فتاوى الشيخ ابن جبرين

ابن جبرين

فتاوى في المسح على الخفين

فتاوى في المسح على الخفين مقدمة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي سهل طريق العبادة، ورفع الحرج عن أهل الأعذار للوصول إلى طريق السعادة، ووفق الصالحين من الخلق لامتثال ما أحبه وأراده. أحمده وأشكره، وأرجو على شكره الزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأؤمل الوفاة على هذه الشهادة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وسلم تسليما كثيرا أما بعد: فقد رغب إلي بعض الإخوة الصالحين -ولا نزكي على الله أحداً- أن أجيب على أسئلة مهمة تتعلق بالمسح على الخفاف والجوارب، وما يلحق بها، فأجبته إلى ذلك رجاء أن ينفع الله بها، وذلك لكثرة الخطأ فيها، ووقوع التساهل من كثير من الناس فيما يتعلق بالمسح، مع أن العلماء رحمهم الله تعالى قد كفوا غيرهم، وأولوا هذا الموضوع اهتماماً كبيراً، ولكن كلامهم في أثناء كتب الفقه، وهو بأسلوب علمي، قد لا يفهمه العامة، فكان من الأولى إفراد الموضوع بكتابة تطبع في رسالة مفردة، يسهل حملها مع الراكب والنازل، وتوزع على العاملين في مكاتبهم، وأماكن تجمعهم، رجاء أن يتنبهوا إلى ما يقعون فيه من الخطأ الذي قد يوقع في إبطال الطهارة، ثم إبطال الصلاة، وحيث إن الكثير من هذه المسائل يوجد فيها اختلاف قديم وحديث بين المشايخ والفقهاء، فإني أختار ما ترجح عندي بالدليل أو النظر، مستشهداً بكلام العلماء الذين قد أولوا هذا الموضوع عناية واهتماماً، فإنهم قدوة لمن بعدهم، فقد شهد لهم من بعدهم بالعلم والإدراك، وقوة الفهم، وسعة الاطلاع، بحيث بذلوا وسعهم في البحث عن المسائل والوقائع والأدلة، واستنبطوا من النصوص الفوائد، وطبقوا عليها الوقائع فجزاهم الله أحسن الجزاء، وأعظم أجرهم.

ثم إن الإخوة قد صاغوا أسئلة تتعلق بالمسح على الحوائل من الخفاف والجوارب، والعمامة والجبيرة، ونحوها، وقد أجبت على تلك الأسئلة، وأحياناً أعدت صياغتها، ورتبتها حسب ترتيب الفقهاء مسائل هذا الباب في كتب الفقه، وأشهرها عند فقهاء هذه البلاد كتاب "المقنع" لابن قدامة رحمه الله، فقد سار من بعده من الحنابلة على ترتيبه غالباً، واشتهر من الشروح كتاب "الروض المربع"، شرح مختصر المقنع، وهو أكثر الشروح تداولاً بين الطلاب والعلماء، فحرصت على السير على ترتيب مسائله حسب القدرة، وهذا ما وصل إليه الاجتهاد، ولكل مجتهد نصيب، والله المسؤول أن يعم بنفعه المسلمين، وأن يتقبله، وأن يرزقنا الاحتساب لما عنده من الثواب، وأن يجزل الأجر لعلماء الأمة الإسلامية إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الشيخ الوالد عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله ورعاه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فأسأل الله لكم التوفيق والعون والسداد وأن يجعل بذلكم للعلم في ميزان حسناتكم. أيها الشيخ الكريم، كثر السؤال أخيراً عن مسائل في الخفين وفي العمامة والجبيرة، بالنسبة للمريض والمقيم والمسافر، فأشكلت على الناس كثرة هذه الأسئلة مع أن بعضها غالباً يرجع إلى بعض، وأشكلت على بعض طلاب العلم تكرر الأسئلة بصيغ مختلفة، مع أن المضمون واحد في كثير من الأحيان؛ لذا رأيت -فضيلة الشيخ-جمع فتاوى في المسح في كتيب للأسباب التالية: أولاً: أنه لم يصدر كتيب أو كتاب يتضمن فتاوى في المسح على الخفين، والعمامة، والرأس، والجبيرة، والقلانس واللصقة الطبية ونحو ذلك، ولذا فسيكون هذا الكتيب -إن شاء الله- حاوياً لكل هذه المسائل.

ثانياً: أن هناك فئة من الناس يلبسون الخفين على مدار السنة؛ كالموظفين في القطاعات العسكرية، وكأصحاب بعض المهن، ولذا فسيكون هذا الكتيب مرجعاً وافراً إن شاء الله تكرر طبعه الشؤون الدينية في كل القطاعات العسكرية. مع ملاحظة -فضيلة الشيخ حفظك الله- أن الأسئلة اجتهادية، ولك مطلق الحرية -حفظك الله- في الزيادة والحذف، وإعادة الصياغة، وكل ما يعين على إخراج الرسالة بصورة مشرفة، والله يرعاك ويسدد على الخير خطاك. وقد رأى بعض الأفاضل تسمية هذه الرسالة بـ (ستون سؤالاً في المسح) . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،، ابنكم المحب طارق بن محمد الخويطر المدرس بمعهد القرآن الكريم بالحرس الوطني

السؤال:- ما حكم المسح على الخفين مع ذكر الأدلة؟ الجواب:- المسح على الخفين ونحوهما جائز، ورخصة وتوسعة من الله تعالى على المسلمين في الطهارة الصغرى، وعليه أهل السنة والجماعة، وقد خالف في حكمه الخوارج والرافضة، ونحوهم من المبتدعة، ولذلك ذكر العلماء هذه المسألة في كتب العقائد، فقد ذكرها الطحاوي في عقيدته، والبربهاري في السنة، وغيرهما، كما ذكر الإمام أحمد في رسالة السنة عن الخوارج أنهم ينكرون المسح على الخفين. وقد روى البيهقي في سننه عن عبد الله بن المبارك رحمه الله، قال: ليس في المسح على الخفين عندنا خلاف أنه جائز، وإن الرجل ليسألني عن المسح، فأرتاب به أن يكون صاحب هوى. وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما وقفوا. وروى ابن المنذر عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين.

