باب اللقطة

بابُ اللُّقَطة بضم اللام وفتح القاف وإسكانها, ويقال: لقاطة بضم اللام, ولقط بفتحها بلا هاء, وهي لغة: الشيء الملتقط, وشرعاً: ما وجد من حق ضائع لا يعرف الواجد مستحقه. والأصل فيها قبل الإجماع: "خبر الصحيحين" عن زيد بن خالد الجهني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن لقطة الذهب أو الورق فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة, فإن لم تعرف .. فاستنفقها, ولتكن وديعة عندك, فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر .. فأدها إليه, وإلا .. فشأنك بها» , وسأله عن ضالة الإبل فقال: «مالك ولها؟ ! فإن معها حذاءها وسقاءها, ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» , وسأله عن الشاة فقال: «خذها, فإنما هي لك, أو لأخيك أو للذئب». وفي الالتقاط معنى الأمانة والولاية؛ من حيث إن الملتقط أمين فيما التقطه, والشرع ولاَّه حفظه كالولي, وفيه معنى الاكتساب؛ من حيث إن له التملك بعد التعريف, والمغلب من المعنيين الثاني؛ لصحة التقاط الفاسق والذمي والصبي. (وأخذها للحر من موات ... أو طرق أو مسجد الصلاة) (أفضل إذ خيانة قد أمنا ... ولا عليه أخذها تعينا) [حكم أخذ اللقطة] أي: وأخذ اللقطة للحر من موات, أو طرق في دار الإسلام, أو دار حرب فيها مسلم, أو دخلها الملتقط بأمان, أو مسجد الصلاة .. أفضل من تركها؛ إذ خيانة لنفسه فيها قد أمنها؛ بأن وثق بأمانة نفسه, بل تركها حينئذ مكروه, وليس أخذها متعيناً عليه؛ أي: إنما يكون الالتقاط أفضل إذا لم يتعين عليه أخذها؛ بأن كان هناك من يأخذها ويحفظها, فإن لم يكن هناك غيره .. وجب عليه أخذها؛ كما في الوديعة, بل هو هنا أولى؛ لأن الوديعة تحت يد صاحبها.

ولا يستحب لغير واثق بأمانة نفسه، ويجوز له، ويكره لفاسق؛ لئلا تدعوه نفسه إلي الخيانة، ويستحب الأشهاد على الالتقاط. ويصح التقاط الصبي الفاسق والذمي في دار الإسلام، وتنزع منهما وتوضع عند عدل، وينزع الولي لقطة الصبي ويعرف، ويمتلكها للصبي إن رأى ذلك حيث يجوز الاقتراض له، ويصح التقاط المبغض لا الرقيق بغير إذن سيده، إلا المكاتب. والألف في قول الناظم: (أمنا) و (تعينا) للإطلاق. [ما تجب معرفته في اللقطة] (يعرف منها الجنس والوعاء ... وقدرها والوصف والوكاء) أي: يعرف بفتح الياء الملتقط ندباً جنس اللقطة، أذهب هي أم فضة أم ثياب، ووعاءها من جلد أو خرقة أو غيرها، وقدرها بوزن أو عدد، ووصفها؛ كهروية أو مروية، ووكاءها؛ أي: خيطها المشدود به؛ لما في خبر (الصحيحين) السابق من الأمر بمعرفة عفاصها ووكائها، وقيس على معرفة خارجها فيه معرفة داخلها، وذلك ليعرف صدق واصفها. (وحفظها في حرز مثل عرفا ... وإن يرد تمليك نرز عرفا) (بقدر طالب وغيره سنه ... وليتملك إن يرد تضمنه) (إن جاء صاحب، وما لم يدم ... كالبقل باعه، وإن شا يطعم) (مع غرمه، وذو علاج للبقا ... كرطب يفعل فيه الاليقا) (من بيعه رطباً، أو التجفيف ... وحرموا لقطا من المخوف) (لملك حيوان منوع من أذاه ... بل الذي لا يحتمي منه كشاه) (خيره بين أخذه مع العلف ... تبرعا أو إذن قاض بالسلف) أو باعها وحفظ الأثمانا ... أو أكلها ملتزما ضمانا) (ولم يجب إفرازها، والملتقط ... في الأوليين في تخيير فقط)

فيها خمس مسائل: [وجوب حفظ اللقطة في حرز المثل] الأولى: حفظ اللقطة في حرز مثلها باعتبار العرف واجب على الملتقط أبداً إن أخذها للحفظ، وهي أمانة في يده، ولو دفعها للقاضي .. لزمه القبول، ولا يجب التعريف في هذه االحالة؛ لأنه إنما يجب لتحقيق شرط التمللك، لكن صحح النووي في (شرح مسلم) وجوبه، وقواه في "زوائد الروضة" واختاره؛ لئلا يكون كتماناً مفوتاً للحق على صاحبه، وعلى هذا يضمن بتركه. [تعريف اللقطة إذا أراد تملكها] الثانية: إن يرد الملتقط تمليك ملتقط نزر؛ أي: قليل متمول .. عرفه زمناً يطن أن فاقده لا يعرض عنه فيه غالباً، ويختلف ذلك باختلاف المال. قال الروياني: فدانق الفضة يعرف في الحال، ودانق الذهب يعرف يوماً أو يومين أو ثلاثة، أما القليل غير المتمول؛ كحبة الحنطة والزبيبة .. فلا يعرف، ولواجده الاستبداد به، فعن عمر رضي الله عنه: أنه رأي رجلاً يعرف زبيبة فضربه بالدرة وقال: (إن من الورع ما يمقته الله). وقدر بعضهم القليل المتمول بما دون نصاب السرقة، والأصح: لا يتقدر به، بل هو ما غلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه، ولا يطول طلبه له غالباً، ويعرف غير القليل وجوباً سنة ولو مفرقة؛ للحديث، ويقاس على ما فيه غيره، وليست على الاستيعاب، بل على العادة يعرف أولاً كل يوم مرتين طرفي النهار، ثم كل يوم مرة، ثم كل أسبوع مرة أو مرتين كما في (المحرر) وغيره، ثم في كل شهر بحيث لا ينسي أنه تكرار لما مضي، وسكت الشيخان عن بيان المدد في ذلك، وفي (التهذيب) ذكر الأسبوع في المدة الأولى، ويقاس بها الثانية.

ولا يجب اتصال السنة بالالتقاط؛ لإطلاق الخبر، قال الإمام: لكن يعتبر أن يبين في التعريف زمن الوجدان؛ لينجبر التأخير المنسي. ويستحب أن يذكر الملتقط بعض أوصافها في التعريف ولا يستوعبها؛ لئلا يعتمدها الكاذب، ولو التقطهما اثنان .. عرفها كل واحد منهما نصف سنة. وتعريفها يكون في الأسواق، وأبواب المساجد عند خروج الناس من الجماعات، ونحوها من مجامع الناس في بلد الالتقاط، أو قريته أو أقرب البلاد إلي موضعه من الصحراء، وإن جازت به قافلة .. تبعهم وعرف، ولا يعرف في المساجد؛ كما لا تطلب اللقطة فيها، قال الشاشي: إلا ـأن الأصح: جواز التعريف في المسجد الحرام، بخلاف بقية المساجد، قال في "المهمات": وهو ظاهر في تحريم بقية المساجد، وليس كذلك؛ فالمنقول الكراهة، وقد جزم به في "شرح المهذب"، وقال ابن العراقي: المعتمد: التحريم، فهو ظاهر كلامهم، وبه صرح القاضي والماوردي. انتهى. وله أن يعرفها بنفسه ونائبه، وليس له أن يسافر بها، ولا أن يسلمها لغيره بلا ضرورة إلا بإذن الحاكم، فإن فعل .. ضمنها، ويعتبر كون المعرف مكلفاً غير مشهور بالخلاعة. [تملكها بالقول إذا لم يجد مالك اللقطة بعد تعريفها] الثالثة: إذا عرفها بعد قصد تملكها، ولم يجد مالكها .. تملكها بالقول؛ كقوله: (تملكتها) وقصد أن يضمنها لصاحبها إن جاء، وتكون قرضاً عليه يثبت بدلها في ذمته. وإذا تملكها وظهر مالكها وهي باقية بحالها واتفقا على ردها أو رد بدلها .. فذاك ظاهر، فإن أرادها المالك وأراد العدول إلي بدلها .. أجيب المالك؛ لما مر في الحديث. ولو ردها الملتقط .. لزم المالك قبولها، وإن تلفت .. غرم مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها إن كانت متقومة يوم التملك؛ فإنه يوم دخولها في ضمانه، وإن نقصت .. فله أخذها مع الأرش؛ لأن الكل مضمون فكذا البعض، وله العدول إلي بدلها سليمة.

ولو أراد الملتقط ردها مع الأرش، وأراد المالك الرجوع إلي البدل .. أجيب الملتقط، وإن زادت .. أخذها بزيادتها المتصلة دون المنفصلة، ولو ظهر المالك قبل التملك .. أخذها بزوائدها المتصلة والمنفصلة. وإذا ادعاها شخص، ولم يصفها ولا بينة له بها .. لم تدفع إليه، إلا أن يعلم الملتقط أنها له .. فليزمه الدفع إليه، وإن وصفها وظن الملتقط صدقة .. جاز الدفع إليه ولا يجب، والقول قوله بيمينه في أنه لا يلزمه التسليم، أو لا يعلم أنها له. فإن نكل وحلف المدعي .. وجب دفعها له، فإن دفعها إليه وأقام آخر بينة بها .. حولت إليه عملاً بالبينة، فإن تلفت عنده .. فلصاحب البينة تضمين الملتقط والمدفوع إليه والقرار عليه. والكلام في لقطة غير حرم مكة، أما لقطته .. فلا تحل إلا أبداً لا للتملك. [حكم اللقطة التي لا تدوم] الرابعة: الملتقط الذي لا يدوم؛ بأن كان يسرع فساده؛ كالبقل والبطيخ الأصفر، والهريسة والرطب الذي لا يتتمر: فإن شاء .. باعه؛ استقلالاً إن لم يجد حاكماً، وبإذنه إن وجده، وعرفه بعد بيعه ليتملك ثمنه بعد التعريف، وإن شاء .. تملكه في الحال، وأكله وغرم قيمته، سواء أو وجده في مفازة أم عمران، ويجب التعريف فيه. وأما المفازة: فقال الإمام: الظاهر: أنه لا يجب؛ لأنه لا فائدة فيه، والذي يبقى بعلاج كرطب يتجفف .. يفعل فيه وجوباً الأليق؛ أي: الأصلح لصاحبه من بيعه رطباً وحفظ ثمنه وتجفيفه، ثم إن تبرع بمؤنته .. فذاك، وإلا .. فيباع بعضه وينفق على تجفيف باقيه، والفرق بينه وبين الحيوان حيث يباع جميعه كما سيأتي؛ إذ النفقة تتكرر، فيؤدي إلي أن الحيوان يأكل نفسه بنفقته. [تحريم التقاط الحيوان الممتنع من المكان المخوف] الخامسة: حرم الأئمة لقطاً من المكان المخوف؛ كالمفازة لأجل تملك حيوان ممتنع من أذاه من صغار السباع؛ كالذئب والنمر والفهد بقوته؛ كبعير وفرس، أو بجريه كأرنب وظبي، أو بطيرانه كحمام؛ لأنه مصون بالامتناع عن أكثر مستغن بالرعي إلي أن يجده صاحبه لتطلبه له، فمن أخذه للتملك .. ضمنه، ولا يبرأ من الضمان برده إلي موضعه، فإن دفعه إلي القاضي .. برئ.

وخرج بقوله: (لملك): التقاطه للحفظ، فيجوز وإن لم يكن الملتقط قاضياً؛ لئلا يأخذه خائن فيضيع، وبقوله: (من المخوف): التقاطه من بلد أو قرية، أو موضع قريب منها، فيجوز للتملك؛ لئلا يضيع بامتداد اليد الخائنة إليه، ولا يجد ما يكيفه، بخلاف المفازة، فإن طروق الناس بها لا يعم. ولو وجد في زمن نهب وفساد .. جاز التقاطه للتملك في المفازة والعمران، بل الذي لا يحتمي؛ أي: لا يمتنع منها؛ أي: من صغار السباع؛ كشاة وعجل، وفصيل، وكسير من إبل أو خيل .. يجوز التقاطه للتملك في العمران والمفازة؛ صيانة له عن الخونة والسباع. وخيره؛ أ]: ملتقطة من مفازة بين أخذه وإمساكه عنده متبرعاً بالعلف؛ أي: بفتح اللام، فإن لم يتبرع به .. استأذن القاضي ليأذن له بالسلف أي: في الإنفاق عليه بالسلف منه أو من غيره؛ ليرجع به على مالكه، فإن لم يجد حاكماً .. أشهد، أو باعها؛ أي: اللقطة استقلالا إن لم يجد حاكماً، وبإذنه في الأصح إن وجده، وحفظ ثمنها وعرفها، ثم تملكه، وخيره بين أكلها متملكاً لها ملتزماً ضمانها؛ بأن يغرم قيمتها إن ظهر مالكها. ولا يجب بعد أكلها تعريفها في الظاهر للإمام من الوجهين؛ لما مر، والخصلة الأولى أولى من الثانية، والثانية أولى من الثالثة، ولم يجب عليه إن أكلها إفراز ثمنها؛ لأن ما في الذمة لا يخشى هلاكه، فإن أفرزه ... كان أمانة تحت يده. والملتقط من العمران فيه تخيير في الخصلتين الأوليين بضم الهمزة؛ وهما: أخذها وإمساكها مع العلف، أو بيعها وحفظ ثمنها فقط، دون الخصلة الثالثة وهي أكلها، فلا يجوز، بخلاف المفازة؛ لأنه قد لا يجد فيها من يشتري بخلاف العمران، ويشق النقل إليه. ولو كان الحيوان غير مأكول كالجحش .. ففيه الخصلتان الأوليان، ولا يجوزز تملكه في الحال في الأصح. وقول الناظم: (وإن يرد) بالياء المثناة التحتية؛ أي: الملتقط، فقوله: (عرفا) فعل ماض، وألفه للإطلاق، أو بتاء الخطاب للملتقط، فقوله: (عرفا) فعل أمر، وألفه بدل من نون التوكيد، وفي قوله: (وليتملك إن يرد) الوجهان، وكسر ميم (يدم) للوزن، و (يطعم) بفتح الياء والعين، والألف في (الأثمانا) للإطلاق.

باب اللقيط

باب اللقيط ويقال له: ملقوط ومنبوذ ودعى، سمي لقيطاً وملقوطاً باعتبار أنه يلتقط، ومنبوذاً باعتبار أ، هـ نبذ؛ أي: ألقى في الطريق ونحوه، وهو صغير ضائع لا يعلم له كافل. (للعدل أ، يأخذ طفلا نبذا ... فرض كفاية، وحضنه كذا) (وقوته من ماله بمن قضى ... لفقده أشهد ثم اقترضا) (عليه إذ بفقد بيت المال ... والقرض خذ منه لدى الكمال) [حكم الالتقاط وشروط الملتقط] أي: للعدل - بأن يكون: مكلفاً حراً مسلماً رشيداً- أن يأخذ طفلاً ولو مميزاً نبذ؛ أي: ألقى في طريق أو نحوه، وهو فرض كفاية؛ حفظاً للنفس المحترمة عن الهلاك. والأصل فيه: قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}، وقوله: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}، إذا بإحيائها أسقط الحرج عن الناس فأحياهم بالنجاة من العذاب، وروى مالك رضي الله تعالى عنه في "الموطأ" عن أبي جميلة: (أنه وجد منبوذاً من زمن عمر رضي الله تعالى عنه، قال: فجئت به إليه فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال عريفة -واسمه سنان-: يا أمير المؤمنين؛ إنه رجل صالح، فقال له عمر: أكذلك؟ قال: نعم، فقال: اذهب به فهو حر، لك ولاؤه -أي: تربيته وحضانته-وعلينا نفقته) أي: في بيت المال؛ بدليل رواية البيهقيي: (ونفقته في بيت المال). ويجب الإشهاد عليه وعلى ما معه؛ خيفة من استرقاقه، ولئلا يضيع نسبه كالنكاح، فلو تركه .. فلا حضانة له، ويجوز الانتزاع منه، بخلاف اللقطة فإن المقصود منها المال. ولو التقط عبد بغير إذن سيده .. انتزع منه، فإن علم به فأقره عنده، أو التقط بإذنه .. فالسيد

الملتقط وهو نائبه، أو مكاتب بلا إذن السيد .. انتزع منه، أو بإذنه .. فكذا على المذهب، فإن قال: (التقط لي) .. فالسيد الملتقط. ولمسلم وكافر التقاط كافر، ولو التقط فاسق أو محجوز عليه بسفه .. انتزع منه، ولو أراد ظاهر العدالة السفر به .. انتزع منه، وعند إقامته يوكل القاضي به رقيباً بحيث لا يشعر به، فإذا وثق به .. فكعدل، ومثل الطفل: المجنون. وحضنه؛ أي: اللقيط بمعنى حفظه وتربيته، لا الأعمال المفصلة في الإجارة للمشقة .. كذا؛ أي: فرض كفاية؛ لأنه مقصود اللقط. فإن عجز عن حفظه لعارض .. سلمه للحاكم، وإن تبرم به مع القدرة .. فله ذلك أيضاً على الأصح في "الروضة" و "أصلها"، ولو ازدحم اثنان على أخذه .. جعله الحاكم عند من يراه منهما أو من غيرهما، وإن أخذاه وليس أحدهما أهلاً .. سلم للآخر، وإن سبق أحدهما .. منع الآخر من مزاحمته. وإن التقطاه معاً وهما أهل .. قدم الغني على الفقير، وظاهر العدالة على المستور، فإن استويا .. أقرع ولا يخير الطفل بينهما وإن كان مميزاً، ولا يقدم المسلم على الكافر في الكافر، ولا المرأة على الرجل، بخلاف الحضانة، قال الأذرعي: والوجه تقديم البصير على الأعمى، والسليم على المجذوم والأبرص إن قيل بأهليتهم للالتقاط. وإن وجد بلدي لقيطاً ببلد، فليس له نقله لقرية ولا لبادية، ويجوز نقله إلي بلد آخر، ولغريب التقطه ببلد نقله إلي بلده، ولقروي التقطه بقرية نقله إلي قرية أو قريته، وإن وجده بدوي ببلد أو قرية .. فكالحضري، أو ببادية .. أقر بيده. [مؤنة اللقيط] وقوته؛ يعني: مؤنته من ماله العام؛ كالوقف على اللقطاء، والوصية لهم، أو الخاص وهو ما اختص به؛ كالثياب الملبوسة له، والملفوفة عليه، والمفروشة تحته، والمغطى بها، والمشدودة به أو بثيابه من منطقة أو هميان، أو حلى أو دراهم أو دنانير، وكالدابة التي عنانها بيده والمشدودة به أو بثيابه، وكالمهد الذي هو فيه، والسرير الذي عليه، والدنانير المنثورة والمصبوبة تحته، أو تحت رأسه أو فراشه، وكخيمة أو دار وليس فيها غيره؛ لأن له يداً

واختصاصاً كالبالغ، والأصل الحرية ما لم يعرف غيرها، لا البستان ولا القرية، وليس له مال مدفون تحته، ولا ثياب وأمتعة موضوعة بقربه، ولكن لا ينفق منه عليه إلا بإذن القاضي إذا أمكنت مراجعته، فإن خالف .. ضمن ولم يرجع؛ كمن في يده وديعة ليتيم أنفق عليه منها بغير إذن الحاكم. قال بعضهم: وينبغي أن يكون هذا في حاكم لا يخاف منه أنه إذا عرف بها .. أكلها، أو أكل غالبها، فإن عجز عن القاضي، أو خاف على ماله من قضاة السوء .. أشهد على ما ينفقه عليه. فإن فقد مال اللقيط العام والخاص .. أنفق عليه من بيت المال من سهم المصالح؛ لأنه أولى بذلك من البالغ الفقير، وهو نفقه لا قرض عليه على الراجح، فلا رجوع لبيت المال عليه. فإن لم يكن فيه مال، أو كان هناك أهم منه؛ كسد ثغر يعظم ضرره .. اقترض القاضي من أغنياء البقعة عليه، وما يقترض عليه .. يوفى من مال سيده إن كان رقيقاً، ومن ماله إن ظهر له مال، أو مال من تجب عليه نفقته إن لم يظهر له مال، وإلا .. فيقضيه الحاكم من سهم الفقراء أو المساكين أو الغارمين. [ما يثبت به إسلام اللقيط] ويثبت إسلام اللقيط وغيره بالشهادتين من بالغ عاقل، وأخرس بإشارة، ومن صبي ومجنون بالتبعية. ولها ثلاث جهات: إحداها: الولادة، ثانيها: سبي المسلم له إن انفرد عن أبويه، ثالثها: الدار، فإذا وجد لقيط بدار الإسلام وفيها أهل ذمة، أو بدار فتحوها وأقروها بيد كفار صلحاً، أو بعد تملكها بجزية وفيها مسلم .. حكم بإسلامه. وإذا لم يقر اللقيط برق، ولم يدعه أحد .. فهو حر. ومن ادعى رق صغير ليس في يده، أو فيها بالتقاط .. لم يقبل إلا ببينة، أو بغيره .. قبل، فإن بلغ وأقر بالرق لغير ذي اليد .. لم يقبل، وكذا إن قال: (أنا حر) في الأصح إلا ببينة، لكن له تحليف السيد، ومن أقام بينة برقه .. عمل بها، ويشترط تعرضها لسبب الملك. والألف في قول الناظم: (نبذا) و (اقترضا) للإطلاق.

باب الوديعة

باب الوديعة تقال على الإيداع، وعلى العين المودعة؛ من ودع الشيء يدع إذا سكن؛ لأنها ساكنة عند المودع، وقيل: من قولهم: فلان في دعة؛ أي: راحة؛ لأنها في راحة المودع ومراعاته. والأصل فيها: قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمنت إلي أهلها}، وقوله تعالى: {فليؤد الذي اؤتمن امنته}، وخبر: "أد الأمانة إلي من ائتمنك، ولا تخن من خانك" رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، والحاكم وقال: على شرط مسلم، ولأن بالناس حاجة، بل ضرورة إليها. وأركانها أربعة: مودع، ومودع، ووديعة، وصيغة. (سن قبولها إذا ما أمنا ... خيانة إن لم يكن تعينا) (عليه حفظها بحرز المثل ... وهو أمين مودع في الأصل) (يقبل باليمين قول الرد ... لمودع لا الرد بعد الجحد) (وإنما يضمن بالتعدي ... والمطل في تخليه من بعد) (طلبها من غير عذر بين ... وارتفعت بالموت والتجنن) [حكم قبول الوديعة] أي: سن قبول الوديعة إذا أمن على نفسه من الخيانة فيها وقدر على حفظها؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى المأمور به، وهذا إن لم يتعين عليه قبولها، فإن تعين؛ بأن لم يكن هناك غيره .. وجب عليه قبولها؛ كأداء الشهادة، ولكن لا يجبر حينئذ على إتلاف منفعته ومنفعة حرزه بغير عوض. ويحرم عليه أخذها عند عجزه عن حفظها؛ لأنه يعرضها للتلف، ويكره عند القدرة لمن لم يثق بنفسه، قال ابن الرفعة: إلا أن يعلم بحالة المالك، فلا يحرم ولا يكره، والإيداع صحيح، والوديعة أمانة وإن قلنا بالتحريم، وأثر التحريم مقصور على الإثم، لكن لو كان

المودع وكيلاً، أو ولى حيث يجوز له الإيداع .. فهي مضمونة بمجرد الأخذ قطعاً، ولم يتعرضوا له، قاله الزركشي. [وجوب حفظ الوديعة] ويجب على المودع ولو عند إطلاق المودع حفظ الوديعة في حرز مثلها ودفع متلفاتها، فلو أخر إحرازها مع التمكن، أو وضعها في غير حرز مثلها، أو وقع الحريق في الدار فتركها حتى احترقت، أو ترك علف الدابة أو سقيها حتى ماتت به، أو ترك نشر ثياب الصوف والأكسية، وكل ما يفسده الدود، أو لبسها إذا لم تندفع الآفة إلا به حتى تلفت .. ضمنها. [الوديع أمين] والمودع أمين؛ إذ أصل الوديعة الأمانة، فلو تلفت بلا تفريط .. لم يضمنها؛ لأن الله تعالى سماها أمانة، والضمان ينافيها، ولأن المودع يحفظها للمالك فيده كيده، ولو ضمن .. لرغب الناس عن قبول الودائع، وسواء أكانت بجعل أم لا كالوكالة. وقضية إطلاقهم: أنه لا فرق في عدم الضمان بين الصحيحة والفاسدة، وهو مقتضى القاعدة. وفي "الكافي": لو أودعه بهيمة وأذن له في ركوبها، أو ثوباً وأذن له في لبسه .. فهو إيداع فاسد، فإنه شرط فيه ما ينافي مقتضاه، فإذا تلفت قبل الركوب والاستعمال .. لم يضمن، أو بعده .. ضمن؛ لأنه عارية فاسدة. ولكون الوديع أمنياً يقبل بيمينه في الرد على المودع؛ لأنه ائتمنه، ولو ادعى التلف .. قبل إجماعاً، فكذا الرد. وشملت العبارة: الرد على من له الإيداع من مالك وولي وقيم حاكم، حتى لو ادعى الجابي تسليم ما جباه للذي استأجره على الجباية .. فالقول قوله بيمينه؛ كما أفتى به ابن الصلاح. وخرج بما ذكره الناظم: ما لو ادعى رد الوديعة على غير من ائتمنه؛ كأن ادعى المودع ردها على وارث المودع، أو ادعى وارث المودع الرد على المالك، أو أودع عند سفره أمنياً فادعى الأمين الرد على المالك .. فإن كلا منهم يطالب بالبينة.

وكل أمين من مرتهن ووكيل، وشريك وعامل قراض، وولي محجور، وملتقط لم يتملك، وملتقط لقيط، ومستأجر وأجير وغيرهم .. يصدق باليمين في التلف على حكم الأمانة إن لم يذكر له سبباً، أو ذكر سبباً خفياً أو ظاهراً عرف دون عمومه، وإن لم يعرف .. فلا بد من إثباته بالبينة، ثم يصدق بيمينه في التلف به، وإن عرف وقوعه وعمومه، ولم يحتمل سلامتها .. صدق بلا يمين. [جحود الوديعة] وجحود الوديعة بعد طلب مالكها -كأن قال: (لم تودعني شيئاً) - مضمن؛ لخيانته. ولو جحدها ثم قال: (كنت غلطت) أو (نسيت) .. لم يبرأ إلا أن يصدقه المالك. ولو أقام المالك عليه بينة بها، فادعى ردها عليها .. لم يقبل قوله فيه، وهذا معنى قول الناظم: (لا الرد بعد الجحد)، أما لو أقام بينته بردها على مالكها .. فإنها تسمع؛ لأنه ربما نسى ثم تذكر؛ كما لو قال المدعى لشيء: (لا بينة لي به)، ثم جاء ببينة .. فإنها تسمع، وسواء أجحد أصل الإيداع أم لزوم تسليم شيء إليه. [ضمان الوديعة] وإنما يضمن المودع الوديعة بالتعدي فيها؛ كأن خالف مالكها فيما أمره به في حفظها، وتلفت بسبب المخالفة؛ كأن قال له: (لا ترقد على الصندوق)، فرقد وانكسر بثقله وتلف ما فيه، أو خلطها بمال نفسه، أو مال المالك ولم يتميز، أو انتفع بها كأن ركبها، أو لبسها بغير عذر، أو سافر بها مع وجود مالكها أو وكيله، ثم الحاكم، ثم الأمين. ويضمنها أيضاً بالمطل في تخليه بينها وبين مالكها من بعد طلبها من غير عذر ظاهر؛ لتقصيره بترك التخلية الواجبة عليه حينئذ. فإن ما طل في تخليتها لعذر ظاهر؛ كصلاة أو طهارة أو أكل، أو لقضاء حاجة أو حمام، أو ملازمة غريم يخاف هربه، أو نحوها مما لا يطول زمنه، أو لغير عذر ولكن لم يطلبها مالكها .. لم يضمنها؛ لعدم تقصيره، وإطلاق المطل عليه حيث لا طلب مجاز سلم منه تعبير غيره بالتأخير، وعبر بالتخلية؛ لأنه لا يجب على المودع مباشرة الرد وتحمل مؤنته، بل التخلية بينها وبين مالكها بشرط أهليته للقبض، فلو حجر عليه بسفه، أو كان نائماً فوضعها في يده ..

ولو أودعه جماعة مالاً وقالوا: إنه مشترك، ثم طلبه بعضهم .. لم يكن له تسليمه، ولا قسمته؛ لاتفاقهم على الإيداع فكذا في الاستراداد، بل يرفع الأمر إلي الحاكم ليقسمه، ويدفع إليه نصيبه. [الوديعة عقد جائز من الطرفين] والوديعة جائزة من الجانبين، فترتفع بموت المودع أو المودع، وبجنونه؛ أي: أو إغمائه؛ لأنها وكالة في الحفظ، وهذا حكم الوكالة، وترتفع أيضاً بطريان حجر السفه؛ كما قال في "الحاوي" و "الشامل" و "البيان"، وبعزل المالك وبالجحود المضمن، وبكل فعل مضمن، وبالإقرار بها لآخر، وبنقل المالك الملك فيها ببيع أو نحوه. وفائدة الارتفاع: أنها تصير أمانة شرعية؛ كثوب طيرته الريح إلي داره، فعليه الرد عند التمكن وإن لم تطلب، فإن لم يفعل .. ضمن، والمراد به: وجوب إعلام مالك المال بحصوله في يده إن لم يعلمه. وللمودع استرداد الوديعة، وللمودع ردها كل وقت، أما المودع .. فلأنه مالكها، أو ولي مالكها، وأما المودع .. فلتبرعه بحفظها. قال ابن النقيب: وينبغي تقييد جواز الرد للمودع بحالة لا يلزمه فيها القبول ابتداء، أما إذا كانت بحيث يجب قبولها .. فيظهر تحريم الرد، وإن كانت بحيث يندب القبول .. فالرد خلاف الأولى إذا لم يرض به المالك. انتهى، قال الزركشي: إن ابن الرفعة أشار إليه. والألف في قول الناظم: (أمنا) و (تعينا) للإطلاق.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض جمع فريضة؛ بمعنى مفروضة؛ أي: مقدرة؛ لما فيها من السهام المقدرة فغلبت على غيرها. والأصل فيها: آياتها، والأخبار الصحيحة الآتية؛ كخبر "الصحيحين": "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى .. فلأولى رجل ذكر". وورد في الحث على تعلمها وتعليمها أخبار منها: خبر: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس؛ فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان من يقضي بها" رواه الحاكم، وصحح إسناده، وروى ابن ماجه وغيره: "تعلموا الفرائض؛ فإنه من دينكم، وإنه نصف العلم، وإنه أول علم ينتزع من أمتي"، وسمي نصفاً لتعلفه بالموت المقابل للحياة، وقيل: النصف بمعنى الصنف؛ كقول الشاعر: [من الطويل] (إذا مت كان الناس نصفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أصنع) وقيل غير ذلك. [ما يتعلق بتركة الميت من الحقوق المرتبة] ويتعلق بالتركة خمسة حقوق مترتبة، وقد بدأ ببيانها فقال: (يبدأ من تركه ميت بحق ... كالرهن والزكاة بالعين اعتلق) (فمؤن التجهيز بالمعروف ... فدينه ثم الوصايا يوفى) (من ثلث باقي الإرث، والنصيب ... فرض مقدر أو التعصيب) أول الحقوق: أنه يبدأ وجوباً من تركة الميت بحق تعلق بعينها؛ لتأكد بها، وذلك

كالرهن؛ بأن رهن عيناً بدين عليه أو على غيره، فيقدم المرتهن بها على مؤنة التجهيز، والزكاة فيقدم مستحقوها على مؤنة التجهيز. ولما كان المتعلق بالعين لا يكاد تنحصر صوره .. أشار الناظم إلي ذلك بإدخاله الكاف على أول المثالين، فمنها: الجاني المتعلق برقبته مال؛ بأن أتلف مالاً أو جنى على آدمي خطأ، أو شبه عمد، أو عمداً لا قود فيه، أو عفى عنه بمال، والمبيع إذ مات مشتريه بثمن في ذمته مفلساً، ولم يتعلق به حق لازم ككتابة، سواء حجر عليه قبل موته أم لا. الحق الثاني: مؤن التجهيز؛ أي: تجهيز الميت، وتجهيز من تلزمه مؤنته إذا مات في حياته؛ كثمن كفن، وأجرة غسل وحفر ودفن؛ لاحتياجه إلي ذلك كالمحجور عليه بالفلس، بل أولى؛ لانقطاع كسبه بالمعروف بحسب يساره وإعساره، ولا عبرة بما كان عليه في حياته من إسرافه أو تقتيره. الحق الثالث: دينه الذي كان عليه لله تعالى أو لآدمي؛ لكونه حقاً واجباً عليه. الحق الرابع: الوصايا نوفيها من ثلث باقي الإرث، ومثلها ما ألحق بها من عتقٍ علق بالموت، وتبرع نجز في مرضه المخوف أو الملحق به، وقدمت على الإرث؛ لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}، وتقديمها لمصلحة الميت؛ كما في الحياة، و (من) للابتداء فتدخل الوصايا بالثلث وببعضه. الحق الخامس: نصيب الوارث؛ من حيث إنه يتسلط عليه بالتصرف؛ ليصح تأخره عن بقية الحقوق، وإلا .. فتعلقها بالتركة لا يمنع الإرث على الصحيح، ولهذا عطفه الناظم بالواو دون بقية الحقوق. ثم الوارث إن كان له سهم مقدر في الكتاب أو السنة .. فهو صاحب فرض، وإلا فعاصب. (فالفرض ستة، فنصف اكتمل ... للبنت أو لبنت الابن ما سفل) (والأخت من أصلين أو من الأب ... وهو نصيب الزوج إن لم يحجب) (بولد أو ولد ابن علما ... والربع: فرض الزوج مع فردهما) (وزوجة فما علا إن عدما ... وثمن: لهن مع فردهما)

[الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى] أي: الفرض بمعنى الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ستة: الربع، والثلث، وضعف كل، ونصفه، وأشاروا بقولهم: (في كتاب الله تعالى) إلي أن المراد الحصر بالنسبة لما في القرآن، وإلا .. فمطلق الفروض تزيد على ستة؛ كثلث ما بقي في الجد، وفي مسألتي: زوج أو زوجة وأبوين. [فرض النصف] فالنصف الكامل فرض خمسة: البنت، وبنت الابن وإن سفل، والأخت الشقيقة، والأخت للأب إذا انفردن عمن يعصبهن، وعمن يساويهن من الإناث، قال تعالى في البنت: {وإن كانت واحدة فلها النصف}، وبنت الابن كالبنت إجماعاً؛ إذ لفظ البنت يشملها؛ إعمالاً له في حقيقته ومجازه، وقال في الأخت: {وله أخت فلها نصف ما ترك}، والمراد: أخت لأبوين أو لأب؛ لما سيأتي أن للأخت للأم السدس. والنصف فرض الزوج إن لم يحجب؛ أي: عنه بولد لزوجته، أو ولد ابن لها، قال تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد}، وولد الابن كالابن بما مر، والمراد به هنا، وفيما سيأتي: من يرث بخصوص القرابة، فيخرج غير الوارث، والوارث بعمومها كولد بنت الابن، وقد أشار إلي ذلك بقوله: (علما). [فرض الربع] والربع فرض اثنين: الزوج مع ولد الزوجة أو ولد ابنها، وزوجة فأكثر إن عدما؛ أي: ولد زوجها وولد ابنه، قال تعالى: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد}، وولد الابن كالولد بما مر، وقد ترث الأم الربع فرضاً في حال يأتي، فيكون الربع فرض ثلاثة. [فرض الثمن] والثمن: فرض زوجة فأكثر مع ولد الزوج، أو ولد ابنه قال تعالى: {فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم}، وولد الابن كالولد بما مر. و(ما) في قول الناظم: (ما سفل) مصدرية.

[فرض الثلثين] (والثلثان: فرض من قد ظفرا ... بالنصف مع مثل لها فأكثرا) أي: الثلثان فرض أنثى قد ظفرت بالنصف؛ أي: فازت به مع مثل لها فأكثر، فهما فرض أربعة: بنتين فأكثر، وبنتي ابن فأكثر، وأختين لأبوين فأكثر، وأختين لأب فأكثر، قال تعالى: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك}، وقيس بالبنات: بنات الابن، بل هن داخلات في لفظ البنات على القول بإعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وبالأختين: البنتان وبنتا الابن، وبالبنات في عدم الزيادة على الثلثين: الأخوات. وألف (ظفرا) و (فأكثرا) للإطلاق. (والثلث: فرض اثنين من أولاد أم ... فصاعداً، أنثى تساوي ذكرهم) (وهو لأمه إذا لم تحجب ... وثلث الباقي: لها مع الأب) (وأحد الزوجين، والسدس حبوا ... أما مع الفرع وفرع الابن أو) (إثنين من أخوات أو من إخوة ... والفرد من أولاد أم الميت) (وجدة فصاعداً لا مدليه ... بذكر من بين ثنتين هيه) (وبنت الابن صاعداً مع بنت ... فرد، وأختاً من أب مع أخت) (أصلين، والأب وجداً ما علا ... مع ولدٍ أو ولد ابن سفلا) [فرض الثلث] أي: والثلث فرض اثنين فصاعداً من ولد الأم، قال تعالى: {وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا من ذلك أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}، والمراد: أولاد الأم بدليل قراءة ابن مسعود وغيره: (وله أخ أو أخت من أم)، وهي وإن لم تتواتر، لكنها كالخبر في العمل بها على الصحيح؛ لأن مثل ذلك إنما يكون توقيفاً. وسواء أكان الاثنان ذكرين أم أنثيين أم خنثيين أم مختلفين؛ إذ لا تعصيب فيمن أدلو،

بخلاف الأشقاء أو لأب؛ فإن فيهم تعصيباً، فكان للذكر مثل حظ الأنثيين. وهو لأم الميت إذا لم تحجب؛ بأن لم يكن للميت ولد، ولا ولد ابن، ولا اثنان من الإخوة والأخوات، ولا أب من أحد الزوجين؛ قال تعالى: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس}، وولد الابن كالولد بما مر. والمراد من الإخوة: عدد ممن له إخوة ولو من الإناث على التغليب الشائع، وعلى أن أقل الجمع اثنان كما عليه جمع، أو ثلاثة على الأصح، لكنه استعمل في الاثنين مجازاً؛ للإجماع على أنهما كالثلاثة هنا، ولأنه حجب يتعلق بعدد فكان الاثنان فيه كالثلاثة؛ كما في حجب البنات لبنات الابن، وقد يفرض للجد مع الإخوة كما سيأتي. وثلث الباقي للأم مع الأب والزوج أو الزوجة؛ ليكون للأب مثلاها على الأصل في اجتماع الذكر والأنثى المتحدي الدرجة من غير أولاد الأم، ولاتفاق الصحابة على ذلك قبل إظهار ابن عباس الخلاف، ولأن كل ذكر وأنثى لو انفردا .. اقتسما المال أثلاثاً، فإذا اجتمعا مع الزوج أو الزوجة .. اقتسما الفاضل كذلك؛ كالأخ والأخت، فالأولى من ستة: للزوج نصفها ثلاثة، وللأم ثلث الباقي، وثلثاه للأب، وعبروا عن حصة الأم فيهما بثلث الباقي مع أنه في الأولى السدس وفي الثانية الربع؛ تأدباً مع لفظ القرآن في قوله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث}، وتسمى المسألتان بالغراوين؛ لشرتهما بينهم، وبالعمريتين؛ لأنهما رفعتا إلي عمر رضى الله عنه فحكم فيهما بما ذكر، وبالغريبتين؛ لغرابتهما. وخرج ب (الأب): الجد، فللأم معه الثلث كاملاً لا ثلث الباقي؛ لأنه لا يساويها في الدرجة، وقد يرث الجد إذا كان معه إخوة ثلث الباقي. [فرض السدس] والسدس حبوا؛ أي: أعطاه العلماء سبعة: أما مع الولد أو ولد الابن، أو اثنين من الأخوات والإخوة؛ لقوله تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس}، كما مر بيانه، وسواء كانا من الأب والأم، أم من الأب، أم من الأم، وسواء أكانا وارثين أم محجوبين بغيرهما، أما بنو الإخوة .. فلا يحجبونها عن الثلث؛ كما أفهمه كلامه؛ لأنهم ليسوا إخوة بخلاف ولد الابن؛ لإطلاق لفظ الابن عليه مجازاً شائعاً، بل قيل: حقيقة، والفرد من أولاد أم الميت ذكراً كان أو أنثى أو خنثى؛ لما مر في آيته.

وقد علم مما مر: أن أولاد الأم يخالفون بقية الورثة في خمسة أشياء: أحدها: تقاسمهم بالسوية، ثانيها: يرثون مع من يدلون به، ثالثها: يحجبون من يدلون به حجب نقصان، رابعها: يدلون بأنثى ويرثون، خامسها: ذكرهم المنفرد كأنثاهم المنفردة. وجدةً فصاعدا لأم أو لأب؛ لخبر أبي داوود وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس)، وروى الحاكم بسند صحيح: (أنه قضى به للجدتين)، وروى أبو داوود في "مراسيله"، والدارقطني بسند مرسل: (أنه أعطى السدس ثلاث جدات: ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم)، ويرث منهن أم الأم، وأمهاتها المدليات بإناث خلص؛ كأم أم الأم- ولا يرث من قبل الأم إلا واحدة -وأم الأب وأبيه وإن علا، وأمهاتهن المدليات بإناث خلص؛ لإدلائهن بوارث، وضابط إرث الجدات أن يقال: كل جدة أدلت بمحض إناث كأم أم الأم، أو بمحض ذكور كأم أبي الأب، أو بمحض إناث إلي ذكور أم أم الأب .. ترث. ومن أدلت بذكر بين أنثيين كأم أبي الأم .. لا ترث لأنها مع الذكر من ذوي الأرحام. ويسوى فيما لو كانت إحداهن بجهتين والأخرى بجهة بين ذات الجهة والجهتين، فلا تفضل الثانية على الأولى بزيادة الجهة؛ لأن الجدودة قرابة واحدة، بخلاف ابني عم أحدهما أخ لأم؛ أبي أبيه .. فهي ذات جهتين، فلو خلف معها أم أم أبية .. فالسدس بينهما مناصفة لا مثالثة، وكذا لو كانت ذات جهات؛ كأن نكح هذا الولد بنت بنت بنت أخرى لهند، فأولدها ولداً، فهند جدته من ثلاث جهات؛ لأنها أم أم أم أمه، وأم أم أم أبيه، وأم [أبي] أبي أبيه. والجدة للأم لا يحجبها إلا الأم كما سيأتي، وللأب يحجبها الأب أو الأم؛ لأن إرثها بطريق الأمومة، والأم أقرب منها. والقربى من كل جهة تحجب البعدى منها كأم أم، وأم أم أم، وكأم أب، وأم أم أب، والقربى من جهة الأم؛ كأم أم تحجب البعدى من جهة الأب؛ كأم أم أب، والقربى من جهة الأب؛ كأم أب لا تحجب البعدى من جهة الأم؛ كأم أم أم في الأظهر، بل يشتركان في السدس.

وأعطى العلماء السدس بنت الابن فصاعدا من بنت فردة للصلب، وأختا فصاعدا من الأب مع أخت شقيقة، أما الأولى .. فللإجماع، ولقضائه صلى الله عليه وسلم فيها بذلك، رواه البخاري عن ابن مسعود، وبنت ابن الابن مع بنت الابن؛ كبنت الابن مع بنت الصلب ... وهكذا، وأما الثانية .. فكما في بنت الابن مع بنت الصلب، والأب وأباه وإن علا مع ولد أو ولد ابن وإن سفل؛ قال تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد}، وولد الابن كالولد بما مر، وقيس بالأب الجد، وخرج ب (أب الأب وإن علا): أبو الأم وإن علا؛ فإنه من ذوي الأرحام. وقول الناظم: (والسدس) يجوز رفعه ونصبه، قوله: (أو من إخوة) بدرج الهمزة للوزن، وقوله: (فرد) أي: فردة، فحذف الهاء للترخيم، وقوله: (سفلا) بفتح الفاء وضمها، وألفه للإطلاق. ولما أنهى الكلام على ذوي الفروض .. شرع في ذكر العصبات فقال: [العصبات] (لأقرب العصبات بعد الفرض ما ... يبقى، فإن يفقد فكلا غنما) أي: لأقرب العصبات: جمع عصبة؛ وهو من ليس له سهم مقدر حال تعصيبه من جهة تعصيبه ما يبقي بعد الفرض وإن تعدد، وهذا صادق بالعصبة بنفسه: وهو كل ذي ولاء أو ذكر نسيب ليس بينه وبين الميت أنثى، وبغيره: هو كل أنثى عصبها ذكر، ومع غيره: وهو كل أنثى تصير عصبة باجتماعها مع أخرى، فإن يفقد؛ أي: الفرض .. فكل التركة غنمها أقرب العصبات، وهو صادق بالعصبة بنفسه، وبنفسه وغيره معاً. والأصل في ذلك: خبر: (ألحقوا الفرائض). والألف في قول الناظم: (غنما) للإطلاق.

(ألابن بعده ابنه فأسفلا .. فالأب فالجد له وإن علا) (وإن يكن أولاد أصلين وأب ... أو زاد ثلثه على قسم وجب) (إذ ليس فرض، أو يكون راقي ... بسدسه، أو زاد ثلث الباقي) (وكان في القسمة فرض وجدا ... فالجد يأخذ الأحظ الأجود) (ثم اقسم الحاصل للإخوة بين ... جملتهم لذكر كأنثيين) (فالأخ للأصلين، فالناقص أم ... فابن أخ الأصلين، ثم الأصل، ثم) (العم فابنه، فعم للأب، ... ثم ابنه، فمعتق، فالعصب) أي: واقرب العصبات الابن؛ لقوة عصوبته؛ لأنه قد فرض للأب معه السدس وأعطى هو الباقي، ولأنه يعصب أخته، بخلاف الأب. بعده ابنه؛ أي: بعد الابن الابن وإن سفل، فهو متقدم على الأب؛ لما مر، ومؤخر عن الابن، سواء أكان أباه أم عمه؛ لإدلائه به، أو لأنه عصبة أقرب منه، فالأب لإدلاء سائر العصبة به. فالجد له؛ أي: للأب وإن علا، وفي درجته ولد الأبوين وولد الأب. [أحكام الجد مع الإخوة] وإن يكن؛ أي: وجد مع الجد أولاد أصلين؛ أي: الأب والأم، وأب؛ أي: أولاد الأب -فالواو بمعنى أو؛ إذ لا يستقيم ما ذكره في اجتماع الصنفين معه- شاركهم كما سيأتي؛ لمساواتهم له في الإدلاء بالأب ولا يسقطون به، بل كان القياس تقديمهم عليه؛ لأنهم أبناء أبي الميت، والجد أبو أ [يه، والبنوة أقوى من الأبوة، ولأن فرعهم وهو ابن الأخ يسقط فرع الجد وهو العم، قوة الفرع تقتضي قوة الأصل، إلا أن الإجماع منع منه؛ فلا أقل من أن يشاركوه. فإذا اجتمع جد وإخوة وأخوات لأبوين أو لأب: فإن لم يكن معهم ذو فرض .. فله الأكثر من ثلث المال ومقاسمتهم كأخ، أما الثلث ... فلأن له مع الأم مثلي ما لها، والأخوة لا ينقصوها عن السدس، فلا ينقصونه عن مثليه، وأما القسمة .. فلأنه كالأخ، والقسمة خير له إن كانوا أقل من مثليه؛ بأن يكون معه أخ، أو أخت، أو أختان، أو ثلاث أخوات، أو أخ

وأخت، والثلث خير له إن زادوا على مثليه، ولا تنحصر صوره، ويستوي له الأمران إن كانوا مثليه؛ بأن كان معه أخوان أو أخ، وأختان أو أربع أخوات، والفرضيون يعبرون في هذا بالثلث؛ لأنه أسهل، ويأخذه الجد فرضاً؛ كما صرح به ابن الهائم، وقال ابن الرفعة: إنه ظاهر نص "الأم"، لكن ظاهر كلام الغزالي والرافعي: أنه بالعصوبة، قال السبكي: وهو عندي أقرب. وإن كان معهم ذو فرض .. فله الراقي؛ أي: الأكثر من سدس التركة؛ لأن البنين لا ينقصونه عنه، فالإخوة أولى، وثلث الباقي بعد الفرض الذي هو مستحق؛ كما يجوز ثلث الكل بدون ذي الفرض والقسمة؛ لما مر. وضابط معرفة الأكثر من الثلاثة: أنه إن كان الفرض نصفاً أو أقل .. فالقسمة خير إن كانت الإخوة دون مثليه، وإن زادوا على مثليه .. فثلث الباقي خير، وإن كانوا مثليه .. استووا، وقد تستوي الثلاثة، وإن كان الفرض ثلثين .. فالقسمة خير إن كان معه أخت، وإلا .. فله السدس، وإن كان الفرض بين النصف والثلثين؛ كنصف وثمن .. فالقسمة خير مع أخ أو أخت أو أختين، فإن زادوا .. فله السدس. وحيث أخذ السدس، أو ثلث الباقي .. أخذه فرضاً، وحيث استوت القسمة وغيرها .. فما يأخذه يكون فرضاً أو تعصيباً فيه ما مر. ولا يتصور أن يرث بالفرض مع الجد والإخوة إلا ستة: البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة، والزوج، والزوجة. ثم بعد أخذ الجد نصيبه أقسم الحاصل للإخوة والأخوات بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وقد لا يبقى بعد الفرض شيء؛ كبنتين وأم وزوج، فيفرض له سدس ويزاد في العول، وقد يبقى دون سدس؛ كبنتين وزوج، فيفرض له وتعال، وقد يبقى سدس؛ كبنتين وأم، فيفوز به الجد، وتسقط الإخوة في هذه الأحوال. ولو كان مع الجد إخوة وأخوات لأبوين ولأب .. فحكم الجد ما سبق، ويعد أولاد الأبوين عليه أولاد الأب، وإلا .. فتأخذ الواحدة إلى النصف، والاثنتان فصاعداً إلى الثلثين، ولا يفضل عن الثلثين شيء، وقد يفضل عن النصف فيكون لأولاد الأب.

[ترتيب بقية العصبات] ثم إن لم يكن جد ولا من ذكر قبله .. فالأخ للأصلين؛ أي: الأبوين. (فالناقص أم) بالوقف بلغة ربيعة؛ أي: ثم الأخ للأب، ثم ابن الأخ للأبوين، ثم ابن الأخ للأب، ثم العم للأبوين، ثم العم للأب، ثم ابن العم للأبوين، ثم ابن العم للأب، ثم عم الأب للأبوين، ثم عم الأب للأب، ثم ابن عم الأب للأبوين، ثم ابن عم الأب لأب، ثم عم الجد لأبوين، ثم عد الجد لأب ... وهكذا، فالمعتق؛ لما رواه الحاكم وصحح إسناده: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، ولما رواه البيهقي: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال: إني اشتريته وأعتقته فما أمر ميراثه؟ فقال: "إن ترك عصبة .. فالعصبة أحق، وإلا .. فالولاء لك"، وسواء كان المعتق رجلاً أم امرأة؛ لخبر "الصحيحين": "إنما الولاء لمن أعتق"، وقدم عليه عصبة النسب؛ للإجماع، ولأن النسب أقوى من الولاء؛ إذ يتعلق به أحكام لا تتعلق بالولاء؛ كالمحرمية ووجوب النفقة، وسقوط القود ورد الشهادة. ثم لعصبة بنسب المتعصبين بأنفسهم، لا لبنته وأخته، وترتيبهم كترتيبهم في النسب، لكن الأظهر: أن أخ المعتق وابن أخيه يقدمان على جده، فإن لم يكن له عصبة .. فلمعتق المعتق، ثم عصبته كذلك ... وهكذا. ولا ترث امرأة بولاء إلا معتقها، أو منتمياً إليه بنسب، أو ولاء. والألف في قول الناظم: (فأسفلا) و (وجدا) و (الأجودا) للإطلاق، وقوله: (قسم) بفتح القاف. (ثم لبيت المال إرث الفاني ... ثم ذوي الفروض لا الزوجان) (بنسبة الفروض، ثم ذي الرحم ... قرابة فرضاً وتعصيباً عدم)

[من يرث الميت إذا لم يكن له وارث] أي: ثم بعد من ذكر من ورثة الميت المسلم تصرف تركته أو باقيها لبيت المال؛ أي: للمسلمين إرثاً؛ كما يتحملون عنه الدية، ولخبر: "أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه" رواه أبو داوود، وصححه ابن حبان، ولكونهم عصبة قدموا على من يأتي، فلا يجوز صرف شيء منه إلى القاتل والكفار والمكاتبين. ويجوز تخصيص طائفة من المسلمين به، وصرفه للموصى له، ولمن ولد أو أسلم أو أعتق بعد موته، هذا إن انتظم أمر بيت المال؛ بأن يلي إمام عادل يصرف ما فيه في مصارفه كما كان في زمن الصحابة رضي الله عنهم. ثم بعده- بأن لم يكن إمام كذلك- لذوي الفروض إرث الفاني؛ بأن يرد عليهم الباقي بعدها إرثاً؛ لأن التركة مصروفة لهم أو لبيت المال اتفاقاً، فإذا تعذر أحدهما .. تعين الآخر، والتوقف عرضة للفوات، لا الزوجان فلا يرد عليهما؛ إذ لا قرابة بينهما، فإن وجد فيهما قرابة .. دخلا في ذوي الأرحام، وسيأتي بيانهم. قال الرافعي: وإنما قدم عليهم ذوو الفروض؛ لأن القرابة المفيدة لاستحقاق الفرض أقوى. ثم إن كان من يرد عليه شخصاً واحداً .. أخذ فرضه والباقي بالرد، أو جماعة من صنف كبنات .. فبالسوية، أو من صنفين فأكثر .. رد الباقي بنسبة الفروض التي لهم. ففي بنت وأم وزوج: الباقي من مخرج الربع بعد تنصيب الزوج ثلاثة لا تقسم على أربعة سهام البنت والأم من مسألتهما، فتضرب في مخرج الربع، فتصح من ستة عشر، للزوج أربعة، وللبنت تسعة، وللأم ثلاثة. وفي بنت وأم وزوجة: الباقي من مخرج الثمن بعد إخراج نصيب الزوجة سبعة، لا تنقسم على أربعة سهام البنت والأم من مسألتهما، فتضرب في مخرج الثمن، فتصح من اثنتين وثلاثين، للزوجة أربعة، وللبنت أحد وعشرون، وللأم سبعة. وفي بنت وأم سهامهما من مسألتهما أربعة تجعل أصل المسألة؛ للبنت ثلاثة، وللأم واحد.

[إرث ذوي الأرحام] ثم إن عدم من يرثه بالفرضية ممن يرد عليه، ومن يرثه بالتعصيب كما مر .. صرفت التركة أو باقيها لذي الرحم ولو غنياً إرثاً؛ وهو كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، وهم عشرة أصناف: أب الأم، وكل جد وجدة ساقطين، وأولاد البنات، وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وبنو الإخوة للأم، والعم للأم، وبنات الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والمدلون بالعشرة. ومن انفرد من ذوي الأرحام ذكراً كان أو أنثى .. أخذ جميع المال، وإن اجتمعوا .. نزل كل فرع منزلة أصله، ويقدم الأسبق إلى الوارث، فإن استووا .. قدر أن الميت خلف من يدلون به، ثم يجعل نصيب كل واحد للمدلين به على حسب ميراثهم منه لو كان هو الميت، ففي بنت بنت، وبنت بنت ابن: يقسم المال بينهما أرباعاً فرضاً ورداً، وفي بنت ابن بنت، وبنت بنت ابن: المال للثانية؛ لسبقها إلى الوارث. (وعصب الأخت أخ يماثل ... وبنت الابن مثلها والنازل) (والأخت لا فرض مع الجد لها ... في غير (أكدرية) كملها) (زوج وأم، ثم باق يورث ... ثلثاه للجد وأخت ثلث) [من يعصب الأخت] أي: وعصب الأخت الشقيقة والأخت للأب: أخ يماثلها؛ أي: يساويها قرباً، فيكون المال أو ما بقي منه بعد الفروض للذكر مثل حظ الأنثيين؛ كما يعصب الابن البنت؛ قال تعالى: {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثتيين}، وقال: {يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثتيين}، وخرج بالمساوي غيره، فلا يعصب الأخ لأب الأخت الشقيقة، بل يفرض لها معه، ويأخذ الباقي بالتعصيب، ولا الأخ لأبوين الأخت لأب، بل يحجبها. قوله: (وبنت الابن مثلها) أي: يعصبها أخ يساويها في الدرجة؛ كأخته وبنت عمه مطلقاً، سواء فضل لها شيء من الثلثين أم لا؛ كما يعصب الابن البنات والأخ الأخوات، وخرج بقوله: (مثلها) من أعلى منها؛ فإنه يسقطها. ويعصب بنت الابن أيضاً الذكر النازل عنها من أولاد الابن؛ أي: إن لم يكن لها شيء من الثلثين كبنتي صلب وبنت ابن وابن ابن ابن، فإن كان لها شيء من الثلثين .. فلا يعصبها؛ كبنت وبنت ابن وابن ابن ابن، بل للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي له؛

لأن لها فرضاً استغنت به عن تعصيبه، ولو كان في هذا المثال بنت ابن ابن أيضاً .. كان الباقي بينهما وبين ابن ابن الابن أثلاثاً. قال الفرضيون: وليس في الفرائض من يعصب أخته وعمته، وعمة أبيه وجده وبنات أعمامه، وبنات أعمام أبيه وجده، إلا النازل من أولاد الابن، وعصبت البنت أو بنت الابن أختاً شقيقة، أو أختاً لأب، فتأخذان ما بقي بعد الفرض وتسقطان بالاستغراق، فلو خلف بنتاً أو بنت ابن وإحدى الأختين .. فللبنت أو بنت الابن النصف، والباقي للأخت بالتعصيب، ولو خلفهما مع الأخت .. فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت بالتعصيب، قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري. [المسألة الأكدرية] قوله: (والأخت لا فرض مع الجد لها) أي: سواء أكانت لأبوين أم لأب؛ كما لا يفرض لها مع أخيها؛ لوجود من يجعلها عصبة، ولا تعول المسألة بسببها وإن كان قد يفرض للجد، وتعول المسألة بسببه كما مر؛ لأنه صاحب فرض بالجدودة فيرجع إليه للضرورة، إلا في الأكدرية؛ وهي: جد وأخت شقيقة أو لأب كمل مسألتهما زوج وأم، فللزوج نصف، وللأم ثلث؛ لعدم من يحجبها عنه، وللجد السدس؛ لعدم من يحجبه، وللأخت النصف؛ لعدم من يسقطها ومن يعصبها، فإن الجد لو عصبها .. نقص حقه، فتعين الفرض لها، فتعول بنصيب الأخت وهو النصف إلى تسعة؛ فإن أصلها من ستة، ثم يقتسم الجد والأخت نصيبهما أثلاثاً له الثلثان ولها الثلث، ونصيبهما أربعة لا تنقسم على ثلاثة، فاضرب ثلاثة في تسعة .. تبلغ سبعة وعشرين، للزوج تسعة، وللأم ستة، وللأخت أربعة، وللجد ثمانية. وسميت أكدرية؛ لنسبتها إلى أكدر، وهو اسم السائل عنها، أو المسئول، أو الزوج، أو بلد الميتة، أو لأنها كدرت على زيد مذهبه، فإنه لا يفرض للأخوات مع الجد، ولا يعيل، وقد فرض فيها وأعال، وقيل: لتكدر أقوال الصحابة فيها، وقيل غير ذلك. وقول الناظم: (وأخت) بالجر عطفاً على الجد. [حجب الحرمان بالأشخاص] ثم لما فرغ من ذكر العصبة لغيره، والعصبة مع غيره .. شرع في ذكر الحجب، وهو لغة: المنع، وشرعاً: منع من قام به سبب الإرث من الإرث بالكلية، أو من أوفر حظيه، ويسمى

الثاني: حجب نقصان وقد مر، والأول: حجب حرمان وهو المراد بقوله: (وكل جدة فبالأم احجب ... ويحجب الأخ الشقيق بالأب) (والابن وابنه، وأولاد الأب ... بهم، وبالأخ الشقيق فاحجب) (وولد الأم أب أو جد ... وولد وولد ابن يبدو) أي: وكل جدة من جهة الأم أو الأب .. فبالأم احجبها؛ للإجماع، ويحجب الأخ الشقيق ومثله الشقيقة بالأب والابن وابن الابن وإن سفل بالإجماع، وأولاد الأب ذكوراً كانوا أو إناثاً احجبهم بهم؛ أي: بهؤلاء؛ لأنهم حجبوا الشقيق؛ فهم أولى، وبالأخ الشقيق؛ لقوته بزيادة القرب، وولد الأم ذكراً كان أو أنثى يحجبه أب أو جد لأب وولد ذكراً كان أو أنثى، وولد ابن ولو أنثى كما مر. و(الكلالة): اسم لما عدا الوالد والولد، فدل على أنهم إنما يرثون عند عدمها، وكسر الناظم باء (احجب) في الموضعين؛ للوزن. وقوله: (وأولاد الأب) بالنصب ويجوز رفعه، وقوله: (وولد الأم) بالنصب بفعل مقدر دل عليه (احجب) أي: يحجب ولد الأم. [حجب الحرمان بالأوصاف] ولما أنهى الكلام على حجب الحرمان بالأشخاص .. شرع في ذكره بالأوصاف، وهي موانع الإرث فقال: (لا يرث الرقيق والمرتد ... وقاتل كحاكم يحد) (ولا تورث مسلماً ممن كفر ... ولا معاهد وحربي ظهر) أي: لا يرث الرقيق قناً كان أو مدبراً، أو مكاتباً أو أم ولد؛ لأنه لو ورث .. لكان الملك للسيد وهو أجنبي من الميت، ومثل الرقيق المبعض، لكنه يورث عنه ما ملكه بحريته؛ لتمام ملكه عليه، ولا يرث المرتد من مسلم، وإن عاد إلى الإسلام بعد موته؛ لخبر: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم ولا من كافر؛ إذ لا موالاة بينه وبين غيره؛ لتركه دين

الإسلام وعدم تقريره على ما انتقل إليه، وكما لا يورث، بل تركته فيء. ولا يرث القاتل من مقتوله شيئاً، سواء أكان القتل عمداً أم خطأ أم شبه عمد، مباشرة أو سبباً أو شرطاً، وسواء أكان القاتل مكلفاً أم غير مكلف، مختاراً أم مكرهاً وإن لم يضمنه؛ كما إذا قتل الحاكم مورثه حداً؛ لكونه زانياً محصناً، أو كان قتله دفعاً لصياله، أو قصاصاً، أو بإيجار دواء، أو بشهادته عليه بما له دخل في قتله؛ لخبر النسائي بسند صحيح كما قال ابن عبد البر "ليس للقاتل من الميراث شيء"، ولتهمة استعجال قتله في بعض الصور، وسداً للباب في الباقي، وقد يرث المقتول من قاتله؛ كأن جرحه ثم مات الجارح قبل المجروح. ولا تورث أنت مسلماً ممن كفر؛ أي: من كافر، سواء أكان ذمياً أم معاهداً، أم مستأمناً أم حربياً، ولا العكس؛ لخبر "الصحيحين": "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"، ولا فرق بين الولاء وغيره، وأما خبر: "لا يرث المسلم النصراني، إلا أن يكون عبده أو أمته" .. فقد أعله ابن حزم وإن صححه الحاكم، على أن معناه: أن ما بيده لسيده لا الإرث الحقيقي من العتيق؛ لأنه سماه عبده. ولو مات كافر عن زوجة حامل فوقفنا الميراث للحمل، فأسلمت ثم ولدت .. ورثه ولده مع كونه محكوماً بإسلامه؛ لأنه كان محكوماً بكفره يوم الموت، وقد ورث منه إذ ذاك، وأفهم كلامه: أن الكافر يرث الكافر وإن اختلفت عقيدتهما؛ كاليهودي من النصراني، والنصراني من المجوسي، والمجوسي من الوثني، وبالعكس؛ لأن جميع ملل الكفر في البطلان كالملة الواحدة؛ قال تعالى: {لكم دينكم ولى دين}، وقال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلل}. ولا فرق في توارث بعضهم من بعض بين أن يكونا متفقي الدار ومختلفيها؛ بأن تختلف الملوك ويرى بعضهم قتل بعض؛ كالروم والهند، ولكن لا يرث الذمي والمعاهد والمستأمن من الحربي، ولا الحربي من واحد منهم؛ لانقطاع الموالاة بينهم. وقول الناظم: (ولا معاهد) بكسر الهاء وفتحها، و (حربي) ظهرت محاربته، من عطف الخاص على العام.

باب الوصية

باب الوصية هي لغة: الإيصال؛ لأن الموصي وصل خير دنياه بخير عقباه، وشرعاً: تبرع بحق مضاف ولو تقديراً لما بعد الموت، ليس بتدبير ولا تعليق عتق بصفة وإن التحقا بها حكماً؛ كالتبرع المنجز في مرض الموت، أو الملحق به. والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}، وأخبار؛ كخبر "الصحيحين": "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين .. إلا ووصيته مكتوبة عنده". وأركانها أربعة: موص، وموصى به، وموصى له، وصيغة. (تصح بالمجهول والمعدوم ... لجهة توصف بالعموم) (ليست بإثم، أو لموجود أهل ... للملك عند موته كمن قتل) (وإنما تصح للوارث إن ... أجاز باقي ورث لما دفن) [شروط الموصي] تصح الوصية؛ أي: من المكلف الحر المختار ولو محجوراً عليه بفلس أو سفه، أو كافراً ولو حربياً، فلا تصح وصية غير المكلف ولو مميزاً- والسكران المتعدي بسكره كالمكلف في سائر الأبواب- ولا الرقيق ولو مكاتباً وإن عتق ثم مات، ولا المكره. [الموصى به وشروطه] بالمجهول؛ كالوصية بشاة من شياهه، وبأحد أرقائه، ويعينه الوارث، وبالأعيان الغائبة، وبما لا يقدر على تسليمه؛ كالطير في الهواء، والعبد الآبق، وبالمعدوم؛ كالوصية بما تحمله هذه الدابة، أو بما تحمله هذه الأشجار؛ لأن الوصية احتمل فيها وجوه من الغرر؛ رفقاً بالناس، وتوسعة عليهم، ولأن المعدوم يجوز أن يملك بالمساقاة والإجارة مع أنهما عقدا معاوضة، فبالوصية أولى؛ لأن بابها أوسع من غيره.

فشرط الموصى به: كونه مقصوداً، قابلاً للنقل، مختصاً بالموصي عند موته، لا يزيد على الثلث إذا لم يكن له وارث خاص، فلا تصح بما يحرم اقتناؤه والانتفاع به، ولا بقصاص وحد قذف، وخيار وشفعة، ولا بما لا يختص بالموصي عند موته؛ كأن أوصى برقيق من رقيقه، ولا رقيق له عند موته، ولا بزائد على الثلث إذا كان وارثه بيت المال. وتصح بالحمل إن انفصل حياً حياة مستقرة، وعلم وجوده عندها، فلو انفصل ميتاً بجناية .. نفذت من بدله، ويصح القبول قبل الوضع، وتصح بالمنافع مؤبدة ومؤقتة، والإطلاق يقتضي التأبيد، وبنجس يحل الانتفاع به؛ ككلب يتعلم، وزيت نجس، وخمر محترمة، وجلد ميتة وشحمها. وتصح بنجوم الكتابة، فإن عجز .. فلا شيء له، والوصية برقبة المكاتب كهي بمال الغير؛ كأن يقول: ) أوصيت بهذا العبد) وهو ملك غيره، أو (بهذا العبد إن ملكته)، وفيه وجهان، قال النووي: الجواز أفقه وأجرى على قواعد الباب. انتهى، ونوزع في الصورة الأولى بأن الصح فيها: البطلان. [الموصى له وشروطه] قوله: (لجهة توصف بالعموم ليست بإثم) أي: معصية، قربة كانت كالمسجد والفقراء، أو غير قربة كالأغنياء وأهل الذمة، بخلاف الوصية لأهل الحرب أو الردة، أو لمن يحارب أو يرتد، أو لموجود؛ أي: معين عند الوصية، أهل للملك بتحريك الهاء للوزن عند موته؛ أي: الموصي؛ كمن قتل الموصي ولو تعدياً؛ بأن أوصى لجارحه، ثم مات بالجرح، أو لإنسان فقتله؛ لعموم الأدلة، ولأنها تمليك بصيغة؛ كالهبة بخلاف الإرث، وأما خبر: "ليس للقاتل وصية" .. فضعيف، ولو صح .. حمل على وصية لمن يقتله؛ فإنها باطلة؛ لأنها معصية. ومن الوصية للقاتل الوصية لعبده؛ لأن الوصية له وصية لمالكه. وتسمية الوصية فيما ذكر وصية لقاتل باعتبار ما يؤول إليه من كونه يصير قاتلاً، أو لأن الوصية لما كانت لا تتم إلا بالقبول بعد الموت .. كانت إذ ذاك وصية للقاتل حقيقة. وتصح للحمل الموجود عندها؛ بأن انفصل لدون ستة أشهر، أو لأكثر منها ولم يزد على

أربع سنين والمرأة خلية عن زوج وسيد؛ لأن الظاهر وجوده عندها لندرة وطء الشبهة، وفي تقدير الزنا إساءة ظن، ويقبل للحمل من يلي أمره بعد خروجه. ولا تصح لحمل سيوجد، أو احتمل حدوثه بعدها؛ بأن انفصل لأكثر من أربع سنين، أو لستة أشهر فأكثر والمرأة غير خلية، ولا لأحد الرجلين كسائر التمليكات. نعم؛ لو قال: (أعطوا أحد الرجلين كذا) .. صح؛ تشبيهاً له بما إذا قال لوكيله: (بعه لأحد الرجلين). ولا لميت؛ لعدم أهليته للملك. ولو أوصى لعبد أجنبي .. صحت، ثم إن استمر رقه .. فالوصية لسيده، ويصح قبول العبد وإن منعه السيد، لا قبول السيد عنه، فإن عتق قبل موت الموصي .. فله، أو بعده .. فلسيده، ولو باعه .. نظر في وقت البيع، وجرى فيه التفصيل. ولو أوصى لدابة غيره وقصد الصرف في علفها .. صحت لمالكها؛ كما لو أوصى بعمارة داره، ويشترط قبوله ويتعين صرفه لها، فيتولاه الوصي بنفسه، أو نائبه من مالك أو غيره، فإن لم يكن وصي .. فالحاكم كذلك، ولو انتقل ملك الدابة إلى غيره .. قال الرافعي: فقياس كون الوصية للمالك اختصاصها بالأول، قال النووي: بل قياسه اختصاصها بالثاني كما في العبد، قال السبكي: وهو الحق إن انتقلت قبل الموت، وإلا .. فالحق الأول، وهو قياس العبد في التقديرين. انتهى، وقول النووي: (كما في العبد) يقتضي أنه قائل بهذا التفصيل. أما إذا لم يقصد الصرف في علفها؛ بأن قصد تمليكها أو أطلق .. فباطله. وتصح لمسجد وإن قصد تمليكه، وتصرف في عمارته ومصالحه، ويصرفه القيم في الأهم والأصلح باجتهاده، وتصح لحربي ومرتد. [شروط صحة الوصية للوارث] وإنما تصلح للوارث إن أجاز باقي الورث بضم الواو وتشديد الراء جمع وارث؛ أي: إذا كان المجيزون مطلقي التصرف وإن أوصي له بدون الثلث؛ لخبر البيهقي وغيره من رواية عطاء عن ابن عباس: "لا وصية لوارث، إلا أن يجيز الورثة"، قال الذهبي: إنه

صالح الإسناد، أما إذا ردوا .. فلا تصح للوارث. وقول الناظم: (لما دفن) تنازعه (الوارث) و (أجاز)، فلو أوصي لوارث عند الوصية ثم حجب .. لم يفتقر إلى الإجازة، أو بالعكس .. افتقر إليها، ولو أجازوا قبل الموت .. فلهم الرد بعده، وبالعكس؛ إذ لا حق قبله للموسى له، فلو كان فيهم صبي أو مجنون، أو محجور عليه بسفه .. لم تصح الإجازة منه، ولا من وليه. وفي معنى الوصية للوارث: ما لو وهبه، أو وقف عليه، أو أبرأه من دين له عليه في مرض موته. وخرج بـ (الوارث): الأجنبي، فلا تفتقر وصيته إلى الإجازة إلا فيما زاد على الثلث، وينبغي للوارث أن يعرف قدر التركة والزائد على الثلث، فإن جهل أحدهما وأجاز .. لم تصح. ولو أجاز وقال: (اعتقدت قلة التركة وقد بان خلافه) .. حلف، وتنفذ فيما كان يتحققه، ولو أقام الموصى له بينة بعلمه بقدرها عند الإجازة .. لزمت. ولو كانت بمعين فأجاز ثم قال: (ظننت كثرتها فبان قلتها)، أو (تلف بعضها)، أو (ظهر دين) .. فقولان، أحدهما: صحة الإجازة، وعدم قبول قوله، وصححه النووي في "تصحيح التنبيه". [صيغة الوصية وشروطها] الركن الرابع: الصيغة؛ كـ (أوصيت له بكذا)، أو (أعطوه)، أو (ادفعوا إليه)، أو (جعلته له)، أو (وهبته له بعد موتي)، فلو اقتصر على (وهبته له) ولو بنية الوصية .. فهبة، أو على (هو له) .. فإقرار. وتصح بالكناية مع النية؛ كـ (هو له من مالي)، أو (عبدي هذا لفلان)، أو (عينته له)، وإذا أوصى لغير معين كالفقراء .. لزمت بالموت بلا قبول، أو لمعين .. اشترط القبول، ولا يصح قبول ولا رد في حياة الموصي، ولا يشترط فور بعد الموت، ولو رد بعد الموت والقبول .. لم يصح، وملك الموصى به لمعين موقوف؛ فإن قبل .. بان أنه ملكه بالموت، وإلا .. بان للوارث، وفوائده ومؤنته لمن له الملك، وعليه نفقته ومؤنه.

باب الوصايا

باب الوصايا وهي إثبات تصرف مضاف لما بعد الموت، يقال: أوصيت لفلان بكذا، وأوصيت إليه، ووصيته إذا جعلته وصياً، وقد أوصى ابن مسعود فكتب: (وصيتي إلى الله تعالى وإلى الزبير وابنه عبد الله) رواه البيهقي بإسناد حسن. وأركانها أربعة: موص، ووصي، وموصى فيه، وهو التصرف المالي المباح كما سيأتي، وصيغة كأن يقول: (أوصيت إليك)، أو (فوضت إليك)، أو (أقمتك مقامي)، أو (جعلتك وصياً)، ويشترط القبول، وهل يقوم العمل مقامه؟ وجهان كالوكالة، ولا يعتد به في حياة الموصي، ولا يعتبر الفور بعد الموت، ولو رد في حياته وقبل بعد موته .. صحت، ولو رد بعد الموت .. بطلت. (سن لتنفيذ الوصايا ووفا ... ديونه: إيصاء حر كلفا) (ومن ولي ووصي أذنا ... فيه على الطفل ومن تجننا) (إلى مكلف يكون عدلا ... وأم الاطفال: بهذا أولى) [شروط الموصي] أي: سن لتنفيذ الوصايا إن أوصى بشيء ووفاء ديونه؛ أي: ورد العواري والودائع والغصوب ونحوها إيصاء حر كله أو بعضه (كلفا) بأن يكون بالغاً عاقلاً، فإن لم يوص بها .. نصب القاضي من يقوم بها، ومحل سن الإيصاء برد المظالم إذا لم يعجز عنه في الحال، وإلا .. وجب كما استدركه النووي في "زوائد الروضة"، وذكر الشيخان أول الباب: أن من عنده وديعة، أو عليه حق لله تعالى، أو لآدمي .. يجب عليه أن يوصي به إذا لم يعلم به غيره، زاد في "الروضة": أن المراد علم من يثبت بقوله، قال في "المهمات": وهو

غير كاف، فإن قول الورثة كاف في الثبوت مع أن المتجه: أن علمهم لا يكفي؛ لأنهم الغرماء، فلا بد من حجة تقوم عليهم عند إنكارهم، وأيضاً: فإنه يقتضي أن الشاهد الواحد لا يكفي، فإن الحق لا يثبت به وحده، لكن القياس تخريجه على قضاء الوكيل الدين بحضرة واحد، والصحيح: الاكتفاء به، وكذا الصحيح: الاكتفاء بإشهاد ظاهري العدالة مع أنه لا يثبت بهما. انتهى. وخرج بـ (الحر) الرقيق، وبـ (المكلف) غيره، فلا يصح إيصاؤهما. وسن الإيصاء من ولي؛ أب، أو جد أبي أب وإن علا، ومن (وصي أذنا) له بأن أذن له الولي في الإيصاء عن نفسه، أو عن الوصي على الطفل والمجنون؛ أي: والسفيه الذي بلغ كذلك .. فلا يصح الإيصاء على غيرهم مطلقاً، ولا عليهم من غير المذكورين ولو أماً أو أخاً؛ لأنه لا يلي أمرهم فكيف ينيب فيه؟ ! ولا يصح الإيصاء على الطفل ونحوه من أبيه والجد حي بصفة الولاية؛ لأنه ولي شرعاً فليس للأب نقل الولاية عنه، أما الإيصاء بتنفيذ الوصايا ووفاء الديون ونحوها .. فيصح في حياة الجد، ويكون الوصي أولى منه. ويجوز فيه التوقيت والتعليق؛ كقوله: (أوصيت إليك إلى بلوغ ابني)، أو (قدوم زيد)، فإذا بلغ أو قدم .. فهو الوصي؛ لأن الوصايا تحتمل الجهالات والأخطار، فكذا التوقيت والتعليق، ولأن الإيصاء كالإمارة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيداً على سرية وقال: "إن أصيب زيد .. بجعفر، وإن أصيب جعفر .. فعبد الله بن رواحة" رواه البخاري. [شروط الموصى فيه] وإنما يصح الإيصاء بالتصرف المالي المباح؛ كقضاء الديون، وتنفيذ الوصايا، وأمور الأطفال المتعلقة بأموالهم، فلا يصح الإيصاء بتزويجهم؛ لأن الوصي لا يتغير بلحوق العار بهم، فيتولاه من يعتني بدفع العار عنهم، فإن لم يكن .. فمن له النظر العام وهو الإمام، ولا بتزويج أرقائهم؛ لأن ولاية تزويجهم تبع للولاية على تزويج مالكهم، فإذا امتنع المتبوع .. فالتابع أولى.

ولا يصح بعمارة بيع التعبد وكنائسه ونحوهما؛ لعدم الإباحة. ولو قال: (أوصيت إليك)، أو (أقمتك مقامي في أمر أطفالي) ولم يذكر التصرف .. فله التصرف أيضاً. [شروط الوصي] وإنما يصح الإيصاء ممن ذكر فيما ذكر إلى مكلف يكون عدلاً ولو في الظاهر؛ أي: وكافياً للتصرف الموصى به، فلا يصح الإيصاء إلى صبي ولا مجنون؛ لأنهما مولى عليهما، فكيف يليان أمر غيرهما؟ ! ولا إلى من فيه رق؛ لاستدعاء الإيصاء فراغاً وهو مشغول بخدمة سيده، ولأنه لا يتصرف في مال ابنه .. فلا يصح وصياً لغيره كالمجنون، ولا إلى كافر من مسلم؛ إذ لا ولاية لكافر على مسلم. ويصح إيصاء ذمي على أولاده الكفار إلى ذمي عدل في دينه؛ لجواز كونه ولياً على أولاده، ويصح أيضاً إيصاؤه إلى مسلم؛ كما تصح شهادة المسلم عليه، وقد ثبت له الولاية عليه؛ فإن الإمام يلي تزويج الذميات، ولا الإيصاء إلى فاسق؛ لما في الوصاية من معنى الأمانة والولاية، ولا الإيصاء إلى عاجز عن التصرف لسفه أو هرم أو نحوه. وزاد المتولي وآخرون: عدم كونه عدواً للمولى عليه. وحصروا الشروط بلفظ مختصر فقالوا: ينبغي كونه بحيث تقبل شهادته عليه. وهذه الشروط تعتبر عند الموت على الأصح؛ لأنه وقت التسلط على القبول كما أن الاعتبار في الوصية بحالة الموت، وكما أن الشاهد تعتبر صفاته عند الأداء، حتى لو أوصى إلى من خلا عن الشروط أو بعضها؛ كصبي ورقيق، ثم استكملها عند الموت .. صح، ويؤخذ منه ما قاله البلقيني: أنه لو أوصى إلى غير الجد وهو بصفة الولاية، ثم زالت ولايته عند الموت؛ كأن فسق .. صح، ولا يضر العمى، ويوكل فيما لا يتمكن من مباشرته. وأم الأطفال بهذا؛ أي: بالإيصاء عليهم أولى من غيرها إذا اتصفت بالشروط؛ لأنها أشفق من غيرها، فالذكورة ليست شرطاً؛ لأن عمر أوصى إلى حفصة رضي الله عنهما، رواه أبو داوود. ولو أوصى إلى اثنين فصاعداً: فإن كان في أمر ينفرد صاحب الحق بأخذه؛ كالودائع

والعواري .. فلكل الانفراد، وإلا: فإن أثبت لكل الاستقلال؛ بأن قال: (أوصيت إلى كل منكما)، أو (كل منكما وصيي)، أو (أنتما وصياي) .. فلكل منهما الانفراد بالتصرف، وإن شرط اجتماعهما في التصرف أو أطلق .. فلا انفراد، ولو مات أحدهما، أو جن أو فسق، أو غاب أو رد .. نصب الحاكم بدلاً عنه، والمراد من الاجتماع: صدور التصرف عن رأيهما، لا تلفظهما بصيغ العقود معاً. والوصاية جائزة، فللموسى عزل نفسه إلا أن يتعين، أو يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم، وله أن يوكل فيما لم تجر العادة بمباشرته لمثله. وإذا بلغ الطفل ونازعه في الإنفاق عليه .. صدق الوصي بيمينه، وكذا لو ادعى الإسراف فيه ولم يعين قدراً، وإن عينه .. نظر فيه وصدق من يقتضي الحال تصديقه. ولو ادعى أنه باع ماله بلا حاجة ولا غبطة .. فالقول قول المدعي بيمينه، ولو ادعى الولي دفع ماله إليه بعد البلوغ أو الإفاقة أو الرشد .. لم يقبل قوله إلا ببينة. والألف في قول الناظم: (كلفا) و (أذنا) و (تجننا) للإطلاق.

كتاب النكاح

كتاب النكاح هو لغة: الضم، وشرعاً: عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو بترجمته، وهو حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الأصح؛ كما جاء به القرآن والأخبار، وإنما حمل على الوطء في قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} لخبر: "حتى تذوقي عسيلته". والأصل فيه قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وقوله: {وانكحوا الأيمى منكم}، وأخبار؛ كخبر: "تناكحوا تكثروا"، وخبر: "من أحب فطرتي .. فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح"، رواهما الشافعي رضي الله تعالي عنه بلاغاً، وخبر: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" رواه مسلم، وحسن الترمذي: "ثلاث حق على الله أن يغنيهم: الناكح يريد أن يستعف"، وصححه ابن حبان والحاكم. والنكاح لازم ولو من جهة الزوج. (سن لمحتاج مطيق للأهب ... نكاح بكر ذات دين ونسب) [حكم النكاح] أي: سن لمحتاج إلى النكاح بأن تتوق نفسه إلى الوطء ولو خصياً مطيق للأهب؛ بأن يجد مؤنه من المهر، وكسوة فصل التمكين، ونفقة يوم النكاح، سواء أكان مشتغلاً بالعبادة أم لا؛ تحصيناً للدين، ولخبر "الصحيحين": "يا معشر الشباب؛ من استطاع منكم الباءة .. فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع .. فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" بالمد؛ أي: دافع لشهوته، و (الباءة) بالمد: مؤن النكاح.

أما إذا فقد المحتاج إليه أهبته .. فيسن له تركه، ويكسر شهوته بالصوم؛ إرشاداً لخبر: "يا معشر الشباب". قال في "الروضة" كـ "أصلها": فإن لم تنكسر به .. لم يكسرها بالكافور ونحوه، بل ينكح، قال ابن الرفعة نقلاً عن الأصحاب: لأنه نوع من الاختصاء. وأما غير المحتاج إليه: فإن فقد أهبه .. كره له؛ لما فيه من التزام ما لا يقدر عليه من غير حاجة، وسواء أكان به علة أم لا، وكذا إن وجدها وبه علة كهرم أو مرض دائم أو تعنين، وإن لم يكن به علة .. لم يكره له، لكن تخليته للعبادة أفضل منه إن كان متعبداً، وإلا .. فالنكاح أفضل له من تركه؛ لئلا تفضي به البطالة إلى الفواحش. ونص في "الأم" وغيرها: على أن المرأة التائقة يندب لها النكاح، وفي معناها المحتاجة إلى النفقة، والخائفة من اقتحام الفجرة. [الصفات المستحبة في المنكوحة] وسن لمريد النكاح نكاح بكر إلا لعذر؛ لخبر "الصحيحين" عن جابر: "هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك"، وروى ابن ماجه خبر: "عليكم بالأبكار؛ فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير"، بخلاف ما إذا كان به عذر؛ كضعف آلته عن الافتضاض؛ أو احتياجه لمن يقوم على عياله؛ كما اتفق لجابر؛ فإنه لما قال له رسول لله صلى الله عليه وسلم ما تقدم .. اعتذر له بأن أباه قتل يوم أحد وترك تسع بناات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن، فقال صلى الله عليه وسلم: "أصبت". ذات دين؛ لخبر "الصحيحين": "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" أي: افتقرتا إن خالفت ما أمرتك به، بخلاف الفاسقة ذات نسب؛ لخبر: "تخيروا لنطفكم" رواه الحاكم وصححه، بل يكره نكاح بنت

الزنا وبنت الفاسق، قال الأذرعي: ويشبه أن يلحق بهما اللقيطة ومن لا يعرف أبوها. ويسن أيضاً: كونها ولوداً ودوداً؛ لخبر: "تزوجوا الولود والودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" رواه أبو داوود والحاكم وصحح إسناده. قرابة غير قريبة أو أجنبية؛ لضعف الشهوة في القريبة فيجيء الولد نحيفاً، قال الزنجاني: ولأن من مقاصد النكاح اشتباك القبائل؛ لأجل التعاضد واجتماع الكلمة، وهو مفقود في نكاح القريبة، والبعيدة أولى من الأجنبية. بالغة إلا لحاجة أو مصلحة، ذات جمال، خفيفة المهر؛ ذات خلق حسن، وألا يكون لها ولد من غيره إلا لمصلحة، وألا تكونشقراء، ولا مطلقة يرغب فيها مطلقها، وأن يعقد في شوال وأول النهار، وأن يدخل في شوال، وألا يزيد على واحدة بلا حاجة. [الجمع بين الزوجات] (وجاز للحر بأن يجمع بين ... أربعة، والعبد بين زوجتين) أي: وجاز للحر أن يجمع بين أربع من الزوجات، وجاز للعبد أن يجمع بين زوجتين، أما الحر .. فلقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث وربع}، وقوله عليه الصلاة والسلام لغيلان، وقد أسلم وتحته عشر نسوة: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن" صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وإذا امتنعت الزيادة في الدوام .. ففي الابتداء إولى. قيل: وكان في شريعة موسى الجواز من غير حصر؛ تغليباً لمصلحة الرجال، وفي شريعة عيسى لا يتزوج غير واحدة؛ تغليباً لمصلحة النساء، وراعت شريعتنا مصلحة النوعين. وأما العبد .. فلأنه على النصف من الحر، وقد أجمع الصحابة على أنه لا ينكح أكثر من اثنتين، رواه البيهقي عن الحكم بن عتبة، والمبعض كالعبد. فإن نكح الحر خمساً معاً .. بطلن، أو مرتباً .. فالخامسة، وتحل الأخت والخامسة في عدة بائن لا رجعي؛ لأنها في حكم الزوجة.

والباء في قول الناظم: (بأن يجمع) زائدة، وقوله: (أربعة) بالتاء بمعنى أربعة أشخاص. (وإنما ينكح حر ذات رق ... مسلمة خوف الزنا، ولم يطق) (صداق حرة، وحرم مسا ... من رجل لامرأة لا عرسا) (أو أمة، ونظراً حتى إلى ... فرج ولكن كرهه قد نقلاً) (والمحرم انظر، وإماء زوجت ... لا بين سرة وركبة بدت) (ومن يرد منها النكاح نظرا ... وجها وكفاً باطناً وظاهرا) (وجاز للشاهدأو من عاملا ... نظر وجه، أو يداوي عللا) (أو يشتريها: قدر حاجة نظر ... وإن تجد إنثى فلا ير الذكر) فيها ثمان مسائل: [شروط نكاح الرقيقة] الأولى: إنما ينكح الحر المسلم الرقيقة؛ أي: غير أمة فرعه ومكاتبه بشرط أن تكون مسلمة، فلا يحل له نكاح الأمة الكافرة ولو كتابية ومملوكة لمسلم؛ لقوله تعالى: {فمن ما ملكت أيمنكم من فتيتكم المؤمنت}، بل لا ينكحها الرقيق المسلم؛ لأن المانع من نكاحها كفرها فساوى الحر. ويجوز للحر الكتابي نكاح الأمة الكتابية؛ لاستوائهما في الدين. بشرط أن يخاف زناً ويفقد الحرة، وأن يخاف زناً وإن لم يغلب على ظنه وقوعه بل توقعه ولو على ندور بأن تغلب شهوته ويضعف تقواه، بخلاف من ضعفت شهوته، أو قوي تقواه، أو قدر على التسري بشراء أمة، قال تعالى: {ذلك لمن خشى العنت منكم} أي: الزنا، وأصله المشقة، سمي به الزنا؛ لأنه سببها بالحد في الدنيا، والعقوبة في الآخرة. وعلم من هذا الشرط أن من تحته أمة لا ينكح أخرى. وألا يطيق صداق حرة؛ أي: تصلح للاستمتاع ولو كتابية، أو رضيت بأقل من مهر المثل، قال تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنت} الآية، و (الطول): السعة، والمراد بـ (المحصنات): الحرائر، وذكر المؤمنات في الآية جري على الغالب من أن المؤمن

إنما يرغب في المؤمنة، وأن من عجز عن مهر المؤمنة .. عجز عن مهر الكتابية؛ لأنها لا ترضى بالمؤمن إلا بمهر كثير، وروى البيهقي عن الحسن مرسلاً: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة)، قال: وهو وإن كان مرسلاً .. فهو في معنى القرآن حيث وافقه في النهي، ومعه قول جماعة من الصحابة. انتهى. أما لو كان تحته حرة لا تصلح للاستمتاع، أو قدر عليها؛ كأن تكون صغيرة أو مجنونة، أو مجذومة أو برصاء، أو قرناء أو رتقاء، أو هرمة أو مضناة لا تحتمل الجماع .. فإنه يحل له نكاح الأمة. ولو قدر على غائبة .. حلت له أمة إن لحقت مشقة ظاهرة في قصدها، أو خاف زناً مدته، وإلا .. فلا تحل له الأمة، وضبط الإمام المشقة المعتبرة؛ بأن ينسب محتملها في طلب الزوجة إلى الإسراف ومجاوزة الحد. ولو وجد حرة ترضى بلا مهر، أو بمهر مؤجل وهو يتوقع القدرة عليه عند المحل، أو وجد من يقرضه، أو يبيعه نسيئة، أو يستأجر بأجرة معجلة، أو له مسكن وخادم .. حلت له الأمة، ولو وهب له مال أو جارية .. لم يلزمه القبول. ومن شروط نكاح الأمة: أن تحتمل الوطء، فإن كانت صغيرة لا توطأ .. لم يصح النكاح، ومن بعضها رقيق كالرقيقة. [العورات وأحكام النظر] الثانية: يحرم على الرجل؛ أي: الفحل مس شيء من المرأة الأجنبية من شعر وغيره وإن أبين ذلك الشيء؛ لأنه إذا حرم النظر إليه كما سيأتي .. فاللمس أولى؛ لأنه أبلغ في اللذة، وقد يحرم المس دون النظر؛ كبطن محرمه، وكذا يحرم عليه النظر إلى ما ذكر؛ لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصرهم} وهو خبر بمعنى الأمر. وشمل كلامه: الخصي والمجبوب والهم والمخنث والعنين، والمراهق كالبالغ، فيلزم الولي منعه من مس الأجنبية ونظرها، ويلزمها الاحتجاب منه؛ لظهوره على العورات، بخلاف طفل لم يظهر عليها، قال تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورت النساء}

ونظر الممسوح وهو ذاهب الذكر والأنثيين ونظر العبد إلى سيدته الأمينين .. كنظر المحرم الآتي. وشمل كلامه: الأمة، وهو الأصح عند النووي؛ [فهي] كالحرة. ويحل النظر إلى صغيرة إلا الفرج؛ لأنها ليست في مظنة الشهوة، أما الفرج .. فيحرم نظره، قال الرافعي: كصاحب "العدة": اتفاقاً، زاد في "الروضة" مستدركاً على دعوى الاتفاق قوله: قطع القاضي حسين بحله. وقضية كلام الناظم: أنه يحرم نظر الرجل الفحل إلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها عند أمن الفتنة، وهو ما صححه في "المحرر" و "المنهاج"، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر مظنة الفتنة ومحرك للشهوة، فاللائق بمحاسن الشرع سد الباب، والإعراض عن تفاصيل الأحوال؛ كالخلوة بالأجنبية، لكن في "الروضة" كـ"أصلها": أكثر الصحاب على أنه لا يحرم؛ لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} وهو مفسر بالوجه والكفين، لكن يكره، وقال في "المهمات": إنه الصواب؛ لكون الأكثرين عليه. وقال البلقيني: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما في "المنهاج". ونظر المرأة إلى الرجل الفحل الأجنبي كنظره إليها وهو ما صححه النووي؛ قياساً على نظره إليها، ولقوله تعالى: {وقل للمؤمنت يغضضن من أبصرهن}، ولما رواه الترمذي وصححه: أن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن نزل الحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه"، فقلنا: يا رسول الله؛ أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ ! فقال: "أفعمياوان أنتما؟ ! ألستما تيصرانه؟ ! ".