وقد روى أكثر تلك الأحاديث أئمة المحدثين، فقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" مرفوعاً عن ثمانية عشر صحابياً، وهم عوف بن مالك، وأبو أيوب، وحذيفة، والمغيرة، وجرير، وبلال، وبريدة، وخزيمة، وسعد بن أبي وقاص، وعلي، وصفوان بن عسال، وسلمان، وأبو عمارة الأنصاري، وعمر، وعمرو بن أمية، وأبو بكر، وأبو هريرة، وجابر، رضي الله تعالى عنهم. ورواه موقوفاً عن عمر، وسعد، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعلي، وأبي موسى، وجابر ابن سمرة، وعبد الله بن عمر، وسمرة، وأبي أيوب، وقيس بن سعد، وأنس، وأبي مسعود، وحذيفة، والمغيرة، والبراء، وجرير، وأبي بكرة، رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء قد روي عن بعضهم مرفوعاً، وذكر الترمذي في سننه أن في الباب عن عشرين صحابياً، فسرد أسماءهم، ولم يورد أحاديثهم، وأشار لأكثرها الشارح، وسرد البيهقي في "سننه الكبرى" من روى عنهم جواز المسح، فزادوا على العشرين. وأورد الزيلعي في "نصب الراية" ما وقف عليه من تلك الأحاديث وألفاظها، وغالب تلك الأحاديث صحيح ثابت. ومنها حديث جرير بن عبد الله رضي الله عليه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال إبراهيم النخعي: وكان يعجبهم هذا؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. (متفق عليه) . وفي رواية النسائي: وكان أصحاب عبد الله يعجبهم قول جرير، وكان إسلام جرير قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيسير. ولأحمد عن جرير، قال: ما أسلمت إلا بعد أن أنزلت المائدة؛ وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت.

ومنها حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم. رواه أحمد وابن أبي شيبة، والدارقطني، والبزار وغيرهم. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، قال الإمام أحمد: هذا من أجود الأحاديث في المسح، لأنه في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر فعله، ذكره عبد الله بن أحمد في "مسائله" عن أبيه. وقد استنبط ذلك بعض العلماء من القرآن الكريم من آية المائدة، فإن قوله تعالى: (وأرجلكم إلى الكعبين) فيها قراءتان: بالجر للأرجل، فيحمل على ما إذا كانت في الخفاف، ونصب الأرجل، فيراد به الغسل، حذاراً من أن تخلو إحدى القراءتين من الفائدة، والله أعلم.

السؤال:- نرى بعض الناس لا يمسحون على الخف، بحجة أن الموجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصنوع من الجلد فما رأيكم؟ الجواب:- الأصل في الخف أنه يخرز من الأدم كالنعال، سواء من جلود الإبل -وهو الغالب لقوتها- أو من جلود البقر أو الغنم، ثم يجعل له غطاء من جلد، ليستر القدم إلى مستدق الساق ويربط فوق الكعبين بسير أو خيط قوي، حتى يتمكن من مواصلة المشي فيه. ولكن الرخصة تعم ما يشبه هذا الخف، من المصنوعات الجديدة إذا كانت تستر القدم كله إلى منتهى الكعبين، فيدخل في ذلك ما يسمى بالكنادر الساترة للقدم، والبساطر، وأنواع هذه الأحذية الساترة؛ لأنها معمولة من الجلود أو من الربل، أو نحو ذلك. وتحصل التدفئة بها، ويمكن المشي فيها، ولا يخرقها الماء ولا الهواء. والحاجة داعية إلى لبسها في شدة البرد، ولا دليل على التخصيص بالجلود؛ لأن القصد موجود والصفة في الخفين تنطبق على ما يشبهها من المعمولات الجديدة تكون على شكل لباس قوي ساتر لمحل الفرض، والله أعلم

السؤال:- ما شروط المسح على الخفين؟ الجواب:- اشترط العلماء خمسة شروط: الأول: أن يكون طاهرا ً، فلا يمسح على النجس، سواء طرأت عليه النجاسة بأن تلوث بها بعد لبسه، أو علقت به كبول ورجيع نجس، أو كان نجساً من أصله؛ كجلد كلب أو سبع أو جلد ميتة قبل الدبغ، لأنه والحال هذه يصلي وهو حامل نجاسة عينية، وذلك مبطل للصلاة. الثاني: الإباحة، فيخرج المغصوب والمسروق لوجوب رده، مع الخلاف القوي في الصلاة مع الإثم، كما لا يمسح على ما يحرم استعماله لذاته كالحرير للرجال والإستبرق والديباج والمموه بذهب ونحوه، لورود المنع من استعمال ذلك. الثالث: أن يكون الخف ساتراً للقدم الواجب غسله، أي إلى منتهى الكعبين، فلا يصح المسح على ما يستر بعض القدم، كالكنادر التي تستر ما تحت الكعبين، وما يرى منها بعض القدم، كأن يكون أعلاها واسعاً لا ينضم على الساق، بل يبرز الكعب أو يرى من أعلى الخف لعدم التصاقه بالساق، فإنه يكون بارزاً وفرضه الغسل، ولا يمكن الجمع بين الغسل والمسح، ولأنه لا يحصل به الغرض من التدفئة المطلوبة من لباسه. الرابع: أن يثبت بنفسه، ويمكن المشي فيه ولو بربطه بخيط ونحوه، فإن كان يسقط مع المشي لم يجز المسح عليه لعدم ثباته، ولأنه لا يحصل القصد من لباسه الذي هو الستر والتدفئة ووقاية القدم من البرد والثلج، فلابد أن يستمسك على القدم، ومن نفى هذا الشرط -كشيخ الإسلام- فإنما أراد نفي اشتراط ثبوته بنفسه، ولم ينف ثبوته بالربط؛ كالزربول الذي لا يستر القدم إلا بشده بسير ونحوه.

الخامس: لبسه بعد كمال الطهارة، فمن لبس الخف وهو محدث، لم يمسح عليه إذا توضأ بعد لبسه، فقد ثبت في الصحيح عن المغيرة بن شعبة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهما، فإني ادخلتهما طاهرتين" وفي رواية أبي داود: "دع الخفين، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان" فمسح عليهما، وهذا الشرط يقول به الجمهور استدلالاً بالسنة، ولا عبرة بالأقوال الشاذة التي تخالف الأدلة، والله أعلم.