وأما خبر "الصحيحين" عن عائشة: أنها نظرت إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد .. فأجاب عنه النووي في "شرح مسلم" بأنه ليس فيه أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم، ولا يلزم منه تعمد النظر إلى البدن، وإن وقع بلا قصد .. صرفته في الحال. وأفهم كلام الناظم: أنه يحل نظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة، وهو كذلك فيما عدا ما بين السرة والركبة، وأنه يحل نظر الكافرة إلى المسلمة، وهو كذلك في مملوكها ومحرمها، وأما في غيرهما .. فالأصح: تحريمه؛ لقوله تعالى: {أو نسآئهن}، والكافرة ليست من نساء المؤمنات، فلا تدخل الحمام مع المسلمة. وما الذي تراه منها؟ قال الإمام وغيره: هي معها كالأجنبي، وصححه البلقيني، والشبه عند الشيخين: أنها ترى منها ما يبدو عند المهنة، وهو الوجه، والرأس، واليد إلى المرفق، والرجل إلى الركبة. قال الأذرعي: وهذا غريب لم أره نصاً، بل صرح القاضي والمتولي والبغوي وغيرهم بأنها معها كالأجنبي. انتهى. وأفتى النووي بأنه يحرم على المرأة كشف وجهها لها، وهو ظاهر على القول بأنها كالأجنبي. [نظر الرجل لزوجته وأمته واستمتاعه بهما] الثالثة: لا يحرم مس الرجل عرسه بكسر العين؛ أي: زوجته، ولا أمته اللتين يجوز تمتعه بهما، ولا عكسه، وقد مر حكم مباشرة الحائض والنفساء فيما بين السرة والركبة، ولا يحرم نظر الرجل إليهما ولا عكسه وإن عرض مانع قريب الزوال؛ كحيض ورهن، حتى إلى الفرج ولو باطناً؛ لأنه محل تمتعه، لكن كرهه قد نقل عن الأئمة؛ لخبر: "النظر إلى الفرج

يورث الطمس" أي: العمى، رواه ابن حبان وغيره في الضعفاء، وخالف ابن الصلاح فقال: إنه جيد الإسناد. وشمل كلامهم: الدبر، وقول الإمام: والتلذذ بالدبر بلا إيلاج جائز .. كالصريح فيه، وكذا قول "الروضة" و "أصلها" هنا: للزوج النظر إلي جميع بدن زوجته، إلا الفرج ففيه وجهان، أصحهما: الجواز، وفي باب ما يملكه الزوج من التمتع: له جميع التمتع، إلا النظر إلى الفرج ففيه خلاف سبق في حكم النظر، وإلا الإتيان في الدبر فإنه حرام، والذي سبق له في حكم جواز النظر جوازه إلى الفرج من غير استثناء الدبر، فهذا منهما كالصريح في جواز نظره إليه، وقال الدارمي بحرمته. [نظر الرجل إلى محرمه وعكسه] الرابعة: يجوز النظر للرجل إلى محرمه وعكسه، ونظر الزوج إلى زوجته التي امتنع تمتعه بها؛ كمعتدة عن شبهة، والسيد إلى إمته التي امتنع تمتعه بها؛ كمرتدة ومجوسية ووثنية ومزوجة ومكاتبة ومشتركة، وعكسه إلى جميع البدن، إلا ما بين السرة والركبة، أما المحرم .. فلقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن} الآية، والزينة مفسرة بما عدا ما بين السرة والركبة، وسواء فيه المحرم بالنسب والرضاع والمصاهرة، والنظر بشهوة حرام لكل منظور إليه سوى زوجته وأمته. [نظر الرجل للمرأة التي يريد نكاحها] الخامسة: من يرد نكاحاً من امرأة .. نظر ندباً منها وجهها وكفيها باطناً وظاهراً قبل خطبتها وإن لم تأذن له فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة وقد خطب امرأة: "انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أي: تدوم المودة والألفة بينكما، رواه الترمذي وحسنه، ولقوله صلى الله عليه وسلم في خبر جابر: "إذا خطب أحدكم المرأة: فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها .. فليفعل"، قال جابر (فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها

ما دعاني إلى نكاحها فتزوجها) رواه أبو داوود والحاكم وصححه. وخرج بـ (الوجه والكفين): غيرهما فلا ينظره؛ لأنه عورة منها، وفي نظرهما كفاية؛ إذ يستدل بالوجه على الجمال، وبالكفين على خصب البدن، ومن هنا علم أن محل نظره إليهما إذا كانت ساترة لما عداهما، وبه جزم جماعة منهم الروياني وابن داوود، ونقلاه عن النص. وله تكرير نظره؛ ليتبين هيئتها فلا يندم بعد نكاحها عليه، وإنما كان النظر قبل الخطبة؛ لئلا يعرض عنها بعدها فيؤذيها، والمراد بـ (خطب) في الخبرين السابقين: عزم على خطبتها؛ بدليل ما رواه أبو داوود وابن حبان في "صحيحه": "إذا ألقي في قلب امراء خطبة امرأة .. فلا بأس أن ينظر إليها". قال الإمام والروياني: وله النظر وإن خاف الفتنة لغرض التزوج. وإذا لم تعجبه .. فليسكت ولا يقل: لا أريدها؛ لأنه إيذاء، وهي أيضاً تنظر إلى وجهه وكفيه ندباً إذا عزمت على نكاحه؛ لأنها يعجبها منه ما يعجبه منها. وخرج بالنظر من الجانبين: المس؛ إذ لا حاجة إليه. ومن لم ينظر .. بعث من يباح له نظر المبعوث إليه؛ كمحرم ينظر ويصف له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم إلى امرأة وقال: "انظري عرقوبها وشمي عوارضها" رواه الحاكم وصححه، وفي رواية الطبراني: "وشمي معاطفها"، ويؤخذ منه أن للمبعوث أن يصف للباعث زائداً على ما ينظر هو، فيستفيد بالبعث ما لا يستفيده بنظره. [نظر الشاهد] السادسة: يجوز للشاهد النظر إلى وجه المرأة الأجنبية؛ لأجل الشهادة تحملاً وأداء؛ للحاجة، ويجوز لمن عاملها ببيع أو غيره نظر وجهها كذلك.

قال الشيخان: ولو خاف من النظر للشهادة الفتنة .. فيشبه المنع؛ لأن في غيره غنية، فإن تعين عليه .. نظر واحترز. قال الزركشي- وبه صرح الماوردي-: والصحيح: جواز النظر إلى فرج الزانيين؛ لتحمل الشهادة بالزنا، وإلى فرجها وثديها للشهادة بالولادة والرضاع، ومثله نظر العانة لمعرفة البلوغ. [النظر للمداواة] السابعة: يجوز النظر للمداواة والعلاج والفصد، ومثله المس بشرط حضور محرم أو نحوه، وفقد المعالج من كل صنف، ولهذا قال الناظم: (وإن تجد أنثى) أي: تداوي المرأة .. فلا يراها الرجل لذلك، وألا يكون ذمياً مع وجود مسلم، وكشف قدر الحاجة فقط، وأصل الحاجة يبيح النظر إلى الوجه واليدين، ويجوز إلى بقية الأعضاء إذا تأكدت بحيث يبيح التيمم، وإلى السوأتين إذا زاد الأمر وصار بحيث لا يعد التكشف هتكاً للمروءة. [النظر للرقيق إذا أراد شراءه] الثامنة: يجوز لمن أراد شراء رقيق أن ينظرمنه قدر الحاجة؛ وهو ما عهدا ما بين سرته وركبته؛ لأن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها. وقول الناظم: (لا عرسا) أي: لا مس عرس، والألف في قوله: (نقلا) و (نظرا) و (عاملا) للإطلاق، وقوله: (والمحرم)، (وإماء) يجوز في كل منهما نصبه ورفعه، وقوله: (بدت) أي: ظهرت، وقوله: (قدر حاجة) قيد في مسألة المداواة والشراء. (ولا يصح العقد إلا بولي ... وشاهدين الشرط: إسلام جلي) (لا في ولي زوجة ذمية ... واشترط التكليف والحريه) (ذكورة عدالة في الإعلان ... لا سيد لأمة وسلطان) [شروط صيغة عقد النكاح] أي: ولا يصح عقد النكاح إلا بولي وشاهدين؛ أي: وزوجين خاليين من موانع النكاح، وإيجاب وقبول، فالإيجاب؛ كقول الولي: (زوجتك)، أو (أنكحتك ابنتي)، أو

(تزوجها)، أو (انكحها)، والقبول؛ كقول الزوج: (قبلت نكاحها)، أو (تزويجها)، أو (هذا النكاح)، أو (التزويج)، أو (نكحت)، أو (تزوجت بنتك)، ويجوز تقدم لفظ الزوج؛ كقوله: (زوجني)، أو (أنكحني). ويصح بغير العربية وإن أحسن العاقدان العربية اعتباراً بالمعنى، ومحله: إذا فهم كل من العاقدين كلام الآخر، فإن لم يفهمه وأخبره ثقة بمعناه .. ففي الصحة وجهان، رجح منهما البلقيني: المنع. وقد علم: أنه لا يصح النكاح بغير لفظ التزويج أو الإنكاح؛ كلفظ البيع والتمليك، والإحلال والإباحة؛ إذ لم يرد الشرع إلا بهما، وأن الزوج لو اقتصر على (قبلت) .. لم يصح بخلاف البيع، ولو قال: (قبلتها) أو (قبلت النكاح) أو (التزويج) .. ففي الصحة وجهان، ونص في "الأم" على البطلان في الأولى، والصحة في الثانية، وجرى عليه الشيخ أبو حامد وغيره. ويعتبر تعيين كل من الزوجين، والعلم بذكورة الزوج وأنوثة الزوجة، فالخنثى المشكل لا يصح أن يكون زوجاً وإن بان بعد العقد ذكراً، ولا زوجة وإن بان بعده أنثى، ولا يصح تعليقه كالبيع بل أولى؛ لاختصاصه بوجه الاحتياط. نعم؛ قال البغوي: لو بشرت ببنت فقال: (إن صدق المخبر فقد زوجتكها) .. صح، ولا يكون ذلك تعليقاً، بل هو تحقيق؛ كقوله: (أن كنت زوجتي .. فأنت طالق)، وتكون إن بمعنى إذ؛ كقوله: {وخافون إن كنتم مؤمنين}، قال: وكذا لو أخبر بموت إحدى نسائه فقال: (إن صدق المخبر .. فقد تزوجت بنتك)، قال في "الروضة" كـ"أصلها": وما قاله يجب فرضه فيما إذا تيقن صدق المخبر، وإلا .. فلفظ (إن) للتعليق. ولا يصح توقيته؛ كأن ينكح إلى سنة، أو قدوم زيد؛ للنهي عن نكاح المتعة في خبر "الصحيحين"، وهو المؤقت، ولا نكاح الشغار؛ للنهي عنه في خبر "الصحيحين"، نحو: (زوجتكها على أن تزوجني بنتك، وبضع كل واحدة وألف صداق الأخرى).

[شروط الولي والشاهدين] والشرط في كل من الولي والشاهدين: الإسلام الجلي؛ أي: الظاهر؛ لخبر ابن حبان في "صحيحه": "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك .. فهو باطل، فإن تشاجروا .. فالسلطان ولي من لا ولي له". والمعنى في اعتبار الشاهدين وإن كانت الزوجة ذمية: الاحتياط للأبضاع وصيانة الأنكحة عن الجحود. وخرج بـ (الظاهر): مستور الإسلام، وهو من لا يعرف إسلامه فلا ينعقد به، ولا يشترط الإسلام في ولي الزوجة الكافره؛ فالكافر يلي نكاح موليته الكافرة وإن اختلفت ملتهما؛ لقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}. ويشترط في الولي والشاهدين أيضاً: التكليف والحرية؛ فلا ولاية لصبي ولا مجنون وإن تقطع جنونه، ولا رقيق ومبعض؛ لنقصهم. وذكورة؛ فلا ولاية لامرأة ولا خنثى. نعم؛ لو عقد بخنثيين فبانا ذكرين .. فالأصح في "الروضة": الصحة، وفرضها في الشاهدين، ومثلهما الولي، فلا تزوج امرأة نفسها بإذن من وليها ولا دون إذنه، ولا غيرها بوكالة عن الولي، ولا ولاية، ولا تقبل نكاحاً لأحد بولاية، ولا وكالة؛ فطما لها عن هذا الباب؛ إذ لا يليق بمحاسن العادات دخولها فيه؛ لما قصد منها من الحياء وعدم ذكره أصلاً؛ قال تعالى: {الرجال قومون على النساء}، وتقدم خبر: "لا نكاح إلا بولي"، وروى ابن ماجه خبر: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها"، وأخرجه الدارقطني بإسناد على شرط الشيخين. وعدالة في الإعلان؛ أي: الظاهر، فينعقد بالمستور من كل من الولي والشاهدين، وهو المعروف بها ظاهراً لا باطناً؛ بأن عرفت بالمخالطة دون التزكية عند الحاكم؛ لأن الظاهر من

المسلمين العدالة، ولأن النكاح يجري بين أوساط الناس والعوام، ولو اعتبر فيه العدالة الباطنة .. لاحتاجوا إلى معرفتها؛ ليحضروا من هو متصف بها فيطول الأمر عليهم ويشق. [ما يعتبر في الشاهدين] ويعتبر في الشاهدين أيضاً: سمع، وبصر، وضبط، ونطق، وفقد الحرف الدنية، ومعرفة لغة العاقدين، فإن كانا يضبطان اللفظ .. فوجهان، رجح منهما القاضي: الانعقاد؛ لأنهما ينقلانه إلى الحاكم، والأصح: انعقاده بابني الزوجين وعدويهما. ولا تشترط العدالة الظاهرة في سيد الأمة؛ بناء على الأصح: أنه يزوجها بالملك لا بالولاية، فيزوج الفاسق أمته وكذا المكاتب، ولا في السلطان بناء على الأصح، وهو أنه لا ينعزل بالفسق، فيزوج السلطان الفاسق بناته وبنات غيره بالولاية العامة. ولو بان فسق الشاهد عند العقد .. تبين بطلانه؛ لفوات العدالة، وإنما يتبين ببينة، أو اتفاق الزوجين عليه؛ بأن نسياه عند العقد وتذكراه بعده، أو لم يعرفا عين الشاهد ثم عرفاه مع معرفتهما بفسقه، أو عرفا عينه وفسقه عند العقد، ولا أثر لقول الشاهدين: (كنا فاسقين عند العقد) لأن الحق ليس لهما فلا يقبل قولهما على الزوجين. ولو اعترف به الزوج وأنكرت .. فرق بينهما؛ لاعترافه بما يتبين به بطلان نكاحه، وعليه نصف المسمى إن لم يدخل بها، وإلا .. فكله، ولا يقبل قوله عليها في المهر، وهي فرقة فسخ لا تنقص عدد الطلاق لو نكحهاً. ولو اعترفت الزوجة بالفسق وأنكره الزوج .. فالأصح: عدم قبول قولها عليه؛ لأن العصمة بيده وهي تريد رفعها، والأصل بقاؤها، فإن طلقت قبل دخول .. فلا مهر لها؛ لإنكارها، أو بعده .. فلها أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل. ويستحب الإشهاد على رضا المرأة بالنكاح، حيث يعتبر رضاها بأن تكون غير مجبرة؛ احتياطاً ليؤمن إنكارها. ويقدم في ولاية النكاح القرابة؛ لاختصاص الأقارب بزيادة الشفقة ثم الولاء؛ لالتحاقه بالنسب؛ لخبر: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، ثم السلطنة؛ لخبر: "السلطان ولي من لا ولي له".

فإن تعذر الولي والسلطان، فحكمت عدلاً يزوجها وإن لم يكن مجتهداً .. جاز على المختار في "الروضة" الموافق لظاهر نص نقل عن الشافعي رضي الله عنه. [ترتيب الأولياء في النكاح] ثم بين الناظم ترتيب الأولياء فقال: (ولي حرة: أب فالجد ثم ... أخ، فكالعصبات رتب إرثهم) (معتق فعاصب كالنسب ... فحاكم كفسق عضل الأقرب) أي: ولي حرة أبوها فيقدم على غيره؛ لأنه أشفق من سائر العصبات، ولأنهم يدلون به، ثم الجد أبوه وإن علا إلى حيث ينتهي؛ لأن لكل منهم ولادة وعصوبة فقدموا على من ليس لهم إلا عصوبة، ويقدم الأقرب فالأقرب، ثم أخ لأبوين كالإرث؛ لزيادة القرب والشفقة، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأبوين، ثم لأب وإن سفل، ثم عم لأبوين ثم لأب، ثم ابن عم لأبوين، ثم لأب وإن سفل، ثم سائر العصبة من القرابة كالإرث. وقد علم: أن الجد مقدم هنا على الأخ وإن شاركه في الإرث، وأنه لا يزوج ابن ببنوة وإن كان أولى العصبات في الإرث؛ لأنه لا مشاركة بينه وبين أمه في النسب، فلا يعتني بدفع العار عنه، ولهذا لم تثبت الولاية للأخ من الأم. فإن كان فيه سبب؛ لكونه ابن ابن عم، أو معتقاً أو قاضياً، أو له قرابة أخرى تولدت من أنكحة المجوس، أو وطء الشبهة .. فإنه يزوج به ولا تضره البنوة؛ لأنها غير مقتضية لا مانعة. فإن لم يوجد نسب .. فالمعتق يزوج، ثم عصبته بحق الولاء كالنسب؛ أي: كترتيبهم في الإرث، وقد تقدم بيانه في بابه، ويزوج عتيقة المرأة من يزوج المعتقة ما دامت حية؛ لأنه لما انتفت ولاية المرأة للنكاح .. استتعب الولاية عليها الولاية على عتيقها، فيزوجها أبو المعتقة، ثم جدها على ترتيب الأولياء، ولا يزوجها ابن المعتقة، ويعتبر في تزويجها رضاها، ولا يعتبر إذن المعتقة؛ لأنها لا ولاية لها. وظاهر أنه لو كانت العتيقة مسلمة ومعتقتها كافرة .. لا يزوجها وليها الكافر، وأنها لو كانت كافرة والمعتقة مسلمة .. زوجها وليها الكافر.

فإذا ماتت .. زوج من له الولاء؛ فيقدم ابنها على أبيها، فإن لم يوجد عصبة من جهة الولاء .. فالحاكم يزوج المرأة التي في محل محكمه وإن كان مالها في غيره بالولاية العامة، بخلاف الغائبة عن محل حكمه وإن كان مالها فيه. [تزويج الحاكم عند فسق القريب أو عضله] قوله: (كفسق عضل القرب) أي: فإن الحاكم يزوجها أيضاً عند فسق الأقرب منه في الولاية من نسيب، أو ذي ولاء، أو عضل الأقرب من العصبة؛ أي: منعه من تزويج موليته، فإن الحاكم يزوجها لا الأبعد؛ كما في غيبته لمسافة القصر، أو إرادته نكاحها، أو إحرامه؛ لأن التزويج حق عليه، فإذا امتنع منه .. وفاه الحاكم، ويأثم بالعضل؛ لقوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزوجهن} الآية، وهل تزويجه حينئذ بالولاية أو النيابة؟ وجهان حكاهما الإمام فيه، وفي صورة فيها ولي خاص، وصحح في (باب القضاء) فيما إذا زوج للغيبة أنه بنيابة اقتضتها الولاية. وإنما يزوج بالعضل إذا لم يتكرر، فإن تكرر مرات أقلها فيما قال بعضهم: ثلاث .. فسق الولي، فتنتقل الولاية للأبعد، ذكره في "الروضة" و "أصلها"، ومحله: إذا لم تغلب طاعاته معاصيه؛ كما يؤخذ من كلامهم في (كتاب الشهادات) وإنما يحصل العضل إذا دعت بالغة عاقلة إلى كفء وامتنع الولي من تزويجه وإن كان امتناعه لنقص المهر، أو لكونه من غير نقد البلد؛ لأن المهر يتمحض حقاً لها، بخلاف ما إذا دعت إلى غير كفؤ .. فلا يكون امتناعه عضلاً؛ لأن له حقاً في الكفاءة. ويؤخذ من التعليل أنها لو دعته إلى عنين، أو مجبوب- بالباء- فامتنع .. كان عاضلاً وهو كذلك؛ إذ لا حق له في التمتع. ولو دعت إلى رجل وادعت كفاءته، وأنكرها الولي .. رفع إلى القاضي، فإن ثبتت كفاءته .. لزمه تزويجها منه، فإن امتنع .. زوجها القاضي منه. ولابد من ثبوت العضل عند الحاكم ليزوج، بأن يمتنع الولي من التزويج بين يديه، أو يسكت بعد أمره به، والمرأة والخاطب حاضران، أو تقم البينة عليه لتوار أو تعزز أو غيبته؛

كما في سائر الحقوق، بخلاف ما إذا حضر: فإنه إن زوج .. فقد حصل الغرض، وإلا .. فعاضل، فلا معنى للبينة عند حضوره. ولو عينت كفؤاً، وأراد المجبر كفؤاً غيره .. فله ذلك؛ لأنها مجبرة؛ فليس لها اختيار الزواج، ولأنه أكمل نظراً منها، بخلاف غير المجبر، فإنه لو عين كفؤاً وعينت هي آخر .. زوجها من معينها؛ لأن إذنها شرط في أصل تزويجها فاعتبر معينها، فإن امتنع .. فهو عاضل. وقول الناظم: (كفسق) غير منون؛ لإضافته لمثل ما أضيف له (عضل) وحذف منه العاطف، لكن فسق الأقرب ينقل الولاية للأبعد؛ فلا يصح ما ذكره المصنف فيه؛ لأن الحاكم لا يزوج حينئذ، والظاهر: أن عبارة المصنف كانت: (كعند عضل الأقرب) فتصحفت لفظة (عند) بـ (فسق)، وهذا هو اللائق بمقامه. [حكم خطبة المعتدة والبائن] (حرم صريح خطبة المعتدة ... كذا الجواب لا لرب العدة) (وجاز تعريض لمن قد بانت ... ونكحت عند انقضاء العدة) أي: حرم أنت صريح خطبة المعتدة بكسر الخاء، رجعية كانت أو بائناً، بطلاق أو فسخ أو موت، أو كانت معتدة عن شبهة، كذا الجواب؛ أي: التصريح بجواب خطبتها حرام؛ للإجماع فيهما، لا لرب العدة؛ أي: صاحبها الذي يحل له نكاحها، فلا يحرم عليه التصريح بخطبة تلك المعتدة، ولا يحرم عليها التصريح بجوابه؛ لأنه يحل له نكاحها في عدته. وجاز تعريض بالخطبة للبائن، وتعريض بجوابها؛ لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} أي: أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه صريحاً ولا تعريضاً، ولا نقطاع سلطنة الزوج عنها، بخلاف التصريح؛ لأنه إذا صرح .. تحققت رغبته فيها، فلربما تكذب في انقطاع العدة، وبخلاف الرجعية فيحرم التعريض لها؛ لأنها في معنى المنكوحة، ونكحت أي: جوازاً عند انقضاء عدتها من شاءت، وكسر الناظم التاء من (بانت) للوزن. وأفهم كلامه: جواز خطبة الخلية عن النكاح والعدة تعريضاً وتصريحاً، وتحريم خطبة المنكوحة كذلك بالإجماع.

والتصريح: ما يقطع بالرغبة في النكاح؛ كـ (أريد أن أنكحك)، أو (إذا انقضت عدتك .. نكحتك)، والتعريض: ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيرها؛ كـ (رب راغب فيك)، أو (من يجد مثلك)، أو (أنت جميلة). وفي "البحر" عن "الأم": لو قال: (عندي جماع يرضي من جومعت .. فهو تعريض محرم)، وهذا يدل على أن بعض التعريض حرام. وقال بعضهم: التعريض بالجماع تصريح بالخطبة، ويمكن رد كلام "الأم" إليه. وتحرم خطبة على خطبة من صرح بإجابته إذا لم يأذن فيها ولم يعرض، ولا أعرض عنه المجيب؛ لخبر "الصحيحين"، واللفظ لمسلم: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له"، وفي رواية: "حتى يذر". ويشترط للتحريم أيضاً العلم بالخطبة، وبالإجابة والنهي، وكون الأولى جائوة، وسواء أكان الأول مسلماً أم كافراً محترماً، وذكر الأخ في الخبر جري على الغالب، ولأنه أسرع امتثالاً. والمعتبر: رد الولي وإجابته إن كانت مجبرة، وإلا .. فردها وإجابتها، وفي الأمة غير المكاتبة: السيد أو وليه، وفي المجنونة: السلطان، وفي المكاتبة: إجابتها وإجابة السيد معاً. (والأب والجد لبكر أجبرا ... وثيب زواجها تعذرا) (بل إذنها بعد البلوغ قد وجب ... وحرموا من الرضاع والنسب) (لا ولدا يدخل في العمومة ... أو ولد الخؤولة المعلومة) فيها أربع مسائل: [إجبار البكر على النكاح وشروطه] الأولى: يجبر كل من الأب والجد موليته البكر؛ أي: التي لم توطأ في قبلها، وليس بينها وبينه عداوة ظاهرة على النكاح، بمهر المثل؛ من نقد البلد، من كفء لها موسر بمهرها، صغيرة أو كبيرة، باقية البكارة أو فاقدتها بلا وطء؛ كأن زالت بإصبع أو سقطة، أو خلقت بلا

بكارة، أما في باقيتها .. فلخبر مسلم وغيره: "الأيم أحق بنفسها من وليها"، زاد الدارقطني: "والبكر يزوجها أبوها"، وأما في فاقدتها .. فلأنها لم تمارس الرجال بالوطء في محل البكارة، وهي على غباوتها وحيائها فهي كالأبكار، فلا يؤثر زوال حياء الأبكار بمخالطة الرجال مع بقاء البكارة؛ كما نص عليه في "الأم"، وخرج بالقبل الدبر فلا يعتبر عدم وطئه. ويستحب استئذان الكبيرة؛ تطييباً لخاطرها. أما الموطوءة في قبلها حلالاً أو حراماً أو شبهة ولو في حال جنونها أو إكراهها أو نومها .. فلا تجبر وإن عادت بكارتها؛ لخبر مسلم السابق. نعم؛ إن كانت مجنونة ولو صغيرة .. فله تزويجها، وقضية كلام الجمهور: أن الغوراء إذا غابت في قبلها الحشفة ولم تزل بكارتها .. بكر. [تعذر تزويج الثيب الصغيرة] الثانية: الثيب الصغيرة العاقلة يتعذر تزويجها؛ لأن الثيب لا تزوج إلا بإذنها نطقاً، والصغيرة لا إذن لها. [تزويج الثيب البالغة] الثالثة: الثيب البالغة لا يزوجها وليها الأب أو غيره إلا بصريح الإذن. ومن على حاشية النسب؛ كأخ وعم .. لا يزوج صغيرة، أو مجنونة بحال، بكراً كانت أو ثيباً؛ لأنه إنما يزوج بالإذن ولا إذن لها. وأما البكر البالغة: إذا استؤذنت في التزويج .. فيكفي سكوتها وإن لم تعلم أن ذلك إذنها؛ لخبر مسلم: "والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها"، وسواء أضحكت أم بكت، إلا إذا بكت مع صياح وصراخ، وضرب خد .. فإن ذلك يشعر بعدم الرضا، ويكفي سكوتها في تزويجها بغير كفء، لا بغير نقد البلد، ولا بأقل من مهر مثلها.

[بيان المحرمات على التأبيد من النسب والرضاع] الرابعة: في بيان المحرمات في النكاح على التأبيد من النسب والرضاع، وفي ضبطهن عبارتان: أحدهما: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: تحرم عليه أصوله وفصوله، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده؛ أي: بعد أول الأصول، فالأصول: الأمهات، والفصول: البنات، وفصول أول الأصول: الأخوات وبنات الأخ والأخت، وأول فصل من كل أصل بعد الأصل الأول؛ كالعمات والخالات. الثانية: قال تلميذه الأستاذ أبو منصور البغدادي: تحرم نساء القرابة إلا من دخلت في اسم ولد العمومة، أو ولد الخؤولة. قال الشيخ: وهذه العبارة أرجح؛ لإيجازها، ولأن الأولى لا تنص على الإناث؛ لأن لفظ (الأصول) و (الفصول) يتناول الذكور والإناث، ولأن اللائق بالضابط أن يكون أقصر من المضبوط، والأولى بخلافه، ولهذا اقتصر الناظم ككثير على الثانية. والأصل في المحرمات المذكورة: قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهتكم وبناتكم} الآية، وخبر "الصحيحين": "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة"، وفي رواية: "من النسب"، وفى أخرى: "حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب". وأمك من النسب: كل أنثى ولدتك، أو ولدت من ولدك بواسطة أو بغيرها، وبنتك منه: كل أنثى ولدتها، أو ولدت من ولدها بواسطة أو بغيرها، وقس عليهما الباقيات. وأمك من الرضاع كل امرأة أرضعتك أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من ولدك بواسطة أو بغيرها، أو ولدت المرضعة أو الفحل، وبنتك منه: كل امرأة ارتضعت بلبنك، أو بلبن من ولدته، أو أرضعتها امرأة ولدتها، وكذا بناتها من النسب والرضاع، وقس عليهما الباقيات. أماولد العمومة الشامل لولد الأعمام والعمات، وولد الخؤولة الشامل لولد الأخوال والخالات وإن بعدوا .. فتحل مناكحتهم.

وتحل له المخلوقة من زناه وإن تيقن أنها منه؛ إذ لا حرمة لماء الزنا، فهي أجنبية عنه شرعاً بدليل انتفاء سائر أحكام النسب عنها. نعم؛ يكره ذلك خروجاً من الخلاف، وإذا تحرم على الأب .. فغيره من جهته أولى، وخرج بـ (الأب) " الأم، فيحرم عليها وعلى سائر محارمها نكاح ابنها من الزنا؛ لثبوت النسب والإرث بينهما. ولو تزوج امرأة مجهولة النسب فاستلحقها أبوه .. ثبت نسبها ولا ينفسخ النكاح؛ أي: إن لم يصدقه الزوج، حكاه المزني، ثم قال: وفيه وحشة، قال القاضي في "فتاويه": وليس لنا من يطأ أخته في الإسلام إلا هذا. ولا تحرم مرضعة الأخ وولد الولد، ولا أم مرضعة الولد وبنتها. والألف في قول الناظم: (تعذرا) للإطلاق. [المحرمات بالمصاهرة] ولما ذكر السببين الأولين للتحريم المؤبد وهما النسب والرضاع .. ذكر الثالث وهو المصاهرة فقال: (ومن صهارة بعقد حرما ... زوجات فرعه وأصل قد نما) (وأمهات زوجة إذ تعلم ... وبالدخول فرعها محرم) أي: ومن صهارة يحرم بمجرد العقد الصحيح من غير توقف على الوطء زوجات فرعه؛ من ابن وحافد وإن سفل من نسب أو رضاع؛ قال تعالى: {وحلئل أبنائكم الذين من أصلبكم} لإخراج زوجة من تبناه لا زوجة ابن الرضاع؛ لتحريمها بالخبر السابق، وقدم على مفهوم الآية؛ لتقدم المنطوق على المفهوم حيث لا مانع. وزوجات أصل له من أب وجد وإن علا من نسب أو رضاع؛ قال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكحء اباؤكم من النساء}. وأمهات زوجة له؛ إذ تعلم؛ أي: إذا علمت من أم وجدة وإن علت من نسب أو رضاع؛

قال تعالى: {وأمهت نسائكم}، أما الفاسد .. فلا يتعلق به حرمة كما لا يتعلق به حل المنكوحة. وبالدخول بالزوجة فرعها من بنت وحافدة وإن سلفت .. يحرم نكاحها؛ قال تعالى: {وربئبكم التى في حجوركم من نسائكم التى دخلتم بهن}. وذكر الحجور جري على الغالب، وكوطئه فيما ذكر استدخال مائه المحترم، فإن لم يكن وطء ولا استدخال .. لم تحرم فروعها؛ بخلاف أمهاتها كما مر، والفرق: أن الرجل يبتلى عادة بمكالمة أمهاتها عقب العقد ليرتبن أموره، فحرمن بالعقد؛ لتسهيل ذلك بخلاف فروعها. وعلم مما ذكر: أنه لا تحرم بنت زوج الأم، ولا أمه، ولا بنت زوج البنت، ولا أمه، ولا أم زوجة الأب، ولا بنتها، ولا زوجة الربيب، ولا زوجة الراب؛ لخروجهن عن المذكورات. [بقية أسباب التحريم المؤبد] وبقي من أسباب التحريم المؤبد أمران: أحدهما: الوطء بملك اليمين، فمن وطء امرأة بملك .. حرمت عليه أمهاتها وبناتها، وحرمت على آبائه وأبنائه؛ لأن الوطء في ملك اليمين نازل منزلة عقد النكاح. ثانيهما: الوطء يشبة، فمن وطء امرأة بشبهة في حقه؛ كأن ظنها زوجته، أو أمته بنكاح أو شراء فاسدين، أو غير ذلك .. تحرم عليه أمهاتها وبناتها، وتحرم على آبائه وأبنائه، كما يثبت هذا الوطء النسب، ويوجب العدة، وسواء ظنته كما ظن أم لا، لا في حقها فقط، ولا مباشرة بشهوة كمفاخذة ولمس. ولو اختلطت محرمه بنسوة قرية كبيرة .. جاز له أن ينكح منهن، وإلا .. امتنع عليه باب النكاح، فإنه وإن سافر إلى بلد آخر لم يأمن مسافرتها إلى ذلك البلد أيضاً، لا بمحصورات؛ كالعشرة والعشرين. ولو طرأ مؤبد تحريم على نكاح .. قطعه؛ كوطء زوجة أبيه أو ابنه بشبهة، أو وطاء الزوج أم زوجته أو بنتها بشبهة. وقول الناظم: (حرما) فعل أمر، وألفه بدل من نون التوكيد، فـ (زوجات) وما عطف عليه منصوب، أو ماض مبني للمعلوم فـ (زوجات) وما عطف عليه منصوب، أو للمجهول فـ (زوجات) وما عطف عليه مرفوع، وألفه: للإطلاق فيهما، وقوله: (نما) أي: انتسب.

[أسباب التحريم لا على التأبيد] ثم التحريم لا على التأبيد له خمسة أسباب: أحدها: الجمع، وقد ذكره بقوله: (يحرم جمع امرأة وأختها ... أو عمة المرأة أو خالتها) أي: يحرم جمع المرأة وأختها، أو عمتها أو خالتها من نسب أو رضاع في نكاح أو وطء بملك؛ قال تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين}، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى" رواه أبو داوود وغيره، وقال الترمذي: حسن صحيح، ونحو صدره في "الصحيحين"، ولما فيه من قطيعة الرحم، وإن رضيت بذلك؛ فإن الطبع يتغير، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنكم إذا فعلتم ذلك .. قطعتم أرحامهن" كما في ابن حبان وغيره، وروي بغير هذا اللفظ أيضاً. وضابط من يحرم جمعهما: كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع، لو قدرت إحداهما ذكراً .. لحرم تناكحهما. الثاني: استيفاء عدد الطلاق، فإذا طلق الحر ثلاثاً وغيره طلقتين .. لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً، وتغيب بقبلها حشفته، أو قدرها من مقطوعها، وسيأتي في (باب الرجعة). الثالث: الملك، فلا يصح نكاح الرجل مملوكته، ولا المرأة مملوكها؛ لتناقض أحكام النكاح والملك، فلو ملك أحد الزوجين الآخر أو بعضه .. انفسخ نكاحه. الرابع: الرق، فلا يصح نكاح الرجل أمة فرعه، ولا أمة مكاتبه، ولا الأمة الموصى له بمنافعها، ولا الموقوفة عليه ولا غيرها، إلا بشروط كما مر.

الخامس: الكفر، فيحرم نكاح من لا كتاب لها؛ كوثنية، ومن لها شبهة كتاب وهي المجوسية، وتحل كتابية؛ وهي يهودية أو نصرانية، لا متمسكة بالزبور وغيره؛ قال تعالى: {ولا تنكحوا المشركت حتى يؤمن}، وقال: {والمحصنت من الذين اوتوا الكئب من قبلكم} أي: حل لكم. فإن كانت إسرائيلية .. اشترط ألا يعلم دخول أول آبائها في دين موسى أو عيسى عليهما الصلاة والسلام بعد نسخه، أو غيرها .. اشترط العلم بدخول أول آبائها في ذلك قبل نسخه وتحريفه، أو بينهما وتجنبوا المحرف. وتحرم متولدة من وثني وكتابية وعكسه، وإن وافقت السامرة اليهود والصائبون النصارى في أصل دينهم .. حل نكاحهن، وإلا .. فلا، ولو انتقل كافر من ملة إلى ملة .. لم يقر ولا يقبل منه إلا الإسلام، ولا تحل مرتدة لأحد لا من المسلمين، ولا من الكفار. ولو ارتد الزوجان أو أحدهما قبل الدخول .. تنجزت الفرقة، أو بعده .. وقفت، فإن جمعهما الإسلام في العدة .. دام نكاحهما، وإلا .. فالفرقة من الردة، ويحرم الوطء في مدة التوقف ولا حد فيه، وتجب العدة منه. ولو أسلم الكافر وتحته كتابية يحل نكاحها .. دام نكاحه، او غيرها وتخلفت قبل دخول، أو لم تسلم في العدة .. تنجزت الفرقة، ولو أسلمت وأصر .. فكعكسه، أو أسلما معاً .. دام النكاح، وحيث أدمنا .. لا تضر مقارنة العقد لمفسد زال عند الإسلام، ونكاح الكفار محكوم بصحته. ومن قررت .. فلها المسمى الصحيح، ولا شيء لها في الفاسد إن قبضته قبل الإسلام، وإلا .. فمهر مثل، وإن قبضت بعضه .. فلها قسط ما بقي من مهر مثل. ومن اندفعت بإسلام بعد دخول .. فلها مهرها، أو قبله بإسلامه .. فنصفه، أو بإسلامها .. فلا شيء لها. [خيار فسخ النكاح] ثم ذكر خيار النكاح فقال: (وبالجنون والجذام والبرص ... كل من الزوجين إن يختر خلص) (كرتقها أو قرن بخيرته ... كما لها بجبه وعنته) أي: بالجنون ولو متقطعاً؛ وهو زوال الشعور من القلب مع بقاء الحركة والقوة في

الأعضاء، والجذام وإن قل؛ وهو علة يحمر منها العضو ثم يسود ثم يتقطع ويتناثر، والبرص وإن قل؛ وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته .. ثبت الخيار بكل منها لكل من الزوجين في فسخ النكاح ليتخلص به وإن قام به ما قام بالآخر؛ لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعاف من نفسه، وتناول إطلاقهم الثلاثة المستحكم وغيره، وبه صرح الماوردي والمحاملي في الجذام والبرص، لكن شرط الجويني استحكامهما وتبعه ابن الرفعة، قالا: والاستحكام في الجذام يكون بالتقطع، وتردد الإمام فيه، وجوز الاكتفاء باسوداده، وحكم أهل المعرفة باستحكام العلة. كرتقها بفتح التاء، أو قرن بفتح الراء وإسكانها، وهما انسداد محل الجماع منها في الأول بلحم وفي الثاني بعظم، وقيل: بلحم ينبت فيه؛ فإن الزوج يثبت له الخيار بكل منهما، كما يثبت لها الخيار بكل من جبه؛ أي: قطع ذكره بحيث لا يبقى منه قدر الحشفة ولو بفعلها، وعنته؛ أي: عجزه عن الوطء؛ لعدم انتشار آلته وإن حصل ذلك بمرض يدوم كما قاله الجويني وغيره، ولو عن امرأة دون أخرى، أو عن المأتي دون غيره إن كان قبل وطء منه في قبلها في ذلك النكاح؛ بخلاف عنته بعد ذلك؛ لأنها عرفت قدرته ووصلت إلى حقها منه، والعجز بعده لعارض قد يزول، بخلاف الجب بعد الوطء يثبت الخيار؛ لأنه يورث اليأس من الوطء، ويحصل الوطء بتغييب الحشفة، أو قدرها من مقطوعها إن كانت الزوجة ثيباً، فإن كانت بكراً .. قال البغوي: لا يزول حكم العنة إلا بالافتضاض بآلته، ويأتي فيه ما مر عن ابن الرفعة في التحليل، والمراد عنة المكلف كما يعلم مما يأتي، فلا تسمع دعواها على غير المكلف؛ لأن المدة التي تضرب والفسخ يعتمدان إقراره، أو يمينها بعد نكوله، وقوله ساقط، ولأنه غالباً لا يجامع، وربما يجامع بعد الكمال. وشمل كلامه: ما لو حدث غير العنة ولو بعد الوطء. والأصل في ثبوت الخيار بالعيوب السبعة: ما رواه الإمام أحمد وغيره أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة فرأى بكشحها بياضاً، وفي رواية: (وضحاً) أي: برصاً فقال: "الحقي بأهلك"، وقال لأهلها: "دلستم علي"، والخبر وإن كان ضعيفاً مجبور بما صح عن عمر

رضي الله عنه في تخيير الزوج إذا وجد بزوجت جنونا أو جذاما أو برصا، وقيس بذلك بقية العيوب، والمعنى: أن كلا منها يخل بالتمتع المقصود من النكاح، بل بعضها يفوته بالكلية. وخرج بها: غيرها من بهق وإغماء، وبخر وصنان، واستحاضة وعمى، وزمانة وبله، وخصا وخنوثة واضحة، وإفضاء وعذيطة؛ وهي التغوط عند الجماع، وعيوب تجتمع فتنفر تنفير البرص، وتكسر شهوة التائق؛ كقروح سيالة؛ فلا يثبت الخيار، بخلاف نظيره في البيع؛ لفوات المالية. ويستثنى من ثبوت الخيار بغير العنة: ما إذا علمه عند العقد .. فلا خيار له به وإن زاد؛ لأن رضاه به رضاً بما يتولد منه، أو علم به بعد زواله، أو بعد موت من قام به. وخرج بـ (الزوجين): الولي؛ فإنه لا خيار له بحادث، ولا بمقارن جب وعنة، ويتخير بمقارنة غيرهما، والخيار على الفور؛ كخيار العيب فى البيع. والفسخ بعيبه أو عيبها قبل وطء يسقط المهر، وبعده يوجب مهر مثل إن فسخ بمقارن، أو بحادث بين العقد والوطء، وإلا .. فالمسمى؛ كانفساخه بردة بعد وطء، ولا يرجع بعد الفسخ بالمهر الذي غرمه على من غره؛ لاستيفائه منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد. ويشترط في الفسح بالعيوب: رفع إلى الحاكم؛ ليفسخ بحضرته بعد ثبوته. وتثبت العنة بإقراره عند الحاكم، أو ببينة على إقراره، ولا يتصور ثبوتها بالبينة؛ إذ لا إطلاع للشهود عليها، وكذا بيمينها بعد نكوله، وإذا ثبتت .. ضرب القاضي له سنة بطلبها؛ كما فعله عمر رضي الله تعالى عنه، فلو سكتت لجهل أو دهشة .. فلا بأس بتنبيهها، ويكفي في الضرب قولها: (إني طالبة حقي على موجب الشرع) وإن جهلت الحكم على التفصيل، ولا فرق في ضرب السنة بين الحر والعبد. فإذا تمت السنة .. رفعته إليه، فإن قال: (وطئت) ولم تصدقه .. حلف، فإن نكل .. حلفت، فإن حلفت أو أقر وقال لها القاضي: ثبتت العنة أو حق الفسخ .. استقلت به. ولو اعتزلته أو مرضت أو حبست في المدة .. لم تحسب وتستأنف سنة أخرى، بخلاف ما لو وقع مثل ذلك للزوج في السنة .. فإنها تحسب، ولو رضيت به بعدها أو أجلته .. بطل حقها.

باب الصداق

باب الصداق هو بفتح الصاد وكسرها: ما وجب بنكاح أو وطء، أو تفويت بضع قهرا؛ كرضاع ورجوع شهود. والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {وءاتوا النساء صدقتهن نحلة}، وقوله تعالى: {وءاتوهن أجورهن}، وقوله صلى الله عليه وسلم لمريد التزويج: «التمس ولو خاتما من حديد» رواه الشيخان. (يسن في العقد -ولو قليلا- ... مهر كنفع لم يكن مجهولا) (لو لم يسم صح عقد، وانحتم ... مهر بفرض منهما أو من حكم) (وإن يطأ أو مات فرد أوجب ... كمهر مثل عصبات النسب) (وبالطلاق قبل وطئه سقط ... نصف، كما إذا تخالعا يحط) فيها خمس مسائل: ] استحباب تسمية الصداق في عقد النكاح [ الأولى: يسن الصداق في عقد النكاح ولو كان قليلا؛ أي: في غير تزويج عبده بأمته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخل نكاحا منه، ويستحب ألا ينقص عن عشرة دراهم خالصة؛ لأن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يجوز أقل منها، وألا يزاد على خمس مئة درهم خالصة صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه، رواه مسلم عن عائشة، فيجوز إخلاؤه منها إجماعا كما سيأتي، وقد يتعين على الولي ذكره في العقد مراعاة لمصلحة موليه. ] ضابط ما يصح جعله صداقا [ الثانية: المهر كالثمن وهو المراد بقوله: (كنفع)، فما صح ثمنا .. صح صداقا، وما لا .. فلا، ولا يجوز أن يصدقها ما لا يتمول ولا مجهولا ونحوهما، ويجوز الاعتياض عنه

إن كان دينا، ويضمنه الزوج قبل تسليمه ضمان عقد، حتى يمتنع بيعه قبل قبضه، وترجع المرأة إلى مهر المثل لا إلى قيمته أو مثله إذا تلف قبل قبضه، إلا إذا أتلفته .. فتكون قابضة له، أو أتلفه أجنبي .. فتتخير بين الفسخ والرجوع إلى مهر المثل، وبين الإجازة وتغريم الأجنبي مثل المهر أو قيمته، وحتى تتخير عند تلف البعض كأحد العبدين بين الفسخ والرجوع إلى مهر المثل، وبين الإجازة والرجوع إلى قيمة حصة التالف من مهر المثل، وحتى تتخير عند التعييب؛ كالعمى بين الإجازة بلا أرش، وبين الفسخ والرجوع إلى مهر المثل وإن لم يكن ركنا كالثمن؛ لأن معظم الغرض من النكاح التمتع، ولهذا أسماه الله تعالى نحلة. ] صحة العقد دون ذكر الصداق [ الثالثة: لو لم يسم الصداق في عقد النكاح .. صح؛ للإجماع، ولقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}، ويجب مهر المثل بالعقد. ] وجوب المهر بفرض الزوجين أو الحاكم [ الرابعة: انحتم؛ أي: وجب مهر بفرض منهما؛ أي: من الزوجين؛ كأن فرض لها قدرا ورضيت به وإن جهلا أو أحدهما قدر مهر المثل؛ اكتفاء بما تراضيا عليه، ولأن المفروض ليس بدلا عن مهر المثل ليشترط العلم به، بل الواجب أحدهما مبهما، ولا فرق فيما فرضاه بين أن يساوي مهر مثلها، أو يزيد عليه ولو من جنسه، أو ينقص عنه حالا أو مؤجلا كالمسمى في العقد، فإن لم ترض بما فرضه الزوج .. فكأنه لم يفرض؛ لأنه حق يجب لها فيوقف على رضاها كالمسمى في العقد. قال الأذرعي: والقياس الذي لا ينقدح غيره: أنه إذا فرض لها مهر مثلها حالا من نقد البلد .. لا يشترط رضاها به؛ لأن اشتراطه حينئذ عبث، ويحمل كلامهم على غير هذه الصورة. ولو امتنع الزوج من الفرض، أو تنازعا في قدره .. فرض الحاكم لها مهر مثلها من نقد البلد حالا وإن رضيت بالتأجيل، فتؤخر هي إن شاءت، ويشترط علمه بقدر مهر مثلها حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه. نعم؛ القدر اليسير الواقع في محل الاجتهاد لا عبرة به، ولا يتوقف لزوم ما يفرضه على رضاهما به؛ لأنه حكم منه. وأفهم كلامه: أنه لا يصح فرض أجنبي من ماله؛ لأنه خلاف ما يقتضيه العقد، وأن الفرض

الصحيح كالمسمى في العقد فيتشطر بالطلاق قبل الوطء، وانه لو طلق قبلهما .. فلا شطر، فإن وطئها أو مات أحدهما .. وجب لها مهر المثل، أما في الأولى .. فلأن الوطئ لا يباح بالإباحة؛ لما فيه من حق الله تعالى، ولأن شرط المال في الزنا لا يثبته؛ لعدم تعلقه به شرعا، فلا ينتفي في الوطء المحترم بنفيه؛ لتعلقه به شرعا، وأما في الثانية .. فلأن الموت؛ كالوطء في تقرير المسمى، فكذا في إيجاب مهر المثل في التفويض، ولأن بروع بنت واشق نكحت بلا مهر فمات زوجها، فقضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهر نسائها وبالميراث، رواه أبو داوود وغيره، وقال الترمذي: حسن صحيح، ولا اعتبار بما قيل في إسناده. ] ما يعتبر في مهر المثل [ قوله: (كمهر مثل عصبات النسب) أي: أن الاعتبار في مهر مثلها- وهو مايرغب به في مثلها- بنساء عصبات النسب، فيراعى أقرب من تنسب من نساء العصبات إلى من تنسب هذه إليه، فتقدم أخوات لأبوين ثم لأب، ثم بنات أخ ثم بنات ابنه، ثم عمات، ثم بنات أعمام كذلك، فإن تعذر الاعتبار بهن؛ لعدمهن أو جهل مهرهن أو نسبهن، أو لأنه لم ينكحن .. اعتبر بذوات الأرحام؛ كجدات وخالات تقدم الجهة القربى منهن على غيرها، وتقدم القربى من الجهة الواحدة؛ كالجدات على غيرها. قال الماوردي: وتقدم من ذوات الأرحام الأم، ثم الأخت للأم، ثم الجدات، ثم الخالات، ثم بنات الأخوات، ثم بنات الأخوال. ويعتبر في المذكورات البلد أيضا، فلو كن ببلدين وهي بأحدهما .. اعتبر بمن ببلدها، فإن كن كلهن ببلد أخرى .. اعتبر بهن، لا بأجنبيات بلدها؛ كما فى "الروضة" و"أصلها"، ويعتبر سن وعقل ويسار وبكارة وثيوبة، وما اختلف به غرض؛ كجمال وعفة، وعلم وفصاحة، وشرف ونسب، فيعتبر مهر من شاركتهن المطلوب مهرها في شئ مما ذكر. فإن اختصت عنهن بفضل أو نقص مما ذكر .. زيد في مهرها، أو نقص لائق بالحال. فإن تعذر الاعتبار بهن .. اعتبر بمن يساويها من نساء بلدها، ثم أقرب البلاد إليها، ثم أقرب النساء بها شبها.

وتعتبر العربية بعربية مثلها، والقروية بقروية مثله، والأمة بأمة مثلها، وينظر إلى شرف سيدها وخسته، ولو سامحت واحدة منهن .. لم تجب موافقتها اعتبارا بالغالب. ولو خفضن للعشيرة فقط .. اعتبر ذلك في المطلوب مهرها في حق العشيرة دون غيرهم، والمعتبر في مهر المثل أكثر مهر من العقد إلى الوطء؛ لأن البضع دخل بالعقد في ضمانه واقترن به الإتلاف فوجب الأكثر؛ كالمقبوض بشراء فاسد. وأطلق الشيخان فيما لو مات أحدهما قبل الفرض والوطء أوجها: أحدها: تعتبر حالة العقد، وثانيها: حالة الموت، وثالثها: أكثرهما. وأما فرض الحاكم .. فالمعتبر فيه حالة العقد، ومحل ما ذكره الناظم بقوله: (وانحتم ... ) إلى آخره: ما إذا جرى تفويض صحيح بأن قال سيد أمة: (زوجتكها بلا مهر)، أو سكت عنه، أو قالت رشيدة بكرا كانت أو ثيبا: (زوجنى بلا مهر)، أو (على أن لا مهر لي)، فزوجها بلا مهر أو سكت عنه، أو زوجها بدون مهر المثل، أو بغير نقد البلد .. فلا يجب لها شئ بنفس العقد. وخرج بـ (الرشيدة): غيرها فتفويضها لغو، لكن يستفيد به الولي من السفيهة إذنها في النكاح، وبقولها: (بلا مهر): ما إذا أطلقت .. فليس بتفويض كما رجحه في "الشرح الصغير" لأن النكاح يعقد بالمهر غالبا فيحمل الإذن عليه؛ كما لو أذن في بيع ملكه. أما إذا زوجها وليها بمهر المثل من نقد البلد .. فإنه يصح بالمسمى، ولها قبل الوطء مطالبة الزوج؛ بأن يفرض لها مهرا، وحبس نفسها ليفرض؛ لتكون على بصيرة في تسليم نفسها، وكذا التسليم المفروض في الأصح؛ كالمسمى في العقد. ويجب بوطء في نكاح فاسد مهر مثل يوم الوطء؛ كوطء الشبهة نظرا إلى يوم الإتلاف لا يوم العقد؛ لأنه لا حرمة للعقد الفاسد، فإن تكرر الوطء .. فمهر واحد، لكن في أعلى الأحوال؛ لأنه لو لم يقع إلا الوطأة فيها .. لوجب ذلك المهر، فالوطآت الزائدة إذا لم تقتض زيادة .. لا توجب نقصا. ولو تكرر وطء بشبهة واحدة .. فمهر واحد، فإن تعدد جنسها .. تعدد المهر بعدد الوطآت.

ولو تكرر وطء مغصوبة، أو مكرهو على زنا .. تكرر المهر بتكرر الوطء. ولو تكرر وطء الأصل أمة فرعه، أو الشريك الأمة المشتركة، أو السيد المكاتبة .. فمهر واحد؛ لشمول شبهة الإعفاف والملك لجميع الوطآت. ] تشطير المهر بالطلاق قبل الدخول [ الخامسة: بالطلاق؛ أي: أو نحوه قبل وطئه يسقط عنه نصف المهر إن كان دينا في ذمته، ويعود إليه نصفه بنفس الطلاق إن كان عينا، ولم يزد ولم ينقص وإن لم يختر عوده، ولم يقض به قاض، أو خرج عن ملكها وعاد، سواء أطلقها بنفسه أم بوكيله، ام فوضه إليها فطلقت نفسها، أن علقه بفعلها ففعلت؛ كما إذا تخالعا .. فإنه يحط عنه نصف المهر؛ لأن المغلب فيه جانب الزوج لاستقلاله بالفراق. وشمل تعبيره بـ (المهر): ما وجب بالعقد بتسمية صحيحة أو فاسدة أو غيرها، أو بفرض صحيح بعده، والأصل في هذا: قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}، وقيس بالطلاق غيره من كل فرقة في الحياة لا منها ولا بسببها؛ كإسلامه وردته، وشرائه إياها ولعانه، وإرضاع أمه لها وهى صغيرة، أو أمها له وهو صغير، ولأن قضية ارتفاع العقد قبل تسليم المعقود عليه: سقوط كل الفرض كما في البيع، إلا أن الزوجة كالمسلمة لزوجها بالعقد من وجه؛ لنفوذ تصرفاته التي يملكها بالنكاح من غير توقف على قبض، فاستقر لذلك بعض العوض وسقط بعضه؛ لعدم اتصاله بالمقصود. وخرج بـ (الفرض الصحيح): الفاسد كخمر؛ إذ لا عبرة به بعد إخلاء العقد عن العوض بالكلية. أما إذا لم يجب مهر؛ بأن فارق المفوضة قبل الفرض والوطء .. فلا تشطير كما مر. أما إذا كانت الفرقة منها؛ كفسخها بعيبها .. فإنها تسقط المهر؛ لأنها من جهتها، وكذا شراؤها إياه. ولو طلق والمهر تالف حسا أو شرعا بعد قبضها .. فنصف بدله من مثل في المثلي، أو قيمة في المتقوم.

وإن تعيب في يدها: فإن قنع به .. أخذه بلا أرش، وإلا .. فنصف بدله سليما؛ دفعا للضرر عنه، وإن تعيب قبل قبضها ورضيت به .. فله نصفه ناقصا بلا خيار ولا أرش؛ لأنه نقص حال كونه من ضمانه، وإن تعيب بجناية .. فالأصح: أن له نصف الأرش؛ لأنه بدل الفائت. ولها زيادة منفصلة؛ كاللبن والكسب، وخيار في متصلة؛ كالسمن، وتعلم صنعة، وحرث أرض الزراعة، فإن شحت فيها .. فنصف قيمته بلا زيادة، وإن سمحت بها .. لزمه القبول وليس له طلب نصف القيمة. وإن زاد ونقص؛ ككبر عبد، وطول نخلة مع قلة ثمرتها، وحمل أمة وبهيمة، وتعلم صنعة مع برص: فإن اتفقا بنصف العين .. فذاك، وإلا .. فنصف قيمة العين خالية عن الزيادة والنقص، ولا تجبر على دفع نصف العين للزيادة، ولا هو على قبوله للنقص. ومتى ثبت خيار له أو لهما .. لم يملك نصفه حتى يختار ذو الاختيار، ومتى رجع بقيمة .. اعتبر الأقل من يوم الإصداق إلى القبض. ولو وهبته له ثم طلق .. فالأظهر: أن له نصف بدله من مثل أو قيمة؛ لأنه ملكه قبل الطلاق عن غير جهته، فلو وهبته نصفه .. فله نصف الباقي وربع بدل كله؛ لأن الهبة وردت على مطلق الجملة فتشيع فيما أخرجته وما أبقته، وإن كان دينا فأبرأته .. لم يرجع عليها على المذهب بخلاف هبة العين، والفرق: أنها في الدين لم تأخذ منه مالا ولم تتحصل على شئ. ويجب لمطلقة قبل وطء متعة إن لم يجب لها شطر مهر، وكذا الموطوءة في الأظهر، وفرقة لا بسببها كطلاق؛ كأن اشترى زوجته، ويستحب ألا تنقص عن ثلاثين درهما، ولا أن تزاد على خادم، ولا حد للواجب، وإذا تراضيا بشئ .. فذاك، فإن تنازعا .. قدرها الحاكم باجتهاده معتبرا حالهما؛ كيسار الزوج وإعساره، ونسب الزوجة وصفاتها. وكسر الناظم باء (أوجب) للوزن. ] حبس الرشيدة نفسها حتى تقبض صداقها [ وفي بعض النسخ: (وحبسها لنفسها وفاقها ... حتى تراها قبضت صداقها) أي: وحبس الزوجة يعني: البالغة العاقلة الحرة الرشيدة ثابت لها، وفاقها؛ أي:

لتظاهرها حتى تراها قبضت صداقها المعين، أو الحال كالبائع، سواء أخر الزوج تسليمه لعذر أم لا، والحبس في غير الرشيدة لوليها، وفي الأمة لسيدها أو لوليه، فإن كان مؤجلا .. فلا حبس وإن حل قبل تسليمها؛ لوجوب تسليمها قبل الحلول؛ لأنها رضيت بالتأجيل، ولو قال كل: (لا أسلم حتى تسلم) .. أجبرا، فيؤمر بوضعه عند عدل وتؤمر بالتمكين، فإذا سلمت .. أعطاها العدل، ولو بادرت فمكنت .. طالبته بالصداق، فإن لم يطأ .. امتنعت حتى يسلمه، وإن وطئها مختارة .. فلا، ولو بادر فسلم .. فلتمكن، فإن امتنعت ولو بلا عذر .. لم يسترده، ولو استمهلت لتنظف ونحوه .. وجب إمهالها ما يراه الحاكم، ولا يجاوز ثلاثة أيام لا لينقطع حيض؛ لأن مدته قد تطول، ويتأتى الاستمتاع معه بغير الوطء. ولا تسلم صغيرة، ولا مريضة حتى يزول مانع وطء. ويستقر المهر بوطء وإن حرم كحائض، وبموت أحدهما، لا بخلوة، ولا بموت أحدهما في نكاح فاسد.

باب الوليمة

باب الوليمة هي من الولم وهو الاجتماع، وهي تقع على كل طعام يتخذ لسرور حادث من عرس وإملاك وغيرهما، لكن استعمالها في العرس أشهر. (وليمة العرس بشاة قد ندب ... لكن إجابة بلا عذر تجب) (وإن أراد من دعاه يأكل ... ففطره من صوم نفل أفضل) أي: فعل وليمة العرس بشاة قد ندب؛ لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، ففي "البخاري": (أنه صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بمدين من شعير)، وفي "الصحيحين": (أنه أولم على صفية بتمر وسمن وأقط)، وأنه قال لعبد الرحمن بن عوف وقد تزوج: «أولم ولو بشاة»، والأمر فيه للندب؛ قياسا على الأضحية وسائر الولائم، ولأنه أمر فيه بالشاة، فلو كان الأمر فيه للوجوب .. لوجبت، وهي لا تجب إجماعا. وقول الناظم: (بشاة) هو أقلها للمتمكن، أما غيره .. فأقلها ما يقدر عليه، قال النشائي: والمراد: أقل الكمال شاة؛ لقول "التنبيه": وبأي شئ أولم من الطعام .. جاز. ] وجوب إجابة الدعوة وشروطه [ لكن إجابة بلا عذر تجب عينا على من دعي إليها دون غيرها من الولائم؛ لخبر "الصحيحين": «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة .. فليأتها»، وخبر مسلم: «شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى لها الأغنياء وتترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة .. فقد عصى الله

ورسوله»، والمراد: وليمة العرس؛ لأنها المعهودة عندهم، ويؤيد ما في "مسلم" أيضا: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس .. فليجب». ويعتبر لوجوب الإجابة أمور: أحدها: أن يكون الداعي مسلما، فلا تجب على المسلم بدعوة كافر؛ لانتفاء طلب المودة معه، ولأنه يستقذر طعامه؛ لاحتمال نجاسته وفساد تصرفه. ثانيها: أن يكون المدعو مسلما أيضا، فلو دعا مسلم كافرا .. لم تلزمه الإجابة، ذكره الماوردي والروياني. ثالثها: أن يدعوه في اليوم الأول، فلو أولم ثلاثة .. وجبت في الأول، وسنت في الثاني، وكرهت في الثالث. رابعها: أن تكون الدعوة عامة؛ بأن يدعو جميع عشيرته، أو جيرانه، أو أهل حرفته وإن كانوا كلهم أغنياء، فلو خص الأغنياء منهم .. لم تجب الإجابة. خامسها: ألا يدعوه لخوف منه، أو طمع في جاهه، أو إعانته على باطل. سادسها: ألا يكون معذورا، فإن كان له عذر .. لم تجب عليه الإجابة؛ كأن يكون هناك من يتأذى به، أو لا تليق به مجالسته؛ كالسفلة والأراذل، أو يكون هناك منكر لا يقدر على إزالته؛ كشرب خمر وضرب ملاه واستعمال أواني الذهب أو الفضة، وافتراش مسروق ومغصوب، وكذا جلود نمور بقي وبرها، وصورة حيوان على سقف أو جدار أو وسادة منصوبة أو ستر معلق، أو يكون معذورا بما يرخص في ترك الجماعة. سابعها: كون الطعام حلالا. ثامنها: كون المدعو غير قاض. تاسعها: ألا يعارض الداعي غيره، فلو دعاه اثنان .. قدم بالسبق، ثم بقرب الرحم، ثم بقرب الدار، ثم بالقرعة. عاشرها: أن يخصه بالدعوة، فلو فتح الباب وقال: (ليحضر من يريد)، أو قال لغيره: (ادع من شئت) .. لم تجب الإجابة ولم تسن؛ لأن امتناعه حينئذ لا يورث وحشة.

حادي عشرها: أن يكون الداعي مطلق التصرف، فلا تجب إجابة غيره. ثاني عشرها: ألا يعتذر المدعو للداعي ويرضى بتخلفه. وإن أراد من دعاه إلى طعامه أكله منه ليتبرك به أو نحوه، وشق عليه صومه .. فأكله من طعام أخيه الداعي إذا كان في صوم نفل أفضل من صومه؛ لما فيه من جبر خاطره، وإدخال السرور على قلبه، وإن لم يشق عليه .. فإتمامه أفضل، أما صوم الفرض .. فلا يجوز الخروج منه مضيقا كان أو موسعا؛ كالنذر المطلق. ويستحب للمفطر الأكل، وقيل: يجب، وأقله لقمة، ويأكل الضيف مما قدم له بلا لفظ من المضيف؛ اكتفاء بقرينة التقديم. نعم؛ إن كان ينتظر حضور غيره .. فلا يأكل حتى يحضر، أو يأذن المضيف لفظا، ولا يتصرف فيه إلا بأكل، فلا يطعم حرة ولا سائلا إلا إن علم رضاه، وللضيف تلقيم صاحبه إلا أن يفاضل طعامهما، ويكره تفاضله. ويحرم التطفل، وله أخذ ما علم رضاه به، ويجوز نثر نحو السكر في إملاك، أو ختان والتقاطه.

باب القسم والنشوز

باب القَسْمِ والنُشُوز بفتح القاف, لكل من الزوجين على الآخر حق, قال الشيخان: فحقه عليها: كالطاعة وملازمة المسكن، وحقها عليه: كالمهر والنفقة والمعاشرة بالمعروف التي منها القسم، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ} [البقرة: 228]. (وبينَ زَوْجَاتٍ فَقَسْمٌ حُتِمَا ... ولَوْ مَرِيضَةً وَرَتْقَا اِنَّمَا) (لِغَيرِ مَقسُومٍ لَهَا يُغْتَفَرُ ... دُخُولُهُ في الَّليلِ حيثُ ضَرَرُ) (وفي النَّهَارِ عندَ حاجَةٍ دَعَتْ ... كأَنْ يَعُودَهَا إذا ما مَرِضَتْ) (وإنَّمَا بِقُرْعَةٍ يُسَافِرُ ... وَيَبْتَدِي بِبَعْضِهِنَّ الحاضِرُ) (والبِكْرُ تَخْتَصُّ بِسَبْعٍ أَوَّلا ... وَثَيِّبٌ ثَلاثَةً عَلَى الْوِلا) (ومَنْ أَمَارَاتِ النُّشُوزِ لَحَظَا ... مِن زوجَةٍ قَوْلاً وفِعْلاً وَعَظَا) (وَلْيَهْجُرَنْ حيثُ النُّشُوزُ حَقَّقَهْ ... ويَسْقُطُ القَسْمُ لَهَا والنَّفَقَهْ) (فإِنْ أَصَرَّتْ جازَ ضَرْبٌ إِن نَجَعْ ... في غير وَجْهٍ مَعْ ضَمَانِ ما وَقَعْ) فيها سبع مسائل: [وجوب القسم بين الزوجات] الأولى: القسم بين الزوجات أو الزوجتين واجبٌ على الزوج إذا أراد المبيت عند واحدة ولو امتنع الوطء طبعاً أو شرعاً؛ كأن كانت الزوجة مريضة أو رتقاء أو حائضاً, أو محرمة كالنفقة, قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنّ بالمعروف} , وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما .. جاء يوم القيامة وشقه مائل أو ساقط» , وكان يقسم بين نسائه ويقول: «اللهم؛ هذا قسُمي فيما أملك, فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " رواهما أبو داوود وغيره, وصحح الحاكم الأول وإسناد الثاني.

فيحرم التفضيل وإن ترجحت واحدة بشرفي وغيره, لكن لحرة مثلا أمة, وإنما وجب القسم مع امتناع الجماع؛ لأن المقصود الأنس والتحرز عن التخصيص الموحش لا الجماع؛ لأنه يتعلق بالنشاط ولا يملكه, ولهذا لا تجب التسوية فيه ولا في غيره من التمتعات, لكن يستحب, ولا قسم لمعتدة وناشزة. وخرج بـ (الزوجات): الإماء وإن كن مستولدات, قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] أشعر ذلك بأنه لا يجب العدل الذي هو فائدة القسم في ملك اليمين, لكن يستحب؛ كي لا يحقد بعض الإماء على بعض. والمراد من القسم للزوجات - والأصل فيه الليل كما سيأتي -: أن يبيت عندهن, ولا يلزمه ذلك ابتداء؛ لأنه حقّه فله تركه, وإنما يلزمه إذا بات عند بعض نسوته, سواءً أبات عند البعض بقرعة أم لا, وسيأتي وجوبها لذلك, ولو أعرض عنهن أو عن الواحدة ابتداءً, أو بعد القسم .. لم يأثم. ويستحب ألا يعطلهن؛ بأن يبيت عندهن ويحصنهن وكذا الواحدة. وأدنى درجاتها: ألا يخليها كل أربع ليالي عن ليلة اعتباراً بمن له أربع زوجات, فإن لم ينفرد بمسكن .. دار عليهن في بيوتهن, وإلا ... فالأفضل ذلك: صوناً لهن عن الخروج من المساكن, وله دعاؤهن إلى مسكنه, وعليهن الإجابة. ويحرم ذهابه إلى بعضٍ ودعاءُ بعضٍ - إلا لغرضٍ؛ كقرب مسكن من ذهب إليها - وإقامتُه بمسكن واحدة ودعاؤهن إليه؛ لما في إتيانهن إليه من المشقة عليهن, وتفضيلها عليهن, وجمع ضرتين في مسكن إلا برضاهما؛ لأن جمعهما فيه مع تباغضهما يورث كثرة المخاصمة ويشوش العشرة, فإن رضيتا به .. جاز, لكن يكره وطء إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأنه بعيد عن المروعة, ولا تلزمها الإجابة إليه. ولو اشتملت دار على حجر مفردة المرافق .. جاز إسكان الضرات فيها من غير رضاهن, وكذا إسكان واحدة في السفل وأخرى في العلو والمرافق متميزة؛ لأن كلاً مما ذكر مسكن. وله ترتيب القسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها, والأصل الليل, والنهار تبع؛ لأن الليل وقت السكون, والنهار وقت التردد في الحوائج, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] , وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11] , فإن عمل ليلاً وسكن نهاراً كحارس .. فالأصل في حقه النهار والليل تابعٌ.

وأمّا المسافر ومعه زوجاته .. فعماد القسم في حقه وقت النزول ليلاً كان أو نهاراً, قليلاً كان أو كثيراً. [دخول الزوج على غير المقسوم لها] الثانية: إنما يجوز دخول زوجٍ عماد قسمه الليل فيه على غير المقسوم لها لضرورة؛ كمرضها المخوف ولو ظناً، قال الغزالي: أو احتمالاً"، وكحريق وشدة طلق, وحينئذ إن طال مكثه .. قضى مثل ما مكث من نوبة المدخول عليها, وإلاَّ ... فلا يقضي, وكذا إن تعدى بالدخول .. يقضي إن طال مكثه, وإلا ... فلا, لكنه يعصي, وقدر القاضي حسين الطول بثلث الليل, والصحيح: لا تقدير. [دخوله فى النهار على غير صاحبة النوبة] الثالثة: يجوز دخوله في النهار على غير صاحبة النوبة؛ لحاجة كعيادتها إذا مرضت, وتسليم نفقة ووضع متاع أو أخذه, وينبغي ألا يطول مكثه, فإن طول .. قال في «المهذب»: يجب القضاء, ولم يذكره الشيخان, ولا يقضي زمن الحاجة, وله استمتاع بغير وطء, ويقضي إن دخل بلا سبب, ولا تجب عليه تسوية في إقامته نهاراً؛ لتبعيته لليل. وأقل نوب القسم: ليلة وهو أفضل؛ لقرب العهد به من كلهن, فلا يجوز ببعض ليلة, ولا بليلة وبعض أخرى؛ لما في التبعيض من تشويش العيش, ويجوز ليلتين وثلاثاً، ولا يجوز الزيادة عليها وإن تفرقن في البلاد إلاّ برضاهن؛ لأن فيها إيحاشاً وهجراً لهن. [سفر الزوج ببعض زوجاته] الرابعة: لا يجوز للزوج أن يسافر ببعض زوجاته لغير نقلة ولو سفراً قصيراً إلا بقرعة, فإن سافر بها .. لم يقض مدة سفره ذهاباً ولا إياباً, ففي «الصحيحين»: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً .. أقرع بين نسائه, فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) , ولم ينقل عنه قضاء بعد عوده, فصار سقوط القضاء من رخص السفر؛ لمشقته, وقيد الغزالي ذلك بما إذا كان السفر مرخصاً, قال الشيخان: وهذا يقتضي وجوب القضاء في سفر المعصية. انتهى.

لكنه يقضي مدة الإقامة إن لم يعتزلها فيها, وأمّا من سافر لنقلة .. فيحرم عليه أن يستصحب بعضهن بقرعة ودونها وأن يخلفهن؛ حذراً من الإضرار, بل ينقلهن أو يطلقهن, فإن سافر ببعضهن ولو بقرعة .. قضى للمتخلفات حتى مدة السفر, ومن سافرت وحدها بغير إذنه .. ناشزة, وبإذنه لغرضه؛ كأن أرسلها في حاجته .. يقضي لها ما فاتها, ولغرضها، , لا يقضي. [القرعة بين الزوجات عند بدء المبيت] الخامسة: لا يجوز للزوج أن يبتدئ بالمبيت عند بعض زوجاته إلا بقرعةٍ؛ تحرزاً عن الترجيح فيه, فيبدأ بمن خرجت قرعتها, وبعد تمام نوبتها يقرع بين الباقيات, ثم بين الأخريين, فإذا تمت النوب .. راعى الترتيب ولا يحتاج إلى إعادة القرعة, ولو بدأ بواحدة بلا قرعة .. فقد ظلم, ويقرع بين الثلاث, فإذا تمت النوب .. أقرع بين الجميع وكأنه ابتدأ القسم. [اختصاص البكر عند الزفاف بسبع ليال] السادسة: تختص الزوجة الجديدة البكر عند الزفاف بسبع ولاءً بلا قضاءٍ, والثيب بثلاثة ولاءً بلا قضاء؛ لخبر ابن حبان في (صحيحه): «سبع للبكر وثلاث للثيب «, وفي " الصحيحين» عن أنسٍ: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب .. أقام عندها سبعاً ثم قسم, وإذا تزوج الثيب على البكر .. أقام عندها ثلاثاً ثم قسم) , والمعنى فيه: زوال الحشمة بينهما, وزيد للبكر؛ لأن حياءها أكثر. والمراد ب (البكر): من يكفي سكوتها في الإذن في النكاح. ولا فرق في الجديدة بين الحرة والأمة, والمسلمة والكافرة, حتى لو وفاها حقها وأبانها ثم جدد نكاحها .. وجب لها ذلك؛ لعود الجهة, وكذا لو أعتق مستولدته, أو مستفرشته ثم نكحها, ولو أقام عند البكر ثلاثاً وافتضها, ثم أبانها ونكحها .. فلها حق الثيب. وخرج بـ (الجديدة): الرجعية؛ لبقائها على النكاح الأول, وإنما اعتبر ولاء المدتين المذكورتين؛ لأن الحشمة لا تزول بالمفرق, فلو فرق .. لم يحسب, فيوفيها حقها ولاء ثم يقضي ما فرق.

والتخصيص المذكور واجب للمعنى المتقدم, وإنما يجب إذا كان في نكاحه أخرى يبيت عندها, وإلاً .. فلا وجوب؛ لأن له تركهن كما مر, وصرح به القاضي والبغوي, ونقله الشيخان عن البغوي وأقراه. ويسن تخيير الثيب بين ثلاث بلا قضاء وسبع بقضاء؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة حيث قال لها: «إن شئت .. سَبَعْتُ عندك وسبعت عندهن, وإن شئت .. ثلثت عندك وَدُرْتُ, أي: بالقسم الأول, وإلا .. لقال: وثلثت عندهن, رواه مالك, وكذا مسلم بمعناه. ولو زاد البكر على السبع ولو بطلبها .. قضى الزائد للأخريات, وكذا لو زاد الثيب على الثلاث بغير اختيارها .. يقضي الزائد؛ كما يقضي السبع إذا اختارتها؛ لأنها طمعت في الحق المشروع لغيرها فبطل حقها. ومن وهبت حقها من القسم لغيرها .. لم يلزم الزوج الرضا؛ لأن الاستمتاع بها حقه فلا يلزمه تركه, وله أن يبيت عندها في ليلتها, فإن رضي ووهبت لمعينة .. بات عندها في ليلتها؛ كل ليلة في وقتها متصلتين كانتا أو منفصلتين, أو لهن .. سوّى, فيجعل الواهبة كالمعدومة, ويقسم بين الباقيات, أو له .. فله التخصيص. [إذا لحظ الزوج أمارات النشوز من زوجته] السابعة: من لحظ أمارات النشوز من زوجته؛ أي: ظهرت له, قولاً؛ كأن تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين, أو فعلاً؛ كأن يجد منها إعراضاً وعبوساً بعد لطفي وطلاقة وجه .. وعظها ندباً؛ لآية: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] , ولا يهجر مضجعها, ولا يضربها؛ فلعلها تبدي عذراً, أو تتوب عما جرى منها من غير عذر. والوعظ: كأن يخوفها بالله تعالى, ويذكرها ما أوجب الله تعالى له عليها من الحق والطاعة, وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية, وما يسقط بذلك من حقها من النفقة والكسوة والقسم, وما يباح له من ضربها وهجرها. قوله: (وليهجرن) أي: مضجعها حيث النشوز حققه, وفي نسخة بدل (وليهجرن): (وهجرها) , والمعنى: أن فيه أثراً ظاهراً في تأديب النساء, وقضية كلامه: تحريم ضربها في

هذه الحالة, وصححه في «المحرر» لأن الجناية لم تتأكد, وقد يكون ما اتفق لها لعارضٍ قريب الزوال, وصحح النووي والرافعي في «الشرح الصغير» جوازه؛ لظاهر الآية. أما هجرها في الكلام .. فيجوز في ثلاثة أيام, ويحرم فيما زاد عليها؛ للخبر الصحيح: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» وهذا في الهجر لغير عذر شرعي, فإن كان لعذر، كبدعة المهجور أو فسقه, أو صلاح دين أحدهما به .. جاز، وعليه يحمل هجره صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية, وكذا ما جاء من هجر السلف بعضهم بعضاً. فإن أصرت على نشوزها وتكرر منها .. ضربها جوازاً؛ للآية, فمن جوز الضرب في حالة عدم تكرر النشوز .. قال: التقدير: واللاتي تخافون نشوهن .. فعظوهن, فإن نشزن ... فاهجروهن في المضاجع واضربوهن, ومن منعه فيها .. قال: التقدير: واللاتي تخافون نشوزهن .. فعظوهن, فإن نشزن .. فاهجروهن في المضاجع, فإن أصررن .. فاضربوهن. وإنما يجوز له ضربها إن نجع؛ أي: أفاد في ظنه حال كونه في غير وجه ونحوه بحيث لا يخاف منه تلف ولا ضرر ظاهر. قوله: (مع ضمان ما وقع) منه؛ أي: لتبين أنه إتلاف لا إصلاح, والأولى له ترك الضرب, أمّا إذا لم ينجع الضرب .. فحرام كما في التعزير. وإن منعها حقاً كقسم أو نفقة .. ألزمه القاضي توفيته, فإن أساء خلقه وآذاها بضرب أو غيره بلا سبب .. نهاه عن ذلك, فإن عاد إليه .. عزره بما يراه, وإن قال كلّ: إن صاحبه متعدّ عليه .. تعرف القاضي الحال بثقة في جوارهما يخبرهما, ومنع الظالم منهما من عوده إلى ظلمه؛ اعتماداً على خبر الثقة. فإن اشتد الشقاق .. بعث القاضي حكماً من أهله وحكماً من أهلها؛ لينظر في أمرهما بعد اختلاء حكمه به وحكمها بها, ومعرفة ما عندهما في ذلك ويصلحا بينهما, أو يفرقا إن عسر الإصلاح, وصحح في «الروضة» وجوب بعث الحكمين؛ لظاهر الأمر في الآية, وكونهما من أهلهما ليس واجباً, بل هو مستحب, وهما وكيلان لهما فيشترط رضاهما ببعث الحكمين،

فيوكل حكمه بطلاق وقبول عوض خلع, وتوكل حكمها ببذل عوض وقبول طلاق به, ويفرق الحكمان بينهما إن رأياه صواباً. وإذا رأى حكم الزوج الطلاق .. استقل به ولا يزيد على طلقة, وإن رأى الخلع ووافقه حكمها .. تخالعا, ويعتبر فيهما تكليف, وإسلام, وحرية, وعدالة, واهتداء إلى ما بُعثا له لا اجتهاد وذكورة. قال الرافعي: وإنما اعتبر فيهما الإسلام والحرية والعدالة على القول بوكالتهما؛ لتعلقها بنظر الحاكم كما في أمينه. والألف في قول الناظم: (ختما) , و (الحَظا) و (وَعَظا) للإطلاق, وقوله: (ورَتْقا) بالقصر؛ للوزن.

باب الخلع

باب الخلع بضم الخاء من الخلع بفتحها وهو النزع سمي به؛ لأن كلاً من الزوجين لباس الآخر، قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]. وهو في الشرع: فرقة بعوضٍ راجع لجهة الزوج أو سيده. والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] الآية, وقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4] الآية, وخبر البخاري عن ابن عباس قال: (أتت امرأة ثابت بن قيس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ ثابت بن قيس ما أعتب – وفي رواية: ما أنقم – عليه في خلق ولا دين, ولكني أكره الكفر في الإسلام) أي: كفران النعمة, فقال: «أتردين عليه حديقته؟ » , قالت: نعم, قال: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» , وفي رواية: (فردتها وأمره بفراقها) , وزاد النسائي: أنه كان ضربها فكسر يدها", قال ابن داوود وغيره: وهو أول خلع جرى في الإسلام, والمعنى فيه: أنه لما جاز أن يملك الزوج الانتفاع بالبضع بعوضٍ .. جاز أن يُزيل ذلك، الملك بعوض؛ كالشراء والبيع, فالنكاح كالشراء, والخلع كالبيع, وفيه أيضاً دفع الضرر عن المرأة غالباً, ويجوز فى حالتى الشقاق والوفاق, وذكر الخوف فى الآية جري على الغالب. والأصح: أنه مكروه إلا أن يخافا أو أحدهما ألا يقيما حدود الله التي افترضها في النكاح, أو أن يحلف بالطلاق الثلاث على فعل ما لا بد له من فعله فيخالع, ثم يفعل المحلوف عليه؛ لأنه وسيلة للتخلص من وقوع الثلاث. وله ثلاثة أركان: عاقد, ومعقود عليه, وصيغة.

(يَصِحّ مِن زوجٍ مُكَلَّفٍ بِلا ... كُرْهٍ بِبَذْلِ عِوَضٍ لَم يُجْهَلا) (أَمَّا الذي بالخَمْرِ أَو مَعْ جَهْلِ ... فَإِنَّهُ يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ) (تَمْلِكُ نَفْسَهَا بِهِ ويَمْتَنِعْ ... طَلاقُهَا ومَا لَهُ أَنْ يَرْتَجِعْ) [شرط عاقد الخلع] الركن الأول: العاقد, وشرط الزوج أن يكون مكلفاً؛ أي: بالغاً عاقلاً مختاراً, فلا يصخ خُلع الصبي والمجنون والمكره, والولي زوجة الصغير أو المجنون, ويصح خلع السكران, فلو خالع عبدٌ أو محجوز عليه لسفهٍ .. صح؛ لوجود الشرط وإن لم يأذن السيد والولي, ووجب دفع العوض ديناً كان أو عيناً إلى سيده ووليه؛ ليبرأ الدافع منه, ويملكه السيد كسائر أكساب العبد. نعم؛ لو كان مكاتباً .. سُلِّمَ العوض له, أو مبعضاً: فإن كانت مهايأة .. فلصاحب النوبة في الأظهر, وإلاً .. دفع للعبد ما يخص حريته. ولو قال السفيه: (إن دفعت لي كذا فأنت طالق) .. لم تطلق إلاّ بالدفع إليه, وتبرأ به كما قاله الماوردي, وكذا يقال في العبد, ويصح خلع المحجور عليه بفلسٍ. وشرط قابله من الزوجة أو الأجنبي بجواب أو سؤال: إطلاق تصرفه في المال؛ بأن يكون بالغاً عاقلاً غير محجور عليه, فإن اختلعت أمة بلا إذن سيدها بدين في ذمتها, أو عين ماله .. بانت؛ لذكر العوض, وللزوج في ذمتها مهر مثل في صورة العين, وفي صورة الدين المسمى لا مهر المثل وإن رجحه في «المحرر» و «الشرح الصغير» , ثم ما ثبت في ذمتها إنما تطالب به بعد العتق. وإن أذن لها السيد وعين عيناً له من ماله, أو قدر ديناً في ذمتها فامتثلت .. تعلق بالعين, وبكسبها في الدين؛ لأن العوض في الخلع كالمهر في النكاح, والمهر في كسب العبد فكذلك ههنا, فإن زادت على ما قدره .. طولبت بالزائد بعد العتق. وإن أطلق الإذن .. اقتضى مهر مثل من كسبها, فإن زادت عليه .. طولبت بالزائد بعد العتق, وإن قال: (اختلعي بما شئتِ) .. اختلعت بمهر المثل وأكثر منه، وتعلق الجميع

بكسبها, ثم ما يتعلق بكسبها يتعلق بما في يدها من مال التجارة إن كانت مأذوناً لها فيها, ولا يصير السيد بإذنه في الخلع بالدين ضامناً له. وإن قال لمحجور عليها بسفه: (خالعتك على كذا) , أو (طلقتك عليه) فقبلت,, طلقت رجعياً ولغا ذكر المال وإن أذن وليها فيه؛ لأنها ليست من أهل التزامه, وظاهر أنه لو كان ذلك قبل الدخول .. طلقت بائناً؛ كما قاله النووي في «نكت التنبيه) , فإن لم تقبل .. لم تطلق؛ لأن الصيغة تقتضي القبول فأشبه الطلاق المعلق صفة. ويصح اختلاع المريضة مرض الموت؛ لأن لها التصرف في مالها. (ولا يحسب من الثلث إلا زائد على مهر مثل, بخلاف مهر المثل أو أقل منه فمن رأس المال؛ لأن التبرع إنما هو بالزائد وليس وصية لوارث؛ لخروجه بالخلع عن الإرث, ويصبح خلع المريض مرض الموت بدون مهر المثل؛ لأن البضع لا يبقى للوارث لو لم يخالع. [شرط المعقود عليه] الركن الثاني. المعقود عليه: فشرط المعوض - وهو البضع -: أن يكون مملوكاً للزوج فيصح خلع رجعية؛ لأنها كالزوجة في كثير من الأحكام, بخلاف البائن بخلع أو نحوه؛ إذ لا فائدة فيه. ويشترط في عوضه شروط سائر الأعواض؛ ككونه متمولاً, مملوكاً ملكاً مستقراً, مقدوراً على تسلمه معلوماً, فيصح عوضه قليلاً وكثيراً ديناً وعيناً ومنفعة كالصداق, فلو خالعها على ما ليس بمال؛ كخمر, أو على مجهول؛ كثوب غير معين ولا موصوف .. أوجب هذا الخلع مهر المثل عليها؛ لأنه المَرَدٌ عند فساد العوض. ولو جرى الخلع مع أبيها, أو أجنبيّ على هذا الخمر مثلاً .. فرجعيّ ولا مال, واستثني من وجوب مهر المثل في مسألة الخلع بخمر أو نحوه الكفارُ إذا حصل الإسلام بعد قبضه. ولو خالع على ما لا يقصد كالدم .. وقع رجعياً بخلاف الميتة؛ لأنها قد تقصد للجوارح وللضرورة. ولهما التوكيل, فلو قال لوكيله: (خالعها بألفٍ) .. لم ينقص منه, فلو نقص .. لم تطلق؛ لمخالفته للمأذون فيه, وله أن يزيد عليه من جنسه وغيره, وإن أطلق .. لم ينقص عن مهر مثل؛ لأنه المَرَد, وله أن يزيد عليه من جنسه وغيره, فلو نقص .. وقع بمهر المثل؛ لفساد المسمى بنقصه عن المَرَدّ.

ولو قالت لوكيلها: (اختلع بألفٍ) , فاختلع به أو بأقل .. نفذ, وإن زاد فقال: (اختلعتها بألفين من مالها بوكالتها) .. بانت ولزمها مهر مثل؛ الفساد المسمى بزيادته على المأذون فيه, وإن أضاف الوكيل الخلع إلى نفسه .. فخلع أجنبيّ وهو صحيح, وإن أطلق .. فعليها ما سمت, وعليه الزيادة. والخلع طلقة بائنة؛ لأن العوض إنما بذل للفرقة, والفرقة التي يملك الزوج إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ, فوجب أن يكون طلاقاً بائناً, وينبني عليه أنها تملك به نفسها؛ فلا يلحقها بعده طلاق ولو في العدة؛ لبينونتها, ولا يملك رجعتها, ولا تحلُ له إلا بنكاح جديد. [صيغة الخلع] الركن الثالث: الصيغة؛ فلفظ الخلع مع ذكر المال صريح في الطلاق؛ لشيوعه في العرف والاستعمال للطلاق, وبدونه كناية, وقيل: صريح أيضاً وسيأتي, ويصح بباقي كنايات الطلاق مع النية, وبغير العربية. وإذا بدأ الزوج بصيغة معاوضة؛ كـ (طلقتك) , أو (خالعتك بكذا) فقبلت .. فهو معاوضة فيها شوب تعليق؛ لتوقف وقوع الطلاق فيه على القبول, وله الرجوع قبل قبولها؛ نظراً لجهة المعاوضة, ويعتبر قبولها بلفظ غير منفصل بكلام أو زمن طويل. فلو اختلف إيجاب وقبول؛ كـ (طلقتك بألف) فقبلت بألفين, أو (طلقتك ثلاثاً بألفٍ) فقبلت واحدة بثلث ألف .. فلغو, ولو قال: (طلقتك ثلاثاً بألفٍ) فقبلت واحدة به .. طلقت ثلاثاً ولزمها الألف؛ لأن الزوج يستقل بالطلاق, والزوجة إنما يعتبر قبولها بسبب المال وقد وافقته في قدره. وإن بدأ بصيغة تعليق؛ كـ (متى) أو (متى ما أعطيتني كذا .. فأنت طالق) .. فتعليق, فلا رجوع له قبل الإعطاء, ولا يعتبر القبول لفظاً, ولا الإعطاء على الفور, وإن قال: (إن) أو (إذا أعطيتني كذا .. فأنت طالق)., فكذلك, لكنه يعتبر إعطاؤه فوراً؛ لأنه قضية العوض في المعاوضة, وإنما تركت هذه القضية في (متى) لأنها صريحة في جواز التأخير, شاملة لجميع الأوقات؛ كـ (أي وقت) , بخلاف (إن) و (إذا). وإن بدأت بطلب طلاق؛ كأن قالت: (طلقني على كذا) فأجاب .. فمعاوضة مع شوب جعالة؛ لأنها تبذل المال في تحصيل ما يستقل به الزوج من الطلاق المحصل للغرض؛ كما في الجعالة يبذل الجاعل المال في تحصيل ما يستقل به العامل من الفعل المحصل للغرض, فلها

الرجوع قبل جوابه؛ لأن هذا شأن المعاوضة والجعالة كلتيهما, ويعتبر جوابه فوراً؛ لأنه شأن المعاوضة. ولا فرق فيما ذكر بين أن تطلب بصيغة معاوضة وتعليق, ولا بين أن يكون التعليق بـ (إن) أو (متى) نحو: (إن طلقتني) , أو (متى طلقتني فلك كذا) , وإن أجابها بأقل مما ذكرته .. لم يضر, فلو طلبت ثلاثاً بألف وهو يملكها, فطلق طلقة بثلثه, أو سكت عن العوض .. فواحدة بثلثه؛ تغليباً لشوب الجعالة, ولا يضر تخلل كلام يسير بين إيجاب وقبول. والألف في قول الناظم: (يُجهلا) بدل من نون التوكيد إن بني للمفعول, أو للفاعل وأُعِيدَ على الزوج, وإن أعيد على المتخالعين المفهومين من الخلع .. فضمير تثنية. * ... * ... *

باب الطلاق

بابُ الطَّلاق هو لغةً: حل القيد والإطلاق، وشرعاً: حلّ عقد النكاح بلفظ الطلاق أو نحوه, وعرفه النووي رحمه الله تعالى في «تهذيبه» بأنه تصرفت مملوك للزوج يحدثه بلا سبب فيقطع النكاح. والأصل فيه قبل الإجماع: الكتاب؛ كقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] , وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] , والسُنة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: راجع حفصة؛ فإنها صوامة قوامة, وإنها زوجتك في الجنة» رواه أبو داوود بإسناد حسن, وكقوله: «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق» رواه أبو داوود بإسناد صحيح, والحاكم وصححه, والاحتجاج بأنه صلى الله عليه وسلم راجع سودة .. أنكره ابن حزم وقال: لم يطلقها قط. وللطلاق أربعة أركان: صيغة, ومطلق, وقصد للطلاق, وزوجة. (صَرِيحُهُ سَرَّحْتُ أَوْ طَلَّقْتُ ... خالَعْتُ أو فادَيْتُ أو فارَقْتُ) (وكُلُّ لَفْظٍ لِفِرَاقٍ احْتَمَلْ ... فَهْوَ كِنَايَةٌ بِنَيَّةٍ حَصَلْ) (والسُنَّةُ الطَّلاقُ في طُهْرٍ خَلا ... عَن وَطْئِهِ أَو باخْتِلاعٍ حَصَلا) (وَهْوَ لِمَنْ لم تُوطَ أو مَن يَئِسَتْ ... أو ذاتِ حَمْلٍ لا وَلا أو صَغُرَتْ) (للحُرِّ تَطليقُ الثلاثِ تَكْرِمَهْ ... والعَبْدُ ثِنْتَانِ وَلوْ مِنَ الأَمَهْ) (وإِنَّمَا يَصِحُّ مِن مُكَلَّفِ ... زَوْجٍ بلا إكْرَاهِ ذِي تَخَوُّفِ) (وَلَوْ لِمَنْ في عِدَّةِ الرَّجْعِيَهْ ... لا إِنْ تَبِنْ بِعِوَضِ العَطِيَّهْ) (وَصَحَّ تعليقُ الطَّلاقِ بِصِفَهْ ... إلا إذا بالمُستَحِيلِ وَصَفَهْ) (وصَحَّ الاسْتِثْنَا إذا ما وَصَلَهْ ... إِن يَنْوِهِ مِن قَبْلِ أَن يُكَمِّلَهْ)

[صيغة الطلاق وما يتعلق بها] الركن الأول: الصيغة؛ وصريحه: (سرحت) , أو (طلقت) , أو (خالعت) , أو (فاديت) , أو (فارقت) , أما الطلاق .. فلاشتهاره فيه لغة وشرعاً, وأما الفراق والسراح .. فلورودهما في القرآن بمعناه, قال تعالى: {أوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] , وقال: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49]. وأما لفظ الخلع .. فلشيوعه في العرف والاستعمال للطلاق, وأما المفاداة .. فلورودها في القرآن بالخلع, قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] , وقضية كلامه كـ «الحاوي الصغير» و «المنهاج» و «أصله»: أن لفظ الخلع والمفاداة صريح في الطلاق وان لم يذكر المال, وصرح به البغوي وصاحب «الأنوار» والنسائي والإسنوي والبلقيني, وحكى في «أصل الروضة» في صراحة ذلك قولين بلا تصحيح, ثم قال: وإذا قلنا بصراحته .. فذاك إذا ذكر المال, فإن لم يذكره .. فكناية على الأصح. وقال البلقيني: لا يشترط في صراحته ذكر العوض على طريقة الأكثرين, خلافاً لما وقع في «الروضة» وغيرها، ورجح الأذرعيّ: أنه كناية مطلقاً, قال: وعليه أكثر نصوص الشافعي رضي الله تعالى عنه. وصرائح الطلاق منحصرة في ألفاظ ليس هذا منها, وأقوى مأخذ في صراحته اشتهاره واستعماله في الفراق, وسيأتي أن الاشتهار غير مقتض للصراحة عند العراقيين, وذكر نحوه الزركشي. ويعتبر في نحو: (طلقت) إذا ابتدأ به ذكر الزوجة. فلو قال ابتداءً: (طلقت) أو (سرحت) ونواها .. لم تطلق؛ لعدم الإشارة والاسم, نقله الشيخان عن قطع القفال وأقراه. ومثل ما ذكره الناظم: (أنت طالق) , و (مطلقة) , و (يا طالق) , و (أنت مفارقة) , و (يا مفارقة) , و (أنت مسرحة) , و (يا مسرحة) , لا (أنت طلاق) , و (الطلاق) , و (فراق) , و (الفراق) , و (سراح) , و (السراح) لأن المصادر إنما تستعمل في الأعيان توسعاً فتكون كنايات.

وترجمة الطلاق بغير العربية صريح على المذهب؛ لشهرة استعمالها عند أهلها شهرة استعمال العربية عند أهلها, وفي ترجمة الفراق والسراح الخلاف, لكن الأصح هنا: أنها كناية, قاله الإمام والروياني؛ لأن ترجمتهما بعيدةً عن الاستعمال؛ كذا في «أصل الروضة». ولو اشتهر لفظ للطلاق؛ كـ (الحلال) , أو (حلال الله علي حرام) , أو (أنت عليَّ حرامٌ) .. قال الرافعي: فصريح في الأصح عند من اشتهر عندهم؛ لغلبة الاستعمال وحصول التفاهم به عندهم", وصحح النووي: أنه كناية", ونصت عليه في «الأم, كما ذكره في «المطلب " لأن الصريح إنما يؤخذ من ورود القرآن به, وتكرره على لسان حملة الشريعة, وليس المذكور كذلك, أما من لم يشتهر عندهم .. فهو كناية في حقهم قطعاً. ولو قال: (أنت حرام) , ولم يقل (عليّ) .. فهو كناية قطعاً, وكل لفظ يحتمل الفراق .. فهو كناية بنية تقترن به فيحصل الفراق؛ ك (أطلقتك) , و (أنت مطلقة) بسكون الطاء, (خليّة) , (بريّة) , (بتة) , (بتلة) , (بائن) , (اعتدي) , (استبرئي رحمك) وإن لم تكن مدخولاً بها, (الحقي بأهلك) , (حبلك على غاربك) , (لا أنده سَرْبك) , (اغربي) , (اعزبي) , (دعيني) , (ودُعيني) , (تزودي) , (تجرعي) , (ذوقي) , (اذهبي) , (كلي) , (اشربي) , (اخرجي) , (ابعدي) , (سافري) , (تجنبي) , (تقنعي) , (تجردي) , (تستري) , (الزمي الطريق) , (برئت منك) , (ملكتك نفسك) , (أحللتك) , (لا حاجة لي فيك) , (أنت وشأنك) , (أنت طلقة) , أو (نصف طلقة) , أو (لك الطلاق) , أو (عليك الطلاق) , أو (أنت والطلاق) , أو (وطلقة). ولا تصير ألفاظ الكناية صرائح بقرينة من نحو غضب وسؤال طلاق, واعتبر في «الحاوي الصغير»: اقتران نية الطلاق بأول لفظ الكناية وإن عزبت في آخره؛ أي: بخلاف عكسه لا يكفي؛ إذ انعطافها على ما مضى بعيد, بخلاف استصحاب ما وجد, ولأنها إذا وجدت في أوله .. عرف قصده منه, والتحق بالصريح, وهاذا ما نقله النووي في «تنقيحه) عن تصحيح ابن الصلاح وأقره, وصححه الجرجاني, والبغوي في «تعليقه) وغيرهما, وقال ابن الرفعة: إنه الذي يقتضيه نص «الأم» , قال في المهمات: وبه الفتوى؛ كما أشعر به كلام

الشيخين, وقال الماوردي بعد تصحيحه له: إنه أشبه بمذهب الشافعي. وصحح في «أصل الروضة»: الوقوع في الصورتين, وفي «أصل المنهاج»: المنع فيهما, فاعتبر مقارنة النية لكل اللفظ, وجرى عليه البلقينى. واللفظ الذي يعتبر قرن النية به هو لفظ الكناية؛ كما صرح به الماوردي والروياني والبندنيجى, فمثل الأول؛ لقرنها بالأول بالباء من (بائن) , والآخران بقرنها بالخاء من (خلية) , لكن مثّل له الرافعى تبعاً لجماعة بقرنها ب (أنت) من (أنت بائن) , وصوب في «المهمات» الأول؛ لأن الكلام في الكنايات؛ إذ النية جعلت لصرف اللفظ لأحد محتملاته, والمحتمل إنما هو (بائن) مثلاً, وأما (أنت) .. فإنما يدل على المخاطب, لكن أثبت ابن الرفعة في المسألة وجهين, وأيد الاكتفاء بها عند (أنت) بما إذا وقع (أنت) زمن الطهر و (طالق) زمن الحيض, فإن ابن سريج قال: يكون الطلاق سنياً ويحصل لها قرء. [انقسام الطلاق إلى سنيٍّ وبدعيٍّ ولا ولا] ثم الطلاق ينقسم إلى: سني, وبدعي, ولا ولا. فالسني: طلاق مدخول بها في طهر لم يجامعها فيه؛ أي: ولا في حيض قبله ولم تستدخل فيه ماءه, وليست بحامل ولا صغيرة ولا آيسة, وهي تعتد بالأقراء, وذلك لاستعقابه الشروع في العدة وعدم الندم, وقد قال تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة, وفي «الصحيحين»: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض, فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر, فإن شاء .. أمسكها, وإن شاء .. طلقها قبل أن يجامع, فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء». والبدعي: طلاق مدخول بها بلا عوض في حيض أو نفاس ولو في عدّة طلاق رجعي, وهي تعتد بالأقراء, أو في طهر جامعها فيه ولو في الدبر, أو استدخلت ماءه, أو في حيض قبله

وكانت ممن تحبل ولم يتبين حملها, وكذا طلاق من لم تستوف دورها من القسّم. أما الأول .. فلمخالفته قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] , وزمن الحيض والنفاس لا يحسب من العدة, والمعنى فيه تضررها بطول التربص. وأما الثاني .. فلأدائه إلى الندم عند ظهور الحمل؛ فإن الإنسان قد يطلق الحائل دون الحامل, وعند الندم قد لا يمكنه التدارك فيتضرر هو والولد. وألحقوا الجماع في الحيض بالجماع في الطهر؛ لاحتمال العلوق فيه, وكون بقيته مما دفعته الطبيعة أولاً وتهيأ للخروج, وألحقوا الجماع في الدبر بالجماع في القبل؛ لثبوت النسب ووجوب العدة به. ولو طولب المُولي بالطلاق فطلق في الحيض .. لم يحرم كما قاله الإمام والغزالي وبحث فيه الشيخان, ولو طلق الحاكم عليه, أو الحكمان في الشقاق .. فلا تحريم أيضاً. ويستحب لمن طلق بدعياً أن يراجع مطلقته ما لم يدخل الطهر الثاني؛ لخبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما, ثم إن راجع والبدعة لحيض .. فيسن ألا يطلقها في الطهر منه, أو لوطءٍ في طهر أو حيض قبله: فإن وطئها بعد الرجعة فيه .. فلا بأس بطلاقها في الطهر الثاني, وإلا .. استحب ألا يطلقها فيه, وأما من لم تستوف دورها .. فرجعتها واجبة. وطلاق غير الموطوءة والآيسة والحامل والصغيرة؛ أي: والمختلعة .. ليس بسني ولا بدعي؛ لانتفاء ما ذكر فيها, ولأن افتداء المختلعة يقتضي حاجتها إلى الخلاص بالفراق, ورضاها بطول التربص, وأخذه العوض يؤكد داعية الفراق, ويبعد احتمال الندم, وما ذكرته في المختلعة .. هو المعتمد, خلاف ما ذكره الناظم فيها من أن طلاقها سني. قال في «الشرح الصغير»: وقد تضبط الأقسام على الإبهام؛ بأن يقال: الطلاق إن حَرُم إيقاعه .. فبدعيّ, وإلا .. فسني في حق من يعتورها التحريم, وليس بسني ولا بدعي في حق غيرها. وقول الناظم: (لا ولا) أي: لا سنة فيه ولا بدعة, فحذف كما قال الحريري: (بورك فيك من طِلا كما بورك في لا ولا) أراد: {شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]. وللحر أن يطلق ثلاث تطليقات ولو كانت زوجته أمة؛ تكرمة لحريته؛ لأنه صلى الله عليه

وسلم سُئل عن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] , أين الثالثة؟ فقال: «{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]» رواه أبو داوود, وصححه ابن القطان, وعمومها يشمل الأمة, ولأن الطلاق ملك فاعتبر بمالكه, ومشروع لحاجة الرجل فاعتبر بجانبه. وللعبد طلقتان فقط؛ أي: وإن كانت زوجته حرة, قاله عثمان وزيد بن ثابت, ولا مخالف لهما من الصحابة, رواه الشافعي عن مالك بإسناده, والمبعض كالقن. ومحل ما ذكره: إذا كان رقيقاً عند الطلقة الثانية, فلو طلق الذمي طلقتين, ثم نقض العهد وحارب فاسترق .. ملك الثالثة. [شروط الزوج المطلق] الركن الثاني: المطلق وهو الزوج؛ فلا يصح الطلاق إلا من زوج مكلف مختارٍ, فلا ينفذ طلاق غير الزوج أو وكيله فيه, إلا فيما سيأتي في المُولي يطلق عليه الحاكم, ولا طلاق غير المكلف من صبي أو مجنون. أما من أئم بمزيل عقله من شراب أو دواء .. فالمذهب: أنه ينفذ طلاقه وتصرفه له وعليه قولا وفعلاً؛ كالنكاح والعتق, والبيع والشراء, والإسلام والردة, والقتل والقطع وإن كان غير مكلفٍ؛ لأن ما عنده من الفهم والقصد يكفي في نفوذ التصرف؛ إذ هو من قبيل ربط الأحكام بالأسباب, ويرجع في حد السكران إلى العرف. أما المكره على الطلاق بغير حق .. فلا يقع طلاقه؛ لخبر: «لا طلاق في إغلاق» رواه أبو داوود, وصححه الحاكم على شرط مسلم, وفسر الشافعي وغيره الإغلاق بالإكراه. وشرط الإكراه: أن يكون بمخوفي يؤثر العاقل الإقدام عليه حذراً مما هدد به, فيختلف باختلاف المطلوب والأشخاص. والتعيين, فلو قال: (طلق إحداهما) فطلق معينة .. فالمذهب: وقوعه, وكون المحذور عاجلاً غير مستحق, وقدرة المكره على تحقيق ما هدده به بولاية أو تغلب, وعجز المكرَه عن

دفعه بهرب وغيره, وظنه أنه إن امتنع .. حققه, ولو نوى المكره حال تلفظه بالطلاق إيقاعه, أو ظهرت قرينة اختيار؛ كأن أُكْرِه على ثلاث فوحد، أو صريح فكنى, أو تعليق فنجز، او على (طاقت) فسرح, آو بالعكوس .. واقع. [اشتراط قصد الطلاق] الركن الثالث: قصد الطلاق؛ فيشترط قصد اللفظ بمعناه, فحكاية الطلاق وكذا طلاق النائم,, لغوٌ وإن قال: (أجزته) أو (أوقعته) , وكذا سبق اللسان؛ لكن يؤاخذ به, ولا يصدق ظاهراً إلا بقرينة, ولو ظنت صدقه بأمارة .. فلها مصادقته, وكذا للشهود ألا .. يشهدوا فإن كان اسمها طالعاً أو طارقاً أو طالباً فناداها (يا طالق) .. طلقت, وإن ادعى سبق اللسان .. قُبل منه, أو كان اسمها طالقاً فناداها .. لم تطلق إلا إن نوى. ويقع طلاق الهازل وعتقه وسائر تصرفاته ظاهراً وباطناً. [محل الطلاق] الركن الرابع: الزوجة, ولو كانت في عدّة طلاق رجعي .. فيلحقها الطلاق؛ لبقاء الولاية على المحل والملك؛ بدليل أن كلاً منهما يرث الآخر, بخلاف من بانت منه بعوض أو غيره؛ فإنها لا يلحقها الطلاق؛ لأنها ليست بزوجة؛ بدليل أنه لا يصح ظهارها ولا الإيلاء منها ولا يتوارثان, [تعليق الطلاق] ويصح تعليق الطلاق بصفة كتعليقه بفعله أو فعل غيره؛ كقوله: (إن دخلت الدار .. فأنت طالق). وأدوات التعليق: (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (كلما) ونحوها, ولا يقتضين فوراً إن علق بمثبت؛ كالدخول في غير خلع, إلا (أنت طالق إن شئت) ولا تكرراً إلا (كلما). ولو قال: (إذا طلقتك .. فأنت طالق ثم طلق) , أو علق بصفة فوجدت .. فطلقتان, أو (كلما وقع طلاقي .. فأنت طالق) فطلق .. فثلاث في موطوءة؛ واحدة بالتنجيز وثنتان بالتعليق بـ (كلما) واحدة بوقوع المنجزة وأخرى بوقوع هذه الواحدة, وفي غيرها طلقة.

ولو علق بنفي فعل .. فالمذهب: أنه إن علق بإن؛ كـ (إن لم تدخلي الدار .. فأنت طالق) .. وقع عند اليأس من الدخول, أو بغيرها؛ كإذا .. فعند مضي زمن يمكن فيه ذلك الفعل من وقت التعليق ولم يفعل يقع الطلاق. ولو قال: (أنت طالق أن دخلت الدار وأن لم تدخلي) بفتح (أن) .. وقع في الحال؛ لأن المعنى للدخول أو لعدمه بتقدير لام التعليل؛ كما في قوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] , وسواء أكان فيما علل به صادقاً أم كاذباً، إلا في غير نحويّ .. فتعليق في الأصح؛ لأن الظاهر قصده له, وهو لا يميز بين (إن) و (أن). ولو علق الزوج الطلاق بفعله؛ كأن علقه بدخوله الدار ففعل المعلق به ناسياً للتعليق, أو ذاكراً له مكرهاً على الفعل, أو طائعاً جاهلاً بأنه المعلق عليه .. لم تطلق في الأظهر؛ لخبر ابن ماجه وغيره: «إن الله عز وجل وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أي: لا يؤاخذهم بذلك. أو بفعل غيره ممن يبالي بتعليقه لصداقة أو نحوها, وعلم به أو لم يعلم, وقصد الزوج إعلامه به, وفعله ناسياً أو مكرهاً أو جاهلاً .. لا يقع الطلاق في الأظهر. وإن لم يبال بتعليقه كالسلطان, أو كان يبالي به ولم يعلم به, ولم يقصد الزوج إعلامه به .. وقع الطلاق بفعله وإن اتفق في بعض صوره نسيان أو نحوه؛ لأن الغرض حينئذ مجرد التعليق بالفعل من غير أن ينضم إليه قصد المنع. قوله: (إلا إذا بالمستحيل وصفه) أي: فإنه يقع في الحال؛ لاستحالة ذلك فيلغو التعليق, ولا فرق فيه بين المستحيل عقلاً؛ كالجمع بين الضدين, والمستحيل شرعاً؛ كإن نسخ صوم شهر رمضان, والمستحيل عرفاً؛ كـ (إن صعدت في السماء وطرت). وما جرى عليه الناظم .. رأي مرجوحٌ, والأصح: لا وقوع في المستحيل عقلاً وشرعاً كالمستحيل عرفاً؛ لأن الأصحاب اتفقوا على تصحيحه وهو المنصوص؛ لأنه لم ينجُزه, وإنما علقه بصفة ولم يوجد, وقد يكون الغرض من التعليق بالمستحيل امتناع الوقوع؛ لامتناع وقوع المعلق به, كما في قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. والأقرب: أن معنى كلام المصنف: أن تعليق الطلاق بالمستحيل الشامل لأقسامه الثلاثة

لا يصح؛ فلا يقع به طلاق؛ لأنه لاغ, فقد صحح الرافعي في (الأيمان) فيما لو حلف لا يصعد السماء .. أن يمينه لا ينعقد", ومقتضاه: عدم انعقاد التعليق هنا. [حكم الاستثناء في الطلاق] ويصح الاستثناء في الطلاق؛ كـ (أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة) .. فيقع ثنتان؛ لوقوعه في القرآن والسنة وكلام العرب, وهو الإخراج ب (إلا) أو إحدى أخواتها من متكلم واحد. قال النحويون: اللفظ قبل الاستثناء يحتمل المجاز, فإذا جاء الاستثناء .. رفع المجاز وقرره, فاللفظ قبل الاستثناء ظني, وبعده قطعي. ويعتبر في صحته اتصاله بالمستثنى منه, فإن انفصل .. لم يؤثر, ولا يضر في الاتصال سكتة تنفس أو عي أو تعب؛ لأنها لا تعد فاصلة, بخلاف الكلام اليسير الأجنبي فيضر على الصحيح, وتلفظه به بحيث يسمع نفسه, وإلا .. لم يقبل, ولا يديّن على المشهور, ونيته قبل فراغ اليمين, وعدم استغراقه للمستثنى منه فلو قال: (أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً) .. لم يصح الاستثناء, ويقع الثلاث. ولا يجمع المفرق في المستثنى ولا في المستثنى منه؛ فلو قال: (أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين وواحدة) .. فواحدة, ولا يجمع المستثنى ليكون مستغرقاً, ويلغى قوله: (وواحدة) لحصول الاستغراق بها, أو (أنت طالق طلقتين وواحدة إلا واحدة) .. فثلاث, ولا يجمع المستثنى منه فتكون الواحدة مستثناة من الواحدة فيلغو الاستثناء, وهو من نفى إثبات وعكسه. فلو قال: (أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة) .. فثنتان؛ لأن المستثنى الثاني مستثنى من الأول فيكون المستثنى فى الحقيقة واحدة, أو ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا ثنتين .. فثنتان؛ لما ذكر, أو خمساً إلا ثلاثاً .. فثنتان, أو ثلاثاً إلا نصف طلقة .. فثلاث. ولو قال: (أنت طالق إن شاء الله, أو إن لم يشأ الله) أي: طلاقك, وقصد التعليق .. لم يقع الطلاق؛ لأن المعلق عليه من مشيئة الله تعالى أو عدمها غيرُ معلوم, ولأن الوقوع بخلاف مشيئة الله تعالى محال, وكذا (أنت طالق إلا أن يشاء الله)؛ لأن استثناء المشيئة يوجب حصر الوقوع في حالة عدم المشيئة, وذلك تعليق بعدم المشيئة, وقد تقدم أنه لا يقع الطلاق فيه. ويمنع التعليق بالمشيئة أيضاً انعقاد تعليق, نحو: (أنت طالق إن دخلت الدار إن

شاء الله) , وعتق نحو: (أنت حر إن شاء الله) , ويمين نحو: (والله؛ لأفعلن كذا إن شاء الله) , ونذر نحو: (لله عليّ أن أتصدق بمئة إن شاء الله) , وكل تصرف غير ما ذكر كبيع وغيره. ولو قال: (يا طالق إن شاء الله) .. وقع في الأصح؛ نظراً لصورة النداء المشعر بحصول الطلاق حالته, والحاصل لا يعلق بالمشيئة. والألف في قول الناظم: (حصلا) للإطلاق, وقوله: (توط) بحذف الألف المبدلة من الهمزة, ثم إن كان الإبدال قبل دخول الجازم .. فهو إبدال شاذ, فحذفها جائز؛ نظراً إلى صيرورتها حرف علة وإن كان الأكثر إثباتها؛ نظراً إلى أصلها المبدل عنه, وكما لا تحذف الهمزة .. لا يحذف ما انقلب عنها, وإن كان بعده .. فهو إبدال قياسي, ويمتنع حينئذ حذفها؛ لاستيفاء الجازم مقتضاه، فحذفها حينئذ للوزن. وقوله: (تكرمه) بكسر الراء تفعلة من الكرامة, (والعبد) بالجر عطفاً على (الحر) أو بالرفع على الابتداء, وقوله: (الاستثنا) بالقصر للوزن. * * *

باب الرجعة

باب الرجعة بفتح الراء وكسرها, والفتح أفصح عند الجوهري, والكسر أكثر عند الأزهري, وهي لغة: المرة من الرجوع, وشرعاً: الرد إلى نكاح في عدّة طلاق غير بائن على وجه مخصوص. والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلك} [البقرة: 228] أي: في العدة {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] أي: رجعة, كما قاله الشافعي رضي الله عنه, وقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] والرد والإمساك مفسران بالرجعة, وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «مره فليراجعها» كما مر. ولها أربعة أركان: مرتجع, وزوجة, وطلاق, وصيغة, وقد أخذ في بيانها فقال: (تَثْبُتُ فِي عِدَّةِ تطليقٍ بلا ... تَعَوُّضٍ إِذ عَدَدٌ لَم يَكْمُلا) (وبِانْقِضَا عِدَّتِهَا يُجَدَّدُ ... ولَم تَحِلَّ إذ يَتِمُّ العَدَدُ) (إلا إذا العِدَّةُ مِنهُ تَكْمُلُ ... ونَكَحَتْ سِوَاهُ ثُم يَدْخُلُ) (بِهَا وَبَعدَ وَطْءِ ثانٍ فُورِقَتْ ... وعِدَّةُ الفُرْقَةِ مِن هذا انْقَضَتْ) (وليسَ الاِشْهَادُ بِهَا يُعْتَبَرُ ... نَصَّ عليهِ الأُمُّ والمُخْتَصَرُ) (وفي القَدِيمِ لا رُجُوعَ إلا ... بِشَاهِدَيْنِ قَالَهُ في الاِمْلا) (وَهْوَ كَمَا قالَ الرَّبِيعُ آخِرُ ... قَوْلَيْهِ فالتَّرجِيحُ فيهِ أَجْدَرُ) (وَهْوَ على القَوْلَيْنِ يسْتَحَبُّ ... وأَعْلِمِ الزوجةَ فَهْوَ نَدْبُ) [شروط الرجعة وما تثبت فيه] أي: تثبت الرجعة لمن له أهلية النكاح بنفسه, وصيغتها: (راجعتك) , أو (رجعتك) , أو (ارتجعتك) , أو (أمسكتك) , ويستحب الإضافة معها؛ كأن يقول: (راجعتك إلي) , أو (إلى نكاحي) , ولا بد منها في (رددتك).

في عدّة تطليق؛ بأن وطئها أو استدخلت منيه المحترم, بلا عوضٍ وإن شرط أن لا رجعة أو قال: (أسقطت حق الرجعة). وخرج بقوله: (في عدّة): مَن طلقت قبل ذلك, و (بعدة التطليق): عدة الفسخ؛ لأن الرجعة إنما وردت في الطلاق, ولأن الفسخ شرع لدفع الضرر؛ فلا يليق به جواز الرجعة, وما لو وطنها في العدة .. فلا رجعة له إلأ في البقية التي دخلت في عدة الوطء. نعم: لو خالطها بلا وطء مخالطة الأزواج في عدة أقراء أو أشهر .. لم تنقض عدتُها، ولا رجعة له بعد انقضاء الأقراء أو الأشهر؛ للاحتياط, ويلحقها الطلاق إلى انقضاء العدة. وبقوله: (بلا عوض) عدّة الطلاق بعوضي؛ لبينونتها, ولا بد أن تكون الرجعة منجزة فلا تقبل تعليقاً؛ كالنكاح ونحوه, بل لو قال: (راجعتك إن شئت) , فقالت: شئت .. لم تصخ, بخلاف نظيره في البيع؛ لأن ذلك مقتضاه بخلافه في الرجعة. وأن تكون المرتجعة معينة, فلو طلق إحدى امرأتيه مبهمة, ثم قال: (راجعت المطلقة) , أو طلقهما جميعاً, ثم قال: (راجعت إحداهما) .. لم تصح؛ إذ ليست الرجعة في احتمال الإبهام كالطلاق؛ لشبهها بالنكاح وهو لا يصح معه. إذ عدد الطلاق لم يكمل؛ بألا تكون ثالثة للحرّ ولا ثانية لغيره. [الحكم إذا انقضت العدة أو تم عدد الطلاق] وبانقضا عدّتها يجدد؛ أي: نكاحها؛ لبينونتها. ولم تحل المطلقة لمطلقها إذ يتمُ عدد طلاقها؛ بأن طلقها الحر ثلاثاً وغيره طلقتين, إلاّ إذا العدة منه تكمل ونكحت سواه ثم يدخل بها, وبعد وطاع ثان فارقت, وعدة الفرقة من هذا انقضت؛ لقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أي: الثالثة {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] , مع خبر «الصحيحين»: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة, فطلقني فبت طلاقي, فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير, وإنما معه مثل هدبة الثوب, فقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ ! لا, حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» , والمراد بها: الوطء. والمعتبر في الوطء: إيلاج الحشفة, أو قدرها من مقطوعها ولو بحائل كخرقة في قبلها ممن يمكن جماعه ولو عبداً أو خصياً أو مجنوناً أو صبياً ولو في نهار رمضان, أو في عدّة شبهة أو

إحرام، أو في حال نومها، أو نومه بشرط الانتشار للآلة ولو انتشاراً ضعيفاً ليحصل ذوق العسيلة، وأدناه في البكر أن يفتضها بآلته؛ حكاه الشيخان عن البغوي وأقرّاه, والمحاملي عن نص «الأم» , وحمل ابن الرفعة النص على أن الغالب إزالتها بتغييب الحشفة وإن لم تزل بكارتها. ولا يحصل التحليل بالوطء حال ضعف النكاح؛ بأن وطئها في عدّة طلاقها الرجعي وإن راجعها, أو في مدة الردّة وإن أسلم المرتد فيها. وتتصور العدة بلا دخول؛ بأن وطئها في الدبر, أو باستدخالِ الماء المحترم, ويشترط في تحليل الكافر الكافرة للمسلم: كون وطنه في وقت لو ترافعوا إلينا .. لقررناهم على ذلك النكاح. وعلم: أنه لا يكفي الوطء بملك اليمين, ولا بالنكاح الفاسد, ولا في الدبر. ولو طلق زوجته الأمة ثلاثاً ثم اشتراها .. لم يحل له الوطء بملك اليمين حتى يحللها, ولو لم يكن انتشار أصلاً لعنة أو شلل أو مرضي .. لم يكف تغييب الحشفة. [حكم الإشهاد على الرجعة] قوله: (وليس الاشهاد بها يعتبر نص عليه «الأم» و «المختصر») ولو لم ترض الزوجة بها, ولم يحضر الولي ولم يعلم بها؛ لأنها في حكم استدامة النكاح السابق, ولقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلك} [البقرة: 228] , ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمر: «مره فليراجعها» , ولم يذكر فيهما إشهاداً, وإنما اعتبر الإشهاد على النكاح لإثبات الفراش, وهو ثابت هنا, فتصح بالكناية مع النية. قوله: (وفي القديم. «لا ارتجاع إلا بشاهدين» قاله في «الإملا») أي: وهو من الجديد لا لكونها بمنزلة ابتداء النكاح, بل لظاهر قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] أي: على الإمساك الذي هو بمعنى الرجعة وعلى المفارقة, وأجيب بحمل ذلك على الاستحباب؛ كما في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] للأمن من الجحود, وهو؛ أي: وجوب الإشهاد كما قال الربيع: آخر قولي الشافعي؛ فيكون مذهبه, والترجيح فيه أجدر؛ أي أحق. وقال البلقيني: ينبغي أن يرجح ولم يرجحوه. والإشهاد عليها على القولين جميعاً مستحب؛ أي: مطلوب قطعاً, وعلى الأول: فإن ترك

الإشهاد .. استحب أن يشهد على إقراره بها؛ فقد يتنازعان فلا يصدق فيها, ويندب إعلام الزوجة بالمراجعة؛ دفعاً للاختلاف فيها. [الاختلاف في الرجعة] وإن ادعت انقضاء عدة أشهر وأنكر .. صدّق بيمينه؛ لرجوع ذلك إلى الاختلاف في وقت طلاقه, والقول قوله فيه, أو وضع حمل لمدة إمكان وهي ممن تحيض لا آيسة .. صدقت بيمينها؛ لأنها مؤتمنة على رحمها. فإن ادعت ولادة تام .. فإمكانه ستة أشهر ولحظتان من وقت النكاح؛ لحظة للوطاء ولحظة للولادة, أو ولادة سقط مصور .. فمئة وعشرون ولحظتان من وقت النكاح, أو ولادة مضغة بلا صورة .. فثمانون يوماً ولحظتان من وقت النكاح. وقولهم: (من وقت النكاح) بنوه على الغالب من إمكان اجتماع الزوجين من وقت النكاح, وفي غير الغالب؛ كالمشرقي مع المغربية تكون المدد المذكورة من حين إمكان الاجتماع. أو ادعت انقضاء أقراء: فإن كانت حرة وطلقت في طهر: فإن سبق بحيض .. فأقل الإمكان اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان, وإلا .. فثمانية وأربعون يوماً ولحظة, أو في حيض .. فسبعة وأربعون يوماً ولحظة, أو أمة وطلقت في طهر: فإن سبق بحيض .. فستة عشر يوماً ولحظتان, وإلا .. فاثنان وثلاثون يوماً ولحظة, ويحرم الاستمتاع بها, فإن وطاء .. فلا حد, ولا يعزر إلا معتقد تحريمه, ويجب مهر مثل وإن راجع. وإذا ادّعى بعد انقضائها رجعة فيها وأنكرت: فإن اتفقا على وقت الانقضاء؛ كيوم الجمعة وقال: (راجعت يوم الخميس) , فقالت: (بل السبت) .. صدقت بيمينها, أو على وقت الرجعة؛ كيوم الجمعة وقالت: (انقضت الخميس) , وقال: (السبت) .. صدق بيمينه, وإن تنازعا في السبق بلا اتفاق .. فالأصح: ترجيح سبق الدعوى وإن لم تكن عند حاكم, فإن ادعت الانقضاء, ثم ادعى رجعة قبله .. صدقت بيمينها, ولو ادعاها قبل انقضاء فقالت: بعده ... صدق بيمينه، وان ادعيامعاً ... صدقت بيمينها، ومتي ادعاها فيها ... صدق بيمينه، ومتى أنكرتها وصدقت, ثم اعترفت بها .. قبل اعترافها. والألف في قول الناظم: (يكملا) بدل من نون التوكيد, وقوله: (وبانقضا) بالقصر؛ للوزن, وقوله: (الإشهاد) بحذف الهمزة بعد نقل حركتها إلى الساكن.

باب الإيلاء

باب الإيلاء هو لغة: الحلف, قال الشاعر: (وَأَكْذَبُ مَا يَكُونُ أَبُو الْمُثَنَّى ... إذَا آلَى يَمِينًا بِالطَّلَاقِ) وكان طلاقاً في الجاهليّة فغير الشرع حكمه, وخصه بالحلف على الامتناع من وطاء الزوجة مطلقاً, أو أكثر من أربعة أشهر كما يؤخذ مما يأتى. والأصل فيه: قوله تعالى {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} [البقرة: 226] الآية, وهو حرام للإيذاء, وليس منه إيلاؤه صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من نسائه شهراً. وله ستة أركان: حالف, ومحلوف به, ومحلوف عليه 6 وزوجة 6 وصيغة, ومدة. (حَلفُهُ ألا يَطَأْ في العُمُرِ ... زوجتَهُ أو زائِدَاً عَن أَشْهُرِ) (أربَعَةٍ فإِنْ مَضَتْ لَهَا الطَّلَبْ ... بالوَطْءِ في قُبْلٍ وتكفيرٌ وَجَبْ) (أو بِطَلاقِهَا فإِنْ أبَاهُمَا ... طَلَّقَ فَرْدَ طَلْقَةٍ مَن حَكَمَا) [تعريف الإيلاء] أي: الإيلاء: حلف زوج - يصخ طلاقه بالحلف بالله تعالى, أو صفة من صفاته, أو بتعليق طلاق أو عتق, أو بالتزام ما يلزم بالنذر ولو كافراً, أو خصياً, أو رقيقاً, أو مريضاً أو سكران - ألا يطأ زوجته في قبلها, ووطؤه لها ممكن ولو رقيقة أو رجعية, أو صغيرة أو مريضة, قال الزركشي: أو متحيرة؛ لاحتمال الشفاء, أو مُخرمة؛ لاحتمال التحلل بالحصر وغيره, أو مظاهراً منها قبل التكفير؛ لإمكان الكفارة. انتهى فخرج بـ (الحلف): امتناعه بلا حلفي, وبـ (الزوج): السيّدُ والأجنبيّ, فلو قال لأجنبية: (والله؛ لا أطؤك) .. فليس إيلاء, بل يميناً محضة, وإن نكحها .. فيلزمه بالوطء قبل النكاح أو بعده ما تقتضيه اليمين الخالية عن الإيلاء, وب (من يصخ طلاقه): الصبي والمجنون والمكره.

وبقوله: (ألا يطأ): امتناعه من بقية التمتعات, أو من الوطء في غير القبل؛ إذ لا إيذاء بذلك, وبقولي: (ووطؤه لها ممكن): غيرُ الممكن؛ كأن كان الزوج أشل الذكر, أو مجبوبه بحيث لم يبق منه قدر الحشفة, أو كانت الزوجة ارتقاء أو قرناء؛ لعدم تحقق قصد الإيذاء, بخلاف ما لو جُبَ ذكره بعد الإيلاء,, لا يبطل؛ لعروض العجز, أو كانت صغيرة لا يمكن وطؤها فيما قدره. [ألفاظ الإيلاء] وألفاظه: صريح, وكناية, فمن الصريح: (إيلاج الحشفة) أو (إدخالها) , أو (تغييبها في فرجها) , و (النيك) , ولا يديّن في شيء منها, و (الوطء) و (الجماع) , و (الإصابة) , و (افتضاض البكر) , فلو قال: أردت بالوطء: الوطاء بالقدم, وبالجماع: الاجتماع في مكان, وبالإصابة والافتضاض: الإصابة والافتضاض بغير الذكر .. لم يقبل في الظاهر, ويديّن. نعم؛ لو ضم إليها (بذكري) .. التحقت بما لا يديّن فيه. ومن كنايته: الملامسة, والمباضعة, والمباشرة, والإتيان, والغشيان, والقربان, والإفضاء, واللمس. [مدة الإيلاء] وأما المدة .. فقد ذكرها الناظم بقوله: (في العمر أو زائداً عن أربعة أشهر) كأن يقول: (والله؛ لا أطؤك أبداً) , أو (مدة عمري) , أو (عمرك) , أو (خمسة أشهر) , و (لا أطؤك مدة) ونوى تلك المدة, فيمهل أربعة أشهر ثم تطالبه بالوطء أو الطلاق كما سيأتي. ولو قال: (والله؛ لا وطئتك أربعة أشهر, فإذا مضت: فو الله؛ لا وطئتك أربعة أشهر ... ) وهكذا مراراً .. فليس بمولي في الأصح, لانتفاء فائدة الإيلاء من المطالبة بموجبه في ذلك؛ إذ بعد مضي أربعة أشهر لا يمكن المطالبة بموجب اليمين الأولى؛ لانحلالها, ولا بموجب الثانية؛ لعدم مضي مدة المهلة من وقت انعقادها, وبعد مضي الأربعة الثانية يقال فيه مثل ذلك ... وهكذا إلى اخر حلفه. نعم؛ يأثم إثم الإيذاء على الراجح في «الروضة».

فلو لم يكرر اسم الله تعالى بل قال: (والله؛ لا أطؤك أربعة أشهر, فإذا مضت .. لا أطؤلك أربعة أشهر) .. فهذه يمين واحدة اشتملت على أكثر من أربعة أشهر .. فيكون مولياً وجهاً واحداً, قاله ابن الرفعة. وخرج بقوله: (أو زائداً عن أشهر أربعة) الأربعة أشهر فأقل؛ لأن المرأة تصبر عن الزوج أربعة اشهر, وبعد ذلك يفنى صبرها أو يقل. ولو قيد الامتناع من الوطء بمستبعد الحصول في أربعة أشهر؛ كنزول عيسى عليه الصلاة والسلام, أو خروج الدجال, أو الدابة, أو طلوع الشمس من مغربها .. فمول؛ لظن تأخر حصول المقيد به عن الأربعة الأشهر, بخلاف ما إذا لم يظن ذلك. ولو قال: (إن وطئتك .. فعبدي حر) , فزال ملكه عنه؛ كأن مات أو أعتقه, أو باعه أو وهبه وأقبضه .. زال الإيلاء؛ لأنه لا يلزمه بالوطء بعد ذلك شيء, فلو عاد إلى ملكه,. لم يعد الإيلاء, وفيه قول عود الحنث. ولو قال: (إن وطئتك .. فعبدي حر عن ظهاري) وكان ظاهر .. فمول, وإلا ... فلا ظهار ولا إيلاء باطناً, ويحكم بهما ظاهراً؛ لإقراره بالظهار, وإذا وطاء .. عتق العبد عن الظهار في الأصح, ولو قال: (عن ظهاري إن ظاهرات) .. فليس بمولي حتى يظاهر. [الحكم إذا مضت المدة ولم يطأ] قوله: (فإن مضت) أي: الأربعة أشهر من وقت الإيلاء إن كان من غير رجعية ولو مبهمة, ومن الرجعة في الرجعية لا من الإيلاء؛ لاحتمال أن تبينَ, وإنما لم يحتج في الإمهال إلى قاض؛ لثبوته بالآية السابقة, وهذا فيمن يمكن جماعها حالاً، وإلا .. فمن زمان إمكانه؛ كما في صغيرة ومريضة ومتحيرة ومحرمة ومظاهر منها على ما مر, ولم ينحل الإيلاء بزوال المحذور؛ كبينونة زوجته التي علق طلاقها على وطاء هذه, ولم يطأها في قبلها في مدة (, الإيلاء, ولم يكن بها مانع وطاء .. فلها طلب زوجها بوطئها في قبلها؛ لأنه محل الاستمتاع وهو المراد بالفينة في آية الإيلاء, فإن وطئها فيه,. لزمه كفارة يمين؛ لحنثه, كما لو وطئها في المدة, أو بطلاقها؛ للآية السابقة. وما ذكره الناظم من أنها تردد الطلب بين الوطاء والطلاق: هو ما حكاه الشيخان عن الإمام،

وعليه اقتصرا في الطرف الثاني", وجزم به في «المنهاج» كا المحرر ", وحكى الرافعي عن المتولي أنها تطالبه بالوطء أولاً؛ لأن حقها فيه, فإن أبى .. طالبته بالطلاق, واعتمده, وتبعه في «الروضة) في الطرف الثالث. أمّا إذا انحل الإيلاء, أو كان بها مانع وطء ابتداء, أو دواماً حساً أو شرعاً من نحو: غيبة وحبس, وجنون ونشوز, ومرض وصغر يمنعان الوطء, وفرض إحرام أو اعتكاف أو صوم .. فلا طلب لها, وليس الحيض والنفاس أو نفل صوم أو اعتكاف بمانع, أما الحيض .. فلأنها لا تخلو عنه غالباً, فلو قطع المدة .. لتضررت بطولها, وألحق به النفاس؛ لمشاركته له في أكثر الأحكام, وأما نفل الصوم والاعتكاف .. فلأنه متمكن فيهما من وطئها. فلو طرأ المانع وزال في المدة .. استؤنفت؛ كما في الطلاق الرجعي والردة, ولا يبني على ما مضى؛ لانتفاء التوالي المعتبر في حصول الضرر. وأما إذا كان المانع به .. فلا يمنع الاحتساب؛ لأنها ممكنة والمانع منه, وهو المقصر بإيلائه وقصده المضارة, وليس لسيد الأمة مطالبته؛ لأن الاستمتاع حقها. وينتظر بلوغ المراهقة, ولا يطالب لها وليها لما مر, ولو تركت حقّها .. فلها المطالبة بعده؛ لتجدد الضرر. وإن كان به مانع طبيعي؛ كعنة ومرض يتعذر معه الوطاء, أو يخاف منه زيادة الضعف, أو بطء البرء .. طالبته بأن يفيء بلسانه؛ بأن يقول: (إذا قدرت .. فنت) لأن به يخف الإيذاء" ويطلق إن لم يفاء, أو شرعي؛ كصوم وإحرام وظهار قبل التكفير .. لم يطالب بالوطء, بل بالطلاق؛ لأنه الذي يمكنه لحرمة الوطء عليه, فإن عصى بوطاء .. سقطت المطالبة. وتحصل الفيئة بتغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها بقبلها؛ لأن سائر الأحكام تتعلق به ثيباً كانت, أو بكراً إن زالت بذلك بكارتها, وإلا .. فلا بد من إزالتها, ولا يكفي الوطء في الدبر؛ لأنه مع حرمته لا يحصل الغرض. نعم؛ إن لم يصرح في إيلائه بالقبل ولا نواه بأن أطلق .. انحل بالوطء في الدبر. ولو حصل تغييب الحشفة مع نزولها عليه, أو إجباره على ذلك, أو جنونه .. سقطت

المطالبة؛ لوصولها إلى حقها من غير حنث وانحلال ليمينه؛ لأنها لا تتناول نزولها, وفعل المكره والمجنون كلا فعل, فلو وطئها ثانياً مختاراً عاقلاً .. حنث وانحلت اليمين. ولا تلازم بين حكم الإيلاء وعدم الانحلال؛ إذ قد يرتفع الأول ويبقى الثاني, كما لو طلقها بائناً بعد الإيلاء منها بما لا ينحل ببينونتها .. فإنه يرتفع حكم الإيلاء, ويبقى عدم الانحلال وإن أعادها إلى نكاحه. ولا يمهل عند المطالبة ثلاثة أيام إذا استمهل ليفيء أو يطلق فيها, بخلاف ما دونها؛ كيوم ونحوه بقدر ما يستعد به للوطء؛ كزوال صوم أو جوع أو شبع؛ لأن مدة الإيلاء مقدرة بأربعة أشهر فلا يزاد عليها أكثر من قدر الحاجة. ولا يقع طلاق القاضي في مدة إمهاله, فإن أبى الوطء والطلاق بعد أمر الحاكم بذلك .. طلقها الحاكم نيابة عنه – لأنه حق توجه عليه وتدخله النيابة, فإذا امتنع منه .. ناب عنه الحاكم؛ كقضاء الدين والعضل - طلقة واحدة؛ لحصول الغرض بها فلو زاد عليها .. لم يقع الزائد ويوقع طلاقه معيناً إن عين الزوج في إيلائه المُولى منها, ومبهماً إن أبهمها؛ كقوله: (والله؛ لا أطأ إحداكن) , ثم يبين الزوج المُولى منها إن عينها, ويعينها إن أبهمها, ويمنع من الجميع إلى البيان أو التعيين. والألف في قول الناظم: (حكما) للإطلاق, وقوله (يطأ) بالسكون للوزن.

باب الظهار

باب الظِهار هو مأخوذ من الظهر؛ لأن صورته الأصلية أن يقول لزوجته: (أنت عليّ كظهر أمي) , وخضوا الظهر؛ لأنه موضع الركوب, والمرأة مركوب الزوج, وكان طلاقاً في الجاهلية؛ كالإيلاء فغيّر الشرع حكمه إلى تحريمها بعد العود, ولزوم الكفارة كما سيأتي. والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الآية, نزلت في أوس بن الصامت لما ظاهر من زوجته خولة بنت ثعلبة على اختلاف في اسمها ونسبها. وله أربعة أركان: مظاهر, ومظاهر منها, وصيغة, ومشبه به. وقد أخذ في بيانها مع تعريفه شرعاً فقال: (قَولُ مُكَلَّفٍ وَلَو مِن ذِمِّي ... لِعِرْسِهِ أنتَ كَظَهْرِ أُمِّي) (أو نَحوِهِ فإِن يَكُن لا يُعْقِبُ ... طلاقَهَا فعائِدٌ يَجْتَنِبُ) (الوَطْءَ كالحائِضِ حتى كَفَّرَا ... بالعِتْقِ يَنوِي الفَرضَ عَمَّا ظَاهَرَا) (رَقَبَةً مؤمِنَةً باللهِ جَلْ ... سليمَةً عَمَّا يُخِلُّ بالعَمَلْ) (إِن لَم يَجِدْ يَصُومُ شَهْرَيْنِ على ... تَتَابُعٍ اِلا لِعُذْرٍ حَصَلا) (وعاجِزٌ سِتِّينَ مُدَّاً مَلَّكَا ... سِتِّينَ مِسكيناً كَفِطْرَةٍ حَكَى) [تعريف الظهار وبيان صيغته] أي: الظهار: قول زوج مكلفي؛ أي: بالغ عاقل ولو كان ذلك القول من ذمي أو رقيق, أو مجبوب أو خصي لعرسه بكسر العين؛ أي: زوجته ولو رجعية وكافرة, ومعتدة عن شبهة, وصغيرة ومجنونة, وحائضاً ونفساء: (أنت كظهر أمي) ونحوه, من تشبيهها بجملة أنثى أو بجزء منها لم يذكر للكرامة محرم بنسب أو رضاع أو مصاهرة, لم تكن جلاً له؛ كقوله: (أنت عليّ - أو مني أو عندي - كظهر أمي) , أو (جسمك) , أو (بدُنِك) , أو (نفسك كبدن أمي) , أو (جسمها) , أو (جملتها) , أو (أنست كيد أمي) , أو (بطنها) , أو (صدرها) , أو (شعرك) , أو (رأسك) , أو (يدك) , أو (رجلك) , أو (نصفك) , أو

ربعك كظهر أمي) , أو (يدها) أو (شعرها) لأنه تصرف يقبل التعليق فتصح إضافته إلى بعض محله؛ كالطلاق والعتق, بخلاف ما لا يقبله؛ كالبيع. فخرج بذلك تشبيه غير المكلف إلا السكران .. فكالمكلف, والتشبيه بجزء ذكر كالأب؛ لأنه ليس محل التمتع, أو بجزء أنثى غير مخرّم كالملاعنة, وأزواجه صلى الله عليه وسلم, أو مَخرّم لكن كانت حلاً له؛ كمرضعته وزوجة أبيه بعد ولادته وأم زوجته؛ لأنهن لا يشبهن المحارم في التحريم المؤبد. والتشبيه بما يذكر للكرامة؛ كقوله: (أنت كأمي) أو (كرأسها) , أو (كعينها) أو (كروحها) فإنه كناية في الظهار؛ لأنه يذكر في معرض الإكرام, فلا ينصرف إلى الظهار إلا بنيةٍ. وصرح الناظم بالذمي مع دخوله في المكلف؛ الخلاف أبي حنيفة فيه؛ فإنه لا يصحح ظهاره؛ لأن الكفارة لا تصخ منه وهي الرافعةً للتحريم, ويبطل هذا بكفارة الصيد إذا قتله في الحرم, ولا نسلم أن التكفير لا يصح منه؛ إذ يصح منه الإعتاق والإطعام, ولا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة؛ كما في حق العبد. ويصح تعليقه؛ كقوله: (إن ظاهرت من زوجتي الأخرى ... فأنت عليَّ كظهر أمي) , فظاهر من الأخرى صار مظاهراً منهما, أو (إن دخلت الدار .. فأنت على كظهر أمي) فدخلها صار مظاهراً منها. ولو قال: (إن ظاهرت من فلانة الأجنبية .. فأنت علي كظهر أمي) فخاطبها بظهار .. لم يصر مظاهراً من زوجته؛ لانتفاء المعلق عليه شرعاً, إلا أن يريد اللفظ .. فيصير مظاهراً من زوجته؛ لوجود المعلق عليه, فلو نكحها وظاهر منها ... صار مظاهراً من زوجته تلك، ولو قال: (إن ظاهرت منها وهي أجنبية .. فأنت علي كظهر أمي) فخاطبها بظهار قبل النكاح أو بعده .. فلغو. ولو قال: (أنت طالق كظهر أمي) ولم ينو به شيئاً, أو نوى به الطلاق أو الظهار, أو هما أو نوى الظهار ب (أنت طالق) , والطلاق بـ (كظهر أمي) .. طلقت ولا ظهار, أما وقوع الطلاق .. فلإتيانه بصريح لفظه, وأما انتفاء الظهار في الأوليين .. فلعدم استقلال لفظه مع عدم نيته, وأما في الباقي .. فلأنه لم ينوه بلفظه, ولفظ الطلاق لا ينصرف إلى الظهار وعكسه؛ لأن ما كان صريحاً في بابه ووجد نفاذاً في موضوعه ... لا يكون كناية في غيره.

أو نوى الطلاق ب (أنت طالق) والظهار بالباقي .. طلقت وحصل الظهار إن كان طلاق رجعة؛ لصحة ظهار الرجعية مع صلاحية قوله: (كظهر أمي) لأن يكون كناية فيه؛ فإنه إذا نواة .. قدرت كلمة الخطاب معه ويصير كأنه قال: (أنت طالق, أنت كظهر أمي) , فإن كان -. الطلاق بائناً .. فلا ظهار. [العود إذا لم يعقب الظهار بالطلاق] قوله: (فإن يكن لا يعقب طلاقها .. فعائد) أي: فإن لم يعقب الظهار بطلاقها عقبه؛ بأن أمسكها بعد ظهاره زمن إمكان فرقة, وليست رجعية .. فهو عائذ؛ هذا إذا لم يعلقه بفعل غيره, وإلا .. فإنما يصير عائداً بإمساكها عقب معرفته بوجود المعلق به الظهار, فتحرم عليه المرأة حتى يكفر كما سيأتي, قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية, والعود للقول مخالفته, يقال: قال فلان قولاً ثم عادَ له وعادَ فيه: إذا خالقه, بخلاف العود إلى القول؛ فإنه قول مثله, ومقصود الظهار وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه. وهل وجبت الكفارة بالظهار والعود, أو بالظهار والعود شرط, أو بالعود؛ لأنه الجزء الأخير؟ أوجه بلا ترجيح, والأول هو ظاهر الآية, قال الزركشي وغيره: وهو الموافق لترجيحهم أن كفارة اليمين تجب باليمين والحنث جميعاً. وخرج بما تقرر: ما لو قطع النكاح عقيب الظهار أو معرفة ما ذكر بطلاق ولو رجعياً, أو بموت, أو فسخ أو انفساخ, أو شراء بأن تكون رقيقة, أو تعذر قطعه بجنون ونحوه, وما لو لم يعرف وجود المعلق به .. فلا عود فيهما, وما لو علق بفعل نفسه, حتى لو علق به ففعل عالماً, ثم نسي عقبه الظهار .. كان عائداً؛ إذ نسيانه الظهار عقب فعله عالماً به بعيدٌ نادرًا, أما لو فعل ناسياً للظهار .. فلا ظهار كما في الطلاق, وإذا اشتغل بالقطع .. فلا يضر طول الفصل, فقوله: (يا فلانة بنت فلان أنت طالق) كقوله: (طلقتك) في منع العود. ولو قال: (أنت زانية أنت طالق) .. فهو عائذ؛ لاشتغاله بالقذف قبل الطلاق, لا إن قال: (يا زانية؛ أنت طالق) كما لو قال: (يا زينب .. أنت طالق). وأما الرجعية .. فإنما يصير عائداً برجعتها سواء أظاهر بعد طلاقها رجعياً أم قبله, أمسكها بعد ذلك أم لا؛ لأنها قبل رجعتها جارية إلى البينونة, بخلاف ما لو ارتدّ عقب الظهار ثم أسلم في العدة .. لا يكون عائداً بالإسلام, بل لا بد من الإمساك بعده؛ لأن الرجعة إمساك في ذلك النكاح، والإسلام بعد الردة تبديل للدين الباطل بالحق، والحلّ تابع له؛ فلا يحصل به إمساك

وأما الظهار المؤقت .. فلا يحصل العود فيه بإمساك, بل بوطء في المدة؛ لحصول المخالفة لما قاله به دون الإمساك؛ لاحتمال أن ينتظر به الحل بعد المدة, ويجب النزع بمغيب الحشفة؛ لحرمة الوطاء قبل التكفير أو انقضاء المدة, واستمرار الوطاء .. وطاء, والوطاء الأول جائز, ولو لم يطأ أصلاً حتى مضت المدة .. فلا شيء. [وجوب اجتناب الوطء حتى التكفير] وبعوده بالإمساك أو بالرجعة أو بالوطء في المدة يجتنب وجوباً الوطء للمرأة كالحائض؛ فتحرم مباشرتها فيما بين سرتها وركبتيها دون ما عدا ذلك, حتى كفرا؛ أي: استمر التحريم حتى يكفر بما سيأتي؛ لأنه تعالى أوجب التكفير في الآية قبل الوطء حيث قال في التحريم والصوم: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] , ويقدر مثله في الإطعام حملاً للمطلق على المقيد. ومراد الناظم: لزوم الكفارة مع توقف الحل عليها. وتتعدد الكفارة بعدد الزوجات وإن اتحد اللفظ؛ كقوله لأربع: (أنتن عليّ كظهر أمي) , فإذا عاد .. لزمه أربع كفارات, أو بعدد اللفظ وإن اتحد المحل؛ كقوله لامرأته: (أنت كظهر أمي) , وكرره مراراً وفصل, أو وصل وقصد الاستئناف, فإن وصل وقصد التأكيد أو أطلق .. فلا تعدد. [خصال الكفارة] وخصال الكفارة ثلاث: الأولى: عتق رقبة مؤمنة بالله عزّ وجل سليمة عما يضر بالعمل؛ ليقوم بكفايته فيتفرغ للعبادات ووظائف الأحرار, فيأتي بها تكميلاً لحاله وهو مقصود العتق, والعاجز عن العمل والكسب لا يتأتى له ذلك, فلا يحصل بعتقه مقصود العتق فلا يجزئ, والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآية, وقال في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فحمل الشافعي رضي الله تعالى عنه المطلق في الأول على المقيد في الثاني. وينوي وجوباً بالعتق أو الصوم أو الإطعام الفرض عن ظهاره, أو نية الكفارة؛ كأن يعتق بنية الكفارة, فلا تكفي نية العتق الواجب؛ لأنه قد يكون عن نذر, وكذا يقال في الصوم والإطعام, فتشترط نيتها لا تعيينها؛ بأن يقيد بالظهار أو غيره, حتى لو كان عليه كفارة ظهار

وجماع صوم رمضان, فأعتق عبداً بنية الكفارة .. وقع محسوباً عن واحدة منهما, وكذا الحكم في الصوم والإطعام. وإنما لم يشترط تعيينها في نيته بخلاف الصلاة؛ لأنها في معظم خصالها نازعة للغرامات فاكتفي فيها بأصل النية, فإن عيّن فيها وأخطأ؛ كأن نوى كفارة قتل وليس عليه إلا كفارة ظهار,. لم يجزئه ما أتى به بتلك النية عمّا عليه, وتشترط نية الذمي في الإعتاق والإطعام؛ كما جزم به في أصل «الروضة». وعلم مما مر: أنه يجزئ صغير وأقرع, وأعرج يمكنه تباع مشي؛ بأن يكون عرجه غير شديد, وأعور وأصم, وأخرس يفهم الإشارة, وأخشم وفاقد أنفه وفاقد أذنيه, وفاقد أصابع رجليه, وفاقد خنصر من يد وبنصر من الأخرى, وفاقد أنملة من غير الإبهام, أو أنامله العليا من الأصابع الأربع؛ لأن كلاً من الصفات المذكورة لا يخل بالعمل والكسب. وأنه لا يجزئ زمن ولا هرم, ولا فاقد رجل أو يد أو أصابعها, ولا فاقد إصبع من الإبهام والسبابة والوسطى, أو خنصر وبنصر من يد, أو أنملتين من غيرهما, أو أنملة إبهام؛ لإخلال كل من الصفات المذكورة بالعمل والكسب. وأنه لا يجزئ الجنين وإن انفصل لدون ستة أشهر من الإعتاق؛ لأنه لا يُعطى حكم الحي, ولا مريض لا يرجى برؤه كصاحب السل؛ فإنه كالزمن, بخلاف من يرجى برؤه فيجزئ, وإن مات بعد إعتاقه: فإن برئ من لا يرجى برؤه بعد إعتاقه .. بان الإجزاء؛ لأن المنع كان بناء على ظن وقد بان خلافه. ولا يجزئ شراء من يعتق عليه بنية كفارة, ولا إعتاق أم ولد وذي كتابة صحيحة, ويجزئ مدبر ومعلق بصفة ينجز عتقهما بنية الكفارة عنها؛ لجواز التصرف فيهما, والمدبر من علق عتقه بموت السيد. وله تعليق عتق الكفارة بصفة؛ كأن يقول: (إن دخلت الدار .. فأنت حر عن كفارتي) .. فيعتق عنها بالدخول, وله إعتاق عبديه عن كفارتيه عن كل منهما نصف ذا العبد ونصف ذا العبد, فإن فعل ذلك .. وقع العتق كذلك؛ لحصول المقصود من إعتاق العبدين عن الكفارتين بما فعل. ولو أعتق معسر نصفين له من عبدين عن كفارة عليه .. فالأصح: الإجزاء إن كان باقيهما

حرّاً, ولو أعتق عبداً عن كفارة بعوض .. لم يجز ذلك الإعتاق عن كفارة؛ لأنه لم يجرد الإعتاق لها, بل ضم إليها قصد العوض. الثانية: الصيام إن لم يجد؛ أي: الرقبة؛ بأن لم يملكها, ولا ثمنها فاضلاً عن كفاية نفسه وعياله نفقة وكسوة وسكنى وأثاثاً لا بد منه وقت الأداء؛ كأن يقدر عليها ببيع ضيعة ورأس مال لا يفضل دخلهما عن كفايته, أو ببيع مسكن وعبد نفيسين ألفهما. أو ملكها وهو محتاج إلى خدمتها لمرض أو كبر, أو ضخامة مانعة من خدمته نفسه, أو منصب يأبى أن يخدم نفسه. قال الرافعي: وسكتوا عن تقدير مدة النفقة وما ذكر معها, ويجوز أن تقدر بالعمر الغالب, وأن تقدر بسنة؛ لأن المؤنات تتكرر فيها, وصوب في «الروضة» الثاني, وقضية ذلك: أن لا نقل فيها مع أن منقول الجمهور الأول, وجزم البغوي في «فتاويه» بالثاني على قياس ما صنع في (الزكاة). يصوم شهرين على تتابع؛ أي: متتابعين بالنص بنية كفارة لصوم كل يوم في ليلته؛ كما هو معلوم في صوم الفرض, فيجب الاستئناف بفوت يوم ولو اليوم الأخير, أو اليوم الذي مرض أو سافر أو أكره على الفطر فيه, أو نسي النية له. قوله: (إلا لعذر حصلا) أي: كأن فات بجنون أو إغماء, أو حيض أو نفاس, وحيث وجب الاستئناف .. فهل يحكم على ما مضى بالفساد, أو ينقلب نفلاً؟ فيه القولان فيما إذا نوى, الظهر قبل الزوال ونظائره, ذكره في «الروضة» و «أصلها». ولا يشترط نية التتابع؛ لأنه هيئة في العبادة, والهيئة لا يجب التعرض لها في النية, فإن بدأ بالصوم في أثناء شهر .. حسب الشهر بعده بالهلال, وتمم الأول من الثالث ثلاثين يوماً؛ لتعذر الرجوع فيه إلى الهلال. والعبد لا يكفر إلا بالصوم؛ لأنه لا يملك شيئاً, وليس لسيده منعه من صوم الظهار؛ الضرر استمرار التحريم عليه, بخلاف صوم كفارة اليمين على تفصيل فيه. الثالثة: الإطعام؛ والعاجز عن الصوم بهرم, أو مرض يدوم شهرين فيما يظن بالعادة أو

بقول الأطباء, أو يلحقه به مشقة شديدة؛ أو بخوفه زيادة مرضه به, أو بشدة الشبق .. ملك ستين مسكيناً ستين مداً كل مسكين مداً؛ للآية السابقة، وذلك بدل عن صوم ستين يوماً, فلا يكفي دفع ذلك إلى أكثر من ستين؛ لانتفاء تمليك كل واحد منهم مداً, ولا دفع إلى أقل من ستين ولو في ستين دفعة؛ لاشتمال الآية على العدد؛ كالوصف بالمسكنة, فكما لا يجوز الإخلال بالوصف .. لا يجوز الإخلال بالعدد. والتعبير بـ (المسكين) يشمل الفقير كعكسه, وخص بالذكر تبركاً بالآية, ولأن شموله للفقير أظهر من شمول الفقير له. ولو وضع ستين مدّاً بين يدي ستين مسكيناً، وقال لهم: (ملكتكم هذا) , وأطلق, أو قال: (بالسوية) فقبلوه .. كفى, ولا نظر إلى ضرر مؤنة القسمة؛ لخفة أمرها. وظاهر أنه لا يشترط لفظ التمليك, ولهذا لو قال: (خذوه) ونوى به الكفارة, و (أخذوه بالسوية) .. أجزأه, أو (بالتفاوت) فكل من علم أنه أخذ مدّاً .. أجزأه, ومن لا يعلم أنه آخذه .. لزمه تكميله له. نعم؛ إن أخذوه مشتركاً ثم اقتسموه .. فقد ملكوه قبل القسمة, فلا يضر التفاوت في المأخوذ بعدها. قوله: (كفطرة حكى) أي: بأن يكون ذلك من الحب ونحوه؛ الذي هو غالب قوت بلد المكفر؛ كالبر والشعير والأقط، فلا يجزئ الدقيق والسويق والخبز, ولا التغدية والتعشية, وتقدم في (قسم الصدقات): أن المكفي بنفقة قريب أو زوج ليس فقيراً ولا مسكيناً في الأصح"، فلا يعطى من الكفارة؛ كالكافر والهاشمي, والمطلبي والعبد والمكاتب, ومن تلزمه مؤنته؛ كالزوجة والقريب. ومن عجز عن جميع خصال الكفارة .. استقرت في ذمته في الأظهر, فإذا قدر على خصلة .. فعلها. والألف في قول الناظم: (كفرا) و (ظاهرا) و (حصلا) و (ملكا) للإطلاق.

باب اللعان

باب اللعان هو لغة: مصدر لاعن, وقد يستعمل جمعاً للغن؛ وهو الطرد والإبعاد, وشرعاً: كلمات معلومة جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العار به, أو إلى نفي ولد كما سيأتي, وسميت لعاناً؛ لاشتمالها على كلمة اللعن, ولأن كلاً من المتلاعنين يبعد عن الآخر بها؛ إذ يحرم النكاح بينهما أبداً، واختير لفظ اللعان على لفظي الشهادة والغضب وإن اشتملت عليها الكلمات أيضاً؛ لأن اللعن كلمة غريبة في قيام الحجج من الشهادات والأيمان, والشيء يشتهر بما يقع فيه من الغريب, وعليه جرت أسماء السور, ولأن الغضب يقع في جانب المرأة, وجانب الرجل أقوى, ولأن لعانه متقدم على لعانها في الآية والواقع, وقد ينفك عن لعانها. والأصل فيه: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآيات, وسبب نزولها خبر البخاري: (أن هلال بن أمية قذف زوجته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة أو حد في ظهرك» , فقال: يا نبي الله؛ إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً .. ينطلق يلتمس البينة؟ ! فجعل صلى الله عليه وسلم يكرر ذلك, فقال هلال: والذي بعثك بالحق؛ إني لصادق, ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد, فنزلت الآيات). وفي «البخاري» أيضاً: (أن عويمراً العجلاني قال: يا نبي الله؛ أرأيت إن وجد أحدنا مع امرأته رجلاً .. ماذا يصنع؟ إن قتله .. قتلتموه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآناً, فاذهب فأت بها» , قال سهل بن سعد: فتلاعنا عنده صلى الله عليه وسلم) , فجعل بعضهم هذا سبب النزول, ومن قال بالأول .. حمل هذا على أن المراد: أن حكم واقعتك تبين بما أنزل في هلال؛ إذ الحكم على الواحد .. حكم على الجماعة

(يقُولُ أرْبَعَاً إِنِ القاضي أَمَرْ ... إذا زِنَا زوجَتِهِ عنها اشْتَهَرْ) (أو أُلْحِقَ الطِّفلُ بِهِ مِنَ الزِّنَا ... أَشْهَدُ باللهِ لَصَادِقٌ أَنَا) (فيما رَمَيْتُهَا بِهِ وَأَنَّا ... ذا ليس مِنِّي خامِسَاً أَنْ لَعْنَا) (عَلَيْهِ مِن خالِقِهِ إِن كَذَبَا ... يُشِيرُ إِن تَحضُرْ لَهَا مُخَاطِبَا) (أَو سُمِّيَتْ وَهْيِ تقولُ أربَعَا ... أَشْهَدُ باللهِ لَكِذْبَاً ادَّعَى) (فيما رمَى وخامِسَاً بالغَضَبِ ... إِن صادِقَاً فيما رَمَى مِن كَذِبِ) (وسُنَّ بالجامِعِ عندَ المِنْبَرِ ... بِمَجْمَعٍ عَن أربَعٍ لَم يَنْزُرِ) (وَخَوَّفَ الحاكِمُ حينَ يُنْهِيهْ ... الكُلَّ مَعْ وَضْعِ يَدٍ مِن فَوْقِ فِيهْ) (وبِلِعَانِهِ انْتَفَى عنهُ النَّسَبْ ... وَحَدُّهُ لَكِنْ عليها قَد وَجَبْ) (وحُرْمَةٌ بينَهُمَا تَأَبَّدَتْ ... وَشُطِّرَ المَهْرُ وأُخْتٌ حُلِّلَتْ) (وَبِلِعَانِهَا سُقُوطُ الحَدِّ ... عَنِ الزِّنَا مِن رَجْمِهَا أو جَلْدِ) [صريح القذف وكنايته] اللعان يسبقه قذف, وصريحه: الزنا, والنيك, وإيلاج الحشفة في الدبر أو في الفرج، (قبلك) أو (دبرك) , وقوله: (أنت أزنى من الناس) إن قال: وفيهم زناة, وقوله: (أنت أزنى من زيد) إن قال: وزنى زيد, أو ثبت زناه بإقراره, أو البينة وعلمه القاذف, أو قال: (لست ابن زيد) لمن هاو لاحق بزيد. وكنايته: نحو قوله لابنه: (الست ابني) آو (لست مني) , وقوله: (زنأت) بالهمزة، وقولها لزوجها: (زنيت بك) , أو (أنت أزنى مني) في جواب قوله لها: (يا زانية) , وقوله: (يا فاجر) , آو (يا فاسق)، ولها: (يا خبيثة) , و (أنت تحبين الخلوة) , ولقرشي: (يا نبطي) , ولزوجته: (لم أجدك عذراء) , فإن أنكر إرادة القذف .. صدق بيمينه. وقوله: (يا بن الحلال) , و (أما أنا .. فلست بزان) , أو (أمي ليست بزانية) ونحوه .. تعريض ليس بقذفٍ وإن نواه؛ لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنوي ولا احتمال له هنا, وما يفهم ويتخيل منه .. فهو أثر قرائن الأحوال.

[ما يشترط في اللعان] واللعان: قول الزوج أربع مرات إن أمره القاضي به؛ إذ يشترط فيه أمر القاضي, ويلقن كلماته في الجانبين فيقول: (قل: أشهد بالله ... ) إلى آخره؛ لأن اللعان يمين, واليمين لا يعتد بها قبل استحلاف القاضي, وإن غلب فيه معنى الشهادة .. فهي لا تؤدى إلا عنده بإذنه إذا علم زنا زوجته, أو ظنه ظناً مؤكداً؛ كأن رآه أو أقرت به, أو أخبره به عن عيان من يثق به وإن لم يكن من أهل الشهادة, أو اشتهر عن زوجته بين الناس أنها زنت بفلان مع قرينة؛ كأن رآهما في خلوة, أو رآها تخرج من عنده. ولا يكفي مجرد الشياع؛ لأنه قد يشيعه عدو لها أو له, أو من طمع فيها فلم يظفر بشيء, ولا مجرد القرينة المذكورة؛ لأنه ربما دخل عليها لخوفي أو سرقة أو طمع. أو ألحق الطفل به حال كونه من الزنا، وهو يعلم الله من الزنا مع احتمال كونه منه؛ بان لم يطأها, أو ولدته لدون ستة أشهر من وطئه, أو الفوق أربع سنين التي هي أكثر مدة الحمل؛ إذ يلزمه حينئذ نفيه؛ لأن ترك النفي يتضمن استلحاقه, واستلحاق من ليس منه حرام, وطريق نفيه اللعان المسبوق بالقذف فيلزمان أيضاً, فإن لم يعلم زناها ولا ظنه .. لم يقذفها؛ لجواز أن يكون الولد من وطء شبهة, قاله البغوي وغيره. [كيفية اللعان] واللعان: قول الزوج أربع مرار: (أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به هذه من الزنا) أي: زوجته إن كانت حاضرة, فإن غابت .. سمّاها ورفع نسبها بما يميزها عن غيرها, والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا, ويشير إليها في الحضور ويميزها في الغيبة؛ كما في الكلمات الأربع, ويأتي بدل ضمير الغيبة بضمير التكلم فيقول: (لعنة الله علي إن كنت ... ) إلى اخره. وإن كان ولد ينفيه .. ذكره في الكلمات الخمس؛ لينتفي عنه فقال: (وإن الولد الذي ولدته - أو هذا الولد إن كان حاضراً - من زنا ليس مني) , فلو اقتصر على قوله: (من زنا) .. لم يكف في الانتفاء عند الأكثرين؛ لاحتمال أن يعتقد أن الوطء بالشبهة زناً, وصحح البغوي: أنه

يكفي؛ حملاً للفظ الزنا على حقيقته", وجزم بتصحيحه في «الشرح الصغير» و «أصل الروضة». ولو اقتصر على قوله: (ليس مني) .. لم يكف على الصحيح المنصوص في «الأم»؛ لاحتمال أن يريد أنه لا يشبهه خلقاً وخلقاً, ولو أغفل ذكر الولد في بعض الكلمات .. احتاج لنفيه إلى إعادة اللعان, ولا تحتاج المرأة إلى إعادة لعانها. وقد تقدم فيما إذا أتت بولي علم أنه ليس منه .. أنه لا يقذفها إذا احتمل كون الولد من وطء شبهة, وحينئذ فيقول في اللعان لنفيه؛ كما قال الماوردي: (أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من إصابة غيري لها على فراشي, وأن هذا الولد من تلك الإصابة ما هو مني ... ) إلى آخر كلمات اللعان. ولا تلاعن المرأة؛ إذ لا حد عليها بهذا اللعان حتى يسقط بلعانها, ولم يذكر الشيخان ما قاله. وهي تقول أربع مرات: (أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا) , والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيه, وتشير إليه في الحضور, وتميزه في الغيبة؛ كما في جانبها في الكلمات الخمس, وتأتي في الخامسة بضمير التكلم, فتقول: (غضب الله عليّ ... ) إلى آخره, ولا تحتاج إلى ذكر الولد؛ لأن لعانها لا يؤثر فيه. ولو بدل لفظ (شهادة) بحلف أو نحوه؛ كأن قيل: (أحلف) أو (أقسم بالله ... ) إلى آخره, أو لفظ (غضب) بـ (لعن) وعكسه, أو ذكرا قبل تمام الشهادات .. لم يصح في الأصح؛ اتباعاً لنظم الآيات السابقة. ويشترط الولاء بين الكلمات الخمس على الأصح, فيؤثر الفصل الطويل, ويشترط أن يتأخر لعانها عن لعانه؛ كما اقتضاه كلام الناظم؛ لأن لعاتها لإسقاط الحد الذي وجب عليها بلعان الزوج. ويلاعن الأخرس بإشارة مفهمة, أو كتابة كالبيع, فإن لم يكن له ذلك .. لم يصخ قذفه ولا لعانه ولا غيرهما؛ لتعذر الوقوف على ما يريده.

ويصح بغير العربية وإن عرفها؛ لأن المغلب فيه معنى اليمين أو الشهادة, وهما باللغات سواء, ويُراعى ترجمة الشهادة واللعن والغضب, ثم إن أحسنها القاضي .. استحب أن يحضره أربعة ممن يحسنها, وإن لم يحسنها .. فلا بدّ ممن يترجم, ويكفي من جانب المرأة اثنان؛ لأن لعانها لنفي الزنا, والأصح في جانب الزوج: القطع بالاكتفاء باثنين؛ كما يثبت الإقرار بالزنا باثنين. [ما يسن في اللعان] ويسن أن يغلظ اللعان بزمان؛ وهو بعد عصر جمعة, فيؤخر إليها إن لم يكن طلب أكيد, وإلا .. فبعد عصر أيّ يوم كان؛ لأن اليمين الفاجرة بعد العصر أغلظ عقوبة؛ لخبر «الصحيحين, بالوعيد الشديد في ذلك, وبعد عصر الجمعة أشد؛ لأن ساعة الإجابة فيها عند بعضهم, وهما يدعوان في الخامسة باللعن والغضب. ومكان وهو أشرف بلد اللعان؛ فبمكة بين الركن الأسود والمقام؛ وهو المسمّى بالحطيم, والمدينة عند المنبر, وبيت المقدس عند الصخرة, وغيرها عند منبر الجامع, وهل يصعدان منبر المدينة وغيرها؟ ثلاثة أوجه, أصحها: نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته على المنبر رواه البيهقي, لكنه ضعفه. وتلاعن حائض ونفساء بباب المسجد؛ لحرمة مكثهما فيه, ويخرج القاضي إليهما أو يبعث نائباً. نعم؛ إن لم يكن الطلب حثيثاً، ورأى الحاكم تأخير اللعان إلى زوال ذلك .. جاز؛ قاله المتولي, ومحل ذلك: في المسلم, أما الذمي إذا أريد لعانه في المسجد .. فيلاعن فيه مع الحيض والنفاس والجنابة على الأصح في «أصل الروضة». ولو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية .. لاعن كلّ منهما حيث يعظم, وذمي في بيعة للنصارى وكنيسة لليهود؛ لأنهم يعظمونها كتعظيمنا المساجد, وكذا بيت نار مجوسي في الأصح؛ لأنهم يعظمونه, فيحضره القاضي؛ رعاية لاعتقادهم لشبهة الكتاب, لا بيت أصنام وثني؛ لتحريم

دخوله؛ لأنه لا حرمة له, واعتقادهم فيه غير مرعي, فيلاعن في مجلس الحاكم, وصورته: أن يدخل دارنا بأمان أو هدنة. ويسن أن يغلظ بحضور جمع من أعيان البلد، أقله: أربعة؛ فإن الزنا يثبت بهذا العدد، فيحضرون إثباته باللعان. ويسن للحاكم أن يعظهما ويخوفهما بالله تعالى, ويذكرهما بأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة, ويقرأ عليهما: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الآية. وأن يقول لهما ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين, وهو: (حسابكما على الله تعالى, والله يعلم أن أحدكما لكاذب, هل منكما تائب؟ » كما رواه الشيخان. ويبالغ في وعظ كل منهما حين ينهيه؛ أي: عند الخامسة, فيقول له: (اتق الله فإن قولك: «عليَّ لعنة الله» يوجب عليك اللعنة إن كنت كاذباً) , ويقول لها مثل ذلك بلفظ الغضب لعلهما ينزجران ويتركان, فإن أبيا .. لقنهما الخامسة مع وضع يد ندباً من فوق فيه؛ أي: كل من المتلاعنين عند الخامسة؛ للأمر به في «سنن أبي داوود» , ويأتي من ورائه؛ كما ذكره الإمام والغزالي فيضع الرجل يده على فم الرجل, والمرأة يدها على فم المرأة. ويسن أن يتلاعنا قائمين؛ ليراهما الناس ويشتهر أمرهما, وتجلس هي وقت لعانه, وهو وقت لعانها. [شرط اللعان] وشرطه: زوج يصخ طلاقه, ولو ارتد بعد وطء فقذف وأسلم في العدة .. لاعن؛ لبقاء النكاح, فلو لاعن ثم أسلم فيها .. صخ, أو أصر .. فلا, وقد عُلم أن له اللعان مع إمكان بينة بزناها, وأن له اللعان لنفي ولد وإن عفت عن الحدّ وزال النكاح, ولدفع حد القذف وإن زال النكاح ولا ولد, ولدفع تعزير القذف إن كانت الزوجة غير محصنة؛ كالذميّة والرقيقة والصغيرة التي يوطأ مثلها, بخلاف تعزير التأديب الكذب معلوم؛ كقذف صغيرة لا توطأ, أو صدق ظاهر؛ كقذف كبيرة ثبت زناها بالبينة أو بإقرارها, والتعزير في غير ذلك يقال فيه: تعزير تكذيب.

ولو عفت عن الحد, أو سكتت عن طلبه, أو جئت بعد قذفه, أو أقام بينة بزناها, أو صدقته فيه ولا ولد .. لم يلاعن؛ لعدم الحاجة إليه. [ما يتعلق بلعان الزوج] ويتعلق بلعان الزوج لنفي نسب أو عقوبة: انتفاء نسب عنه نفاه في لعانه حيث كان ولد؛ لما في «الصحيحين» أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما, وألحق الولد بالمرأة", وإنما يحتاج إلى نفي ممكن منه, فإن تعذر كونه منه؛ بأن ولدته لستة أشهر من العقد, أو طلق في مجلسه, أو نكح وهو بالمشرق وهي بالمغرب .. لم يلحقه, وانتفاء حد قذفها عنه أو تعزيره إن كانت غير محصنة؛ لآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] إذ ظاهرها أن لعانه كشهادة الشهود في سقوط الحد به. وشمل كلام الناظم: انتفاء حد قذف الأجنبي المعين أو تعزيره الذي قذفها به حيث ذكره في لعانه؛ كأن قال: (فيما رميتها به من الزنا بفلان) , فإن لم يذكره .. لم تسقط عنه عقوبة قذفه؛ كما في الزوجة لو ترك ذكرها, وطريقه: أن يعيد اللعان ويذكره, ووجوب حد زناها؛ لثبوت الحجة عليها, ولقوله تعالى: {وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ} [النور: 8] الآية, وحرمة مؤبدة بينه وبين المقذوفة وإن أكذب نفسه؛ فيحرم عليه نكاحها ووطؤها بملك اليمين لو كانت أمة فملكها؛ لخبر البيهقي: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً) , ولو لم تحصل الحرمة المؤبدة .. كان الاجتماع حاصلاً, وهي حرمة فسخ كالرضاع؛ لحصولها بغير لفظ, وتحصل ظاهراً وباطناً وإن كانت الزوجة صادقة؛ لقوله في الخبر: «لا سبيل لك عليها» , لكن ظاهر الخبر يقتضي توقف الفرقة على تلاعنهما معاً, وليس بمراد؛ كالفرقة بغير اللعان, فإنها تحصل -. بوجود سبب من أحد الجانبين. قال ابن المنذر: وعلى الحاكم أن يعلمهما بالفرقة إن كانا جاهلين؛ كما أعلمهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا سبيل لك عليها» , وسقوط حصانتها في حقه, حتى لو قذفها بعد ذلك بتلك الزنية أو أطلق .. لم يحد, وتشطر صداقها قبل الدخول, وحل نكاح أختها أو نحوها, وأربع سواها في عدتها؛ لبينونتها.

[ما يتعلق بالعان الزوجة] ويتعلق بلعانها: سقوط حد زناها من رجمها إن كانت محصنة, أو جلدها وتغريبها إن كانت غير محصنة؛ لقوله تعالى: {وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ} [النور: 8] الآية, وانتفاء فسقها, فتقبل شهادتها وتبقى - ولايتها لما تليه بنظر أو وصية أو حضانة أو نحوها. ولو أقام بينة بزناها, أو بإقرارها به .. لم يمكنها دفع الحد باللعان؛ لأنه حجة ضعيفة لا تقاوم البينة. والألف في قول الناظم: (وأنا) و (كذبا) للإطلاق, وقوله: (لم ينزر) أي: ينقص. * ... * ... *

باب العدة

بابُ العِدَّة هي مأخوذة من العدد؛ لاشتمالها عليه غالباً, وهى مدة تتربص فيها المرأة؛ لمعرفة براءة رحمها, أو للتعبد, أو لتفجعها على زوج كما سيأتي, وذلك يحصل بالأقراء وبالأشهر وبالولادة كما سيأتي, والأصل فيها قبل الإجماع: الآيات والأخبار الاتية. والعدة ضربان: الأول: يتعلق بفرقة وفاة, والثاني: يتعلق بفرقة حي بطلاق أو فسخ, وبدأ بالأول فقال: (لِمَوْتِ زَوجِهَا ولَو مِن قَبْلِ ... الوَطْءِ باسْتِكمالِ وَضْعِ الحَمْلِ) (يُمْكِنُ مِن ذِي عِدَّةٍ فِإِن فُقِدْ ... فَثُلْثَ عامٍ قَبلَ عَشْرٍ تَسْتَعِدْ) (مِنْ حُرَّةٍ وَنِصْفُهَا مِن الأَمَهْ ... وللطلاقِ بعدَ وَطْءٍ تَمَّمَهْ) (بالوَضْعِ إِن يُفْقَدْ فَرُبْعُ السَّنَةِ ... مِن حُرَّةٍ وَنِصفُهَا مِن أَمَةِ) (إِن لم تَحِيضَا أو إِيَاسٌ حَلا ... لكِنْ بِشَهْرَيْنِ الإِمَاءُ أَوْلَى) (ثلاثُ أطهَارٍ لحُرَّةٍ تَحِيضْ ... والأَمَةُ اثنَانِ لِفَقْدِ التَّبْعِيضْ) (لحامِلٍ وذاتِ رَجْعَةٍ مُؤَنْ ... وذاتُ عِدَّةٍ تُلازِمُ السَّكَنْ) (حيثُ الفِرَاقُ لا لِحَاجَةِ الطَّعَامْ ... وخَوْفِهَا نَفْسَاً ومالاً كانْهِدامْ) (ولِلْوَفَاةِ الطِّيبُ والتَّزَيُّنُ ... يَحْرُمُ كالشَّعْرِ فلَيسَ يُدْهَنُ) [عدة المتوفى عنها زوجها] أي: وعدتها لموت زوجها - ولو من قبل الوطاء – باستكمال وضع الحمل ممكناً كونه من ذي العدة؛ لقوله تعالى: {أُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فهو مخصص لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} [البقرة: 234] الآية, ولأن القصد من العدة براءة الرحم, وهي حاصلة بالوضع. وخرج بـ (وضع الحمل): خروج بعضه ولو بعد خروج أحد التوءمين؛ بأن يكون بينهما دون ستة أشهر فلا تنقذ به العدة, بل حكمه حكم المجتن في بقاء العدة والرجعة, ولحوق الطلاق, والتوارث بين أبويه, وعدم توريثه, وسراية عتق الأم إليه, ووجوب الغرة بالجناية

عليها, (وعدم إجزائه عن الكفارة, وتبعيته للأم في إزالة الملك, وعدم تعلق التحريم بارتضاعه, وكذا سائر أحكام الجنين, كذا ذكره الرافعي هنا وفي (الفرائض). نعم؛ لو خرج رأس جنين وصاح, فحرّ رجل رقبته .. فالأصح: وجوب قصاص أو دية. وقول الناظم: (باستكمال) كقول غيره: (بتمام) تأكيد وإيضاح؛ لأن الغرض منه مفهوم من الوضع. وخرج ب (إمكان كونه من ذي العدة) ما إذا لم يمكن؛ بأن كان الزوج صبيّاً أو ممسوحاً, أو ولدته لدون ستة أشهر من العقد, أو لأكثر ودون أربع سنين وكانت بينهما مسافة لا تقطع في تلك المدة, أو لفوق أربع سنين من الفرقة, فلا تنقضي العدة بوضعه, لكن لو ادعت في الأخيرة أنه راجعها, أو وطئها بشبهة وأمكن .. فهو وإن انتفى عنه تنقضي به العدة؛ كذا نقله الماوردي عن الجمهور, والشيخان عن الأئمة. وشمل كلامه: المنفي بلعان؛ لإمكان كونه من الملاعن, ولهذا لو استلحقه .. لحقه وما إذا كان الزوج مجبوباً أو خصيّاً .. فإنه يلحقه, فتعتد به عنهما. وشمل الحمل الحي والميت, والمضغة التي فيها صورة خفية أخبر بها القوابل؛ أو قلن: هي أصل آدمي, وخرج به العلقة؛ إذ لا تسمى حملاً, وإنما كانت غير الموطوءة كالموطوءة في لزوم عدة الوفاة دون عدة الطلاق؛ لأن عدة الطلاق إنما وجبت لحق الزوج صيانة لمائه, وعدة الوفاة وجبت لحق الله تعالى. قوله: (فإن فقد) أي: الحمل .. فثلث عام, وهو أربعة أشهر قبل عشر من الليالي بأيامها تستعل من حرة؟ أي: تعتد بها؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]؛ أي: عشر ليال بأيامها, ويستوي في ذلك الصغيرة والكبيرة, والموطوءة وغيرها, وذات الأقراء وغيرها, وزوجة الصبي وغيره؛ لإطلاق الآية المحمولة على الغالب من الحرائر الحائلات. وتعتبر الأشهر بالأهلة ما أمكن, فإن مات أول الهلال .. فواضح, أو في خلال شهر بقي منه عشرة أيام أو أقل .. ضمت إلى ذلك أربعة أشهر بالأهلة, وأكملت بقية العشر مما بعدها, أو أكثر من عشرة أيام .. ضمت إلى ذلك ثلاثة أشهر بالأهلة وأكملت عليه مما بعدها بقية أربعين يوماً.

ونصفها وهو شهران وخمسة أيام بلياليها من الأمة الحائل على النصف من الحرة كالحدّ, والمبعضة كالأمة, ويقاس الانكسار بما مر. [عدة الحامل المطلقة] والعدة لطلاق الزوج بعد وطاع تممه ولو بتغييب الحشفة بوضع حملها بالشرطين السابقين, سواء أكانت حرة أم غيرها, ذات أقراء أو أشهر, رأت الدم في مدة الحمل أم لا؛ لقوله تعالى: {أُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فهو مخصصٌ أيضاً لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228]. وكالوطء: استدخال ماء الزوج المحترم, أمّا قبل ذلك .. فلا عدة عليها؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] , وكالطلاق الفسخ, كلعان ورضاع. ولو ظهر في عدة أقراء أو أشهر حمل للزوج .. اعتدت بوضعه, ولا اعتبار بما مضى من الأقراء أو الأشهر؛ لوجود الحمل. ولو ارتابت في العدة المذكورة لثقل وحركة تجدّهما .. لم تنكح آخر بعد تمامها حتى تزول الريبة, فإن نكحت .. فالنكاح باطل؛ للتردد في انقضاء العدة. أو بعدها وبعد نكاح لآخر .. استمر النكاح؛ لانقضاء العدة في الظاهر, وتعلق حق الزوج الثاني, إلا أن تلد لدون ستة أشهر من عقده .. فتبين بطلانه والولد للأول, بخلاف ما إذا ولدت لستة أشهر فأكثر .. فالولد للثاني. أو بعدها قبل نكاح .. سُنّ أن تصبر عن النكاح لتزول الريبة, فإن نكحت قبل زوالها .. فالمذهب المنصوص: عدم إبطاله في الحال؛ لأنا حكمنا بانقضاء العدة في الظاهر, ولا ينقض الحكم بمجرد الشك, بل نقف, فإن ولدت لدون ستة أشهر منه .. تبينا بطلانه, وإلا .. فلا. ولو بانت منه, أو طلقها رجعياً, فولدت لأربع سنين فما دونها من وقت إمكان العلوق قبل الفراق .. لحقه الولد, أو لأكثر منها .. فلا يلحقه؛ لأن مدة الحمل قد تبلغ أربع سنين؛ وهي أكثر مدته كما استقرئ, وقد تقدم الكلام عليه في (باب الحيض).

ولو نكحت بعد العدة, فولدت لدون ستة أشهر من النكاح .. فكأنها لم تنكح, ويكون الحكم كما تقدم في الإتيان بالولد لأربع سنين أو لأكثر ... إلى آخره, أو لستة أشهر فأكثر .. فالولد للثاني؛ لقيام فراشه, وإن أمكن كونه من الأول. ولو نكحت في العدة فاسداً فولدت للإمكان من الأول دون الثاني .. لحقه وانقضت عادته سنين من وقت إمكان العلوق قبل الفراق, أو للإمكان منهما .. عرض على قائفي: فإن ألحقه بأحدهما .. فكالإمكان منه فقط, وإن ألحقه بهما, أو نفاه عنهما, أو تحير أو لم يكن .. انتظر بلوغه وانتسابه بنفسه. [عدة المطلقة الحائل] قوله: (إن يفقد) أي: الحمل .. فعدة حرة لم تحض أو يئست: ربع السنة, وهي ثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]؛ أي: فعدتهن كذلك, والمراد بـ (الأشهر): الهلالية, والأمر ظاهر إن انطبق الطلاق على أول الشهر؛ كأن علقه به أو بانسلاخ ما قبله, فإن طلقت في أثناء شهر .. فبعده هلالان وتكمل المنكسر ثلاثين يوماً من الرابع, فإن حاضت فيها .. وجبت الأقراء؛ لأنها الأصل في العدة, وقد قدرت عليها قبل الفراغ من بدلها فتنتقل إليها؛ كالمتيمم إذا وجد الماء في أثناء التيمم. وعدة أمة؛ أي: ومبعضه لم تحض أو يئست: نصفها؛ وهو شهر ونصف على النصف من الحرة, ولكن الأولى أن تعتد بشهرين؛ خروجاً من خلاف من أوجبهما؛ لأنها بدل عن القرأين في ذات الأقراء كما أن الأشهر الثلاثة للحرة بدل عن الأقراء. وعدة حرة تحيض: ثلاثة أطهار؛ أي: أقراء؛ لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] , وعدة أمة؛ أي: ومبعضة طهران؛ لتعذر التبعيض, وإن عتقت في عدة رجعة .. كمَلت عدة حرة في الأظهر؛ لأنها كالزوجة فكأنها عتقت قبل الطلاق, أو بينونة .. فأمة في الأظهر؛ لأنها كالأجنبية, فكأنها عتقت بعد انقضاء العدة. وإنما كان المراد بالأقراء: الأطهار؛ لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في زمانها

وهو زمان الطهر؛ لأن الطلاق في الحيض حرام كما تقدم, وزمن العدة يعقب زمن الطلاق. وقد يراد بالقرء الحيض؛ كما في خبر النسائي وغيره: «تترك الصلاة زمن أقرائها ". و (القُرء) بالفتح والضم: مشترك بين الطهر والحيض, فإن طلقت الحرة طاهراً وقد بقي من زمن الطهر شيءً .. انقضت عدتها بالطعن في حيضة ثالثة؛ لحصول الأقراء الثلاثة في ذلك؛ بأن يحسب ما بقي من الطهر الذي طلقت فيه قرءاً, سواء أجامع فيه أم لا, ولا بعد في تسمية قرأين وبعض الثالث: ثلاثة قروء؛ كما فسر قوله تعالى: {الحج أشهرُ مَعَلُومَاتُ} بشوال وذي القعدة وعشر ليال من ذي الحجة. وإن طلقت طاهراً ولم يبق من زمن الطهر شيء, أو حائضاً .. انقضت عدتها بالطعن في حيضة رابعة؛ لتوقف حصول الأقراء الثلاثة على ذلك, ولا يحسب طهر من لم تحض قرءاً؛ إذ القرء: الطهر المحنوش بدمين. وعدة مستحاضة غير متحيرة بأقرائها المردودة إليها حيضاً وطهراً؛ وهو أن ترد المعتادة إلى عادتها في الحيض والطهر, والمميزة إلى التمييز الفاصل بينهما مبتدأه كانت أو معتادة, والمبتدأة في الحيض من أول الدم إلى أقله, وفي الطهر إلى تسعة وعشرين, فتنقضي عدتها بثلاثة أشهر, وعدة متحيرة ثلاثة أشهر في الحال. والاعتبارُ بالأشهر الهلاليّة, فإن انطبق الطلاق على أول الهلال .. فذاك, وإن وقع في أثناء الشهر: فإن بقي منه أكثر من خمسة عشر يوماً .. خبيب ذلك قرءاً؛ لاشتماله على طهر لا محالة, وتعتدّ بعده بشهرين هلاليّين, أو خمسة عشر يوماً فما دونها .. لم يحسب قرعاً؛ لاحتمال أن يكون حيضاً ولا اعتبار بالباقي, وتعتد بعده بثلاثة أشهر هلاليّة؛ لأن الأشهر ليست متأصلة في حقها حتى تبني على المنكسر. ومن انقطع دمها ولو لغير علة,. تصبر حتى تحيض فتعتد بالأقراء, أو تيأس .. فبالأشهر, فلو حاضت بعد اليأس في الأشهر .. وجبت الأقراء رجوعاً إلى الأصل, ويحسب ما مضى من الطهر قراً، أو بعدها .. فكذلك إن لم تنكح, وإلا .. فلا شيء عليها؛ نظراً إلى انقضاء عدتها في الظاهر مع تعلق حق الزوج بها. والمعتبر في اليأس: يأس كل النساء بحسب ما يبلغ من خبره ويعرف, وأقصاه اثنان وستون سنة, وقيل: ستون, وقيل: خمسون.

[تداخل العدد] ولو لزمها عدتا شخصي من جنسي واحد؛ كأن طلق ثم وطء في عدة أقراء, أو أشهر جاهلاً في بائن أو رجعية بأنها المطلقة, أو عالماً في رجعية .. تداخلتا, فتبتدئ عدة بالأقراء أو الأشهر من الوطء, وتدخل فيها بقية عدة الطلاق, وتلك البقية واقعة عن الجهتين, وله الرجعة فيها في الطلاق الرجعي دون ما بعدها. فإن كانت إحداهما حملاً والأخرى أقراءاً؛ بأن طلقها حائلاً, ثم وطئها في الأقراء وأحبلها, أو طلقها حاملاً, ثم وطئها قبل الوضع وهي ترى الدم مع الحمل, وقلنا بالراجح: إنه حيض, وإن العدة لا تنقضي بالأقراء مع وجود الحمل؛ لأنها لا تدل على البراءة .. تداخلتا في الأصح؛ لاتحاد صاحبهما, فتنقضيان بوضعه وهو واقع عن الجهتين, ويراجع قبله في الطلاق الرجعي. وإن كان الحمل من الوطء, أو لشخصين: فإن كانت في عدة زوج أو شبهة فوطئت بشبهة أو نكاح فاسد, أو كانت زوجة معتدة عن شبهة فطلقت .. فلا تداخل؛ لتعدد المستحق, فإن كان حمل .. قُدّمت عدته سابقاً كان أو لاحقاً؛ لأن عدة الحمل لا تقبل التأخير, وإلاَّ .. قدمت عدة الطلاق وإن تأخر. ولو عاشر مطلقته؛ كزوج بلا وطء في عدة أقراء أو أشهر .. فالأصح: إن كانت بائناً .. انقضت, وإلا .. فلا, ولا رجعة بعد الأقراء أو الأشهر وإن لم تنقض بهما العدة احتياطاً, ويلحقها الطلاق إلى انقضاء العدة. ولو نكح معتدة بظن الصحة ووطئها .. انقضت عدتها من حين وطئ؛ لحصول الفراش بالوطاء, ولو راجع حائلاً ثم طلق .. استأنفت وإن لم بطأها بعد الرجعة؛ لعودها بها إلى النكاح الذي وطئت فيه, أو حاملاً .. فبالوضع, فلو وضعت ثم طلق .. استأنفت وإن لم بطأها بعد الوضع. [وجوب النفقة للحامل والرجعية] قوله: (لحامل وذات رجعة مؤن) أي: تجب لحامل ولو بائناً بخلع, أو ثلاث بسبب الحمل, ولرجعية: مؤن النكاح؛ كنفقة وكسوة وغيرهما, إلا مؤنة تنظف فلا تجب لهما؛ لامتناع الزوج منهما.

أمّا الأولى .. فلقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فتجب على زوج رقيق, ولا تجب لحامل عن شبهة, آو نكاح فاسد. ولا نفقة لمعتدة وفاة وإن كانت حاملاً؛ لأنها بانت, والحمل القريب تسقط نفقته بالموت. ونفقة العدة مقدرة كزمن النكاح, ولا يجب دفعها قبل ظهور حمل, فإذا ظهر .. وجب دفعها يوماً بيوم, ولو ادَّعت ظهوره وأنكر .. فعليها البينة وتقبل فيه النساء, فلو ظنّت حاملاً فأنفق, فبانت حائلاً .. استرجع ما دفعه بعد عدتها, وتُصَدّق في قدر أقرائها باليمين إن كذبها, وإلا .. فلا يمين, ولا تسقط بمضي الزمان. وأما الثانية .. فلبقاء حبس الزوج عليها وسلطنته, وخرج بـ (الرجعية): البائن بخلع أو غيره, إذا لم تكن حاملاً .. فلا تجب لها تلك المؤن؛ لخبر مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس: «لا نفقة لك» وكانت بائناً حائلاً, ولمفهوم آية {وإن كنّ أوّلت حمل} [وجوب السكنى للمعتدة] وتجب السكنى لمعتدة طلاق ولو بائناً بخلع أو ثلاث, حاملاً كانت أو حائلاً؛ لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] , إلا ناشزة؛ بأن طلقت حال نشوزها فإنها لا سكنى لها؛ كما في صلب النكاح, بل أولى, قال في «التتمة»: ولو نشزت في العدة .. سقطت سكناها, فإن عادت إلى الطاعة .. عاد حق السكنى, وكالناشزة: الصغيرة التي لا تحتمل الجماع, والأمة التي لم تسلم ليلاً ونهاراً. وتجب السكنى لمعتدة وفاة في الأظهر؛ لخبر فريعة- بضم الفاء - بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري: (أن زوجها قُتل, فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها, وقالت: إن زوجي لم يتركني في منزل يملكه, فأذن لها في الرجوع, قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» , قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً) صححه الترمذي وغيره. وتجب السكنى لمعتدة فسخ على المذهب؛ كالطلاق بجامع فرقة النكاح في الحياة, سواء أكان الفسخ بردة أم إسلام, أم رضاع آم عيب مقارن آم طارئ.