السؤال:- هل المسح على الخفين يعد رافعاً أو مبيحاً؟ الجواب:- المختار أنه رافع مؤقت، بمعنى أن من مسح على خفيه، ارتفع حدثه زمن لبسه لهما، وصح أن يصلي بهما حتى يحدث، فيعيد الوضوء والمسح، فمتى انقضت المدة المحددة للمسح بطل أثر المسح، ولزمه الخلع وإعادة الوضوء. فمثال ذلك: لو لبسهما وقت صلاة الصبح ونام بعد الصلاة، ومسح لصلاة الظهر ثم جلس في المسجد بعد الصبح، فليس له صلاة الإشراق بذلك الوضوء في اليوم الثاني حيث إن المدة هي يوم وليلة بعد الحدث انتهت بوقت نومه من الأمس، فعليه الخلع وتجديد الوضوء، وهكذا لو خلع الخفين بعد مسحها من حدث، فإنه يبطل. فارتفاع الحدث بالمسح مؤقت بلبسها وبقاء المدة المحددة، ثم يبطل أثر المسح.

السؤال:- ما الفرق بين الخف والجورب؟ الجواب:- الفرق بينهما في الصفة ظاهر، فإن الخف هو ما يعمل من الجلود، فيفصل على قدر القدم ويخرز له موطئ كالنعل، ثم يربط به جلد غليظ فوقه يستر القدم مع الكعبين، ويربط بخيط على مستدق الساق، ويلحق به أيضاً ما يصنع من الربل والباغات الغليظة التي تفصل بقدر القدمين، ويحصل بها المقصود من الستر والتدفئة، سواء سميت كنادر وبسطاراً أو جزمة أو غير ذلك. ويدخل في الخف ما يسمى بالموق والجرموق والزربول ونحو ذلك مما يخرز على قدر القدم والساق، ويثبت بنفسه ويلبس للتدفئة. أما الجورب، فهو في الأصل ما ينسج من الصوف الغليظ ويفصل على قدر القدم إلى الساق، ويثبت بنفسه ولا ينعطف ولا ينكسر لمتانته وغلظه، فهو إذا لبس وقف على الساق ولم ينكسر. والعادة أنه لا يخرقه الماء لقوة نسجه، ويشبه بيوت الشعر التي تنصب للسكنى ولا يخرقها المطر، فكذلك الجوارب في ذلك الوقت، حتى إنها لغلظها يمكن مواصلة المشي فيها بدون نعل أو كنادر، ولا يخرقها الماء، ولا يتأثر من مشى بها بالحجارة ولا بالشوك ولا بالرمضاء أو البرودة. واختلف: هل يشترط أن تنعل، أي يجعل في موطئها نعل أي جلد غنم أو إبل يخرز في أسفلها، فاشترط ذلك بعض العلماء الذين أجازوا المسح على الجوارب، قال الموفق في "المغني": وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي: لا يجوز المسح عليهما إلا أن ينعلا؛ لأنهما لا يمكن متابعة المشي فيهما، فلم يجز المسح عليهما كالرقيقتين أ. هـ. وقال الدردير في "الشرح الصغير": ومثل الخف الجورب، وهو ما كان من قطن أو كتان أو صوف جلد ظاهره أي كسي بالجلد بشرطه الآتي، فإن لم يجلد، فلا يصح المسح عليه أ. هـ.

ثم ذكر الشرط بقوله: بشرط جلد طاهر، خرز وستر محل الفرض، وأمكن المشي فيه عادة بلا حائل. وذكر في الشروط كونه جلداً، فلا يصح المسح على غيره، وأن يكون طاهراً فلا يمسح على جلد الميتة، وأن يكون له ساق ساتر لمحل الفرض، وأن يكون مخروزاً، لا أن لزق بنحو رسراس، وأن يمكن المشي فيه احترازاً من الواسع الذي ينسلت من الرجل عند المشي فيه. وقال الكاساني في "البدائع": وأما المسح على الجوربين فإن كانا مجلدين أو منعلين، يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا، وإن لم يكونا مجلدين ولا منعلين، فإن كانا رقيقين يشفان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع، وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: يجوز ... وعند الشافعي: لا يجوز المسح على الجوارب، وإن كانت منعلة، إلا إذا كانت مجلدة إلى الكعبين ... إلخ. وقد تبين من هذه النقول ونحوها أن الجورب لابد أن يكون صفيقاً يمكن المشي فيه وحده. وقال ابن القيم في: "حاشية سنن أبي داود": وأيضاً فإن الجلد الذي في أسفل الجورب لا يسمى فعلها في لغة العرب ولا أطلق عليه أحد هذا الاسم آه وهو دليل على أن الجوارب المعروفة يوجد في أسفلها جلد يمكن من المشي فيها بلا نعل أو جزمة. وقد استدل للمسح على الجوارب بحديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين، حسَّنه الترمذي، لكن ضعفه الجمهور وصححوا أنه خطأ من الراوي، كما نبه على ذلك الإمام مسلم في كتابه "التمييز" المطبوع، ورجح الخطأ النووي في "المجموع" وغيره، وضعف الحديث الثوري وابن مهدي وابن المديني وأحمد وابن القطان، وهؤلاء أمكن من الترمذي الذي حسنه.

وقد اعتمد الإمام أحمد في إباحة المسح على الجوارب ونحوها على ما روي عن الصحابة، فقد ذكر أبو داود تسعة من الصحابة مسحوا عليها، وزاد الزركشي أربعة، أي ثلاثة عشر صحابياً، ولكن قد ذكرنا أن الجوارب في عهدهم كانت غليظة قوية، ولهذا قال الخرقي في "المختصر": وكذلك الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه. قال في "المغني": إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرناهما في الخف: أحدهما أن يكون صفيقاً لا يبدو منه شيء من القدم. الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه. قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل: إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه، فلا بأس، وفي موضع قال: يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب، وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه، فلا ينثني، فلا بأس بالمسح عليه، فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء، ولا يعتبر أن يكونا مجلدين. ثم ذكر أن المسح عليهما عمدته فعل الصحابة، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً، ولأنه ساتر لمحل الفرض.

وحيث إن الخلاف في المسح على الجوارب قوي، حيث منعه أكثرهم، واشترط بعضهم أن يكون مجلداً، أي في أسفله جلدة من أدم مربوطة فيه لا تفارقه، وكذا اشترط الباقون أن يكون صفيقاً يمكن المشي فيه بلا نعل أو جزمة، وأن يكون صفيقاً لا يخرقه الماء، فإن هذا كله مما يؤكد على من لبسه الاحتياط وعدم التساهل، فقد ظهرت جوارب منسوجة من صوف أو قطن أو كتان، وكثر استعمالها، ولبسها الكثيرون بلا شروط، رغم أنها يخرقها الماء، وأنها تمثل حجم الرجل والأصابع، وليست منعلة، ولا يمكن المشي فيها، بل لا يواصل فيها المشي الطويل إلا بنعل منفصلة أو بكنادر أو جزمة فوقها، وهكذا تساهلوا في لبس جوارب شفافة قد تصف البشرة، ويمكن تمييز الأصابع والأظافر من ورائها، ولا شك أن هذا الفعل تفريط في الطهارة، يبطلها عند كثير من العلماء، حتى من أجازوا المسح على الجوارب، حيث اشترطوا صفاقتها وغلظها، واشترط أكثرهم أن تكون مجلدة أو يمكن المشي فيها. قال النووي رحمه الله في "الروضة": فلا يجوز المسح على اللفائف والجوارب المتخذة من صوف ولبد، وكذا الجوارب المتخذة من الجلد الذي يلبس مع الكعب.. لا يجوز المسح عليها حتى يكون بحيث يمكن متابعة المشي عليها، ويمنع نفوذ الماء إن شرطناه، إما لصفاقتها، وإما لتجليد القدمين والنعل على الأسفل ... إلخ.

السؤال:- ما حكم لبس الخفين لمن به سلس البول؟ الجواب:- يجوز له لبس الخفين وما يلحق بهما، فهو كغيره تشتد حاجته إلى التدفئة والوقاية من البرد والثلج ونحو ذلك وقد يكون أشد حاجة من غيره، حيث إنه يتكرر منه الوضوء لكل صلاة بعد دخول وقتها، ولابد أن يغسل قدميه، فلذلك يحتاج إلى لبس الخفين لتخفيف الضرر. ثم إن بدء التوقيت في حقه يكون من أول حدث بعد لبس، ولو قبل الصلاة، فلو توضأ للظهر فلبس الخفين وخرج منه بول أو دم قبل الصلاة فإنه يمسح عليها إلى غد، ويخلعها في الوقت الذي أحدث فيه بالأمس بعد اللبس، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم المسح على الخف الذي لا يثبت بنفسه كأن يكون واسعاً؟ الجواب:- تقدم في السؤال الثالث اشتراط أن يثبت الخف بنفسه في القدم، وأن يمكن المشي فيه. فمتى كان واسعاً، يسقط من القدم عند المشي، لم يجز المسح عليه. وكذا لو ثبت، لكن يظهر من القدم بعض محل الفرض، بحيث يمكن أن تدخل الأصابع أو اليد بينه وبين القدم؛ لأنه غير ساتر لمحل الفرض، فلابد أن يستر القدم، وينضم أعلاه على ما فوق الكعبين، ولو بشرجه بخيط، أو بانضمامه إلى بعضه.

السؤال:- ما حكم المسح على خف فيه صور؟ الجواب:- لا شك في تحريم التصوير لذوات الأرواح ووجوب طمسها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدع صورة إلا طمستها". (رواه مسلم) . ولحديث: "كل مصور في النار". (رواه مسلم) . ولكن ورد في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها سترت سهوة لها بقرام فيه تصاوير، فأنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنها جعلت منه وسادة أو وسادتين منبوذتين توطآن. (رواه البخاري ومسلم) ، وفيه دليل أن ما كان ممتهناً يجوز استعماله ولو كان فيه صورة، فإذا كانت الصور في أسفل الخف أو الجورب تباشر الأرض، فهي ممتهنة، وإن كانت في ظاهر الخف، فلا يجوز لبسه، حتى تمحى أو يزال منها ما لا تبقى معه الحياة.

السؤال:- ما حكم المسح على الخف أو الجورب الشفاف؟ الجواب:- الشفاف هو الذي يشف عما تحته، فإن كان ذلك لخفته ورقته، فلا يمسح عليه، فإنه لا يستر القدم، ولا تحصل به التدفئة، ولا يمنع من الثلج والبرد، فلا فائدة في لبسه، بل لو لف على قدميه لفائف صفيقة، وأمكن المشي فيها، كانت أولى من الجوارب الرقيقة ونحوها. أما إن كان ذلك لصفائه مع ثخانته، فلا مانع من المسح عليه، كالمعمول من الباغات والربل والزجاج الرقيق، بحيث يمكن لبسه ومواصلة المشي فيه، ويحصل به المقصود من اللبس؛ كالتدفئة والوقاية من الحفاء والبرد ونحوه، ولكن لم يكن معتاداً صناعة الخفاف والجوارب من الزجاج والباغات ونحوها، فإنها تمنع دخول الهواء والريح ويكون لها بعد الخلع رائحة مستكرهة في مشام الناس.

السؤال:- ما الأفضل الغسل أو المسح؟ الجواب:- الأفضل المسح عملاً بالسنة، ولحديث: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم". فمتى لبس الخفين أو الجوربين الصفيقين، وكان محتاجاً للبسهما، وأحدث بعد اللبس فتوضأ، فإنه يجوز له خلعها وغسل القدمين، ولكن يفضل تركهما والمسح عليهما أخذاً برخصة الله تعالى، ومخالفة لمن أنكر المسح؛ كالرافضة والخوارج، ورفقاً بنفسه، ودفعاً للحرج والشدة.

السؤال:- ما الحكم فيمن لبس الخف ليمسح عليه؟ الجواب:- يكره ذلك، فإن الأصل هو غسل القدمين، فمن لبس خفيه لقصد سقوط الغسل، لا لحاجته إليهما، فقد أخطأ. ولهذا قال ابن القيم في "زاد المعاد": فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين، إلى أن قال: ولم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ولم يلبس الخف ليمسح عليه. وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل قاله شيخنا أ. هـ. وقال البعلي في "الاختيارات": وهل المسح أفضل، أم غسل الرجلين، أم هما سواء؟ ثلاث روايات عن أحمد، والأفضل في حق كل أحد بحسب قدميه، فللابس الخف أن يمسح عليه، ولا ينزع خفيه اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولمن قدماه مكشوفتان الغسل، ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح إذا كان لابس الخفين أ. هـ. ونقل ذلك الشيخ ابن قاسم في "حاشية الروض المربع" عند قول الشارح: ولا يُسَنُّ أن يلبس خفاً ونحوه ليمسح عليه كالسفر ليترخص إلخ. يعني أنه يكره للمسلم السفر لأجل أن يتمتع برخصة من الفطر والقصر والجمع ونحوها، إذا لم يكن له غرض في السفر سوى التمتع بالرخص، فكذا من لا حاجة به إلى لبس الخف أو الجورب، وإنما قصد بلبسه سقوط غسل القدمين، مع أن فرضهما الغسل، وإنما المسح على الخفين رخصة عند الحاجة، والله أعلم.