J وجوب ملازمة المعتدة لمسكن الفراق] قوله: (وذات عدة) أي: عن فرقة حياة أو وفاة تلازم السكن حيث الفراق؛ أي: تلازم وجوباً مسكن الفراق اللائق بها إلى انقضاء العدة, فلا تخرج منه, ولا يخرجها منه صاحب العدة؛ لقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] , قال -. ابن عباس: أي: بالبذاءة على أهل زوجها"، ولخبر فريعة. فلو اتفقا على الخروج منه بلا حاجة .. لم يجز, وعلى الحاكم المنع منه؛ لأن في العدة حقاً لله تعالى, فلا يسقط بالتراضي, وكالمعتدة عما ذكر: المعتدة عن وطء شبهة, أو نكاح فاسلِ واِن لم تستحق السكنى على الواطئ والناكح. وشمل كلامه: الرجعيّة, وبه صرح في «النهاية) , وفي (حاوي الماوردي) و «المهذب» وغيرهما: أن للزوج أن يسكنها حيث شاء؛ لأنها في حكم الزوجة، وبه جزم النووي في «نكته» , وكلامه في غيرها يقتضي الأول, ونص عليه في «الأم» كما قاله ابن الرفعة وغيره"، قال السبكي: وهو أولى؛ لإطلاق الآية, وقال الزركشي: إنه الصواب. وشمل كلامه: المسكن المملوك له، ولا يصح بيعه إلا في عدة ذات أشهر, والمستعار والمستأجر, وكذا المملوك للمعتدة فتلزمها ملازمته, وتطلب الأجرة, وبه جزم في «المنهاج» كـ «المحرر» , لكن صحح في «الأصل الروضة»: أنها تتخير بين بقائها فيه بإعارة أو إجارة, وبين طلب النقلة إلى غيره؛ إذ لا يلزمها بذل منزلها بإعارة ولا إجارة. ولو انتقلت إلى مسكن أو بلي بإذن الزوج فوجبت العدة قبل وصولها إليه .. اعتدت فيه وإن لم تنقل شيئاً من أمتعتها لأنها مأمور بالمقام فيه، حتى لو وصلت إليه، ثم رجعت إلى الأول لنقل أمتعتها مثلاً فحصلت فيه الفرقة .. لزمها أن تعتد في الثاني, فإن انتقلت بلا إذن أو وجبت قبل الخروج من الأول .. اعتدت فيه, إلا أن يأذن لها في الإقامة في الثاني .. فتعتد فيه. ولو أذن لها في سفر نحو حج أو تجارة, ثم وجبت في الطريق .. فلها الرجوع والمضي وهي

معتدة في سيرها, فإن مضت .. أقامت لقضاء حاجتها, ثم يجب الرجوع وإن كانت العدة تنقضي في الطريق. ولو خرجت من مسكنها فطلق وقال: (ما أذنت في الخروج) , أو (أذنت فيه لحاجة لا للنقلة)., صدق بيمينه, ومنزل بدوية وبيتها من شعر كمنزل حضرية. أما إذا كان المسكن نفيساً .. فله النقل إلى لائق بها, أو خسيساً .. فلها الامتناع من الاستمرار فيه, وطلب النقل إلى لائق بها, وإن رجع معيرُ المسكن, أو انقضت إجارته ولم يرض بأجرة .. نقلت. [ما يستثنى من حرمة خروج المعتدة من مسكنها] ثم استثنى الناظم مما اقتضاه وجوب ملازمتها المسكن من حرمة خروجها منه ما ذكره بقوله: (لا لحاجة الطعام وخوفها نفساً ومالاً كانهدام) " أي: يجوز خروجها لشراء طعام أو نحوه؛ كشراء قطن وبيع غزل ونحوه؛ أي: نهاراً لا ليلاً, إلا ألاً يمكن ذلك نهاراً. نعم؛ الرجعية والبائن الحامل تجب لهما المؤنة؛ فلا يخرجان إلا بإذن أو لضرورة, قال السبكي: وهو مفروضنا فيما إذا حصل لهما النفقة, فلا يخرجان بعدُ لأجلها, لكن لهما الخروج لبقية حوائجهما؛ من شراء قطن وبيع غزل ونحوهما, وكذا لو أعطيتا النفقة دراهم واحتاجتا إلى الخروج لشراء الأدم. انتهى. وأشار الناظم بقوله: (لا لحاجة الطعام) إلى أنه لو كان لها من يقضيها حاجتها .. لم يجز خروجها لها؛ وبه صرح الإمام وغيره"، ويجوز خروجها أيضاً؛ لخوفها نفساً أو مالاً من نحو هدم أو غرق؛ لأن الخروج لذلك أشدّ من الخروج للطعام ونحوه. وشمل قول الناظم: (نفساً ومالاً): نفسها ومالها, ونفس غيرها وماله المحترمين؛ كولدها ووديعة عندها. ويؤخذ من كلام الناظم: جواز المهاجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام إذا خافت على نفسها أو دينها, أو مالها أو بضعها؛ لوجوبها عليها حينئذ, وخروجها لإقامة الحدّ عليها إن

كانت برزة, وانتقالها منه إذا تأذت بالجيران أو هم بها أذى شديداً، ووجوب تغريبها إن زنت في العدة وهي بكر. ولها إن كانت غير رجعية الخروج ليلاً إلى دار جارة لغزل وحديث ونحوهما؛ للتأنس بها بشرط أن ترجع وتبيت في بيتها, وليس لصاحب العدة مساكنتها ومداخلتها حيث فضلت الدار على سكنى مثلها؛ لما يقع فيهما من الخلوة بها وهي حرام؛ كالخلوة بالأجنبية. فإن كان في الدار محرم لها مميز ذكر أو محرم له مميز أنثى, أو زوجة أخرى, أو أمة .. جاز ما ذكر؛ لانتفاء المحذور فيه, لكن يكره؛ لأنه لا يؤمن معه النظر, ولا عبرة بالمجنون والصغير الذي لا يميز. ولو كان في الدار حجرة فسكنها أحدهما, والآخر الأخرى: فإن اتحدت المرافق؛ كمطبخ ومستراح ومصعد إلى السطح .. اشترط محرم؛ حذراً من الخلوة فيما ذكر، وإلا ... فلا يشترط, ويجب أن يغلق ما بينهما من باب, وألاً يكون ممر إحداهما يمر فيه على الأخرى؛ حذراً من الخلوة في ذلك, وسفل وعلو؛ كدار وحجرة فيما ذكر من أنه إن اتحدت المرافق .. اشترط محرم, وإلا .. لم يشترط. [وجوب الإحداد على معتدة الوفاة] قوله: (وللوفاة ... ) إلى آخره؛ يعني: يجب الإحداد على معتدة وفاة؛ لخبر «الصحيحين»: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث, إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " أي: فإنها يحل لها الإحداد عليه؛ أي: يجب بالإجماع على إرادته, وخبرهما عن أم عطية: (كنا تنهى أن تُجدّ على ميت فوق ثلاث, إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، وأن نكتحل وأن نتطيب, وأن نلبس ثوباً مصبوغاً) ", وخبر أبي داوود بإسناد حسن: (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب, ولا الممشقة, ولا الحلي, ولا تختضب ولا تكتحل " و (الممشقة): المصبوغة بالمشق بكسر الميم, وهي المَغرَهُ بفتحها, ويقال: طين أحمر يشبهها.

والإحداد: ترك التطيب والتزين, فيحرم عليها الطيب في البدن والثوب؛ لخبر أم عطية, والطعام والكحل الذي ليس بمحرم قياساً على البدن والثوب, والمراد بالطيب: ما يحرم بالإحرام. نعم؛ إن احتاجت إليه .. جاز؛ ذكره في «النهاية , ويستثنى حال طهرها من الحيض؛ كما قدمته في بابه؛ لخبر: «ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار , قال النووي: ليسا من مقصود الطيب, رخص لها فيهما لإزالة الرائحة الكريهة [لا] للتطيب, أما الطيب الكائن معها حال شروعها في العدة .. فتلزمها إزالته أيضاً, بخلاف المحرم [ما يحرم التزين به على المحدة] ويحرم عليها التزين بأحد أمور: الأول: المصبوغ من اللباس للتزين من قطن وإبريسم وغيرهما ولو غليظاً, وقبل النسج؛ كالأحمر والأصفر والوردي, والأزرق والأخضر الصافيين, والبرود, وخرج بما ذكر: ما لم يصبغ وإن كان نفيساً؛ ذ نفاسته من أصل الخلقة لا من زينة دخلت عليه, وما صبغ لا للتزيين, بل لنحو حمل وسخ أو مصيبة؛ كالأسود والكحلي, والأخضر والأزرق المشبعين الكدرين؛ لأن المشبع من الأخضر يقارب الأسود, ومن الأزرق يقارب الكحلي. قال في «الروضة» و «أصلها): وأما الطراز: فإن كثر .. فحرام, وإلاً .. فأوجه, ثالثها: إن نسج مع الثوب .. جاز, وإن ركب عليه .. حرم؛ لأنه محض زينة, وبهذا جزم, في «الأنوار». الثاني: التحلي بالحب الذي يتزين به كاللؤلؤ وبالمصنوع من ذهب أو فضة أو غيرهما من خلخالٍ وسوار وخاتم وغيرها, حتى لو تحلت بنحاسٍ ونحوه وموهته بذهب أو فضة أو

ما يشبههما بحيث لا يظهر إلا بالتأمل, أو كانت ممن يتحلى بالنحاس ونحوه .. حرم؛ لظاهر خبر أبي داوود السابق. نعم؛ إن لبست ذلك ليلاً ونزعته نهاراً .. جاز لكن يكره, إلا لحاجة؛ كإحرازه فلا يكره. الثالث: الخضب بحناء أو زعفران أو غيرهما؛ لما مر في خبر أبي داوود, وظاهر إطلاقهم كالخبر: المنع منه في جميع البدن, وبه صرح ابن يونس, لكن حكي الشيخان عن الروياني: أنه إنما يحرم فيما يظهر؛ كالوجه واليدين والرجلين, لا فيما تحت الثياب, واقتصرا عليه. وقال البلقيني: فيه نظر؛ فإن شعر الرأس مما تحت الثياب, وفي حديث أم سلمة في أبى داوود والنسائي: «لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب» , فقلت: بأي شيء أمنشط يا رسول الله؟ قال: بالسدر، وتغلفين به رأسك " فهذا يدل على منع الحناء وإن كان تحت الثياب. قال: ولا يرد بأن الشعر يبدو منه شيء؛ لأنه لو اعتبر ذلك .. لاقتصر بالمنع على ما ظهر, ولا يقال: لسد الذريعة؛ لأن إطلاق التعليل بأنه خضاب يقتضي ذلك. الرابع: الاكتحال بالإثمد بكسر الهمزة والميم: وهو الكحل الأسود, والضبر بفتح الصاد وكسر الباء, وبفتح الصاد وكسرها مع إسكان الباء وهو الأصفر وإن لم يكن فيهما طيب؛ لما مر في الخبرين, ولما في ذلك من الزينة, سواء أكانت بيضاء أم سوداء, إلا لحاجة كرمل فتكتحل به ليلاً وتمسحه نهاراً. فإن دعت الحاجة إليه في النهار .. جاز فيه, ففي أبي داوود: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وهي حادة على أبي سلمة, وقد جعلت على عينها صبراً فقال: «ما هذا يا أم سلمة؟ » , فقالت: هو صبر لا طيب فيه, فقال: «اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار) ", وأما الكحل الأبيض كالتوتياء .. فلا يحرم؛ لأنه لا زينة فيه. والخامس: دهن شعر رأسها أو لحيتها إن كانت وإن لم يكن فيه طيب؛ لما فيه من الزينة, أما سائر البدن .. فلا يحرم دهنه بما لا طيب فيه كالشيرج والسمن, لا بما فيه طيب كدهن البان والبنفسج.

وعلم مما تقرر: أنه يجب ترك تحمير الوجه وتبييضه بالإسفيذاج, وتصفيره بما له صفرة, وترك تسويد الحاجب وتصغيره, وتطريف الأصابع ونقش الوجه. وأنه يباح التزين بالفرش والستور وأثاث البيت, وغسل الرأس وامتشاطه ودخول الحمام إن لم يكن فيه خروج محرم, وإزالة الوسخ وقلم الأظفار. وأنه لا يجب الإحداد على المعتدة لغير الوفاة؛ لأنها إن كانت مطلقة .. فهي مجفوةٌ بالطلاق, أو مفسوخاً نكاحها .. فالفسخ منها, أو لمعنى فيها .. فلا يليق بها فيهما إيجاب التفجع, أو موطوءة بشبهة أو نكاح فاسد أو أم ولد .. فلأن التفجع لإظهار ما فات من عصمة النكاح ولم يوجد. نعم؛ يستحب ذلك للمطلقة, وفي معناها المفسوخ نكاحها. ولو تركت الإحداد من وجب عليها كل المدة أو بعضها .. عصت وانقضت العدة؛ كما لو فارقت المسكن الذي يجب عليها ملازمته. ولو بلغتها الوفاة بعد مدة العدة .. كانت منقضية. وللمرأة إحداد على غير زوج ثلاثة أيام فما دونها, وتحرم الزيادة عليها. والألف في قول الناظم: (حلاً) للإطلاق, وقوله: (والأمةً) بالرفع على الابتداء, وبالجر عطفاً على (الحرة). * * *

باب الاستبراء

باب الاستبراء هو التربص بالمرأة مدة بسبب ملك اليمين حدوثاً أو زوالاً؛ لمعرفة براءة رحمها من الحمل K أو للتعبد, واقتصروا على ذلك؛ لأنه الأصل, وإلا .. فقد يجب الاستبراء بغيره؛ كأن وطئ أمة غيره ظاناً أنها أمته, وسيأتي ما يؤخذ منه أنه يجب أيضاً بسبب حدوث حل التمتع في الملك؛ كما في المكاتبة والمرتدة وغيرهما. (إِن يَطْرَ مِلْكُ أَمَةٍ فَيَحْرُمُ ... عليهِ الاسْتِمْتَاعُ بَل يستَخْدِمُ) (وحَلَّ غيرُالوَطْءِ مِن ذِي سَبْيِ ... أو هَلَكَ السَّيِّدُ بعدَ الوَطْيِ) (قَبلَ زواجِهَا بِوَضْعِ الحامِلِ ... لَو مِن زِنَاً وَحَيْضَةٍ للحَائِلِ) (واسْتَبْرِ ذاتَ أَشْهُرٍ بِشَهْرِ ... وانْدُبْ لِشَارِي العِرْسِ أَن يَسْتَبْرِي) [السبب الأول لوجوب الاستبراء: حدوث الملك] أي: إن يطرأ ملك أمة غير زوجته بشراء أو إرث أو هبة, أو ردَّ بعيب أو تحالفي أو إقالة أو قبول وصية, أو غيرها .. فيحرم عليه؛ أي: على سيدها الاستمتاع بها بوطء وغيره إلى مضي الاستبراء, ويجوز له استخدامها؛ إذ لا مانع منه, وسواء البكر ومن استبرأها البائع قبل البيع, والمنتقلة من صبي أو امرأة, والصغيرة والآيسة وغيرهن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: «ألا لا توطأ حامل حتى تضع, ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» رواه أبو داوود وغيره, وصححه الحاكم على شرط مسلم. وقاس الشافعي رضي الله عنه غير المسبية عليها بجامع حدوث الملك, فأخذ من الإطلاق في المسبية أنه لا فرق بين البكر وغيرها, وألحق من لا تحيض من الآيسة والصغيرة بمن تحيض في اعتبار قدر الحيض والطهر غالباً, وهو شهر كما سيأتي. وطريقه في دفع الاستبراء إن لم تكن موطوءة أو كان البائع استبرأها: أن يعتقها ويتزوجها أو يزوجها غيره.

وخرج بقوله: (ملك أمة): ملك بعضها فلا استبراء؛ إذ لا استباحة، وبـ (غير زوجته): ما لو ملك زوجته .. فله الاستمتاع بعا بعد لزوم العقد بلا استبراء؛ لعدم تجدد الحل ولانتفاء خوف اختلاط المياه. نعم؛ يستحب له كما سيأتي. وفي معنى حدوث الملك في وجوب الاستبراء: رفع الكتابة الصحيحة لأمته بفسخها أو بتعجيزه لها؛ لعود ملك الاستمتاع بعد زواله بالكتابة, بخلاف الكتابة الفاسدة, وإسلام المرتد من السيد أو أمته؛ لما مر, ورفع الزوجية لأمته بموت زوجها, أو فراقه ولو قبل الدخول. نعم؛ إن كانت مستولدة وفارقها وانقضت عدتها .. فله الاستمتاع بها بلا استبراء؛ لعودها حينئذ فراشاً بلا استبراء. وخرج بالمذكورات: ما لو حرمت عليه أمته بصلاة أو إحرام, أو حيض أو نحوها ثم حلت؛ إذ لا خلل في الملك, والتحريم في ذلك لعارض سريع الزوال, وكذا لو حرمت عليه برهنٍ ثم انفك؛ لبقاء ملك الاستمتاع؛ بدليل حل القبلة والنظر بشهوة, وإنما حرم الوطء؛ مراعاة لحق المرتهن, حتى لو أذن له فيه .. حلّ. قوله: (وحل غير الوطء من ذي سبي) أي: من المسبية, أما وطؤها .. فإنه حرام؛ لمفهوم الخبر السابق, ولما روى البيهقي: أن ابن عمر قبل التي وقعت في سهمه من سبايا أوطاس قبل الاستبراء, ولم ينكر عليه أحد من الصحابة", وفارقت المسبية غيرها؛ بأن غايتها أن تكون مستولدة حربي, وذلك لا يمنع الملك, وإنما حرم وطؤها؛ صيانة لمائه؛ لئلا يختلط بماء حربي, لا لحرمة ماء الحربي. [السبب الثاني للاستبراء: زوال الفراش] ولما أنهى الناظم الكلام على السبب الأول للاستبراء وهو حدوث الملك .. شرع في الثاني وهو زوال الفراش فقال: (إن هلك السيد بعد وطي قبل زواجها) أي: إن هلك السيد بعد وطاء أمته سواء أكانت مستولدة أم Y * أي: أو أعتقها وليست في نكاح ولا عدة نكاح .. فيجب استبراؤها قبل زواجها, بخلاف البيع؛ لأن المشتري يقصد الوطء وغيره؛ لأنها كانت فراشاً, وزواله بعد الوطاء يوجب التربص؛ كالعدة للحرة.

وشمل كلامه: ما لو مضت مدة الاستبراء على مستولدته قبل موته؛ أي: أو إعتاقه؛ لأنها تشبه المنكوحة, بخلاف غير المستولدة. ولو أعتق موطوءته .. فله نكاحها في الحال بلا استبراء؛ كما ينكح المعتدّة منه, ويحرم تزويج أمة موطوءة ومستولدة قبل استبراء؛ حذراً من اختلاط المائين, ولو أعتقها أو مات عنها - وهي مزوجة, أو في عدة نكاح .. فلا استبراء عليها؛ لأنها ليست فراشاً للسيد. [ما يحصل به الاستبراء] ويحصل الاستبراء بوضع الحامل حملها, ولو كان الحمل من زنا؛ لظاهر الخبر السابق", ولأن الغرض معرفة براءة الرحم وهي حاصلة بذلك, بخلاف العدة؛ لاختصاصها بالتأكيد بدليل اشتراط التكرر فيها دون الاستبراء. قال الزركشي: والظاهر أن الحمل الحادث من الزنا كالمقارن؛ لأنهم اكتفوا بالحيض الحادث لا بالمقارن, واكتفوا بالحمل المقارن فبالحادث أولى, لكن لو كانت ذات أشهر وحملت من الزنا .. حصل الاستبراء بمضي شهر؛ كما جزموا به في العدة؛ لأن حمل الزنا كالعدم. وبمضي حيضة كاملة للحائل ذات الأقراء؛ لما تقدم في الخبر السابق. فلو ملكها في الطهر, ثم حاضت حيضة .. ارتفع التحريم, ولو ملكها في أثناء حيضها .. لم يعتد ببقيتها, بل لا بد أن تطهر ثم تحيض حيضة, بخلاف بقية الطهر في العدة؛ فإنها تستعقب الحيض الدال على البراءة, وهنا تستعقب الطهر ولا دلالة له على البراءة, وإنما اعتبر هنا الحيض دون الطهر؛ للخبر السابق, وليس كالعدة؛ فإن الأقراء فيها متكررة فتعرف بتخلل الحيض البراءة, ولا تكرر هنا فيعتمد الحيض الدال عليها. ولو وطئها في حيضتها وانقطعت بحبلها: فإن مضى منها قبل وطئه أقل الحيض .. حصل الاستبراء, وإلا .. فلا يحصل إلا بالوضع؛ كما لو وطئها في الطهر وحبلت منه. قوله: (واستبر) أي: أنت أمة ذات أشهر, وهي الصغيرة والآيسة بشهر؛ لأنه بدل عن القرء حيضاً وطهراً في الغالب, ويعتبر في الاستبراء وقوعه بعد لزوم الملك ولو قبل القبض, فلا يكفي وقوعه في زمن الخيار وإن قلنا: الملك للمشتري؛ لعدم تمامه, وبعد انقضاء

عدتها؛ بأن ملكها معتدة عن زوج أو وطاء بشبهة أو مزوجة وطلقت, وبعد إسلام المجوسية والوثنية والمرتدة, وبعد وفاء الدين الذي على العبد المأذون إذا اشترى أمة وتعلق بها حق الغرماء؛ لأن الاستبراء لحل التمتع فلا يعتد" إلا بما يستعقب حله, وضابط ذلك كما نقله المحاملي عن الأصحاب: أن كل استبراء لا تتعلق به استباحة الوطء .. لا يعتد به, ومنه ما لو اشترى محرمة فحاضت ثم تحللت. قوله: (واندب لشاري العرس) أي: زوجته؛ بأن كانت أمة فانفسخ نكاحها أن يستبرئها؛ ليتميز ولد النكاح عن ملك اليمين, فإنه في النكاح ينعقد مملوكاً لسيد الأمة ثم يعتق بالملك, * ولا تصير أمه أم ولد, وفي ملك اليمين ينعقد حرّاً وتصير أمه أم ولد. ولا تصير أمه فراشاً لسيدها إلا بوطئه, ويعلم الوطء بإقراره به, أو البينة عليه, فإذا ولدت للإمكان من وطئه .. لحقه وإن لم يعترف به, وهذا فائدة كونها فراشاً بالوطء. ولو أقر بوطاء ونفى الولد وادعى استبراءها بعد الوطء بحيضة, وأتى الولد لستة أشهر من الاستبراء .. لم يلحقه, فإن أنكرت الاستبراء .. حلف أن الولد ليس منه, ولا يجب تعرضه للاستبراء. ولو ادعت استيلاداً فأنكر أصل الوطء وهناك ولد .. لم يحلف؛ لموافقته للأصل من عدم الوطاء, ولو قال: (وطئت وعزلت)., لحقه؛ لأن الماء قد يسبق إلى الرحم وهو لا يحسن به. ويأتي في قول الناظم: (إن يطر) بحذف الألف ما مر في (باب الطلاق) على قوله: (وهو لمن لم توط). * * ... *

باب الرضاع

بابُ الرّضاع هو بفتح الراء وكسرها: اسم لحصول لبن امرأة, أو ما حصل منه في جوف طفل كما سيأتي. والأصل في تحريمه قبل الإجماع: قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] , وخبر «الصحيحين»: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وله أربعة أركان: مرضعة, ورضيع, ولبن, وحصوله في جوفي طفل كما سيأتي. (مِنَ ابْنَةِ التِّسْعِ لِطِفْل دُونَا ... حَوْلَيْنِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ هُنَّا) (مُفْتَرِقَاتٌ صَيَّرَتْهَا أُمَّهْ ... وَزَوْجَهَا أَبَاً أَخَاهُ عَمَّهْ) (تُثْبِتُ تَحْرِيمَاً كَمَاضٍ في النِّكَاحْ ... وَنَظَرٌ وَخَلْوَةٌ بِذَا يُبَاحْ) (لا تَتَعَدَّى حُرْمَةٌ إلى أُصُولْ ... طِفْلٍ ولا تَسْرِي لِتَحرِيمِ الفُصُولْ) [شروط الرضاع المحرّم] يعتبر في ثبوت تحريم الرضاع المحرم: كونه من لبن امرأة لها تسع سنين فأكثر, فلا يثبت بلبن رجل؛ لأنه لم يخلق لغذاء الولد، ولا بلبن خنثى ما لم تظهر أنوثته, ولا بلبن من لم تبلغ تسع سنين؛ لأنها لا تحتمل الولادة, واللبن المحرم فرعها, بخلاف من بلغتها؛ لوصولها سن الحيض, وسواء فيها البكر والخلية وغيرهما, ولا بلبن بهيمة؛ حتى لو شرب صغيران ذكر وأنثى .. لم يثبت بينهما إخوة؛ لأنه لا يصلح لغذاء الطفل صلاحية لبن الادميات. وكونه حلب منها في حياتها وإن أوجر بعد موتها, فلا يثبت بلبن ميتة؛ لأنه من جثة منفكة عن الحل والحرمة كالبهيمة. وحصوله في معدة طفل ذكر أو أنثى حي وإن تقيأه في الحال؛ لوصوله إلى محل التغذي, أو في دماغه؛ لأنه محل التغذي كالمعدة, إذ الأدهان إذا وصلت إليه .. انتشرت في العروق وتغذت بها كالأطعمة الواصلة إلى المعدة, فلا أثر لحصول اللبن في معدة الميت أو دماغه؛

لخروجه عن التغذي, ولا بحصوله في جوفي ليس بمعدة ولا دماغ؛ كالحاصل بصبه في جراحة في بطنه أو في إحليله أو في أذنه؛ إذ لا منفذ منها إلى الدماغ. ويعتبر حصوله فيما ذكر من منفذ ولو من معى منخرق بجراحة ببطنه أو أنف أو مأمومة, فلا يُحَرّمْ وصوله فيه بصبه في العين بواسطة المسام. وشمل قولهم: (من لبن امرأة) ما حصل منه؛ كالزبد والأقط والجبن. ولو كان الحاصل فيما ذكر مخلوطاً بمائع .. حَرَم إن كان غالباً, وإن كان مغلوباً لما خلط به؛ بأن زالت أوصافه الطعم واللون والريح جُسَاً وتقديراً بالأشد كلبن عجن به دقيق وخبز .. حَرَّم إن حصل الجميع فيما ذكر, والأ .. لم يُحرّم إلأ إذا تحقق حصول اللبن منه؛ كأن بقي أقل من قدر اللبن فيحرم؛ كما يحرم مطلقاً إذا كان غالباً. ويعتبر كون اللبن قدراً يمكن أن يُسقى منه خمس دفعات لو انفرد على الأصح عند السرخسي؛ حكاه عنه الشيخان وأقراه. وكونه قبل بلوغ الرضيع حولين, فلو حصل بعدهما .. لم يحرم الخبر: «لا رضاع إلا فيما كان في الحولين) رواه البيهقي والدارقطني", ولو تم الحولان في الرضعة الأخيرة .. فالأصح: التحريم؛ لأن ما يصل إلى الجوف في كل رضعة غير مقدر؛ كما قالوا: لو لم يحصل في جوفه إلا خمس قطرات في كل رضعة قطرة .. حرم. ويعتبر الحولان بالأهلة, فإن انكسر الشهر الأول .. كمل بالعدد من الشهر الخامس والعشرين, وابتداؤهما من تمام خروج الولد؛ كما مر في نظائره في العدة. وكونه خمس رضعات؛ لخبر مسلم عن عائشة: (كان فيما أنزل: «عشر رضعات معلومات " فنسخن بـ: «خمس رضعات معلومات») , هن مفترقات, والرجوع فيهن إلى العرف, فلو قطع إعراضاً .. تعدد, أو للهو وعاد في الحال, أو تحول من ثدي إلى ثدي .. فلا تعدد. ولو حُلب منها دفعة وأوجره خمساً, أو حلب منها في خمس مرات وأوجره في مرة .. فرضعة؛ نظراً إلى انفصاله في المسألة الأولى, وإيجاره في الثانية.

ولو شك هل رضع خمساً أو أقل؟ أو هل رضع في الحولين أو بعد؟ فلا تحريم؛ للشك في سببه. [ما يترتب على الرضاع المحرّم] وتصير المرضعة أمّ الرضيع, وصاحب اللبن زوجاً أو غيره أباه, وأخوه عمّه, وأخته عمّته, وآباؤه من نسب أو رضاع أجداداً للرضيع, وأمهاته من نسب أو رضاع جداته, وأولاده من نسب أو رضاع إخوته وأخواته, وتسري الحرمة إلى فروع الرضيع؛ فأولاده من نسب أو رضاع أحفاد للمرضعة والفحل. ولو كان لرجل خمس مستولدات, أو أربع نسوة وأم ولد فرضع طفل من كل رضعة .. صار ابنه في الأصح؛ لأن لبن الجميع منه, فيحرمن على الطفل؛ لأنهن موطوءات أبيه, ولا أمومة لهنّ من جهة الرضاع. ولو كان بدل المستولدات بنات أو أخوات .. فلا حرمة بين الرجل والطفل؛ لأن الجدودة للأم, والخؤولة إنما تثبت بتوسط الأمومة ولا أمومة هنا, وآباء المرضعة من نسب أو رضاع أجداد للرضيع, فإن كان أنثى .. حرم عليهم نكاحها, وأمهاتها من نسب أو رضاع جداته, فإن كان ذكراً .. حرم عليه نكاحهن, وأولادها من نسب أو رضاع إخوته وأخواته, وإخوتها وأخواتها من نسب أو رضاع أخواله وخالاته, فيحرم التناكح بينه وبينهم, وكذا بينه وبين أولاد الأولاد, بخلاف أولاد الإخوة والأخوات؛ لأنهم أولاد أخواله وخالاته, وهذا معنى قول الناظم: (تُثبت تحريماً كماضٍ في النكاح). وتثبت المحرمية بالرضاع كما تثبت بالنسب, فيباح نظره إلى محرمه منه, وخلوته بها وسفره معها, ولا ينقض لمسها الوضوء, ولا تسري حرمة الرضاع إلى أصول الطفل؛ أي: آبائه وأمهاته, ولا إلى حواشيه فيجوز لأبيه وأخيه أن ينكحا مرضعته. ويدفع الرضاع الطارئ النكاح؛ فلو أرضعت من تحرم عليه بنتها زوجته الصغيرة .. انفسخ نكاحها, ولها نصف المسمى إن كان صحيحاً, وإلا .. فنصف مهر مثلها, وله على المرضعة نصف مهر المثل, ولو رضعت من نائمة .. فلا غرم عليها؛ لأنها لم تصنع شيئاً, ولا مهر للمرتضعة؛ لأن الانفساخ حصل بفعلها وذلك يسقط المهر قبل الدخول. ولو نكحت مطلقته صغيراً وأرضعته بلبنه .. حرمت على المطلق والصغير أبداً؛ لأنها صارت زوجة ابن المطلق, وأم الصغير وزوجة أبيه.? ولو قال: (هند بنتي - أو أختي - برضاع) , أو قالت: (هو ابني - أو أخي - برضاع) .. حرم تناكحهما، ولو قال زوجان: (بيننا رضاع محرم) .. فرق بينهما عملاً بقولهما، وسقط المسمى, ووجب مهر المثل إن وطئ, وإلا ... فلا شيء. وإن ادّعى رضاعاً فأنكرته .. انفسخ النكاح؛ مؤاخذة له بقوله, ولها المسمى إن وطئ, وإلا .. فنصفه, ولا يقبل قوله عليها, وله تحليفها قبل الوطاء, وكذا بعده إن كان مهر المثل أقل من المسمّى, فإن نكلت ..

حلف هو, ولزمه مهر المثل بعد الوطء ولا شيء قبله, وإن ادعته فأنكر .. صدق بيمينه إن زوجت برضاها؛ لتضمن رضاها الإقرار بحله لها, وكذا لو زوجت بغير رضاها ثم مكنته, وإن لم تمكنه .. فالأصح: تصديقها بيمينها, ولها مهر مثل إن وطئ, وإلا .. فلا شيء لها. ويحلف منكر رضاع على نفي علمه, ومدعيه على بتُ رجلاً كان أو امرأة؛ لأن الإرضاع فعل الغير، وفعل الغير يحلف مدعيه على البت, ومنكره على نفي العلم. [ما يثبت به الرضاع] ويثبت الرضاع بشهادة رجلين, أو رجل وامرأتين, أو أربع نسوة؛ لاختصاص النساء بالاطلاع عليه غالباً كالولادة, والإقرار به شرطه رجلان؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال غالباً, وتقبل شهادة المرضعة إن لم تطلب أجرة وإن ذكرت فعلها, ولا يكفي في الشهادة: (بينهما رضاع محرم) لاختلاف المذاهب في شروط التحريم, بل يجب ذكر وقت الرضاع؛ للاحتراز عما بعد الحولين, وعدد الرضعات؛ للاحتراز عما دون خمس, ووصول اللبن جوفه ويعرف ذلك بمشاهدة حلب بفتح اللام, وإيجار وازدراد، أو قرائن كالتقام ثدي ومصه، وحركة حلقه بتجرع وازدراد, بعد علمه بأنها لبون, فإن لم يعلم ذلك .. لم يجز له أن يشهد؛ لأن الأصل عدم اللبن. والألف في قول الناظم: (دونا) (وهنا) للإطلاق. * * *

باب النفقات

باب النفقات جمع نفقة من الإنفاق وهو الإخراج, وأسباب وجوبها ثلاثة: ملك النكاح, وقرابة البعضية, وملك اليمين. والأصل في وجوبها قبل الإجماع ما سيأتي, وبدأ بنفقة ملك النكاح؛ لأنها أقوى لوجوبها بطريق المعاوضة فقال: (مُدَّانِ للزَّوجَةِ فَرْضُ المُوسِرِ ... إِن مَكَّنَتْ والمُدُّ فْرُض المُعْسِرِ) (مُدٌّ ونِصْفٌ مُتَوَسِّطُ اليَدِ ... مِن حَبِّ قُوْتٍ غالِبٍ في البَلَدِ) (والأَدْمُ والَّلحْمُ كَعَادَةِ البَلَدْ ... وَيُخْدِمُ الرَّفِيعَةَ القَدْرِ أَحَدْ) (لَهَا خِمَارٌ وقَمِيصٌ ولِبَاسْ ... بِحَسْبِ عادَةٍ وفي الصَّيْفِ مَدَاسْ) (ومِثْلُهُ مَعْ جُبَّةٍ فَصْلَ الشِّتَا ... واعْتَبِرِ العادَةَ جِنْسَاً ثَبَتَا) (وحالَهُ في لِينِهَا وَقُرِّرَا ... الفَسْخُ بالقاضِي لَهَا إِن أَعْسَرَا) (عَنْ قُوْتِهَا أو كِسْوَةٍ أو مَنْزِلِ ... ثلاثَ أيَّامٍ لأَقْصَى المُهَلِ) (والفَسْخُ قبلَ وَطْئِهَا بالمَهْرِ ... وافْرِضْ كِفَايَةً على ذِي يُسْرِ) (لأَصْلٍ اوْ فَرْعٍ لِفَقْرٍ صَحِبَا ... لا الْفَرْعِ إِن يَبْلُغْ ولا مُكْتَسِبَا) [وجوب النفقة بملك النكاح] يجب للزوجة كل يوم مدان على الموسر, ومد على المعسر, ومد ونصف على المتوسط واحتج الأصحاب لأصل التفاوت بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] الآية, واعتبروا النفقة بالكفارة بجامع أن كلاً منهما مال يجب بالشرع ويستقر في الذمة, وأكثر ما وجب في الكفارة لكل مسكين مدان في كفارة الأذى في الحج, وأقل ما وجب فيها لكل مسكين مد, وذلك في كفارة اليمين والظهار وجماع رمضان فأوجبوا على الموسر الأكثر, وعلى المعسر الأقل, وعلى المتوسط ما بينهما كما تقدم, تستوي في ذلك الزوجة المسلمة والذمية والحرة

والأمة, ولا تعتبر حال الزوجة في شرفها وغيره, ولا يعتبر كفايتها كنفقة القريب؛ لأنها تستحقها أيام مرضها وشبعها. والمد: رطل وثلث بغدادي؛ وهو مئة وأحد وسبعون درهماً وثلاثة أسباع درهم؛ بناء على الأصح: أن رطل بغداد مئة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم. ومسكين الزكاة معسر, ومن فوقه: إن كان لو كُلف مُدَّين رجع مسكيناً .. فمتوسط, وإلا .. فموسر, ويختلف ذلك بالرخص والغلاء, والرقيق ليس عليه إلا نفقة المعسر, وكذا المكاتب وحر البعض وإن كثر مالهما؛ لضعف ملك المكاتب ونقص حال الآخر. [شرط وجوب النفقة للزوجة] قوله: (إن مكنت) أي: إنما تجب للزوجة نفقتها وكسوتها ونحوهما بتمكين زوجها من نفسها, وذلك بأن تعرض نفسها عليه ولو بأن تبعث إليه: (إني مُسَلَّمَةً نفسي إليك) , والمعتبر في عرض المراهقة والمجنونة عرض الولي. نعم لو سلمت المراهقة نفسها إلى الزوج بغير إذن وليها فَتَسَلَّمَها .. كفى لحصول التمكين, وكذا لو سلمت البالغة العاقلة نفسها إلى المراهق بغير إذن وليه, بخلاف تسليم المبيع للمراهق؛ لأن القصد هناك أن تصير اليد للمشتري, وهي للولي فيما اشتراه للمراهق لا له. وإنما لم تجب المؤنة بالعقد كالمهر؛ لأن العقد لا يوجب عوضين مختلفين, ولأن جملتها في مدة العقد مجهولة, والعقد لا يوجب مجهولا. فلو اختلفا في التمكين .. صدق بيمينه؛ لأن الأصل عدمه, ولو اتفقا عليه وادعى النشوز, أو أداء مؤنة المدة الماضية .. صدقت بيمينها لذلك. ولو امتنعت من التمكين في ابتداء الأمر ليسلمها المهر الحال فقالت: (سلم المهر لأمكن) .. فلها النفقة من حينئذ. وشمل كلامه: الرتقاء والقرناء والمفضاة, والمريضة التي لا تحتمل الوطاء, والمجنونة فتجب لها المؤنة؛ لأنها معذورة في ذلك, وقد حصل التسليم الممكن, ويمكن التمتع بها من بعض الوجوه, بخلاف من عصت؛ لخروجها عن قبضة الزوج, وفوات التمتع بالكلية, وما لو كان الزوج صغيراً لا يمكن وطؤه والزوجة كبيرة فتجب مؤنتها؛ إذ لا منع من جهتها, فأشبه ما لو سلمت نفسها إلى كبير فهرب, لا إن كانت صغيرة لا تحتمل؛ لتعذره لمعنى فيها كالناشزة.

وتسقط النفقة ونحوها بالنشوز؛ وهو الخروج عن طاعة الزوج ولو بمنع لمس بلا عذر؟ فتسقط النفقة كل يوم بالنشوز بلا عذر ولو في بعضه, وكسوة الفصل بالنشوز فيه, ونشوز المجنونة والمراهقة كالبالغة العاقلة, وخروجها من بيته بلا إذن منه نشوز؛ لأن له عليها حق الحبس في مقابلة وجوب النفقة ونحوها إلا لعذر. وسفرها بإذنه معه أو لحاجته لا يسقط, ولحاجتها كحج وعمرة تسقط في الأظهر؛ لانتفاء التمكين, ولو سافرت معه بغير إذنه .. لم تسقط. نعم؛ إن منعها من الخروج فخرجت, ولم يقدر على ردها .. سقطت نفقتها ونحوها؟ قاله البلقيني تفقهاً، وهو ظاهر. وقضية كلامهم: أنها لو سافرت بإذنه لحاجتهما معاً وحدها .. لم تسقط, قال الزركشي وابن العراقي: وهو قضية المرجح في (الأيمان) من عدم الحنث فيما إذا قال لزوجته: (إن خرجت لغير الحمام .. فأنت طالق) , فخرجت لها ولغيرها, وقال ابن العماد: وينبغي سقوطها؛ أخذاً مما رجحوه من عدم وجوب المتعة فيما إذا ارتدا معاً قبل الوطاء, قال: وهو ظاهر؛ لأنه قد اجتمع فيه المقتضي والمانع فقدم المانع, وما قالاه أوجه؛ لاتحاد الفعل وهو الخروج للحاجتين في مسألتنا مع ما احتجَّا به, بخلافه فيها مع ما احتج هو به, على أن ما احتج به لا ينافي عدم سقوطها؛ لأن الأصل عدم وجوب المتعة حتى يوجد المقتضي لوجوبها خالياً من المانع ولم يوجد, والأصل هنا بعد التمكين: عدم سقوط النفقة حتى يوجد المقتضي لسقوطها خالياً من المانع, ولم يوجد؛ إذ المقتضي لسقوطها فيما نحن فيه سفرها لحاجتها فقط. ولو خرجت في غيبته لزيارة لأهلها أو نحوها كعيادتهم .. لم تسقط. ويمنعها الزوج صوم نفل مطلق؛ كالإثنين والخميس, ومن صوم مطلق النذر, ومن معين نذرته في نكاحه بلا إذنه, ومن قضاء موسع, ومن صوم الكفارة, وله قطعه إن شرعت فيه, فإن منعها ففعلته .. فناشزة؛ لامتناعها من التمكين بما فعلته, وليس له منعها من صوم عرفة وعاشوراء, ولا من تعجيل مكتوبة أول وقتها؛ لتحوز فضيلة أول الوقت, ولا من فعل سنن راتبة؛ لتأكدها وإن كان له المنع من تطويلها.

ويعتبر اليسار وغيره بطلوع الفجر؛ لأنه الوقت الذي يجب فيه التسليم, فالموسر حينئذ عليه نفقة اليسار ولو أعسر في أثناء النهار, والمعسر بعكسه. [جنس النفقة الواجبة] والواجب: الحَبُ السليم من العيب من غالب قوت أهل البلد, فإن اختلف قوت أهل البلد ولا غالب .. وجب لائق بالزوج, وتجب عليه مؤنة طحن الحب الواجب وخبزه؛ للحاجة إليهما. ولو طلب أحدهما بدل الحب من خبز أو غيره .. لم يجبر الممتنع منهما, فلا يجوز على المذهب, أما الجواز في غيرهما؛ كالدراهم والدنانير والثياب .. فلأنه اعتياض عن طعام مستقر في الذمة لمعين؛ كالاعتباض عن الطعام المغصوب المتلف, وأما المنع في الدقيق والخبز .. فلانه ربا. ولو أكلت معه كالعادة .. سقطت نفقتها في الأصح إن كانت رشيدة, أو غير رشيدة وأذن وليها فى أكلها معه؛ لاكتفاء الزوجات به في الأعصار وجريان الناس عليه فيها, فإن كانت غير رشيدة؛ ولم يأذن وليها في أكلها معه .. لم تسقط عنه. قوله: (والأدم واللحم كعادة البلد) أي: يجب لها أدم من أدم غالب البلد؛ كزيت وسمن وجبن وتمر وخل, ويختلف بالفصول, فيجب في كل فصل ما يناسبه, ويقدره قاض باجتهاده, ويفاوت في قدره بين موسر وغيره, فينظر ما يحتاج إليه المد فيفرضه على المعسر, وضعفه على الموسر, وما بينهما على المتوسط, ويجب لها لحم يليق بيساره وإعساره كعادة البلد. قال الشيخان: ويشبه أن يقال: لا يجب الأدم في يوم اللحم, ولم يتعرضوا له, ويحتمل أن يقال: إذا أوجبنا على الموسر اللحم كل يوم .. يلزمه الأدم أيضاً؛ ليكون أحدهما غداء والآخر عشاء على العادة. ولو كانت تأكل الخبز وحده .. وجب الأدم ولا نظر إلى عادتها, والأصل في وجوبه: قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] , وليس من المعاشرة بالمعروف تكليفها الصبر على الخبز وحده.

[وجوب إخدام الزوجة الرفيعة القدر] قوله: (ويخدم الرفيعة القدر أحد) يعني: أنه يجب على الزوج أن يُخدم الرفيعة القدر؛ بأن كانت حرة لا يليق بها خدمة نفسها واحداً ولو كان الزوج معسراً, أو رقيقاً؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف, والاعتبار في استحقاقها الخدمة بحالها في بيت أهلها؛ كما أشار إليه الناظم بقوله: (الرفيعة القدر). ويحصل بحرة أو أمة, قال في «أصل الروضة»: أو محرم لها أو صبي؛ أي: غير مراهق, وفي مملوكها وشيخ هم وذمية خلاف. قال الإسنوي: وفي معنى محرمها: الممسوح, والراجح في مملوكها: الجواز, بخلاف الشيخ والذمية. وليس له أن يخدمها بنفسه في الأصح؛ لأنها تستحي منه وتتعير بذلك سواء في ذلك ما يستحيا منه؛ كصب الماء عليها, وحمله إليها للمستحم أو للشرب ونحو ذلك, وما لا يستحيا منه؛ كالكنس والطبخ والغسل. والإخدام بمن ذكر يكون بأجرة أو إنفاق, فإن أخدم بأجرة .. فليس عليه غيرها, أو بإنفاق: فإن كانت الخادمة أمته .. أنفق عليها بالملك, أو غيرها .. أنفق عليها المعسر والمتوسط مداً, والموسر مداً وثلثاً اعتباراً فيه وفي المتوسط بثلثي نفقة المخدومة, واعتبر في المعسر مد وإن كان فيه تسوية بين الخادمة والمخدومة؛ لأن النفس لا تقوم بدونه غالباً, وقد عرف أن جنس طعامها جنس طعام الزوجة, ويجب لها أدم؛ لأن العيش لا يتم بدونه, ويكون من جنس أدم المخدومة ودونه نوعاً كما في الكسوة, وقدره بحسب الطعام, وفي وجوب اللحم لها وجهان. قال الرافعي: وتملك الزوجة نفقة أمتها الخادمة كنفقة نفسها, وفي الحرة الخادمة يجوز أن يقال: تملكها الزوجة لتدفعها للخادمة, وعليه: لها أن تتصرف في المأخوذ وتكفى مؤنة الخادمة. وعلم من قول الناظم: (أحد) بمعنى واحد: أنه لا يلزمه الزيادة على خادم واحد؛ لحصول الكفاية به غالباً, ولا ضبط للزيادة.

نعم؛ إن كان بالزوجة مرض أو زمانة .. فيزيد بحسب الحاجة. وخرج بـ (الحرة): الرقيقة؛ فلا إخدام لها وإن كانت جميلة يخدم مثلها, وبـ (من لا يليق بها خدمة نفسها) أي: في بيت أبويها مثلاً لمنصبها: من لم تخدم إذ ذاك, وإن صارت تخدم في بيت زوجها, والمراد: عادة مثلها في ذلك نعم؛ إن احتاجتا للخدمة لمرض أو زمانة .. وجب إخدامهما. ويجب لمن تخدم بالنفقة كسوة تليق بحالها؛ من قميص ومقنعة وخف وملحفة؛ لحاجتها إلى الخروج, وجبة في الشتاء لا سراويل عند الجمهور, ويجب ما تفرشه وما تتغطى به كقطعة لبد, وكساء فى الشتاء, وبارية فى الصيف ومخدة, ويكون ذلك دون ما يجب للمخدومة جنساً ونوعاً لا آلة تنظف؛ لأن اللائق بها أن تكون شعثة؛ لئلا تمتد إليها الأعين, فإن كثر وسخ وتأذت بقمل .. وجب ترفه بما يزيل ذلك؛ من مشط ودهن وغيرهما. [وجوب الكسوة على الزوج] ويجب على الزوج في أول كل من فصلي الصيف والشتاء كسوة زوجته؛ قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] على قدر كفايتها, ويختلف ذلك بطولها وقصرها وهزالها وسمنها, وباختلاف البلاد في الحر والبرد, ولا يختلف عدد الكسوة بيسار الزوج وإعساره, ولكنهما يؤثران في الجودة والرداءة, فيجب قميص ولباس؛ أي: سراويل أو نحوه بحسب عادتها, وخمار للرأس, ومداس بفتح الميم وحكي كسرها وهو ما يسمى بـ (السرموزة) , أو نحوه في الصيف يقي قدمها من شدة الحر. قال ابن الرفعة: وكذلك القبقاب في الشتاء إن اقتضاه العرف. قال الماوردي: إلا إذا كانت من نساء قرية اعتدن المشي في بيوتهن حفاة .. فلا يجب لرجليها شيء. ويجب مثله؛ أي: مثل هذا مع جبة محشوة بالقطن مخيطة, أو نحوها في فصل الشتاء؛ لحصول الكفاية بذلك, فإن لم تكف لشدة برد .. زيد عليها بقدر الحاجة, وجنس الكسوة قطن؛ ويكون لزوجة الموسر من لينه, ولزوجة المعسر من غليظه, ولزوجة المتوسط مما بينهما. فإن جرت عادة بلد الزوج لمثله بكتان أو حرير .. وجب في الأصح, ويفاوت بين الموسر

وغيره في مراتب ذلك الجنس, وقد أشار الناظم إلى هذا بقوله: (واعتبر العادة جنساً ثبتا وحاله في لينها) أي: حال الزوج في يساره وغيره في لين الكسوة وخشونتها, وغليظ القطن والكتان ورفيعهما. ويجب لها ما تقعد عليه, فلزوجة الموسر طنفسة في الشتاء ونطع في الصيف, ولزوجة المتوسط زلية, ولزوجة المعسر لبد في الشتاء وحصير في الصيف. قال الشيخان: ويشبه أن تكون الطنفسة والنطع بعد بسط زلية أو حصير للعادة, وكذا فراش للنوم في الأصح, فتجب مضربة وثيرة أو قطيفة ومخدة ولحاف, أو نحوه في الشتاء في البلاد -. الباردة", وذكر الغزالي: الملحفة في الصيف", وسكت غيره عنها. والحكم في جميع ذلك مبني على العادة نوعاً وكيفية, حتى قال الروياني: لو لم يعتادوا لنومهم في الصيف غطاء غير لباسهم .. لم يلزمه شيء آخر, وليكن ما يلزم من ذلك لامرأة الموسر من المرتفع, ولامرأة المعسر من النازل, ولامرأة المتوسط مما بينهما. ويجب لها عليه آلة تنظيف؛ كمشط ودهن من زيت أو نحوه, ومرتك أو نحوه؛ لدفع صنان إذا لم ينقطع بالماء والتراب, لا كحل وخضاب وما يزين, فإن أراد الزينة به .. هيأه لها تتزين به. ودواء مرض وأجر طبيب وحاجم وفاصد, ولها طعام أيام المرض وأدمها, وصرف ذلك إلى الدواء ونحوه. والأصح: وجوب أجرة حمام بحسب العادة, فإن كانت المرأة لا تعتاد دخوله .. فلا يجب, ووجوب ثمن ماء غسل جماع ونفاس, لا حيض واحتلام, والفرق: أن الحاجة إليه في الأول من قبل الزوج بخلافها في الثاني, ويقاس بذلك ماء الوضوء. ويجب لها آلة أكل وشرب وطبخ؛ كقدر وقصعة وكوز وجرة ومغرفة ونحوها. ويجب لها عليه تهيئة مسكن يليق بها عادة من دار أو حجرة أو غيرهما, ولا يشترط كونه ملكه, فيجوز كونه مستأجراً او مستعاراً. وما يستهلك كطعام وأدم ودهن تمليك كالكفارة, وتتصرف فيه بالبيع وغيره؛ لملكها له, فلو قترت بما يضرها., منعها من ذلك, وكذا ما دام نفعه ككسوة وظروف طعام ومشط.

والمسكن والخادم إمتاع لا تمليك وقد تقدم أنها تعطى الكسوة أول شتاء وصيف من كل سنة, وما يبقى سنة فأكثر؛ كالفرش وجبة الحرير .. يجدد وقت تجديده على العادة, وإن تلفت فيه ولو بلا تقصير .. لم تبدل, وإن ماتت فيه., لم ترد, ولو لم ينفق أو لم يكس مدة,. فدين. [فسخ النكاح بإعسار الزوج بالنفقة] قوله: (وقررا ... ) إلى قوله: (بالمهر) أي: إذا أعسر الزوج – بأن ثبت إعساره عند قاض بإقرار أو بينة ولو بغيبة ماله بمسافة القصر, أو بكونه مؤجلاً بقدر مدة إحضاره منها, أو حالاً على معسر - عن قوت زوجته الواجب على المعسر, أو عن كسوتها كذلك, أو عن مسكن يليق بها, أو عن مهرها المسمى أو المفروض, أو مهر المثل قبل وطئها .. أمهله القاضي ثلاثة أيام وإن لم يستمهله؛ ليتحقق عجزه, فإنه قد يعجز لعارض ثم يزول, وهي مدة قريبة يتوقع فيها القدرة بقرض أو غيره, ثم في صبيحة اليوم الرابع يفسخ القاضي نكاحه بطلبها, أو يمكنها من فسخه؛ لخبر البيهقي بإسناد صحيح: أن سعيد بن المسيب سئل عن رجل لا يجد ما ينفق على أهله, فقال: يفرق بينهما, فقيل له: سُتّة؟ فقال: نعم سُنّة, قال الشافعي: ويشبه أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ولأنها إذا فسخت بالجب والعنة .. فلأن تفسخ بعجزه عما عدا المهر أولى؛ لأن الصبر عن التمتع أسهل من الصبر عن النفقة ونحوها, وأما فسخها بعجزه عن المهر .. فكما في عجز المشتري عن الثمن, والفسخ بذلك لا ينقص عدد الطلاق؛ لأن العجز عما ذكر عيب كالعنة .. قال الإمام: ولا حاجة إلى إيقاعه في مجلس الحكم؛ لأن الذي يتعلق بمجلس الحكم إثبات حق الفسخ. واحترز الناظم بقوله: (إن أعسرا) عن القادر على ما ذكر ولو بالكسب, أو كان يجد بالغداة غداءها وبالعشي عشاءها, حتى لو امتنع من أداء الواجب عليه .. فلا فسخ؛ لانتفاء العجز المثبت له, متمكنة من تحصيل حقها بالمحاكم، أو يدها إن قدرت, وعما لو غاب موسراً، أو لم يعلم حاله .. فلا فسخ, بل يبعث حاكم بلدها إلى حاكم بلده ليطالبه إن علم.

موضعه, ومتى ثبت عجزه .. جاز الفسخ ولا يتوقف على بعث. ولا فسخ بعجزه عن نفقة الموسرين والمتوسطين وكسوتهم؛ لأن واجبه الآن واجب المعسرين, ولا بعجزه عن ذلك للزمن الماضي؛ لتنزيله منزلة دين آخر. واحترز الناظم بقوله: (قبل وطئها) عن إعساره بالمهر بعد وطئها فلا فسخ به؛ لتلف المعوض, بخلاف ما قبله, وهذا كبقاء المبيع بيد المفلس وتلفه, ولأن تمكينها قبل أخذ مهرها يدل على رضاها بذمته, وإذا لم يكن لها الامتناع بعد تسليم نفسها .. فلأن لا يكون لها الفسخ بعد ذلك أولى. قال بعضهم: ومحل الفسخ بالإعسار بالمهر قبل الوطء: إذا لم تقبض شيئاً منه, أما إذا قبضت بعضه كما هو الغالب, وأعسر بالباقي .. فلا فسخ لها به؛ لأنه استقر له من البضع بقسطه, فلو فسخت .. لعاد لها البضع بكماله؛ لتعذر الشركة فيه فيؤدي إلى الفسخ فيما استقر للزوج, بخلاف نظيره من الفسخ بالفلس؛ لإمكان الشركة في المبيع, قاله ابن الصلاح في «فتاويه»، وجزم به ابن الرفعة في (كتاب التفليس) من «مطلبه» , واعتمده الإسنوي في «المهمات» , وخالفه البارزي, وكذا الأذرعي ناقلاً عن الجوري التصريح بالخيار, وهو قضية كلامهم؛ لصدق العجز عن المهر بالعجز عن بعضه. وبإعساره عن المذكورات: إعساره بالأدم فلا فسخ به؛ لأنه تابع والنفس تقوم بدونه, وكذا إعساره بمؤن الخادم؛ لأنه ليس ضرورياً, ويثبتان في الذمة. وبقوله: (لها) عن وليها وسيدها؛ فلا حق لهما في الفسخ, نعم؛ للسيد حق الفسخ بالمهر؛ لأنه محض حقه. وعلم من قوله: (بالقاضي) أنه لا بد مع ثبوت إعساره من الرفع إلى القاضي كما في العنة؛ لأنه محل اجتهاد فلا تستقل به الزوجة, فلو استقلت به .. لم ينفذ ظاهراً, وفي نفوذه باطناً وجهان حكاهما الشيخان, ثم قالا: قال في «البسيط»: ولعل هذا حيث كان هناك حاكم أو محكم, وإلا .. فالوجه استقلالها. قال الإسنوي: والراجح من الوجهين: عدم النفوذ, ففي «النهاية»: أنه الذي يقتضيه كلام الأئمة.

قال الزركشي: ولو عجز عن الأواني والفرش .. فالمتجه: ما جزم به المتولي أنه لا فسخ, أو عن بعض الكسوة .. فقد أطلق الفارقي: أن لها الفسخ. والمختار: ما أفتى به ابن الصلاح أنه إن كان المعجوز عنه مما لا بد منه؛ كالقميص والخمار وجبة الشتاء .. فلها الفسخ، أو مما منه بد كالسراويل والنعل .. فلا. ولو سلم الزوج نفقة اليوم الرابع .. فلا فسخ؛ لتبين زوال العارض الذي كان الفسخ لأجله, وليس لها أن تقول: (آخذ هذا عن نفقة بعض الأيام الثلاثة, وأفسخ لعجزه اليوم) لأن العبرة في الأداء بقصد المؤدي, فلو سلمها لها عما مضى .. فظاهر كلامهم: أن لها الفسخ، قال الأذرعي: وهو المتبادر، ورجح ابن الرفعة عكسه, وللرافعي في ذلك احتمالان. ولو سلمها عن الرابع وعجز عنها في الخامس أو السادس .. جاز الفسخ في الخامس أو السادس, ولا تستأنف المدة؛ لتضررها, ولو مضى يومان وأنفق الثالث وعجز الرابع .. بنت على اليومين, وفسخت صبيحة الخامس. ولو عجز في يوم وقدر في الثاني, وعجز في الثالث وقدر في الرابع .. لفقت أيام العجز, فإذا تمت مدة المهلة .. كان لها الفسخ, ولها الخروج زمن المهلة؛ لتحصيل النفقة بكسب أو سؤال, وليس له منعها من ذلك؛ لانتفاء الإنفاق المقابل لحبسها, ويلزمها الرجوع ليلاً؛ لأنه وقت الدعة. قال الروياني: وليس لها منعه من التمتع بها, وقال البغوي: لها منعه، قال الشيخان: ولا نفقة لزمن الامتناع, وبه جزم صاحب «الأنوار» وقال الإسنوي: وهو أقرب ما قاله الروياني من عدم المنع محله في الليل؛ كما أشعر به سياق كلام الرافعي, وصرح به الروياني في «البحر» والماوردي في «الحاوي». وما قاله البغوي .. مردود؛ فإنه أطلق عدم وجوب الملازمة والتمكين, ولم يخص الليل, فلا منافاة بين الكلامين, فيترجح كلام الروياني والماوردي. انتهى.

ولو رضيت بإعساره العارض, أو نكحته عالمة بإعساره .. فلها الفسخ بعده؛ لأن الضرر يتجدد, ولا أثر لقولها: (رضيت بإعساره أبداً) , فإنه وعد لا يلزم الوفاء به. ولو رضيت بإعساره بالمهر, أو نكحته عالمة بإعساره به .. فلا فسخ لها به؛ لأن الضرر لا يتجدد. [وجوب النفقة بقرابة البعضية] قوله: (وافرض كفاية ... ) إلى آخره أي: وافرض على الموسر بفاضل عن مؤنته ومؤنة عياله في يومه وليلته كفاية لأصله, أو فرعه الفقير؛ أي: الحر من نفقة وأدم, وكسوة وسكنى, ومؤنة خادم إن احتاج إليه, وأجرة طبيب, وثمن أدوية وغيرها؛ إذ الواجب الكفاية وهي غير مقدرة؛ لأنها تجب على سبيل المواساة لدفع الحاجة, فيعتبر حاله في السن والرغبة والزهادة. والأصل في وجوب نفقة الفرع: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] إذ إيجاب الأجرة لإرضاع الأولاد يقتضي إيجاب مؤنهم, وقوله صلى الله عليه وسلم الهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» رواه الشيخان, وفي لزوم نفقة الأصل: قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] , وخبر: «أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وولده من كسبه, فكلوا من أموالهم) رواه الترمذي وحسنه. والقياس على الفرع بجامع البعضية, بل هو أولى؛ لأن حرمة الأصل أعظم من حرمة الفرع, وهو بالتعهد والخدمة أليق, واعتبروا في وجوب كفايتهما أن يكون فاضلاً عما ذكر؛ لأنها شرعت على سبيل المواساة, ومن لم يفضل عنه شيء .. ليس من أهلها, بخلاف من فضل عنه, سواء أفضل بالكسب أم بغيره حتى يلزم الكسوب كسبها؛ كما يلزمه كسب نفقة نفسه, ويباع فيها ما يباع في الدين من عقار وغيره؛ لشبهها به, وفي كيفية بيع العقار وجهان: أحدهما: يباع كل يوم جزء بقدر الحاجة, والثاني: لا يفعل ذلك؛ لأنه يشق, ولكن يقترض عليه إلى أن يجتمع ما يسهل بيع العقار له, قال البلقيني: رجح النووي في نظيرها من مسألة العبد: الثاني؛ فليرجح هنا, ولا تجب لمالك كفايته ولا مكتسبها, وتجب لفقير غير مكتسب إن كان زمناً أو صغيراً أو مجنوناً, وإلا .. فتجب لأصل لا لفرع؛ لعظم حرمة الأصل, ولأن

فرعه مأمور بمصاحبته بالمعروف, وليس منها تكليفه الكسب. وخرج ب (أصله وفرعه الحرين): أصله وفرعه الرقيقان ولو مكاتبين وإخوته وأخواته ونحوهم؛ لأنهم ليسوا في معنى المنصوص عليه, فإن كانا مبعضين .. لزمه نفقتهما بقدر حريتهما, أو هو مبعضاً .. ففي «أصل الروضة» عن «البسيط»: الظاهر: أنه تلزمه نفقتهما, وصحح فيها من زيادته: لزوم نفقة تامة، وتسقط بفواتها. فلو استغنى في بعض الأيام بضيافة أو غيرها .. لم تجب, ولو تلفت في يده .. وجب الإبدال, وكذا لو أتلفها بنفسه, لكن يؤخذ منه بدلها إذا أيسر, وتصير ديناً بإذن قاض في اقتراضها لغيبة أو منع. ويلزم الأم إرضاع ولدها اللبأ بالهمز من غير مد؛ لأنه لا يعيش غالباً إلا به, وهو اللبن أول الولادة ومدته يسيرة, ثم بعده إن لم توجد إلا هي أو أجنبية .. وجب عليها إرضاعه إبقاء له, وإن وجدتا .. لم تجبر الأم على الإرضاع, سواء أكانت في نكاح أبيه أم لا؛ لقوله تعالى: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]. فإن رغبت في الإرضاع وهي منكوحة أبيه .. فليس له منعها منه في الأصح؛ لأنها أشفق على ولدها من الأجنبية, ولبنها له أصلح وأوفق, فإن اتفقا على إرضاعه وطلبت أجرة مثل .. أجيبت, أو فوقها, أو تبرعت به أجنبية, أو رضيت بأقل من أجرة مثل .. فلا تجاب إلى ذلك؛ لقوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233]. ومن استوى فرعاه في القرب والإرث أو عدمهما .. أنفقا بالسوية بينهما وإن تفاوتا في اليسار؛ كابنين أو بنتين, وكابني ابن أو بنت, وإن اختلفا فيما ذكر؛ بأن كان أحدهما أقرب والآخر وارثاً .. لزمت أقربهما على الأصح؛ لأن القرب أولى بالاعتبار من الإرث, فإن استوى قربهما .. لزمت الوارث في الأصح؛ لقوة قرابته, والوارثان يستويان أم يوزع بحسب الإرث؟ وجهان: أرجحهما: ثانيهما؛ لإشعار زيادة الإرث بزيادة قوة القرابة. ومن له أبوان .. فعلى الأب كفايته صغيراً كان أو بالغاً, أما الصغير .. فلقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وأما البالغ .. فبالاستصحاب, أو أجداد وجدات .. لزمت الأقرب منهم وإن لم يُذل بعضهم ببعض.

ومن له أصل وفرع .. لزمت الفرع على الأصح وإن بعد؛ لأنه أولى بالقيام بشأن أصله لعظم حرمته, أو له محتاجون ولم يقدر على كفايتهم .. قدم زوجته؛ لأن نفقتها آكد, ثم الأقرب فالأقرب. [وجوب نفقة الدواب] قوله: (لدابة ... ) إلى آخره؛ أي: تجب على مالك الدابة كفايتها بعلفها وسقيها؛ لحرمة الروح, ولخبر «الصحيحين»: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها, لا هي أطعمتها, ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض " بفتح الخاء وكسرها؛ أي: هوامها, ويقوم مقامهما تخليتها لترعى وترد الماء إن ألفت ذلك. فإن امتنع .. أجبر في المأكولة على إزالة ملك أو علف أو ذبح, وفي غيرها على إزالة ملك أو علف؛ صوناً لها عن التلف, فإن لم يفعل ذلك .. ناب الحاكم عنه في ذلك على ما يراه ويقتضيه الحال, ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها. [لا وجوب النفقة بملك اليمين] كما يجب للرقيق ولو آبقاً وزمناً, وأم ولد ومرهوناً, ومستأجراً ومعاراً على مالكه كفايته من نفقة وكسوة وسائر المؤن بحسب العرف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «للمملوك طعامه وكسوته, ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» , وقو له: «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن مملوكه قوته " رواهما مسلم, وقيس بما فيهما ما في معناهما. ويستثنى المكاتب ولو فاسد الكتابة, فلا تجب نفقته على سيده؛ لاستقلاله بالكسب, ولهذا تلزمه نفقة أرقائه, وكذا تستثنى الأمة المزوجة إذا وجبت نفقتها على زوجها. ويؤخذ من تعبير الناظم بـ (الكفاية): أنها تسقط بمضي الزمان. وتجب كفايته من غالب قوت رقيق البلد وأدمهم وكسوتهم؛ من الحنطة والشعير والزيت والسمن, والقطن والكتان والصوف وغيرها؛ لخبر الشافعي رضي الله تعالى عنه: «للمملوك نفقته وكسوته بالمعروف» قال: والمعروف عندنا: المعروف لمثله ببلده.

ويراعي حال السيد والإعسار، فيجب ما يليق بحاله من رفيع الجنس الغالب وخسيسة، فلو كان يستعمل دون اللائق به المعتاد غالبا؛ بخلا أو رياضة، أو فوقه تنعما .. لزمه رعاية الغالب للرقيق، ولا يلزمه أن يسويه بنفسه إذا اختلفت عادتهما. ويسن أن يناوله مما يتنعم به من طعام وأدم؛ للأمر بذلك في "الصحيحين" المحمول على الاستجباب، ويستحب أن يسوي بين العبيد في الطعام والكسوة، وكذا بين الإماء، وأن يفضل الجميلة. فإن امتنع من الإنفاق على رقيقه .. باع الحاكم ماله في نفقته، فإن لم يكن .. أمره ببيعه أو إجارته أو إعتاقه، فإن أبي .. باعه الحاكم، أو أجره بحسب المصلحة، وهل يبيعه شيئا فشيئا، أو يستدين عليه إلى أن يجتمع شئ صالح يبيع ما يفي به؟ وجهان، أصحهما: الثاني. ولا يجوز للمالك أن يكلف الدابة والرقيق من العمل ما لا يطيقه؛ لخبر مسلم السابق. قال الرافعي في "شرحيه ": ولا يكلفه الأعمال الشاقة إلا في بعض الأوقات، زاد في "الكبير": ولا ما إذا قام به يوما أو يومين .. عجز وضعف شهرا أو شهرين. انتهي. ولا يخفي أن ما دون الشهر كذلك، وإذا سافر به .. لا يكلفه المشي إلا أن يكون قريبا، وإن استعمله نهارا .. أرحه ليلا، وكذا بالعكس، ويريحه في الصيف بالقيلولة، ويستعمله في الشتاء النهار مع طرفيه، ويتبع في جميع ذلك العادة الغالبة، وعلى المملوك بذلك المجهود وترك الكسل. وتجوز المخارجة برضاهما؛ وهي ضرب خراج معلوم عليه يؤديه كل يوم، أو أسبوع من كسبه، وليكن له كسب مباح دائم يفي بذلك؛ فاضلا عن نفته وكسوته إن جعلها في كسبه، فإن زاد كسبه على ذلك .. فالزيادة بر وتوسيع وهي جائزة، فلكل منهما نقضها. وللسيد إجبار أمته على إرضاع ولدها منه، أو غيره؛ ولا يكره تركها إلا إذا أدي إلى الخراب.

فيكره، ويكره ترك سقي الزرع والشجر عند الإمكان؛ حذرا من إضاعة لمال. والألف في قول الناظم: (ثبتا) و (أعسرا) و (صحبا) للإطلاق، وفي قوله: (وقررا) بدل من نون التوكيد إن بني للفاعل، وإلا .. فللإطلاق. قوله: (أو فرع) بدرج الهمزة، ويجوز جعل ألف (صحبا) للتثنية عائدا على الأصل والفرع. قوله: (ولا يكلفا) بحذف نون الرفع لغير ناصب ولا جازم وهو لغة. * * *

باب الحضانة

باب الحضانة هي بفتح الحاء من الحضن بكسرها وهو الجنب، فإن الحاضنة ترد إليه المحضون، وتنتهي في الصغير بالتمييز، وأما بعده إلى البلوغ .. فيسمي كفالة؛ كذا قال الماوردي، وقال غيره: تسمي حضانة أيضا، وهى كما يعلم مما يأتي: حفظ من لا يستقل بأموره، وتربيته بما يصلحه، ولا تختص بها الإناث، لكنها بهن أليق؛ لأنهن أشفق، وأهدي إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وفي الخبر: إن امرأة قالت: يا رسول الله؛ إن ابني هذا كان بطني له وعاء؛ وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وزعم أنه ينزعه مني، فقال: "أنت أحق به ما لم تنكحي" رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده"، ومؤنة الحضانة على من عليه النفقة. ولها شروط أخذ في بيانها فقال: (وشرطها: حرية وعقل ... مسلمة حيث كذالك الطفل) (أمينة، وترضع الرضيعا ... أم فأمهاتها جميعا) (قدمن، فالأب، فأمهات ... الأب، فالجد، فوالدات) (جد، فما للأبوين يولد ... ويعده الخالات ثم الولد) (لولد للأبوين، فلأب ... ثم بنات ولد أم انتسب) (يتلوه فرع الجد للأصلين ثم ... ألفرع من أب، فعمة لأم) (فبنت خالة، فبنت عمه ... فولد عم حيث إرث عمه) (تقدم الأنثى بكل حال ... أخواته أولي من الأخوال) (وولد مسافر لنقله ... أو نكحت لغير حاضن له) (وإن يميز وأباه أختاره ... يؤخذ، والأم لها الزيارة)

] شروط الحضانة [ أي: وشرطها؛ أي: الحضانة: حرية، وفي بعض النسخ: (الحرية)، فلا حضانة لمن فيه رق، رجلا كان أو امرأة ولو مبعضا؛ لأنها ولاية وليس من أهلها، ولأنه مشغول بخدمة سيده فلا يتفرغ لها، ولا يؤثر رضا سيده وإذنه له فيها؛ لأنه قد يرجع فيتشوش أمر الوالد، ويستثني ما لو أسلمت أم ولد الكافر؛ فإن ولدها يتبعها، وحضانته لها ما لم تنكح؛ حكاه الرافعي في (باب أمهات الأولاد) عن أبي إسحاق المروزي وأقره، قال الإسنوي: وكأن المعني فيه فراغها؛ لمنع السيد من قربانها مع وفور شفقتها. والعقل؛ فلا حضانة لمن به جنون ولو متقطعا لما مر، إلا أن يقل زمنه؛ كيوم في سنة؛ فهو كمرض يطرأ ويزول، وفي معني الجنون: مريض لا يرجي برؤه؛ كمن به سل، أو فالج إن شغله ألمه عن كفالته وتدبير أمره، فإن أثر في مجرد عسر الحركة والتصرف .. فكذلك فيمن يباشر بنفسه دون من يدبر بنظره. ولا حضانة لأبرص وأجذم؛ كما في "قواعد العلائي" لخبر: "لا يورد ذو عاهة على مصح"، ولا لأعمى؛ كما أفتى به عبد الملك بن إبراهيم المقدسي من أئمتنا من أقران ابن الصباغ، واستنبطه ابن الرفعة من كلام الإمام، ثم قال: وقد يقال: إن باشر غيره وهو يدبر أموره .. فلا منع كما في الفالج، وذهب الإسنوي إلى حضانته؛ إذ لا يلزم الحاضن تعاطيها بنفسه، بل له الاستنابة فيها، وقد صرحوا بجواز استئجار أعمى للحفظ إجازة ذمة لا إجارة عين، وما قاله هو مقتضي كلام الناظم وغيره. والإسلام حيث كان المحضون مسلما؛ فلا حضانة لكافر على مسلم؛ لأنه لا ولاية له عليه؛ ولأنه ربما يفتنه في دينه، أما المحضون الكافر .. فللمسلم والكافر حضانته. والأمانة؛ فلا حضانة لفاسق؛ لأنه لا يلي ولا يؤتمن، وكذا السفيه والصبي والمغفل، وتكفي العدالة الظاهرة؛ كشهود النكاح. نعم؛ إن وقع نزاع في الأهلية .. فلابد من ثبوتها عند القاضي؛ كما أفتي به النووي، قال في "التوشيح": وبه أفتيت فيما إذا تنازعا قبل تسلم الولد، فإن تنازعا بعده .. فلا ينزع ممن تسلمه، ويقبل قوله في الأهلية.

وأرضاع المرأة الرضيع، فإن لم يكن لها لبن، أو امتنعت من الإضارع .. فلا حضانة لها؛ لعسر استئجار مرضعة تترك منزلها وتنقل إلى مسكن المرأة، وهذا ما أفهمه كلام "الروضة" و"أصلها"، وبه صرح ابن الرفعة، وهو مشكل فيما إذا لم يكن لها لبن؛ لأن غايتها أن تكون كالأب ونحوه ممن لا لبن له، وذلك لا يمنع الحضانة، وكلام الأئمة كما قال الأذرعي وغيره: يقتضي الجزم بأنه لا يشترط كونها ذات لبن. وعبارة "المحرر": وهل يشترط لاستحقاقها الحضانة أن ترضعه إن كان رضيعا ولها لبن؟ وجهان، أجاب أكثرهم بالاشتراط، ومن هنا قال البلقيني: المراد على الأصح: أن تكون ذات لبن؛ كما صرح به في "المحرر"، وحاصله: أنه إن لم يكن لها لبن .. فلا خاف في استحقاقها، وإن كان لها لبن وامتنعت .. فالأصح: لا حضانة. انتهى. والخلو من نكاح من لا حق له في حضانة الولد كما سيأتي، ولو كان المحضون رقيقا .. فحضانته لسيده، وهل له نزعه من أحد أبويه إن كان حرا؟ وجهان؛ بناء على قولي جواز التفريق، أو مبعضا .. فللسيد الحضانة بنسبة رقه. فلو كان نصفه رقيقا .. كان له نصف حضانته، ونصفها لقريبه الحر، فإن رضي أحدهما بالآخر، أو رضيا بمهايأة، أو باكتراء حاضن .. فذاك، وإلا .. أكتري الحاكم حاضنا، وأوجب المؤنة عليهما، ولا حضانة لذي الولاء على الأصح؛ لفقد الملك والقرابة اللذين هما مظننا الشفقة. ] إذا بلغ المحضون عاقلا [ ثم إذا بلغ الولد عاقلا .. انقطعت عنه الحضانة والكفالة ويبقي إسكانه، فإن كان ذكرا يحسن تدبيره .. لم يجبر على أن يكون عند الأبوين أو أحدهما، ولكن الأولى ألا يفارقهما ويخدمهما ويصلهما، أو أنثي مزوجة .. فعند زوجها، وإلا .. فإن كانت بكرا .. فعند أبويها أو أحدهما، وتجبر على ذلك، فإن افترقا .. خيرت بينهما، وإذا كان ثيبا .. فالأولي أن تكون عندهما، أو عند أحدهما، ولا تجبر على ذلك إذا لم تكن تهمة ولا ريبة، وإلا .. فللأب والجد ومن يلي تزويجها منعها من الانفراد، والمحرم منهم يضمها إلى نفسه إن رأي ذلك، وغيره يسكنها موضعا يليق بها ويلاحظها، وللأم ضمها إليها عند الريبة، ولو فرضت الريبة في حق البكر .. فهي أولي بالاحتياط.

والأمرد إن خيف عليه من الانفراد، وانقدحت تهمة .. منع من مفارقة الأبوين، والجد كالأب في حقه، وكذا الأخ والعم ونحوها، ولو أدعي الولي ريبة وأنكرت .. قبل قوله، ويحتاط بلا بينة ] الأحق بالحضانة إذا اجتمع مستحقون [ وإذا اجتمع عدد من مستحقي الحضانة: فإن تراضوا بواحد .. فذالك، أو تدافعوها .. فحضانته على من عليه نفته؛ فإنها من جملة الكفاية، فيجبره الحاكم عليها، ولو امتنع المقدم في الحضانة منها، أو غاب .. انتقلت لمن يلي؛ كما لو مات أو جن. ولو لم يوجد أحد من أقارب الولد ممن له الحضانة .. فحضانته على المسلمين، والمؤنة من ماله، فإن لم يكن له مال .. فهو من محاويجهم. وإن طلب حضانة الولد كل من مستحقيها وهو بالصفة المعتبرة .. قدمت أمه؛ لقربها ووفور شفقتها، فأمهاتها المدليات بالإناث؛ لمشاركتهن لها في الإرث والولادة، تقدم منهن القربى فالقربى. وخرج بـ (المدليات بالإناث): ساقطة الإرث؛ وهي المدلية بذكر بين أنثيين؛ كأم أبي الأم، فلا حضانة لها؛ لأنها تدلي بمن لا حق له في الحضانة بحال فكانت كالأجنبية، بخلاف أم الأم إذا كانت الأم فاسقة أو مزوجة؛ لاستحقاقها الحضانة في الجملة. فالأب، فأمهات الأب المدليات بالإناث القربى فالقربى، بخلاف المدلية بذكر بين أنثيين، وقدم الأب على أمهاته؛ لإدلائهن به، وقدم عليه الأم وأمهاتها؛ لاختصاصهن بالولادة المحققة، ولأنهن أليق بالحضانة منه كما مر، ولأنه لا يستغني في الحضانة عن النساء غالبا، وإنما قدمن على أمهاته؛ للولادة المحققة، ولقوتهن في الإرث؛ إذا لا يحجبن بالأب، بخلاف أمهاته. فالجد أبو الأب وإن علا، فوالدات جد المدليات بالإناث يقدم الأقرب فالأقرب من الأجداد، والقربى فالقربى من أمهاتهم، ويقدم كل جد على أمهاته. ثم بعد أمهات الجد وإن علا ولد الأبوين أخا كان أو أختا؛ لقوة قرابته بالإرث، وبعده الخالات لأبوين ثم لأب ثم لأم؛ لإدلائهن بالأم التي هي أقوى في الحضانة من الأب.

ثم ولد ولد الأبوين ذكرا أو انثى. ثم ولد ولد الأب ذكرا أو أنثى، إلا ابن الأخت لأبوين أو أب؛ كما يؤخذ من قوله بعد (فولد عم حيث إرث عمه). ثم بنات ولد أم أخا أو أختا؛ لمزيد القرب والشفقة المبني عليهما أمر الحضانة؛ بخلاف ولاية النكاح فإنها منوطة بمن يدفع العار عن النسب. واحترز بـ (بنات ولد الأم) عن أبنائه؛ لضعف القرابة مع بعد الأهلية للحضانة، وإنما ثبتت لبنت ولد الأم وللخالة ونحوهما؛ لانضمام الأنوثة التي أليق بالحضانة إلى القرابة. يتلوه فرع الجد للأصلين؛ أي: ولد الجد للأبوين من العم والعمة. ثم الفرع للجد من أب من العم والعمة. ثم عمة لأم، بخلاف العم للأم لا حضانة له؛ لأنه ذكر غير وارث. ثم بنت خالة، ثم بنت عمة؛ لهدايتهما بالأنوثة إلى الحضانة وإن لم يكن لهما محرمية، تقدم منهما التي لأبوين، ثم التي لأب، ثم التي لأم، لكن إن كان المحضون ذكرا .. فإنما تكون لهن حضانته ما لم يبلغ حدا يشتهي مثله؛ كما هو معلوم. وخرج بـ (بناتهم): بنوهم، فلا حضانة لهم؛ لأنهم ذكور غير وارثين، وصحح الشيخان ثبوت الحضانة بعد بنات الخالات لبنات الأخوال. وقال الإسنوي تبعا لابن الرفعة: وليس بصحيح؛ إذ حضانة لأنثى أدلت بذكر غير وارث، وهن بذلك أولي من أم أبي الأم. وقال البلقيني: في كلام الرافعي ما يدل أن ذكره لبنات الأخوال سبق قلم .. وذكر كلامه وبينه. ثم بعد بنات العمات ولد عم وارث ذكرا كان أو أنثى؛ لوفور شفقته. وخرج بقوله: (حيث إرث عمه): ولد عم لا إرث له؛ وهو ولد العم للأم، فلا حضانة له كأبيه. قوله: (تقدم الأنثى بكل حال) أي: تقدم الأنثى بكل منزلة على الذكر بها؛ كما قدمت الأم على الأب، فتقدم كل من الأخوات الثلاثة على أخيها الذي في مرتبتها، وكذا في الباقي؛

لما مر: أن الحضانة بالإناث أليق، وأن الذكور لا يستغنون فيها عن النساء غالبا، وتقدم بنت أنثى كل مرتبة على بنت ذكرها. فإن كانا في مرتبتين .. فالعبرة بالمرتبة المقدمة، فتقدم بنت أخ لأبوين على بنت أخت لأب؛ كما يقدم أخ لأبوين على أخت لأب؛ لأن مرتبته على مرتبتها، وإذا استوى اثنان من كل وجه؛ كأخوين لأبوين وتنازعا .. قدم بالقرعة. وهل يقدم خنثى كل مرتبة على ذكرها؛ لاحتمال الأنوثة، أو لا للشك؟ وجهان، أصحهما في «الروضة»: المنع. وفيها: لو أخبر بذكورته أو أنوثته .. عمل به الإسقاط، وكذا في الاستحقاق. قوله: (أخواته أولى من الأخوال) أي: أخواته من أي جهة كانت لأبوين أو لأب أو لأم أولى من خالاته كذلك؛ لقربهن وإرثهن، وهذا قد علم مما قدمه مع أنه يجوز في إطلاق الأخوال على الخالات، ولو كان للمحضرن زوج كبير، أو زوجة كبيرة ولأحدهما تمتع بالآخر .. قال الروياني: قدمت الزوجية على القرابة. وفيها كـ «أصلها» ولبنت المحضون المجنون حضانته بعد الأبوين ذكره ابن كج، فهي مقدمة على الجدات. ولا حضانة لأنثى محرم أدلت بذكر غير وارث كبنت ابن البنت، ولا لذكر غير وارث، سواء أكان محرما؛ كالخال والعم لأم وابن الأخت، أم غير محرم؛ كابني الخالة والخال وابن العم للأم. ] سفر الاب للنقلة [ قوله: (وولد مسافر لنقلة) أي: وولد مسافر لنقلة أولى بحضانة الوالد من أمه، فيأخذه منها وإن قصر سفره؛ حفظا للنسب، ورعاية لمصلحة التأديب والتعليم، وسهولة الإنفاق، بشرط أمن الدرب الذي يسافر فيه، والبلد الذي يقصده، بخلاف ما إذا خيفا أو أحدهما .. فإنه لا يأخذه من أمه، وألحق في «الكفاية» بالخوف: السفر في حر وبرد شديدين، وفيها عن «تعليق القاضي»: لو أراد النقلة عن بلد إلى بادية .. فالأم أحق.

قال الأذرعي: ولم أره في «تعليقه» ولا كتب أتباعه، فإن رافقته الأم في سفره .. استمر حقها وإن اختلفا مقصدا، وكذا إن لم ترافقه واتحدا مقصدا. وخرج بقوله: (وولد): ما لو سافرت الأم لنقلة أو حاجة، وبقوله: (لنقلة): ما لو سافر لحاجة أو نحوها؛ كتجارة ونزهة .. فليس للمسافر أخذه من المقيم فيهما؛ لخطر السفر مع توقع العود. ولو سافرا معا للحاجة، واختلفا طريقا ومقصدا .. قال الرافعي: فيشبه أن يدام حقها، قال النووي: وهو المختار، ومقتضى كلام الأصحاب. ولو قال: (أريد سفر نقلة)، فقالت: (بل تجارة) .. صدق بيمينه؛ لأنه أعرف بقصده، فإن نكل .. حلفت وأمسكت الولد. ووالد الطفل أولى بحضانته من أمه إن نكحت لغير حاضن له وإن لم يدخل بها الزوج؛ لخبر: «أنت أحق به ما لم تنكحي»، ولأنها مشغولة عنه بحق الزوج؛ قال الماوردي: ولأن على الولد وعصبته عارا في مقامه مع زوج أمه، وسواء رضي الزوج بدخول الولد داره أم لا؛ كما لو رضي السيد بحضانة أمته. نعم؛ إن رضي الأب معه .. بقي حقها وسقط حق الجدة، وكذا لو اختلعت بالحضانة وحدها، أو مع غيرها مدة معلومة فنكحت في أثنائها؛ لأنها إجازة لازمة، لكن ليس الاستحقاق في هذه بالقرابة، بل بالإجازة. أما إذا نكحت من له حق في حضانة الولد؛ كعمه وابن عمه .. فلا يبطل حقها؛ كما لو كانت في نكاح الأب، ولقضائه صلى الله عليه وسلم ببنت حمزة لخالتها لما قال له جعفر: (إنها بنت عمي، وخالتها تحتي). ومحله: إذا رضي من نكحها بحضانتها؛ لأن له الامتناع. فإن طلقت منكوحة .. عاد حقها؛ لزوال المانع؛ كما لو كملت ناقصة بأن عتقت أو أفاقت، أو تابت أو أسلمت.

وما ذكره الناظم في سفر الأب للنقلة يأتي في محارم العصبة؛ كالجد والعم والأخ فهم فيه أولى من الأم بالحضانة؛ حفظا للنسب، وكذا ابن عم لذكر لذلك أيضا، ولا يعطي أنثي؛ حذرا من الخلوه بها؛ لانتفاء المحرمية بينهما، فإن رافقته بنته .. سلمت لها، وبذلك تؤمن الخلوة، وما ذكر في نكاح الأم يأتي في غيرها من الحاضنات. ] حضانة الطفل المميز [ وما تقدم كله في طفل غير مميز، والمميز: إن افترق أبواه من النكاح .. حضنه من اختاره منهما؛ لأن صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه حسنه الترمذي، فإن كان في أحدهما جنون أو كفر، أو رق أو فسق، أو نكحت أجنبيا .. فالحق للآخر فقط، ويخبر بين أم وجد، وكذا أخ وعم أو أب مع أخت أو خالة في الأصح. فإن اختار أحد الأبوين أو من ألحق بهما ثم اختار الآخر .. حول إليه؛ لأنه قد يظهر له الأمر على خلاف ما ظنه، أو يتغير حال من أختاره أولا، ولأن المتبع شهوته؛ كما قد يشتهي طعاما في وقت وغيره في آخر، ولأنه قد يقصد مراعاة الجانبين. ولو رجع عن اختيار الثاني إلى الأول .. أعيد إليه، فإن أكثر التردد بحيث يظن قلة تمييزه .. ترك عند مستحق التقديم. قال ابن الرفعة: ويعتبر في تمييزه: أن يكون عالما بأسباب الاختيار، وذلك موكول إلى نظر الحاكم. فإن اختار أباه .. فالأم لها الزيارة له، فلا يمنعها منها؛ لئلا يكون قاطعا للرحم، ولا يمنعه زيارتها؛ لئلا يكلفها الخروج لزيارته، إلا أن يكون أنثي فله منعها زيارتها؛ لتألف الصيانة وعدم البروز، والأم أولى منها بالخروج لزيارتها، والزيارة في الأيام مرة على العادة لا كل يوم، وإذا زارت .. لا يمنعها الدخول لبيته، ويخلي لها الحجرة، فإن كان البيت ضيقا .. خرج، ولا تطيل المكث في بيته. ولو مرض الولد .. فالأم أولى بتمريضه ذكرا كان أو أنثي؛ لأنها أشفق وأهدي إليه، فإن رضي به في بيته .. فذاك، وإلا .. ففي بيتها ويعوده، وإذا مات .. لم تمنع من حضور غسله وتجهيزه إلى الدفن، ولو مرضت الأم .. لم يمنع الولد عيادتها ذكرا كان أو أنثى، فإن أحسنت البت التمريض .. مرضتها.

وإن اختار الذكر امه .. فعندها ليلاً، وعند الأب نهاراً يؤدبه بالأمور الدينية والدنيوية، ويسلمه لمكتب وصاحب حرفة يتعلم منهما الكتابة والحرفة، أو اختارتها الأنثى .. فعندها ليلاً ونهاراً، ويزورها الأب على العادة، ولا يطلب إحضارها عنده. وإن اختارهما الولد .. أقرع بينهما، ويكون عند من خرجت قرعته منهما. وإن لم يختر واحداً منهما ... فالأم أولى؛ لأن حضانته لها، ولم يختر غيرها. والألف في قول الناظم: (الرضيعا) للإطلاق، وقوله: (ولد أم) بضم الواو وسكون اللام، وكذا قوله: (ولد عم).

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات جمع جناية؛ هي أعم من تعبير غيره بالجراح؛ لشمولها المثقل وشهادة الزور وغيرها. [أقسام الجنايات] وهي على ثلاثة أقسام: عمد، وخطأ، وشبه عمد، وقد أخذ في بيانها فقال: (فعمد محض: هو قصد الضارب ... شخصاً بما يقتله في الغالب) (والخطأ: الرمي لشاخص بلا ... قصد أصاب بشراً فقتلا) (وشبه العمد بأن يرمي إلى ... شخص بما في غالب لن يقتلا) أي: العمد المحض: هو قصد الجاني شخصاً؛ أي: إنساناً معيناً بما يقتله في الغالب عدواناً، فقتله سواء أكان بجارح؛ كسيف وسكين، أم بمثقل؛ كحجر ودبوس، أم بغيرهما. والخطأ: الرمي لشاخص بلا قصد؛ كأن زلق فوقع على إنسان فمات، أو بلا قصد لإنسان فأصاب إنساناً فمات، أو قصد شخصاً فأصاب غيره فمات. وشبه العمد: قصد الشخص بما لا يقتله غالباً. والألف في قول الناظم: (فقتلا) و (يقتلا) للإطلاق. (ولم يجب قصاص غير العمد ... إن يحصل الإزهاق بالتعدي) (فلو عفا عنه على أخذ الديه ... من يستحق وجبت كما هيه) (لكن مع التغليظ والحلول ... ولو بسخط قاتل المقتول) (وفي الخطا وعمده: مؤجله ... ثلاث أعوام على من عقله) (وخففت في الخطأ المحض كما ... قد غلظت في العمد فيما قدما) فيها أربع مسائل:

[لا قصاص في الخطأ وشبه العمد] الأولى: لا قصاص في الخطأ وشبه العمد؛ لقوله: {ومن قتل مؤمناً خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية}، وخبر: «قتيل الخطأ شبه العمد، قتيل السوط والعصا، فيه مئة من الإبل» رواه أبو داوود وغيره، ويقتص في العمد؛ إذ يحصل إزهاق الروح بالتعدي بقصد عين الشخص بفعل يقتله في الغالب؛ للإجماع، ولقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة}، ولخبر البخاري: «كتاب الله القصاص»؛ فلو غرز إبرة بمقتل ... فعمد، وكذا بغيره إن تألم حتى مات، فإن لم يظهر أثر ومات في الحال .. فشبه عمد. [لو عقا مستحق القصاص وجبت الدية المغلظة] الثانية: قد علم أن موجب العمد القود، والدية بدل عند سقوطه بعفو عليها أو نحو؛ لأنه بدل متلف فتعين جنسه كسائر المتلفات، فلو عفا مستحق القصاص عنه على أخذ دية مورثه .. وجبت كما في الدية المعروفة، لكنها تجب مغلظة حالة في مال القاتل ولو بسخط قاتل المقتول وعدم رضاه بالدية؛ لقوله: {فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له قتيل .. فهو بخير النظرين: إما أن يؤدي، وإما أن يقاد» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وخرج بقول الناظم: (على أخذ الدية): ما لو أطلق العفو ولم يعف عليها على الفور .. فإنها لا تجب؛ لأن القتل لم يوجبها، والعفو إسقاط ثابت إلا إثبات معدوم. وما لو عفا عن الدية .. فإن عفوه لاغ؛ بناءً على أن الواجب القود المحض، وله العفو بعده عليها. وما لو عفا على غير جنس الدية، أو على أكثر منها كمئتي بعير ... فإن المال يثبت ويسقط القصاص إن قبل القاتل، فإن لم يقبل .. لم يثبت المال، ولم يسقط القود في الأصح؛ لأنه إنما رضي بإسقاطه على عوض ولم يحصل. وما لو عفا على بعض الدية كنصفها ... فإنه لا يجب إلا ما عفا عليه. وشمل قوله: (من يستحق) المحجور عليه بالفلس والسفه؛ فيصح عفو كل منهما عن

القود على مال ومجاناً، وبقوله: (عفا): ما لو ثب لصبي أو مجنون، فيؤخر حتى يبلغ أو يفيق. نعم؛ إن كان المجنون فقيراً .. فلأبيه أو جده العفو عنه على المال بحسب المصلحة. [دية الخطأ وشبه العمد مؤجلة على العاقلة] الثالثة: تجب الدية في الخطأً وعمد الخطأ المسمى بشبه العمد مؤجلة ثلاثة أعوام على عاقلة القاتل في آخر كل سنة ثلثها، أما كونها مؤجلة ... فلأن العاقلة تحملها على وجه المواساة، فوجب أن يكون وجوبها مؤجلاً؛ قياساً على الزكاة، وأما كون الأجل ثلاث سنين .. فللإجماع، واختلف الأصحاب في المعنى الذي كانت لأجله في ثلاث سنين، فقيل: لأنها بدل نفس محترمة، وقيل: لأنها دية كاملة وهذا هو الأصح، فدية المرأة تؤجل في سنتين، ففي آخر الأولى ثلثاها وفي آخر الثانية الباقي، ودية الكتابي والمجوسي ونحوه في سنة تؤخذ في آخرها، وقيمة العبد في كل سنة قدر ثلث دية. ولو قتل رجلين .. ففي ثلاث. ودية ما دون النفس، وأروش الجراحات والحكومات في كل سنة قد ثلث دية، وابتداء أجل دية النفس من زهوقها وغيرها من الجنابة، فإن سرت إلى عضو آخر .. فمن سقوطه. ومحمل تحمل العاقلة دية الخطأ وشبه العمد: إذا صدقوا القاتل، أو قامت به بينة وهم عصبة، إلا الأصل والفرع، ويقدم الأقرب فالأقرب؛ بأن ينظر في الواجب آخر الحول، وفي الأقربين، فإن وفوا بالواجب موزعاً عليهم .. لم يشاركهم من بعدهم، وإلا .. شاركهن في التحمل، ثم الذين يلونهم، ثم المعتق ثم عصبته، ثم معتقه ثم عصبته، إلا الأصل والفرع. فإن لم يوجد من له الولاء على الجاني .. تحمل معتق الأب ثم عصبته، ثم معتق الأب، ثم معتق الجد ثم عصبته كذلك ... وهكذا. فإن لم تكن عصبة، أو فضل عنهم شيء من الواجب .. ففي بيت المال إن كان الجاني مسلماً، فإن فقد .. فكله على الجاني؛ بناء على أنه يجب عليه ابتداء، ثم تتحملها العاقلة. وشروط العاقلة: التكليف، والذكورة، والحرية، واتفاق الدين، والغني أو التوسط، وعلى الغني في آخر كل سنة نصف دينار، وعلى المتوسط في آخر كل سنة ربع دينار، ويعتبران آخر الحول، ومن مات في أثناء الحول .. فلا شيء عليه.

[وجوه التغليظ والتخفيف في الديات] الرابعة: دية الخطأ المحض مخففة من ثلاثة أوجه: كونها مخمسة كما سيأتي مؤجلة على العاقلة، ودية شبه العمد مغلظة من وجه؛ وهو كونها مثلثة، مخففة من وجهين: كونها مؤجلة على العاقلة، ومثلها دية الخطأ الواقع في حرم مكة، أو الأشهر الحرم: ذي القعدة وذي الحجة والحرم ورجب، أو كان المقتول محرماً ذا رحم من النسب. ودية العمد وإن لم توجب القود؛ كقتل الأصل فرعه مغلظة من ثلاثة أوجه: كونها مثلثة حالة على الجاني. والألف في قول الناظم: (قدما) للإطلاق، والهاء في قوله: (هيه) هاء السكت. (يقتص في غير أب من محرم ... أو في الشهور الحرم أو في الحرم) (في الحال، والجمع بفرد فاقتل ... في النفس أو في عضوه ذي المفصل) (إن يكن القاتل ذا تكلف ... وأصل من يجني عليه ينتفي) (عنه القصاص كانتفا من نزلا ... عنه بكفر أو برق حصلا) (واشرط تساوي الطرفين في المحل ... لم تنقطع صحيحة بذي شلل) [القصاص من المحرم وفي الأشهر الحرم وفي الحرم] أي: يقتص في غير قتل الأصل فرعه كما سيأتي؛ كان قتل أصله أو أخاه أو عمه، ويقتص في الأشهر الحرم وفي حرم مكة؛ لأنه قل لو وقع فيه .. لم يضمن، فلا يمنع منه؛ كقتل الحية والعقرب، وسواء التجأ القاتل إلى الحرم فراراً من القتل أم لا. نعم؛ لو التجأ إلى المسجد الحرام، أو غيره من المساجد .. أخرج منه على الأصح ثم قتل؛ لأنه تأخير يسير لصيانة المسجد، ولو التجأ إلى الكعبة .. أخرج قطعاً، ويجوز أن يقتص في الحال على الفور ولو في الحر والبرد والمرض. وسواء في جميع ما ذكر قصاص النفس والطرف وغيرهما؛ لأن القصاص موجبه الإتلاف؛ كتغريم المتلفات.

[ثبوت القصاص للوارث] ويثبت القصاص لكل وارق بنسب أو سبب كالمال، وينتظر غائبهم إلى أن يحضر، وصغيرهم إلى أن يبلغ، ومجنونهم إلى أن يفيق، فلا يجوز للمحاضر الكامل استيفاؤه، ويحبس القاتل حينئذ، ولا يخلى بكفيل، وتحبس الحامل في قصاص النفس أو الطرف حتى ترضعه اللبأ، ويستغني بغيرها ولو بهيمة أو فطام لحولين. ولا يستوفى قصاص إلا بإذن الإمام أو نائبه؛ لأن أمر الدماء خطر، ولأن وجوبه يفتقر إلى الاجتهاد؛ للاختلاف في شروط وجوبه واستيفائه؛ فإن استقل .. عزر لافتئاته على الإمام. ويستثنى من اعتبار الإذن: ما لو وجب للسيد على رقيقه قصاص، وما لو اضطر المستحق .. فله قتله قصاصاً وأكله، وما لو قتل في الحرابة .. فلكل من الإمام والمستحق النفراد بقتله، وما لو انفرد بحيث لا يرى. وبأذن الإمام للمستحق إذا كان أهلاً للاستفياء في قتل لا في طرف ونحوه. وليتفقوا على مستوف، وإلا .. فقرعة بين القادرين، فمن خرجت قرعته ... استوفاه بإذن الباقين. ولو قتله أحدهم قبل العفو .. فلا قصاص عليه، وللباقين قسط الدية من تركة الجاني، أو بعد عفو غيره ... لزمه القصاص مطلقاً؛ لسقوط حقه من القصاص بالعفو. ومن قتل بمحدد أو نحو تجويع .. اقتص به رعاية للمماثلة، أو بسحر أو خمر أو لواط، فبسيف، ومن عدل إلى سيف .. فله، لأنه أوحى وأسهل، بل هو أولى. [قتل الجمع بواحد] ويقتل الجمع بواحد إن كان فعل كل قاتلاً لو انفراد أو تواطؤوا؛ لأن عمر رضي الله عنه قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة؛ أي: حيلة، وقال (لو تمالأ عليه أهل صنعاء .. لقتلهم جميعاً) ولم ينكر عليه فصار إجماعاً، ولأن القتل عقوبة تجب للواحد على الواحد، فتجب للواحد على الجماعة كحد القذف، ولأنه لو لم يوجب القود .. لاتخذ الاشتراك في القتل ذريعة إلى انتفاء القود، وللولي أخذ حصة من الدية باعتبار الرؤوس في الجراحات، وباعتبار عدد الضربات في غيرها.

ولا يقتل شريك مخطئ وشبه عمد، ويقتل شريك من سقط عنه القصاص لمعنى قائم به؛ كالأصل ويقتص من الواحد والجمع في النفس، وفي كل عضو له مفصل توضع الحديدة عليه؛ لأن القصاص خطر، فاختص بما يؤمن فيه الحيف والتعدي. وذلك في الأعضاء المنتهية إلى مفاصل؛ كالأنامل، والكوع، والمرفق، والركبة، والكف، وكذا أصل الفخذ والمنكب إن أمكن بلا إجافة، وكما يتقص في كل عضو ينضبط بمفصل .. يقتص أيضا في كل طرف ينضبط بنحيزه؛ ويجب في إبطال المنافع؛ كالسمع والبصر، والشم والذوق، والكلام والبطش. ولا يقتص في العقل، ولا يقتص في شيء من الجراحات إلا في الموضحة؛ وهي الجراحة النافذة إلى العظم. [شروط جريان القصاص في النفس وغيرها] ويعتبر لجريان القصاص في النفس وغيرها أمور: أحدها: أن يكون الجاني مكلفاً؛ أي: بالغاً، فلا قصاص على الصبي والمجنون؛ لأنهما لا يكلفان بالعبادات البدنية، فأولى ألا يكلفا بالعقوبات، ويجب على من تعدى بمزيل لعقله؛ كالخمر لتعديه؛ وهذا كالمستثنى من شرط العقل، وهو من قبيل ربط الأحكام بالأسباب. ولو قال: (كنت عند الجناية صبياً) أو (مجنوناً) صدق بيمينه إن أمكن الصبا فيه، وعهد الجنون قبله، ولو قال: (أنا صبي الآن) .. فلا قصاص، ولا يحلف أنه صبي. ثانيها: أن يكون ملتزماً للأحكام، فلا قصاص على حربي؛ لعدم التزامه، ويجب على المعصوم بعهد أو غيره والمرتد، لالتزام الأول، وبقاء علقة الإسلام في الثاني. ثالثها: أن يكون المجني عليه معصوماً بإسلام أو أمان، وفيهدر الحربي، وكذا المرتد في حق مسلم وذمي، ومن عليه قصاص معصوم في حق غير مستحقه، والزاني المحصن إن قتله ذمي .. قتل به، أو مسلم معصوم .. فلا. رابعها: ألا يكون الجاني أصلاً للمجني عليه، فلا قصاص على الأصل بجنايته على فرعه

وإن سفل؛ لخبر: "لا يقاد للابن من أبيه" صححه الحاكم والبيهقي، والبنت كالابن، والأم كالأب، قياساً وكذا الأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأب أو الأم، والمعنى فيه: أن الوالد كان سبباً في وجوده فلا يكون الولد سبباً في عدمه. وكما لا قصاص على الأصل بجنايته على فروعه .. لا قصاصا عليه بجنايته على مورث فرعه؛ كأن قتل عتيقه أو زوجة وله منها ابن؛ لأنه إذا لم يقتص منه بجنايته عليه .. فلأن لا يقتص منه بجنايته على مورثه أولى. خامسها: ألا يكون الجاني مسلماً والمجني عليه كافراً، فلا يقتل مسلم بكافر؛ لخبر البخاري: "ألا لا يقتل مؤمن بكافر"، ولأنه لا يقتص للكافر من المسلم فيما دون النفس من الجراح بالإجماع، كما قاله ابن عبد البر، فالنفس بذلك أولى، ويقتل الذمي بالمسلم والذمي وإن اختلفت عقيدتهما، فلو أسلم القاتل أو الجارح .. لم يسقط القصاص؛ للمكافأة وقت الجناية، ويقتص الإمام بإذن الوارث، ويقتل مرتد بذمر وبمرتد، ولا ذمي بمرتد. سادسها: ألا يكون الجاني حراً والمجني عليه رقيقاً، فلا يقتل حر بعبد، ولخبر الدارقطني: "لا يتقل حر بعبد" ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه بالاتفاق فأولى ألا يقتل به؛ لأن حرمة النفس أعظم من حرمة الأطراف، ويقتل قن ومدبر ومكاتب وأم ولد بعضهم ببعض، ولا يسقط القود بعتق القاتل أو الجارح، ولا يقتص لمبعض من مبعض، ولا قصاص بين عبد مسلم وحر ذمي. سابعها: ألا يكون الجاني سيد المجني عليه، فلو قتل المكاتب أباه وهو ملكه .. فلا قصاص في الأصح. [ما يشترط في قصاص الطرف والجرح] واشترط في قصاص الطرف بالطرف، والجرح بالجرح مع ما شرط في النفس: تساوي العضوين في الاسم والمحل، فلا يقطع الإبهام وبالسبابة، والخنصر بالبنصر، ولا عكسه، ولا يسار بيمين، ولا شفة سفلى بعليا وعكسه، ولا أنملة بأخرى، ولا زائد بزائد في محل آخر؛ كزائد بجنب الخنصر وزائد بجنب الإبهام؛ لانتفاء المساواة في الجميع في المحل

المقصود في القصاص، ولا يضر تفاوت كبر وصغر، وطول وقصر، وقوة بطش وضعفه، ويشترط لقطع الزائد بالزائد: ألا يكون زائدة الجاني أتم، كإصبع لها ثلاث مفاصل ولزائدة المجني عليه مفصلان. ولو كانت أصابع إحدى [يديه] وكفها أقصر من الأخرى .. فلا قصاص في القصيرة على مستويهما، بل تجنب فيها دية كاملة في الأصح. ويعتبر قدر الموضحة طولاً وعرضا، ولا يضر تفاوت غلظ لحم وجلد. ولا تؤخذ صحيحة من يد ورجل بشلاء وإن رضي به الجاني، فلو فعل بغير إذنه .. لم يقع قصاصا، بل عليه ديتها وله حكومة، ولو سرى .. فعليه قصاصا النفس، أو بإذنه ... فلا قصاصا في النفس، ولا دية في الطرف إن أطلق الإذن، ويجعل مستوفياً لحقه، وإن قال: (اقطعها قصاصاً) ففعل .. فقيل: لا شيء عليه، وهو مستوف لحقه، وقيل: عليه ديتها وله حكومة، وقطع به البغوي؛ كذا في"الروضة" ك"أصلها" وتؤخذ الشلاء من يد أو رجل بالصحيحة، إلا أن يقول أهل الخبرة: لا ينقطع الدم لو قطعت، وتجب دية الصحيحة، وتؤخذ شلاء بشلاء مثلها، أو أقل شللاً إن لم يخف نزف الدم، والشلل: بطلان العمل. ويقطع سليم يد أو رجل بأعسم وأعرج، ولا أثر لخضرة أظفار وسوادها، وتؤخذ ذاهبة الأظفار بسليمتها دون عكسه. والذكر صحة وشللاً كاليد فيما مر، والأشل: منقبض لا ينبسط أو عكسه، ولا أثر للانتشار وعدمه، ويؤخذ أنف صحيح بأخشم، وأذن سميع بأصم، لا عين صحيحة بحدقة عمياء، ولا لسان ناطق بأخرس. وقول الناظم: (والجمع) بالنصب أو بالرفع، (والمفصل) بفتح الميم وكسر الصاد، والألف في قوله: (نزلا) و (حصلا) للإطلاق، وقوله: (أو برق) بدرج الهمزة للوزن، وقوله: (تساوي (بسكون الياء وتقدير الفتحة عليها كما هو لغة.

(ودية في كامل النفس: مئه ... إبل، فإن غلظتها فالمجزئه) (ستون بين جذعة وحقه ... وأربعون ذات حمل: حقه) (وإن تخفف: فابنة المخاض ... عشرون كابنة اللبون الماضي) (وابن اللبون قدرها، ومثلها ... من حقه وجذعة إذ كلها) (من إبل صحيحة سليمه ... من عيبها، ولانعدام: قيمه) (والنصف للأنثى، وللكتابي ... ثلثها لشبهة الكتاب) (وعابد الشمس وذو التمجس ... وعابد الأوثان: ثلث الخمس) (قوم رقيقاً وجنين الحر ... بغرة ساوت لنصف العشر) (ودية الرقيق: عشر غرمه ... من قيمة الأم لسيد الأمة) [الدية الواجبة في كامل النفس] أي: ودية واجبة في كامل النفس؛ وهو المحقون الدم المسلم الحر الذكر غير الجنين: مئة من الإبل، والعبرة في كونها كاملة بوقت الموت وإن كانت ناقصة عند الإصابة أو بعده؛ كأن جرح ذمياً، أو مسلماً فارتد ثم أسلما، أو رقيقاً ثم عتق وماتوا. فإن غلظت الدية؛ وذلك في العمد وشبهه والخطأ فيما مر ... فالمجزئة فيها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون ذات حمل ولو قبل خمس سنين، وهي الخلفة؛ لخبر الترمذي بذلك، وسواء أكان العمد موجباً للقصاص فعفا على الدية، أم لا؛ كقتل الأصل فرعه، ويثبت حمل الخلفة بعدلين من أهل الخبرة. وإن تخفف في الخطأ المحض في غير ما مر ... فعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة؛ لخبر الترمذي وغيره بذلك. وتكون المئة كلها من إبل صحيحة سليمة من عيبها، أي: الدية، وهو ما يرد به في البيع، وإن كانت إبل دافعها مريضة ومعيبة، لتعلقها بالذمة، بخلاف الزكاة لتعلقها بالعين؛ فلا يقبل

مريض أو معيب إلا برضا المستحق به بدلاً عن حقه في الذمة السالم من المرض والعيب؛ لأنه له إسقاط الأصل فكذا صفته. وتجب الدية من غالب إبل الدافع إن شاء وإن خالف إبل البلد؛ وإن شاء .. من غالب إبل البلد أو القبيلة لذي البادية وإن تفرقوا، فإن لم يكن في البلد أو القبيلة إبل ... فمن غالب إبل أقرب البلاد، ويلزمه النقل إن قربت المسافة. وتجب قيمة ما فقد حساً، أو شرعاً من غالب نقد بلد الإعواز يوم وجوب التسليم إن لم يمهل المستحق. والنصف من الدية للأنثى والخنثى نفساً وجرحاً؛ لأنه زيادته علهيا مشكوك فيها. [دية الكتابي] وللكتابي- وهو اليهودي والنصراني اللذين تحتل مناكحتهما- ثلث دية المسلم؛ وهي ثلاث وثلاثون بعيراً وثلث بعير؛ لشبهة الكتاب وهو التوراة والإنجيل؛ أخذا من خبر عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف ردهم) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" وقال به عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، والسامرة من اليهود، والصابئون من النصارى إن لم يكفروهم، وإلا ... فحكمهم حكم المجوس. [دية عابد الشمس والأوثان والمجوسي] ودية عابد الشمس والقمر والمجوسي وعابد الأوثان- جمع وثن بالمثلثة؛ أي: صنم- ثلث خمس دية المسلم وهو ستة أبعرة وثلثا بعير، ويعبر عنه أيضا بثلثي عشر دية المسلم وبخمس دية الكتابي؛ وهو من له كتاب ودين كان حقاً، وتحل ذبيحته ومناكحته ويقر بالجزية، وليس للمجوسي من هذه الخمسة إلا الخامس؛ فكانت ديته خمس ديته، والمرأة والخنثى منهم على النصف مما ذكر. [ما يجب في الرقيق] قوله: (قوم رقيقاً) أي: تجب في الرقيق قيمته بالغة ما بلغت، عبداً كان أو أمة، لأنهما مال، فأشبها سائر الأموال المتقومة، والمبعض تجب قيمة جزئه الرقيق، ودية جزئه الحر،

وفي أطراف الرقيق ولطائفه ما نقص من قيمته إن لم تتقدر في الحر، وإلا .. وجب فيها من قيمته بتلك النسلة، ففي قطع يده نصف قيمته، وفي ذكره وأنثييه قيمتان. [وجوب الغرة في الجنين] وتجب في الجنين الحر ولو أنثى أو خنثى، أو ناقص الأعضاء، أو مجهول النسب غرة؛ لخبر "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة)، وسوي بين الذكر وغيره؛ لظاهر الخبر، ولأنه لو اختلف واجبهما .. لكثر الاختلاف في أنه ذكر أو غيره، وهذا كما جعل صاع التمر بدل لبن المصراة، سواء أكثر اللبن أم قل، وسواء انفصل كله أو بعضه، أو ظهربلا انفصال. فلو جنى على امرأة فماتت، ولم يظهر منه شيء، أو كان بها انتفاخ، أو حركة فزال .. فلا غرم للشك .. ولو ضرب بطن ميته فألقت جنيناً .. قال القاضي أبو الطيب والروياني: تجب فيه الغرة؛ لأن الأصل بقاء الحياة، وقال الماوردي والبغوي: لا تجب؛ لأن الظاهر موته بموتها. ورجحه البلقيني بأن الإيجاب لا يكون بالشك، قال: وقول الأول: (الأصل بقاء الحياة) ممنوع؛ لأنا لم نعلم حياته حتى نقول: الأصل بقاؤها. أما لو علمنا حياة الجنين؛ كن صاح أو تنفس فمات، أو بقى متألماً حتى مات .. ففيه الدية، ولو ألقت ميتاً وحياً فمات .. فدية وغرة، أو بدين ولو ملتصقين .. فغرتان، أو أربع أيد أو أرجل ورأسين .. فغرة؛ لإمكان كونها لجنين واحد، بعضها أصلي وبعضها زائد، ويعتبر في الجنين كونه معصوماً حال الجناية، وظهور تخطيط بعضه ولو للقوابل فقط. و(الغرة): رقيق مميز سليم من عيب مبيع؛ لورود الخبر بلفظ الغرة؛ وهي الخيار، ويعتبر فيها أن تساوي نصف عشر دية الأب المسلم، وهو عشر دية الأم المسلمة؛ كما روي ذلك عن عمر وعلي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ولا مخالف لهم، ولأنه لا يمكن تكميل الدية فيه؛ لعدم كمال حياته، ولا الإهدار، فقدرت بأقل دية وردت وهو الخمس في الموضحة والسنن. فإن لم توجد، أو وجدت بأكثر من ثمن المثل .. وجب خمس من الإبل، وكما روي عن زيد بن ثابت وغيره، ولأنها مقدرة بها، فإذا فقدت ... أخذ ما هي مقدرة به لا قيمته، ولأن

الإبل هي الأصل في الديات، فوجب الرجوع إليها عند تعذر المنصوص عليه، ولأن القيمة قد تبلغ دية كاملة، أو تزيد عليها، ولا سبيل إلى إيجابها. فإن فقدت الإبل .. أخذت قيمتها كما في فقد إبل الدية، فإن فقد بعضها .. أخذت قيمته مع الموجود. وفي الجنين الكتابي غرة كثلث غيرة الحنين المسلم، فيجب فيه رقيق يعدل بعيراً وثلثين، وفي الجنين المجوسي ونحوه غرة كثلث خمس غرة الجنين المسلم، فيجب رقيق يعدل ثلث بعير. ويجب في الجنين الرقيق عشر قيمة أمة وإن كانت حرة، ولو ألفت الأمة بالجناية عليها ميتاً، ثم بعد عتقها آخر .. وجب في الأول عشر قيمة الأم، وفي الثاني غرة، ويعتبر أقصى قيمتها من الجناية إلى الإجهاض، وخرج بالرقيق المبعض، فالتوزيع فيه بالحصة. وتحمل عاقلة الجاني الغرة؛ لانتفاء العمد في الجناية على الجنين وإن تعمد الجناية على أمه. وقول الناظم: (إبل) هو في الأصل اسم جمع مرفوع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي إبل، أو منصوب تتميز المئة على لغة، ووقف عليه بلغة ربيعة، وإن كان حقه أن يضاف إليه، فيكون مجروراً، وفي قوله: (وحقه) الجناس المحرف، وفي قوله: (وللكتابي) و (الكتاب): الجناس التام المماثل. [بيان الديات] (في العقل واللسان والتكلم .. وذكر والصوت والتطعم) (وكمرة: كدية النفس، وفي ... أذن أو أستماعها للأحرف) (واليد والبطش وشم المنخر ... وشفة والعين ثم البصر) (والرجل أم مشي لها أو خصية ... وأليةواللحي: نصف الدية) (وطبقة من مارن وجائفه ... ثلثها، والجفن: ربع السالفه) (لإصبع: عشر، ومنا الأنمله .. ثلث، ومن بهم، وفي المنقله) (والسن أو موضحة وهاشمه ... فنصف عشرها بلا مخاصمه) (عضو بلا منفعة معلومه .... ) والجرح لم يقدر: الحكومة) (في القتل تكفير ففرض الباري ... العتق ثم الصوم كالظهار)

[ما بدله كبدل نفس المجني عليه] أي: في إزالة العقل دية كدية نفس صاحبه؛ لخبر البيهقي (في العقل الدية) ولأنه أشرف المعاني وبه يتميز الإنسان عن البهيمة، ونقل ابن المنذر فيه الإجماع، والمراد العقل الغريزي الذي به التكليف، دون المكتسب الذي به حسن التصرف، ففيه الحكومة. ومحل ما ذكر: إذا تحقق أهل الخبرة عدم عوده، فإن توقعوه انتظر إن قدروا مدة لا يظن انقراض العمر قبل فراغها، فإن مات قبل الاستقامة .. وجبت ديته، ويأتي ما ذكر في سائر المعاني. ولو نقص وأمكن ضبطه بالزمن أو بغيره .. وجب قسطه، وإلا فحكومة. ولو ادعى وليه زوال عقله وأنكره الجان: فإن لم ينتظم قوله وفعله في خلواته .. فله دية بلا يمين، وإلا صدق الجاني بيمنه. وفي قطع اللسن أو إشلاله من ناطق دية كدية نفس صاحبه؛ لخبر عمرو بن حزم: «وفي اللسان الدية» رواه أبو داوود وغيره. وشمل كلام الناظم: لسان الألكن والأرت، والألثغ والطفل وإن لم يبلغ أو أن النطق، فإن بلغه ولم ينطق .. لم تجب إلا الحكومة؛ كقطع لسان الأخرس. وشمل كلامه أيضا: لسان من تعذر نطقه لا لخلل في لسانه، بل لكونه ولد أصم فلم يحسن الكلام؛ لأنه لم يسمع شيئاً ففيه الدية، وقد جزم به صاحب «الأنوار» وقيل: فيه الحكومة: ورجحه الأذرعي والزركشي، وهما وجهان في «الروضة» و «أصلها» بلا ترجيح وفي إبطال التكلم بالجناية على اللسان مثلاً دية كدية نفس صاحبه، لخبر البيهقي: «في اللسان الدية إن منع الكلام» ونقل الشافعي فيه الإجماع، ولأنه عضو مضمون بالدية فكذا منفعته العظمى كاليد، فإن أخذت ديته فعاد .. ردت.

ولو أبطل نقطه بقطع لسانه. لزمه دية واحدة، وفي إبطال بعض الحروف قسطه إن كان في الباقي كلام مفهوم، وإلا .. فالدية، والموزع عليها ثمانية وعشرون حرفاً، ولو عجز عن بعضها بغير جناية ... كملت الدية في إبطال كلامه. وفي قطع الذكر أو إشلاله دية كدية نفس صاحبه؛ لخبر عمرو بن حزم: «في الذكر الدية» رواه أبو داوود والنسائي وابن حبان والحاكم. وشمل كلامه: الصغير والشيخ والعنين. وفي إبطال الصوت مع إبقاء اللسان على اعتداله وتمكنه من التقطيع والترديد دية كدية نفس صاحبه، روى البيهقي عن زيد بن أسلم قال: (مضت السنة في الصوت إذا انقطع بالدية)، وهذا من الصحابي في حكم المرفوع، ولأنه من المنافع المقصودة، فلو أبطل صوته وحركة لسانه فعجز عن التقطيع والترديد .. فديتان؛ لأنهما منفعتان في كل منها دية. وفي إبطال التطعم وهو الذوق دية كدية نفس صاحبه؛ كغيره من الحواس، وتدرك به حلاوة وحموضة، ومرارة وملوحة وعذوبة، وتوزع الدية عليها، فإن نقص الإدراك .. فحكومة .. فلو أبطل مع الذوق النطق، وجب ديتان؛ لاختلاف المنفعة ولاختلاف المحل، فالذوق في طرف الحلقوم والنطق في اللسان، ذكره الرافعي عن المتولي وأقره، وجز به في «أصل الروضة» ونقله الولي العراقي عن الأصحاب، لكن جزم الرافعي في موضع آخر بأن الذوق في اللسان، وجزم به جماعة منهم ابن جماعة شارح «المفتاح» وجميع الحكماء، وقال الزنجاني والنشائي وغيرهما: إنه المشهور، وعليه قال بعضهم: ينبغي أن يكون كالنطق مع اللسان فتجب دية واحدة للسان. وفي الكمرة- أي: الحشفة: دية كدية نفس صاحبها؛ لأن معظم منافع الذكر وهي لذة الجماع تتعلق بها، وأحكام الوطء تدور عليها، وهي مع الذكر كالأصابع مع الكف، ولو قطع بعضها وزعت الدية عليها، لا على الذكر كالمارن والحلمة، وتجب الدية أيضا في المضغ، وفي إبطال قوة الإمناء بكسر الصلب أو بغيره، وفي إبطال قوة الإحبال، وفي إبطال لذة

الجماع، وفي إبطال لذة الطعام، وفي إفضاء المرأة من الزوج وغيره؛ وهو رفع الحاجز بين مدخل الذكر والدبر. [ما بدله كنصف دية صاحبه] ولما فرغ من بيان ما بدله كبدل نفس المجني عليه ... شرع في بيان ما بدله كنصف بدلها اللازم منه ما بدله مع مثله كبدلها فقال: (وفي أذن): أي في قطعها أو قلعها أو إشلالها نصف الدية؛ لخبر عمرو بن حزم (وفي الأذن خمسون من الإبل) وعن عمرو وعلي: «في الأذنين الدية» ولأن فيها مع الجمال منفعتين: جمع الصوت ليتأدى إلى محل السماع، ودفع الهوام؛ لأن صاحبها يحس بسبب معاطفها بدبيب الهوام فيطردها، وهذه هي المنفعة المعتبرة في إيجاب الدية وإن عللوا قطع الأذن الصحيحة بالشلاء ببقاء الجمال ومنفعة جمع الصوت، وفي إبطال سماع أذن واحدة نصف دية صاحبها، لا لتعدد السمع؛ فإنه واحد وإنما التعدد في منفذه، بخلاف ضوء البصر، إذ تلك اللطيفة متعددة ومحلها الحدقة، وبل لأن ضبط نقصانه بالمنفعة أقرب منه بغيره، وفي إبطال السمع من الأذنين الدية؛ لخبر البيهقي: «في السمع الدية» ونقل ابن المنذر فيه الإجماع. ولو أزال أذنيه وسمعه .. فديتان، ولو ادعى زواله وانزعج للصياح في نوم وغفلة .. حلف الجاني، وإلا .. حلف وأخذ دية، وإن نقص .. فقسطه إن عرف قدره، وإلا .. فحكومة باجتهاد قاض، وإن نقص من أذن .. سدت، وضبط منتهى سماع الأخرى ثم عكس، ووجب قسط التفاوت من الدية. وفي كل يد نصف دية صاحبها إن قطعت من كف، روى النسائي وغيره من خبر عمرو بن حزم: «في اليد الواحدة نصف الدية»، فإن قطعت من فوقه ... فحكومة أيضا، وفي إبطال بطش كل يد نصف دية صاحبها؛ لأنه من النافع المقصودة. وفي إزالة شم المنخر الواحد بالجناية على الرأس، أو غيره نصف دية صاحبه، وفي إزالة

شم المنخرين دية صاحبهما، ذكروا فيه خبر عمرو بن حزم: «في الشم الدية» وهو غريب، ولأنه من الحواس التي هي طلائع البدن فكان كغيره منها، وإن نقص وعلم قدر الذاهب .. وجب قسطه، وإلا .. فحكومة. وقوله: (المنخر) بفتح الميم وكسرها مع كسر الخاء فيهما. وفي قطع كل شفة أو إشلالها نصف دية صاحبها، سواء السفلى والعليا وإن تفاوت نفعهما؛ كما في اليدين والأصابع، ولأن فيهما جمالاً ومنفعة ظاهرة، وفي الشفتين الدية، لخبر عمرو بن حزم: «وفي الشفتين الدية» رواه النسائي وابن حبان والحاكم، وحدها في العرض إلى الشدقين وفي الطول إلى ما يستر لحم الأنسان. وفي قلع العين الباصرة نصف دية صاحبها؛ لخبر عمرو بن حزم: «في العين خمسون من الإبل» رواه مالك، وخبره أيضا: «في العينين الدية» رواه النسائي وابن حبان والحاكم، ونقل ابن المنذر فيه الإجماع ولو كانت جهراء؛ وهي التي لا تبصر في الشمس، أو حولاء؛ وهي التي كأنها ترى غير ما تراه، أو عمشاء؛ وهي ضعيفة الرؤية مع سيلان الدمع غالباً، أو عشياء؛ وهي التي لا تبصر ليلاً، أو خفشاء، وهي صغيرة ضعيفة البصر خلقة، ويقال: هي التي تبصر ليلاً فقط، أو بها بياض لا ينقص الضوء؛ لأن المنفعة باقية، ولا نظر إلى مقدارها كمنفعة المشي، أما إذا نقص الضوء .. فقسط إن انضبط النقص بالاعتبار بالصحيحة التي لا بياض فيها، فإن لم ينضبط .. فحكومة، وسواء أكان البياض على البياض أم السواد أم الناظر. وفي إبطال بصر العين نصف دية صاحبه، وفي إبطال بصر العينين الدية، ذكروا فيه خبر معاذ: «في البصر الدية» وهو غريب، ولأنه من المنافع المقصودة، سواء الأحول والأعمش والأعشى وغيرهم، فلو فقأ العين .. لم تتعدد الدية، ولو ادعى زواله وأنكره الجاني ... سئل أهل الخبرة فإنهم إذا وقفوا الشخص في مقابلة عين الشمس ونظروا في عينه ... عرفوا أن البصر قائم أو ذاهب، ثم يمتحن بتقريب عقرب أو حديدة بغتة، ونظر هل ينزعج أو

لا؟ فإن انزعج .. فالقول قول الجاني بيمينه، وإلا .. فقول المجني عليه بيمينه، وإن نقص فكالسمع. وفي قطع الرجل من القدم نصف دية صاحبها، فإن قطعت من فوقه .... فحكومة أيضا، وفي الرجلين الدية، وفي إبطال مشي الرجل الواحدة نصف دية صاحبها، وفي إيطال مشيها الدية. وفي الخصية- بضم الخاء أفصح من كسرها: وهي البيضة- نصف دية صاحبها، سواء أقطعها أم أشلها، أو دقها بحيث زالت منفعتها، وفي الخصيتين الدية، لخبر عمرو بن حزم: «وفي الأنثيين الدية» رواه أبو داودد والنسائي وابن حبان والحاكم. وفي الألية- وهي الناتئ عن البدن عند استواء الظهر والفخذ- نصف دية صاحبها وإن لم يصل القطع إلى العظم، وفي الأليتين الدية؛ كالخصيين سواء فيه الرجل والمرأة، ولو قطع بعض أحدهما .. وجب قسطه إن عرف قدره، وإلا .. فحكومة. وفي إزالة اللحي- بفتح اللام أفصح من كسرها- نصف دية صاحبه؛ لأن فيه جمالاً ومنفعة وإشلاله كإزالته، وفي اللحيين- وهما منبت الأسنان السفلى وملتقاهما الذقن- الدية، ولو كان عليهما الأسنان كما هو الغالب .. وجب مع ديتهما أروش الأسنان على الأصح، ولو فكهما أو أشلهما لزمه ديتهما وفي حلمة الأنثى- وهو رأس الثدي- نصف ديتها، سواء أقطعها أم أشلها؛ لأن منفعة الإرضاع لها كمنفعة اليد بالأصابع، وفي الحلمتين الدية، ولو قطع الثدي مع الحلمة .. لم يجب إلا الدية، وتدخل فيها حكومة الثدي كالكف مع الأصابع، أما حلمة غيرها .. ففيها الحكومة وفي قطع شفرها أو إشلاله نصف ديتها كالخصية، وفي الشفرين الدية كالخصيتين، سواء شفر الرتقاء والقرناء وغيرهما؛ لأن النقصان فيهما ليس في الشفر، بل في داخل الفرج. [ما بدله كثلث دية صاحبه] ثم أخذ في بيان ما بدله كثلث دية صاحبه فقال: (وطبقة من مارن) وهو ما لان من الأنف، وهو ثلاث طبقات: طرفان ووترة حاجزة بينهما، ثلث دية صاحبها سواء أقطعها أم أشلها؛ لأن في كل منها جمالاً ومنفعة، وفي المارن الدية؛ لخبر عمرو بن حزم: «وفي الأنف إذا

استؤصل المارن الدية الكاملة» رواه البيهقي، سواء في ذلك الأخشم والسليم، ولا يزاد بقطع القصبة معه شيء، وتندرج حكومتها في ديته في الأصح. وفي جائفة ثلث دية صاحبها؛ لخبر عمرو بن حزم بذلك رواه النسائي وابن حبان والحاكم، وهي جرح ينفذ إلى جوف فيه قوة تحيل الغذاء والدواء؛ كبطن وصدر وثغرة نحر، وجبين وخاصرة ونحوها، بخلاف الفم والأنف واللحي ونحوها؛ لأنها ليست من الأجواف الباطنة؛ بدليل أنه لا يحصل الفطر بما يصل إليها، ولأنه لا يعظم فيها الخطر كتلك، وبخلاف العين وممر البول من الذكر ونحوهما؛ إذ ليس فيها قوة تحيل الغذاء والدواء. [ما بدله كربع دية صاحبه] ثم بين ما بدله كربع دية صاحبه فقال: (والجفن) أي: في الجفن الواحد من الأجفان الأربعة ربع دية صاحبه وإن كان لأعمى، سواء أقطعه أم أشله، وفي الأربعة الدية؛ لأن فيها جمالاً ومنفعة، وفي جفنين نصف الدية؛ لأن كل متعدد من الأعضاء تجب في جنسه الدية توزع على عدده؛ كاليدين والرجلين والأصابع. [ما بدله كعشر دية صاحبة] ثم بين ما بدله كعشر دية صاحبه فقال: (لإصبع عشر) أي: لكل إصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر دية صاحبه، ففي إصبع الذكر المسلم عشرة أبعرة، روى النسائي وغيره من خبر عمرو بن حزم: «وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل» ومن الإصبع الأنملة لغير الإبهام لها ثلث من العشر؛ لأن واجب غير الإبهام التي هي ثلاث أنامل عشر الدية. [ما بدله كنصف عشر دية صاحبه] ثم أخذ في بيان ما بدله كنصف عشر دية صاحبه فقال: (ومن بهم) أي: والأنملة من بهم- بفتح الباء؛ وهي الإبهام- نصف عشر دية صاحبها؛ لأن واجب الإبهام التي هي أنملتان عشر الدية. وفي كل من الموضحة: وهي التي توضح العظم، والهاشمة: وهي التي تهشمه، والمنقلة: وهي التي تنقله، أي: إذا كان كل منها في الرأس أو الوجه .. نصف عشر دية

صاحبها؛ لما رواه الترمذي وحسنه: «في الموضحة خمس من الإبل» مع ما روي عن زيد بن ثابت: (أنه صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة؛ أي: مع الإيضاح عشراً من الإبل» رواه الدارقطني والبيهقي موقوفاً على زيد، وما رواه أبو داودد والنسائي وابن حبان والحاكم في خبر عمرو بن حزم: «وفي المنقلة- أي: من الموضحة والهاشمة- خمس عشرة من الإبل». والمراد هنا بـ (عظم الرأس والوجه) عظم سائر البدن، فلا تقدير فيه؛ لأن أدلة ذلك لا تشمله؛ لاختصاص أسماء الثلاثة المذكورة بجراحة الرأس والوجه، وليس غيرهما في معناهما؛ لزيادة الخطر والقبح فيهما. وفي السن؛ أي: ممن سقطت رواضعه ثم نبتت، أو ظهر فساد منبتها بالجناية نصف عشر دية صاحبه، لخبر عبد الله بن عمرو بن العاص: «في كل سن خمس من الإبل» رواه أبو داوود وخبر عمرو بن حزم: «وفي السن خمس من الإبل» رواه أبو داوود والنسائي وابن حبان، سواء أكسر الظاهر منها دون أصلها المستتر باللحم، أم قلعها به، وساء أكانت صغيرة أم كبيرة، ثابته أم متحركة. نعم؛ إن أبطل نفعها .. ففيها الحكومة، فلو قلعها كلها، وعدتها في الغالب ثنتان وثلاثون ... فبحسابه وإن اتحد الجاني والجناية، وكذا إن زاد على ثنتين وثلاثين، وفي السن الشاغية الحكومة. [ما تجب فيه الحكومة] قوله: (عضو بلا منفعة) البيت؛ يعني تجب الحكومة؛ وهي جزء نسبته إلى دية النفس نسبة نقص الجناية من قيمته لو كان رقيقاً بصفاته، فمن ذلك قطع عضو لا منفعة فيه، بأن

وجملة شجاج الرأس والوجه عشر: حارصة؛ وهي ما شق الجلد قليلاً، ودامية تدميه من غير سيلان دم، وقيل: معه، وباضعة تقطع اللحم، ومتلاحمة تغوص فيه، وسمحق تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم، وموضحة وهاشمة ومنقلة وتقدم بيانها وحكمها، ومأمومة تبلغ خريطة الدماغ، ودامغة تخرقها، وفي كل منهما ثلث الدية كما علم من قوله: (وجائفة)، ففي هذه الشجاع ما عدا الخنسة المذكورة الحكومة. كما تجب الحكومة في جراحة ما عدا الرأس والوجه، ثم إن كانت الحكومة لطرف له أرش مقدر .. اشترط ألا تبلغ مقدره، فإن بلغته .. نقص القاضي شيئاً باجتهاده. قال الإمام: ولا يكفي حط أقل متمول، ويقوم بعد اندماله، فإن لم يبق نقص اعتبر أقرب نقص إلى الاندمال، فإن لم يبق نقص .. أوجب الحاكم شيئاً باجتهاد على وجهين رجحه بعض المتأخيرين. [وجوب الكفارة في القتل] ويجب في القتل كفارة، قال تعالى: {من قتل مؤمناً خطئا فتحرير رقبة مؤمنة} وغير الخطأ أولى منه، وروى أبو داوود وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال: «أعتقوا عنه رقبة .. يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار» وخرج ب (القتل): الأطراف والجراحات فلا كفارة فيها، لورود النص بها في قتل النفس، وليس غيرها في معناه، فتجب الكفارة على القاتل وإن كان صبياً أو مجنوناً، فتجب في مالهما فيعتق الولي منه، فلو أعتق من مال نفسه عنهما: فإن كان أباً أو جداً. جاز، أو عبداً .. فيكفر بالصوم، أو مياً فتكفيره بالعتق، بأن يسلم عبده فيعتقه، وسواء أكان القتل عمداً أم خطأ أم شبه عمد، مباشرة أم سببا. ويشترط لوجبها: أن يكون آدمياً معصوماً بإيمان أو أمان، فتجب بقتل مسلم ولو بدار الحرب، وذمي ومعاهد، ومستأمن وجنين، ورقيق نفسه ونفسه، ولا تجب بقتل الحربي، ولا بتقل نساء أهل الحرب وصبيانهم؛ لعدم ضمانهم، وتحريم قتلهم لحق الغانمين لا لحق الله

تعالى، ولا بقتل صائل دفعاً، ولا بقتل باغ عادلاً وعكسه، ولا على الجلاد القاتل بأمر الإمام ظلماً وهو جاهل به؛ لأنه سيف الإمام وآله سياسته، ولا على العائن؛ لأن العين لا تفضي إلى القتل اختيارً أو لا تعد من أسباب التلف. وعلى كل من الشركاء في القتل كفارة، لأن كلاً منهم قاتل وهي لا تتجزأ. وكفارة القتل؛ ككفارة الظهار في أن من قدر على إعتاق رقبة مؤمنة سليمة من عيب يخل بالعمل فاضلة عن كفايته .. لزمه، ومن لم يقدر عليه .. صام شهرين متتابعين؛ كما تقدم في الظهار، ولا إطعام فيها اقتصاراً على الوارد فيها من إعتاق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد .. فصيام شهرين متتابعين، ولا يحمل المطلق هنا على المقيد في كفارة الظهار الوارد فيها: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا} كما في (الأيمان) لأن هذا في أصل وذاك في وصف.

باب دعوى القتل

باب دعوى القتل (إن قارنت دعواه لوث: سمعت ... وهي قرينة لظن غلبت) (يحلف خمسين يميناً مدعي ... ودية العمد على جان دعي) (فإن يكن عن اليمين امتنعا ... حلفها الذي عليه يدعى) [ما يعتبر في دعوى القتل] يعتبر في دعوى القتل تفصيل ما يدعيه من عمد وخطأ وشبه عمد، وانفراد وشركة، فإن أطلق .. استحب للقاضي أن يستفصله، وأن يعين المدعى عليه، فلو قال: قتله أحدهم .. لم تسمع، وألا يكذبها الحس، فلو ذكر جماعة لا يتصور اجتماعهم على القتل .. لم تسمع، وألا تتناقض، فلو ادعى انفراد شخص بالقتل ثم ادعى على آخر. لم تسمع، وأن يكون كل من المدعي والمدعي عليه مكلفاً. ويعتبر في تحليف المدعي القتل كونه بمحل لوث وهو قرينة تغلب الظن بصدق المدعي، كأن وجد قتيل في محلة، أو قرية صغيرة لأعدائه، وألا يساكنهم غيرهم، أو تفرق عنه جمع محصورنز ولو تقاتل صفان وانكشفا عن قتيل: فإن التحم قتال، أو وصل سلاح أحد الصفين للآخر .. فلوث في حق الصف الآخر، وإلا ... فلوث في حق أهل صفه، وشهادة العبيد أو النساء لوث وكذا قول فسقة وصبيان وكفار. [لو قارنت دعوى القتل لوثاً] فإذا قارنت دعوى مدعي القتل لوثاً. حلف خمسين يميناً؛ لخبر سهل بن [أبي] حثمة في «الصحيحين» بذلك، وهو مخصص لخبر البيهقي: «البينة على المدعي». ومقتضى إطلاق الناظم: أنه لا يشترط موالاتها، وهو كذلك؛ لأنها حجة كالشهادة فجوز

تفريقها في خمسين يوماً، وأنه لو تخللها جنون أو إغماء .. بنى وهو كذلك، بخلاف ما إذا مات في أثنائها، أو عزل القاضي، أو مات في أثنائها. ولو كان للقتيل ورثة .. وزعت الخمسون بحسب الإرث؛ لأن الذي يثبت بأيمانهم يقسم عليهم كذلك، وجبر الكسر؛ لأن اليمين الواحدة لا تتبعض. ولو نكل أحدهما .. حلف الآخر خمسين؛ لأن الدية لا تستحق بأقل منها، وأخذ صحته، ولو غاب .. حلف الآخر خمسين وأخذ حصته، وإلا .. صبر للغائب حتى يحضر فيحلف معه ما يخصه، ولو حضر الغائب بعد حلفه .. حلف خمساً وعشرين؛ كما لو كان حاضراً. ولو كان الوارث غير حائز. حلف خمسين، ففي زوجة وبنت: تحلف الزوجة عشرا والبنت أربعين. ويمين المدعي عليه بلا لوث، والمردودة منه على المدعي، أو المردودة من المدعي على المدعى عليه مع لوث، واليمين مع شاهد خمسون. أما في الأولى ... فلأنها يمين مسموعة في دعوى القتل فتعددت؛ كما إذا كان ثم لوث .. فإن التعدد ليس للوث، بل لحرمة الدم، واللوث إنما يفيد البداءة بالمدعي، وأما في البقية. فلأنها يمين دم. قوله: (ودية العمد) أي: ودية العمد إذا حلف المدعي واجبة على الجانب المدعى عليه، ولا قصاص عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أطلق إيجاب الدية حيث قال: «إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب» فإن نكل المدعي عن كل الأيمان، أو عن بعضها لو يميناً واحدة .. حلف المدعى عليه الخمسين يميناً إن كان واحداً، وإن كانوا جماعة .. حلف كل واحد خمسين، بخلاف تعدد المدعى، والفرق: أن كل واحد من المدعى عليهم ينفي عن نفسه القتل كما ينفيه من انفرد، وأن كل واحد من المدعين لا يثبت لنفسه ما يثبته الواحد لو انفرد. وإذا حلف المدعى عليه .. لم يطالب بشيء، وأما إذا حلف المدعي في قتل الخطأ أو شبه العمد .. فالدية على العاقلة مخففة في الأول مغلظة في الثاني كما مر. والألف في قول الناظم: (امتنعا) للإطلاق.

باب البغاة

باب البغاة جمع باغ، سموا بذلك لمجاوزتهم الحد، وقيل: لطلب الاستعلاء. والأصل فيه: قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} الآية: وليس فيها ذكر الخروج على الإمام، لكنها تشمله لعمومها، أو تقتضيه؛ لأنه إذا طلب القتال لبغي طائفة على طائفة .. فللبغي على الإمام أولى، وأجمعت الصحابة على قتالهم، قال في «الروضة» ك «أصلها» وقتالهم واجب، فإن رجعوا إلى الطاعة .. قبلت توبتهم وترك قتالهم. وأطلق الأصحاب أن البغي ليس باسم ذم، وأن البغاة ليسوا فسقة كما أنهم ليسوا كفرة، لكنهم مخطئون في تأويلهم، وبعضهم سماهم عصاة وقال: ليس كل معصية فسقاً، وعلى الأول: فالتشديدات في مخالفة الإمام؛ كخبر «من حمل علينا السلاح .. فليس منه» وخبر «من فارق الجماعة قيد شبر .. فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» محمولة على المخالف بلا عذر ولا تأويل. (مخالفو الإمام إذا تأولوا ... شيئاً يسوغ وهو ظن باطل) (مع شوكة يمكنها المقاومة ... له مع المنع لأشيا لازمه) (ولم يقاتل مدبر منهم، ولا ... جريحهم ولا أسير حصلا) (وعند أمن العود إذ تفرقوا ... عند انقضا الحرب الأسير يطلق) (ومالهم يرد بعد الحرب ... في الحال، واستعماله كالغضب) [تعريف البغاة] أي: البغاة: / مخالفو الإمام الأعظم بخروج عليه وترك الانقياد له، أو منع حق توجه عليهم، سواء أكان قصاصا أم حدا أم مالاً لا كالزكاة، وهذا معنى قوله: (مع المنع لأشيا لازمه) وسواء أنصبت لها إماماً لا، وسواء أكان إمامنا عادلاً أم جائزاً؛ لأنه لا ينعزل بالجور.

وقوله: (إذا تأولوا) أي: لأجل أن تأولوا تأويلاً يسوغ تأويله، ويعتقدون به جواز الخروج على الإمام وهو ظني البطلان؛ كتأويل الخارجين على علي رضي الله تعالى عنه؛ بأنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم، ولا يتقص منهم، لمواطأته إياهم، وتأويل بعض مانعي الزكاة عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن صلاته سكن لهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج بذلك المخالفون بغير تأويل؛ كمانعي حق الشرع كالزكاة عناداً، أو بتأويل باطل قطعاً؛ كتأويل المرتدين فليسوا كالبغاة، وكذا الخوارج: وهم صنف من المبتدعة يكفرون من أتى كبيرة، ويطعنون بذلك في الأئمة، ولا يحضرون معهم الجمعة والجماعات، وحكمهم: أنهم إن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الإمام. تركوا. نعم؛ إن تضررنا بهم .. تعرضنا لهم حتى يزول الضرر، ثم إن صرحوا بسبب الإمام أو أحد منا .. عزرو، وإن عرضوا به .. فلا، وإن قاتلوا. ز فهم فسقة وأصحاب نهب، فحكمهم حكم قطاع الطريق إن قصدوا إخافة الطريقة، ومع شوكة لهم بحيث يمكنهم معها المقاومة للإمام، ويحتاج الإمام إلى احتمال كلفة، من بذلك مال وإعداد رجال، ونصب قتال؛ ليردهم إلى الطاعة. واكتفى الناظم بالشوكة عن اشتراط مطاع فيهم؛ لأنها لا تحصل إذا لم يكن لهم متبوع مطاع؛ إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع، وخرج بذلك ما إذا كانوا أفراداً يسهل الظفر بهم فليسوا بغاة؛ لأن ابن ملجم قتل علياً رضي الله عنه؛ متأولاً بأنه وكيل امرأة قتل علي أباها فاقتص منه، ولم يعط حكمهم في سقوط القصاص. وللبغاة حكم أهل العدل في قبول شهادتهم، ونفوذ قضاء قاضيهم، والحكم بسماع قاضيهم البينة، واستيفائهم حقوق الله تعالى وحقوق العباد، وصرفيهم سهم المرتزقة إلى جندهم، وعدم ضمانهم ما أتلفوه بسبب القتال من نفس أو مال، وحكم ذي الشوكة بلا تأويل حكم البغاة في الضمان. [قتال البغاة] ويجب على الإمام ألا يقاتلهم حتى ينذرهم، وينبغي أن يبعث إليهم أميناً فطناً ناصحاً يسألهم ما يكرهون، فإن ذكروا مظلمة أو شبهة، أزالها، فإن أصروا بعد الإزالة .. وعظهم وأمرهم بالعود إلى الطاعة، ثم أعلمهم بالقتال، فإن استمهلوا فيه، اجتهد في الإمهال وعدمه، وفعل ما رآه صوابا منهما، فإن ظهر له أن استمهالهم للتأمل في إزالة الشبهة .. أمهلهم، أو لاستلحاق مدد. لم يمهلهم.

وإذا قاتلهم .. دفعهم بالأخف فالأخف، فإن أمكن أسر. فلا قتل، أوإثخان .. فلا تذفيف، فإن التحم الحرب، أو اشتد الخوف دفعهم بما أمكن، ويلزم الواحد منا مصابرة اثنين من البغاة، ولا يولي عنهما إلا متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة، ولا يقاتل- إذا وقع قتال- مدبر منهم، للنهي عنه كما رواه البيهقي والحاكم. وشمل تعبيره ب (المدبر): من تحيز إلى فئة بعيدة، أو أعرض من القتال، أو بطلت قوته، أما ولى متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة قريبة .. فإنه يتبع ويقاتل، وكذا لو ولا مجتمعين تحت راية زعيمهم. ولا يتق لجريحهم ولا أسيرهم؛ للنهي عنه، ولو قتل رجل منا أسيرهم. فالأصح في «الروضة»: أنه لا قود؛ لشبهة تجويز أبي حنيفة قتله، وحكاه في «البحر» عن النص، وحكي فيه أيضا: أنه لا قود على قاتل المدبر، ومذفف الجريح كذلك أيضا، ويطلق أسيرهم؛ أي: الصالح للقتال، سواء أكان أم غيره؛ كمراهق وعبد عند أمن عودهم عند انقضاء الحرب، أما غير الصالح للقتال؛ كالمرأة والصبي غير المراهق .. فيطلق بعد انقضاء الحرب وإن لم تؤمن غائلتهم. نعم؛ إن قاتلت النساء. فكالرجال لا يطلقن إلا بعد أمن غائلتهم، ويرد إليهم مالهم من خيل وسلاح وغيرهما إذا انقضت الحرب، وأمنت غائلتهم بعودهم إلى الطاعة، أو تفرق جمعهم في الحال من غير تأخير، ولا يستعمل مالهم كخيلهم وسلاحهم في قتال ولا في غيره؛ لأنه استعماله كاستعمال المغصوب من غيرهم إلا لضرورة؛ بأن لم يجد أحدنا ما يدفع به عن نفسه إلا سلاحهم، أو ما يركبه وقد وقعت هزيمة إلا خيلهم. ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق إلا لضرورة؛ بأن قاتلوا به واحتجنا إلى المقاتلة بمثله دفعاً، أو أحاطوا بنا واحتجنا في دفعهم إلى ذلك، ولا يستعان عليهم بكافر؛ لأنه يحرم تسليطه على المسلم، ولا بمن يرى قتلهم مدبرين كالحنفي إبقاء عليهم، فإن احتجنا إلى الاستعانة بهم .. جازت إن كان فيهم جرأة وحسن إقدام، وكنا نتمكن من منعهم لو اتبعوهم، قاله في «الروضة» و «أصلها».

زاد الماوردي: وشرطنا عليهم: ألا يتبعوا ندبراً، ولا يتقلوا جريحاً، ونثق بوفائهم بذلك، ولو استعانوا علينا بأهل حرب، وعقدوا لهم أماناً ليقاتلونا معهم .. لم ينفذ أمانهم علينا، ونفذ عليهم في الأصح، فلنا اغتنام أموالهم وقتلهم وإرقاقهم، وسبي نسائهم وذراريهم، بخلاف البغاة، وإذا أتلفوا علينا مالاً أو نفساً، لم يضمنوه؛ لأنهم أهل حرب، وإن أتلفوه على البغاة .. لزمهم ضمانه. نعم؛ إن قالوا: ظننا أن الحق معهم وأن لنا إعانة المحق، أو ظننا جواز إعانتهم، أو أنهم استعانوا بنا في قتال كفار وأمكن صدقهم في ذلك .. قاتلناهم كقتال البغاة، ونبلغهم المأمن، ولو أعانهم أهل الذمة عالمين بتحريم قتالنا مختارين فيه .. انتقض عهدهم، أو مكرهين .. فلا. [شرط الإمام] وشرط الإمام: كونه مسلما مكلفا حرا، ذكرا عدلا قرشيا، مجتهدا شجاعا سميعا بصيراً، ناطقاً كافياً، سليماً من نقص يمنع استيفاء الحركة وسرعة النهوض، ولا يؤثر العشا ولا ضعف البصر الذي لا يمنع معرفة الأشخاص، ولا فقد الشم والذوق، ولا قطع الذكر والأنثيين. والإمامة فرض كفاية، فإن لم يصلح لها إلا واحد ... تعين عليه طلبها إن لم يبتدئوه، وتنعقد ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء، ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم، ويشترط فيهم صفة الشهود، ولا يشترط عدد، حتى لو تعلق الحل والعقد بواحد .. كفى، وباستخلاف الإمام قبله، فلو جعل الأمر شورى بين جمع .. فكاستخلاف، فيرتضون أحدهم، وباستيلاء جامع الشروط، وكذا فاسق وجاهل. وقول الناظم: (لأشيا) بالقصر للوزن، وكذا قوله: (انقضا)، والألف في قوله (حصلا) للإطلاق.

باب الردة

باب الردة هي لغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره، وشرعاً: ما سيأتي؛ وهي أفحش أنواع الكفر وأغلظها حكماً؛ لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} الآية، ولقوله تعالى: {ومن يبتغ الإسلام دينا فلن يقبل منه} ولخبر البخاري: «من بدل دينه .. فاقتلوه». (كفر المكلف اختيارً ذي هدى .. ولو لفرض من صلاة حجا) (وتجب استتابة، لن يمهلا ... إن لم يتب فواجب أن يقتلا) (من دون جحد عامداً ما صلى ... عن وقت جمع استتب، فالقتلا) (بالسيف حداً، بعد ذا صلاتنا ... عليه ثم الدفن في قبورنا) فيها أربع مسائل: [تعريف الردة شرعاً] الأولى: الردة شرعاً: كفر المكلف المسلم المختار بنية كفر، أو قول مكفر، أو فعل مكفر، سواء في القول أكان استهزاء أم عناداً أم اعتقاداً؛ كأن تردد في الكفر، أو عزم عليه في المستقبل، أو اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو كذب رسولاً، أو حلل محرماً بالإجماع معلوماً من الدين بالضرورة كالزنا، أو حرم حلالاً بالإجماع معلوماً من الدين بالضرورة كالنكاح، أو جحد وجوب مجمع عليه معلوماً من الدين بالضرورة؛ كركعة من الصلوات الخمس، وقد أشار إليه الناظم بقوله: (ولو لفرض من صلاة جحداً) أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كذلك، كصلاة سادسة، أو ألقى مصحفا بقاذورة، أو سجد لصنم أو شمس، أو قذف عائشة رضي الله تعالى عنها، أو ادعى نبوة بعد نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، أو صدق مدعيها، أو استخف باسم الله أو رسوله، أو رضي بالكفر أو أشار به.

[استتابة المرتد قبل قتله] الثانية: تجب استتابة المرتد قبل قتله؛ لأنه كان محترماً بالإسلام، وربما عرضت له شبهة فتزال؛ إذ لو مات على حاله .. مات كافراً، بخلاف تارك الصلاة؛ فإنه لو مات .. مات مسلماً، في الحال بلا مهلة، فإن لم يتب .. وجب قتله؛ لخبر البخاري: «من بدل دينه .. فاقتلوه» وهو شامل للمرأة وغيرها، لأن المرأة تقتل بالزنا بعد الإحصان، فكذلك بالكفر بعد الإيمان كالرجل، وأما النهي عن قتل النساء .. فمحمول بدليل سياق خبره على الحربيات، ولكن لا يقتل المرتد في جنوبه أو سكره؛ فربما رجع، فلو قتله إنسان قبل الاستتابة .. فمسيء يعزر ولا شيء عليه، ويستحب أن تؤخر توبة السكران إلى إفاقته. قال الماوردي: ولا يدفن المرتد في مقابر المسلمين؛ لخروجه بالردة عنهم، ولا في مقابر الكفار؛ لما تقدم له من حرمة الإسلام. وإن أسلم المرتد ذكراً كان أو أنثى .. صح إسلامه، ولو كان زنديقاً يظهر الإسلام ويبطن الكفر، أو باطنياً يقول بأن للقرآن باطنا، وأنه المراد منه دون ظاهره، أو سكران أو تكررت ردته؛ لإطلاق قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا قالوها .. عصموا مني دماءهم وأموالهم»، ويعزر من تكررت ردته؛ لزيادة تهاونه بالدين. ولو أسلم من كفر بقذف نبي .. صح إسلامه، وترك كسائر المرتدين؛ قاله أبو إسحاق المرزوي، ورجحه الغزالي وغيره، وتبعه في «الحاوي الصغير» ونقله ابن المقري عن الأصحاب، وقال أبو بكر الفارسي: يصح إسلامه ويقتل حداً؛ لأن القتل حد قذف النبي صلى الله عليه وسلم، وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وادعى فيه الإجماع، ووافقه القفال،

وصوبه الدميري رحمه الله تعالى، وقال الصيدلاني: يصح إسلامه، ويجلده المحاكم ثمانين جلدة؛ لأن الردة ارتفعت بإسلامه وبقي جلده. ولابد في إسلام المرتد وغيره من الشهادتين وإن كان مقراً بإحداهما، وتكفيان ممن ينكر الرسالة إلا من خصها بالعرب .. فلا يصح إسلامه حتى يقول: (محمد رسول الله إلى جميع الخلق) أو يبرأ من كل دين يخالف الإسلام. ولو كان كفره بجحود فرض، أو استباحة محرم .. لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين ويرجع عما اعتقده، ويستحب أن يمتحن عند إسلامه بإقراراه بالبعث. [حكم تارك الصلاة] الثالثة: إذا ترك المسلم المكلف صلاة من الخمس غير جاحد وجوبها عامداً بلا عذر حتى خرج وقتها أو وقت ما تجمع معه .. استتيب قبل القتل كالمرتد؛ لأنه ليس أسوأ حالا منه، وهي في الحال، وفي قول: يمهل ثلاثة أيام، ومستحبة على الأصح في «التحقيق» وقيل: واجبة المرتد؛ وهو ظاهر قول الناظم: (استتب) بصيغة الأمر، والفرق على الأول: أن جريمة المرتد تقتضي الخلود في النار فوجبت الاستتابة؛ رجاء نجاته منه، بخلاف تارك الصلاة فإن عقوبته أخف، بل مقتضى ما قاله النووي في «فتاويه» من أن الحدود تسقط الإثم: لأنه لا يبقى عليه شيء بالكلية؛ لأنه قد حد على هذه الجريمة، والمستقبل لم يخاطب به. فإن تاب .. وجب القضاء مضيفاً، وإن لم يتب ... قتل بالسيف حداً لا كفراً؛ لأنه تعالى أمر بقتل المشركين، ثم قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمد اً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك .. عصموا مني دماءهم وأموالهم، وإلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» رواه الشيخان، قال: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن .. كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن. فليس له عند الله عهد، إن شاء .. عفا عنه، وإن شاء عذبه» رواه أبو داوود، وصححه ابن حبان وغيره، فلو كفر .. لم يدخل تحت المشيئة.

وأما خبر مسلم: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» .. فمحمول على تركها جحداً، أو على التغليظ، أو المراد: بين ما يوجبه الكفر من وجوب القتل؛ جمعاً بين الأدلة. وقد علم أنه لا يقتل بترك الظهر حتى تغرب الشمس، ولا بترك المغرب حتى يطلع الفجر، ويقتل في الصبح بطلوع الشمس، وفي العصر بغروبها، وفي العشاء بطلوع الفجر، فيطالب بأدائها إذا ضاق وقتها، ويتوعد بالقتل إن أخرجها عن الوقت، إن أصر وأخرج .. استوجب القتل. ومن ترك الصلاة ركن من أركانها، أو شرط من شروطها أجمع عليها، وقد علم أن تارك الجمعة يقتل، فإن قال: (أصليها ظهراً) .. فقال الغزالي: لا يقتل، وأقره الرافعي، وجرى عليه في «الحاوي الصغير» وزاد في «الروضة» عن الشاشي: أنه يقتل، واختاره ابن الصلاح، قال في «التحقيق»: وهو القوي. [حكم تارك الصلاة بعد قتله] الرابعة: بعد أن يقتل تارك الصلاة يغسل ويكفن، ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ولا يطمس قبره كسائر أصحاب الكبائر من المسلمين، بل أولى لما ذكرناه من سقوط الإثم بالحدود. والألف في قول الناظم: (جحداً)، و (يمهلا) و (يقتلا)، و (فالقتلا) للإطلاق، ويجوز أن تكون في (يمهلا) بدلاً من نون التوكيد الخفيفة.

باب حد الزنا

باب حد الزنا وهو رجم المحصن، وجلد غيره وتغريبه كما سيأتي، والزنا- بالقصر أفصح من مده-: هو الإيلاج الآتي بيانه، وهو محرم، قال تعالى: {ولا تقربوا الزني إنه كان فاحشة وساء سبيلا}، وأجمع أهل الملل على تحريمه؛ وهو إيلاج المكلف المختار العالم بتحريمه حشفة ذكره الأصلي المتصل، أو قدرها من مقطوعها بفرج أصلي متصل محرم لعينخ، خال عن الشبهة مشتهى. فخرج عن الإيلاج، كالمفاخذة، ومساحقة المرأتين، والإيلاج في غير فرج، أو في فرج زائد، أو مشكوك فيه أو مبان، وإيلاج دون قدر الحشفة أو قدرها من زائد، أو مشكوك فيه أو مبان؛ فلا يوجب ذلك الحد، بل التعزير. وخرج إيلاج الزوج والسيد الخالي عن الحرمة، وإيلاج شبهة الفاعل، وإيلاج غير المكلف، لأنه لا يوصف بتحريم، وإيلاج المكره والجاهل بتحريمه، والإيلاج المحرم لعارض، ولشبهة المحل والطريق وهي كل جهة أباح بها عالم، والإيلاج في البهيمة والميتة، إذ ليس فيهما إلا التعزير. (يرجم حر محصن بالوطء في ... عقد صحيح وهو ذو مكلف) (والبكر جلد مئة للحر .. ونفي عام قدر طعن القصر) والرق نصف الجلد والتغرب ... ودبر العبد زنا كالأجنبي) (ومن أتى بهيمة أو دبراً ... زوجته أو دون فرج عزراً) فيها أربع مسائل: [حد الزاني المحصن] الأولى: حد الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة: الرجم، لأمره صلى الله عليه وسلم به في الرجل والمرأة في أحاديث مسلم وغيره، وهو مكلف حر ولو ذمياً غيب حشفته بقبل في

نكاح صحيح حال حريته وتكليفه؛ لو في حيض وإحرام وبغير إنزال، فلا رجم على من فيه رق؛ لأن الجناية تتغلظ بالحرية من جهة أنها تمنع الفواحش؛ لأنها صفة كمال وشرف، والشريف يصون نفسه عما يدنس عرضه، ومن جهة أنها توسع طرق الحل؛ إذ للحر نكاح أربع ولا يحتاج فيه إلى إذن غالباً، بخلاف من فيه رق فيهما. ولا على من زنة وهو غير مكلف، لأن فعله لا يوصف بتحريم، لكن اعتبار التكليف لا يختص بالرجم، بل هو شرط في أصل الحد كما علم، وإنما اعتبر تغييبه الحشفة في نكاح صحيح؛ لأنه به قضى الشهوى، واستوفى اللذة، فحقه أن يمتنع عن الحرام، ولأنه يكمل طريق الحل بدفع البينونة بطلقة أو ردة، فلا يكتفي به في ملك اليمين والشبهة، والنكاح الفاسد؛ كما في التحليل، فاعتبروا وقوعه في حال كماله بالحرية والتكليف؛ لأنه مختص بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فاعتبر حصوله من كامل، حتى لا يرجم من غيب وهو ناقص ثم زني وهو كامل، ويرجم من كان كاملاً في الحالين، وإن تخللهما نقص كجنون ورق، فالاعتبار بالكمال في الحالين. ومقتضى كلامه: أن إحصان أحد الزوجين لا يؤثر فيه نقص الآخر، وهو كذلك. وأفهم قوله: (يرجم) أنه لا يقتل بالسيف ونحوه؛ لأن القصد التنكيل به بالرجم؛ بأن يأمر به الإمام ليحيطوا به فيرمونه من الجوانب بمدر وحجارة معتدلة، لا بحصيات خفيفة ولا بصخرة مذففة، ولا يحفر للرجل [سواء] ثبت زناه بالبينة أو بالإقرار، ويستحب للمرأة إن ثبت زناها بالبينة لا بإقرارها، ولا يؤخر لمرض وحر وبرد مفرطين وإن ثبت بإقرار؛ لأن النفس مستوفاة به. وإنما يثبت الزنا بأربعة رجال، أو إقراره، ويشترط التفسير في كل منهما. [حد الزاني غير المحصن] الثانية: حد البكر الحر: جلد مئة، وتغريب عام إلى مسافة قصر فما فوقها؛ لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} مع أخبار «الصحيحين» وغيرهما بذلك، المزيد فيها النفي على الآية. وحد الرقيق، أي: والمبعض: نصف الجلد وهو خمسون جلدة، ونصف التغريب وهو نصف سنة؛ قال تعالى في الإماء: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} وقيس

بهن العبد، والأصح في «الروضة» و «أصلها»: أنه لا يكتفي بنفي الزاني نفسه؛ لأن القصد التنكيل، وإنما يحص بنفي الإمام. وأفهم كلام الناظم: أنه يجوز تقديم النفي على الجلد، وأول مدته ابتداء السفر لا وقت وصوله إلى ما غرب إليه، وتعتبر موالاة المئة والعام، فلا يجوز تفريقهما ولو في حق ضعيف الخلق، لأن القصد التنكيل والإيحاش. نعم؛ لو جلد الزاني في يوم خمسين متوالية، وفي ثانية خمسين كذلك .. كفى؛ جزم به في «الروضة» و «أصلها» في (باب حد شارب الخمر) ووجه بأن الخمسين قدر حد الرقيق. ولا تغرب امرأة وحدها، بل مع زوج أو محرم، أو نسوة ثقات مع أمن الطريق، وعليها أجرته إذا لم يخرج إلا بها، فإن امتنع .. لم يجبر، ويغرب الغريب من بلد الزنا لا إلى بلده، ولا إلى بلد بينه وبين بلده دون مسافة القصر. ولو رجع المغرب .. رد إلى الموضع الذي غرب إليه واستؤنفت المدة. ويستوفى الحد الإمام أو نائبة فيه؛ من حر ومبعض ومكاتب، ويستحب حضور الإمام وشهود الزنا، ويحد الرقيق سيده عند الاستيفاء رجلاً كان أو امرأة، أو الإمام، فإن تنازعا فيمن يحده .. حده الإمام؛ لعموم ولايته، وروى أبو داوود والنسائي خبر: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم»، والأصح: أن السيد يغربه؛ لأن التغريب بعض الحد، والأصح: أن الفاسق والمكاتب والكافر يحدون أرقاءهم، لأنه إصلاح لملكهم. [حكم الإيلاج في الدبر] الثالثة: إيلاج الحشفة، أو قدرها في دبر عبده زناً، كإيلاجها في دبر الأجنبي ذكراً كان أو غيره، فيرجم الفاعل إن كان محصناً، ويجلد ويغرب إن لم يكن؛ لأنه زنا شرعاً؛ بدليل: «إذا أتى الرجل الرجل .. فهما زانيان» فدخل في قوله تعالى: {الزانية والزاني} وأما المفعول فيجلد ويغرب؛ إذ لا يكون محصنا، وفارق عدم حده في وطء مملوكته المحرم، بأن الملك يبيح الإتيان في القبل في الجملة، والوطء في الدبر لا يباح بحال.

وللسيد تعزيز رقيقه في حقوق الله تعالى؛ كما يؤدبه في حق نفسه وله سماع البينة بموجب العقوبة. ويؤخر الجلد للمرض المرجو البر منه، فإن لم يرج .. جلد بعثكال عليه مئة غصن، فإن كان عليه خمسون .. ضرب به مرتين وتسمه الأغصان، أو تنكبس بعضها على بعض، ليناله بعض الألم، ولو برأ بعده .. أجزأه، فإن انتفيا .. لم يسقط الحد، ويجب تأخير الجلد للحر والبرد المفرطين إلى اعتدال الوقت، لكن لو جلده الإمام فيهما فهلك .. لم يضمنه. [التعزير فيما لا حد فيه] الرابعة: من وطئ بهيمة أو دبر زوجته؛ أي: بعد ما منعه الحاكم منه، أو أتى الأجنبية فيما دون الفرج؛ كالمفاخذة ومقدمات الوطئ .. عزر، وقاعدة ذلك الأكثرية: أنه يعزر في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة- سواء أكانت من مقدمات ما فيه حد؛ كمباشرة أجنبية بغير الوطء، وسرقة ما دون النصاب، والسب والإيذاء بغير قذف، أم لم يكن؛ كشهادة الزور، والضرب بغير حق- بما يراه من ضرب أو صفع ولا يبلغ به أدنى حدود المعزر، أو حبس أو نفي لا يبلغ به سنة للحر ونصفها لغيره، أو توبيخ على ما يؤدي إليه اجتهاده من جمع، واقتصار على واحد، فعليه رعاية الترتيب والتدريج، كدفع الصائل، فلا يرقى الحاكم إلى مرتبة وهو يرى ما دونها كافياً. ولو علم أن التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح .. لم يكن له المبرح ولا غيره، أما المبرح ... فلأنه يهلك وليس له الإهلاك، وغير المبرح لا فائدة فيه. ولو عفا مستحق حد .. فلا تعزير للإمام، أو مستحق تعزير ... فللإمام التعزير، والفرق بينهما: أن الحد مقدر فلا يتعلق بنظر الإمام، فلا سبيل إلى العدول إلى غيره بعد سقوطه، والتعزير يتعلق أصله بنظر الإمام فجاز ألا يؤثر فيه إسقاط غيره. والألف في قول الناظم: (دبراً) و (عزرا) للإطلاق.

باب حد القذف

باب حد القذف بالمعجمة؛ أي: الرمي بالزنا، وهو كبيرة؛ لأية: {إن الذين يرمون المحصنات} (أوجب لرام باللواط والزنا .. جلد ثمانين لحر أحصنا) (وللرقيق النصف، عرف محصنا .... مكلفا أسلم حراً ما زنى) (وإن تقم بينة على زناه .. يسقط كأن صدق قذفاً أو عفاه) أي: أوجب على رام باللواط أو الزنا؛ كقوله لشخص: (لطت) أو (ونيت) أي: الرامي مكلف مختار غير أصل: جلد ثمانين لحر محصن، وعلى الرقيق؛ أي: والمبعض النصف، وهو أربعون جلدة؛ لقوله تعالى {فاجلدوهم ثمانين جلدة} والرقيق على النصف من الحر؛ لأنه يتبعض، والمراد بالآية: الأحرار بدليل قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} إذا العبد لا تقبل له شهادة وإن لم يقذف، فلا حد على صبي ومجنون، ويعزر المميز من صبي أو مجنون له نوع تمييز، لا على مكره، وأصل بقذف فرع وإن سفل، ذكراً كان أو أنثى؛ كما لا يقتل به، نعم؛ يعزر على النص. ولا فرق في القاذف بين المسلم والمرتد، والذمي والمعاهد، والذكر والأنثى. و(المحصن): مكلف حر مسلم لم يزن؛ أي: ولم يطأ وطئاً محرماً أبداً، فلو كان المقذوف صبياً أو مجنوناً، أو رقيقاً أو غير عفيف عن الزنا، أو الوطء المذكور .. لم يكن محصناً، فلا حد على قاذفه، بل يعزر للإيذاء. وإن قامت بينة أربعة عدول على زنا المقذوف ولو بعد القذف ... سقط الحد، بخلاف ما لو ارتد بعده؛ لأن الزنا يكتم ما أمكن، فإذا ظهر .. فالظاهر سبق مثله، والردة عقيدة، والعقائد لا تخفى/، فإظهارها لا يدل على سبق الإخفاء؛ كأن صدق المقذوف القاذف، أو عفا عن حد القذف؛ فإنه يسقط/ ولو أباح قذفه؛ كأن قال لغيره: (اقذفني) .. لم يجب الحد، ولو قذف واحداً بزنا مرتين .. لزمه حد وحد، ولو استوفى المقذوف الحد بلا حاكم، أو الحاكم بلا طلب من مستحقه .. لم يقع الموقع.

ولو شهد دون أربعة بزنا، أو ثلاث مع زوج المرأة بزناها .. حدوا؛ حذراً من الوقوع في أعراض الناس بصورة الشهادة، وكذا لو شهد أربع نسوة، أو ذميون أو عبيد، أو ثلاثة رجال وامرأة، أو عبد أو ذمي. ولو شهد أربعة من الفسقة، أو ثلاثة عدول وفاسق، أو أربعة من أعدائه، أو عدو مع ثلاثة ... فلا حد على الشهود .. ولو شهد واحد على إقراراه .. فلا حد عليه. واللام في قول الناظم: (لرام) بمعنى على، وكذا في قوله: (وللرقيق) والواو في قوله: (والزنا) بمعنى أو، وقوله: (النصف) بالنصب عطفاً على مفعول (أوجب) أو بالرفع مبتدأ خبره (للرقيق)، والألف في قوله: (أحصنا) للإطلاق.

باب السرقة

باب السرقة بفتح السين وكسر الراء، ويجوز إسكانها مع فتح السين وكسرها؛ وهي لغة: أخذ المال خفية، وشرعاً: أخذه خفية من حرز مثله بشروط تأتي، وهي كبيرة موجبة للقطع. والأصل في القطع بها قبل الإجماع: قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وغيره مما يأتي: وأركانها ثلاثة: سارق، ومسروق، سرقة، وقد أشار الناظم إليها فقال: (وواجب بسرقة المكلف .. لغير أصله وفرع: ما تفي) (قيمته بربع دينار ذهب .. ولو قراضة بغير لم يشب) (من حرز مثله، ولا شبهة فيه ... لسارق كشركة أو يدعيه) (تقطع بمناه من الكوع، فإن ... عاد لها فرجله اليسار من) (مفصلها، فإن يعد يسراه من ... يد، فإن عاد فيمناه، فإن) (يهد فتعزير بغير قتل ... ويغمس بزيت مغلي) [شرط حد السارق) الركن الأول: السارق، وشرطه التكليف؛ أي: والاختيار، والتزام الأحكام، والعلم بالتحريم، مسلماً كان أو ذمياً، رجلاً كان أو امرأة، حراً كان أو عبداً، فيقطع مسلم أو ذمي بمال مسلم أو ذمي، فلا يقطع صبي ومجنون؛ لعدم تكليفهما؛ ومكره؛ لشبهة الإكراه الدافعة للحد، وحربي ومعاهد ومستأمن؛ لعد التزامهم للأحكام، ولا يقطع مسلم ولا ذمي بسرقة مالهم. [شروط المسروق] الركن الثاني: المسروق، ويشترط فيه أمور: أحدها: كونه مملوكاً لغيره؛ فلا قطع على من سرق مال نفسه من يد المرتهن أو المستأجر، أو المستعير أو المودع، أو العامل أو الوكيل.

ثانيه: كونه لغير أصله وفرعه، فلا قطع بسرقة مال أصل وفرع للسارق، لما بينهم من الاتحاد. ثالثها: كونه تفي قيمته؛ أي: تجمع ربع دينار ذهباً مضروباً؛ بأن يكون ربعاً مضروباً خالصاً، أو تبلغ قيمته ذلك، ولو كان الذهب قراضة، أو تبراً تبلغ قيمته ربع دينا مضروب، لخبر مسلم: «لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعدا» وخبر البخاري: «تقطع اليد في ربع ديناراً فصاعدا»، أو فيما قيمته ربع دينار فصاعداً، والدينا المثقال. واحترز بقوله: (بغير لم يشب) عن المغشوش، فإنه إذا لم يبلغ خالص المسروق منه ربع دينار .. لم يقطع، والتقويم يعتبر بالمضروب، فلو سرق شيئا يساوي ربع دينا من غير المضروب؛ كالسبيكة والحلي، ولا يبلغ ربعاً مضروباً .. فلا قطع به. ولو سرق ربعاً سبيكة، أو حلياً لا يساوي ربعاً مضروباً ... فلا قطع به في الأصح؛ نظراً إلى القيمة فيما هو كالسلعة. ولو سرق خاتماً وزنه دون ربع وقيمته بالصنعة ربع .. فلا قطع به على الصحيح؛ نظراً إلى الوزن، ولو سرق دنانير ظنها فلوساً لا تساوي ربعا .. قطع ولا أثر لظنه. رابعها: كونه من حرز مثله، فلا قطع بسرقة ما ليس محرزاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع في شيء من الماشية إلا فيما آواه المراح، ومن سرق من التمر شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن .. فعليه القطع» رواه أبو داوود وغيره، ولأن الجناية تعظم بمخاطرة أخذه من الحرز، فحكم بالقطع زجراً، بخلاف ما إذا جرأة المالك ومكنه منه بتضييعه. ويختلف الحرز باختلاف الأموال والأحوال، ولم يحده الشرع ولا للغة، فرجع فيه إلى العرف؛ كالقبض والإحياء، فقد يكون الشيء حرزاً في مكان دون مكان، وفي وقت دون وقت، فلا قطع إلا بسرقة ما أحرز في موضع يستحق المحرز منفعته ولو بالعارية من السارق أو غيره، فلا قطع بسرقة من حرز مغصوب، ولا بسرقة ما أحرز مع مغصوبه، فإن كان بمسجد أو نحوه .. اشترط دوام لحاظ، ولا يقدح فيه الفترات العارضة عادة، أو بحصن كدار .. كفى

لحاظ معتاد، وإصطبل متصل بالدور حرز دواب ونحوها، وعرضة دار وصفة حرز آنية، وثياب بذلة لا ثياب نفيسة أو نحوها، وما نام عليه أو توسده .. فمحرز. وشرط الملاحظ: قدرته على منع ذلك السارق بقوة أو استغاثة، ودار منفصلة حرز بحافظ فهي حرز نهاراً زمن أمن وإغلاقها، وخيمة بصحراء محرزة بشد أطنابها وحافظ، وما فيها بشد أطنابها وإرخاء أذيالها معه. الخامس: ألا يكون للسارق فيه شبهة كشركة؛ فلا يقطع مسلم بمال المصالح، ولا مستحق للزكاة بمالها، ولا قطع بسرقة ما وهب له قبل قبضه، ولا بسرقة ما ظنه ملكه، أو ملك بعضه، أو سيده أو ادعاه. ولو سرق سيد المبعض ما ملكه بحريته .. ففي «الروضة» و «أصلها» قال القفال: لا يقطع؛ لأن ما ملكه بها في الحقيقة لجميع بدنه فصار شبهة، وقال الشيخ أبو علي: يقطع؛ لتمام ملكه كمال الشريك بعد القسمة، وجزم صاحب «الحاوي الصغير» في «عجابه» بالأول، ولا شبهة في كون المسروق مباح الأصل؛ كحطب وحشيش، ولا في الطعام عام المجاعة إن وجد ولو عزيزاً بثمن غال. ولو ادعى نقص القيمة .. لم يقطع إلا أن تقوم البينة بخلافه، ولو ملك السارق المسروق قبل الرفع إلى الحاكم .. فلا قطع؛ لتوقفه على طلب المسروق منه وقد تعذر. [بيان السرقة] الركن الثالث: السرقة: وهي أخذ المال خفية كما مر، فلا قطع على من أخذ المال عياناً كالمختلس؛ وهو من يعتمد الهرب، والمنتهب؛ وهو من يعتمد الغلبة والقوة، والمودع والمستعير إذا جحدا الوديعة والمستعار، ولا فرق في هتك الحرز بين النقب وكسر الباب، وقلعه وفتح المغلاق والقفل، وتسور الجدار. ولو أدخل يده في النقب، أو محجناً وأخرج المتاع، أو أرسل حبلاً من السطح، أو الكوة في رأسه كلاب وأخرج به متاعاً .. قطع، ولو أرسل قرداً وأخرج. فلا قطع. ولو حمل أعمة زمناً وأدخله الحرز، فدله الزمن على المال فأخذه وخرج به ... قطع الأعمى

[حد السارق] والسارق الموصوف بما مر: إذا سرق المال بصفاته السابقة .. تقطع يمناه؛ أي: يده اليمنى؛ قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وقرئ شاذا: {فاقطعوا أيمانهما} والقراءة الشاذة كخبر الواحد في الاحتجاج بها. من الكوع؛ للأمر به في سارق رداء صفوان رواه الدارقطني، ورواه الشيخان عن فعل علي رضي الله تعالى عنه، والمعنى فيه: أن البطش بالكف، وما زاد من الذراع تابع، ولهذا تجب في الكف دية اليد وفيما زاد حكومة، وتمد اليد مداً عنيفاً لتنخلع ثم تقطع بحديدة ماضية، ويضبط جالساً حتى لا يتحرك، ولا تمنع زيادة أصابعها. ولو كانت شلاء: فإن قال أهل الخبرة: ينقطع دمها .. قطعت، وإلا ... فكمن لا يمين له، ويكتفي بفاقدة الأصابع. وأفهم كلامه: أنه لو لم تقطع يمناه حتى سرق مراراً .. اكتفى بقطعها وهو كذلك؛ كما لو زنى مراراً .. يكتفي بحد واحد. ويجب على السارق رد ما سرقه، فإن تلف .. لزمه بدله. فإن عاد بعد قطعها وسرق، أو كانت مفقودة .. قطعت رجله اليسرى من مفصلها، بخلاف ما إذا سقطت بعد السرقة .. فلا قطع عليه؛ لأنه تعلق بعينها وقد فاتت، ومثله لو شلت وتعذر قطعها؛ قاله في «الكفاية» عن القاضي. فإن يعد بعد قطع رجله اليسرى .. قطعت يده اليسرى، فإن عاد .. قطعت رجله اليمنى. والأصل في ذلك ما رواه الشافعي رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال" «السارق إن سرق .. فاقطعوا يده، ثم إن سرق .. فاقطعوا رجله، ثم أن سرق .. فاقطعوا يده، ثم إن سرق ... فاقطعوا رجله» وقدمت اليد؛ لأنها الآخذة، وإنما قطع من خلاف؛ لئلا يفوت جنس المنفعة عليه فتضعف حركته؛ كما في قاطع الطريق.

فإن يعد بعد قطع الأربع ... وجب تعزيره بغير قطع شيء آخر، ولا يقتل؛ لأنها معصية ليس فيها حد ولا كفارة، فيكفي فيها التعزير، وما روي من أنه صلى الله عليه وسلم قتله ... منسوخ أو مؤول بقتله؛ لاستحلال أو نحوه، بل ضعفه الدارقطني وغيره، وقال ابن عبد البر: إنه منكر لا أصل له. ويغمس محل القطع بزيت أو دهن مغلي؛ لتنسد أفواه العروق، فإن جرت عادتهم بالحسم بالنار .. حسم به، وليس ذلك تتمة للحد، بل حق للمقطوع؛ لأن الغرض دفع الهلاك عنه بنزف الدم، فلا يفعل إلا بإذنه، وهو منوب، ومؤنته عليه كأجرة الجلاد. وقول الناظم: (ذهب) منصوب على التمييز، ووقف عليه بلغة ربيعة، وفي بعض النسخ بدل البيت الأخير: (يعد فتعزير وقيل قتلا ... ويغمس القطع بزيت مغلا) والألف في قوله: (قتلا) مبنياً للمفعول للإطلاق.

باب قاطع الطريق

باب قاطع الطريق قطع الطريق: البروز لأخذ مال، أو لقتل أو إرعاب مكابرة؛ اعتماداً على الشوكة مع البعد عن الغوث؛ كما يعلم مما يأتي. والأصل فيه: قوله تعالى: {إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، قال أكثر العلماء: نزلت في قطاع الطريق لا في الكفار، واحتجوا له بقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} الآية؛ إذ المراد التوبة عن قطع الطريق، ولو كان المراد الكفار .. لكانت توبتهم الإسلام، وهو دافع للعقوبة قبل القدرة وبعدها. (وقاطع الطريق بالإرعاب ... عزره، والآخذ للنصاب) (كف اليمين اقطع ورجل اليسرى ... فإن يعد كفا ورجل الأخرى) (إن يقتل أو يجرح بعمد ينحتم ... قتل/، وبالإخذ مع القتل لزم) (قتل فصلبه ثلاثة، إذ ... يتوب قبل ظفر به: نبي) (وجوب حد لا حقوق آدمي ... وغير قتل فرقن، وقدم) (حق العباد، فالأخف موقعا ... فالأسبق الأسبق، ثم اقرعا) فيها ست مسائل: [تعزيز قاطع الطريق وما يعتبر فيه] الأولى: قاطع الطريق إذا لم يقتل ولم يأخذ مالاً، بل أرعب الرفقة؛ أي: خوفهم؛ وفي معناه: من أعانهم وكثر جمعهم ... عزره الإمام بحسب اجتهاده بحبس أو تغريب أو غيرهما؛ كما في سائر الجرائم، ولا يحده كما في مقدمات الزنا والشرب، والحبس في غير مكانهم أولى. ويعتبر في قاطع الطريق: الإسلام والتكليف، والاعتماد على الشوكة والقوة، والبعد عن الغوث لبعد السلطان وأعوانه، أو لضعفه، فخرج الكافر؛ فليس له حكم قاطع الطريق، قاله الشيخان،

قال بعضهم: والوجه حمله على غير الذمي، فالذمي كالمسلم في ذلك؛ لالتزامه الأحكام، وصوبه جماعة منهم الزركشي، وقال: ونص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه في آخر «الأم» / وحكاه عنه ابن المنذر فقال: وقال الشافعي وأبو ثور: وإذا قطع أهل الذمة على المسلمين ... حدوا حد المسلمين، وهو قضية إطلاق الأصحاب. ولا يعرف التعبير ب (الإسلام) لغير الرافعي، فالصواب: أن يعبر بدله ب (ملتزم الأحكام) ليدخل الذمي والمرتد، ويخرج الحربي والمعاهد والمستأمن، وخرج غير المكلف، ومعتمد الهرب. قال في «الروضة» ك «أصلها»: ولا يشترط شهر السلاح، بل القاصدون بالعصي والحجارة قطاع، وذكر الإمام: أنه يكتفى بالوكز والضرب بجمع الكف، وفي «التهذيب» نحوه. ولا تشترط فيهم الذكورة، فالنسوة قاطعات طريق، والواحد إذا كان له فضل قوة، وتعرض للنفوس والأموال مجاهراً .. فهو قاطع طريق. [حكم قاطع الطريق إذا أخذ نصاباً] الثانية: إذا أخذ القاطع النصاب؛ أي: ربع دينار مضروب خالصاً، أو ما قيمته ذلك من حرز مثله لا شبهة له فيه وطلب مالكه .. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى؛ للآية السابقة، وإنما قطع من خلاف؛ لئلا يفوت جنس المنفعة عليه، فإن فقدت إحداهما ولو قبل أخذ المال .. اكتفي بالأخرى. وتقطعان على الولاء؛ لاتحاد العقوبة كالجلدات في الحد الواحد، وكذا تقطعان على الولاء لو تعلق القصاص بإحداهما مع قطع الطريق وإن اختلفت العقوبتان؛ لأن الولاء بينهما مستحق بقطع الطريق فلا يسقط بتعذر قطعهما عنه، بخلاف القصاص مع السرقة فإنه يقتص، ثم بمهل إلى الاندمال. فإن قطع الطريق بعد قطعهما، أو فقدتا قبل أخذه المال ... قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى أما إذا فقدتا بعده .. فيسقط القطع كما في السرقة.

[حكم قاطع الطريق إذا قتل ولم يأخذ نصاباً] الثالثة: إذا لم يأخذ القاطع مالاً وقتل مكافئاً له عمداً، أو جرحه عمداً فسرى إلى نفسه ... تحتم قتله؛ للآية، ولأنه ضم إلى جنايته إخافة السبيل المقتضية لزيادة العقوبة، ولا زيادة عنا إلا تحتم القتل فلا يسقط وإن عفا عنه مستحقه بمال، فيقتل حتماً حدا ويسقط قتله قصاصاً؛ لصحة العفو عنه، ويثبت ما عفي به كمرتد لزمه قصاص وعفي عنه بمال، ففي قتله معنى القصاص؛ لأنه قتل في مقابلة قتل، ومعنى الحد؛ لتعلق استيفائه بالإمام، والمغلب فيه معنى القصاص؛ فلا يقتل بغير كفء. ولو مات ... أخذت من تركته دية الحر وقيمة غيره، ولو قتل جمعاً معاً، قتل بأحدهم وللباقين ديات، أو مرتباً ... فبالأول، ولو عفا وليه بمال .. لم يسقط قتله، ولو قتل بمثقل أو نحوه ... فعل به مثله. ولو كان القتل أو الجرح لغير أخذ المال .. لم يتحتم قتله؛ كما نقله في «الكفاية» عن البندنيجي، ولو جرح فاندمل ... لم يتحتم قصاصه. [إذا جمع القاطع بين أخذ النصاب والقتل] الرابعة: إذا جمع القاطع بين أخذ النصاب والقتل .. لزم قتله وصلبه على خشبة أو نحوها بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه ثلاثة أيام؛ ليشتهر الحال ويكمل النكال. نعم؛ إن خيف تغيره قبلها .. أنزل وإنما لم يصلب قبل القتل؛ لأن فيه تعذيباً، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، فإن مات قبل قتله ... سقط الصلب بسقوطه متبوعه. وبما تقرر فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآية فقال: (المعنى: أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا مع ذلك إن قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال، أو ينفوا من الأرض إن أرعبوا ولم يأخذوا شيئاً) فحمل كلمة (أو) على التنويع لا التخيير؛ كما في قوله تعالى: {كونوا هوداً أو نصارى} أي: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى؛ إذ لم يخبر أحد منهم بين اليهودية والنصرانية.

[إذا تاب قاطع الطريق قبل الظفر به] الخامسة: حيث يتوب قاطع الطريق قبل الظفر به والقدرة عليه ... نبذ؛ أي: سقط عنه وجوب حد الله تعالى وهو القطع وتحتم القتل والصلب؛ لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا} الآية، بخلاف ما لو تاب بعده؛ لمفهومها ولتهمة الخوف. ولا تسقط بها حقوق الآدمي من القود وضمان المال، فللولي الاقتصاص والعفو على مال أو مجاناً، ومثل الحد فيما ذكره التغزير. وأفهم كلامه: أن التوبة لا تسقط باقي الحدود؛ كحد الزنا والسرقة والقذف، في حق قاطع الطريق وغيره؛ لعموم أدلتها من غير تفصيل، وقياساً على الكفارة، إلا قتل تارك الصلاة، فإنه يسقط بالتوبة ولو بعد رفعه إلى الحاكم، لأن موجبه الإصرار على الترك لا الترك الماضي. [إذا اجتمع عقوبتان فأكثر على شخص] السادسة: إذا اجتمع على شخص عقوبتان فأكثر غير قتل ... فرقت وجوباً، فلو اجتمع عليه حد قذف وقطع، أو حد قذف لاثنين ... فرق بينهما حتى يبرأ من الأول؛ لئلا يموت بالموالاة. أما القتل .. فيوالي بينه وبين غيره؛ لأن النفس مستوفاة، وقدم غير القتل عليه وإن تقدم القتل؛ ليحصل الجمع بين الحقين، فيجلد ثم يقطع ثم يقتل؛ ويبادر بقتله بعد قطعه لا قطعه بعد جلده؛ لما مر، فلو أخر مستحق الجلد حقه .. فعلى الآخرين الصبر حتى يستوفي، فلا يقطع ولا يقتل قبل الجلد. ولو أخر مستحق الطرف حقه .. جلد وعلى مستحق النفس الصبر حتى يستوفى الطرف؛ حذراً من فواته، فإن بادر بقتله ... فلمستحق الطرف ديته؛ لفوات استيفائه. فإن كان في العقوبات حق لله تعالى وحق للعباد، ولم يكن فيها قتل، أو لم يكن إلا القتل .. قدم منها ما للعباد على ما لله تعالى وإن كان ما لله تعالى أخف؛ لبناء حقهم على المشاحة، وحق الله تعالى على المسامحة، فيقدم حد القذف على حد الشرب والزنا، ويقدم قتل القصاص على قتل الزنا. فإن تمحضت لله تعالى أو للعباد .. قدم الأخف فالأخف موقعاً؛ فمن زنى وشرب وسرق .. حد للشرب ثم للزنا ثم قطعت يده للسرقة، لا يوالى بينهما كما مر، ومن قذف وقطع عضواً .. حد للقذف ثم قطع ...