السؤال:- كم مدة المسح للمقيم والمسافر؟ الجواب:- ورد التوقيت في السنة النبوية المشهورة؛ فروى مسلم وأحمد وأهل السنن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن شريح بن هانئ سأله عن المسح على الخفين، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة". وعن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما. ورواه الشافعي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والدارقطني وغيرهم وصححه الخطابي كما في "المنتقى". وعن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسح على الخفين، فقال: "للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". رواه أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي. وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة. رواه الترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم. وغير ذلك من الأدلة. وقد صرح بذلك الفقهاء؛ قال ابن القيم في "زاد المعاد": ووقت للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاث أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح. وذكر ذلك الخرقي في "المختصر"، وابن قدامة في كتبه وابن أخيه في "الشرح الكبير"، والمرداوي في "الإنصاف والبرهان في "المبدع" وغيرهم. فأما حديث أبي بن عمارة أنه قال: يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: "يوماً"؟ قال: يوماً، قال: ويومين؟ قال: "ويومين". قال: وثلاثة أيام؟ قال: "نعم، وما شئت". رواه أبو داود، وقال: قد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي، فهو حديث ضعيف.

وقد حكى الموفق في "المغني" وتبعه صاحب "الشرح الكبير" عن الليث أنه يمسح ما بدا له. قال: وهو قول أكثر أصحاب مالك، وكذلك قول مالك في المسافر، وعنه في المقيم روايتان، وذلك لما روى أُبي بن عمارة ... ولأنه مسح في طهارة، فلم يوقت كمسح الرأس والجبيرة. ثم ذكر أدلة القول بالتوقيت، ثم قال: وحديثهم ليس بالقوي، وقد اختلف في إسناده، قاله أبو داود. ويحتمل أنه قال: وما شئت من اليوم واليومين والثلاثة، ويحتمل أنه يمسح ما شاء إذا نزعها عند انتهاء مدته، ثم لبسها. وقياسهم منقوض بالتيمم، ومسح الجبيرة عندنا مؤقت بإمكان نزعها أ. هـ. وقد أباح شيخ الإسلام عدم التوقيت عند الضرورة؛ كأصحاب البريد إذا خاف الانقطاع، ومن عدو أو سبع، ويكون الماء بارداً لا يمكن معه غسلهما. ويلحق بالمقيم من سافر سفر معصية على المشهور عند الفقهاء، ومنع بعضهم مسحه مطلقاً، ورجح آخرون أن له المسح كالمسافر، والله أعلم.

السؤال:- ما صفة المسح على الخفين؟ الجواب:- المسح في الأصل هو إمرار اليد على الممسوح، وقد أطلق مسح الخفين في أغلب الأحاديث، فذهب بعض العلماء أو أكثرهم إلى جواز المسح على أي صفة، سواء عمم الخف فمسح أعلاه وأسفله، أو اقتصر على أعلاه، لكن الجمهور على أن المشروع مسح أعلاه من رؤوس الأصابع إلى الساق دون أسفله وعقبه، وذلك لحديث علي رضي الله عنه، قال: لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه؛ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه. رواه أبو داود والدارقطني. قال الحافظ في "التلخيص": إسناده صحيح. وروى أحمد وغيره عن المغيرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما، وحسنه الترمذي. وذكر الموفق في "المغني" أن الخلال روى بإسناده عن المغيرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الخفين، فوضع بيده اليمنى على خفه الأيمن ووضع يده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، حتى كأني أنظر إلى أثر أصابعه على الخفين. وروى ابن ماجة برقم (551) عن جابر، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يغسل خفيه، فقال: "إنما أمرت بالمسح".. وقال بيده هكذا من أطراف الأصابع إلى أصل الساق وخطط بالأصابع، وفي سنده بقية وهو متكلم فيه. وفي "الشرح الكبير" عن ابن عقيل، قال: سنة المسح هكذا، أن يمسح خفيه بيديه: باليمنى اليمنى، وباليسرى اليسرى.

وقال أحمد: كيفما فعلت، فهو جائز باليد الواحدة أو باليدين، وإن مسح بأصبع أو بأصبعين أجزأه إذا كرر المسح بها حتى يصير مثل المسح بأصابعه، ولا يسن مسح أسفله ولا عقبه. ثم ذكر أن بعض الصحابة والأئمة كمالك والشافعي، قالوا: يمسح ظاهر الخفين وباطنهما، واستدلوا برواية عن المغيرة، قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح أعلى الخف وأسفله. رواه أهل السنن لكنه معلول، ضعفه أحمد والبخاري. وعلى هذا لا بد أن يمسح أكثر مقدم الخف الظاهر باليدين، ولا يجزئ القليل منه، ولا يحتاج إلى تكرار المسح كالرأس، ويجوز مسح كل خف بيديه جميعاً، كأن يبل يديه، فيمسح اليمنى، ثم يبلهما مرة ثانية فيمسح اليسرى، ليكون أبلغ في مسح ظاهر الخف وجانبيه، والله أعلم.

السؤال:- هل الأفضل مسح الخفين جميعاً بيديه، أو يبدأ بالرجل اليمنى ثم اليسرى؟ الجواب:- أكثر الأحاديث ذكر فيها المسح مطلقاً بدون بيان، فيظهر منها جواز مسحهما معاً بيديه: اليمنى باليد اليمنى، واليسرى باليد اليسرى، فيبلهما ويمر كل يد على خف مفرقة الأصابع، كما تقدم في حديث المغيرة الذي ذكره الموفق عن الخلال، ورواه البيهقي في "سننه"، وحيث إن الوارد هو المسح على الخفين أو الجوربين، فإن الأصل أجزاء مطلق المسح على أية صفة، فإن الله تعالى أمر بغسل اليدين والرجلين، ومع ذلك يشرع تقديم اليمنى على اليسرى، فإن مسح كذلك، فلا بأس، والله أعلم.

السؤال:- هل يسن تكرار المسح على الخفين ثلاثاً، قياساً على غسلهما؟ الجواب:- قال الموفق في "المغني" وابن أخيه في "الشرح": ولا يستحب تكرار مسحه؛ لأن في حديث المغيرة: "مسحة واحدة". روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس. وقال عطاء: يمسح ثلاثاً أ. هـ. وقال في "المطالب": وكره غسل الخف لعدوله عن المأمور، ولأنه مظنة إفساده، وكره أيضاً تكرار مسح الخف؛ لأنه في معنى غسله. أ. هـ. وحيث إن مسح الخف تعبد، فلا حاجة إلى تكراره، فليس القصد تطهيره ولا تحسينه ونظافته، حيث إنه لا يشرع تكراره ولا مسح أسفله الذي يلاقي التراب والغبار والأوساخ والرطوبات كثيراً، فدل على أن شرعية المسح من باب الامتثال والاتباع.

السؤال:- متى تبدأ مدة المسح؟ الجواب:- أكثر العلماء على أنها تبدأ من أول حدث بعد اللبس، ولا يحتسب بالمسح قبل اللبس؛ فمثلا: لو لبسهما متطهراً وقت الظهر، ولم يحدث إلا بعد صلاة العشاء في نصف الليل، ابتدأ المدة من الحدث الذي هو نصف الليل من القابلة، ولا يحتسب بنصف النهار قبل الحدث، وهو قول الشافعي. قال النووي في "شرح مسلم": ومذهب الشافعي وكثيرين أن ابتداء المدة من حيث الحدث بعد لبس الخف لا من حين المسح أ. هـ. وقال صاحب "الشرح الكبير على المقنع": ظاهر المذهب ابتداء المدة من الحدث بعد اللبس، وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي ثم ذكر الرواية الثانية، ثم قال: ووجه الرواية الأولى ما نقله القاسم بن زكريا المطرز في حديث صفوان: "من الحدث إلى الحدث"، ولأنها عبادة مؤقتة، فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة أ. هـ، وهكذا علل الزركشي في "شرح الخرقي"، واستدل أيضاً بقول صفوان: أمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثاً من غائط وبول ونوم. قال: ومقتضاه أنها تنزع لثلاث يمضين من ذلك، وفيه بحث أ. هـ. وهذا أشهر الروايتين واختيار الأصحاب وهناك رواية ثانية أن ابتداء المدة من المسح بعد الحدث لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المسافر ثلاثاً". ولو كان أوله الحدث، لم يتصور ذلك، إذ الحدث لا بد أن يسبقه المسح، وهو محمول على وقت جواز المسح، ويجوز أن يكون أراد بالخبر استباحة المسح دون فعله، فعلى هذا يمكن المقيم أن يصلي بالمسح ست صلوات، بأن يؤخر الظهر، فيصليها بعد الحدث، ثم في الثاني يصليها في أول وقتها قبل تمام المدة، والله أعلم.

السؤال:- إذا مسح على الخفين لتجديد الوضوء فهل تبتدئ مدة المسح؟ الجواب:- أكثر العلماء على أنها تبدأ من أول حدث كما سبق، وقيل: من أول مسح بعد الحدث. ولم أجد في المراجع لدي قولاً أنها تبدأ من المسح قبل الحدث، لكن قد يدخل في الرواية الثانية التي استدل لها بقوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المقيم يوماً وليلة" أن يقال: المسح يعم المسح قبل الحدث وبعده. وقد ذكر الموفق في "المغني" عن الشعبي وإسحاق وأبي ثور أن المسح للمقيم خمس صلوات، وهو يعم ما قبل الحدث، ولا دليل على ذلك، والله أعلم.

السؤال:- هل تقدر مدة المسح على الخفين بالزمان أو بعدد المسحات؟ الجواب:- تقدر بالزمان الذي هو أربع وعشرون ساعة، للمقيم تمام يوم وليلة بعد أول حدث، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، أي ثنتان وسبعون ساعة بعد أول مسح على القول الثاني، وهو من المفردات في المذهب، قاله صاحب "الإنصاف"، قال ابن قدامة في "الشرح الكبير": أما تقديره بخمس صلوات، فلا يصح؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم قدره بالوقت دون الفعل. وقال صاحب "الإنصاف": يتصور أن يصلي المقيم بالمسح سبع صلوات، مثل أن يؤخر صلاة الظهر إلى وقت العصر لعذر يبيح الجمع من مرض ونحوه، ويمسح من وقت العصر، ثم يمسح إلى مثلها من الغد، ويصلي العصر قبل فراغ المدة، فتتم له سبع صلوات، ويتصور أن يصلي المسافر بالمسح سبع عشرة صلاة، كما قلنا في المقيم. أ. هـ.

السؤال:- هل تزيد مدة المسح مع المشقة؟ الجواب:- نعم، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام في "الفتاوى 21/215" لما ذهب على البريد من الشام إلى مصر، وانقضت مدة المسح، فلم يمكن النزع والوضوء إلا بالانقطاع عن الرفقة، أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف، فغلب على ظنه عدم التوقيت عند الحاجة كما في الجبيرة، واستدل بحديث عقبة بن عامر لما فتحت دمشق وذهب على البريد يبشر عمر بذلك، فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ قال: منذ يوم الجمعة. قال: أصبت السنة. وقد روى أبو داود عن أُبي ابن عمارة أنه قال: يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: "نعم". قال يوماً؟ قال: "نعم". قال: ويومين؟ قال: "نعم". قال: وثلاثة أيام؟ قال: "نعم وما شئت". قال أبو داود: وليس بالقوي، وقال أحمد: رجاله لا يعرفون. وحمل على صاحب البريد الذي يشق عليه النزول والخلع واللبس. قال شيخ الإسلام: فالخف الذي يتضرر بنزعه جبيرة. وضرره يكون بأشياء؛ إما أن يكون في ثلج وبرد عظيم، إذا نزعه ينال رجليه ضرر، أو يكون الماء بارداً لا يمكن معه غسلهما، فإن نزعهما تيمم، فمسحهما خير من التيمم، أو يكون خائفاً إذا نزعهما وتوضأ من عدو أو سبع أو انقطاع عن الرفقة في مكان لا يمكن السير وحده ... ويلحق بذلك إذا كان عادماً للماء ومعه قليل يكفي لطهارة المسح لا لطهارة الغسل، فإن نزعهما تيمم، فالمسح عليهما خير من التيمم. أ. هـ.