فإن استوت خفة وغلظاً .. قدن الأسبق فالأسبق؛ كما لو قذف جماعة على الترتيب .. فيحد للأول فالأول، وكما لو قتل جماعة على الترتيب .. يقتل بالأول وللباقين الديات، ثم إن لم يكن الأسبق معيناً، بأن وقعت معاً، أو شك في المعية، أو علم سبق ولم يعلم عين السابق ... أقرع وجوباً، فمن خرجت قرعته ... استوفي له وللباقين الديات. وقول الناظم: (قاطع الطريق) بالنصب، ويجوز الرفع، وقوله: (أو يجرح) بدرج الهمزة للوزن/ وقوله: (اقرعا) فعل امر، وألفه بدل من نون التوكيد، أو ماض مبني للفعول وألفه للإطلاق.

باب حد الخمر

باب حد الخمر الأصل في تحريم الشرب: قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر} الآية، وخبر «الصحيحين»: «كل شراب أسكر .. فهو حرام»، / وخبر مسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام». والمشهور: أنها كانت مباحة في صدر الإسلام، وقبل: بل كان المباح الشرب، لا ما ينتهي إلى السكر المزيل للعقل؛ فإنه حرام في كل ملة؛ حكاه ابن القشيري في «تفسيره» عن القفال، ثم نازعه وقال: توار الخبر حيث كانت مباحة بالإطلاق، ولم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد لا يزيل العقل، وكذا قال النووي في «شرح مسلم» قال: وأما ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده: إن السكر لم يزل محرماً .. فباطل لا أصل له. انتهى. وعلى هذا فهل كانت إباحتها لهم باستصحاب لحلها في الجاهلية، أو شرع مبتدأ؟ على وجهين، أشبههما في «الحاوي» و «البحر» الأول. وكان تحريمها في السنة الثالثة من الهجرة بعد أحد، وهي بإجماع: المتخذة من عصير العنب، وهل تقع على سائر الأنبذة؟ وجهان، وقال الرافعي: والأكثرون على أنه لا يقع عليها حقيقة؛ بناء على أن اللغة لا تثبت بالقياس. (يحد كامل بشرب مسكر ... بأربعين جلدة، وعزر) (إلى ثمانين أجز، والعبد .. بنصفه، وإنما يحد) (إن شهد العدلان أو أقرا .. لا نكهة وإن تقيا خمراً) فيها أربع مسائل:

[ما يعتبر لجلد الشارب أربعين جلدة] الأول: يحد الكامل؛ أي: البالغ العاقل المختار، العالم بالتحريم، الملتزم للأحكام؛ لشرب مسكر جنسه من خمر وغيره، وإن لم يسكر القدر المشروب منه؛ بأن يضربه الإمام أربعين جلدة بسوط أو غيره؛ ففي خبر مسلم عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا احب إلى) وفيه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين) وهذا في الحر، أما غيره .. فعلى النصف من ذلك كما سيأتي، وفي معنى شربه: أكله؛ بأن كان ثخيناً، أو أكله بخبز، أو طبخ به لحماً وأكل مرقه، فخرج بذلك أكل اللحم المطبوخ به؛ لذهاب العين فيه، وأكل أو شرب ما اختلف به واستهلك هو فيه، وكذا الاحتقان والاستعاط؛ لأن الحد للزجر ولا حاجة فيهما إلى الزجر؛ وخرج الصبي والمجنون والمكره على تناوله. وخرج ب (العالم بالتحريم) من جهله؛ لقرب عهده بالإسلام، أو نشئه بعيداً عن العلماء فلا حد عليه؛ لجهله، وب (ملتزم الأحكام) أي: أحكام الشرب وغيره: الكافر فلا يحد به، لأنه لم يلتزم تحريمه، وب (ما يسكر جنسه): غيره كالدواء المجنن فلا حد بتناوله؛ لأنه لا يلذ ولا يطرب، ولا يدعو قليله إلى كثيره، بل يعزر به. والأصح: تحريم شرب المسكر لدواء أو عطش إذا لم يجد غيره، بخلاف شرب البول والدم لهما؛ لعموم النهي عن شرب المسكر من شأنه إزالة العقل؛ لأن بعضه يدعو إلى بعض؛ ولأنه يثير العطش بعد وإن سكنه في الحال، وعلى هذا يحمل خبر: «إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» رواه ابن حبان وصححه، هذا إن لم ينته به الأمر إلى الهلاك، وإلا ... فيتعين شربه؛ كما يتعين على المضطر أكل الميتة، نقله الإمام عن إجماع الأصحاب.

ولا حد في الشرب للتداوي والعطش وإن قلنا بالتحريم؛ لشبهة الخلاف في حل شربه، ومن غص بلقمة .. وجب عليه إساغتها بخمر إن لم يجد غيرها ولا حد. ويعتبر في السوط اعتداله في حجمه؛ فيكون بين القضيب والعصا؛ وفي صفته؛ فلا يكون رطباً يشق لجلد بثقله، ولا شديد اليبوسة فلا يؤثر، وفي معنى السوط: الخشبة المعتدلة، والنعل واليد، وطرف الثوب، ويفرق الضرب على الأعضاء، إلا المقاتل كثغرة النحر والفرج ونحوهما، والوجه؛ لخبر مسلم: «إذا ضرب أحدكم .. فليجتنب الوجه» ولأنه مجمع المحاسن فيعظم أثر شينه بخلاف الرأس. ولا تشد يداه، بل يتركان طلقتين حتى يتقي بهما، ولا تجرد ثيابه، بل يترك عليه قميص أو قميصان دون جبة محشوة أو فروة، ويوالى الضرب عليه بحيث يحصل زجر وتنكيل ولا يحد حال سكره، بل يؤخر إلى أن يفيق، ليرتدع. [جواز بلوغ الضرب ثمانين إذا رآه الإمام] الثانية: إذا رأى الإمام بلوغ ضرب الحر ثمانين. جاز؛ كما مر فعله عن عمر رضي الله تعالى عنه، ورآه علي رضي الله تعالى عنه، قال: (لأنه إذا شرب ... سكر، وإذا سكر .. هذى، وإذا هذي .. افترى، وحد الافتراء: ثمانون) والزيادة تعزيرات لجنايات تولدت من الشارب، وإلا ... لما جاز تركها. [حد الرقيق] الثالثة: حد الرقيق؛ أي: والمبعض: عشرون جلدة على النصف من حد الحر كنظائره، فلو رأى الإمام بلوغه أربعين .. جاز؛ لما مر في الحر. [حد الشارب بشهادة عدلين أو إقراره] الرابعة: إنما يحد شارب المسكر إن شهد عدلان بالشرب أو أقر به، ولا يحتاج إلى تفصيلهما؛ بأن يقولا، أو يقول هو مختاراً عالماً به؛ لأن إضافة الشرب إليه قد حصلت، والأصل عدم الإكراه وغلبة العلم بما يتناوله؛ كما في البيع ونحوه، ويخالف الزنا؛ فإن

مقدماته قد تسمى زناً، كما في خبر: «العينان تزنيان» فاحتيط فيه. وذكر الشيخ أبو حامد في «تعليقه» طريقاً ثالثاً، وهو: أن يعلم شربه من إناء شرب منه غيره فسكر، وعليه نص الشافعي رضي الله عنه في «الأم» و «المختصر» قال الرافعي: وليكن هذا مبنياً على القضاء بالعلم، قال الأذرعي: ليس الأمر كما تخيله الرافعي. ومراد الشيخ أبي حامد: ما ذكره أصحابه وأتباعه؛ كالمحاملي وسليم الرازي والدارمي: أنه إنما يجب الحد على الشارب بثلاثة أشياء؛ يعني بأحدها: أن يعترف بشرب المسكر، أو تقوم عليه بينة بذلك، أو بأنه شرب شراباً شربه غيره فسكر، فلا يحد بنكهة، أي: ريح فمه، وسكر، وقيء لمسكر، لاحتمال أن يكون غالطاً، أو مكرهاً. والألف في قول الناظم: (أقرأ) للإطلاق.

باب الصائل

باب الصائل وفي بعض النسخ: باب الصيال، وهو الاستطالة والوثوب. والأصل فيه/ قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وخبر البخاري: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» والصائل ظالم، فيمنع من ظلمه؛ لأن ذلك نصره، وخبر: «من قتل دون أهله ... فهو شهيد، ومن قتل دون ماله .. فهو شهيد» رواه الترمذي وحسنه، وفي «الصحيحين»: ذكر المال فقط؛ وهو في الباقي بطريق الأولى، وجه الدلالة: أنما لما جعل شهيدا .. دل على أن له القتل والقتال؛ كما أن من قتله أهل الحرب لما كان شهيداً ... كان له القتل والقتال. (ومن على نفس يصول أو طرف ... أو بضع ادفع بالأخف فالأخف) (والدفع أوجب إن يكن عن بضع ... لا المال، واهدر تالفا بالدفع) (واضمن لما تتلفه البهيمة .. في الليل لا النهار قدر القيمة) فيها أربع مسائل: [دفع الصائل بالأخف والأخف] الأولى: يدفع الصائل عند ظن صياله مسلماً كان أو كافراً، حراً أو قناً، ومكلفاً أو غير مكلف ولو بهيمة عن معصوم من نفس أو طرف، أو بضع أو مال، أو غيرها بالأخف فالأخف، فإن أمكن بكلام أو استغاثة .. جرم الضرب، أو بضرب بيد .. حرم سوط، أو بسوط .. حرم عصا، أو بقطع عضو .. حرم قتل، فإن أمكن هرب .. وجب وحرم قتال، فإن دفع بالأثقل من يدفع بما دونه فهلك ... ضمنه، إلا إذا فقد آلة الأخف؛ كأن كان يندفع بالعصا وليس عنده إلا السيف .. فلا ضمان؛ إذ له الدفع به حينئذ، وكذا إذا التحم القتال بينهما؛ لخروج الأمر عن الضبط.

قال البقيني: ومحل رعاية التدريج في المعصوم، أما غيره كالحربي والمرتد .. فله العدول إلى قتله؛ لعدم حرمته. ولو صال مكروهاً على إتلافه مال غيره .. لم يجز دفعه، بل يلزم المالك أن يقي روحه بماله؛ كما يناول المضطر طعامه، ولكل منهما دفع المكره، ولا فرق في الدافع بين المصول عليه وغيره؛ كما أفاده قول الناظم: (ادفع) بلفظ الأمر، ودرج همزته للوزن. ولو سقطت جرة من علو على إنسان، ولم تندفع عنه إلا بكسرها، فكسرها .. ضمنها؛ لأنها لا قصد لها ولا اختيار حتى يحال عليها، فصار كالمضطر إلى طعام الغير يأكله ويضمنه. [وجوب الدفع عن البضع والنفس المحترمين] الثانية: يجب الدفع عن البضع المحترم، سوء أكان بضعه، أم بضع أهله، أم أجنبية ولو أمة؛ لأنه لا مجال للإباحة فيه؛ وإنما يجب إذا لم يخف الدافع على نفسه، أو عضوه أو منفعته. ويجب الدفع أيضاً عن النفس المحترمة إذا قصدها بهيمة؛ لأنها تذبح لاستبقاء الآدمي، فلا وجه للاستسلام لها أو كافر ولو معصوماً، إذ غير المعصوم لا حرمة له، ولمعصوم بطلت عصمته بصياله، ولأن الاستسلام للكافر ذل في الدين، بخلاف ما لو كان الصائل مسلماً ولو مجنوناً .. فلا يجب دفعه، بل يجوز الاستسلام له؛ لحرمة الآدمي، ورضا بالشهادة، ولخبر أبي داوود: «كن خير ابني آدم» يعني: قابيل وهابيل، ولمنع عثمان رضي الله تعالى عنه عبيده من الدفع يوم الدار وقال: (من ألقى سلاحه .. فهو حر) واشتهر ذلك في الصحابة، ولم ينكر عليه أحد. وقيده الإمام وغيره بمحقون الدم؛ ليخرج غيره كالزاني المحصن وتارك الصلاة؛ وقال الشيخان: والقائلون بجواز الاستسلام، منهم من يزيد عليه ويصفه بالاستحباب، وهو ظاهر الأخبار. ولا يجب الدفع عن المال الذي لا روح فيه؛ لأنه يجوز إباحته للغير.

نعم؛ إن كان مال محجور عليه، أو وقف، أو مالاً مودعاً .. وجب على من بيده الدفع عنه؛ قاله الغزالي في «الإحياء». [إهدار الصائل إذا تلف بالدفع] الثالثة: يهدر الصائل إذا تلف بالدفع، فلا يضمن بقود ولا دية، ولا قيمة ولا كفارة، لأنه مأمور بدفعه، وقد أبطل حرمة نفسه بإقدامه على الصيال، يقال: أهدر السلطان دمه؛ أي: أبطله وأباحه. [حكم ما تتلفه البهيمة] الرابعة: إذا لم يكن صاحب اليد على البهيمة معه. ضمن ما أتلفته من زرع، أو غيره في الليل بالمثل في المثلي، والقيمة في المتقوم، سواء المالك والوكيل، والمودع والمستعير، والغاصب وغيرهم، ودون النهار؛ للخبر الصحيح في ذلك، رواه أبو داوود، وهو على وفق العادة في حفظ الزرع ونحوه نهاراً، والدابة ليلاً، فلو جرت عادة بلد بالعكس .. انعكس الحكم، ومن ذلك يؤخذ ما بحثه البلقيني: أنه لو جرت عادة بلد بحفظها ليلاً ونهاراً .. ضمن متلفها مطلقاً. نعم؛ إن لم يفرط في ربطها؛ بأن أحكمه وعرض حلها، أو حضر صاحب الزرع وتهاون في دفعها، أو كان الزرع في محوط له باب تركه مفتوحاً .. لم يضمن. ولو كانت المراعي في وسط المزارع، أو في حريم السواقي .. فلا يعتاد إرسالها بلا راع، فإن أرسلها .. من إتلافها ليلاً ونهاراً. ولو أرسل دابته في البلد، أو ربطها بطريق ولو واسعاً فأتلفت شيئاً .. ضمنه مطلقاً، أما من كان مع البهيمة .. فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو مال، في ليل أو نهار، سواء أكان مالكها أم أجيراً، أم مستأجراً أم مستعيراً، أم غاصباً أم غيرهم، وسواء أكان راكبها أم سائقها أم قائدها، لأنها في يده وعليه تعهدها وحفظها. ولو نخس إنسان دابة بغير إذن راكبها فأسقطته، أو رمحت فأتلفت شيئاً .. منه الناخس،

أو بإذنه .. ضمنه، ولو غلبته فاستقبلها إنسان فردها، فأتلفت في انصرافها شيئاً .. ضمنه الراد .. ولو بالت أو راثت في طريق، فتلف به نفس أو مال .. فلا ضمان في الأصح؛ لأن الطريق لا يخلو عنه، والمنع من الطروق لا سبيل إليه. ويحترز عما لا يعتاد؛ كركض شديد في وحل، فإن خالف ... ضمن ما تولد منه؛ لمخالفته للمعتاد. ومن حمل على ظهره أو بهيمة حطباً فحك بناء فسقط .. ضمنه؛ لأن سقوطه بفعله، أو فعل دابته المنسوب إليه. وإن دخل سوقاً فتلف به نفس أو مال ... ضمنه إن كان زحام، أو تمزق به ثوب أعمى، أو مستدبر البهيمة ولم ينهه، وإنما يضمنه إذا لم يقصر صاحب المال، فإن قصر؛ كأن وضعه بطريق، أو عرضه للدابة .. فلا، ولو أرسل طيراً فأتلف شيئاً .. لم يضمنه، ويضمن متلف هرته إن اعتيد إتلافها. وقول الناظم: (وأهدر) بدرج الهمزة للوزن.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد المتلقي تفصيله من سير النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، ولهذا ترجم عنه بعضهم ب (السير) وبعضهم ب (قتال المشركين) والأصل فيه قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {كتب عليكم القتال}، {وقتلوا المشركين كافة}، {واقتلوهم حيث وجدوتموهم} وأخبار؛ كخبر «الصحيحين»: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» وخبر مسلم: «لغدوة أو روحة في سبيل الله .. خير من الدنيا وما فيها». وكان الجهاد قبل الهجرة محرماً، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بقتال من قاتله يم أبيح الابتداء به في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقاً. والجهاد: قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية؛ لأن الكفار إن دخلوا بلادنا، أو أسروا مسلماً يتوقع خلاصه منهم .. ففرض عين، وإن كانوا ببلادهم ... ففرض كفاية؛ كما قال: (فرض مؤكد على كل ذكر ... مكلف أسلم حر ذي بصر) (وصحة يطيقه، وإن أسر .. رق النسا وذو الجنون والصغر) (وغيرهم رأى الإمام الأجودا ... من قتل أو رق ومن أو فدا) (بمال أو أسرى، وماله أعصما ... من قبل خيرة الإمام أسلما) (وقبل أسر طفل ولد النسب ... وماله، وأحكم بإسلام صبي) (أسلم من بعض أصوله أحد ... أو إن سباه مسلم حين انفرد) (عنهم، كذا اللقيط مسلم بأن ... يوجد حيث مسلم بها سكن) فيها خمس مسائل:

[الجهاد فرض كفاية] الأولى: الجهاد فرض كفاية مؤكد كل سنة، إذا فعله من فيهم كفاية ... سقط الحرج عن الباقين؛ هذا إذا كان الكفار ببلادهم كما مر، وذكر الأصحاب أن الكفاية تحصل بشيئين: أحدهما: أن يشحن الإمام الثغور بجماعة يكافئون من بإزائهم من الكفار. الثاني: أن يدخل الإمام دار الكفر غازياً بنفسه، أو يبعث جيشاً يؤمر عليهم من يصلح لذلك. والجهاد فرض كفاية مؤكد على كل ذكر مكلف، مسلم حر، بصير صحيح، مطيق للجهاد. فلا جهاد على امرأة؛ لضعفها عن القتال غالباً، ولخبر البيهقي وغيره عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله؛ هل على النساء جهاد؟ قال: «نعم؛ جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة»، ولا على خنثى مشكل، لاحتمال الأنوثة، ولا على غير مكلف؛ كصبي ومجنون وكافر، ومن فيه رق ولو مبعضاً، وأعمى ومريض يتعذر قتاله، أو يشق عليه مشقة شديدة، ومن لا يطيقه؛ كذي عرج بين وإن قدر على الركوب، وأقطع وأشل، وفاقد معظم أصابع يديه. قال الأذرعي: والظاهر: أن فاقد الإبهام والمسبحة معاً، أو الوسطى والبنصر .. كفاقد معظم الأصابع. ولا على عادم أهبة قتال؛ من سلاح ونفقة وراحلة لسفر القصر، فاضل جميع ذلك عن نفقة من تلزمه نفقته، وما ذكر معها في الحج، وكل عذر منع وجوب الحج .. منع وجوب الجهاد، إلا خوف طريق ولو من لصوص مسلمين، والدين الحال على موسر لم يستنب في وفائه يحرم سفر جهاد وغيره إلا بإذن صاحبه. ويحرم على الرجل جهاد إلا بإذن أصوله المسلمين، أو من وجد منهم، لا سفر تعلم فرض ولو كفاية، ورجوع رب الدين أو الأصل عن إذنه .. يوجب الرجوع إن لم يحضر الصف، إلا أن يخاف على نفسه أو ماله. ويكره الغزو بغير إذن الإمام أو نائبه؛ لأنه أعرف بما فيه المصلحة، ويسن للإمام إذا بعث سرية أن يؤمر عليهم ويأخذ البيعة عليهم بالثبات، ويأمرهم بطاعة الأمير ويوصيه بهم.

[الحكم إذا اسر أحد من أهل الحرب] الثانية: إن أسر أحد من أهل الحرب .. رق النساء؛ أي: والخناثى والمجنون والصغير؛ أي: ومن فيه رق، فيصيرون بنفس الأسر أرقاء لنا، فيكونون كسائر أموال الغنيمة: الخمس لأهل الخمس، والباقي للغانمين. وغيرهم؛ أي: الرجل الحر العاقل .. رأى فيهم الإمام الأجود للمسلمين من قتل له بضرب الرقبة، أو إرقاق له، أو من عليه بتخلية سبيله، أو فداء بمال أو أسرى مسلمين، للاتباع في الأربعة، فليزم الإمام أن يجتهد، ويفعل منها ما هو الأحظ للمسلمين، فإن لم تتبين له المصلحة ... حبسه حتى تتبين له، ويكون مال الفداء ورقابهم إذا استرقوا؛ كسائر أموال الغنيمة. ويجوز فداء مشرك بمسلم أو مسلمين، أو مشركين بمسلم، وسواء في الإرقاق الكتابي والوقني والعربي وغيره. [إسلام الأسير قبل أن يختار الإمام فيه شيئا] الثالثة: إن أسلم الأسير قبل أن يختار الإمام فيه شيئاً .. عصم دمه وماله؛ لخبر «الصحيحين»: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها ... عصموا مني دماءهم وأموالهم» ويبقة الخيار في الباقي؛ كما أن من عجز عن الإعتاق في كفارة اليمين .. يبقى مخيراً بين الإطعام والكسوة، لكن يشترط في فدائه حينئذ: أن يكون له عندهم عز، أو عشيرة يسلم بها دينه ونفسه. [إذا أسلم قبل أسره] الرابعة: إذا أسلم قبل أسره .. عصم دمه وماله، وولده من النسب الطفل؛ أي: والمجنون الحرين، وعتيقه من السبي رجلاً أو امرأة، وحملها كالمنفصل، ولا يعصم زوجته وتفارق عتيقه، بأن الولاء بعد ثبوته لا يرتفع؛ فإنه لحمة كلحمة النسب، بخلاف النكاح؛ فإنه يرتفع بأسباب منها حدوث الرق. وأما زوجة المسلم الحربية: فصحح في «المنهاج» ك «أصله»: عدم جواز إرقاقها مع

تصحيحه جوازه في زوجة من أسلم، والذي في «الروضة» ك «أصلها»: أنه يجري فيها خلاف زوجة من أسلم، قصيته: جواز إرقاقها تسوية بينهما في الجواز؛ كما سوى بين عتيق من أسلم وعتيق المسلم في عدم الجواز. ولو سبيت حرة منكوحة لمسلم .. انقطع نكاحها في الحال وإن كانت موطوءة؛ لزوال ملكها عن نفسها، فزوال ملك الزوج عنها أولى، ولامتناع نكاح المسلم الأمة الكافرة ابتدائ ودواماً. ولو سبي الزوجان الحران، أو أحدهما ... انقطع نكاحها في الحال وإن كانت موطوءة؛ لزوال ملكها عن نفسها، فزوال ملك الزوج عنها أولى، ولامتناع نكاح المسلم الأمة الكافرة ابتداء ودواماً. ولو سبي الزوجان الحران، أو أحدهما .. انقطع نكاحهما؛ لعموم خبر: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» إذ لم يفرق بين المنكوحة وغيرها، ومحله: في سبي الزوج الكامل وحده إذا أرق، وكذا لو كان أحدهما حراً والآخر رقيقا. ومن لزمه دين .. قضي مما غنمناه من ماله بعد رقه، ولا يسقط إلا إن كان لحربي، ويبقى دين من رق إلا على حربي، ولو أسلم أو أمن حربيان معاً، أو مرتباً ولأحدهما على الآخر دين عقد لا إتلاف .. لم يسقط. [متى يحكم بإسلام الصبي] الخامسة: يحكم بإسلام الصبي؛ أي: والصبية في ثلاث مسائل: الأولى: الولادة؛ بأن كان أحد أصوله مسلماً وقت العلوق به، أو أسلم قبل بلوغه، لقوله تعالى: {والذين آمنوا وأتبعناهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} ولقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه» فجعل موجب كفره كفرهما جميعاً، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وانعقد الإجماع عليه في إسلام الأب، وسواء المميز وغيره. والمجنون المحكوم بكفره كالصغير في تبعيته لأحد أصوله في الإسلام وإن طرأ جنونه بعد بلوغه على الأصح. وشمل تعبير الناظم ب (أحد أصوله): أحد الأجداد أو الجدات، الوارث وغيره؛ كأب الأم ولو مع حياة الأب والأم، فإن بلغ ووصف كفراً .. فمرتد؛ لسبق الحكم بإسلامه، فأشبه من أسلم بنفسه ثم ارتد.

الثانية: إذا سباه مسلم ولم يكن معه أحد من أصوله؛ لأنه صار تحت ولايته كالأبوين، وادعى الشيخ أبو حامد وغيره الإجماع عليه. وخرج بقوله: (حين انفرد عنهم) ما إذا كن معه أحد أصوله .. فإنه لا يحكم بإسلامه، فإن تبعيتهم أقوى من تبعية السابي، فلو مات أحد أصوله بعد سبيه معه .. استمر كفره ولم يحكم بإسلامه؛ لأن التبعية إنما تثبت في ابتداء السبي. ومعنى قولهم: (أن يكون معه أحد أصوله): أن يكونا في جيش واحد وغنيمة واحدة، ولا يشترط كونهما في ملك رجل واحد، وتعبير الناظم في هذا ب (أحد أصوله) أعم من تعبير غيره ب (أحد أبويه) وكالصغير فيما ذكره المجنون. وخرج بقوله: (إن سباه مسلم) ما لو سباه ذمي قاطن ببلاد الإسلام .. فإنه لا يحكم بإسلامه إذا دخل به دار الإسلام؛ لأنه كونه من أهل الدار لم يؤثر فيه ولا في أولاده الإسلام، فغيره أولى. الثالثة: الصغير اللقيط إذا وجد بدار الإسلام ولو كان فيها أخل ذمة؛ كدار فتحها المسلمون، ثم أقروها بيد كفار صلحاً؛ أو بعد ملكها بجزية، أو دار غلبهم عليها الكفار وسكنوها، أو بدار كفر وقد سكنها مسلم يمكن أن يولد له ذلك اللقيط؛ تغليباً لدار الإسلام، وخبر الإمام أحمد والدارقطني: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» وخرج بقوله: (حيث مسلم بها سكن) ما إذا لم يسكن بها أو كان فيها مجتازاً .. فإنه كافر؛ إذ لا مسلم ساكن فيها يحتمل إلحاقه به، والحكم بإسلام الصبي بوجدانه في أرض إسلام هو أضعف التبعات، ولهذا لو أقام ذمي بينة بأنه ابنه .. لحقه وتبعه في الكفر، وارتفع ما ظنناه من إسلامه؛ لأن حكم الدار حكم باليد، والبينة أقوى من اليد المجردة. وقول الناظم: (النسا) بالقصر للوزن، والألف في قوله: (الأجوداً) و (أسلما) للإطلاق، وقوله: (أو رق) (أو أسرى) بدرج الهمزة فيهما للوزن، و (ماله) بالنصب ويجوز رفعه، والألف في قوله: (اعصما) بدل من نون التوكيد الخفيفة.

باب الغنيمة

باب الغنيمة وفي بعض النسخ: (قسم الفيء والغنيمة) أي: بفتح القاف، والمشهور تغايرهما كما يعلم مما سيأتي، وقيل: يقع اسم كل منهما على الآخر إذا انفرد، فإن جمع بينهما .. افترقا؛ كالفقير والمسكين، وقيل: اسم الفيء يقع على الغنيمة دون العكس، ومن هذين قولهم: (يسن وسم نعم الفيء) والأصل فيهما: قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله} وقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} الآيتين، وخبر وفد عبد القيس وقد فسر لهم الإيمان: «وأن تعطوا من المغنم الخمس». ولم تحل الغنيمة إلا لهذه الأمة، والغنيمة كما يؤخذ من كلام الناظم الآتي في تعريف الفيء: ما أخذناه من الحربيين قهراً؛ كالمأخوذ بقتال الرجال، وفي السفن، أو التقى الصفان فانهزموا عنه قبل شهر السلاح، وما صالحونا عليه عند القتال، وما أهدوه لنا والحرب قائمة، وما أخذه واجد أو جمع من دار الحرب سرقة، أو وجد كهيئة اللقطة ولم يمكن كونه لمسلم. (يختص منها قاتل بالسلب ... وخمس الباقي، فخمس للنبي) (يصرف في مصالح ومن نسب ... لهاشم ولأخيه المطلب) (لذكر أضعف ولليتامى ... بلا أب إن لم ير احتلاما) (والفقراء والمساكين كما ... لابن السبيل في الزكاة قدما) (وأربع الأخماس قسم المال ... لشاهد الوقعة للقتال) (لراجل سهم، كما الثلاثه ... لفارس إن مات للوراثه) (والعبد والأنثى وطفل يغني ... وكافر حضرها بإذن) (إمامنا سهم أقل ما بدا ... قدره الإمام حيث اجتهدا) (والفيء: ما يؤخذ من كفار ... في أمنهم كالعشر من تجار) (فخمسه كالخمس من غنيمه ... والباق للجند، حووا تقسيمه)

[اختصاص قاتل الحربي بسلبه] أي: يختص من الغنيمة مسلم قاتل للحربي المقبل على القتال في الحرب بسلبه؛ وإن كان كل منهما رقيقاً، أو أنثى أو صغيراً بقيده الآتي، سواء أشرطه له الإمام أم لا، وسواء أكان قتال الحربي معه أم مع غيره؛ لخبر «الصحيحين»: «من قتل قتيلاً ... فله سلبه»، وخبر أبي داوود وغيره: (أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل) ولأن ذلك مسلوب من يد الحربي، وطمع القاتل يمتد إليه غالباً. وخرج ب (المسلم): الكافر، فلا سلب له وإن قاتل بإذن الإمام، ومثل القاتل: من ارتكب غرراً كفى به شر حربي في حال الحرب .. فيستحق سلبه؛ كأن قطع يديه أو رجليه، أو يداً ورجلاً، أو قلع عينيه، أو أسره، فلو قتله غير من أسره .. فلا سلب له؛ إذا كفي بالأسر شره؛ بخلاف ما لو أمسكه واحد ومنعه الهرب، ولم يضبطه وقتله آخر ... فإنهما يشتركان في السلب؛ لأنه كفاية شره إنما حصلت بهما، أما إذا لم يرتكب غرراً في قتله؛ كأن قتله نائماً، أو مشغولاً بأكل أو غيره، أو رماه من حصن أو صفنا .. فلا سلب له؛ لأنه في مقابلة ارتكاب الخطر وهو منتف. فإن كان المقتول صبياً أو مجنوناً أو امرأة أو عبداً لم يقاتل .... لم يستحق سلبه؛ لأن قتله حرام والحالة هذه. (والسلب): ما يصحبه الحربي؛ من ثيابه الملبوسة، والخف والران، والطوق والسوار، والمنطقة والهميان، ودراهم النفقة، وآلات الحرب؛ كالدرع والسلام والمركوب وإن كان ماسكاً بعنانه وهو يقاتل راجلاً، وآلاته؛ كالسرج واللجام والجنيبة التي تقاد معه. فلو كان معه جنائب ... قال أبو الفرج الزاز: لا يستحق إلا واحدة، قال الرافعي: وهل يرجع فيها إلى تعيين الإمام، أو يقرع بين الجنائب؟ فيه نظر؛ قال النووي: وفي التخصيص بجنيبة نظر، وإذا قيل به .. فينبغي أن يختار القاتل جنيبة منها، لأن كل واحد منها جنيبة قتيله فهذا هو المختار، بل الصواب بخلاف ما أبداه الرافعي، وما قاله الزاز ... نقله ابن الرفعة عن الشيخ أبي حامد والماوردي.

ولا يدخل في السلب المهر التابع لمركوبه، ولا الحقيبة المشدودة على الفرس، ولا ما فيها من الأمتعة والدراهم، ولا لاغلام الذي معه. [تخميس الباقي من الغنيمة بعد السلب] ثم بعد السلب يخمس الباقي من الغنيمة بعد إخراج مؤنها- كأجرة الحمال- خمسة أقسام متساوية ويؤخذ خمس رقاع متساوية ويكتب على واحدة منها (لله) أو (للمصالح) وعلى أربع (للغانمين) ثم تدرج في بنادق مستوية، ويخرج لكل قسم رقعة، فما خرج عليه سهم الله أو المصالح .. جعله بين أهل الخمس يقسم على خمسة، فتكون القسمة من خمسة وعشرين، ويقدم عليه قسمة ما للغانمين، لحضورهم وانحصارهم. وتستحب القسمة بدار الحرب؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، بل تأخيرها إلى دار الإسلام بلا عذر مكروه. بيان مصرف خمس الغنيمة] أحد أخماس الخمس: للمصالح، وكان قبل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأهله ومصالحه، ما فضل .. جعله في السلاح عدة في سبيل الله وسائر المصالح، وإضافته لله؛ للتبرك بالابتداء باسمه، وكان يملكه، لكن جعل نفسه فيه كغيره تكرماً، ولا يورث عنه، بل يصرف بعده لمصالح المسلمين، كسد الثغور وعمارة الحصون، القناطر والمساجد، وأرزاق القضاة والعلماء والمؤذنين، ويجب تقديم الأهم فالأهم. والثاني: لمن نسب من جهة الأب لهاشم ولأخيه المطلب، دون من نسب لعبد شمس ونوفل وإن كان الأربعة أولاد عبد مناف، لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسمة على بني الأولين مع سؤال بني الأخيرين له، رواه البخاري، وأما بنو هاشم ... فلأنه منهم، وأما بنو المطلب .. فلأنهم لم يفارقوه في جاهلية ولا إسلام، حتى إنه لما بعث بالرسالة ... نصروه وذبوا عنه، بخلاف بني الأخيرين، بل كانوا يؤذونه. أما من نسب لهما من جهة الأم .. فلا شيء له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما هاشمية، سواء في ذلك غنيهم وفقيرهم، وكبيرهم وصغيرهم،

وقريبهم وبعيدهم/ والحاضر بموضع الفيء والغائب عنه؛ لعموم الآية، وللذكر ضعف ما للأنثى؛ لأنه عطية من الله تعالى، فيسحتق بقرابة الأب؛ كالإرث. وقال الإمام: ولو كان الحاصل قدراً لو وزع عليهم لا يسد مسداً ... قدم الأحوج فالأحوج ولا يستوعب للضرورة. والثالث: لليتامى؛ وهو صغير ذكراً كان أو أنثى أو خنثى؛ أي: معسر لا أب له ولو كان له جد أو أم، أما صغره .. فلخبر: «لن يتم بعد احتلام» رواه أبو داودد وحسنه النووي، لكن ضعفه المنذري وغيره، وأما إعسره .. فلإشعار لفظ اليتم به، ولأن غناه بمال أبيه إذا منع استحقاقه، فغناه بماله أولى بمنعه، وأما فقد الأب .. فللوضع والعرف، فلو اختل شيء من الثلاثة .. لم يعط من سهم اليتامى. والرابع: للفقراء والمساكين. والخامس: لابن السبيل، وسبق بيان الثلاثة في قسم الصدقات. قال الماوردي: ويجوز للإمام أن يجمع للمساكين بين سهمهم من الزكاة، وسهمهم من الخمس، وحقهم من الكفارات، فتصير لهم ثلاثة أموال. قال: وإذا اجتمع في واحد يتم ومسكنة .. أعطي باليتم دون المسكنة؛ لأن اليتم وصف لازم، والمسكنة زائلة، ولا يجوز الاقتصار من كل صنف على ثلاثة، بل يعم كما في الزكاة إذا صرفها الإمام، للآية، ولو فقد بعضهم .. وزع سهمه على الباقين كالزكاة، ويجوز التفاوت بين آحاد كل صنف غير الثني؛ لأن استحقاقهم بالحاجة وهي تتفاوت، بخلاف الثاني لا تفاوت فيه بغير الذكورة والأنوثة كما مر، ولا يجوز الصرف لكافر، قال في «الكفاية»: إلا من سهم المصالح عند المصلحة. ومن ادعى أنه فقير، أو مسكين، أو ابن سبيل .. قبل قوله بلا بينة، أو أنه قريب، أو يتيم .. لم يقبل قوله إلا ببينة.

[قسمة الأخماس الأربعة للغانمين] والأخماس الأربعة عقارها ومنقولها للغانمين؛ أخذاً من الآية، اقتصر فيها بعد الإضافة إليهم على إخراج الخمس، وهم: من شهد الوقعة لأجل القتال وإن لم يقاتل، حضر في ول القتال أو في أثنائه، ومن شهدها لا لأجل القتال وقاتل؛ كالأجير لحفظ أمتعة، والتاجر والمحترف، ومن شهدها غير كامل ولو الرضخ، ولا شيء لمن حضر بعد انقضاء القتال ولو قبل حيازة المال، ولو حضر قبل انقضائها .. فلا حق له فيما غنم قبل حضوره، وللراجل سهم، وللفارس ثلاثة سهام؛ سهمان للفرس، وسهم له؛ للأتباع كما في «الصحيحين»، / فلا يزاد عليها وإن حضر بأكثر من فرس، كما لا ينقص عنها، فلو كان في سفينة ومعه فرس .. أعطيها أيضا؛ لأنه قد يحتاج إلى الركوب؛ نص عليه وحمله ابن كج على من بقرب الساحل، واحتمل أن يخرج ويركب، وإلا .. فلا معنى لإعطائه. وفي «الروضة» عن صاحب «العدة» أنه لو ضاع فرسه، فأخذه غيره وقاتل عليه ... كان سهمه لمالكه؛ فإنه شهد الوقعة، ولم يوجد منه اختيار إزالة يده، فصار كما لو كان معه ولم يقاتل عليه. ولو حضر اثنان بفرس مشترك بينهما .. فهل يعطى كل منهما سهم فرس أو لا يعطيان لها شيئاً، أو يعطيانه مناصفة؟ أوجه، قال النووي: لعل الثالث أصحها، وصححه السبكي فلو ركباه .. فيه وجه رابع، قال النووي: إنه حسن، واختاره ابن كج، وهو إن كان يصلح للكر والفر مع ركوبهما .. فلهما أربعة أسهم، وإلا فسهمان. وسواء في ذلك الفرس العتيق؛ وهو عربي الأبوين، والبرذون؛ وهو عجميهما، والهجين، وهو العربي أبوه فقط، والمقرف؛ وهوالعربي أمه فقط؛ لصلاحية الجميع للكر ولافر، ويعتبر كونه جذعاً، أو ثنياً، نبه عليه الرافعي في (المسابقة) ولا يسهم لفرس مهزول، أو لا نفع فيه، لكونه كسيراً أو هرماً، أو صغيراً أو ضعيفاً أو

نحوها ولا لبعير وفيل وبغل وغيرها؛ لأنها لا تصلح للحرب صلاحية الخيل لها بالكر والفر اللذين تحصل بهما النصرة. نعم؛ يرضخ لهما، ورضخ الفيل فوق رضخ البغل، ورضخ البغل فوق رضخ الحمار، ولو مات بعضهم بعد انقضائه والحيازة .. فحقه لوارثه؛ بناء على أن الغنيمة تملك بالانقضاء، ولو مات في القتال .. فلا شيء له، بخلاف موت فرسه حينئذ فإنه يستحق سهمه؛ لأنه متبوع والفرس تابع. وللعبد والأنثى وطفل يغني، أي: ينفع في القتال، وكذا كافر حضر الوقعة بإذن إمامنا بلا أجرة .. سهم أقل ما بدا؛ أي: أقل من سهم راجل وإن كانوا فرساناً، وهذا هو المسمى بالرضخ. قدره الإمام باجتهاده. ويفاوت بين أهله بحسب نفعهم: فيرجح المقاتل ومن قتاله أكثر على غيره، والفارس على الراجل، والمرأة التي تداوي الجرحى وتسقي العطاش على التي تحفظ الرحال، والأصل في ذلك: الاتباع، رواه في العبد الترمذي وصححه، وفي الصبي والمرأة البيهقي مرسلاً، وفي قوم من اليهود أو داوود بلفظ (أسهم) وحمل على الرضخ، ولأنهم ليسوا من أهل فرض الجهاد، ولكنهم كثروا السواد فلا يحرمون. وأما المجنون .. فقال الماوردي: يرضخ له كالصبي، وقال الإمام: لا يرضخ له وفاقاً، قال الأذرعي: ولعل هذا الوفاق الذي ذكره إذا لم يكن له تمييز، فإن كان .. فقد يكون أجرأ وأشد قتالاً من العقلاء. فإن لم يأذن الإمام للكافر .. فلا سهم له وإن أذن له غيره من الأجناد؛ لكونه متهماً بموالاة أهل دينه، بل يعزره على ذلك أن أدى إليه اجتهاده، وإن أذن له بأجرة .. اقتصر عليها. والمشكل والزمن والأعمى ونحوهم .. كالطفل في الرضخ. وشمل تعبير ب (الكافر): المعاهد والمستأمن والحربي إذا حضروا بإذن الإمام، حيث تجوز الاستعانة بهم كالذمي، وقد قال الزركشي" إنه المتجه، قال: وأما المبعض ..

فالظاهر أنه كالعبد، ويحتمل أن يقال: إن كانت مهايأة وحضر في نوبته .. أسهم له وإلا رضخ. ولو زال نفص أهل الرضخ قبل انقضاء الحرب .. أسهم لهم، بل لو بان بعد انقضائها ذكورة الخنثى .. أسهم له. ولا سلب ولا سهم ولا رضخ لمخذل، ولا مرجف، ولا خائن [بيان الفيء] والفيء: ما يؤخذ من كفار في أمنهم بلا قتال، ولا إيجاف خيل ولا ركاب من منقول وعقار، كالعشر المأخوذ من التجار والجزية، وما أهدوه في غير الحرب، ومال ذمي مات بلا وارث، أو فضل عن وارثه، ومال مرتد قتل أو مات، فخمس مال الفيء يقسم كخمس مال الغنيمة كما تقدم، والباقي وهو الأربعة أخماس للأجناد المرصدين للجهاد. ويستحب أن يضع الإمام دفتراً، وينصب لكل قبيلة أو جماعة عريفاً ويبحث عن حال كل واحد وعياله ما يحتاجون إليه، فيعطي كل واحد مؤنته ومؤنتهم، ويراعي الزمان والمكان، والرخص والغلاء، ومروءة السخص وضدها، ولا يثبت في الدفتر العميان والزمني، والصبيان والمجانين، والنسوة والعبيد، والكفار والجهلة بالقتال، ومن يعجز عنه؛ كالأقطع وشبهه. وإذا طرأ على بعض المقاتلة مرض أو جنون يرجى زواله .. أعطي ولم يسقط من الدفتر، وإن لم يرج .. أسقط منه ويعطي، وإذا مات .. تعطى زوجته إلى أن تنكح، وأولاده إلى أن يستقلوا. وقول الناظم: (قدماً) ببنائه للفاعل أو المفعول، وألفه للإطلاق وقوله: (والعبد) وما عطف عليه بالجر عطفاً على (راجل) والألف في قوله: (اجتهدا) للإطلاق، وقوله (والباق) بحذف الياء للوزن

باب الجزية

باب الجزية تطلق على العقد وعلى المال الملتزم، وهي مأخوذة من المجازاة لكفنا عنهم، وقيل: من الجزاء بمعنى القضاء، قال تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} أي: لا تقضي. والعقود التي تفيد الكافر الأمان ثلاثة: أمان، وهدنة، وجزية؛ لأن التأمين إن تعلق بمحصور .. فهو الأمان، أو بغير محصور كأهل إقليم أو بلد: فإن كان إلى غاية ... فهو الهدنة، أو لا إلى غاية .. فهو الجزية، وهما مختصان بالإمام، بخلاف الأمان، كذا قاله الأكثرون. وقضيته/ أن تأمين الإمام غير محصورين لا يسمى أماناً، وأن الجزية لا تصح في محصورين، وليس مراداً. والأصل في الجزية قبل الإجماع: قوله تعالى: {قتلوا الذين لا يؤمنون بالله} إلى قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يدو وهم صغرون}، وقد أخذ صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر؛ كما رواه البخاري، ومن أهل نجران، كما رواه أو داوود، ومن أهل أيلة؛ كما رواه البيهقي، وقال: إنه منقطع والمعنى في ذلك: أن في أخذها معونة لنا وإهانة لهم، وربما يحملهم ذلك على الإسلام. ولم يتعرض الناظم للأولين .. فالأحسن أن نذكر شيئاً من أحكامهما. [أمان الكافر] فيصح أمان حربي محصور من كل مسلم مكلف مختار ولو امرأة أو رقيقاً لكافر لفظ يفيد الغرض بصريح؛ ك (أجرتك) و (أنت مجار) أو (أمنتك) أو (أنت آمن) أو كناية؛ ك (أنت على ما تحب)، أو (كن كيف شئت) وتكفي رسالة أو إشارة مفهمة. ويشترط علم الكافر بالأمان، وكذا قبوله على الراجح، وألا تزيد مدته على أربعة أشهر، فإن زاد .. بطل في الزائد، ويبلغ بعدها المأمن، وألا يتضرر بالمؤمن المسلمون، كجاسوس

أو طليعة، وحقه أن يغتال، ولا يبلغ المأمن، وألا يكون المؤمن أسيراً معهم، ولا يتعدي الأمان إلى أهله وماله إلا باشتراطه، وليس للإمام نبذ الأمان إن لم يخف خيانة. والمسلم بدار الحرب إن أمكنه إظهار دينه .. سن له الهجرة، وإلا وجبت إن قدر، وإلا ... فهو معذور إلى أن يقدر، ولو قدر الأسير على الهرب .. لزمه، ولو أطلقوه بلا شرط .. فله اغتيالهم، أو على أنهم في أمانه .. حرم، فإن تبعه قوم .. فليدفعهم ولو بقتلهم، ولو شرطوا ألا يخرج من دارهم .. حرم الوفاء به، ولو قالوا: (لا نطلقك حتى تحلف ألا تخرج) فحلف .. لم يحنث بالخروج. [شروط الهدنة] وأم الهدنة ... فشروطها أربعة: الأول: أن يهادن الإمام، أو نائبه العام أهل إقليم، أو يهادن وإلى الإقليم أهل بلد. الثاني: كونها للمصلحة. الثالث: كونها إلى أربعة أشهر فأقل إن لم يكن بالمسلمين ضعف، وإلا .. جازت الزيادة إلى عشر سنين بحسب الحاجة، ولا تجوز الزيادة عليها، لكن إن انقضت المدة والحاجة باقية .. استؤنف العقد، ويجوز ألا يؤقت الإمام الهدنة، ويشترط انقضاءها متى شاء، ويجوز أن يقول: (هادنتكم ما شاء فلان) وهو مسلم عدل ذو رأى. الرابع: الخلو عن الشروط الفاسدة، كشرط ألا ينزع أسرى المسلمين منهم، أو يرد إليهم الذي أسروه وأفلت منهم، أو يقيموا بالحجاز، أو يدخلوا الحرم، أو يظهروا الخمر في دارنا، أو ترد إليهم النساء إذا جئن مسلمات. وإذا انقضت أو نقضت .. فحكمهم كما قبلها. ولو نقض بعضهم، ولو ينكر الباقون بقول ولا فعل .. انتقض فيهم أيضا، وإن أنكروا باعتزالهم، أو إعلام الإمام ببقائهم على العهد .. فلان ولو خاف خيانتهم .. فله نبذ العهد، وتبلغيهم المأمن. وللجزية خمسة أركان: صيغة، وعاقد، ومعقود له، ومال معقود عليه، ومكان قابل للتقرير فيه.

(وإنما تؤخذ من حر ذكر ... مكلف له كتاب اشتهر) (أو المجوس دون من تهودا ... آباؤه من بعد بعثة الهدى) (أقلها في الحول دينار ذهب ... وضعفه من متوسط الرتب) (ومن غني أربع إذا قبل ... واشرط ضيافة لمن بهم نزل) (ثلاثة, ويلبسوا الغيارا ... أو فوق ثوب جعلوا زنارا) (ويتركوا ركوب خيل حربنا ... ولا يساؤوا المسلمين في البنا) (وانتفض العهد بجزية منع ... وحكم شرع بتمرد دفع) (لاهرب, بالطعن في الإسلام أو ... فعل يضر المسلمين النقض, لو) (شرط ترك, والإمام خيرا ... فيه كما في كامل قد أسرا) [صيغة الجزية] الركن الأول: الصيغة؛ كأن يقول الإمام أو نائبه: (قررتكم) , أو (أذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا, وتنقادوا لأحكام الإسلام). ويشترط التعرض لقدرها, لا لكفهم اللسان عن الله تعالى ودينه رسوله صلى الله عليه وسلم, ولابد من القبول لفظاً؛ كـ (قبلت) أو (رضيت بذلك) , ولا يصح مؤقتاً, وإذا عقد فاسداً .. لم يجب الوفاء, ولا يغتال, ولو بقي على حكم ذلك العقد سنة, أو أكثر .. وجب لكل سنة مضت دينار, ولو دخل حربي دارنا وبقي مدة, ثم اطلعنا عليه, لم يلزمه شيء لما مضى, ويجوز قتله واسترقاقه, وأخذ ماله والمن عليه, والتقرير بالجزية, ولو قال: (دخلت لرسالة) , أو (بأمان مسلم) .. صدق بيمينه. [عاقد الجزية] الثاني: العاقد؛ ولا تصح إلا من الإمام أو نائبه فيها, فلو عقدها واحد من الرعبة .. لم تصح, ولو أقام سنة فأكثر .. فلا شيء عليه. [المعقود له الجزية] الثالث: المعقود له؛ وإنما تعقد لحر ذكر مكلف, فلا تؤخذ ممن فيه رق, ولا من امرأة وخنثى, ولا من صبي ومجنون؛ لأن بذلها لحقن الدم وهو حاصل لهم, وقد كتب عمر

رضي الله تعالى عنه إلى أمراء الأجناد: (ألا تأخذوا الجزية من النساء والصبيان) رواه البيهقي بإسناد صحيح, وروي: لا جزية على العبد. وألحق بالمرأة الخنثى, فلو بانت ذكورته .. فهل تؤخذ منه للسنين الماضية؟ وجهان, قال في "الروضة": ينبغي أن يكون الأصح: الأخذ, وجزم به "المجموع" في (باب الأحداث) , وقال في "المهمات": ينبغي تصحيح عكسه؛ كما لو دخل حربي دارنا وبقي مدة ثم اطلعنا عليه .. لا نأخذ منه شيئاً لما مضى على الصحيح, ورد بأنه لا جامع بينهما؛ لأن الخنثى عقدت له الجزية وقد بانت ذكورته, فعملنا بما في نفس الأمر؛ كما في البيع بخلاف الحربي. للمكلف المذكور كتاب اشتهر أمره بأنه من الكتب المنزلة؛ كالتوراة والإنجيل, وصحف إبراهيم, وزبور داوود صلى الله عليهما وسلم, أو له شبهة كتاب؛ وهم المجوس؛ لزعمهم ذلك, والأظهر: أنه كان لهم كتاب فرفع, وقد تقدم: صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. وخرج بما ذكره: عبدة الأوثان والملائكة والكواكب, فتعقد لليهودي أو النصراني, أو نحوه ممن زعم التمسك بكتاب؛ كمن أحد أبوية كتابي والآخر وثني إن دخل جده الأعلى في ذلك الدين قبل نسخه ولو بعد تبديله, وإن لم يجتنب المبدل منه, أو شككنا في وقته؛ تغليباً لحقن الدم. وخرج بذلك ما لو علمنا أن جده الأعلى دخل في ذلك بعد نسخه؛ كمن تهود بعد بعثة عيسى عليه السلام, أو تنصر بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام, فلا يقر بالجزية, والصائبة من النصارى, والسامرة من اليهود يقرون بها إن وافقوهم في أصل دينهم, وإلا .. فلا. ولو عقدت لمن زعم التمسك بكتاب, ثم أسلم اثنان من أهل ذلك الدين, وحسن حالهما بحيث تقبل شهادتهما, وشهدا بخلاف ما زعمه .. اغتيل, ولا يبلغ المأمن؛ لتدليسه, والأمان الفاسد إنما يمنع الاغتيال عند ظن الكافر صحته, وهو منتف هنا.

[المعقود عليه وبيان مقدار الجزية] الرابع: المعقود عليه, وأقل الجزية: دينار ذهب في كل سنة عن كل واحد ممن ذكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "خذ من كل حالم- أي: محتلم-ديناراً" رواه أبو داوود والترمذي والنسائي, وصححه ابن حبان والحاكم. نعم؛ إن مضى حول, ولم يدفع الإمام عنهم ما يجب لهم بالعقد من الذب عنهم .. لم تجب جزية ذلك الحول؛ ذكره البغوي وغيره, وإذا عقدها بدينار .. فله أن يأخذ عنه عوضاً؛ كسائر الديون المستقرة؛ بشرط ألا ينقص عن قدر دينار؛ لأن الحق للمسلمين, وإنما امتنع عقدها بما قيمته دينار؛ لأنها قد تنقص عن دينار آخر المدة. ويستحب للإمام مماكسة العاقد لنفسه, أو لموكله حتى يزيد على دينار, بل إن أمكنه أن يعقدها بأكثر من دينار .. لم يجز أن يعقد بدونه إلا لمصلحة. ويسن أن يفاوت: فيأخذ من فقير ديناراً, ومن متوسط دينارين, ومن غني أربعة إذا أجابوا لذلك وقبلوه, فإن امتنعوا من الزيادة .. وجب قبول الدينار, ويعتبر الغنى وضده وقت الأخذ, لا وقت العقد, ويحتمل أن يكون ضابط الغني والمتوسط كما في النفقة, ويحتمل الرجوع فيه إلى العرف, وإن قال بعضهم: أنا فقير, أو متوسط .. قبل قوله, إلا أن تقوم بينة بخلافه. وإذا عقدت بأكثر, ثم علموا جواز دينار .. لزمهم ما التزموه؛ كمن اشترى شيئاً بأكثر من ثمن مثله, فإن امتنعوا من أداء الزيادة .. فهم ناقضون؛ كما لو امتنعوا من أداء الجزية, وحينئذ يبلغون المأمن, فإن عادوا وطلبوا العقد بدينار .. لزمت إجابتهم, ومن تقطع جنونه قليلاً؛ كساعة من شهر .. لزمته, أو كثيراً كيوم ويوم .. لفقت الإفاقة, فإذا بلغت سنة .. وجبت. ولو أسلم, أو مات, أو جن في أثناء سنة .. وجب قسط الماضي. ولو اجتمع دين آدمي وجزية في تركة .. سوي بينهما, وتجب على زمن وشيخ هرم, وأعمى وراهب, وأجير وفقير عجز عن كسب, فإذا تمت سنة وهو معسر .. ففي ذمته حتى يوسر, وكذا حكم السنة الثانية فما بعدها.

ويستحب للإمام أو نائبه إذا أمكنه أن يشترط عليهم إذا صولحوا في بلدهم: ضيافة من يمر بهم من المسلمين زائداً على قدر أقل جزية على غنيهم ومتوسطهم لا فقيرهم؛ لأنها تتكرر فلا يتيسر للفقير القيام بها, والأصل في اشتراطها ما رواه البيهقي: (أنه عليه الصلاة والسلام صالح أهل أيلة على ثلاث مئة, وكانوا ثلاث مئة رجل, وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين) , وروى الشيخان: (الضيافة ثلاثة أيام) , والطعام والأدم: كالخبز والسمن, والعلف: كالتبن والحشيش, ولا يحتاج إلى ذكر قدره, وإن ذكر الشعير .. بين قدره, وليكن المنزل بحيث يدفع الحر والبرد, ولا يخرجون أهل المنازل منها. وتؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون, ويكفي في الصغار أن يجري عليهم الحكم بما لا يعتقدونه, وبهذا فسر الأصحاب (الصغار) وتفسيره بغير ذلك مردود. [مكان تقرير الجزية] الخامس: المكان؛ وهو كون قراره غير الحجاز؛ وهو مكة والمدينة, واليمامة والطائف ووج الطائف, وما يضاف إلى ذلك, فيمنع كل كافر من الإقامة به ولو بطرقه الممتدة, روى البيهقي عن أبي عبيدة ابن الجراح: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: : أخرجوا اليهود من الحجاز". [ما يترتب على صحة عقد الجزية وبعض أحكام أهل الذمة] ومتى صح العقد .. لزمنا الكف عنهم, وضمان ما نتلفه عليهم نفساً ومالاً, ودفع أهل الحرب عنهم إن لم يستوطنوا دار الحرب, ونمنعهم إحداث كنيسة وبيعة ببلد أحدثناه, أو أسلم أهله عليه, أو فتح عنوة أو صلحاً بشرط الأرض لنا. ويلزمهم أن يلبسوا الغيار بكسر الغين المعجمة, أو يجعلوا فوق ثيابهم الزنار بضم الزاي؛ أي: سواء الرجال والنساء بدارنا وإن لم يشترط ذلك عليهم؛ للتمييز, ولأن عمر رضي الله تعالى عنه صالحهم على تغيير زيهم بمحضر من الصحابة؛ كما رواه البيهقي, وإنما لم يفعله

النبي صلى الله عليه وسلم بيهود المدينة, ونصارى نجران؛ لأنهم كانوا قليلين معروفين, فلما كثروا في زمن الصحابة .. احتاجوا إلى تمييز. قال في "الروضة" و"أصلها": و (الغيار): أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها بموضع لا تعتاد الخياطة عليه كالكتف, وإلقاء منديل ونحوه على الكتف كالخياطة, ثم الأولى باليهود العسلي وهو الأصفر, وبالنصارى الأزرق أو الأكهب؛ ويسمى الرمادي, وبالمجوس الأسود أو الأحمر. و (الزنار): خيط غليظ تشد به أوساطهم خارج الثياب, وليس لهم إبداله بمنطقة ومنديل ونحوهما, قال الشيخ أبو حامد: ويجعل الزنار فوق إزار المرأة كالرجل, وفي "التهذيب" وغيره: تحته؛ لأنه استر, لكن لابد من ظهور شيء منه, وإذا خرجت بخف .. فليكن أحدهما بلون والآخر بآخر, وإن لبسوا قلانس .. ميزوها عن قلانسنا. ويؤخذ من تعبير الناظم: بـ (أو) الاكتفاء بالغيار أو الزنار, وهو كذلك, فجمعهما المنقول عن عمر رضي الله تعالى عنه تأكيد, فإن انفردوا بمحلة .. فلهم تركه. وإذا دخل حماماً فيه مسلمون متجرداً, أو تجرد عن ثيابه في غير حمام بين مسلمين .. جعل في عنقه خاتم حديد أو رصاص, أو جلجلاً من حديد, أو طوقاً, ويلجأ إلى أضيق الطرق عند زحمة المسلمين فيه؛ بحيث لا يقع في وهدة, ولا يصدمه جدار, ولا يوقر ولا يصدر في مجلس فيه المسلمون, ويلزمهم أن يتركوا ركوب خيل حرب المسلمين حتى البراذين النفسية؛ لأن في ركوبنا إياها إرهاباً للأعداء وعزاً للمسلمين. نعم؛ إن انفردوا ببلد, أو قرية في غير دارنا .. ففي تمكينهم من ركوبها وجهان, حكاهما الماوردي, قال الأذرعي: والأقرب إلى النص: عدم المنع, قال: لو استعنا بهم في حرب حيث يجوز .. فالظاهر تمكينهم من ركوبها زمن القتال. وخرج بـ (الخيل): وغيرها؛ كالبغال والحمير, فلهم ركوبها بإكاف وركاب خشب لا حديد أو نحاس أو نحوه عرضاً؛ تمييزاً لهم عنا ليعطى كل حقه, ويمنع من تقليد السيف وحمل السلاح, ولجم الذهب والفضة.

قال ابن الصلاح: وينبغي منعهم من خدمة الملوك والأمراء؛ كما يمنعون من ركوب الخيل. ويلزمون ألا يساووا جيرانهم المسلمين في ارتفاع بنائهم؛ بأن يكون أنزل منه؛ لخبر: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه", وليتميز البناءان, ولئلا يطلع على عورات المسلمين, ولا يؤثر فيه رضا جاره المسلم بعدم نزوله؛ لأن المنع لحق الدين المحض, لا لمحض حق الجار, سواء أكان بناء المسلم معتدلاً, أم في غاية الانخفاض, قال البلقيني: ومحل المنع إذا كان بناء المسلم مما يعتاد للسكنى, فلو كان قصيراً لا يعتاد فيها, لأنه لم يتم بناؤه, أو لأنه هدمه, أو انهدم إلى أن صار كذلك .. لم يمنع الذمي من بناء جداره على أقل ما يعتاد في السكنى؛ لئلا يتعطل عليه حقها الذي عطله المسلم باختياره, أو تعطل عليه لإعساره. وخرج بـ (الجار): غيره؛ كأن انفردوا بمحل بطرف البلد منفصل عنها, فيجوز رفع البناء. [ما ينقض عقد الذمة] وانتقض العهد؛ أي: عقد الذمة بمنع أداء الجزية, قال في "الروضة" كـ"أصلها": هكذا قال الأصحاب, وخصه الإمام بالقادر, أما العاجز إذا استمهل .. فلا ينقض عهده بذلك, قال: ولا يبعد أخذها من الموسر قهراً, ولا ينتقض عهده, ويخص قولهم بالمتغلب المقاتل. انتهى, وما ذكره الإمام مفهوم من تعبير الأصحاب بالمنع. وبتمرد دفع به حكم الشرع؛ وهو الامتناع من الانقياد لحكامنا بالقوة والعدة, لا بالهرب من أداء الجزية, أو من الانقياد لحكم الشرع؛ كما صرح به الناظم؛ تبعاً للإمام والغزالي, وأطلق غيرهما ذلك, وهو ما في "المنهاج" وغيره, وسواء أشرط الانتقاض بذلك أم لا, ولهذا أطلق فيه, وقيد بالشرط فيما يأتي. ووجه الانتقاض به: مخالفته لمقتضى العقد, ويؤخذ من ذلك انتقاض العقد بقتال المسلمين من باب أولى؛ لأن عقد الذمة؛ للكف عن القتال, فيناقضه القتال.

وينتقض العقد بالطعن في الإسلام؛ أي: أو القرآن, أو النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يعتقده؛ كنسبته إلى الزنا, أو الطعن في نسبه, بخلاف ما لو وصفه على وفق اعتقاده؛ كقوله: إنه ليس بنبي, أو أنه قتل اليهود بغير حق .. فلا ينتقض العقد بذلك وإن شرط الانتقاض به. وينتقض العقد بفعل يضر المسلمين؛ كأن زنى بمسلمة, أو أصابها بنكاح, أو دل أهل الحرب على عورة المسلمين, أو فتن مسلماً عن دينه, أو دعاه إلى دينه, أو قطع عليه الطريق إن شرط ترك الطعن والفعل المذكور في العقد؛ أي: وشرط انتقاضه بفعل أحدهما, وإلا .. فلا ينتقض به. وخرج بما ذكره: إسماعه المسلمين شركاً, وقولهم في عزير والمسيح, وإظهار الخمر والخنزير, والناقوس والعيد, فلا ينتقض العقد بها وإن شرط. ومن انتقض عهده بقتال .. قتل, أو بغيره .. تخير الإمام فيه بين قتل ورق ومن وفداء؛ كما في الأسير الكامل, فإن أسلم قبل الاختيار .. امتنع. والألف في قول الناظم: (تهودا) و (الغيارا) و (خيرا) و (أسرا) للإطلاق, وقوله: (النقض) مبتدأ مؤخر خبره قوله: (بالطعن) أي: والنقض حاصل أو يحصل بالطعن, وقوله: (شرط ترك) ببنائه للمفعول, وإدغام الطاء في التاء, و (ترك) مرفوع به.

باب الصيد والذبائح

باب الصيد والذبائح جمع ذبيحة, والأصل فيه: قوله تعالى: {وأحل لكم صيد البحر} , وقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} , وقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (من سلم وذي كتاب حلا ... ولا وثني والمجوس أصلا) (فالشرط فيما حللوا إن يقدر ... عليه: قطع كل حلق ومري) (حيث الحياة مستقر الحكم ... بجارح لا ظفر أو عظم) (وغير مقدور عليه صيدا ... أو البعير ند أو تردى) (الجرح إن يزهق بغير عظم ... أو جرحه أو موته بالغم) (إرسال كلب جارح أو غيره ... من سبع معلم أو طيره) (يطيع غير مرة إذا ائتمر ... ودون أكل ينتهي إن ينزجر) (وإنما يحل صيد أدركه ... ميتاً أو المذبوح حال الحركه) (وسن أن يقطع الأوداج, كما ... ينحر لبة البعير قائماً) (ووجه المذبوح نحو القبله ... وقبل أن تصل قل: (باسم الله)) (وسم في أضحية وكبرا ... وبالدعاء بالقبول فاجهرا) [ما يعتبر لحل الحيوان بالصيد والتذكية] يعتبر في حل الحيوان المأكول البري بالصيد والتذكية أمور: الأول: أن يكونا ممن تحل مناكحته؛ وهو المسلم والكتابي بشرطه السابق في (كتاب النكاح) , قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} , وتحل ذكاة أمة كتابية وصيدها وإن لم تحل مناكحتها؛ إذ لا أثر للرق في الذبيحة, بخلاف المناكحة, ولا فرق في حل ذبيحة الكتابي بين ما اعتقدوا حله؛ كالبقر والغنم, وتحريمه؛ كالإبل, خلافاً لمالك رضي الله تعالى

عنه, ولا اعتبار بالصيد والتذكية من الوثني والمجوسي ونحوهما. فلو شارك مجوسي مسلماً في ذبح, أو اصطياد قاتل؛ كأن أمرا سكيناً على حلق شاة, أو قتلا صيداً بسهم أو كلب .. حرم المذبوح والمصطاد؛ تغليباً للحرام. لو أرسلا كلبين أو سهمين: فإن سبق آلة المسلم فقتل, أو أنهاه إلى حركة مذبوح .. حل, ولو انعكس, أو جرحاه معاً, أو جهل, أو مرتباً ولم يذفف أحدهما .. حرم؛ تغليباً للحرام. ويعتبر في الذابح أيضاً: ألا يكون محرماً والمذبوح صيد, وفي الصائد أيضاً: أن يكون بصيرا, فيحرم صيد الأعمى برمي وكلب؛ لأنه ليس له قصد صحيح. ويحل ذبح أعمى وصبي ولو غير مميز, ومجنون وسكران؛ لأن لهم قصداً وإرادة في الجملة. وتحل ميتة السمك والجراد ولو صادها مجوسي, وكذا الدود المتولد من طعام؛ كخل وفاكهة إذا أكل معه ميتاً, ولا يقطع بعض سمكة حية, فإن فعل ذلك, أو بلع سمكة حية .. حل. الثاني: يعتبر في حل الحيوان البري المقدور عليه: قطع كل الحلق؛ أي: الحلقوم: وهو مجرى التنفس, والمريء بالمد والهمز: وهو مجرى الطعام والشراب, فلو ترك شيئاً من الحلق أو المريء وإن قل, ومات الحيوان .. فهو حرام. الثالث: كون القطع المذكور حال استقرار الحياة في المقطوع, إما قطعاً, وإما ظناً, ويحصل الظن بانفجار الدم وتدفقه, وبشدة الحركة بعد القطع, وبعلامات أخر؛ كصوت الحلق, وقوام الدم على طبيعته, وشرط الإمام اجتماع هذه الأمور, والأوجه: الاكتفاء بما يحصل به غلبة الظن منها, وهو ما صححه النووي في شدة الحركة, واقتضاه كلام الإمام فيها. واعتبرت الحياة المستقرة؛ ليخرج ما إذا فقدت وكان فقدها بسبب من جرح, أو أنهدم سقف, أو أكل نبات ضار, أو نحوها؛ لوجود ما يحال عليه الهلاك, أما إذا كان لمرض .. فيحل مع فقدها.

الرابع: كون القطع بجارح؛ كحديد ونحاس, وذهب وفضة, ورصاص وخشب, وقصب وحجر وزجاج, لا ظفر أو عظم؛ لخبر "الصحيحين" عن رافع بن خديج قال: يا رسول الله؛ إنا لاقوا العدو غداً, ليس معنا مدى أفنذبح بالقصب؟ فقال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه .. فكلوه, ليس السن والظفر, وسأحدثكم عن ذلك, أما السن .. فعظم, وأما الظفر .. فمدى الحبشة", وألحق بهما باقي العظام. ومعلوم مما سيأتي حل ما قتله الكلب أو نحوه بظفره أو نابه, فلا حاجة إلى استثنائه. والنهي عن الذبح بالعظام قيل: تعبد؛ وبه قال ابن الصلاح, وقال النووي في "شرح مسلم": معناه: لا تذبحوا بها؛ لأنها تنجس بالدم, وقد نهيتم عن تنجيسها في الاستنجاء؛ لكونها زاد إخوانكم من الجن, ومعنى قوله: "وأما الظفر فمدى الحبشة": أنهم كفار, وقد نهيتم عن التشبيه بهم. [ذكاة غير المقدور عليه] وغير المقدور عليه من الحيوان حال كونه صيداً, أو البعير ند؛ أي: ذهب على وجهه شارداً, أو تردى في بئر أو نحوها وتعذر قطع حلقومه ومريئه .. تصير أعضاؤه كلها مذبحاً, ففي أي: عضو منه حصل الجرح .. أجزأ إذا أزهق الحياة المستقرة بجارح غير عظم وظفر كما علم مما مر؛ لقوله عليه السلام في بعير ند, فضربه رجل بسهم فحبسه الله: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش, فما غلبكم منها .. فاصنعوا به هكذا" رواه الشيخان. [ذكاة الصيد] وذكاة الصيد تحصل بجرحه؛ بإرسال نحو سهم, أو موته بالغم من الكلب, أو الطير, أو إرسال كلب جارح, أو غيره من جوارح السباع والطيور؛ ككلب وفهد, وباز وشاهين. ويشترط كون الجارح معلماً؛ بأن يأتمر بأمر صاحبه؛ أي: يهيج بإغرائه, وينزجر بزجره ولو بعد شدة عدوه, ويمسك الصيد ليأخذه الصائد, ولا يأكل منه, يشترط تكرر هذه الأمور؛ بحيث يظن تأدب الجارحة, والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة بالجوارح.

والأصل في ذلك: قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] , وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة الخشني لما قال له: إني أصيد بكلبي المعلم وبغيره: «ما صدت بكلبك المعلم .. فاذكر اسم الله عليه وكل, وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته .. فكل» رواه الشيخان", وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن أكل .. فلا تأكل, فإنما أمسكه على نفسه " رواه الشيخان". ولا يحل المتردي بإرسال الكلب أو نحوه في الأصح وإن اقتضى كلام الناظم خلافه, وفارق إرسال السهم بأن الحديد يستباح به الذبح مع القدرة, بخلاف عقر الكلب. قال الإمام: ولا مطمع في انزجار جارحة الطير بعد الطيران, بخلاف جارحة السباع؛ نقل ذلك عنه في (الروضة» كل أصلها) , واقتضاه كلام «المنهاج» كـ «أصله» , لكن نص في «الأم» على اشتراط ذلك فيها أيضاً, قال البلقيني: ولم يخالفه أحد من الأصحاب, وقد اعتبره في «البسيط» , ثم ذكر مقالة الإمام بلفظ: (قيل). ولو ظهر كونه معلماً, ثم أرسله على صيد فأكل منه عقب إمساكه, أو صار يقاتل دونه. . لم يحل ذلك الصيد, فيشترط تعليم جديد. وإنما يحل الصيد إذا أدركه ميتاً بسبب الجرح المزهق, أو بغم الجارحة, أو أدركه في حال حركة المذبوح, أو أدركه وفيه حياة مستقرة وتعذر ذبحه بلا تقصير منه؛ كأن سل السكين فمات قبل إمكان ذبحه, أو اشتغل بطلب المذبح, أو بتوجيهه للقبلة, أو وقع منكساً فاحتاج إلى قلبه ليقدر على الذبح, أو حال بينهما سبع, أو امتنع منه بقوته ومات قبل القدرة عليه. ولو شك في التمكن من ذكاته. . حل في الأظهر, وإن مات لتقصيره؛ كأن لا يكون معه سكين, آو غصبت, أو نشبت في الغمد ... حرم. [ما يستحب في الذبح] وسن أن يقطع الذابح الأوداج: جمع ودج بفتح الواو والدال, وليس في كل حيوان غير ودجين, وهما عرقان في صفحتي العنق يحيطان بالحلقوم, وقيل: بالمريء, فلو لم يقطعهما

الذابح. . حل, وينحر لبة الإبل, ويذبح حلق البقر والغنم؛ للاتباع, رواه الشيخان, ولطول عنق الإبل فيكون أسرع لخروج روحها, ولو عكس فقطع حلقوم الإبل ولبة غيرها .. لم يكره؛ إذ لم يرد فيه نهي. وقضية كلام الناظم: أن جميع ما عدا الإبل يخالفها فيما ذكر, وقضية التعليل السابق: أن ما طال عنقه كالنعام والكركي. . مثلها. و(اللبة) بفتح اللام: من أسفل العنق. ويندب أن يكون البعير قائماً على ثلاث معقول الركبة اليسرى, وإلا .. فباركاً, وأن تكون البقرة والشاة مضجعة لجنبها الأيسر, وتترك رجلها اليمنى لتستريح بتحريكها, وتشد باقي القوائم؛ لئلا تضطرب حال الذبح فيزل الذابح. ويندب توجيه مذبح المذبوح للقبلة؛ لأنها أشرف الجهات, ويسن أن يقول عند الذبح: (باسم الله) , ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يجوز أن يقول: (باسم الله واسم محمد) لإيهامه التشريك, ودليل الإضجاع والتوجيه والتسمية؛ الاتباع في أحاديث الشيخين وغيرهما في الأضحية بالضأن", وإلحاق غير ذلك به. ويفهم من توجيه المذبوح للقبلة: توجه الذابح لها, وسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الذبح كغيرها؛ نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه. ويسن في الأضحية خاصة أن يسمي الله تعالى عند ذبحها, ويكبر بعدها؛ لأنها أيام تكبير, ويجهر بالدعاء بالقبول فيقول: (اللهم؛ منك وإليك فتقبل) , ولو قال: (كما تقبلت من إبراهيم خليلك ومحمد عبدك ورسولك صلى الله عليهما وسلم) .. لم يكره, ولم يسن. وقول الناظم: (الاوداج) بنقل حركة الهمزة إلى الساكن الصحيح قبلها, (تصل) بحذف الياء, وفي نسخة بدلها (تصيد) , والألف في قوله: (حلاً) للإطلاق, وفي قوله: (كبرا) و (فاجهرا) بدل من نون التوكيد. * * *

باب الأضحية

باب الأضحية بضم الهمزة وكسرها مع تخفيف الياء وتشديدها, ويقال: ضحية بفتح الضاد وكسرها, ويقال: أضحاة بفتح الهمزة وكسرها, وهي ما يذبح من النعم تقرباً إلى الله تعالى من يوم العيد إلى آخر أيام التشريق كما سيأتي. والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أي: صل صلاة العيد وانحر النسك, وخبر مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين, ذبحهما بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم, وسمى وكبر, ووضع رجله على صفاحهما). وليست التضحية واجبة؛ لما روى البيهقي وغيره بإسناد حسن: أن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس ذلك واجباً، بل هي سنة كفاية تتأدى بفعل واحد من أهل البيت لها, ويكره تركها, وانما تسن لمسلم قادر حر كله أو بعضه, وأمّا المكاتب. . فهي منه تبرع, فيجري فيها ما يجري في سائر تبرعاته. (وَوَقْتُهَا قَدْرُ صلاةِ ركعَتَيْنْ ... مِنَ الطُّلُوعِ تَنْقَضِي وخُطْبَتَيْنْ) (وسُنَّ مِنَ بعدِ ارتفاعِهَا إلى ... ثلاثةِ التَّشرِيقِ أَنْ تُكَمَّلا) (عَن واحِدٍ ضَأْنٌ لَهُ حَوْلٌ كَمَلْ ... أوْ مَعَزٌ في ثالثِ الحَوْلِ دَخَلْ) (كَبَقَرٍ لَكِنْ عنِ السبعِ كَفَتْ ... وإِبِلٍ خَمْسَ سنينَ اسْتَكْمَلَتْ) (ولَمْ تَجُزْ بَيِّنَةُ الهُزَالِ ... ومَرَضٍ وعَرَجٍ في الحالِ) (وناقِصُ الجُزْءِ كبعضِ أُذْنِ ... أَوْ ذَنَبٍ كَعَوَرٍ في العَيْنِ) (أو العَمَى أو قَطْعِ بعضِ الأَلْيَةِ ... وجازَ نَقْصُ قَرْنِهَا والخُصْيَةِ) (والفَرْضُ بعضُ الَّلحمِ لَوْ بِنَزْرِ ... وكُلْ مِنَ المندُوبِ دونَ النَّذْرِ) فيها أربع مسائل:

[وقت الأضحية] الأولى: يدخل وقت التضحية بمضي قدر ركعتين, وخطبتين خفيفات بعد طلوع الشمس يوم النحر, وتأخيرها إلى ارتفاعها كرمح أفضل, ويبقى حتى تغرب شمس آخر أيام التشريق الثلاثة, سواء الليل والنهار, ولكن يكره الذبح ليلاً؛ لأنه قد يخطئ المذبح, ولأن الفقراء. . لا يحضرون فيه حضورهم بالنهار. فلو ذبح قبل ذلك, أو بعده .. لم تقع أضحية؛ لخبر «الصحيحين»: «أول ما نبدأ به في يومنا هذا: نصلي, ثم نرجع فننحر, من فعل ذلك .. فقد أصاب سنتنا, ومن ذبح قبل. . فإنما هو لحم قدمه لأهله, ليس من النسك في شيء» , ولخبر ابن حبان: «في كل أيام التشريق ذبح». نعم؛ إن لم يذبح الواجب حتى فات الوقت. . ذبحه بعده قضاء. [ما يجزئ في الأضحية] الثانية: تجزئ الشاة عن واحد, فإن كان له أهل بيت. . حصلت السنة لجميعهم, وهي جذع ضأن له سنة وطعن في الثانية, أو أجذع قبلها, أو ثني معز له سنتان وطعن في الثالثة, سواءً فيما ذكر الذكر والأنثى, ولا يجزئ من البقر إلا ما استكمل سنتين وشرع في الثالثة, ولا من الإبل إلا الثني أيضاً وهو ما استكمل خمس سنين وشرع في السادسة. ويجزئ الثني من الإبل والبقر عن سبعة من الأشخاص؛ وإن كان لكل واحد منهم أهل بيت، أو لم يرد التضحية، وإجزاء كل منهما عن السبعة مقيس على ما في خبر مسلم عن جابر: (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة) أي: في التحلل للإحصار عن العمرة, و (البدنة): الواحد من الإبل ذكراً كان أو أنثى, فلا يجزئ إلا الجذع من الضأن, والثني من غيرها؛ لخبر أحمد: «ضحوا بالجذع من الضأن فإنه جائز» ولابن ماجه نحوه، وروى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في التضحية بجذعة

المعز: «ولن تجزئ عن أحد بعدك» أي: وإنما يجزئ الثني والثنية, ويقاس بالمعز البقر والإبل. وأفضلها: سبع شياه, ثم بعير, ثم بقرة, ثم ضأن, وشاة أفضل من مشاركة بقدرها في بدنة أو بقرة؛ للانفراد بإراقة الدم. [شرط إجزاء الأضحية] الثالثة: شرط إجزاء الأضحية: سلامتها من عيب ينقص لحماً, فلا تجزئ بينة الهزال, وهي التي ذهب مخها من شدة هزالها, وبينة مرضي, وبينة عرج بحيث تسبقها الماشية إلى الكلأ الطيب. وقوله: (في الحال) تصريح بأن العبرة بالعيب الموجود عند الذبح, حتى لو كانت سليمة، فاضطربت عند إضجاعها للذبح فعرجت عرجاً بيناً .. لم تجزئ على الأصح, واختار السبكي إجزاءها، وبينة عور كالعمى، ولا يضر يسيرها، بخلاف يسير الجرب؛ لأنه يفسد اللحم والودك، وفي السنن الأربعة وغيرها خبر: «أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها, والمريضة البين مرضها, والعرجاء البين عرجها, والعجفاء» وصححه ابن حبان وغيره». ولا يجزئ ناقص الجزء ولو فلقة يسيرة من أذن, أو ذنب أو ألية, أو ضرع أو غيرها؛ لذهاب جزء مأكول منه. نعم؛ لا يضر فلقة لحم يسيرة من عضو كبير كفخذ؛ لأن ذلك لا يظهر, ذكره في «الروضة» و «أصلها». وتجزئ المخلوقة بلا ضرع وألية؛ كما يجزئ ذكر المعز, بخلاف المخلوق بلا أذنٍ؛ لأن الأذن عضو لازم غالباً قال في «الروضة» كـ «أصلها»: والذنب كالألبة. وجاز نقص قرنها والخصية فلا يضر فواتهما؛ لأن الخصى يزيد اللحم طيباً وكثرة, والقرون لا يتعلق بها كبير غرضٍ وإن كانت ذات القرون أفضل من غيرها. نعم؛ إن انكسر القرن وآثار انكساره في اللحم. . ضر؛ كما نقل الشيخان عن

القفال, قالا: وتجزئ العشواء؛ وهي التي لا تبصر ليلاً, والعمشاء؛ وهي ضعيفة البصر مع سيلان الدمع, وذات كي وصغر أذن, والتي ذهب بعض أسنانها. [التصدق ببعض الأضحية المتطوع بها] الرابعة: الغرض في الأضحية المتطوع بها: التصدق ببعض لحمها ولو بنزر قليل منه؛ لقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] , ولأنها شرعت إرفاقاً بالمساكين, ولا يحصل ذلك بمجرد إراقة الدم. والمراد بالتصدق: تمليك الفقير المسلم الشامل للمسكين؛ ولو واحداً حراً أو مكاتباً, شيئاً من لحمها نيئاً؛ ليتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره كما في الكفارات, فلا يكفي جعله طعاماً ودعاء الفقير إليه؛ لأن حقه في تملكه لا في أكله, ولا تمليكه له مطبوخاً, ولا تمليكه غير اللحم؛ من جلد وكرش وكبد وطحال وعظم ونحوها, وشبه المطبوخ هنا بالخبز في الفطرة, فلو أكل الكل. . ضمن ذلك البعض؛ وهو القدر الذي كان يجوز له الاقتصار على التصدق به ابتداء. ومؤنة الذبح على المضحي كمؤنة الحصاد, فلا يعطي الجزار منها شيئاً، وله إطعام الأغنياء منها لا تمليكهم, ويأكل ثلثاً ويتصدق بالباقي, والأفضل التصدق بكلها إلأ لقماً يتبرك بأكلها, فإنها مسنونة, روى البيهقي: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل من كبد أضحيته) , ويتصدق بجلدها, أو ينتفع به في استعماله, وله إعارته دون بيعه وإجارته. ويحرم عليه أن يأكل شيئاً من المنذور؛ يعني: الواجب بنذر أو غيره كما في الكفارة, سواء وجب بالتزام كالواجب بالنذر, أم بغيره كدم القران والتمتع, فلو أكل منه شيئاً .. غرم قيمة اللحم؛ كما لو أتلفه غيره, هذا ما ذكره الشيخان", وهو مبني على أن اللحم متقوم, والأصح: أنه مثلي فيجب عليه مثل ما أكله. والألف في قول الناظم: (يكملا) للإطلاق. * * *

باب العقيقة

بابُ العقيقة من عق يعُق بكسر العين وضمها, وهي لغة: الشعر الذي على رأس المولود, وشرعاً: ما يذبح عند حلق شعره, وهي كالأضحية في جنسها وسنيتها, وسنها, وسلامتها, والأفضل منها, والأكل, والتصدق والإهداء, وامتناع بيعها, وتعينها إذا عينت, واعتبار النية وغير ذلك, لكن لا يجب التمليك من لحمها نيئاً كما سيأتى, ويندب أن يعطى رجلها للقابلة. ووقتها: من حين ولادة الولد إلى بلوغه, فلا تجزئ قبلها, وتأخيرها عن بلوغه يسقط بعد النبوة, رواه أحمد. ولو مات الولد قبل السابع. . لم يبطل الاستحباب, والعاق عنه: من تلزمه نفقته بتقدير عسره, وعقه صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين مؤول بأنه أمر أباهما به, أو أعطاه ما عق به عنهما, أو أن أبويهما كانا معسرين فيكونان فى نفقة جدهما. ولا يعق العاق عنه من ماله, قال الرافعي: فإن كان معسراً عند الولادة, وأيسر فى السبعة .. خوطب بها, أو بعد مدة النفاس. . فلا, أو بينهما .. فاحتمالان؛ لبقاء أثر الولادة, ومقتضى كلام «الأنوار» ترجيح مخاطبته بها. (تُسَنُّ في سابِعِهِ واسْمٌ حَسَنْ ... وحَلْقُ شَعْرٍ والأذَانُ في الأُذُنْ) (والشَّاةُ للأُنْثَى وللغُلامِ ... شاتانِ دونَ الكَسْرِ للعِظَامِ) أي: تسن العقيقة يوم سابع ولادته, فهو أفضل من غيره, ويحسب منها يوم ولادته, ويسن ذبحها في صدر النهار عند طلوع الشمس, وأن يقول عند ذبحها: (باسم الله والله أكبر, اللهم؛ لك وإليك, اللهم؛ عقيقة فلان).

والأفضل: أن يسميه يوم سابع ولادته ولو سقطاً أو ميتاً, وتسميته باسم حسن كعبد الله وعبد الرحمن, وتكره باسم قبيح وما يتطير بنفيه؛ كنافع ويسار وأفلح ونجيح وبركة؛ للنهي عنه في «مسلم»، قال في «المجموع»: وبست الناس أو العلماء ونحوه أشد كراهة. وحلق شعره فيه ذكراً كان أو أنثى أو خنثى, ويستحب أن يكون الحلق بعد الذبح على الأصح كما في الحاج, والتصدق بزنته من ذهب أو فضة, والأذان في أذنه اليمنى, والإقامة في أذنه اليسرى, ويحنك بتمر, فان لم يكن. . فبحلو. والأصل فيها: أخبار؛ كخبر: «الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع, ويحلق رأسه ويسمى ", وكخبر: (أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود عند يوم سابعه, ووضع الأذى عنه والعق) رواهما الترمذي, وقال في الأول: حسن صحيح، وفي الثاني: حسن, والمعنى فيه: إظهار البشر والنعمة, ونشر النسب. ومنع من وجوبها خبر أبي داوود: «من أحب أن ينسك عن ولده .. فليفعل ", وخبر أبي داوود بإسناد جيد: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم, فأحسنوا أسماءكم ", وخبر مسلم: «أحب الأسماء إلى الله تعالى: عبد الله وعبد الرحمن» , زاد أبو داوود: «وأصدقها: حارث وهمام, وأقبحها: حرب ومرة» , وخبر الحاكم وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة فقال: «زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة, وأعطي القابلة رجل العقيقة» رواه الحاكم وصححه, وقيس بالفضة الذهب, وبالذكر الأنثى. والشاة للأنثى, قال الإسنوي: والمتجه: أن الخنثى مثلها فهى أحب من شرك فى بدنة أو

بقرة، فيجزئ سبع إحداهما؛ كما بحثه الرافعي, وجزم به النووي في «مجموعه». وللغلام شاتان؛ أي: أحب من شاة, ومن شِرك في بدنة أو بقرة وإن تأدى بذلك أصل السنة؛ لما روى الترمذي وقال: حسن صحيح عن عائشة: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام بشاتين, وعن الجارية بشاة). ويسن طبخها بحلو: تفاؤلاً بحلاوة أخلاق الولد, وألا يتصدق به نيّاً، ولا يكسر عظم من العقيقة ما أمكن؛ تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود, فلو كسره .. لم يكره. * * *

باب الأطعمة

بابُ الأَطِعمة أي: حلها وتحريمها, قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الآية, وقال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] , وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] أي: ما تستطيبه النفس وتشتهيه, ولا يجوز أن يراد الحلال؛ لأنهم سألوه عما يحل لهم, فكيف يقول: أحل لكم الحلال؟ ! وقد أشار الناظم إلى بيان شيء منها فقال: (يَحِلُّ مِنها طاهِرٌ لِمْن مَلَكْ ... كَمَيْتَةٍ مِن الجَرَادِ والسَّمَكْ) (وما بِمَخْلَبٍ ونابٍ يَقْوَى ... يَحْرُمُ كالتِّمسَاحِ وابْنِ آوَى) (أو نَصِّ تَحْرِيمٍ بِهِ أو يَقْرُبُ ... مِنهُ كَذَا ما استخبثته العَرَبُ) (لا ما اسْتَطَابَتْهُ وللمُضْطَرِّ حَلْ ... مِنْ مَيْتَةٍ ما سَدَّ قُوَّةَ العَمَلْ) فيها ثلاث مسائل: [بيان ما يحل من الأطعمة] الأولى: يحل من الأطعمة طعام طاهر لمن ملكه, سواء أكان جماداً أم حيواناً, سمكاً أو حيوان بر مذكى؛ لأنه من الطيبات, بخلاف غير الطعام؛ كزجاج وحجر وثوب, ومخاط وبصاق, وبخلاف النجس؛ كدقيق عجن بماء نجس وخبز. نعم؛ دود الفاكهة والجبن والخل ونحوها, يحل أكله معها وإن مات فيها لا منفرداً، والطعام الطاهر كميتة من الجراد والسمك؛ وهو ما يعيش في البحر, وإذا خرج منه. . كان عيشه عيش مذبوح وإن كان نظيره في البر محرماً ككلب؛ وذلك لخبر: «أحلت لنا ميتتان» , ولقوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ» [المائدة: 96] , ولخبر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».

قال في "الروضة" و"أصلها": ويكره ذبح السمك، إلا كبيراً يطول بقاؤه، فبسن ذبحه إراحة له. ومذكى البر: ما يستطاب ولو ذبح لغير مأكلة مع الجنين الذي وجد ميتاً في بطنه، أو خرج متحركاً حركة مذبوح، سواء أشعر أم لا إذا ظهرت صورة الحيوان فيه، وفي "الروضة" و"أصلها" عن الجويني: لو بقي الولد بعد الذبح زمناً طويلاً، يتحرك في البطن، ثم سكن .. حرم ولو خرج رأسه، وبه حيتة مستقرة. قال البغوي تبعاً للقاضي: لا يحل إلا بذبجه، وقال القفال: يحل، وصححه النووي. ويحل العضو الأشل من المذكى. والذي يحل من حيوان البر: كضبع وأرنب، وفنك ودلق، وثعلب وقاقم، وأم حبين وحوصل، وزاغ وبربوع، ووبر ودلدل، وبنت عرس وقنفذ، وضب وكركي، وإوز ودجاج، وكل طير ذي طوق؛ كزرزور وعصفور، وصعوة ونغر، وعندليب وبط، وسمور وسنجاب، وظبي ونعام وبقر وحش وحماره، فتحل كلها؛ لأنها من الطيبات. [ما يحرم من الحيوان] الثانية: يحرم من الحيوان ما يتقوى بمخلبه – بكسر الميم – من الطير؛ كالباز والصقر والشاهين؛ والنسر والعقاب، ونحوها من جوارح الطير، أو يتقوى بنابه؛ كالتمساح وابن آوى بالمد بعد الهمزة؛ وهو فوق الكلب، طويل المخالب والأظفار، فيه شبه من الذئب، وشبه من الثعلب والأسد. وخرج بقوله: (يقوى) به: ما نابه ضعيف كضبع وثعلب. ويحرم أيضاً ما لم سم وإن لم يكن له ناب كحية، أو له إبرة كعقرب وزنبور؛ لضررها، وما أمر الناس بقتله، أو نهوا عن قتله، فالأول كالحدأة والفأرة، والغراب الأبقع والأسود

المسمى بالغداف الكبير، والعقعق والوزغ، والثاني كالخطاف والصرد، والهدهد والبغائة، والببغاء والبوم، واللقلق والنمل السليماني، والنحل والضفدع؛ لسقوط حرمته بذلك، وإلا .. لجاز اقتناء الأول، وذبح الثاني للأكل. أو نص الكتاب أو السنة على تحريمه؛ كخبر أبي داوود بإسناد على شرط مسلم: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل)، أو يقرب منه كالمتولد من الحمر الأهلية وغيرها. والمتولد من شيء له حكمة في التحريم، والمتولد من مأكول وغيره .. حرام. وكذا يحرم ما اتسخبثته العرب – بضم العين، وإسكان الراء، وبفتحهما – مما لا نص فيه، في الحالة الرفاهية إذا كانوا أهل يسار وطباع سليمة، وإنما اعتبر بهم؛ لأنهم المخاطبون أولاً، ولأن الدين عربي، والنبي صلى الله عليه وسلم عربي. واحترزوا بحال الرفاهية عن حال الضرورة، وبالطبع السليم عن طبع أهل البوادي؛ الذين يتناولون ما دب ودرج، ويعتبر أيضاً ألا تغلب عليهم العيانة الناشئة من التنعم. قال الرافعي: وذكر جماعة أن العبرة بالعرب الذي كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم"؛ لأن الخطاب لهم، ثم قال: ويشبه أن يرجع في كل زمن إلى عربه، وما قاله أولا .. هو منصوص الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومراده بما قاله ثانياً: أن يرجع في كل زمن إلى عربه فيما لم يسبق فيه كلام العرب الذين كانوا العرب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك قد عرف حاله، واستقر أمره. والمستخبث لكم كالحشرات، وهي صغار دواب الأرض؛ كالذباب والنمل والنحل، والضفدع يكسر الضاد والدال على الأشهر، والسرطان والسلحفاة بضم السين وفتح اللام. ولو جهل اسم حيوان .. سئل العرب عنه، وعمل بتسميتهم له، فإن سموه باسم حيوان حلال .. حل، أو حرام .. حرم، فإن اختلفوا .. اتبع الأكثر، فإن استويا .. فقريش؛ لأنهم قطب العرب، فإن اختلفوا ولا ترجيح أو شكوا، أو لم نجدهم ولا غيرهم من العرب، أو لم يكن له عند الجميع اسم .. اعتبر بالأشبه به صورة أو طبعاً أو طعماً، فإن لم يكن له شبه، أو

تعادل الشبهان .. فالأصح في "أصل الروضة" و"المجموع": الحل؛ لظاهر قوله تعالى: {قل لا أجد ما أوحى إلى محرما على طاعم} الآية [الأنعام: 145]، والظاهر الاكتفاء يخبر عدلين منهم؛ كما في جزاء الصيد. [حل الميتة للمضطر] [الثالثة]: ويحل للمضطر المعصوم – أي: يلزمه – الأكل من ميتة؛ كلحم خنزير ما يسد رمقه؛ وهو: القوة على العمل إذا لم يجد حلالاً يأكله، وخاف على نفسه موتاً، أو مرضاً مخوفاً، أو أجهده الجوع، وعيل صبره، أو جوز تلف نفسه وسلامتها على السواء، أو نحو ذلك، قال تعالى: {فن اضطر غير باغ ولا عاد} [النحل: 115] أي: سد الجوعة {فلا إثم} [البقرة: 173]. واستثنى قتل طفل أهل الخرب، ومجنونهم ورقيقهم وخنثاهم وأنثاهم؛ ليأكلهم إذا لم بجد غيرهم، وامتناع قتلهم في غير حال الضرروة؛ لحق الغانمين لا لعصمتهم، وله قتل الحربي والمرتد، وتارك الصلاة، والزاني المحصن، ولو بغير إذن الإمام، وإنما اعتبر إذنه في غير حال الضرورة؛ تأدباً معه، وحال الضرورة ليس فيها رعاية إذن الإمام، وإنما اعتبر إذنه في غير حال الضرورة؛ تأدباً معه، وحال الضرورة ليس فيها رعاية أدب، فلو لم يجد إلا آدمياً معصوماً ميتاً .. حل أكله؛ لأن حرمة الحي أعظم، إلا إذا كان الميت نبياً .. فلا يباح؛ كما قاله المروذى، وكذا إذا كان مسلماً والمضطر ذمياً على القياس في "الروضة". وإذا أبحنا ميتة الآدمي المعصوم .. فال الماوردي: يحرم طبخه وشيه؛ لما فيه من هتك حرمته مع اندفاع الضرر بدونه، ويتخير في غيره، وله قطع بعضه لأكله إن فقد الميتة ونحوها، وكان الخوف في قطعه أقل من الخوف في ترك الأكل، ويحرم قطعه لغيره، وقطعه من معصوم لنفسه. ولو وجد طعام غائب .. أكل منه ما يسد رمقه، وغرم قيمته، أو حاضر مضطر .. لم يلزمه بذله إن لم يفضل عنه، فإن آثر مسلماً .. جاز بخلاف الكافر، وإن كان ذمياً أو غير مضطر ..