السؤال:- من أبيح له التيمم، هل له التقيد بمدة المسح؟ الجواب:- التيمم يباح لعادم الماء، وللمريض الذي يضره استعمال الماء، أو لا يقدر على الوضوء ونحوه، فأما عادم الماء، فلا حاجة له إلى نزع الخف الذي لبسه اتقاء البرد ونحوه، فإن نزعه إنما يكون لغسله بالماء وهو لا يجد الماء، فله تركه ولو بقي شهراً أو أكثر حتى يجد الماء، فهناك يلزمه الوضوء وغسل قدميه، ثم لبس الخفين بعد الطهارة بالماء، فإن التيمم بالتراب إنما يمسح فيه الوجه واليدان دون الرجلين.

السؤال:- ما الحالات التي يجب فيها نزع الخفين قبل انتهاء مدة المسح؟ الجواب:- أولاً: إذا أجنب في سفر أو حضر بجماع أو احتلام، فقد اتفق العلماء على أن الجنب يخلع خفيه للاغتسال، وذلك لأن الجنابة تحل البدن كله، ولا ترتفع إلا بالغسل الكامل الذي يعم جميع البدن، ولا مشقة في نزع الخفين وغسل القدمين. وفي حديث صفوان بن عسال: "ولا نخلعهما إلا من جنابة". (رواه أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي وغيره) . وثانياً: إذا لبس خفاً فوق خف قبل الحدث، ثم نزع أحدهما بعد الحدث، لزمه خلع الثاني وإعادة الوضوء الكامل، فإن خلعه بعد المسح عليه، يبطل الطهارة. وثالثاً: إذا ظهر بعض محل الفرض، كما لو انحسر الخف أو الجورب، وبدا بعض القدم، فعليه خلعهما وإعادة الطهارة.

السؤال:- إذا شك في ابتداء المسح أو انتهائه فما الحكم؟ الجواب:- إذا شك: هل ابتدأ المسح مسافراً أو مقيماً، عمل بمسح مقيم احتياطاً للعبادة. وكذا لو شك متى كان ابتداء المدة، قال في "المطالب": وإن توضأ شاك في بقاء مدة المسح، فلا يمسح مقيماً كان أو مسافراً ما دام الشك لعدم تحقق شرطه، فإن مسح مع الشك فبان بقاء المدة، صح وضوءه لتحقق الشرط، ولا يصلي به قبل تبين بقاء المدة، فإن فعل أعاد، وإن لم يتبين بقاؤها لم يصح وضوءه أ. هـ. وصورة ذلك: أن يشك هل ابتداء مدة المسح في أول النهار أو في آخره، فعليه العمل بأنه في أوله، فلا يمسح لصلاة الضحى أو لصلاة الظهر، بل يخلع ويجدد الطهارة، فإن مسح وهو شاك، أعاد الصلاة.

السؤال:- إذا مَسَحَ مَسْحَ مقيم ثم سافر، فما الحكم؟ الجواب:- ذكر العلماء أنه يكتفي بيوم وليلة، فيخلع بعد تمام مدة المقيم. وصورة ذلك: إذا أحدث أول مرة في الضحى، ثم مسح لصلاة الظهر، ثم سافر بعد الصلاة وقبل العصر، ومسح للعصر في السفر، فإنه يتم مسح مقيم، فتنتهي مدة المسح في الضحى من اليوم الثاني. وهذا القول اختيار القاضي وجمهور أصحابه والموفق أبي محمد. وعلل الزركشي بأن المسح عبادة وجد أحد طرفيها في الحضر والآخر في السفر، فغلب جانب الحضر كالصلاة. وقال بعضهم: إن صلى بطهارة المسح في الحضر، غلب جانبه، وإن مسح ولم يصل إلا في السفر، أتم مَسْحَ مسافر على إحدى الروايتين. وقد روي عن أحمد رحمه الله أنه يتم مسح مسافر، ولو صلى في الحضر بالمسح، لدخوله في حديث "يمسح المسافر"، ولكن الجمهور على أنه يمسح مسح مقيم.

السؤال:- إذا مسح مسافر ثم أقام، فما الحكم؟ الجواب:- عليه أن يتم مسح مقيم؛ أي يخلع بعد تمام يوم وليلة بعد الحدث، كما لو لبس الخفين في السفر ضحى، ثم مسح للظهر، ثم وصل البلد وقت العصر، فإن المدة تنتهي بوقت الحدث بالأمس أو بوقت الظهر. هكذا نص الفقهاء كما في "المغني" و"الشرح الكبير" و"الفروع" و"المبدع" و"الإنصاف" و"الكشاف" و"المطالب" وغيرها، تغليباً لجانب الحضر. وهكذا لو مسح في السفر يوماً وليلة أو أكثر، ثم أقام، فإنه يخلع حين وصوله إلى البلد لتمام مدة المسح في الحضر.

السؤال:- ما الحكم فيمن شك: هل مَسَحَ مَسْحَ مقيم أو مسافر؟ الجواب:- سبق في السؤال 22 حكم من شك في ابتداء المسح أو انتهائه، وأنه يعمل بالأحوط. وهكذا من شك: هل ابتدأ المسح في السفر أو الحضر، يعمل بمسح الحضر، فإذا سافر وشك: هل مسح قبل السفر أو لم يمسح إلا بعد أن سافر، فالاحتياط أن يقدر أنه مسح قبل سفره، فيخلع بعد يوم وليلة من أول حدث بعد لبس، كما هو الراجح. وكذا لو أقام بعد السفر وشك: هل أكمل يوماً وليلة بعد الحدث، عمل بالأحوط، وقدر أنه قد أكمل المدة، وذلك للخروج من عهدة العبادة وتبرأ ذمته، ويعبد الله على يقين من الطهارة، ويسلم من الوسوسة في صحة العبادة أو بطلانها. وفيه رواية أخرى: أنه يتم مسح مسافر، لكن العمل على الأولى، كما ذكر ذلك في "الإنصاف" و"الشرح الكبير".