لزمه إطعام مسلم أو ذمي أو نحوه، فإن منع .. فللمضطر قهره وأخذ الطعام، وإن قتله .. فلا شيء في قتله، إلا إن كان مسلماً والمضطر غير مسلم، ثم المقهور عليه ما يسد الرمق. وإنما يلزمه بعوض ناجز إلا حضر وإلا .. فبنسيئة، ولا يلزمه بلا عوض؛ فلو أطعمه ولو يذكر عوضاً .. فالأصح: لا عوض؛ حملاً على المسامحة المعتادة في الطعام، سيما في حق المضطر، ولو وجد مضطر ميتة وطعام غائب، أو محرم ميتة وصيداً .. أكلها، وإنما يجب عليه شراء الطعام بثمن مثله، أو بزيادة يتغابن بمثلها. وقول الناظم: (سد) بالسين المهملة أو المعجمة، وقال الطبري في "شرح التنبيه": إعحامها أنسب من إهمالها. * * *

باب المسابقة على الخيل والسهام ونحوهما

باب المسابقة على الخيل والسهام ونحوهما فالمسابقة تعم المناضلة، وهي سنة إذا قصد بها التأهل للجهاد. والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 60] الآية، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة فيها بالرمي؛ كما رواه مسلم ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) قال سفيان: (من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل)، وخبر أنس: كانت العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من هذه الدنيا إلا وضعه"، وخبر سلمة بن الأكوع: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون فقال: "ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان رامياً" رواه البخاري، وخبر: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل" رواه الأربعة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، يروى: (سبق) بسكون الموحدة مصدراً، وبفتحها؛ وهو المال الذي يدفع إلى السابق. قال المزني: وهذا الباب لم يسبق الشافعي إلى تصنيفه. (تصح في الدواب والشهام ... إن علمت مسافة المرامي) (وصفة الرمي، سوا يظهر ... المال شخص منهما أو آخر) (إن أخرجا فهو قمار منهما ... إلا إذا محلل بينهما) (ما تحته كفء لما تحتهما ... يغنم إن يسبقهما لم يغرما)

[ما تصح المسابقة عليه] أي: تصح المسابقة على جنس من الدواب؛ كالخيل وهي الأصل؛ لأنها تصلح للكر والفر بصفة الكمال، ويلحق بها الغيل والإبل والحمار؛ كالخيل التي لم يسهم لها، ولا تصح على الطير كمسابقة الحمام، ولا على الصراع، وتصح المسابقة على السهام بأنواعها، سواء فيها السهام العربية وهي النبل، والعجمية وهي النشاب، والمسلات والإبر؛ كما جزم به في "أصل الروضة"، وكذا مزاريق ورماح، ورمي بأحجار باليد، وبالمقلاع ومنجنيق، وكل نافع في الحرب غير ما ذكر، لا علة صولجان وبندق، وسباحة وشطرنج وخاتم، ووقوف على رجل، ومعرفة ما بيده من الفرد والزوج؛ لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب. [شروط صحة المسابقة] وتصح على ما ذكر إن علمت مسافة الرمي بالذرعان، أو بالمشاهدة وهي الموضوع الذي يبدئان منه، والغاية التي ينتهيان إليها، ولو كان فيها عادة غالبة .. نزل العقد عليها، وقد الغرض طولاً وعرضاً، إلا أن يعقد بموضع فيه غرض معلوم .. فيحمل المطلق عليه. ويشترط تساويهما في الموقف والغاية، فلو شرط تقدم موقف أحدهما أو غايته .. لم يصح، ولا بد من إمكان سبق كل منهما؛ ليحصل غرض العقد، وتعيين المركوبين بالمشاهدة أو الوصف، والاستباق عليهما، وأن يمكنهما قطع المسافة، ولا يشترط بيان صفة الرمي من كونه مبادرة؛ بأن يبدر أحدهما بإصابة العدد المشروط، أو محاطة بأن تقابل إصابتهما، ويطرح المشترك، فمن زاد بعدد كذا .. استحق المال المشروط، والإطلاق محمول على المبادرة؛ لأنها الغالب. ويتشرط بيان عدد نوب الرمي وعدد الإصابة، فإن بينا صفة الرمي في الإصابة من قرع؛ وهو إصابة الشن لا خدش له، أو خزق بالمعجمة والزاي؛ وهو أن يثقبه ولا يثبت فيه، أو خسق وهو أن يثبت فيه، أو مرق وهو أن ينفذ من الجانب الآخر .. اتبع، وإن أطلقا .. اقتضى القرع؛ لأنه المتعارف. وسواء في صحة المسابقة على ما ذكر أظهر المال المعلوم الجنس والقدر والصفة أحد المتعاقدين؛ كقوله: (إن سبقتني .. فلك علي كذا، وإن سبقتك .. أحرزت مالي، ولا شيء

لي عليك)، أو أخرج غيرهما؛ كقول الإمام أو غيره: (من سبق منكما .. فله في بيت المال كذا)، أو (له علي كذا). وإن أخرج كل واحد منهما مالاً .. فهو قمار – بكسر القاف – محرم؛ لأن كل واحد منهما متردد بين أن يغنم وأن يغرم، والمقصود المال لا الركض والفروسية، إلا أن يكون معهما محلل ثالث ويكفي واحد ولو بلغوا مئة. وشرط المحلل: أن يكون ما تحته من المركوب كفؤاً للمركوبين اللذين تحتهما، ويمكن أن يسبقهما، إن سبق .. أخذ مالهما جاءا معاً أو مرتباً، وإن سبق .. لم يغرم شيئاً، وإن سبقاه وجاءا معاً .. فلا شيء لأحد، وإن جاء مع أحدهما وتأخر الآخر .. فمال هذا لنفسه، ومال المتأخر للمحلل وللذي معه؛ لأنهما سبقاه، وإن جاء أحدهما ثم المجلل ثم الآخر .. فمال الآخر للأول؛ لسبقه الاثنين، فالصور الممكنة ثمانية: أن يسبقهما وهما معاً، أو مرتبان، أو يسبقاه وهما معاً، أو مرتبان، أو يتوسط بينهما، أو يكون مع أولهما، أو ثانيهما، أو يجيء الثلاثة معاً. والألف في قول الناظم: (يغرما) للإطلاق. * * *

باب الإيمان

باب الإيمان جمع يمين، والأصل فيها قبل الإجماع: آيات؛ كقوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة 225] الآية، وقوله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} [آل عمران: 77]، وأخبار؛ منها: أنه صلى الله علية وسلم كان يحلف: "لا ومقلب القلوب" رواه البخاري، وقوله: "والله؛ لأغزون قريشاً" ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة: "إن شاء الله" رواه أبو داوود. واليمين والحلف والإيلاء والقسم ألفاظ مترادفة، وأصلها في اللغة: اليد اليمنى، وأطلقت على الحلف؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد بيمين صاحبه، وقيل: لأنها تحفظ الشيء على الحالف كما تحفظه اليد. وفي الشرع: تحقيق ما لم يجب وقوعه ماضياً كان أو مستقبلاً، نفياً أو إثباتاً، ممكناً؛ كحلفه ليدخلن الدار، أو ممتنعاً؛ كحلفه ليقتلن زيداً الميت، صادقة كانت اليمين أو كاذبة، مع العلم بالحال أو الجهل به، والكاذبة مع العلم بالحال تسمى اليمين الغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو النار، وهي من الكبائر. وخرج بـ (التحقيق): لغو اليمين وسيأتي، وبـ (ما لم يجب): الواجب؛ كقوله: (والله؛ لأموتن)، أو (لا أصعد إلى السماء)، فليس يميناً؛ لتحققه في نفسه، فلا معنى لتحقيقه، ولأن لا يتصور في الحنث، وفارق انعقادها بما لا يتصور فيه البر؛ كحلفه ليقتلن الميت أو ليصعدن السماء: بأن امتناع الحنث لا يخل اسم الله تعالى، وامتناع البر يخل به فيحوج إلى التكفير، وقد ذكر الناظم أشياء منها فقال: (وإنما تصح باسم الله ... أو صفة تختص بالإله) (أو التزام قربة أو نذر ... لا اللغو إذا سبق اللسان يجري) (وحالف لا يفعل الأمرين ... لا حنث بالواحد من هذين)

(وليس حانثاً إذا ما وكلا ... في فعل ما يحلف ألا يفعلا) (كفارة اليمين: عتق رقبه ... مؤمنة سليمة من معيبه) (أو عشرة تمسكوا قد أدى ... من غالب الأقوات مدا مدا) (أو كسوى بما يسمى كسوة ... ثوباً قباء أو رداً أو فروه) (وعاجز صمام ثلاثاً كالرقيق ... والأفضل الولا، وجاز التفريق) فيها أربع مسائل: [ما تصح به اليمين] الأولى: إنما تصح اليمين وتنعقد باسم الله، وهو ما لا يحتمل غيره، ولهذا لو قال: أردت به غير الله تعالى .. لم يقبل ظاهراً ولا باطناً؛ لأن اللفظ لا يصلح لغيره، وساء كان من أسمائه الحسنى؛ كالله والرحمن ورب العالمين ومالك يوم الدين، أم لا كالذي أعبده، أو أسجد له، أو أصلي له، أو الغالب إطلاقه على الله تعالى؛ بأن ينصرف إليه عند الإطلاق؛ كالرحيم والخالق والرازق والرب، إلا أن يريد به غيره، وأما ما استعمل فيه وفي غيره سواء؛ كالشيء والموجود والعالم والحي والغني .. فليس بيمين، إلا بنية له تعالى، أو بصفة تختص بالإله؛ كوعظمة الله تعالى، وعزته وجلاله وكبريائه، وكلامه وعلمه، وقدرته وسمعه، وبقائه ومشيئته وحقه، والقرآن والمصحف .. فينعقد بكل منها اليمين، إلا أن يريد به ظهور آثارها على الخلق، وبالعلم المعلوم، وبالقدرة المقدور، وبالحق العبادات، وبالقرآن الخطبة أو الصلاة، وبالمصحف الورق والجلد، وبالكلام الحروف والأصوات الدالة عليه، وبالسمع المسموع. وخرج بذكر اسم الله تعالى وصفته: الحلف بغيرهما؛ كالنبي والكعبة فلا تنعقد به اليمين، بل بكره؛ لخبر "الصحيحين": "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبآئكم، فمن كان حالفاً .. فليحلف بالله أو ليصمت"، وكقول الشخص لمن حلف: (يميني في يمينك)، أو (يلزمني مثل ما يلزمك)، وكقوله: (إن فعلت كذا .. فأنا يهودي) أو (نصراني)، أو (بريئ من الله) أو (رسوله)، أو نحو ذلك؛ فلا كفارة بفعل ذلك، ثم إن قصد تبعيد نفسه

عنه .. لم يكفر، وليقل ندباً؛ كما صرح به النووي في "نكته": (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ويستغفر الله تعالى، وإن قصد الرضا بذلك إذا فعله .. كفر في الحال. وتنعقد اليمين بالكناية مع النية؛ كما لو قال: (الله) ورفع أو نصب أو جر (لأفعلن كذا) فيمين إن نواها. ولو قال: (أقسمت) أو (أقسم)، أو (حلفت) أو (أحلف)، أو (أولي بالله لأفعلن كذا) .. فيمين إن نواها، أو أطلق، وإن قصد خبراً ماضياً، أو مستقبلاً .. صدق. ولو قال لغيره: (أحلف) أو (حلفت)، أو (أقسم) أو (قسمت)، أو (أولي) أو (آليت عليك بالله)، أو (أسألك) أو (سألتك بالله لتفعلن كذا) وأراد يمين نفسه .. فيمين يستحب للمخاطب إبراره فيها، وإلا .. فلا، ويحمل كلامه على الشفاعة في فعله. وتنعقد اليمين بالتزام قربة أو نذر أو كفارة يمين؛ كقوله: (إن كلمت زيداً)، أو (إن لم أكلمه .. فعلي صلاة) مثلاً، أو (نذر) أو (كفارة يمين)، وهذا نذر اللجاج، فإذا وجد المعلق به .. لزمه كفارة يمين. وأما في الثالث .. فللتصريح بها، أما في الأولين .. فلخبر مسلم: "كفارة النذر كفارة يمين"، ولأن القصد منهما المنع أو الحث، فأشبها اليمين بالله تعالى، وما ذكره هنا من لزوم الكفارة فيهما .. هو ما صححه الرافعي في "المحرر"، واعتمده البلقيني وقال: إنه الذي أفتى به الشافعي رضي الله عنه، والصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وصححه كثير من أصحابه. وصحح النووي: التخيير بينهما وبين ما التزمه؛ لوجود شبه اليمين والنذر، أما شبه اليمين .. فمن جهة الامتناع، وأما شبه النذر .. فمن جهة التزام قربة، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، ولا إلى تعطيلهما فوجب التخيير، وقال الرافعي: إن إيراد العراقيين يقتضي أنه المذهب، وعليه: يتخير في قوله: (فعلي نذر) بين كفارة يمين وقربة من القرب التي تلتزم بالنذر، وقال الماوردي: تتعيم الكفارة؛ تغليباً لحكم اليمين؛ لأن كفارتها معلومة، وموجب النذر المطلق مجهول.

أما الكفارة في الثالث .. فمتعينة كما جزم به في "الروضة" و"أصلها"، وسيأتي في كلامه في (باب النذر) حكاية الخلاف. وخرج (بنذر اللجاج): نذر التبرر الشامل لنذر المجازاة، فيجب فيه ما التزمه كما سيأتي في بابه، والفرق بين نذر اللجاج ونذر المجازاة: أن السبب في الأول يرغب عنه، وفي الثاني يرغب فيه كالشفاء، ويرجع في ذلك كما قاله الرافعي إلى القصد، فلو قال: (إن رأيت فلاناً .. فعلي صوم): فإن ذكره لكراهته الرؤية .. فندر لجاج، أو لرغبته فيها .. فنذر مجازاة. وخرج بـ (التحقيق): لغو اليمين؛ بأن سبق لسانه إلى لفظها بلا قصد؛ كقوله في حالة غضب أو لجاج، أو صلة كلام: (لا والله) تارة، و (بلى والله) أخرى، فلا تنعقد؛ إذ لا يقصد بها تحقيق شيء، ولقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة: 89]، وجعل منه صاحب "الكافي": ما إذا دخل على صاحبه، فأراد أن يقوم له فقال: (لا والله)، وهو مما تعم به البلوى. ولو قال: لا والله وبلى والله في كلام واحد .. قال الماوردي: الأولى لغو، والثانية منعقدة؛ لأنها استدراك مقصود منه، وفي معنى اللغو: ما لو حلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره. ولو حلف وقال: (لم أقصد اليمين) .. صدق، وفي الطلاق والعتاق والإيلاء .. لا يصدق في الظاهر؛ لتعلق حق الغير به، ولأن العادة جرت بإجراء لفظ اليمين بلا قصد بخلاف الطلاق وتالييه، فدعواه فيها تخالف الظاهر فلا تقبل. ولو اقترن باليمين ما يدل على القصد .. لم يقبل قوله في الحكم. ولو حلف لا يدخل الدار، ثم قال: (أردت شهراً): فإن كانت اليمين بطلاق أو عتاق .. لم يقبل في الحكم، ويلحق بهما الإيلاء؛ لتعلقه بحق آدمي، وإن كانت بالله تعالى ولم تتعلق بحق آدمي .. قبل ظاهراً وباطناً. [لو حلف لا يفعل أمرين] الثانية: إذا حلف لا يفعل أمرين؛ كأن لا يلبس هذين الثوبين، أو لا يأكل هذين الرغيفين، أو اللحم والعنب، أو التمر والزبيب، أو لا يدخل الدارين .. لم يحنث بأحدهما.

وخرج بقول الناظم: (وحالف لا يفعل الأمرين) ما لو حلف لا يفعل كلا منهما؛ بأن أعاد حرف النفي؛ كقوله: (والله؛ لا آكل اللحم ولا العنب)، أو (لا آكل التمر ولا الزبيب) .. فإنه يحنث بأحدهما؛ كما لو أعاد المحلوف به؛ كأن قال: (والله؛ لا آكل اللحم، والله؛ لا آكل العنب)، (والله؛ لا آكل التمر، والله؛ لا آكل الزبيب). وصوره ما ذكره: ما إذا كان العطف بالواو، فإن كان بالفاء، أو بـ (ثم) .. كان حالفاً على عدم أكل العنب بعد اللحم، أو الزبيب بعد التمر بلا مهلة في الفاء، وبمهلة في (ثم) في قوله: (والله؛ لا آكل اللحم فالعنب)، أو (ثم العنب)، أو (التمر فالزبيب)، أو (ثم الزبيب) .. فلا يحنث إذا أكلهما معاً، أو العنب قبل اللحم، أو الزبيب قبل التمر أو بعده بمهلة في الفاء، وبلا مهلة في (ثم). [إذا حلف لا يفعل شيئاً فوكل في فعله] الثالثة: لو جلف ألا يفعل شيئاً، فوكل من فعله .. لم يحنث بفعل وكيله، فلو حلف لا يبيع أو لا يشتري، أو لا يزوج أو لا يطلق، أو لا يعتق أو لا يضرب، فوكل من فعله .. لم يحنث؛ لأنه لم يفعله، سواء أجرت عادته بالتوكيل فيه أم لا، وسواء لاق به أم لا. نعم؛ إن نوى ألا يفعل ذلك بنفسه ولا بغيره .. حنث، أو لا ينكح أو لا يتزوج .. حنث بعثد وكيله له، لا بقبوله هو لغيره؛ لأن الوكيل في قبول النكاح سفير محض لا بد له من تسمية الموكل؛ وهذا ما جزم به في "المنهاج" كـ"أصله"، وحكاه في "الروضة" و"أصلها" عن البغوي، ومقابله عن الصيدلاني والغزالي. ويحري مثل ذلك: فيما لو حلف لا يراجع من طلقها رجعياً، ثم وكل من يراجعها، سواء أقلنا: الرجعة ابتداء نكاح أم استدامة. ولو حلف لا يبيع مال زيد، فباعه بإذنه .. حنث، وإلا .. فلا حنث؛ لفساد البيع، وهو في الحلف منزل على الصحيح، أو لا يهب له، فأوجب له فلم يقبل .. لم يحنث؛ لعدم تمام العقد، وكذا إن قبل ولم يقبض في الأصح؛ لأن مقصود الهبة من نقل الملك لم يحصل، ويحنث بعمرى ورقبى وصدقة؛ لأنها أنواع من الهبة، لا بإعارة ووصية ووقف؛ لأنها ليست بهبة، أو لا يتصدق .. لم يحنث بهبة في الأصح؛ لأنها الصدقة أخص من الهبة، أو لا يأكل

طعاماُ اشتراه زيد .. لم يحنث بما اشتراه مع غيره شركة، وكذا لو قال: (من طعام اشتراه) في الأصح، ويحنث بما اشتراه سلماً؛ لأنه نوع من الشراء. ولو اختلط ما اشتراه بمشترى غيره .. لم يحنث بالأكل من المختلط حتى يتيقن أكله من ماله؛ بأن يأكل كثيراً كالكف والكفين؛ بخلاف القليل كعشر حبات وعشرين حبة، فيمكن أن يكون من مال الآخر. [كفارة اليمين] الرابعة: يتخير في كفارة اليمين بين عتق رقبة مؤمنة سليمة من عيب يخل بالعمل؛ كما سبق في الظهار، وإطعام عشرة مساكين، كل مسكين مد حب من غالب قوت بلده، وكسوتهم بما يسمى كسوة؛ للآية السابقة أول الباب، فلا يجوز أن يصرف إلى دون عشرة ولو في عشرة أيام، ولا إلى عشرة أو أكثر كل واحد دون مد، ولا أن يطعم خمسة ويكسو خمسة. ويجوز أن يفاوت بينهم في الكسوة وقد بين نوعها بقوله: (ثوباً قباء أو ردا أو فروه) أي: أو إزاراً أو عمامة أو سراويل، أو منديلاً أو مقنعة، أو طيلساناً صوفاً وكتاناً وقطناً، وشعراً ولبداً اعتيد لبسه ولو نادراً، وحرير للنساء والرجال وإن لم يكن لهم لبسه، ولو كان ذلك عتيقاً لم تذهب قوته، أو ملبوس طفل أعطاه لكبير لا يصلح له؛ لوقوع اسم الكسوة عليه؛ كما يعطي ما للمرأة للرجل وعكسه. ولا يشترط كونه مخيطاً، ولا سائر العورة، بخلاف الخف أو المنطقة، أو الدرع من حديد، أو نحوه من آلات الحرب، أو النعل أو المداس، أو القبع أو الخاتم، أو التكة أو القصادية؛ إذ لا تسمى هذه الأشياء كسوة، وإن كانت لبوساً .. يجب على المحرم الفدية بلبسها، والمبعض لا يعتق وإن كان له مال يفي بالعتق؛ لنقصه عن أهلية الولاء المستلزم للولاية والإرث. وإذا عجز الحر أو المبعض عما مر .. صام ثلاثة أيام كالرقيق ولو مكاتباً لم يأذن له سيده. والأفضل الولاء بين صومها؛ خروجاً من خلاف من أوجبه، وجاز التفريق بينها؛ لإطلاق الآية، ولبنائها على التخفيف، بخلاف كفارة الظهار والقتل، وإنما تعين الصوم على من ذكر؛ للآية السابقة، ويزيد العبد بانتفاء أهلية الملك، لكن ذلك لا يشمل المكاتب فهو ملحق بالقن؛ لعجز السيد عليه في الجملة. والسفيه يصوم كالعبد، فلو فك حجره قبل الصوم: فإن اعتبرنا حال الأداء .. لم يجزه، أو

الوجوب .. فوجهان، فإن كان من أهل الصوم إلا أنه كان موسراً. والمكاتب إن أذن له سيده في التكفير أو الكسوة .. جاز، أو بالإعتاق .. فلا، فإن كان الرقيق الحانث أمة أو عبداً وضره الصوم؛ لطول النهار وشدة الحر، وكان حلف وحنث بإذن سيده فيهما .. صام بلا إذن منه، أو وجدا بلا إذن .. لم يصم إلا بإذن منه؛ لأن حقه على الفور والكفارة على التراخي، وإن أذن في أحدهما فقط .. فالأصح: اعتبار الحنث لا الحلف؛ لأن الإذن في الحنث إذن في التكفير؛ كالإذن في الإحرام بالحج، فإنه إذن في أفعاله، والإذن في الحلف لا يستلزم الإذن في الحنث المستلزم للكفارة، فلا يكون الإذن فيه إذناً في التكفير. والألف في قول الناظم: (وكلا) و (يفعلا) للإطلاق، وقوله: (رداً) بالتنوين، و (الولا) بالقصر للوزن. * * *

باب النذر

باب النذر بالذال المعجمة هو لغة: الوعد بخير أو شر، وشرعاً: قال الماوردي: الوعد بخير خاصة، وقال غيره: التزام قربة غير واجبة عيناً كما سيأتي: والأصل فيه: قوله تعالة: {وليوفوا نذورهم} [الحج: 29]، وقوله تعالى: {يوفون بالنذر} [الإنسان: 7]، وخبر البخاري: "من نذر أن يطيع الله .. فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله تعالى .. فلا يعصه"، وخبر مسلم: "لا نذر في معصية الله تعالى، ولا فيما لا يمكله ابن آدم". [حكم النذر] وعن النص أنه مكروه، وجزم به النووي في "مجموعه" لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه وفال: "إنه لا يرد شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل". وقال القاضي والمتولي والغزالي: إنه قربة، وهو قضية قول الرافعي: النذر تقرب فلا يصح من الكافر. وقال النووي: النذر عمداً في الصلاة لا يبطلها في الأصح؛ لأنه مناجاة لله تعالى كالدعاء، وأجيب عن النهي بحمله على من ظن أنه لا يقوم بما التزمه، أو أن للنذر تأثيراً؛ كما يلوح به الخبر. وقال ابن الرفعة في "الكفاية": والظاهر: أنه قربة في نذر التبرر دون غيره. وقال في "المطلب": لا شك في كونه قربة إذا لم يكن معلقاً، وإلا .. فليس بقربة، بل قد يقال بالكراهة.

ثم هو قسمان: نذر تبرر، وهو نوعان: نذر مجازاة والتزام ابتداء، ونذر لجاج، وقد أخذ في بيانها فقال: (يلزم بالتزامة لقربة ... لا واجب العين وذي الإباحة) (باللفظ إن علقه بنعمة ... حادثة أو بأندفاع نقمة) (أو نجز النذر، كـ (لله علي ... صدقة)، نذر المعاصي ليس شيء) (ومن يعلق فعل شيء بالغضب ... أو ترك شيء بألتزامه القرب) (إن وجد الشرط وألزم من حلف ... كفارة اليمين مثل ما سلف) (كما به أفتى الإمام الشافعي ... وبعض أصحاب له كالرافعي) (أما النواوي فقال: (خيرا ... ما بين تكفير وما قد نذرا) (ومطلق القربة: نذر لزما ... نذر الصلاة: ركعتين قائما) (والعتق ما كفارة قد حصلا ... صدقة أقل ما تمولا) [أركان النذر وما يشترط فيها] للنذر ثلاثة أركان: ناذر، ومنذور، وصيغة، وقد أشار إليها بما ذكره. أما الناذر: فيعتبر كونه بالغاً عاقلاً مسلماً ولو رقيقاً أو مفلساً على ما سيأتي. نعم؛ يصح نذر السكران كسائر تصرفاته. وأما الصيغة: فكقول من يصح نذره: (لله علي كذا)، أو (علي كذا) بدون (لله) إذا العبادات إنما يؤتي بها لله تعالى، فالمطلق فيها كالمقيد على الأصح، بخلاف قوله: (مالي صدقة) لعدم الالتزام. ولو قال: (لله علي كذا إن شاء)، أو (إن شاء زيد) .. لم ينعقد وإن شاء زيد؛ لعدم الجزم اللائق بالقرب. ولو قال: (نذرت لله لأفعلن كذا) فإن نوى اليمين .. فيمين، وإن أطلق .. فوجهان، وجزم في "الأنوار" بأنه نذر، ولو قال: (نذرت لفلان كذا) .. لم ينعقد. وأما المنذور: فهو قربة غير واجبة وجوب عين، سواء أكانت عبادة مقصودة بأن وضعت

للتقرب بها وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة؛ كصلاة وصوم وحج، واعتكاف وصدقة، أو فرض كفاية وإن لم يحتج في أدائه إلى بذل مال ومشقة؛ كصلاة جنازة، أم لا بأن لم تكن كذلك، وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشارع فيها؛ لعظم فائدتها، وقد يبتغي بها وجه الله تعالى فيثاب عليها؛ كعيادة المريض، وتطييب الكعبة وكسوتها، وتشميت العاطس، وزيارة القادم والقبور، وإفشاء السلام على المسلمين، وتشييع الجنائز. وخرج بـ (القربة): المعصية، فلا يصح نذرها، والمباح كأكل ونوم، فلا يصح نذره؛ لخبر أبي داوود: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله"، فلو نذر ذلك وخالف .. لم تلزمه كفارة؛ كما صححه في "الروضة" و"أصلها"، وصوبه في "المجموع"، ورجح في "المنهاج" كـ"أصله" لزومها، وكذا في "الروضة" في نذر اللجاج. وبـ (غير الواجبة): فرض العين ولو عوضاً فلا يصح نذره؛ إذ لا معنى لالتزامه بالنذر. ويشترط في المال المعين من صدقة وإعتاق وغيرهما: أن يكون ملكه، وإلا .. لم يصح نذره إلا إذا علقه بملكه؛ كقوله: (إن ملكت عبد فلان .. فعلي عتقه) فيصح، ثم إن قصد الشكر على تملكه .. فنذر تبرر، أو الامتناع منه .. فنذر لجاج؛ ذكره في "الروضة" و"أصلها". وإنما يلزم النذر بالتزامه قربة ... إلى آخره إن علقه بنعمة حادثة، أو اندفاع نقمة؛ كقوله: (إن الله رزقني الله تعالى ولداً)، أو (شفى مريضي .. فعلي كذا)، أو نجز النذر؛ كقوله: (لله علي صوم) أو (صدقة) أو (عتق) فيلزمه؛ كما لو قال: (لله علي أن أصحي)، أو (أعتكف). ومن يعلق فعل شيء من أفعاله، أو ترك شيء منها في حال الغضب، بالتزام فربة، ويسمى نذر اللجاج – بفتح اللام – والغضب ثم وجد المشروط .. لزمه كفارة يمين لما مر؛ كذا أفتى به الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، وذهب إليه الإمام أحمد، وهو قول عمر وابن عباس وابن

عمر وعائشة، وبه قال عطاء وطاووس وعكرمة، ورجحه جمع كثير من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنهم؛ منهم الفوراني والإمام والبغوي والخوارزمي، قال البلقيني: وهو المعتمد عندهم في الفتوى، قال: ولم أجد التخيير في منصوصاته، وصححه الرافعي في "المحرر". أما محيي الدين النووي رحمه الله تعالى فقال: الحالف مخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء بما نذره؛ لما مر في (باب الأيمان). وإذا نذر مطلق القربة .. لزمه نذر؛ يعني: أقل واجب في الشرع من ذلك، فإذا نذر الصلاة وأطلقها .. لزمه ركعتان يجب القيام فيهما، ولا يجوز القعود فيهما مع القدرة؛ لأنه أقل ما أوجبه الشرع، وهذا إذا أطلق، فإن قيد؛ بأن قال: (أصلي قاعداً) .. فله القعود قطعاً؛ كما لو صرح بركعة، فتجزئه قطعاً. وإن نذر العتق وأطلق .. لزمه ما تحصل به الكفارة؛ وهو عتق رقبة مؤمنة سليمة مما يخل بالعمل من العيوب؛ تنزيلاً له على واجب الشرع؛ كما في نذر الصلاة وهو المنصوص في "الأم"، ومقتضى كلام الرافعي. وصحح النووي حمل نذره على جائز الشرع، فتجزئ عنده الكافرة والمعيبة، قال: وهو الأرجح عند الأكثرين، والراجح في الدليل؛ لأن الأصل براءة الذمة فاكتفي بما يقع عليه الاسم، بخلاف الصلاة، فإن المقصود من الإعتاق تخليص الرقبة، وذلك لا يتفاوت فيه المعيب والسليم، والمقصود من الصلاة الكثرة، فحمل الإطلاق عليه، وإن نذر صدقة وأطلق .. لزمه أقل متمول؛ فإن ذلك قد يجب في الخلطة. والنذر ينزل على أقل واجب من جنسه، ولو نذر عتق كافرة معيبة .. أجزاه كاملة، فإن عين ناقصة .. تعينت؛ لتعلق النذر بالعين.

وقول الناظم: (ليس شيء) بالنصب خبر ليس، ووقف عليه بحذف الألف على لغة ربيعة، وقوله: (وألزم) فعل أمر، أو ماض مبني للفاعل فـ (كفارة) منصوبة به، أو مبني للمفعول فـ (كفارة) مرفوعة به. والألف في قوله: (نذرا) و (لزما) و (حصلا) و (تمولا) للإطلاق، وكذا في قوله: (خيرا) إن بني للمفعول، وإلا .. فبدل من نون التوكيد. * * *

كتاب القضاء

كتاب القضاء أي: الحكم، وهو في الأصل يقال لإتمام الشيء وإمضائه وإحكامه، سمي بذلك؛ لأن القاضي يتمم الأمر ويحكمه ويمضيه. والأصل فيه قبل الإجماع: آيات؛ كقوله تعالى: {وأم احكم بينهم بما انزل الله} [المائدة: 49]، وقوله: {فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42]، وقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} [الزمر: 2]، وأخبار: كخبر "الصحيحين": "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ .. فله أجر، وإن أصاب .. فله أجران"، وفي رواية صحح الحاكم إسنادها: "فله عشرة أجور"، وروى البيهقي خبر: "إذا جلس الحاكم للحكم .. بعث الله تعالى له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل .. أقاما وإن جار .. عرجا وتركاه". وما جاء في التحذير من القضاء؛ كقوله: "من جاء قاضياً .. ذبح بغير سكين". محمول على عظم الخطر فيه، أو على من يكره له القضاء، أو يحرم على ما سيأتي. [حكم تولي القضاء] وهو فرض كفاية في حق الصالحين له في الناحية، فيولي فيها أحدهم ليقوم به، فإن تعين له فيها واحد؛ بأن لم يصلح غيره .. لزمه طلبه، وقبوله إذا وليه، وإن لم يتعين له واحد؛ بأن كان معه غيره: فإن كان غيره أصلح وكان يتولاه .. فللمفضول القبول، ويكره طلبه، ويستحب للفاضل الطلب والقبول، وإن كان الأصلح لا يتولاه .. فهو كالمعدوم، وإن كان مثله .. فله القبول، ويندب له الطلب إن كان خاملاً يرجو به نشر العلم، أو كان محتاجاً إلى الرزق، ويحصل به من بيت المال، وإلا .. فالأولى له تركه، ويكره له الطلب، والاعتبار في التعين وعدمه بالناحية.

(وإنما يليه مسلم ذكر ... مكلف حز سميع ذو بصر) (ذو يقظه عدل وناطق، وأن ... يعرف أحكام القرآن والسنن) (ولغة والخلف مع إجماع ... وطرق الاجتهاد بالأنواع) [شروط القاضي] ذكر في هذه الأبيات أنه يشترط في القاضي عشرة أشياء: كونه مسلماً، ذكراً، مكلفاً، حراً، سميعاً، متيقظاً، ناطقاً، مجتهداً. فلا يتولاه كافر ولو على كفار، وما جرت به عادة الولاة من نصب حاكم لهم .. فهو تقليد رياسة وزعامة، لا تقليد حكم، وإنما يلزمهم حكمه بالالتزام لا بإلزامه. ولا امرأة؛ إذ لا يليق بها مجالسة الرجال، ورفه صوتها بينهم، ولا خنثى كالمرأة. ولا غير مكلف؛ لأنه لا يعتبر قوله على نفسه، فعلى غيره أولى. ولا رقيق أو مبعض؛ لنقصه وعدم فراغه. ولا أصم ولا أعمى، ولا مغفل ولا فاسق، ولا أخرس وإن فهمت إشارته. ولا جاهل أو مقلد، أو مختل الرأي بكر أو مرض، لعجزهم عن تنفيذ الأحكام وإلزام الحقوق. والاجتهاد لغة: استفراغ الوسع في تحقيق ما يستلزم المشقة، واصطلاحاً: استفراغ الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي. وشرطه: أن يعرف أحكام القرآن، والسنن، ولغة العرب مفرداتها ومركباتها؛ لورود الشريعة بها، ولأن بها يعرف عموم اللفظ وخصوصه، وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعاً واختلافاً؛ لئلا يخالفهم في اجتهاده، وطرق الاجتهاد من حال الرواة قوة وضعفاً، والقياس مع الأنواع المذكورات. فمن أنواع القرآن والسنة: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والنص والظاهر، والناسخ والمنسوخ. ومن أنواع الستة: المتواتر والآحاد، والمسند والمرسل.

ومن أنواع القياس: الأولى والمساوي والأدون، فيعمل بها؛ كقياس الضرب للوالدين على التأفيف لهما، وقياس إحراق مال اليتيم على أكله في التحريم فيهما، وقياس التفاح على البر في (باب الربا) بجامع الطعم المشتمل عليه مع القوت والكبل البر، ويقدم الخاص على العام المعارض له، والمقيد على المطلق، والناسخ والمتصل والقوي. قال القاضي: ولا يشترط أن يكون في كل نوع من هذه مبرزاً؛ حتى يكون في النحو كسيبويه، وفي اللغة كالخليل، بل يكون في الدرجة الوسطى من جميع ما تقدم. قال الشيخان: قال الأصحاب: وأن يعرف أصول الاعتقاد، قال الغزالي: وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم، ولا التبحر في هذه العلوم، بل يكفى معرفة جمل منها، ولا يشترط حفظها عن ظهر القلب، بل يكفي أن يعرف مظائها من أبوابها، فيراجعها وقت الحاجة إليها، ثم اجتماع هذه الأمور إنما يشترط في المجتهد المطلق؛ الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، ويجوز تجزي الاجتهاد؛ بأن يكون الشخص مجتهداً في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه. فإن تعذر جمع هذه الشروط؛ كما في زمننا، فولى سلطان ذو شوكة فاسقاً أو نحوه .. صحت ولايته، ونفذ قضاؤه للضرورة؛ لئلا تتعطل مصالح الناس، ولهذا ينفذ قضاء أهل البغي. ويستحب للإمام إذا ولى قاضياً: أن يأذن له في الاستخلاف إعانة له، فإن نهاه عنه .. لم يستخلف، ويقتصر على ما يمكنه إن كانت توليته أكثر منه، فإن أطلق توليته فيما لا يقدر إلا على بعضه .. استخلف فيما يعجز عنه؛ لحاجته إليه، لا فيما يقدر عليه في الأصح، والقادر على ما وليه لا يستخلف فيه أيضاً في الأصح. ولو أذن له الإمام في الاستخلاف .. قطع ابن كج بأنه يستخلف في المقدور عليه كغيره. وما ذكر في الاستخلاف العام، أما الخاص؛ كتحليف وسماع بينة .. فقطع القفال بجوازه، قال غيره: هو على الخلاف؛ وهو مقتضى إطلاق الأكثرين، كذا في "الروضة" كـ"أصلها". وشرط المستخلف كالقاضي، إلا أن يستخلف في أمر خاص كسماع بينة، فيكفي علمه بما

يتعلق به، ويحكم باجتهاده إن كان مجتهداً، أو اجتهاد مقلده إن كان مقلداً حيث ينفذ قضاء المقلد، ولا يجوز أن يشترط عليه خلافه، فلو شرطه .. لم يصح الاستخلاف، وكذا لو شرطه الإمام في تولية القاضي .. لم تصح توليته. ولو حكم خصمان رجلاً في غير حدود الله تعالى .. جاز مطلقاً بشرط أهليته للقضاء، ولا ينفذ حكمه إلا على راض به، فيشترط رضا العاقلة في ضرب الدية عليهم، وإن رجع أحدهما قبل الحكم .. امتنع الحكم، ولا يشترط الرضا بعده. ولو نصب الإمام قاضيين ببلد، وخص كلا منهما بمكان منه أو زمن، أو نوع؛ كالأموال أو الدماء أو الفروج .. جاز، وكذا إن لم يخص في الأصح؛ كالوكيلين والوصيين، إلا أن يشترط اجتماعهما على الحكم، فلا يجوز؛ لما يقع منهما من الخلاف في محل الاجتهاد. وقول الناظم: (الفران) بنقل حركة الهمزة إلى الراء، وقوله: (الاجتهاد) بنقل حركة الهمزة إلى اللام. [ما يستحب في القاضي] (ويستحب كاتباً، ويدخل ... بكرة الاثنين، ووسطاً ينزل) أي: يستحب كون القاضي كاتباً؛ لأنه قد يكتب إلى غيره، ويكتب غيره إليه، فلا يحتاج إلى كاتب، ولا قارئ ولا يشترط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب. ويستحب أيضاً: أن يكون وافر العقل، حليماً متثبتاً، ذا فطنة وتيقظ، كامل الحواس والأعضاء، عالماً بلغة الذين يقضي بينهم، بريئاً من الشحناء، بعيداً من الطمع، صدوق اللهجة، ذا رأي وسكينة ووقار، ولا يكون جباراً تهابه الخصوم، فلا يتمكنون من استيفاء الحجة، ولا ضعيفاً يستخفون به، والأولى أن يكون قرشياً، ورعاية العلم والتقوى أهم من رعاية النسب، وصحح ابن الصلاح وتبعه النووي في مقدمة "المجموع": اشتراط معرفة الحساب؛ لتصحيح المسائل الفقهية بالنسبة إلى المفتي؛ وهو جار في القاضي، قال في "المطلب": وهو الصواب. ويندب للإمام أن يكتب لمن يوليه القضاء ببلد كتاباً به؛ بما يحتاج إليه فيه، ويشهد بالكتاب

شاهدين يخرجان معه إلى البلد، يخبران بالحال من التولية وغيرها، ويكفي إخبارهما بها من غير كتاب، وتكفي الاستفاضة بها لا مجرد كتاب بها، ويبحث القاضي عن علماء البلد وعدوله قبل دخوله، فإن لم يتيسر .. فحين يدخل، ويدخل بلد حكمه بكرة يوم الإثنين. قال في "الروضة": قال الأصحاب: فإن تعسر يوم الإثنين .. فالخميس، وإلا .. فالسبت، وينزل وسط البلد بفتح السين؛ ليتساوى أهله في القرب منه، وينظر أولاً في أهل الحبس؛ لأنه عذاب. قال الماوردي: وقبل النظر فيهم يتسلم من المعزول المحاضر والسجلات، وأموال اليتامى، والضوال والأوقاف، ويؤخذ منه ما جزم به البلقيني: أنه يقدم على النظر فيهم أيضاً كل ما كان أهم منه؛ كالنظر في المحاجير الذين تحت نظره، وما أشرف على الهلاك من الحيوان في التركات وغيرها، وما أشرف من الأوقاف وأملاك محاجيره على السقوط؛ بحيث يتعين الفور في تداركه. وقبل جلوسه للنظر في المحبوسين يأمر منادياً ينادي يوماً، أو أكثر بحسب الحاجة: ألا إن القاضي ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا، فمن له محبوس .. فليحضر، ويبعث إلى الحبس أميناً أو أمينين؛ ليكتب اسم كل محبوس وما حبس به، ومن حبس له في ورقة. فإذا جلس اليوم الموعود وحضر الناس .. صبت الأوراق بين يديه، وأخذ واحدة واحدة، ونظر في الاسم المثبت فيها، وسأل عن خصمه، فمن قال: (أنا خصمه) .. بعث معه ثقة إلى الحبس ليأخذ بيد محبوسه ويحضره. فإذا حضر عنده .. سأل المحبوس عن سبب حبسه، فإن اعترف بالحق .. عمل معه مقتضى الاعتراف، وإن قال: (حبست ظلماً) .. فعلى خصمه حجة بأنه حبسه بحق، فإن لم يقمها .. صدق المحبوس بيمينه، ويطلقه إن ثبت ما ادعاه بحلفه أو بينة، أو اعتراف خصمه، أو يعلم القاضي. (وإن كان خصمه غائباً ... خلاه في الحبس وبحث عنه) وإن ادعى الجهل بسبب حبسه، أو قال: (لا خصم لي) .. نودي عليه لطلب الخصم ثلاثة أيام؛ كما في "البحر" وغيره، ولا يحبس مدة النداء، ولا يخلى بالكلية، بل يراقب، فإن

حضر خصمه في هذه والتي قبلها وأقام حجة على الحق، أو على أن القاضي حكم عليه بذلك .. فذاك، وإلا .. أطلقه، ويحلف النافي على ما يدعيه؛ لأن الحبس بلا خصم خلاف الظاهر. ويطلق من حبس للتعزيز إن رأى إطلاقه، وإن رأى مصلحة في إدامة حبسه .. أدامه. ثم ينظر في الأوصياء على الأطفال ونحوهم؛ لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المرافعة، فمن ادعى وصاية .. سئل عن حالها، وعن حاله وتصرفه، فمن وجده مستقيم الحال قوياً .. أقره، أو فاسقاً. أخذ المال منه، أو ضعيفاً .. عضده بمعين. فإن قال الموصي: (فرقت ما أوصى به) فإن كان لمعينين .. لم يتعرض له، أو بجهة عامة وهو عدل .. أمضاه، أو فاسق .. ضمنه بتعديه، وغير الوصي إذا فرق ما هو لمعينين .. وقع الموقع؛ لأن لهم أن يأخذوه من غير واسطة، أو لجهة عامة .. ضمن. وقول الناظم: (الاثنين) بنقل حركة الهمزة إلى اللام. (ومجلس الحكم يكون بارزاً ... متسعاً من وهج حر حاجزاً) (يكره بالمسجد حيث قصدا ... حكم، خلاف مالك وأحمدا) (ونصب بواب وحاجب بلا ... عذر، وإلا فأميتا عاقلاً) (وحكمه مع ما بخل فمره ... – كغصب لحظ نفس – يكره) (ومرض وعطش وجوع ... حقن نعاس ملل وشيع) (حر وبرد فرح وهم ... والقاض في ذي نافذ للحكم) [ما يستحب في مجلس القضاء] أي: يستحب كون مجلس الحكم بارزاً؛ أي: ظاهراً ليهتدي إليه كل واحد، فسيحاً متسعاً، حتى لا يزدحم فيه الخصوم ويتضرر الشيخ الكبير والعجوز ونحوهما. وأن يكون حاجزاً؛ أي: مصوناً من وهج الحر أذى البرد والريح، والغبار والدخان؛ كأن يكون في الصيف في مهب الرياح وفي الشتاء في كن، هذا إن اتحد المجلس، فإن تعدد وحصل زحام .. اتخذ مجالس بعدد الأجناس، فلو اجتمع رجال وخناثي ونساء .. اتخذ ثلاثة مجالس؛ قاله ابن القاص.

وينبغي ارتفاع محل جلوسه كدكة، وأن يتوجه للقبلة غير متكئ، وحسن أن يوضع له فراش ووسادة؛ ليعرفه الناس، ويكون أهيب للخصوم، وأرفق به فلا يمل. ويكره القضاء في المسجد إذا اتخذ بقصد الحكم فيه؛ صوناً له عن ارتفاع الأصوات واللغط الواقعين بمجلس الحكم عادة، وقد يحتاج لإحضار المجانين والصغار، والحيض والكفار، ولخبر ابن ماجه والطبراني في "الكبير": "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم"، بخلاف اتخاذه مجلساً للفتوى، وتعليم القرآن والعلم فلا يكره. ولو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها .. فلا بأس بفصلها؛ للاتباع، رواه البخاري، وهذا مخالف لمالك وأحمد حيث قالا: لا يكره القضاء في المسجد، فقد روي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم: أنهم كانوا يقضون في المسجد، وقال مالك رضي الله تعالى عنه: القضاء في المسجد من أمر الناس القديم، وقال الشعبي: رأيت عمر رضي الله عنه مستنداً؛ يعني: إلى القبلة، يقضي بين الناس، ولأن القضاء قرية وإنصاف بين الناس فلم يكره في المسجد. [ما يكره للقاضي] ويكره للقاضي حال جلوسه للحكم نصب حاجب يحجب الناس عن الوصول إليه؛ لخبر الترمذي: "من ولي من أمور المسلمين شيئاً واحتجت دون حاجتهم .. احتج الله دون حاجته، وفقره وفاقته"، واتخاذ بواب يمنع الناس ويغلق الباب دونهم، خصوصاً إن كان يغلقه عن الفقراء ويفتحه للأغنياء والرؤساء، وهذا لم يكن عذر، فإن كان لزحام، أو لم يجلس للحكم؛ بأن كان في وقت خلواته .. لم يكره نصبهما. قال الماوردي: إنما يكره الحاجب إذا كان وصول الخصم موقوفاً على إذنه، وأما من وظيفته ترتيب الخصوم وإعلامه بمنازل الناس؛ وهو المسمى في زماننا بالنقيب .. فلا بأس باتخاذه، وصرح القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ باستحبابه فقالوا: يستحب أن يتخذ حاجباً يقوم على رأسه إذا قعد، ويقدم الخصم ويؤخرهم.

قال ابن أبي الدم: وهذا هو الصحيح في زماننا، وإن لم يكره .. فيشترط كونه عدلاً أميناً عفيفاً عاقلاً؛ صرح به الماوردي والروباني. واستحب ابن خيران: كونه كهلاً كثير الستر على الناس. واسحب ابن المنذر كونه خصياً لمكان النساء، قال الصيمري: لا وجه له؛ لأن الشيخ الكبير يؤمن منه الخوف عليهن. ويكره حكم القاضي مع وجود شيء مما يخل بفكره؛ كغضب لحظ نفسه، ومرض مؤلم، وعطش وجوع، وحقن ونعاس، وملل وشبع، وحر وبرد، وفرح وهم؛ لخبر "الصحيحين": "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان"، ورواه ابن ماجه بلفظ: "لا يقضي القاضي ... "، وفي "صحيح أبي عوانة": "لا يقضي القاضي وهو غضبان مهموم، ولا نصاب محزون، ولا يقضي وهو جائع"، وفي معنى ذلك سائر ما يخل بالفكر. وخرج بقول الناظم: (لحظ نفس): الغضب لله تعالى، وقد استثناه البغوي والإمام وغيرهما، واستغربه في "البحر". قال البقلقيني: والمعتمد: الاستثناء؛ لأن الغضب لله تعالى يؤمن معه التعدي، بخلاف الغضب لحظ النفس، وقال الأذرعي: الراجح من حيث المعنى، والموافق لإطلاق الأحاديث وكلام الشافعي رضي الله عنه والجمهور: أنه لا فرق؛ لأن المحذور تشويش الفكر، وهو لا يختلف بذلك. نعم؛ تنتفي الكراهة إذا دعت الحاجة إلى الحكم في الحال، وقد يتعين الحكم على الفور في صور كثيرة، ولو حكم في هذه الأحوال .. نفذ حكمه؛ لقصة الزبير المشهورة، وفعله صلى الله عليه وسلم محمول على التشريع. والألف في قول الناظم: (قصدا) و (أحمدا) للإطلاق، وقوله: (والقاض) بحذف الياء.

(تسوية الخصمين في الإكرام ... فرض، وجاز الرفع بالإسلام) (هدية الخصم لمن لم يعتد ... قبل القضا: حرم قبول ما هدى) (ولم يجز تلقين مدع، ولا ... تعيين قوم غيرهم لن يقبلا) (وإنما يقبل قاض ما كتب ... قاض إليه حين مدع طلب) (بشاهدين ذكرين شهدا ... بما حواه جين خصم جحدا) فيها أربع مسائل: [التسوية بين الخصمين فرض] الأولى: التسوية بين الخصمين في كل إكرام فرض على القاضي في دخول عليه، بأن يأذن لهما فيه، وقيام لهما، ونظر إليهما، واستماع لكلامهما، وطلاقة وجه لهما، وجواب سلام منهما، ومجلس؛ بأن يجلسهما إن كانا شريفين بين يديه، أو أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وكذا سائر أنواع الإكرام، فلا يخص أحدهما بشيء منها؛ لأن تخصيص أحدهما بكسر قلب الآخر، ويمنعه أن يلحن بحجته، فلم سلم الخصمان معاً. أجيابهما، أو أحدهما .. قال الرافعي: قال الأصحاب ينتظر سلام الآخر فيجيبهما معاً، وقد يتوقف فيه مع طول الفصل، وذكروا أنه لا بأس أن يقول للآخر: سلم، فإذا سلم .. أجابهما، قال: وفيه اشتغال منه بغير الجواب، ومثله يقطع الجواب عن الخطاب، وكأنهم احتملوا ذلك؛ لئلا يبطل معنى التسوية، وما نقله عن الأصحاب أولاً .. قال الزركشي: حكاه الإمام عن القاضي وحده ثم زيفه، وحكى الماوردي في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: يرده عليه في الحال، ثانيها: بعد الحكم، ثالثها: يرد عليهما معاً في الحال، ولم يحك ما نقله الرافعي وجهاً، بل عزاه لبعض الفقهاء؛ يعني: من غير أصحابنا، والمختار ما مال إليه الإمام: من وجوب الرد في الحال، وبه جزم القاضي أبو الطيب، وشريح الروياني وغيرهما، وصححه الجرجاني. انتهى، وسبقه إلى الإسنوي وأطال فيه، ثم قال: فتلخص أن ما نسبه الرافعي إلى

الأصحاب .. غلط أوقعه فيه البغوي للقاضي. انتهى. وجاز القاضي رفع المسلم على الكافر في المجلس؛ بأن يجلس المسلم أقرب إلى القاضي؛ كما جلس على رضي الله عنه بجنب شريح في خصومه له مع يهودي، وقال: لو كان خصمي مسلماً .. لجلست معه بين يديك، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تساووهم في المجلس" وراه البيهقي في "سننه"، وفي سائر وجوه الإكرام حتى في التقديم في الدعوى؛ كما بحثه بعضهم. ويقدم القاضي عند اجتماع الخصوم المسافر الذي تهيأ للسفر وخاف انقطاعه عن رفقته إن تأخر على المقيم؛ لئلا يتضرر، ثم يقدم بعد المرأة على غيرها؛ طلباً لسترها. نعم؛ إن كثر المسافرون أو النساء .. قدم بالسبق، ثم بالقرعة؛ كما في بعض كل منهما مع الآخر. قال في "الروضة" كـ"أصلها": وينبغي ألا يفرق بين كونهم مدعين ومدعى عليهم، وتقديهم رخصة غير واجب، وقيل: واجب، واختار في الروضة: أنه مندوب. ثم بعد المرأة يقدم وجوباً السابق لمجلس الحكم، والعبرة بسبق المدعي دون المدعى عليه، ثم من خرجت له القرعة، فإن عسر الإقراع لكثرتهم .. كتب أسمائهم في رقاع ووضعت بين يجيه؛ ليأخذ واحدة واحدة، فيسمع دعوى من خرج اسمه، ويقدم السابق والقارع في خصومة واحدة، فلا يثنى بأخرى؛ دفعاً للضرر عن الباقين، فينتظر فراغهم، أو يحضر في مجلس آخر. وأما المقدم بالسفر .. فقال النووي: الأرجح: أنها إن كانت قليلة أو خفيفة بحيث لا تضر بالباقيين إضراراً بيناً .. قد بجميعها، وإلا .. فبواحدة؛ لأنها مأذون فيها، وقد يقنع بواحدة ويؤخر الباقي إلى أن يحضر، واعترضه الإسنوي: بأن ما ذكره من التقديم بواحدة .. ممنوع، بل القياس على ما قاله: أن يسمع في عدد منها لا يضر بالباقين. انتهى. وقال بعضهم: والظاهر: أن المرأة في ذلك كالمسافر، وأن الخنثى كالمرأة.

[حكم الهدية للقاضي وما يتعلق به] الثانية: هدية من له خصومة إلى القاضي حرام، فيحرم عليه قبولها ولو عهد ذلك منه قبل القضاء؛ لخبر: "هدايا العمال غلول" وراه البيهقي بإسناد حسن، وروي: "هدايا العمال سمحت"، وروي: "هدايا السلطان سحت"، ولأنها تدعو إلى الميل إليه، فلا يملكها القاضي لو قبلها، فيجب عليه ردها إلى مالكها، فإن تعذر .. وضعها في بيت المال؛ كمن لم يعتد قبل القضاء الهدية إلى القاضي ولا خصومة له؛ فإنه يحرم على القاضي قبول هديته في محل هديته في محل ولايته؛ للخبر السابق، ولأن سببها العمل ظاهراً، بخلافها في غير محل ولايته؛ فإنها لا يحرم قبولها؛ كما في "الروضة" و"أصلها". وإن كان يهدي إليه قبل ولايته القضاء ولا خصومة له .. جاز قبولها إذا كانت بقدر العادة؛ لأنها ليست حادثة بسبب العمل، والأولى ألا يقبلها؛ لأنه أبعد عن التهمة أو يثبت عليها، أما إذا زادت على العادة .. فكما لو لم يعهد منه؛ قاله في "الروضة" كـ"أصلها"، وقضيته: تحريم الجميع. وقال الروياني نقلاً عن المذهب: إن كانت الزيادة من جنس الهدية .. جاز قبولها؛ لدخولها في المألوف، وإلا .. فلا، والضيافة والهبة كهدية. وأما الرشوة: وهي ما يبذل للقاضي ليحكم بغير الحق، أو ليمتنع من الحكم بالحق .. فحرام مطلقاً. ولا ينفذ حكم القاضي لنفسه ورقيقه وشريكه في المشترك، وأصله وفرعه، ورقيق كل منهما، وشريكه في المشترك، ويحكم له ولهؤلاء الإمام، أو قاض أو نائبه. وإذا أقر المدعى عليه، أو نكل فحلف المدعي، أو أقام بينة وسأل القاضي أن يشهد على إقراره أو يمينه، أو الحكم بما ثبت والإشهاد به .. لزمه، وكذا إذا حلف المدعى عليه وسأله الإشهاد ليكون حجة له .. فلا يطالب مرة أخرى. وإذا حكم باجتهاد ثم بان خلاف نص الكتاب أو السنة، أو الإجماع أز قياس جلي .. تبين

بطلانه، بخلاف القياس الخفي، والقضاء فيما باطن الأمر فيه بخلاف ظاهره ينفذ ظاهراً لا باطناً. فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة .. لم يحصل بحكمه الحل باطناً، سواء المال والنكاح وغيرهما، وما باطن الأمر فيه كظاهره؛ بأن ترتب على أصل صادق ينفذ القضاء فيه باطناً أيضاً قطعاً إن كان في محل اتفاق المجتهدين، وعلى الأصح عند البغوي وغيره: إن كان في محل اختلافهم وإن كان القضاء لمن لا يعتقده؛ لتتفق الكلمة ويتم الانتفاع. ولا يقضي بخلاف علمه بالإجماع؛ كأن علم أن المدعي أبرأ المدعي عليه مما ادعاه، وأقام به بينة، أو أن المدعي قتله -وقامت به بينة- حي، فلا يقضي بالبينة فيما ذكر. ويقضي بعلمه ولو في الطلاق والعتق؛ كما يقضي بالحجة، بل أولى سواء أعلم ذلك في زمن ولايته ومكانها، أم في غيرهما، وسواء أكان في الواقعة بينة أم لا، وذكر الماوردي والروياني: أنه لا ينفذ الحكم بالعلم إلا مع التصريح بأن مستنده علمه بذلك؛ كأن يقول: (قد علمت أن له عليك ما ادعاه، وحكمت عليك بعلمي) كما يقضي بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم، وفي التقويم لما يحتاج لتقويمه وإن لم يكن معه مقوم آخر، إلا في حدود الله تعالى وتعازيره؛ لندب الستر في أسبابها، بخلاف عقوبات الآدمي وحقوقه تعالى المالية. [حرمة تلقين المدعي] الثالثة: يحرم على القاضي تلقين مدع كيف يدعي؛ لما فيه من كسر قلب الآخر، وتعيين قوم من الشهود ولا يقبل غيرهم؛ لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، ولأن فيه إضراراَ بالناس؛ لأن كثيراً من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها لا يطلع عليها المعينون، لكن له أن يرتب شهوداً يشهدهم الناس، فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم، ويستغني الحاكم عن الكشف عن حالهم. [القضاء على الغائب] الرابعة: إنما يقبل القاضي الذي في بلد الخصم كتاب القاضي على الغائب إذا سمع البينة على الغائب وقبلها، وثبت عنده المال على الغائب، وكتب إلى قاضي البلد الذي فيه المدعي عليه، وذلك حين يطلب المدعي منه ذلك ويكتب، فإذا وصل الكتاب إلى القاضي .. لا يقبله

إلا بشاهدين عدلين ذكرين شهدا على القاضي بما حواه كتابه حين أشهدهما على نفسه، وختم الكتاب، وذكر فيه نقش خاتمه الذي ختم به من نسخة مع الشاهدين غير مختومة للمطالعة. ويكتب القاضي اسم نفسه، واسم المكتوب إليه في باطن الكتاب، وعلى العنوان. ثم المكتوب إليه يحضر الخصم، فإن أقر .. استوفى الحق منه، وإن جحد ذلك .. شهد الشاهدان عليه بما يعلمانه. ويجوز القضاء على الغائب بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو رجل ويمين كالحاضر، ويجب أن يحلف يميناً أخرى؛ لنفي المسقط في الصر الثلاث، والقاضي بعد سماع البينة قد يحكم وينهي إلى حاكم آخر، وقد يقتر على السماع وينهيه، و (الإنهاء): أن يشهد عدلين بذلك. ويستحب كتاب يذكر فيه ما يتميز به المحكوم عليه، ويختمه كما مر، فإن قال: (لست المسمى فيه) .. صدق بيمينه، وعلى المدعي البينة على أنه اسمه ونسبه، فإن أقامها فقال: (لست المحكوم عليه) .. لزمه إن لم يكن هناك مشارك له في الاسم والصفات عاصر المحكوم عليه، وإن وجد المشارك واعترف .. طولب به، وخلص الأول، وإلا .. فيحتاج إلى مزيد صفة يتميز بها المشهود عليه. ولو حضر قاضي بلد الغائب إلى بلد الحاكم فشافهه بحكمه .. أمضاه إذا عاد إلى بلده، والأولى تسمية البينة، وكتاب الحكم يُمضي مع قرب المسافة وبعدها، وسماع البينة لا يُمضي إلا فيما فوق مسافة العدو. والألف في قول الناظم: (يقبلا) و (جحدا) للإطلاق.

كتاب القسمة

كتاب القسمة هي: تمييز الحصص بعضها عن بعض، والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى {وإذا حضر القسمة} الآية، وخبر: "الشفة فيما لم يقسم"، (وكان صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم بين أربابها) رواه الشيخان، والحاجة داعية إليها، فقد يتبرم الشريك من المشاركة، ويقصد الاستبداد بالتصرف. (يجبر حاكم عليها الممتنع ... في متشابه وتعديل شرع) (إن لم يضر طالباً للقسمة ... وقسم رد بالرضا والقرعة) (وينصب الحاكم حرا ذكرا ... كلف عدلاً في الحساب مهرا) (ويشرط اثنان إذا يقوم ... وحيث لا تقويم فرد يقسم) الأعيان المشتركة قسما: [قسمة ما يعظم الضرر بقسمته] أحدهما: ما يعظم الضر في قسمته؛ كجوهرة وثوب نفيسين، وزوجي خف، إن طلب الشركاء كلهم قسمته .. لم يجبهم القاضي، ولا يمنعهم إن قسموا بأنفسهم إن لم تبطل منفعته؛ كسيف يكسر، بخلاف ما تبطل منفعته .. فإنه يمنعهم؛ لأنه سفه، وما يبطل نفعه بالمقصود؛ كحمام وطاحونة صغيرين .. لا يُجاب طالب قسمته، ولم يجبر عليها الآخر؛ لوجود الضرر. [قسمة ما لا يعظم الضرر بقسمته] وما لا يعظم ضرره .. قسمته أنواع ثلاثة: [قسمة الإفراز] أحدها: قسمة المتشابهات بالأجزاء؛ كمثلي من حبوب ودراهم وأدهان ونحوها، ودار متفقة الأبنية، وأرض مشتبهة الأجزاء، فتعدل السهام كيلاً في المكيل، أو وزناً في الموزون،

أو ذرعاً في المذروع بعدد الأنصباء إن استوت؛ كأثلاث لزيد وعمرو وبكر، ويكتب في كل رقعة اسم ريك، أو جزء مميز بحد أو جهة، وتدرج في بنادق، ثم تجعل الرقاع في حجر من لم يحضرها حين الكتابة والإدراك، ثم يخرج رقعة على الجزء الأول إن كتب الأسماء، فيعطي لمن خرج اسمه، أو على اسم زيد إن كتب الأجزاء، فيعطي ذلك الجزء، ويفعل ذلك في الرقعة الثانية فيخرجها على الجزء الثاني، أو على اسم عمرو، ويتعين الثالث للباقي إن كانت أثلاثاً. وتعيين من يبتدئ به من الشركاء والأجزاء منوط بنظر القاسم، فإن اختلفت الأنصباء؛ كنصف وثلث وسدس في أرض .. جزئت الأرض على أقل السهام وهو السدس، فتكون ستة أجزاء، وقسمت كما سبق، ويحترز عن تفريق حصة واحد، وهو في غي الأقل في كتابة الأجزاء في ست رقاع إذا بدئ بصاحب السدس، وخرج على اسمه الجزء الثاني أو الخامس، فنتفرق حصة غيره، فيبدأ بمن له النصف مثلاً، فإن خرج على اسمه الجزء الأول أو الثاني .. أعطيهما والثالث، ويثني بصاحب الثلث، فإن خرج على اسمه الجزء الرابع .. أعطيه والخامس، وتعيين السادس لصاحب السدس. وفي كتابة الأسماء زيد وعمرو وبكر في ثلاث رقاع أو ست، إن خرج اسم بكر صاحب السدس على الجزء الأول .. أخذه، وإن خرج على الثاني اسم عمرو صاحب الثلث .. أخذه مع الثالث، وتعينت الثلاثة الباقية لزيد صاحب النصف، ولا يخفى الحكم لو خج اسم زيد قبل عمرو، أو اسم أحدهما أولاً وتوسط بينهما اسم بكر، ولا تفريق لحصتهما في ذلك. [قسمة التعديل] ثانيها: قسمة التعديل؛ بأن تعدل السهام بالقيمة؛ كأرضٍ تختلف قيمة أجزائها بحسب قوة إثبات وقرب ماء، فإذا كانت لاثنين نصفين وقيمة ثلثها المشتمل على ما ذكر كقيمة ثلثيها الخالي عن ذلك .. جعل الثلث سهماً والثلثان سهماً، وأقرع بكتابة الاسمين أو الجزأين نحو ما تقدم، فمن خرج له جزء .. أخذه. ولو استوت قيمة دارين أو حانوتين لاثنين بالسوية فطلب جعل كل منهما لواحدٍ .. فلا إجبار في ذلك، تجاور ما ذكر أو تباعد؛ لشدة اختلاف الأغراض باختلاف المحال والأبنية. ولو اشتركا في دكاكين صغار متلاصقة لا تحتمل آحادها القسمة، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً .. فالأصح: الإجبار، أو استوت قيمة عبيدٍ، أو ثياب من نوع .. اجبر الممتنع؛ لقلة اختلاف الأغراض فيها، أو نوعين كعبدين تركي وهندي، أو ثوبين إبريسم وكتان .. فلا إجبار في ذلك.

[قسمة الرد] ثالثها: قسمة الرد؛ كأن يكون في أحد الجانبين من الأرض بئر، أو شجر لا تمكن قسمته، فيرد من يخرج له بالقرعة قسط قيمته، فإن كانت ألفاً وله النصف .. رد خمس مئة. وقسمة المتشابهات إفراز بمعنى أنها تعين أن ما خرج لكل من الشريكين مثلاً هو الذي ملكه. [إجبار الحاكم الممتنع على القسمة] وكل من قسمة التعديل والرد بيع، ويجب الحاكم على القسمة الممتنع منها في قسمة المتشابهات وقسمة التعديل؛ إذ لا ضر عليه فيها، وإلحاقاً للتساوي في القيمة بالتساوي في الأجزاء، وإنما دخلها الإجبار للحاجة؛ كما يبيع الحاكم مال المديون جبراً. وإنما يجبر الحاكم الممتنع فيما ذكر إن لم تضر القسمة طالبها، فلو كان له عشر دار لا يصلح للسكنى، والباقي لآخر يصلح للسكنى فطلبها .. لم يجبر الآخر؛ لأن طلبه تعنت بخلاف الآخر، وقسمة الرد لا إجبار فيها؛ لأن الزيادة المأخوذة لا شركة فيها، وإنما يقع الإجبار في المشترك، بل لابد من الرضا بعد خروج القرعة؛ لأنها بيع، والبيع لابد فيه من الرضا؛ كقولهما: (رضينا بهذه القسمة)، أو (بما أخرجته هذه القرعة). ثم قد يقسم الشركاء، أو منصوبهم أو منصوب الإمام. [الشرط في القاسم] ويشترط أن ينصب حراً ذكراً مكلفاً عدلاً في الحساب مهر؛ بأن يعلم المساحة والحساب؛ لأنه يلزم كالحاكم، وليوصل إلى كل ذي حق حقه. قال الماوردي: وأن يكون نزهاً قليل الطمع حتى لا يدلس ولا يخون. وأفهم كلام الناظم ككثير: أنه لا يشترط معرفته التقويم، قال ابن الرفعة: وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ. ومنصوب الشركاء لا يشترط فيه العدالة والحرية؛ لأنه وكيل لهم، وقضيته: عدم اشتراط الذكورة أيضاً، وهو واضح، ومحكم كمنصوب الإمام.

ويشترط للقسمة إذا كان فيها تقويم اثنان؛ لأنهما شاهدان بالقيمة. نعم؛ إن جعل الإمام القاسم حاكماً في التقويم .. جاز فيعمل فيه بعدلين، ويقسم بنفسه، وله أن يقضي فيه بعلمه، وحيث لا تقويم في القسمة .. فيكفي فيها قاسم واحد كالحاكم، سواءً أنصبه الإمام أم الشركاء، ويجعل الإمام رزق منصوبه من بيت المال، فإن لم يكن .. فأجرته على الشركاء، فإن استأجروه وسمى كل قدراً .. لزمه، وإن أطلقوا المسمى .. فالأجرة موزعة على قدر حصصهم المأخوذة، لا بعدد رؤوسهم؛ لأنها من مؤن الملك كالنفقة. والألف في قول الناظم: (مهرا) للإطلاق، والمهارة في الشيء: الحذق فيه. * * *

باب الشهادة

باب الشهادة مصدر شهد، وهي لغة: الخبر القاطع، وشرعاً: إخبار بحق لغير المخبر على غيره على وجه مخصوص. والأصل فيها: آيات؛ كقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، وقوله: {ولا تكتموا الشهادة}، وأخبار؛ كخبر الصحيحين: ((ليس لك إلا شاهداك أو يمينه))، وخبر: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة، فقال للسائل: "ترى الشمس؟ "، فقال: عم، فقال: "على مثلها فاشهد أو دع" رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده. وتتحقق: بشاهد، ومشهود له، ومشهود عليه، ومشهود به، وبدأ بالأول فقال: (وإنما تقبل ممن أسلما ... كلف، حرا، ناطقا، قد علما) (عدلاً، على كبيرة ما أقدما ... طوعاً، ولا صغيرة ما لزما) (أو ناب مع قرائن أن قد صلح ... والاختيار سنة على الأصح) (مروءة المثل له، وليس جار ... لنفسه نفعاً ولا دافع ضار) (أو أصل أو فرع لمن يشهد له .. كما على عدوه لن نقبله) (ويشهد الأعمى ويروي إن سبق ... تحمل أو بمقر اعتلق) (وبتسامع نكاح وحمام ... وقف ولاء نسب بلا اتهام) فيها مسألتان: [ما يعتبر لقبول الشهادة] الأولى: يعتبر في قبول الشهادة أمور: أولها: الإسلام؛ فلا نقبل شهادة الكافر ولو على أهل دينه؛ لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}.

ثانيها: التكليف؛ فلا نقبل شهادة غير المكلف كإقراره بل أولى. ثالثها: الحرية؛ فلا تقبل شهادة غير الحر ولو مكاتباً أو مبعضاً كسائر الولايات؛ إذ في الشهادة نفوذ قول على الغير. رابعها: النطق؛ فلا تقبل شهادة الأخرس وإن فهمت إرادته؛ لأنها لا تفصح عن المراد، وإنما صحت تصرفاته بها للحاجة. خامسها: العلم بالعدالة وظهورها؛ فلا تقبل شهادة من لم تثبت عدالته كالفاسق؛ لقوله تعالى: {واشهدوا ذوي عدل منكم}، ولقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء}، ولأن الحاكم لا يحكم إلا بشهادة من يغلب على ظنه صدقها. و(العدل): من لم يقدم على كبيرة مختاراً؛ وهي ما لحق صاحبها ووعيد شديد ينص كتاب أو سنة؛ كالقتل والزنا واللواط، وشرب المسكر والسرقة، والغصب والقذف، والنميمة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة وقطيعة الرحم، والعقوق والفرار، وإتلاف مال اليتيم والربا، والسحر والوطء في الحيض وخيانة الكيل أو الوزن، وتقديم الصلاة على وقتها أو تأخيرها عنه، والكذب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب المسلم وسب الصحابي، وكتمان الشهادة، والرشوة والدياثة والقيادة والسعاية، ومنع الزكاة واليأس من الرحمة، والأمن من المكر، وأكل لحم الخنزير والميتة، والفطر في رمضان والغلول والمحاربة، ولا لازم صغيرة وأصر عليها؛ وهي كل ذنب ليس بكبيرة، والإصرار عليها: الإكثار من نوع أو أنواع منها، فتنتفي به العدالة إلا أن تغلب طاعات المصر على ما أعليه فلا يضر، والصغيرة: كالنظر إلى ما لا يجوزن والغيبة والسكوت عليها، والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، والجلوس مع الفساق إيناساً لهم، واللعب بالنرد، واستعمال آلة من شعار شربة الخمر؛ كطنبور وعود، وصنج ومزمار عراقي، واستماعها، واللعن ولو لكافر أو بهيمة، وليس حرير وجلوس عليه، والهجو والسفاهة. وخرج يقول الناظم: (طوعاً): من أقدم على كبيرة مكرهاً؛ فإنه عدل. قوله: (أو تاب) أي: ما أقدم على كبيرة مختاراً، ولا أصر على صغيرة، أو فعل ذلك لكنه تاب مع قرائن تغلب على الظن بأنه قد صلح. فيشترط في توبة معصية قولية القول؛ فيقول القاذف: (قذفي باطل، وأنا نادم عليه،

ولا أعود إليه)، ويقول شاهد الزور: (شهادتي باطلة، وأنا نادم عليها، ولا أعود إليها). ويشترط في توبة المعصية الفعلية؛ كالزنا والشرب والسرقة: إقلاع عنها، وندم عليها، وعزم ألا يعود إليها، ورد ظلامة آدمي إن تعلقت به من مال وغيره، فيؤدي الزكاة لمستحقيها، والمغصوب إن بقي، وبدله إن تلف لمستحقه، ويمكن مستحق القصاص والقذف من الاستيفاء. ويشترط اختباره بعد توبته مدة يظن بها صدقه؛ وهي سنة على الأصح؛ لأن لمضي الفصول الأربعة أثراً في تهييج النفوس لما تشتهيه، فإذا مضت بالسلامة .. أشعر ذلك بحسن السيرة، وقد اعتبر الشرع السنة في العنة والزكاة والجزية. نعم؛ من قذف بصورة شهادة لم يتم نصابها، أو خفي فسقه وأقربه ليحد .. تقبل شهادته عقب توبته؛ وكذا من أسلم بعد ردته؛ لإتيانه بضد الكفر، فلم يبق معه احتمال، وقيده الماوردي بما إذا أسلم مرسلاً، فإن أسلم عند تقديمه للقتل .. اعتبر مضي المدة، ومقابل الأصح: أنها تقدر بستة أشهر، وقيل: لا تقدر بمدة، ويختلف الظن بالأشخاص وأمارات الصدق. وما ذكر في بيان التوبة .. محله في التوبة في الظاهر؛ وهي المتعلق بها الشهادة والولاية. أما التوبة فيما بينه ويبين الله تعالى؛ وهي التي يسقط بها الإثم .. فلا يشترط فيها مضي مدة، وحد الله تعالى كالزنا والشرب إن لم يظهر عليه أحد .. فله أن يظهره ويقربه؛ ليقام عليه الحد، وله أن يستر على نفسه وهو الأفضل، وإن ظهر .. فقد فات الستر، فيأتي الإمام ويقر به ليقيم عليه الحد. سادسها: أن تكون له مروءة؛ وهي تخلقه بخلق أمثاله في زمانه ومكانه، فمن لا مروءة له .. لا حياء له، ومن لا حياء له .. يقول ما شاء، وترك المروءة يشعر بترك المبالاة، وبدل على خيل في العقل، فالأكل في سوق، والشرب فيها لغير سوقي، إلا إذا غلبه الجوع أو العطش، والمشي فيها مكشوف الرأس أو البدن غير العورة ممن لا يليق به مثله، وقبلة زوجة أو أمة بحضرة الناس، وإكثار حكايات مضحكة، وليس فقيه قباء، أو قلنسوة في بلد لا يعتاد للفقيه، وإكباب على لعب الشطرنج، أو على اللعب بالحمام بالتطيير والمسابقة، أو على غناء أو سماعه، وإدامة رقص .. يسقطها.

ويختلف مسقطها بالأشخاص والأحوال والأماكن، فيستقبح من شخص دون آخر، وفي حال دون حال، في بلد د آخر كما علم مما مر، وحرفة دنية كحجامة وكنس ودبغ ممن لا يليق به .. تسقطها، لإشعارها بالخسة إن لم يعتدها، وإلا .. فلا في الأصح. سابعها: عدم التهمة، وتهمته أن يجر إليه بشهادته نفعاً، أو يدفع عنه بها ضرراً، فترد شهادته لعبده المأذون له أو المكاتب، وغريم له ميت، أو عليه حجر فلس، وبما هو وكيل فيه، وببراءة من ضمنه، وبجراحة مورثه قبل اندمالها، وترد شهادة عاقلة بفسق شهود قتل يحملونه، وغرماء مفلس بفسق شهود دين آخر. وترد شهادته لفرعه، أو أصله وإن قبلت عليه، ومنه أن تتضمن شهادته دفع ضرر عنه؛ كأن يشهد للأصل الذي ضمنه فرعه، أو أصله بالأداء أو الإبراء. نعم؛ لو ادعى السلطان على شخص بمال لبيت المال، فشهد له به أصله أو فرعه .. قبل؛ كما قاله الماوردي؛ لعموم المدعي به، ولو شهد لأصله أو فرعه ولأجنبي .. قبلت للأجنبي، وتقبل لكل من الزوجين، ولأخ وصديق، ولا تقبل شهادته على عدوه دنيا- وإن قبلت له –للتهمة، فترد شهادته بزنا زوجته ولو مع ثلاثة. وتقبل شهادة المسلم على الكافر، وكذا السني على المبتدع وعكسه؛ إذ العداوة دينيه وهو من يبغضه، بحيث يتمنى زوال نعمته، وبحزن بسروره، ويفرح بمصيبته، وذلك قد يكون من الجانبين، وقد يكون من أحدهما فيختص برد شهادته على الآخر، وإن أفضت العداوة إلى الفسق .. ردت شهادته مطلقاً. ومن خاصم من يريد أن يشهد عليه وبالغ، فلم يجبه ثم شهد عليه .. قبلت شهادته، وإلا .. لاتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادات، ولو زالت العداوة ثم أعادها .. لم تقبل. ولا تقبل شهادة مغفل لا يضبط، ولا مبادر بالشهادة قبل أن يسألها؛ إذ كل منهما متهم، لكن تقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى؛ كالصلاة والزكاة والصوم؛ بأن يشهد بتركها، وفيما له فيه حق مؤكد؛ كطلاق وعتق وعفو عن قصاص، وبقاء عدة وانقضائها؛ بأن يشهد بما ذكر ليمنع من مخالفة ما يترتب عليه، وحد الله تعالى؛ بأن يشهد بموجبه، والأفضل فيه

الستر، وكذا النسب على الصحيح؛ لأن في وله حق الله تعالى. وصورتها: أن يقول الشهود للقاضي ابتداءً: (نشهد على فلان بكذا، فأحضره لنشهد عليه)، فإن ابتدؤوا وقالوا: (فلان زنى) .. فهم قذفة، وإنما تسمع عند الحاجة إليها، فلو شهد اثنان أن فلاناً أعتق عبده، أو أنه أخو فلانة من الرضاع .. لم يكف حتى يقولا: (إنه يسترقه)، أو (إنه يريد نكاحها)، أو (متزوج بها). وما تقبل فيه: هل تسمع فيه الدعوى؟ فيل: لا؛ اكتفاء بالبينة، ولأنه لا حق للمدعي فيه ومن له الحق لم يأذن في الطلب، وقيل: نعم؛ لأن البينة قد لا تساعد، ويراد استخراج الحق بإقرار المدعى عليه؛ كذا في "الروضة" و"أصلها" هنا، وقضية كلامهما في (السرقة) وآخر (القضاء): ترجيح الثاني، صححه البلقيني، وهو محمول على غير حدود الله تعالى، فقد جزم في "الروضة" و"أصلها" في (الدعاوي) بعدم سماعها فيها؛ أي: إذا لم يتعلق بها حق آدمي. [شهادة الأعمى وروايته] الثانية: تقبل شهادة الأعمى وروايته إن سبق تحمله العمى، وكان المشهود له وعليه معروفي الاسم والنسب، بخلاف مجهوليهما، أو أحدهما، أو تعلق بمقر في أذنه بطلاق أو عتق، أو مال لرجل معروف الاسم والنسب حتى شهد عليه عند قاض، وتقبل شهادته أيضاً فيما يثبت بالاستفاضة كالبصير؛ وهي التسامع من جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب؛ لكثرتهم، فيقع العلم، أو الظن القوي بخبرهم من نكاح وحمام بكسر الحاء؛ أي: موت، ووقف، وولاء ونسب وعتق، وملك بلا اتهام؛ أي: معارض، أما في الموت .. فلأن أسبابه كثيرة ومنها ما يخفى، ولأنه يقع في الأفواه فينتشر كالنسب وغيره، وأما باقيها .. فلأن مدتها تطول فتعسر إقامة البينة على ابتدائها، فمست الحاجة إلى إثباتها بالتسامع. ومما يثبت بالتسامع: ولاية القضاء ونحوه، والجرح والتعديل، وكذا الرشد كما أفتى به ابن الصلاح، والإرث؛ بأن شهد بالتسامع أن فلاناً وارث فلان لا وارث له غيره؛ كما نص عليه في "البويطي".

أما إذا كان هناك معارض؛ كإنكار المنسوب نسبه إليه، أو طعن بعض الناس فيه، أو منازع له في الملك المشهود له به .. فلا تجوز الشهادة بالتسامع؛ لاختلاف الظن حينئذ. ولا يكفي في التسامع ول الشاهد: (أشهد أني سمعت الناس يقولون كذا) وإن كانت شهادته مبنية عليه، بل يشهد أن هذه زوجة فلان، أو أن فلاناً مات، أو أن هذا وقف، أو أن هذا ابن فلان؛ لأنه قد يعلم خلف ما سمعه، ولأن ذكره يشعر بعدم جزمه بالشهادة. والألف في قول الناظم: (أسلما) و (علما) و (أقدما) و (لزما) للإطلاق، وقوله: (قرائن أن قد) بصرفه ودرج همزة (أن) للوزن، ويجوز في قوله: (أصل أو فرع) رفعهما وجرهما عطفاً على جار المجرور على التوهم؛ كقولهم: ليس زيد قائماً ولا قاعدٍ بالخفض على توهم دخول الباء في خبر ليس، وكقول زهير: (بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جاثياً) فيكون التقدير هنا: وليس الشاهد بأصل أو فرع للمشهود له. وقوله: (وقف ولاء نسب) معطوفات على (نكاح) مع حذف العاطف. (وللزنا: أربعة أن أدخله ... في فرجها كمرود في مكحله) (وغيره اثنان كإقرار الزنا ... ولهلال الصوم: عدل بينا) (ورجل وامرأتان، أو رجل ... ثم اليمين: المال أو مهما يؤل) (إليه، كالموضحة التي جهل ... تعيينها أو حق مال كالأجل) (أو سبب للمال كالإقالة ... والبيع والضمان والحوالة) (ورجل وامرأتا، أربع ... نا لما الرجال لا تطلع) (عليه كالرضاع والولادة ... وعيبها والحيض والبكارة) [ما يشترط للشهادة على الزنا واللواط] أي: يشترط للزنا؛ أي: وللواط، ووطء الميتة أو البهيمة أربعة من الرجال موصوفين بما مر؛ لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنت ثم لم يأتوا بأربعة شهداء}، وقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه

بأربعة شهداء}، وقوله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم}، ولما فيه وفي إثارته من القبائح الشنيعة فغلظت الشهادة فيه؛ ليكون أستر، ويشترط أن يذكروا فيها المزني بها، فقد يظنون وطء المشتركة وأمة ابنه زناً، وأن يفسروا الزنا كما ذكره بقوله: (أن أدخله) بفتح همزة (أن) أي: يشهدون بأنه أدخل ذكره، أو حشفته أو قدرها منه في فرجها على سبيل الزنا، فقد يظنون المفاخذة زنا، وفي الخبر: ((زنا العينين النظر))، بخلاف شهادتهم بوطء الشبهة يكفي إطلاقها؛ لأن المقصود المال، ولهذا يثبت بما يثبت به المال. وقوله: (كمرود في مكحلة) ليس شرطاً، بل أحوط، قال ابن الرفعة: واعتبر القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما ذكر مكان الزنا وزمانه؛ وهو ما في "التنبيه" في المكان تبعاً للشيخ أبي حامد، ورأى الماوردي: أنه إن صرح بعض الشهود بذلك .. وجب سؤال الباقين عنه، وإلا .. فلا. [ما يشترط للشهادة على ما ليس مالاً ولا يؤول إليه] ويشترط لغيه مما ليس مالاً ولا يؤول إليه ويطبع عليه الرجال غالباً: رجلان موصوفان بما مر، وذلك كالإقرار بالزنا أو غيره، والطلاق والرجعة، والإسلام والشهادة على الشهادة، والنكاح والموت، والإعسار والعتق، وانقضاء العدة بالأشهر، والخلع من جانب المرأة، والولاية، والجرح والتعديل، والكتابة من جهة الرقيق والتدبير، والإيلاد والوكالة، والوصاية والإحصان، والظهار واللعان، والنسب واستيفاء العقوبات، والكفالة بالبدن، وعقوبة لله تعالى؛ كحد الشرب وقطع الطريق والقتل بالردة، أو لآدمي؛ كالقصاص في النفس أو الطرف وإن عفي على مال؛ لأنه تعالى نص على الرجلين في الطلاق والرجعة والوصية، وصح في الخبر: ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل))، وروى مالك عن الزهري: مضت السنة أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح والطلاق. وقيس بالمذكورات غيرها مما يشاركها في الضابط المذكور. ويشترط لإثبات هلال صوم رمضان لأجل وجوب الصوم فقط: عدل واحد عدالته بانت

وظهرت؛ لما مر في بابه، وذكره هنا تتمة للتقسيم، وقد يشمل كلامه ما لو نذر صوم شهر معين، فشهد به عدل .. فيكفي، وهو قضية ما في ((المجموع)) من أن فيه الخلاف في رمضان، قال بعضهم: لكن المشهور المفهوم من قول غيره: (لهلال رمضان): خلافه. وخرج بقوله: (عدل بينا) مستور العدالة فلا تكفي شهادته، وهو أحد وجهين صحح في ((المجموع)) مقابلة كما مر. [ما يشترط للمال أو ما يؤول إليه] ويشترط رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ثم يمين المدعي للمال، أو ما يؤول إليه كالموضحة التي جهل تعيينها؛ بأن شهدوا بها وعجزوا عن تعيين محلها؛ فإنها لا توجب قصاصاً، وإنما تجب المال فقط. وما قيل: من أن التمثيل بالموضحة المذكورة .. معدود من مفردات ((الحاوي الصغير))، وإن صريح كلام الغزالي والرافعي وغيرهما في (الجنايات): أن البينة الناقصة لا تثبت الأرش في هذه الصور .. ممنوع، فقد صرح الشيخان بأن كل جناية موجبة للمال؛ كقتل الوالد ولده، والحر العبد .. تثبت بالحجة الناقصة. انتهى. أو حق مالي؛ كالخيار والأجل والشفعة، أو سبب للمال؛ كالإقالة والبيع، والضمان والحوالة والإجارة، والوصية بالمال والرد بعيب؛ لعموم قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا جلين فرجل وامرأتان}، مع خير مسلم: (أنه صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين)، والمعنى في تيسير ذلك: كثرة جهات المعاملات وعموم البلوى بها. وفهم من قوله: (رجل وامرأتان) أنه لا فرق بين أن تتقدم شهادة الرجل على المرأتين وبين أن تتأخر، ولا بين أن يقدر على رجلين ويبين أن لا، وأنه مخير فيما يثبت برجل وامرأتين بين إثباته بهم وبرجل ويمين، وهو كذلك. وفهم من قوله: (ثم اليمين) أنه يشترط أن يأتي بيمينه بعد شهادة الرجل بما يدعيه،

وتزكيته وتعديله، ويجب أن يذك فيحلفه صدق شاهده فيقول: (والله؛ إن شاهدي لصادق، وإني مستحق لكذا). قال الإمام: ولو قدم ذكر الحق وآخر تصديق الشاهد .. فلا بأس، وذكر صدق الشاهد؛ ليحصل الارتباط بين اليمين والشهادة المختلفتي الجنس. [ما يشترط لما يختص بمعرفته النساء] ويشترط رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة لما يختص بمعرفته النساء، أو لا يطلع عليه الرجال غالباً؛ كالرضاع من الثدي أو أن اللبن الذي شربه من هذه المرأة، والولادة، وعيب المرأة؛ كرتق وقرن وبرص ولو في وجهها وكفيها، والحيض والاستحاضة، والبكارة والثيوبة، واستهلال الولد، روى ابن أبي شيبة عن الزهري: (مضت السنة بأنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن؛ من ولادة النساء وعيوبهن)، وقيس بذلك غيره مما شاركه في الضابط المذكور. وإذا قبلت شهادتهن في ذلك منفردات .. فقبول الرجلين والرجل والمرأتين أولى. وعلم مما مر: أن ما لا يثبت برجل وامرأتين لا يثبت برجل ويمين، وأن ما ثبت بهم ثبت برجل ويمين، إلا عيوب النساء ونحوها، وأنه لا يثبت شيء بامرأتين ويمين. وقول الناظم: (بينا) حال من (عدل)، وقوله: (يؤل) بحذف الواو للوزن، وقوله: (جهل) مبني للمفعول أو للفاعل، وقوله: (المال) و (سبب للمال) مجروران عطفاً على قوله: (بتسامع)، وقوله (نساً) بالتنوين وحذف الهمزة للوزن. * * *

باب الدعوى

باب الدعوى هي لغة: الطلب، ومنه قوله تعالى: {ولهم ما يدعون}، وألفها للتأنيث، وشرعاً: إخبار عن وجوب حق للمخبر على غيره، والمدعي به قد يحتاج في إثباته إلى البينة؛ وهي الشهود، وسموا بها؛ لأن بهم تبيين الحق. والأصل في ذلك: أخبار؛ كخبر مسلم: ((لو يعطي الناس بدعواهم .. لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعي عليه))، وروى البيهقي بإسناد حسن: ((ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) والمعنى فيه: أن جانب المدعى ضعيف؛ لدعواه خلاف الأصل، فكلف الحجة القوية، جانب المنكر قوي؛ فاكتفى منه بالحجة الضعيفة. (إن تمت الدعوى بشيء علماً ... سأل قاض خصمه وحكما) (إن يعترف خصم، فإن يجحد وثم ... بينة بحق مدع حكم) (وحيث لا بينة فالمدعى ... عليه حلف حيث مدع دعا) (فإن أبى ردت على من أدعى ... وباليمين يستحق المدعى) (والمدعي عينا بها ينفرد ... إحداهما فهي لمن له اليد) (وحيث كانت معهما وشهدت .. بينتان حلفا وقسمت) (وحلف الحاكم من توجهت ... عليه دعوى في سوى حد ثبت) (لله والقاضي –ولو معزولاً- وشاهد والمنكر التوكيلا) (بتا كما أجاب دعوى حلفا ... ونفسي علم فعل غيره نفى) [شروط سماع الدعوى] أي: إن تمت الدعوى بشيء معلوم .. سأل القاضي خصمه؛ أي: المدعى عليه بالجواب، فيطالب العبد بالجواب فيما يقبل إقراره به؛ كقصاص وحد قذف، والسيد في

غيره؛ كأرش تعلق برقبته، والحرة أ, المجبر في دعوى النكاح، ولا يتوقف سؤاله على طلب المدعي. وتمامها؛ بأن يكون المدعي والمدعي عليه مكلفين ملتزمين للأحكام. وأن يذكر التلقي إن أقر بالمدعي به للمدعي عليه أو ملكه له، وألا يسبقها ما يناقضها، فلو ادعى على شخص شيئاً، ثم ادعى به على غيره .. لم تسمع. وكونها ملزمة، فلو قال: (غصب لي كذا) أو (باعني) .. لم تسمع حتى يقول: (ويلزمه التسليم إلى)، وفي الدين: (لي في ذمته كذا وهو ممتنع من الأداء الواجب عليه)، ولا تسمع الدعوى بالدين المؤجل، وهذا إذا قصد بالدعوى تحصيل المدعى به. فإن كان المقصود بها دفع المنازعة؛ بأن يكون المدعى به في يده وغيره ينازعه فيه، أو له بينة تشهد له بملكه ويخشى غيبتها وقت منازعته .. فلا يشترط التعرض لوجوب التسليم، فلو قال: (هذه الدار لي وهو يمنعنيها) .. صحت دعواه وسمعت بينته، وكذا لو قال: (كان له على كذا وقبضه وهو يطالبني به ظلماً). وألا تكون بحد لله تعالى، إلا أن تعلق بها حق لآدمي؛ كقذف .. فتسمع، ولو ادعى سرقة مال .. سمعت دعواه بالمال، وحلف المدعى عليه، فإن نكل .. حلف المدعي وثبت المال، ولا يقطع؛ لأن حدود الله تعالى لا تثبت باليمين. وقوله: (بشيء علما) أي: بأن ذكر في النقد جنسه ونوعه، وقدره وصفته إن اختلف بها الغرض، ومطلق الدرهم أو الدينار ينصرف إلى الشرعي، فلا حاجة إلى بيان وزنه، وفي العين التي تنضبط بالصفة؛ كالحبوب والحيوان والثبات صفات السلم. ولا يشترط ذكر القيمة ولو كانت متقومة، وكذا إن كانت تالفة وهي مثلية، فإن كانت متقومة .. اشترط ذكر القيمة، وفي العقار الناحية والبلدة، والمحلة والسكة والحدود، وهذا إذا ادعى بمعين، فإذا ادعى ليعين له القاضي .. صحت دعواه مع كون المدعى به مجهولاً؛ كالمفوضة تطلب الفرض، والزوجة تطلب النفقة والكسوة، والمطلقة تطلب المتعة، وكالغرة والحكومة والوصية بمجهول والإقرار به، ونحو ذلك من مسائل كثيرة. وفي النكاح تزويجها بولي وشاهدي عدل، ورضاها إن اعتبر، وفي نكاح الأمة العجز عن

طول الحرة، وخوف العنت، وفي دعوى الرضاع أنه ارتضع منها، أو معها في الحولين خمس رضعات متفرقات، ووصل اللبن إلى جوفه. [إذا اعترف الخصم بحقه بعد الدعوى] وبعد الدعوى إن يعترف الخصم بحقه .. حكم القاضي عليه، بطلب المدعي أن يحكم به، ويلزم القاضي المقر بالخروج من الحق الذي عليه، ويثبت الحق بالإقرار من غير قضاء القاضي، وإن جحد المدعي عليه؛ يعني: أنكر؛ كأن قال: (لا يستحق على شيئاً)، أو أصر على السكوت .. جعل كالمنكر الناكل عن اليمين، وللقاضي أن يقول للمدعي: (ألك بينة؟ ) وأن يسكت، فإن كان ثم –بفتح المثلثة؛ أي: هناك- بينة تشهد بحق المدعي .. حكم بها بطلب المدعي أن يحكم له بها؛ كأن يقول: (حكمت له بكذا)، أو (نفذت الحكم به) أو (ألزمت خصمه الحق)، ولا يجوز له الحكم قبل أن يسأل. ومن قامت عليه بينة بحق .. ليس له تحليف المدعي على استحقاقه؛ لأنه كطعن في الشهود. فإن ادعى أداءه، أو إبراءه منه، أو شراء عين من مدعيها، أو هبتها وإقباضها منه .. حلف خصمه على نفيه؛ وهو أنه ما تأدى منه الحق، ولا أبرأه منه، ولا باعه العين، ولا وهبه إياها؛ لاحتمال ما يدعيه، وكذا لو ادعى علمه بفسق شاهده أو كذبه؛ لأنه لو أقر بذلك .. بطلت الشهادة. فإن استمهل من قامت عليه البينة ليأتي بدافع .. أمهل ثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة، وحيث لا؛ أي: وإن لم يكن للمدعي بينة أصلاً، أو كانت وطلب المدعي يمينه .. حلف المدعى عليه إن دعي؛ أي: طلب المدعي يميه، فإن لم يطلبها .. لم يحلفه القاضي، فإن حلفه بدون طلبه .. لم يعتد بيمينه. فإن ادعى عليه عشرة، فقال: (لا تلزمني العشرة) .. لم يكف حتى يقول: (ولا بعضها)، وكذا يحلف؛ لأن مدعي العشرة مدعٍ لكل جزء منها، فاشترط مطابقة الإنكار واليمين دعواه، فإن حلف على نفي العشرة واقتصر عليه .. فناكل، فيحلف المدعي على استحقاق دون عشرة بجزء ويأخذه. وإذا ادعى مالاً مضافاً إلى سبب؛ كـ (أقرضتك كذا) .. كفاه في الجواب والحلف: (لا يستحق علي شيئاً).

واليمين يفيد قطع الخصومة في الحال؛ لا براءة، فلو أقام بعدها بينة بمدعاه .. عمل بها. وتعتبر نية القاضي المستحلف للخصم، فلو ورى أو تأول خلافها أو استثنى؛ بحيث لا يسمعه القاضي .. لأم يدفع ذلك إثم اليمين الفاجرة، وفي ذلك خبر مسلم: ((اليمين على نية المستحلف))، وهو محمول على القاضي. ولو حلف الإنسان ابتداء، أو حلفه غير القاضي من قاهر، أو خصم أو غيره .. فالاعتبار بنية الحالف، وتنفعه التورية. ولو حلفه القاضي بالطلاق أو العتاق .. نفعته التورية، لأنه ليس له التحليف بهما. ولو قال المدعى عليه حين طلب المدعي تحليفه: (قد حلفني مرة على ما ادعاه عند قاض، فليحلف أنه لم يحلفني عليه) .. مكن؛ لأن ما قاله محتمل غير مستبعد، فإن قال: (قد حلفني مرة عندك أيها القاضي)، فإن حفظ القاضي ما قاله .. لم يحلفه ومنع المدعى مما طلبه، وإن لم يحفظه .. حلفه، فإن أبى؛ أي: امتنع المدعى عليه من اليمين؛ كأن قال: (أنا ناكل)، أو قال له القاضي: احلف، فقال: (لا أحلف) .. ردت اليمين على المدعي فيحلف؛ لتحول الحلف إليه؛ فإذا حلف اليمين المردودة .. استحق ما ادعاه، وقضى له به، ولا يقضي له بنكوله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام رد اليمين على طالب الحق رواه الدارقطني والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. واليمين المردودة؛ كإقرار المدعي عليه لتنزل نكوله منزلة إقراره؛ لأنه به توصل إلى الحق. فلو أقام المدعي عليه بينة بعدها بأداء أو إبراء .. لم تسمع؛ لتكذيبه لها بإقراره، فإن لم يحلف المدعي، ولم يتعلل بشيء .. سقط حقه من اليمين، وليس له مطالبة الخصم في هذا المجلس ولا غيره، ويصير امتناعه كحلف المدعى عليه، وإلا .. لرفع خصمه كل يوم إلى القاضي، والخصم ناكل وهو لا يحلف اليمين المردودة، ويطول الخطب. وله أن يقيم البينة، وإن تعلل بإقامة بينة أو مراجعة حساب .. أمهل ثلاثة أيام، وإن استمهل المدعى عليه حين استحلف لينظر حسابه .. لم يمهل إلا برضا المدعي؛ لأنه مقهور بطلب الإقرار أو اليمين، بخلاف المدعي.

وإن ادعى اثنان عيناً ولا بينة لأحدهما، وانفرد أحدهما باليد عليها. فهي له مع يمينه، وعلى هذا: فالشخص تسمع دعواه بما في يده ويحلف عليه، وكذا لو كانت بيده وأقام غيره بها بينة، ثم أقام بها بينة .. قدمت بينة صاحب اليد وقضي له بها، لكن لا تسمع بينته إلا بعد بينة الخارج؛ لأنه وقت إقامتها. ولو أزيلت يده ببينة، ثم أقام بينة مسنداً إلى ما قيل إزالة يده، واعتذر بغيبة شهوده .. سمعت وقدمت؛ لأنها إنما أزيلت لعدم الحجة وقد ظهرت، فينقض القضاء، وحيث كانت معهما؛ أي: في يدهما، وأقام كل منهما بينة .. بقيت كما كانت؛ لتساقطهما، وحلف كل واحد منهما أنها ملكه دون غريمه .. قسمت العين بينهما نصفين، وكذا إذا كانت في يد ثالث وأقام كل منهما بينة بها .. تساقطتا وكأن لا بينة، وتقسم بينهما. ومتى أقاما بينتين متعارضتين .. رجحت إحداهما على الأخرى بأسباب: منها: اليد كما م. ومنها: إقرار صاحب اليد لأحدهما. ومنها: قوة البينة؛ فلو أقام أحدهما شاهدين، والآخر شاهداً وحلف معه .. رجح الشاهدان، إلا إذا كانت اليد مع الآخر .. فيرجح باليد. ومنها: زيادة العلم؛ فلو قال الخارج: (هو ملكي اشتريته منك) وأقام به بينة، وأقام الداخل بينة بأنه ملكه .. قدمت بينة الخارج. ومنها: زيادة التاريخ؛ فلو أقام أحدهما بينة بأنها ملكه من سنة وآخر بينة بأنها ملكه من سنتين .. قدمت بينته، وله الأجرة والزيادة الحادثة من يومئذ، إلا إن كان لصاحب متأخرة التاريخ يد .. فإنها تقدم. ولو أطلقت بينة، وأخت بينة أخرى .. فهما سواء، ولو شهدت بينة بإقرار المدعى عليه أمس بالملك للمدعي .. استديم الإقرار. وأن تصرح البينة بالملك في الحال، ولو أقامها بملك جارية أو شجرة .. لم يستحق ثمرة موجودة، ولا ولداً منفصلاً، ويستحق حملها. ولو اشترى شيئاً أخذ منه بحجة مطلقة .. رجع على بائعه بالثمن، ولو ادعى ملكاً مطلقاً، فشهدوا له مع سببه .. لم يضر.

[تحليف من توجهت عليه دعوى صحيحة وما يستثنى من ذلك] وحلَف الحاكم وجوباً كلَ من توجهت عليه دعوى صحيحة ـ كدعوى الضرب والشتم الموجبين للتعزيز ـ لو أقر بمطلوبها .. ألزم به؛ لخبر: «اليمين على المدعى عليه»، ويستثنى من طرد هذه القاعدة صور؛ ذكر الناظم بعضها: الأولى: حدود الله تعالى؛ كحد الزنا والشرب لا يجري فيها التحليف, فلا يخلف المدعى عليه, بل لا تسمع الدعوى بها عليه؛ لأنها ليست حقاً للمدعي, ومن له الحق لم يأذن في الطلب, بل أمر بالستر والإعراض ما أمكن. نعم؛ لو تعلق بالحد حق آدمي؛ كما إذا قذف إنساناً, فطلب المقذوف حد القذف, فقال القاذف: حلفوه أنه ما زنى .. حلف؛ كما مر في القذف. الثانية: أنه لا يحلف القاضي على تركه الظلم في حكمه وإن كانت الدعوى عليه بعد عزله لأن منصبه يأبى التحليف والابتذال. الثالثة: أنه لا يحلف الشاهد إذا ادعِيَ عليه أنه تعمد الكذب, أو ما يوجب سقوط شهادته وإن انتفع المدعي بإقراره لذلك؛ لأنه منصبه يأبى التحليف. الرابعة: أنه لا يحلف منكر وكالة من طالبه بحق على نفي علمه بها؛ لأنه لو أعترف بها .. لم يلزمه التسليم إليه؛ لأنه لا يأمن أن يجحدها المستحق؛ فلا معنى لتحليفه. ويستثنى أيضاً: كال لو قال المدعى عليه: (أنا صبي) وهو محتمل. . لم يحلف, وقف الأمر حتى يبلغ؛ لأن حلفه يثبت صباه, وصباه يبطل يمينه, ففي تحليفه إبطال تحليفه. وإذا حلف على فعل نفسه .. حلف بتّاً, أي: قطعاً في حالتي النفي والإثبات؛ لأنه يعرف حال نفسه ويطلع عليها؛ كما أجاب به في الدعوى. فإن ادعى عليه عشرة مثلاً, أو أنه أقرضه عشرة, أو أنه غضبها منه: فإن اقتصر على الجواب المطلق؛ كأن قال: (لا يستحق عليً شيئاً) أو (لا يلزمني تسليم ما ادعى به إليه) .. حلف كذلك, وإن تعرض فى الجواب للجهة؛ كأن قال: (ما أقترضتها منه) , أو (ما غضبتها منه) .. حلف كذلك.

فإن أراد أن يقتصر على النفي المطلق .. لم يمكن منه, وكذا إن حلف على فعل غيره في الإثبات؛ لأن الوقوف عليه سهل, وإن كان على نفيه .. حلف على نفي علمه به؛ لعسر الوقوف على النفي المطلق, ولهذا لا تجوز الشهادة به, ولو حلف على البت .. اعتد به؛ كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره, ويحمل على نفي العلم, ويجوز البت في الحلف بظن مؤكد؛ كأن اعتمد خطه, أو خط مورثه, ويحلف على البت في نفي جنابة رقيقه؛ لأنه ماله وفعله كفعله, وكذلك جنابة بهيمته؛ لأن ضمانها بتقصيره في حفظها لا بفعلها. والألف في قول الناظم: (عُلما) و (حكما) و (التوكيلا) و (حلفا) في البيت الأخير للإطلاق, وقوله: (حَلَّفْ) فعل أمر, وقوله (إحداهما) بمعنى أحدهما, وقوله: (والمنكرِ) بالجر عطفاً على (حد? ) , (ونفيَ علم) بالنصب. * * *

باب العتق

بابُ العِتق بمعنى الإعتاق؛ وهو إزالة الرق عن الآدامي. والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} , وقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي: الإسلام, {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أي: بالعتق, كما قال المفسرون, وأمر الله تعالى بتحرير الرقبة في كواضع من الكفارة, وفي "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم قال «أيما رجل أعتق امرأً مسلماً .. استنفذ الله بكل عضواً منه من النار حتى الفرج بالفرج»، وتظاهرت النصوص والإجماع على أنه قربه. وأركانه ثلاثة: معتق, وعتيق, وصيغة. (يِصح عِتْقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ مَلَكْ ... صَرِيحُهُ: عِتْقٌ وتَحرِيرٌ وَفَكْ) (رَقَبَةٍ, وَصَحّ بِالْكِنَايَهْ ... مَعْ نِيَّةٍ مِنْهُ كَـ (يَا مَوْلايَهْ)) (وَعِتْقُ جُزْءٍ مِن رَقِيقِهِ سَرَى ... أَوْ شِرْكَةٍ مَعْ غَيرِهِ إِذْ أيْسَرَا) (فَأعْتِقْ عَلَيْهِ مَا بَقِي بِقِيمَتِهْ ... فِي الْحَالِ, وَالمُعْسِرِ: قَدْرَ حِصَّتِهْ) (وَمَالِكُ الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ... يُعْتِقُ كَالمْيرَاثِ والْمَبِيعِ) (لِمُعْتِقٍ حَقُّ الْوَلاءَ وَجَبَا ... ثُمَّ لِمَنْ بِنَفْسِهِ تَعَصَّبَا) (وَلَو مَعَ اخْتِلافِ دِينٍ أَوجَبَهْ ... وَلا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلاَ الْهِبَهْ) [صريح العتق وكنايته] أي: يصح إعتاق كل مكلف مطلق التصرف ولو كافراً, مَلَكَ إعتاق ما أعتقه, فلا يصح إعتاق غير المكلف إلا السكران, ولا غير مطلق التصرف, ولا غير المالك بغير إذن, ولا إعتاق رقيق تعلق به حال الإعتاق حق لازم؛ كجناية ورهن ومالكُه معسر. ولا يصح الإعتاق إلا بلفظ صريح أو كناية, وصريحه: تحرير, وإعتاق, وفك رقبة, والمراد: الصبغ المشتملة على المشتقات من هذه الألفاظ: كـ (أنت عتيق) , أو (معتق) ,

أو (أعتقتك) , أو (حر) , أو (محرر) , أو (حررتك) , (يا حر) إذا لم يقصد مدحه بذلك, ولم يقصد نداءه باسمه القديم, أو (فكيك الرقبة) , أو (مفكوكها) , أو (فكيتها) , أو (فككتها) , فلو قال: (أنت إعتاق) , أو (تحرير) , أو (فك الرقبة) .. فهو كناية ولا أثر للخطأ في التذكير والتأنيث. ويصح بالكناية مع نية منه: كـ (مولايهْ) بهاء السكت, (لا ملك لي عليك) , (لا سلطان) , (لا خدمة) , (أنت سائبة) , و (يا حر) للمسمى به في الحال, وألفاظ الطلاق والظهار, ويستثنى قوله (أنا منك طالق) , أو (مظاهر) , أو (حر) , وقوله للعبد: (اعتد) , أو (استبرئ رحمك). ولو قال: (عتقك إليك) , أو (خيرتك) ونوى تفويض العتق إليه, فأعتق نفسه في الحال .. عتق, ولو قال: (أعتقتك على ألف) فقبل, أو (بعت نفسك بألف) فقبل, أو (أعتقني على ألف) فأجابه .. عتق في الحال ولزمه الألف, والولاء لسيده. ولو أعتق حاملاً .. عتق حملها معها إن كان له وإن استثناه, ولو أعتقه وقد نفخ فيه الروح عتق دونها، وإلا .. لغا, ولو قال: (مضغة هذه حر) فهو إقرار بأن الولد أنعقد حراً وتصير به أم ولد إن أقر بوطئها. [سرية العتق في مسألتين] قوله: (وعتق جزء) أي: وعتق الجزء يسري في مسألتين: الأولى إذا أعتق المالك جزءاً من رقيقه [شائعاً كنصف, أو معيناً كيد .. عتق ذلك الجزء] ثم سرى العتق إلى الباقي موسراً لقوته كما في الطلاق. الثانية: إذا أعتق نصيبه من رقيق .. سرى العتق إلى باقية في الحال إن أيسر بقيمته حينئذ, وإن أيسر بقيمة بعضه .. سرى إليه كذلك, والمعسر يعتق عليه قدر حصته؛ لخبر "الصحيحين": «من أعتق شركاً له في عبد, وكان له مال يبلغ ثم العبد .. قوم العبد عليه قيمة عدل, فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد, وإلا .. فقد عتق منه ما عتق» وفي

رواية: «من أعتق شركاً له في عبد, وكان له مال يبلغ قيمه العبد .. فهو عتيق» ,وفى رواية: «إذا كان العبد بين اثنين, فأعتق أحدهما نصيبه وكان له مال .. فقد عتق كله». وأمَّا رواية: «فإن لم يكن له مال .. قوم العبد عليه قيمه عدل, ثم استسعى لصاحبه في قيمته غير مشقوق عليه» .. فمدرجة فى الخبر كما قاله الحفاظ. ويقاس الموسر ببعض الباقي على الموسر بكله في السراية، والقول فى قدر القيمة قول المعتق, ولا فرق في السراية بين كون المعتق مسلماً وكونه كافراً, واستيلاد أحد الشريكين الموسر يسري كالعتق, وعليه قيمة حصة شريكه وقسطها من مهر المثل, ولا قيمتها من الولد فإن كان معسراً .. لم يسر, ولا يسري تدبير, ولا يمنع السراية دين مستغرق. ولو قال شريكه الموسر: (أعتقت نصيبك فعليك قيمة نصيبي) .. صدق بيمينه, فإن نكل .. حلف المدعي واستحق القيمة, ولا يعتق نصيب المدعى عليه بهذه اليمين؛ لأن الدعوى إنما توجهت عليه لأجل القيمة, واليمين المردودة لا تُثْبِت إلا ما توجهت الدعوى به مؤاخذة له بإقراره, ويعتق نصيب المدعي بإقراره, ولا يسري إلى نصيب المنكر. ولو قال لشريكه: (إن أعتقت نصيبك فنصيبي حر بعد نصيبك) , فأعتق وهو موسر .. سرى إلى نصيب المعلًّق وعليه قيمته فإن كان معسراً .. لم يسر وعتق على المعلق نصيبه, وقيمة السراية موزعة على عدد الرؤوس, وشرط السراية: إعتاقه باختياره, فلو ورث بعضَ بعضَه .. لم يسر عتقه إلى باقيه, وألَّا تكون مستولدة لمعسر, والمريض معسر إلا في ثلث ماله, والميت معسر. قوله: (ومالك الأصول والفروع يعتق) أي: ومن ملك أحد أصوله من أب أو جد , أو أم أو جدة وإن علوا, أو أحد فروعه من ولد أو ولد ولد أو سلفوا .. عتق عليه بمجرد الملك؛ لخبر مسلم «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه» أي: بالشراء, وقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} دلَّ على نفي اجتماع الولدية والعبدية, وسواء الملك الاختياري بالشراء ونحوه, والقهري بالإرث.

وخرج بـ (الأصول والفروع) غيرهم من الأقارب؛ كالإخوة فلا يعتق أحد منهم عليه, ولا يشتري لطفل أو نحوه بعضه, ولو وهب له, أو أوصي له به: فإن كان كاسباً .. فعليه الولي قبوله ويعتق عليه, وينفق من كسبه, وإلا .. فإن لم تلزمه نفقته .. وجب على الولي القبول, ونفقته في بيت المال, وإن لزمته .. حرم القبول, ولو ملك في مرض موته بعضه بلا عوض عتق من رأس المال. [ثبوت حق الولاء للمعتق] ويثبت للمعتق حق الولاء على عتيقه وإن أعتقه بعوض, أو عتق عليه؛ لخبر "الصحيحين": «أنما الولاء لمن أعتق» فيرثه إن لم يكن له وارث من النسب, أو لم يستغرق, فيرث الفاضل, ثم الولاء لعصبة المعتق بنفسه الأقرب فالأقرب؛ لخبر: «الولاء لحمة كلحمة النسب» رواه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم, وقال: صحيح الإسناد, فلا ترث امرأة بولاء إلا من عتيقها وأولادها وعتقائه. ويثبت الولاء للمعتق ولو مع اختلاف الدين وإن لم يتوارثا, ولعصابته في حياته, ولا يصح بيع الولاء ولا هبته؛ لأنه معنى يورث به فلا ينتقل بالبيع والهبة كالقرابة. والألف في قول الناظم: (أيسرا) و (وجبا) و (تعصبا) للإطلاق, وقوله: (فأعتق) فعل أمر حذف همزته للوزن, وقوله: (بقي) بسكون الياء وصله بنية الوقف. * * * *

باب التدبير

بابُ التدبير هو لغةً: النظر في عواقب الأمور, وشرعاً: تعليق عتق بالموت. والأصل فيه قبل الإجماع: خبر "الصحيحين": «أن رجلاً دبَّر غلاماً ليس له مال غيره, فباعه النبي صلى الله عليه وسلم» فتقريره له وعدم إنكاره له: يدل على جوازه. وأركانه ثلاثة: محل, وصيغة, وأهل. الأول: المحل؛ وهو الرقيق غير المستولدة ولو مكاتباً, أو معلقاً بصفة. الثاني: الصبغة وستأتي. الثالث: الأهل؛ فلا يصح تدبير غير المكلف إلا السكران, وتدبير المرتد موقوف؛ إن أسلم .. صح, وإلا .. فلا. (كَقَوْلِهِ لِعَبْدِهِ: (دَبَّرْتُكَا) ... أَوْ (أَنْتَ حُرٌّ بعدَ مَوتِي) ذَلِكَا) يَعْتِقُ بَعدَهُ مِن الثُّلْثِ لِمَالْ ... وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ حَيثُ المِلْكُ زالْ أي: التدبير؛ كقول الشخص لعبده أو أمته: (دبرتك) ,أو (أنت مدبر) ,أو (أنت حر بعد موتي) , أو (أعتقتك بعد موتي). وينعقد بالكناية مع النية؛ كـ (خليت سبيلك بعد موتي) , ومضافاً إلى جزء كـ (دبرت ربعك) , ولا يسرى كما مر, ومقيداً؛ كـ (إن مت في ذا الشهر أو المرض .. فأنت حر) , فإن مات على الصفة المذكورة .. عتق وإلا .. فلا, أو (إن قرأت القرآن .. فأنت حر بعد موتي) فقرأه جميعاً .. صار مدبراً, أو بعضه .. فلا, ومعلقاً؛ كـ (إن دخلت الدار .. فأنت حر بعد موتي) فيعتق بعد موته إن دخلها قبله, فإن قال: (إن مت ثم دخلت .. اشترط دخوله بعد الموت) وهو على التراخي, وليس للوارث بيعه قبل الدخول.

ولو قال: (إذا مت ومضى شهر .. فأنت حر) .. فللوارث استخدامه في الشهر لا بيعه. ولو قال: (إن شئت .. فأنت مدبر) , أو (أنت حر بعد موتي إن شئت) .. اشترطت المشيئة على الفور، فإن قال: (متى شئت) .. فللتراخي ويشترط المشيئة في الصورتين قبل موت السيد. ويعتق المدبر بعد موت سيده من ثلث ماله بعد الدين كالوصية, فيعتق كله إن خرج من الثلث, وإلا .. عتق منه بقدره, وسواء في اعتباره من الثلث وقع في الصحة أو في المرض. ولو علق عتقاً على صفة تختص بالمرض؛ كـ (إن دخلت الدار في مرض موتي .. فأنت حر) .. عتق من الثلث، وإن احتملت الصحة والمرض فوجدت في المرض .. عتق من رأس المال إن لم توجد باختيار السيد، وإلا .. فمن الثلث. وللسيد إزالة ملكه عن المدبر ببيع أو نحوه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم باع مدبر رجل من الأنصار رواه الشيخان، ولأنه تعليق عتق بصفة لا وصية للعبد بعتقه, فلو زال ملكه عنه .. بطل التدبير, ولو عاد ملكه إليه .. لم بعد التدبير، ولا يصح رجوعه عنه بالقول. ولو علق بصفة .. صح وعتق بالأسبق, ففي سبق الموت العتق بالتدبير. وله وطء مدبرته ولا يكون رجوعاً عن التدبير، فإن أولدها .. بطل تدبيره، ويتبع المدبرةَ حملُها الحاصل عند التدبير, أو موت السيد. ولو ادعى رقيقه التدبير فأنكر .. فليس برجوع, بل يحلف أنه ما دبره. ولو وجد مع مدبر مال فقال: كسبته بعد موت السيد, وقال الوارث: قبله .. صدق المدبر بيمينه؛ لأن اليد له, وتقدم بينته. والألف فى قول الناظم: (دبرتكا) و (ذلكا) للإطلاق. * ... * *

باب الكتابة

بابُ الكِتابة بكسر الكاف, وقيل: بفتحها كالعتاقة, وهى لغة: الضم والجمع, وشرعاً: عقد عتق بلفظها بعوض منجم بنجمين فأكثر, وهي خارجة عن قواعد المعاملات؛ لدورانها بين السيد ورقيقه؛ ولأنها بيع ماله بماله. والأصل فيها قبل الإجماع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، وخبر: «من أعان غارما أو غازيا, أو مكاتباً في فك رقبته .. أظله الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله» , وخبر: «المكاتب عبد ما بقى عليه درهم)» رواهما الحاكم وصحح إسنادهم. وأركانها أربعة: سيد, ومكاتب, وعوض, وصيغة. (إِذا كَسُوبٌ ذُو أَمَانَةٍ طَلَبْ ... مِنْ غيرِ مَحْجُورٍ عليهِ تُستَحَب) (وَشَرْطُهَا: مَعْلُومُ مَالٍ وَأَجَلْ ... نَجْمَانِ أو أكثَرُ مِنْهَا لا أَقَلْ) (وَالفَسْخُ لِلعْبدِ مَتَى شاءَ انْفَصَلْ ... لاَ سَيِّدٍ إِلاَّ إذا عَجْزٌ حَصَلْ) (أَجِزْ لَهُ تَصَرُّفَاً كَالحُرِّ لاَ ... تَبَرُّعاً وخَطَرَاً إذ فَعَلاَ) (وَحَطُّ شيءٍ لازِمٌ للمَوْلَى ... عَنهُ, وَفِي النَّجْمِ الأَخِيرِ أَوْلَى) (وَهْوَ رقيقٌ مَا بَقِي عَلَيْهِ ... شَيءٌ إِلَى أَدَائِهِ إليهِ) [استحباب الكتابة إذا طلبها الرقيق] أي تستحب الكتابة إذا طلبها رقيق كسوب أمين, وبهما فسر الشافعي رضي الله تعالى عنه (الخير) فى الآية, واعتبرت الأمانة؛ لئلا يضيع ما يحصله فلا يعتق, والقدرة على الكسب؛ ليوثق بتحصيل النجوم, وإنما لم تجب حينئذ؛ قياساً على التدبير وشراء القريب,

ولئلا يبطل أثر الملك, وتحتكم المماليك على المالكين, ولا تكره بحال؛ لأنها عند فقد الوصفين قد تفضي إلى العتق. نعم؛ إن كان الرقيق فاسقاً بسرقة أو نحوها, وعلم سيده أنه لو كاتبه مع العجز عن الكسب لاكتسب بطريقة الفسق .. قال الأذرعي: فلا يبعد تحريمها؛ لتضمنها التمكين من الفساد. ولا تصح كتابة مرهون ومُكرىً. [شرط السيد وعوض الكتابة] وشرط السيد: أهلية التبرع, فلا تصح من صبي ومجنون ومحجور عليه بسفه وأوليائهم, ومكره. وشرط العوض: كونه معلوماً مؤجلاً بأجل معلوم ولو كان المكاتب مبعضاً؛ إتباعا للسلف, ولأن الرقيق لا قدرة له في الحال, بنجمين ولو قصيرين في مال كثير أو أكثر؛ إتباعاً للسلف والخلف, ولو كفى نجم .. لفعلوه مبادة إلى القربات, ولأن الكتابة عقد إرفاق, ومن تتمة الإرفاق التنجيم. ولا بأس بكون المنفعة ولو في الذمة حالة؛ لقدرته على الشروع فيها، ومن التنجيم بنجمين في المنفعة أن يكاتبه على بناء دارين موصوفتين في وقتين معلومين, وشرط المنفعة التي يمكن الشروع فيها في الحال كالخدمة: اتصالها بالعقد، ولا بد فيها من ضميمة, كخدمة شهر الآن, ودينار بعد يوم منه, بخلاف ما لو اقتصر على خدمة شهرين وصرح بأن كل شهر نجم. وتصح كتابة من باقيه حر, ولو كاتبه كله .. صح في الرق وبطل في غيره, ولو كاتب بعض رقيق .. فسدت مطلقاً؛ لأنه عقد معاوضة فاشترط فيه معرفة العوض كالبيع, ولو ترك لفظ التعليق ونواه .. كفى, ويقول المكاتب: (قبلت) [فسخ الكتابة] قوله: (والفسخ) أي: إن الكتابة جائزة من جهة المكاتب؛ لأن الحظ له فيها, فأشبه المرتهن، فله فسخها متى شاء, فينفصل منها وله ترك الأداء وغن كان معه وفاء, فلا يجبر على الأداء, ولازمة من جهة السيد فليس له فسخها كالراهن؛ لأنها حق عليه, إلا إذا حصل من

المكاتب عجز عن أداء النجم أو بعضه عند محله .. فللسيد فسخها إن شاء بنفسه؛ كالبائع عند إفلاس المشترى بالثمن، وإن شاء بالحاكم، وليس على الفور، وكعجزه امتناعه من الأداء مع القدرة عليه، وحلول النجم وهو غائب، أو غيبته بعد حلوله بغير إذن السيد. ولو استمهل عند الحلول .. سن إمهاله، وأن كان معه عروض .. لزمه إمهاله لبيعها؛ لأنها مدة قريبة، فأن عرض كساد .. فله ألا يزيد على ثلاثة أيام؛ للضرر الناجز في حقه، كما لو استمهله لإقامة البينة على أداء المال، وإن كان ماله غائباً .. أمهله إلى إحضاره إن كان دون مرحلتين، وإلا .. لم يجب. ولو غاب وله مال حاضر .. فليس للقاضي الأداء منه، ويمكن السد من الفسخ؛ لأنه ربما عجز نفسه لو كان حاضراً. ولا تنفسخ بجنون المكاتب، ويؤدي القاضي عنه إن وجد له مالاً، ورأى له مصلحة في الحرية، وإن لم يجد له مالاً .. مكن السيد من الفسخ، فإذا فسخ ثم أفاق وظهر له مال .. دفعه إلى السيد وحكم بعتقه، ونقض التعجيز. ولا تنفسخ بجنون السيد، فإن دفع المال إلى وليه .. عتق، أو إلى سيده .. لم يعتق، فإن تلف في يده .. لم يضمن، ولوليه تعجيزه، ولا بإغماء السيد والحجز عليه بسفه، ولا بإغماء المكاتب. [تصرف المكاتب] قوله: (أجز له تصرفاً كالحر) أي: يجوز للمكاتب أن يتصرف كالحر في معظم التصرفات، فيبيع ويشترى، ويؤجر ويستأجر، ويأخذ بالشفعة، ويقبل الهبة والصدقة والوصية، ويصطاد ويحتطب، ولو أجر نفسه أو ماله مدة فعجزه السيد فيها .. انفسخ العقد، ولا يصح منه تصرف فيه تبرع أو خطر إلا بإذن سيده؛ كهبته وقراضه، وإقراضه، وتصدقه وتبسطه في الملابس والمآكل، وإنفاقه على الأقارب، وشرائه بالمحاباة، وتسليمه الثمن قبل قبض المبيع، واتهاب من يعتق عليه إن عجز عن الكسب، وإلا .. استحب قبوله ويكاتب عليه، وليس له الإعتاق والتسري ولو بإذن سيده. [لزوم حط شيء من نجوم الكتابة] قوله: (وحط شيء لازم للمولى) أي: وحط شيء من نجوم الكتابة عن المكاتب لازم لسيده، ويقوم مقامه دفعه إليه بعد قبضه، وغيره من جنسه؛ لقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله

الذي آتاكم} فسر الإيتاء بما ذكر؛ لأن القصد منه الإعانة على العتق، والحط أولى من الدفع؛ لأنه المنقول عن أكثر الصحابة رضى الله تعالى عنهم، ولأن ما يدفعه إليه قد ينفقه في جهة أخرى، وفي النجم الأخير أولى؛ لأنه أقرب إلى العتق، ويكفى ما يقع عليه الاسم، ولا يختلف بكثرة المال وقلته، فإن اختلفا فيه .. قدره الحاكم باجتهاده. ووقت ووجوبه: قبل العتق، ويجوز من حين الكتابة، وبعد الأداء والعتق قضاء، ويستحب الربع، وإلا .. فالسبع. [المكاتب رقيق ما بقي عليه شيء] وهو- أي: المكاتب- رقيق ما بقي عليه شيء من مال الكتابة وإن قل، حتى يؤديه إلى السيد؛ لخبر: "المكاتب قن ما بقي عليه درهم" رواه أبو داوود والنسائي وابن حبان في "صحيحه"، وقال في "الروضة": إنه حديث حسن. وخرج بقوله: (ما بقي عليه شيء إلى أدائه إليه): إبراؤه منه، فإنه يعتق به كما يعتق بالأداء. ولو أتى المكاتب بمال فقال السيد: (هو حرام) .. صدق المكاتب، ويقال لسيده: (خذه أو أبرئه عن قدره)، فإن أبى .. قبضه القاضي، فإن كان قدر النجوم .. عتق، فإن نكل .. حلف السيد لغرض امتناعه من الحرام، وتسمع بينته. ولو خرج المؤدى مستحقاً .. رجع السيد ببدله وهو مستحقه، فإن كان في النجم الأخير .. بان أن لا عتق وإن قال عند أخذه: (أنت حر) لأنه بناه على ظاهر الحال من صحة الأداء وقد بان عدمها، أو معيباً .. رده وأخذ بدله، وله أن يرضى به. [المكاتبة الباطلة والفاسدة] وهذه الأحكام المتقدمة في الكتابة الصحيحة، وغيرها تنقسم إلى باطلة، وفاسدة. فأما الباطلة: وهي ما اختل بعض معتبراتها؛ كأن كان السيد صبياً أو مجنوناً أو مكرهاً، أو الرقيق كذلك، أو كاتب الولي رقيق موليه، أو كان عوضها غير مقصود؛ كالدم والحشرات، أو لم يجر فيها ذكر عوض .. فهي لاغية.

وأما الفاسدة: وهي ما اختلت صحتها لعوض محرم مقصود، أو شرط فاسد؛ كشرط أن يبيعه كذا، أو أجل فاسد .. فهي كالصحيحة في أمور؛ منها: استقلاله بالكسب، وأخذ أرش الجناية عليه، ومهر شبهة في الأمة، وعتقه بالأداء، وتبعية كسبه له، وكالتعليق في أمور منها: أنه لا يعتق بإبراء، ولا بأداء الغير عنه تبرعاً، وتبطل بموت سيده قبل الأداء، وتصح الوصية برقبته، ولا يصرف له سهم المكاتبين. وتخالفهما في أمور؛ منها: أن للسيد فسخها بنفسه أو بالحاكم، وأنه لا يملك ما يأخذه بل يرجع المكاتب به إن كان متقوماً بخلاف غيره؛ كالخمر فلا يرجع فيه بشيء، فإن تلف .. رجع عليه بمثله أو قيمته، ويرجع عليه السيد بقيمته يوم عتقه، فإن كانا من جنس واحد من نقد البلد .. تقاصا، فيسقط أحد الدينين المتساويين بالآخر بلا رضا، ويرجع صاحب الفضل به. وتبطل الفاسدة بجنون السيد وإغمائه والحجر عليه بسفه، لا بجنون الرقيق وإغمائه. وقول الناظم: (منها) بإفراد الضمير من إطلاق الجمع على اثنين كما هو أحد الرأيين؛ إذ هو راجع إلى قوله: (نجمان)، والألف في قوله: (فعلا) للإطلاق، وقوله: (بقي) بسكون الياء وصله بنية الوقف.

باب الإيلاد

باب الإيلاد وفي نسخة: (عتق أم الولد) (لأمة له تكون ملكا ... أو بعضها يوجب عتق تلكا) (بمؤته، ونسلها بها التحق ... من غيره من بعد الإيلاد عتق) (من رأس مال قبل دين، واكتفي ... بوضع ما فيه تصور خفي) (جاز الكرا، وخدمة، جماع ... لا هبة، والرهن، وابتياع) (ومولد بالاختيار جارية ... لغيره منكوحة أو زانية) (فالنسل قن مالك، والفرع حر ... من وطؤه بشبهة أو حيث غر) (أو بشراء فاسد، فإن ملك ... ذي بعد لم تعتق عليه إن هلك) (لكن عليه قيمة الحر ثبت ... بحمد ربى "زبد الفقه" انتهت) فيها ثلاث مسائل: [ما يترتب على إيلاد الرجل أمته] الأولى: إذا أولد الرجل أمة يملكها، أو يملك بعضها بوطء مباح، أو حرام بسبب نسب، أو رضاع أو مصاهرة، أو حيض أو إحرام، أو نكاح أو نحوها، أو باستدخال ذكره أو منيه المحترم .. انعقد الولد حراً، وعتقت بموته، الأصل في ذلك: أخبار؛ منها: قوله عليه الصلاة والسلام في مارية أم ولده: "أعتقها ولدها" أي: أثبت لها حق الحرية، رواه ابن ماجه وغيره، وصححه الحاكم وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما أمة ولدت من سيدها .. فهي حرة عن دبر منه" رواه ابن ماجه وغيره، وصحح الحاكم إسناده، وخبر: "أمهات الأولاد لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن، يستمتع منها سيدها ما دام حياً، فإذا مات ..

فهي حرة" رواه الدارقطني والبيهقي، وصححا وقفه على عمر رضى الله تعالى عنه، وصحح ابن القطان رفعه وحسنه وقال: رواته كلهم ثقات. واستشهد البيهقي بقول عائشة رضى الله تعالى عنها: (لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً، ولا عبداً ولا أمة) وكانت مارية من جملة المخلف عنه، فدل على أنها عتقت بموته. وسبب عتق أم الولد انعقاده حراً؛ للإجماع، ولخبر "الصحيحين": أن من أشراط الساعة: "أن تلد الأمة ربتها"، وفي رواية: "ربها" أي: سيدها، وولد المشتركة ينعقد حراً، ويسري الاستيلاد إلى حصة شريكه منها إن أيسر بقيمتها، وعتقت بموته، وإلا ... عتق نصيبه، وكأمته أمة فرعه التي لم يستولدها، وأمة مكاتبه، ومحل ما ذكره: إذا لم يزاحم حق الغير، وإلا ... فلا ينفذ الإيلاد؛ كإيلاد المعسر المرهونة. ونسلها؛ أي: أولاد أم الولد بعد إيلادها من غير السيد من زوج، أو زنا، حكمهم كحكمها: يلتحقون بها في حكم الحرية، فيعتقون بموت السيد وإن ماتت في حياته؛ لأن الولد يتبع أمه في الرق والحرية، وكذا في سبيها. وخرج بقوله: (من بعد الإيلاد): أولادها قبل الإيلاد من زوج أو زنا، فإنهم لا يعتقون بموت السيد، وله بيعهم؛ لحدوثهم قبل ثبوت حق الحرية للأم، وشمل (موته): ما لو قتلته أو ولده. وعتق المستولدة وأولادها من رأس مال السيد مقدماً على دينه؛ لأن إيلادها بمنزلة استهلاكها. وكما يثبت الإيلاد بانفصال الولد حياً أو ميتاً .. يثبت حكمه، ويكتفى بوضع المضغة التي ظهر فيها تصور خفي من خلقة الآدميين ولو لأهل الخبرة؛ لما روى البيهقي عن عمر رضى الله تعالى عنه: أنه قال في أم الولد: (أعتقها ولدها وإن كان سقطاً).

وخرج بقوله: (تصور خفي): ما لو قالوا: إنه أصل آدمي، ولو بقي .. لتصور، فلا يثبت به الإيلاد، ولا تجب به غرة؛ لأنه لا يسمى ولداً. [كراء المستولدة ووطؤها] الثانية: جاز للسيد كراء المستولدة واستخدامها، وكذا وطؤها إذا لم يمنع منه مانع، وله أرش جناية عليها وعلى أولادها التابعين لها، وقيمتهم إن قتلوا؛ لبقاء ملكه لهم، وله تزويجها بغير إذنها، ولا يجوز له هبتها ولا رهنها ولا بيعها؛ أي: أو نحوه مما يؤول إلى نقل ملكها إلى غيره؛ لما مر، ولأن الهبة والبيع نقل الملك إلى الغير، والرهن تسلط عليه، وكما تحرم هذه الأمور .. تبطل. نعم؛ يصح بيعها من نفسها؛ لأنه عقد عتاقة في الحقيقة. [حكم من أولد جارية غيره] الثالثة: من أولد باختياره غير مكره جارية غيره بنكاح لا غرور فيه، أو زناً .. فولده رقيق لمالكها بالإجماع، وولده حر من وطئه أمة غيره بشبهة؛ كأن ظنها أمته، أو زوجته الحرة، أو بنكاح غر بحريتها فيه، أو بشراء فاسد ظن صحته؛ عملاً بظنه. وقوله: (بالاختيار) بيان لكون الوطء زنا، لا لكون ولد المكره ينعقد حراً، ولو ظن بالشبهة أنها زوجته الأمة .. فالولد رقيق، فإن ملك المولد أمة الغير بعد أن أولدها .. لم تعتق بموته، أما في الحال الأول والثالث .. فلانتفاء علوقها بحر، وأما في الثاني .. فلانتفاء ملكه لها حين علوقها بالحر، وعلى المولد قيمة ولده الحر يوم انفصاله لسيد أمه؛ لتفويته رقه بظنه. والألف في قول الناظم: (تلكا) للإطلاق، وقوله: (الإيلاد) بنقل حركة الهمزة إلى اللام قبلها. ثم إن الناظم حمد الله تعالى على انتهاء "زبد الفقه"، وقد مر معنى الحمد لغة وعرفاً، ولما كانت هذه المنظومة مسماة بـ"الصفوة" التي اشتق منها علم التصوف .. ناسب ألا تخلو عن قطعة منه؛ ليوافق الاسم المسمى، وكان الختم به أولى؛ لتكون خاتمة الفقيه تطهير قلبه، وتصفية سريرته؛ ليلقى الله الكريم بقلب سليم، ولهذا ختمها الناظم به فقال:

خاتمة [في علم التصوف] وفي بعض النسخ: (في علم التصوف المصفي للقلوب) وهو كما قال الغزالي: تجريد القلب لله سبحانه وتعالى، واحتقار ما سواه، قال: وحاصله يرجع إلى عمل القلب والجوارح. (من نفسه شريفة أبيه ... يربأ عن أموره الدنيه) (ولم يزل يجتح للمعالي ... يسهر في طلابها الليالي) (ومن يكون عارفاً بربه ... تصور ابتعاده من قربه) (فخاف وارتجى وكان صاغيا ... لما يكون آمراً وناهيا) (فكل ما أمره يرتكب ... وما نهى عن فعله يجتنب) (فصار محبوباً لخالق البشر ... له به سمع وبطش وبصر) (وكان لله ولياً، إن طلب ... أعطاه، ثم زاده مما أحب) [تعاطى معالي الأمور واجتناب دنيها] أي: من نفسه شريفة أبية؛ أي: تأبى إلا العلو الأخروي .. يربأ بالهمز؛ أي: يرتفع عن أموره الدنية من الأخلاق المذمومة؛ كالكبر والغضب، والحقد والحسد، وسوء الخلق وقلة الاحتمال، ولم يزل يجنح بفتح النون وضمها؛ أي: يميل للمعالي من أموره من الأخلاق المحمودة؛ كالتواضع والصبر، وسلامة الباطن والزهد، وحسن الخلق وكثرة الاحتمال، ويسهر الليالي في طلبها؛ كما يقال: ومن طلب العلا سهر الليالي. وحاصله: أنه يتعاطى معالي الأمور في الظاهر والباطن، ويتجنب رديئها، والدنيا التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة .. ما سقى

منها كافراً شربة ماء"، وقال: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالم أو متعلم"، ولو لم يكن في محبة الدنيا من المفسدة إلا الاشتغال بها عن الله تعالى. وقد قال بعضهم لولده: يا بنى؛ لا تغبطن أهل الدنيا عن دنياهم، فوالله؛ ما نالوها رخيصة، ووالله؛ ما نالوها حتى فقدوا الله تعالى. وما ذكره الناظم هو عالي الهمة، وسيأتي دنيها، وهذا مأخوذ من حديث: "إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها" أي: دنيها رواه البيهقي في "شعب الإيمان"، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، فالمعالي والسفساف: كلمتان جامعتان لأسباب السعادة والشقاوة. [آثار معرفة الله سبحانه وتعالى] ومن يكون عارفاً بربه بما يعرف به من صفاته .. تصور ابتعاده لعبده بإضلاله، وإرادة الشر به من قربه له بهدايته وتوفيقه .. فخاف عقابه، ورجا ثوابه، وكان عبداً صاغياً لما يكون آمراً به وناهياً عنه، فكل ما أمره به .. يرتكبه، وكل ما نهي عن فعله .. يجتنبه، فصار محبوباً لخالق البشر، والمخلوقات بأسرها. له بربه سمع وبطش وبصر، فترتب على محبة الله تعالى له صيانة جوارحه وحواسه، فلا يسمع إلا الله، ولا يبصر إلا له، ولا يبطش إلا لأجله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله .. فقد استكمل الإيمان"، وكما كانت حاله صلى الله عليه وسلم: أنه ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله. وكان لله ولياً، إن طلب منه .. أعطاه، وإن استعاذ به .. أعاذه، ثم زاده مما أحب. قال بعضهم: العارف عند أهل التصوف: من عرف الحق تعالى بأسمائه وصفاته، ثم صدق الله تعالى في جميع معاملاته، ثم تنقى عن أخلاقه المذمومة وآفاته، ثم طال بالباب

وقوفه، ودام بالقلب عكوفه، فحظي من الله تعالى بجميع آماله، وصدق الله تعالى في جميع أحواله، وانقطعت عنه هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره. وقال ابن عبد السلام في "قواعده" في إصلاح القلوب؛ التي تصلح الأجساد بصلاحها، وتفسد بفسادها: تطهيرها من كل ما يباعد عن الله، وتحليها بكل ما يقرب إلى الله ويزلف لديه، من الأحوال والأقوال والأعمال، وحسن المآل، ولزوم الإقبال عليه، والإصغاء إليه، والمثول بين يديه كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال، على حسب الإمكان من غير أداء إلي السآمة والملال. قال: ومعرفة ذلك هي الملقبة بعلم الحقيقة، وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال والعزوم والنيات، وغير ذلك. انتهى. قال بعضهم: علامة محبة الله تعالى: بغض المرء نفسه؛ لأنها مانعة له من المحبوب، فإذا وافقته نفسه في المحبة .. أحبها، لا لأنها نفسه، بل لأنها تحب محبوبه. وما ذكره الناظم .. مأخوذ من حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: "من آذى لي ولياً .. فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته .. كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني .. أعطيته، وإن استعاذ بي .. لأعيذنه"، زاد ابن أبي الدنيا: "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به". والمراد: أن الله تعالى يتولى محبوبه في جميع أحواله، فحركاته وسكناته به تعالى؛ كما أن أبوي الطفل لمحبتهما له التي أسكنها الله في قلوبهما .. يتوليان جميع أحواله، فلا يأكل إلا بيد أحدهما، ولا يمشى إلا برجله ... إلى غير ذلك، ففنيت صفاته، وقامت صفات الأبوين مقامها؛ لشدة اعتنائهما بحفظه. وفي الحديث: "اللهم؛ كلاءة ككلاءة الوليد"، فكذلك حال الولي مع الرب سبحانه وتعالى، واتخاذ الله ولياً يحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل؛ أي: ولي أمر الله تعالى، أو

قال بعضهم: إذا أراد الله أن يوالي عبده .. فتح عليه باب ذكره، فإذا استلذ الذكر .. فتح عليه باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب، وأدخله دار القرب، وكشف له الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة .. خرج من حبسه ودعاوى نفسه، ويحصل حينئذ في مقام العلم بالله فلا يتعلم بالخلق، بل بتعليم الله تعالى وتجليه لقلبه، فيسمع ما لا يسمع، ويفهم ما لا يفهم. (وقاصر الهمة لا يبالي ... يجهل فوق الجهل كالجهال) [قاصر الهمة جاهل لا يبالي بمعالي الأمور] أي: وقاصر الهمة دنيها؛ بأن جنح إلى سفساف الأمور، وعدل عن معاليها، فلا يرفع نفسه بالمجاهدة؛ لأنه أسرته الشهوة وميل النفس إلى الراحة، فصار لا يبالي هل قربه الله أو أبعده؟ ! فلا يتعلم أمره ولا نهيه، ولا يعمل بمقتضى واحد منهما لو علمه، ولا يبالي بما اكتسبه من المال هل هو من حلال أو حرام؟ ! ولا ما عمله من الأعمال هل يوافق الشرع أو لا؟ ! ولا يبالي في أفعاله هل تسخط الرب أو ترضيه؟ ! وقد أعرض عن أخراه وانهمك في دنياه. وقد قال العلماء: الخسيس: من باع دينه بدنياه، وأخس الأخساء: من باع دينه بدنيا غيره، وهو متكل بجهله وغروره على عفو الله تعالى وكرمه بلا خوف ولا عمل، فيجهل فوق جهل الجاهلين. فالجهل أول داء النفس، ثم حب الأشياء، ثم قلة المبالاة، ثم الجرأة، ثم قلة الحياء، ثم المنى بفوز الآخرة، وهذا حال من ركبته النفس الأمارة بالسوء، وأول منزل من منازل السالك ذبح نفسه بسكين الرياضة. [ما يترتب على معرفة عالي الهمة ودنيها] (فدونك الصلاح أو فسادا ... أو سخطاً أو تقريباً أو إبعادا) أي: فدونك أيها المخاطب بعد أن عرفت حال عالي الهمة ودنيها، وعلمت أن الله تعالى

مطلع على أقوالك وأعمالك وما في قلبك، ومجازيك على جميع أعمالك من ثواب أو عقاب، فخذ لنفسك أيهما ترضاه: صلاحاً منك موجباً للفوز بالنعيم المقيم، أو فساداً تستحق به العذاب الأليم في نار الجحيم، أو رضاً أو سخطاً، أو تقريباً من الله والجنة أو إبعاداً عنهما، أو سعادة من الله تعالى أو شقاوة، أو نعيماً منه وجحيماً. فأفاد الناظم بـ (دونك): الإغراء بالنسبة إلى الصلاح وما يناسبه، والتحذير بالنسبة إلى الفساد وما يناسبه، ونظيره: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}. وقوله الناظم: (أو تقريباً أو إبعاداً) بحذف الهمزة فيهما للوزن. (وزن بحكم الشرع كل خاطر ... فإن يكن مأموره فبادر) (ولا تخف وسوسة الشيطان ... فإنه أمر من الرحمن) (وإن تخف وقوعه منك على ... منهي وصف مثل إعجاب فلا) (وإن يك استغفارنا يفتقر ... لمثله فإننا نستغفر) (فاعمل وداو العجب حيث يخطر ... مستغفراً، فإنه يكفر) (وإن يكن مما نهيت عنه ... فهو من الشيطان، فاحذرنه) (فإن تمل إليه كن مستغفراً ... من ذنبه، عساه أن يكفرا) [أقسام خواطر النفس] أي: وزن أنت بحكم الشرع كل خاطر خطر لك، ولا يخلو حاله بالنسبة إليك من حيث الطلب من أن يكون مأموراً به، أو منهياً عنه، أو مشكوكاً فيه، فإن كان الخاطر مأموراً به؛ إما على طريق الوجوب أو الاستحباب .. فبادر إلى فعله، فإنك إن توقفت برد الأمر .. وهبت ريح التكاسل. ولا تخف؛ أي: لا تترك المأمور به من صلاة أو غيرها؛ خوفاً من وسوسة الشيطان، فإنك لا تقدر على صلاة بلا وسوسة، فقد اجتهد الأكابر أن يصلوا ركعتين بلا وسوسة من الشيطان وحديث النفس بأمور الدنيا فعجزوا، ولا مطمع فيه لأمثالنا، فإنه أمر من الرحمن رحمك به حيث أخطره ببالك. ثم الخاطر الذي من الرحمن ينقسم إلى: ملكي، وإلهامي؛ فالملكي: ما يلقيه الملك

الذي على يمين القلب فيه، والإلهامي: إيقاع شيء في القلب ينشرح له الصدر، والفرق بينهما: أن إلقاء الملك قد تعارضه النفس والشيطان بالوساوس، بخلاف الخواطر الإلهية؛ فإنها لا يردها شيء، بل تنقاد لها النفس والشيطان طوعاً وكرهاً، وإذا كان الخاطر مباحاً؛ كالأكل والنوم وغيرهما .. فجدد له نية صالحة؛ ليصير مأموراً به؛ كأن تنام وقت القيلولة؛ لتنشط للعبادة في الليل؛ كما تقدم في (المقدمة) في قول الناظم: (لكن إذا نوى بأكله القوى ... لطاعة الله له ما قد نوى) [خوف العجب ليس مانعاً من العمل] وإن تخف وقوعه؛ أي: المأمور به على وصف منهي عنه؛ مثل: إعجاب أو رياء .. فلا بأس عليك في وقوعه عليه من غير قصد له، فلا يكون ذلك مانعاً لك من المبادرة إليه، أقم الأمر واحترز عن المنهي. وخرج بقوله: (وقوعه): إيقاعه؛ بأن أوقعته عليه قاصداً له، فإن ذلك محبط للعمل، موجب للإثم، فاستغفر الله تعالى، وتب إليه منه كما سيأتي. وقد قال الفضيل: العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وإن يك استغفارنا يفتقر لاستغفار مثله؛ لنقصه بغفلة قلوبنا معه، بخلاف استغفار الخلص ورابعة العدوية منهم، وقد قالت: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار) هضماً لنفسها .. لا يوجب ترك الاستغفار منا المأمور به؛ بأن يكون الصمت خيراً منه، بل نستغفر وإن احتاج إلى استغفار؛ لأن اللسان إذا ألف ذكراً ... أوشك أن يألفه القلب فيوافقه فيه. قال الغزالي في "الإحياء" في (باب التوبة): لا تظن أن رابعة تذم حركة اللسان بالاستغفار من حيث إنه ذكر الله تعالى، بل تذم غفلة القلب، فهو محتاج إلى الاستغفار من غفلة قلبه لا من حركة لسانه، فإن سكت عن الاستغفار باللسان أيضاً .. احتاج إلى استغفاريين، قال: وهذا معنى قول القائل الصادق: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)

[دواء العجب] ثم استشهد الناظم لما قرره بقول السهروردي- بضم السين- صاحب "عوارف المعارف"، وقد سأله بعض أئمة خرسان فقال: القلب مع الأعمال يداخله العجب، ومع ترك الأعمال يخلد إلى البطالة، فأجابه بقول: لا تترك الأعمال، وداو العجب حيث لك؛ بأن تعلم أن ظهوره من النفس، فاستغفر الله منه إذا وقع قصداً؛ فإن ذلك كفارنه، ولا تدع العمل رأساً؛ فإنه من مكائد الشيطان. قال الإمام في "المطلب": من مكائد الشيطان ترك العمل؛ خوفاً من أن يقول الناس: إنه مرائي، وهذا باطل، فإن تطهر العمل من نزغات الشيطان بالكلية متعذر، فلو وقتنا العبادة على الكمال .. لتعذر الاشتغال بشيء من العبادات، وذلك بموجب البطالة، وهي أقصى غرض الشيطان. وقال النووي: ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم .. لاستد عليه أكثر أبوب الخير، وضيع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليس هذا طريقة العارفين. ولقد أحسن من قال: سيروا إلى الله عرجاً ومكاسير، ولا تنتظروا الصحة، فإن انتظار الصحة بطالة. وحكي عن الشافعي رضى الله تعالى عنه أنه قال: إذا خفت على عملك العجب .. فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، وأي عافية تشكر، وأي بلاء تذكر، فإنك إذا فكرت في واحدة من هذه الخصال .. صغر في عينك عملك. وإن يك الخاطر مما نهاك الله تعالى عنه .. فاحذر من فعله، فإنه من وسوسة الشيطان، أو من دسيسة النفس الأمارة بالسوء. والفرق بينهما: أن خاطر النفس لا ترجع عنه، وخاطر الشيطان قد ينقله إلى غيره إن صمم الإنسان على عدم فعله؛ لأن قصده الإغواء لا خصوص قضية معينة، فإن تمل النفس إلى فعله،

أو فعلته .. فكن تائباً إلى الله تعالى خائفاً منه مستغفراً، ولا تيأس من رحمة الله تعالى؛ قال تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}. وحذف الفاء الداخلة على الجواب، وهو قوله: (كن) للضرورة عند الجمهور، وأجازه المبرد في الاختيار، وقال بعضهم: لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور، ويقاس بهذا نظائره السابقة واللاحقة. والألف في قوله: (يكفرا) للإطلاق. [مراتب ما يقع في النفس من المعصية] (فيغفر الحديث للنفس وما ... هم إذا لم تعمل أو تكلما) ما يقع في النفس من المعصية له مراتب: الأولى: الهاجس؛ وهو ما يلقى فيها، ولا يؤاخذ به إجماعاً؛ لأنه ليس من فعل العبد، وإنما هو وارد لا يستطاع دفعه. الثانية: الخاطر، وهو جريانه فيها، وهو مرفوع أيضاً. الثالثة: حديث النفس، وهو ترددها بين [فعل] الخاطر المذكور وتركه، وهو مرفوع أيضاً؛ لخبر "الصحيحين": "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم به". الرابعة: الهم، وهو قصد الفعل، وهو مرفوع أيضاً؛ لقوله تعالى: {إذ همت طائفتان} الآية، ولو كانت مؤاخذة .. لم يكن الله وليهما، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من هم بسيئة ولم يعملها .. لم تكتب" أي: عليه، رواه مسلم، وفي رواية له: "كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة"، زاد في أخرى: "إنما تركها من جراي" أي: من أجلي، وهو بفتح الجيم وتشديد الراء. وقضية ذلك: أنه إذا تكلم كالغيبة، أو عمل كشرب المسكر .. انضم إلى المؤاخذة بذلك

مؤاخذة حديث النفس والهم به، وفي هذه المرتبة تفترق الحسنة والسيئة؛ فإن الحسنة له تكتب، والسيئة لا تكتب عليه، بخلاف الثلاث الأول؛ فإنها لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، واقتصر الناظم على هذين المرتبتين؛ لوضوح الأمر في الأوليين. الخامسة: العزم، وهو قوة القصد والجزم به وهو مؤاخذ به؛ لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}، ولخبر "الصحيحين": "إذا التقى المسلمان بسيفيهما .. فالقاتل والمقتول في النار"، قيل: يا رسول الله؛ هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل أخيه". وقول الناظم: (أو تكلما) بنقل حركة همزته إلى الساكن قبلها، وألفه للإطلاق. [مجاهدة النفس إذا همت بالمعصية] (فجاهد النفس بألا تفعلا ... فإن فعلت تب وأقلع عجلاً) أي: فجاهد النفس الأمارة بالسوء وجوباً إذا همت بمعصية الله تعالى؛ لحبها بالطبع ما نهيت عنه لتطيعك في الاجتناب؛ كما تجاهد من يقصد اغتيالك، بل أعظم؛ لأنها تقصد لك الهلاك الأبدي باستدراجها لك من معصية إلى أخرى حتى توقعك فيما يؤديك إلى ذلك، فإنها حينئذ أكبر أعدائك، وفي الحديث: "أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك". وقال بعضهم: معالجة المعصية إذا خطرت حتى لا تقع .. أهون من معالجة التوبة حتى تقبل؛ لأن ذلك بكف النفس، والتوبة بالندم والأسف والبكاء، ثم لا يدرى أقبلت توبته أم لا؟ فإن فعلت الخاطر المذكور لغلبة الإمارة عليك .. فتب على الفور وجوباً، وأقلع عن المعصية عاجلاً؛ ليرتفع عنك إثم فعله بالتوبة التي وعد الله تعالى بقبولها فضلاً منه، ومما تتحقق به الإقلاع كما سيأتي. وقبول التوبة من الكفر قطعي، وفي قبول التوبة من المعصية قولان: قال النووي: الأصح: أنه ظني، وقال بعضهم: الصحيح: أنه قطعي، والواقع في المعصية إن كان لاهياً

عن النهى والوعيد .. فهو من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وإن استحضر النهي والوعيد وأقدم عليها تجرؤاً .. فهو هالك، أو تسويفاً .. فمغرور؛ لتركه ما وجب عليه وتعلقه بما قد لا يقدر عليه وهو التوبة. والنفوس ثلاثة: الأمارة: وهي أشرهن. الثانية: اللوامة: التي يقع منها الشر، لكنها تساء به وتلوم عليه وتسر بالحسنة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "من سرته حسنته وساءته سيئته .. فهو مؤمن". الثالثة: المطمئنة: التي اطمأنت إلى الطاعة، ولم تواقع معصية. والألف في قول الناظم: (تفعلا) للإطلاق. (وحيث لا تقلع لاستلذاذ ... أو كسل يدعوك باستحواذ) (فاذكر هجوم هاذم اللذات ... وفجأة الزوال والفوات) (وإعرض التوبة، وهي الندم ... على ارتكاب ما عليك يحرم) (تحقيقها إقلاعه في الحال ... وعزم ترك العود في استقبال) (وإن تعلقت بحق آدمي ... لابد من تبرئة للذمم) (وواجب إعلامه إن جهلا ... فإن يغب فابعث إليه عجلا) (فإن يمت فهو لوارث يري ... إن لم يكن فأعطها للفقرا) (مع نية الغرم له إذا حضر ... ومعسر ينوي الأدا إذا قدر) (فإن يمت من قبلها ترجى له ... مغفرة الله بأن تناله) [ذكر الموت باعث على الإقلاع عن فعل المعصية] أي: وحيث لا تقلع عن فعل الخاطر المذكور؛ لاستلذاذ به وبقاء حلاوته في قلبك يدعوك إليه، أو كسل عن الخروج منه يدعوك إلى ترك العمل مع استحواذ الشيطان عليك، فالباء في قوله: (باستحواذ) بمعنى مع، أو سببية .. فتذكر هجوم هاذم اللذات، وفجأة الزوال، والفوات للتوبة وغيرها من الطاعات؛ فإن تذكر ذلك باعث شديد على الإقلاع عما يستلذ به، أو

ما يكسل عن الخروج منه؛ لأنه مكدر للعيش، ومقصر للأمل، وباعث على العمل؛ قال صلى الله عليه وسلم: "أكثروا ذكر هاذم اللذات" رواه الترمذي، زاد ابن حبان: "فإنه ما ذكره أحد في ضيق .. إلا وسعه، ولا ذكره في سعة .. إلا ضيقها عليه". (وهاذم) بالذال المعجمة؛ أي: قاطع، واللذات المقطوعة بالموت ثلاثة: أدونها: الحسية؛ وهي قضاء شهوتي البطن والفرج ومقدماته. وأوسطها: اللذات الخيالية الحاصلة من الاستعلاء والرياسة؛ وهي أشدها التصاقاً بالعقلاء، ولذلك قيل: آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة. وأعلاها: اللذات العقلية الحاصلة بسبب معرفة الأشياء والوقوف على حقائقها؛ وهي اللذة على الحقيقة. وإن كان عدم الإقلاع للقنوط واليأس من رحمة الله تعالى وعفوه عما فعلت لشدته، أو لاستحضار عظمة الله ونقمته .. فخف مقت ربك؛ أي: شدة عقاب مالكك الذي له أن يفعل في عبده ما يشاء، حيث أضفت إلى الذنب اليأس من العفو عنه، وقد قال: {إنه لا يأيس من روح الله} أي: رحمته {إلا القوم الكافرون}. واذكر سعة رحمته التي لا يحيط بها إلا هو؛ أي: استحضرها .. لترجع عن قنوطك، وكيف تقنط وقد قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} أي: غير الشرك؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لو لم تذنبوا .. لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "لله أفرح بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض فلاة عليها طعامه وشرابه .. " الحديث المشهور. [بيان التوبة وشروطها] واعرض التوبة، وهي الندم على ارتكاب ما عليك يحرم من حيث إنه محرم، فالندم على شرب الخمر؛ لإضراره بالبدن ليس التوبة التي هي الندم المذكور، على قلبك ومحاسنها

وفضائلها؛ لقوله تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "التائب حبيب الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له"، واذكر مقدماتها الثلاث: إحداها: فبح الذنوب. والثانية: ذكر عقوبة الله تعالى، وأليم سخطه الذي لا طاقة لك به. الثالثة: ذكر ضعفك، وكونك لا تحمل حر الشمس، ولطمة شرطي، وقرصة نملة، كيف تقدر على حر نار جهنم التي أوقد عليها ثلاثة آلاف سنة؟ ! فإذا عرضا هذه الأشياء على قلبك .. حملتك على التوبة، وذكر القشيري بإسناده إلى الحنيد قال: دخلت على السري يوماً فرأيته متغيراً، فقلت: مالك؟ فقال: دخل علي شاب فسألني عن التوبة؟ فقلت له: ألا تنسى ذنبك، فعارضني وقال: بل التوبة أن تنسى ذنبك، فقلت: الأمر عندي ما قال الشاب، فقال: لم؟ فقلت: لأني إذا كنت في حال الجفاء، ونقلني إلى حال الوفاء .. فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء. وفسر الناظم التوبة بالندم؛ لأنه روحها الذي تحيا به، وركنها الأعظم، وروى ابن ماجه بإسناد لين: "الندم توبة" ومعناه: أن الندم لتعظيم الله وخوف عقابه مما يبعث على التوبة، فلما كان من أجزائها أو أسبابها .. سماه بها مجازاً. وقد كانت التوبة في بني إسرائيل بقتل النفس؛ كما قال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم}، وتوبة هذه الأمة: إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل، ومثل هذا الإفناء كمثل من أراد كسر لوزة في قارورة، فحقيقة التوبة إقلاعه عن المعصية في الحال؛ حياء من الله تعالى وخوفاً من عقابه؛ إذ يستحيل أن يحصل الندم الحقيقي على شيء مع بقائه عليه، وملازمته له في الحال، وعزمه على ألا يعود إليه في الاستقبال؛ كما لا يعود اللبن إلى الضرع بعد أن خرج منه، وهذه هي التوبة النصوح. فإن قلت: إنما يمنعني من التوبة أني أعلم من نفسي أني أعود إلى الذنب، ولا أثبت على التوبة فلا فائدة في ذلك .. فاعلم أن هذا كما قال الغزالي: من غرور الشيطان، من أين لك

هذا العلم؟ فعسى أن تموت تائباً قبل معاودة الذنب، وأما خوف العود .. فعليك العزم والصدق في ذلك، فبذلك تتخلص من ألم الذنب، وتكون بين إحدى الحسنيين، والله ولي التوفيق والهداية. وإن تعلقت بحق آدمي وهي أشكل وأصعب من غيرها .. فلا بد فيها من براءة الذمة عنه، سواء أكانت في مال أن نفس، أم عرض أم حرمة أم دين، فما كان من المال .. فيجب أن ترده إلى مالكه، أو من يقوم مقامه من ولي أو وصي، أو من يقوم مقامهما. وما كان في النفس .. فتمكنه من القصاص، أو أولياءه حتى يقتصوا منك أو يجعلك في حل. وما كان في العرض؛ كأن اغتبته أو بهته أو شتمته .. فحقك أن تكذب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده، وتستحل من صاحبه إن أمكنك إذا لم تخض هيجان فتنة، وإلا .. فالرجوع إلى الله تعالى ليرضيه عنك والاستغفار الكثير لصاحبه. وما كان في حرمة؛ بأن خنته في أهله أو ولده أو أمته .. فلا وجه للاستحلال والإظهار؛ فإنه يولد فتنة وحقداً في القلوب، بل تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك، ويجعل له خيراً في مقابلته، فإن أمنت الفتنة وهيجانها وهو نادر .. فتستحل منه. وما كان في الدين؛ بأن كفرته أو بدعته، أو ضللته في دينه .. فهو أصعب، فتحتاج إلى تكذيب نفسك بين يدي من قلت ذلك له، أو تستحل من صاحبه إن أمكنك، وإلا .. فالابتهال إلى الله تعالى بأن يرضيه عنك، والندم على فعله. وواجب عليك إعلام المستحق بما وجب له عليك إن جهل استحقاقه؛ بأن تعترف عند ولي الدم مثلاً، وتحكمه في نفسك، فإن شاء .. عفا عنك، وإن شاء .. قتلك، ولا يجوز لك الإخفاء، بخلاف ما لو زنا أو شرب، أو باشر ما يجب فيه حد الله تعالى .. فإنه لا يلزمه أن يفضح نفسه، بل عليه أن يسترها. فإن يغب المستحق عن البلد .. فاذهب إليه، أو ابعث له ما يستحقه في ذمتك، أو ما يحصل به الإبراء عجلاً بلا تأخير، فإن انقطع خبره .. رفع أمره إلى قاض مرضي. فإن يمت المستحق .. فهي؛ أي: الظلامة أو تبرئة ذمتك لوارث ترى؛ أي: تعلمه بدفع الحق إليه، أو إبرائه إياك منه. فإن لم يكن له وارث، أو انقطع خبره .. فادفعه إلى قاض تعرف سيرته وديانته، فإن تعذر

الحاكم المرضي .. فأعط قدر ما عليك للفقراء صدقة عن المستحق، قال الإسنوي: ولا يختص بالصدقة، بل هو مخير بين أن يدفعه إلى مصالح المسلمين، وبين أن يدفعه إلى قاض بشرطه ليصرفه في المصالح إن وجده، وبين أن يتصدق به عن المستحق مع نية الغرم للمالك إن وجده، أو وارثه وقدر على وفائه. فإن كان معسراً لا يقدر عليه .. نوى الغرامة إذا قدر عليه، أو على شيء منه، وإن لم يمكن شيء من ذلك .. فليكثر من الحسنات؛ ليؤخذ منها عوضاً عنه يوم القيامة، ويكثر الرجوع إلى الله تعالى بالتضرع والابتهال إليه؛ ليرضي عنه خصمه يوم القيامة ويعوضه عنه، وإن يمت من عليه الظلامة من قبلها؛ أي: استيفائها .. فالمرجو من تكرم الله تعالى أن تناله مغفرته. قال النووي: ظواهر السنة الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة وإن مات معسراً عاجزاً إذا كان عاصياً بالتزامه، فأما إذا استدان في موضع يباح له الاستدانة فيه، واستمر عجزه عن الوفاء، أو أتلف شيئاً خطأ وعجو عن غرامته .. فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة؛ إذ لا معصية منه، والمرجو من الله سبحانه وتعالى أن يعوض صاحب الحق؛ كما أشار إليه إمام الحرمين في أول (كتاب النكاح). والألف في قول الناظم: (جهلا) للإطلاق، وقوله: (الأدا) بالقصر للوزن. (وإن تصح توبة وانتقضت ... بالذنب لا يضر صحة مضت) (وتجب التوبة من صغيرة ... في الحال كالوجوب من كبيرة) (ولو على ذنب سواه قد أصر ... لكن بها يصفو عن القلب الكدر) فيها ثلاث مسائل: [نقض التوبة بالذنب لا يقدح في صحتها الماضية] الأولى: إذا صحت توبة العبد من الذنب بشرطها، ثم نقض التوبة بذنب آخر ولو كبيراً .. لم يقدح في توبته، ولا يضر ذلك في صحتها الماضية؛ هذا معنى قوله: (لا يضر صحة مضت)، وفي بعض النسخ: (توبة مضت)، وذلك؛ لقوله تعالى: {إن الله يحب التوابين} و (التواب) من أبنية المبالغة الدالة على التكرار، فلا يطلق إلا على من تكرر منه التوبة مرات،

وإطلاقه يقتضي أنه تتكرر منه التوبة، سواء أوقعت منه معصية أخرى مع التوبة أم لا. وروى مسلم والنسائي عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها". وروى الحاكم عن جابر: (من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله تعالى الإنابة). وروى ابن ماجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم .. لتاب الله عليكم". وروى عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، ولم يقل: التائب من الذنوب كلها. وروى عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الندم توبة" ولم يشترط الندم عن كل ذنب، وروى أبو داوود عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم مئة مرة"، ولفظ الترمذي: "ولو فعله" أي: فعل الذنب "في اليوم سبعين مرة". وخالف فيه القاضي أبو بكر فقال بانتقاض توبته الأولى، فيؤاخذ بذلك الذنب الذي تاب منه، والصحيح خلافه؛ كمن ترك صلاة فقضاها، ثم ترك أخرى، فالأولى التي قضاها بشروطها صحت منه، وبرئت ذمته منها، وسقط التكليف بها، فلا يطالب بها ثانياً؛ لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: "إذا أذنب عبدي ذنباً فقال: يا رب؛ إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به .. فغفر له، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب؛ اغفر لي ... " فذكر مثله

مرتين، وفي آخره: "اعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك"، قال القرطبي: فيه دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب؛ لأن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب أقبح من ابتدائه؛ لأنه انضم إلى الذنب نقض التوبة، والعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه انضم إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنب سواه، وهذه فائدة اسمه تعالى (الغفار) و (التواب). [وجوب التوبة] الثانية: تجب التوبة؛ لقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون}، قال بعضهم: وإنما وجبت توبة العبد من المعصية لتقبل نوافل العبادة منه، فإن رب الدين لا يقبل الهدية ممن هو غضبان عليه بإصراره على المعاصي، وكيف يقبل منك تبرعك بالهدية ودينه الذي فرضه عليك لم تقضه؟ ! وكما تجب التوبة من الكبائر .. تجب من الصغائر خلافاً لأبي هاشم، ولم يستحضر إمام الحرمين في "الإرشاد" مخالفته في ذلك، فحكى الإجماع على الأول، وتوقف السبكي في وجوب التوبة منها عيناً وقال: لعل وقوعها مكفرة بالصلاة واجتناب الكبائر يقتضي أن الواجب إما التوبة أو فعل ما يكفرها، وخالفه ولده تاج الدين فقال: الذي أراه: وجوب التوبة عيناً على الفور عن كل ذنب. نعم؛ إن فرض عدم التوبة عن الصغيرة، ثم جاءت المكفرات .. كفرت الصغيرتين، وهما تلك الصغيرة وعدم التوبة منها. [صحة التوبة مع الإصرار على ذنب آخر] الثالثة: تجب التوبة، وتصح عن كل ذنب مع الإصرار على ذنب آخر، خلافاً للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائباً من أصر على ذنب سواه؛ بناء على أصلهم في القبيح العقلي؛ لأن الكل في القبح على حد سواء، ويرد عليهم قوله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم}.

قال الكلبي: العمل الصالح: التوبة من الذنوب مع الاعتراف بها. وقال الطبري وغيره: الصالح: الاعتراف [و] التوبة والندم على الذنوب، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ("عسى" من الله تعالى واجبة). وإذا صحت التوبة من العبد .. صفا قلبه من كدورات المعصية، لكن التصفية من سائر المعاصي من أوصاف كمال التوبة لا من شروطها. وعند الصوفية: توبة السالك من المعاصي لا تصير مفتاحاً للمقامات حتى يتوب عن جميع الذنوب؛ لأن كدورة بعض القلب واسوداده بالذنب يمنع من السير إلى الله سبحانه وتعالى، ويبعد عنه، وعلامة قبول التوبة: أن يفتح على التائب باب من الطاعة لم يكن قبل ذلك. [وجوب الإمساك عن الفعل إذا تشكك فيه أو اشتبه عليه] (وواجب في الفعل إذ تشكك ... أمرت أو نهيت عنه تمسك) أي: وواجب على المكلف إذا شك في الفعل الذي خطر في سره: أهو مما أمر به، أو مما نهي عنه .. أن يمسك عن فعله؛ حذراً من الوقوع في المنهي عنه إذا كان الأمر أمر إباحة، والنهي نهي تحريم، فإذا اشتبه .. غلب التحريم؛ كما إذا شك في امرأة هل أجنبية داخلة في قوله تعالى: {فانكحوا}، أو محرم داخلة في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية، أو شك في لحم هل هو مما أبيح أكله بقوله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}، أو مما نهى عنه بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} فيجب عليه أن يمسك عن نكاح المرأة، وأكل اللحم. ولا يجوز له أن يجتهد في المرأة واللحم؛ إذ لا علامة تمتاز بها المحرم عن الأجنبية، وكذلك اللحم، لكن لو اشتبهت بأجنبيات غير محصورات .. جاز له النكاح؛ لئلا يؤدي إلى سد باب النكاح، وقد يترجح الإمساك ولا يجب؛ فإنه من باب الشبهة، وتركها ورع لا وجوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" رواه الترمذي وابن ماجه.

قال بعضهم: ما أهون الورع دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه؛ كما إذا شك هل طلق زوجته، أو علق طلاقها على فعل شيء؟ وشك هل فعله أو لا؟ فالأفضل أن يمسك عن وطئها إلى أن يراجعها إن كان الطلاق رجعياً، أو يجدد نكاحها إن كان بائناً. واعلم: أن المكلف إذا شك في الخاطر هل هو مأمور به أو منهي عنه .. فينبغي التفصيل بأن يقال: الأمر إما أن يكون للوجوب أو الاستحباب، والنهي إما للتحريم أو للكراهة، وينبني على هذا التفصيل فروع كثيرة، فمن فكر فيما خطر له من الكلام فلم يدر أهو مصلحة أم مفسدة .. فليمسك عن التكلم به حتى تظهر له المصلحة فيه؛ لخبر "الصحيحين": "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .. فليقل خيراً أو ليصمت". وقال النووي: متى استوى الكلام وتركه .. فالسنة الإمساك عنه؛ فإنه قد ينجر الكلام إلى محرم أو مكروه. وقال الجويني في المتوضئ يشك أيغسل ثالثة فيكون مأموراً بها، أم رابعة فيكون منهياً عنها: لا يغسل؛ خوف الوقوع في المنهي عنه؛ إذ ترك سنة أهون من ارتكاب بدعة، وقال الجمهور: يغسل؛ لأن التثليث مأمور به، ولم يتحقق قبل هذه الغسلة فيأتي بها، ولهذا: لو شك أصلى ثلاثاً أم أربعاً .. أتى برابعة وجوباً مع احتمال وقوع المنهي عنه بالزيادة. وذكر ابن السمعاني في "تاريخه": أن رجلاً رأى الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يتوضأ، فغسل وجهه أكثر من ثلاث فأنكر عليه، فقال الشيخ: لو صحت لي الثلاث .. لم أزد. [وقوع الخير والشر بقدرة الله، وخلقه لأفعال العباد] (والخير والشر معاً تجديده ... بقدرة الله كما يريده) (وهو الذي أبدع فعل المكتسب ... والكسب للعبد مجازاً ينتسب) أي: والخير والشر معاً تجديده؛ أي: وقوع كل منهما بقدرة الله تعالى كما يريده؛ لخبر مسلم عن أبي هريرة قال: (جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في

هذا القدر، فنزلت هذه الآية: {إن المجرمين في ضلال وسعرٍ} إلى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، ولفظ ابن ماجه في "صحيحه": (يخالفونه في هذا القدر)، ولقوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً}. والمراد بالقدر: ما قدره الله تعالى وقضاه، وكتبه في اللوح المحفوظ، وسبق به علمه وإرادته، وكل ذلك في الأزل معلوم لله تعالى. قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، ويجب أن يعتقد أن كل ما وقع في الموجودات واقع بقدرة الله تعالى، ومن جملته الخواطر التي تخطر بالقلب، وذهب من لم يتشرع من الفلاسفة إلى نفي القدر جملة، وذهبت المعتزلة إلى نفيه في الكفر والمعاصي دون الطاعات، واختلفوا في المباحات، وأحسن ما يرد عليهم إثبات العلم لله تعالى، ولهذا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: القدرية إذا سلموا العلم .. خصموا، واحتج عليهم مالك بقوله عليه الصلاة والسلام: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، والله خالق لأفعال عباده، كما أنه خالق لأعيانهم. قال البيهقي في (كتاب الاعتقاد): قال تعالى: {ذالكم الله ربكم خلق كل شيء} فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر، وقال تعالى: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشبه الخلق عليهم قل الله خلق كل شيء} فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة له .. لكان خالق بعض شيء لا كل شيء، وهو مخالف للآية، ومن المعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان، فلو كان الله تعالى خالق الأعيان والناس خالقي الأفعال .. لكانت مخلوقات الناس أكثر من مخلوقات الله عز وجل، تعالى الله عن ذلك. وقال تعالى: {هل من خلق غير الله}، وقال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}

أي: خلقكم وخلق الأعمال الصادرة منكم، ففي الآية دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ومكتسبة لهم، حيث أثبت لهم عملاً يعملونه؛ وهو عبادة الأصنام دون الله تعالى، وقد جاء في الحديث: "إن الله تعالى خلق كل صانع وصنعته". فإن قيل: إذا كان الله تعالى خالق الفعل .. فكيف يعاقب على شيء خلقه؟ ! قلنا: كما يعاقب خلقاً خلقه، فليست عقوبته على ما خلق بأبعد من عقوبته من خلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}، وعلى هذا درج السلف والصحابة والتابعون، وصنف فيه البخاري كتاب "خلق الأفعال". ولما كانت حركة المرتعش المجمع على أنها خلق الله تعالى لا كسب للعبد فيها .. فكذلك حركة غيره، لكن الله تعالى خلق لهذا حركة واختياراً، ولم يخلق للآخر اختياراً وإن خلق له حركة، ولكن الله قدر للعبد قدرة هي استطاعته، تصلح للكسب لا للإبداع، بخلاف قدرة الله تعالى؛ فإنها للإبداع لا للكسب، فالله خالق غير مكتسب، والعبد مكتسب غير خالق، فيثاب ويعاقب على مكتسبه الذي يخلقه الله عقب قصده له؛ قال تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} فأثبت له الرمي ونفاه عنه باعتبارين. فإذا نسب الفعل إلى القدرة القديمة .. سمب خلقاً، والقادر: خالقاً، وإذا نسب إلى القدرة الحادثة .. سمي كسباً، والقادر: كاسباً، ولابد من القول بالكسب تصحيحاً للتكليف بالثواب والعقاب؛ لامتناع الجمع بين اعتقاد الجبر المحض والتكليف. وحاصله: أن الأفعال تنسب للخلق شرعاً؛ لإقامة الحجة عليهم، ولا فاعل في الحقيقة إلا الله تعالى إذ هو الذي أبدع فعل المكتسب، ولكن الكسب ينسب إلى العبد مجازاً، وقد نسب تعالى الكسب إليهم بقوله تعالى: {جزاء بما كانوا يكسبون}، وبقوله: {فبما كسبت أيديكم}، فمراعاة الظاهر شريعة، ومراعاة الباطن حقيقة، وفي هذا جمع بينهما، ولهذا حكي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (القدر سر الله تعالى في الأرض لا جبر ولا تفويض). وكون فعل العبد مكتسباً للعبد مخلوقاً لله مخلوقاً لله تعالى توسط بين قول المعتزلة: إن العبد خالق لفعله، وبين قول الجبرية: إنه لا فعل للعبد أصلاً؛ وهو آلة محضة؛ كالسكين في يد

القاطع، وقد تقدم شيء مما يتعلق بأفعال العباد عند قول الناظم في (المقدمة): (منفرد بالخلق). ومن أجل أن قدرة العبد للكسب لا للإبداع فلا توجد إلا مع الفعل .. كان الصحيح أنها لا تصلح للتعليق بالضدين؛ لاستحالة اجتماعهما، فاستطاعة الإيمان توفيق، واستطاعة الكفر خذلان، ولا تصلح إحداهما لما تصلح له الأخرى، وإنما تصلح للتعليق بأحدهما الذي يقصده. وقيل: تصلح للتعليق بأحدهما على سبيل البدل؛ أي: تتعلق بهذا بدلاً عن تعلقها بالآخر وبالعكس، ومعناه: إن اقترنت بالإيمان .. صلحت له دون الكفر، وإن اقترنت بالكفر .. صلحت له دون الإيمان، أما على القول بأن العبد خالق لفعله .. فقدرته كقدرة الله تعالى في وجودها قبل الفعل، وصلاحيتها للتعليق بالضدين. والصحيح أيضاً: أن عجز العبد صفة وجودية قائمة بالعاجز تقابل القدرة تقابل الضدين. وقالت الفلاسفة: هو عدم القدرة عما من شأنه أن يكون قادراً، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة؛ كما أن الأمر كذلك على القول بأن العبد خالق لفعله، فعلى الأول: في الزمن معنى لا يوجد في الممنوع من الفعل مع اشتراكهما في عدم التمكن من الفعل، وعلى الثاني لا، بل الفرق: أن الزمن ليس بقادر، والممنوع قادر؛ إذ من شأنه القدرة بطريق جري العادة. (واختلفوا؛ فرجع التوكل ... وآخرون: الاكتساب أفضل) (والثالث المختار: أن يفصلا ... وباختلاف الناس أن ينزلا) (من طاعة الله تعالى آثرا ... لا ساخطاً إن رزقه تعسرا) (ولم يكن مستشرفاً للرزق ... من أحد بل من إله الخلق) (فإن ذا في حقه التوكل ... أولى، وإلا الاكتساب أفضل) (وطالب التجريد وهو في السبب ... خفي شهوة دعت فليجتنب) (وذو تجردٍ لأسباب سأل ... فهو الذي عن ذروة العز نزل) (والحق: أن تمكث حيث أنزلك ... حتى يكون الله عنه نقلك)

(قصد العدو طرح جانب الله ... في صورة الأسباب منك أبداه) (أو لتماهن مع التكاسل ... أظهره في صورة التوكل) (من وفق الله تعالى: يلهم ... ألبحث عن هذين ثم يعلم) (ألا يكون غير ما يشاء ... فعلمنا- إن لم يرد- هباء) [الخلاف في أفضلية التوكل والاكتساب] اختلف في التوكل والاكتساب أيهما أفضل على أقوال، وحقيقة التوكل: الكف عن الاكتساب والإعراض عن الأسباب؛ اعتماداً للقلوب على الله تعالى، عملاً بقوله تعالى: {فاتخذه وكيلاً}، {وعلى الله فتوكلوا}. قال السري: التوكل: الانخلاع من الحول والقوة؛ أي: بألا ترى لأحد حولاً؛ أي: حيلة، ولا قوة إلا بالله، وهو قريب من قولهم: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها عن صفة الربوبية فيبقى حاله كالطفل مع أبيه وأمه؛ فإنه لا يعرف غيرهما، وهو معنى قولهم: أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته كالميت بين يدي الغاسل، وهذه الحالة أعلى من حالة الطفل؛ لأن الطفل يصيح بالأم ويتعلق بها لتحمله. وهذا المقام في التوكل يثمر ترك السؤال؛ اعتماداً على علمه به وعنايته، وهو مقام الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال لجبريل: (حسبي من سؤالي علمه بحالي). فرجح قوم التوكل على الاكتساب؛ لأنه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال أهل الصفة؛ قال تعالى {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، وفي الحديث الصحيح في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "وعلى ربهم يتوكلون"؛ ولأنه ينشأ عن مجاهدة النفس، والأجر على قدر النصب، والمراد به: ذو الرتبة العليا في التوكل. ورجح آخرون: أن الاكتساب أفضل لا لجمع المال، واعتقاد أنه يجلب الرزق ويجر النفع؛ بل لأنه من النوافل التي أمر الله بها في قوله: {وابتغوا من فضل الله}، وطلب التعاون بالمسلمين والرفق بهم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاماً قط .. أطيب مما

كسبت يده" رواه البخاري، وفيه أيضاً مرفوعاً: "إن داوود عليه الصلاة والسلام كان لا يأكل إلا من عمل يده"، ولأنه فعل الأكابر من الصحابة وغيرهم من السلف. والقول الثالث وهو المختار: التفصيل؛ وهو أنه يختلف باختلاف أحوال الناس، فمن آثر طاعة الله على طاعة غيره طلباً لرضاه، ولم يتسخط إذا عسر عليه رزقه، ولم يكن مستشرفاً، أو لم يستشرف نفسه إلى أحد من الناس، بل إلى الله تعالى، لا ينزل حاجته إلا به، ولا يرفعها إلا إليه؛ اعتماداً على قوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أي: من يثق بالله .. كفاه ما أهمه {إن الله بلغ أمره} توكل على الله أم لم يتوكل عليه، غير أن المتوكل عليه {يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً} فالتوكل في حقه أفضل، وفي الحديث: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله .. لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتعود بطاناً". وإلا بأن تسخط عند تعسر الرزق، أو اضطراب قلبه، أو تشوف إلى ما في أيدي الناس .. فالكسب له أرجح، وفي هذا جمع بين اختلاف الأدلة، وهو نظير عدم كراهة التصدق بجميع المال لمن يصبر على الإضافة، وكراهته لمن لم يصبر، قال البيهقي في "شعب الإيمان": وعليه أكثر أهل المعرفة. [طلب التجريد مع الإقامة في الأسباب وعكسه] وقال بعضهم: التوكل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته، فمن ضعف عن حاله .. فليسلك سنته. وذكر أبو محمد بن أبي جمرة أن فقيراً كتب فتيا: ما تقول السادة الفقهاء في الفقير المتوجه إلى الله تعالى؟ هل يجب عليه الكسب؟ فأجاب: من نور الله بصيرته، إن كان توجهه دائماً لا فترة فيه .. فالتسبب عليه حرام، وإن كان له في بعض الأوقات فترة ما .. فالكسب عليه واجب. قال بعضهم: وفي جعل المصنف الاكتساب في مقابلة التوكل نظر، فإن الاكتساب لا ينافي التوكل، فإن التوكل ركون القلب إلى الله، والاعتماد عليه لا على التسبب، وفي الحديث: أن

رجلاً قال: يا رسول الله؛ أرسل ناقتي وأتوكل، أو أعقلها وأتوكل؟ فقال: "اعقلها وتوكل" رواه البيهقي وغيره. وروى معاوية بن قرة: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أتى على قوم فقال: (ما أنتم؟ ) فقالوا: نحن المتوكلون، فقال: (بل أنتم المتكلون، ألا أخبركم بالمتوكلين؟ رجل ألقى حبة في بطن الأرض ثم توكل على ربه) قال البيهقي: يعني المتوكلين على أموال الناس. وقال الجنيد: ليس التوكل الكسب ولا ترك الكسب، التوكل: سكون القلب إلى موعود الله، قال البيهقي: فعلى هذا ينبغي ألا يكون تجريد هذا السكون عن الكسب شرطاً في التوكل، بل هو مكتسب بظاهر العلم يعتمد بقلبه على الله تعالى؛ كما قال بعضهم: أكتسب ظاهراً وتوكل باطناً، فهو مع كسبه لا يكون معتمداً على كسبه، بل معتمداً في كفاية أمره على الله تعالى. وطالب التجريد عن الأسباب الشاغلة عن الله تعالى وهو قد أقامه في الأسباب التي هي الحرف والبيعات التي يصون بها وجهه عن الابتذال بالسؤال، وحفظاً لعزة نفسه عن منن المخلوقين ألا يمن عليك أحد اشترى منك، أو أستأجرك على عمل شيء له، وفي القيام بالأسباب رحمة للمتجردين عنها المتوجهين لطاعة ربهم، فلولا قيام أهل الأسباب .. لما صح لصاحب الخلوة خلوته ومجاهدته لعبادة ربه، فإن الله تعالى جعل أهل الأسباب كالخدمة للمقبلين عليه، فطلب التجريد مع إقامته في الأسباب من الشهوة الخفية الداعية إلى طلب الراحة، وإنما كانت من الشهوة؛ لعدم وقوفه مع الله تعالى من إقامته إياه فيما أقامه فيه. وعلامة إقامته في الأسباب أن تحصل له ثمرته ونتيجته؛ بأن يجد في حال تشاغله بالأسباب سلامة في دينه، وقطعاً لطعمه فيما عند غيره، وحسن نية في صلة رحم بما يتسبب به، وإعانة فقير معدم، أو متجرد مقبل على الله، وغير ذلك من فوائد المال المتعلقة بصلاح الدين. وذو تجريد؛ أي: من أقامه الله تعالى في التجريد عما يشغل عن الله تعالى، إذا طلب الخروج منه، والدخول في الأسباب والاهتمام بتحصيلها .. فهو انحطاط، ونزول عم ذروة العز العلية إلى الرتبة الدنية، وسوء أدب مع الله تعالى؛ لما فيه من مصادمة الربوبية بالتدبير معه، ولعله لا يقع كثير مما قصده.

والحق والأصلح لك: أن تمكث حيث اقامك الله فيه وارتضاه لك، وترك التدبير لنفسك والاختيار؛ فإنهما يكدران المعيشة. وقال أبو الحسن الشاذلي: إن كان ولابد من التدبير .. فدبر ألا تدبر حتى يكون الحق سبحانه وتعالى هو الذي نقلك، وتولى إخراجك مما أنت فيه، ومسألة ترك التدبير أساس طريق الصوفية، والكلام فيها طويل وقد أفرد بالتصنيف. [التحذير من كيد الشيطان لأهل التجريد والكسب] وقصد العدو اللعين منك: أن يأتيك فيما أنت فيه فيحقره عندك فيتشوش قلبك، ويتكدر وقتك، وذلك أنه يأتي للمتسببين فيقول لهم، لو تركتم الأسباب وتجردتم .. لأشرقت لكم الأنوار، ولصفت منكم القلوب والأسرار، وكذلك صنع فلان وفلان، ويكون هذا العبد ليس مقصوداً للتجريد ولا طاقة له به، إنما صلاحه في الأسباب فيتركها، فيتزلزل إيمانه ويذهب إيقانه، ويتوجه إلى الطلب من الخلق، وإلى الاهتمام بالرزق، وكذلك يأتي للمتجردين ويقول لهم: إلى متى تتركون الأسباب؟ ! ألم تعلموا أن ذلك يطمع القلوب لما في أيدي الناس، ولا يمكنك الإيثار، ولا القيام بالحقوق، وعرض ما تكون منتظراً ما يفتح به عليك من غيرك، فلو دخلت في الأسباب. .بقي غيرك منتظراً ما يفتح عليه منك، ويكون هذا العبد قد طاب وقته، وانبسط نوره، ووجد الراحة بالانقطاع عن الخلق، ولا يزال به حتى يعود إلى الأسباب فتصيبه كدرتها، وتغشاه ظلمتها، ويعود الدائم في سببه أحسن حالاً منه. وإنما يقصد الشيطان بذلك أن يمنع العباد من الرضا عن الله تعالى فيما هم فيه، وأن يخرجهم عما اختار الله لهم إلى مختارهم لأنفسهم، وما أدخلك الله تعالى فيه .. تولى إعانتك عليه، وما دخلت فيه بنفسك .. وكلك الله إليه: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} فالمدخل الصدق: أن تدخل فيه لا بنفسك، والمخرج الصدق: أن تخرج منه لا بنفسك. قوله: (أو لتماهن) وهو الاحتقار والصغار والعجز؛ أي: ومن مكائد العدو وتلبيسه أن يحث المقبل على الله تعالى بالطاعة على ترك جانب الله تعالى، وترك الاجتهاد في العبادة؛ موهماً بتلبيسه أن هذا مقام التوكل على الله، وفتح باب الرجاء، وحسن الظن بربه، وإنما هو عجز ومهانة، وميل إلى الكسل، وطلب الراحة. ومن وفقه الله تعالى .. يلهمه البحث عن هذين الأمرين؛ اللذين يأتي بهما الشيطان في

صورة غيرهما؛ كيداً منه لعله أن يسلم منهما، ومن تمويهه واغتياله ومكائده، أعاذنا الله تعالى منها وأولادنا وإخواننا وجميع المؤمنين والمؤمنات. ثم يعلم مع بحثه عنهما أنه لا يكون في ملكه تعالى إلا ما يشاؤه ويريده، فعلمنا بما لا يريده هباء منثور، يفعل بعباده ما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد، سواء أكان أصلح لهم أم لم يكن؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. والألف في قول الناظم: (يفصلا) و (ينزلا) و (آثرا) و (تعسرا) للإطلاق، وقوله: (يلهم) ببنائه للفاعل أو المفعول، فـ (البحث) على الأول منصوب، وعلى الثاني مرفوع، وفي بعض النسخ بدل (طرح): (ترك). (والحمد لله على الكمال ... سائل توفيق لحسن الحال) (ثم الصلاة والسلام أبدا ... على النبي الهاشمي أحمدا) (والآل والصحب ومن لهم قفا ... وحسبنا الله تعالى، وكفى) قد تقدم الكلام على الحمد والصلاة في أول الكتاب، و (الهاشمي): نسبة لبني هاشم. والألف في (أحمدا) للإطلاق، وقوله: (قفا) بمعنى تبع. كان الفراغ من تعليقه من نسخة مؤلفة في يوم الاثنين المبارك سادس عشرين في شهر شوال سنة تاريخه سنة أربعة وسبعين وتسع مئة. والحمد لله وحده تمت بعون الله تعالى

§1/1