السؤال:- إذا انتهت مدة المسح وهو طاهر، فما الحكم؟ الجواب:- عليه أن يخلع الخفين ونحوهما، ويعيد الطهارة، ويغسل قدميه مع وضوئه، كما صرح بذلك الفقهاء رحمهم الله تعالى؛ قال الموفق في "المقنع": ومتى ظهر قدم الماسح أو رأسه، أو انقضت مدة المسح، استأنف الطهارة. قال في "الشرح": لأن المسح بدل عن الغسل، فمتى ظهر القدم، وجب غسله لزوال حكم البدل، كالمتيمم يجد الماء (وعنه يجزئه مسح رأسه وغسل قدميه) . وجملة ذلك أنه متى ظهر قدم الماسح بعد الحدث والمسح.. فالمشهور عن أحمد رحمه الله أنه يعيد الوضوء وعن أحمد أنه يجزئه غسل قدميه؛ لأن مسح الخفين ناب عن غسل الرجلين خاصة، فظهورهما يبطل ما ناب عنه.. وهذا الاختلاف مبني على وجوب الموالاة، فمن لم يوجبها في الوضوء جوز غسل القدمين؛ لأن سائر أعضائه سواهما مغسولة. ومن أوجب الموالاة، أبطل الوضوء لفوات الموالاة. ووجه الرواية الأولى أن الوضوء بطل في بعض الأعضاء، فبطل في جميعها.. إلى أن قال: وإذا انقضت مدة المسح، بطلت طهارته أيضاً، ولزمه خلع الخفين أو العمامة وإعادة الوضوء..

وعلى الرواية الثانية يجزئه مسح رأسه وغسل قدميه. والمختار الرواية الأولى؛ لأن غسل الرجلين شرط للصلاة، وإنما قام المسح مقامه في المدة، فإذا انتقضت المدة لم يجز أن يقوم مقامه إلا بدليل، ولأنها طهارة لا يجوز ابتداؤها، فمنع من استدامتها. وروي عن الحسن، قال: لا يبطل الوضوء، ويصلي حتى يحدث. وكذا لو خلع الخفين بعد المسح عليهما، فلا يتوضأ ولا يغسل قدميه، واختاره ابن المنذر؛ لأنه أزال الممسوح عليه بعد كمال الطهارة، أشبه ما لو حلق رأسه بعد مسحه، ونحوه قول داود، فإنه قال: ينزع خفيه ويصلي حتى يحدث؛ لأن الطهارة لا تبطل إلا بالحدث، والخلع ليس بحدث. وقال في "الاختيارات": ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ولا بانقضاء المدة، ولا يجب عليه مسح رأسه، ولا غسل قدميه، وهو مذهب الحسن البصري؛ كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور أ. هـ. وقد تبين مما تقدم أن في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: بطلان الوضوء بخلع الخفين والعمامة بعد المسح عليهما مطلقاً، وكذا بطلانه بانقضاء المدة. الثاني: أنه لا يبطل، لكن عليه أن يغسل قدميه، أو يمسح رأسه. الثالث: أن الوضوء لا يبطل في الحالين بل يستمر على طهارته حتى ينتقض الوضوء. والقول الأول هو المشهور عن أحمد، وقدمه أكثر الفقهاء في مؤلفاتهم، كما في "الإنصاف" وعللوا بما تقدم عن "الشرح الكبير" بأن المسح مؤقت، فبانقضاء مدته يبطل أثره، فكأنه لم يغسل قدميه حيث انتهت مدة المسح المحدد ومتى بطل المسح، بطل الوضوء كله، لاشتراط المولاة فيه، وهي منتفية لمن اقتصر على غسل قدميه بعد الوضوء بمدة طويلة يبست فيه أعضاؤه عادة. فعلى هذا لا بد من تجديد الوضوء بما فيه غسل القدمين.

فأما الرواية الثانية، وهي الاكتفاء بغسل القدمين، فهي لا تجوز إلا عند من لم يشترط الموالاة في الوضوء، والمشهور عند الإمام أحمد والفقهاء أن الموالاة ركن من أركان الوضوء، كما ذكر ذلك في موضعه. وأما قول الحسن وداود وما اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أن الطهارة باقية، حيث لم يحدث ما ينقضها، وحيث إن الحدث قد ارتفع، فلا يعود إلا بناقض من النواقض، وقالوا: إن انقضاء المدة أو خلع الخف لم يذكر مع نواقض الوضوء، وقاسوا ذلك على حلق الشعر بعد مسحه فأرى أن هذا فيه تساهل كثير، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد صلاحية هذا المسح بيوم وليلة، فهو دليل على انتهاء الصلاحية بعد انقضاء المدة، أو بعد الخلع وبقاء القدمين مكشوفين، فإن الرخصة إنما ثبتت لحاجته إلى اللبس للتدفئة، فبخلعها يتضح عدم الحاجة إليهما، فتنتفي الرخصة. وأما حلق الشعر بعد مسحه، فلا يشبه خلع الخف، فإن الشعر من جملة البدن ملتصق بالرأس، ولا يتمكن من مسح ما تحته مع بقائه، ولا يتمكن من إعادته بعد حلقه، بخلاف الخف؛ فإنه يخلع ثم يلبس، وهو شبيه بالعمامة أو الجبيرة ونحوها مما يلبس ويخلع. وبهذا يتضح ترجح القول الأول، وهو بطلان الطهارة بانتهاء المدة أو بالخلع، ومن اختار غير ذلك فله الاجتهاد، والله أعلم. وانظر تعليق سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز على حلق الرأس بعد مسحه في فتح الباري (ج1، صـ310) .

السؤال:- إذا صلى الإنسان، ثم تبين له أنه مسح وصلى بعد انتهاء مدة المسح، فما الحكم؟ الجواب:- يلزمه والحال هذه إعادة الطهارة مع غسل القدمين وإعادة الصلاة؛ فإنه يعد قد صلى بغير طهارة؛ لأن مسحه بعد انتهاء المدة زيادة على ما حدد له شرعاً، فلا يجزئ عنه المسح، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد يوماً وليلة للمقيم؛ لأن العادة أنه لا يتضرر بالخلع بعد هذه المدة، ولأن الأصل هو الغسل، فإذا وجد عذر البرد والثلج ونحوه رخص له في لبس هذه الحوائل، فيمسح عليها المدة التي تكفيه، فمتى زاد عليها، فقد تعدى ما حدد له، فلا بد أن يعيد الصلاة.

السؤال:- إذا خلع الخفين وهو على طهارة، فهل ينتقض وضوؤه؟ الجواب:- قد ذكرنا آنفاً الخلاف في هذه المسألة في مسألة انتهاء المدة، فإن القول فيهما واحد، حيث قيل: إن الطهارة تبطل بالخلع، حيث يكون كالذي توضأ ولم يغسل قدميه وقد يبست أعضاؤه، فعليه الإعادة كاملة لاشتراط الموالاة، ولم تحصل. والقول الثاني: أنه يقتصر على غسل قدميه، وهو قول من لم يشترط الموالاة. والثالث: عدم البطلان، لارتفاع الحدث، وعدم ما يبطله، كما لو حلق رأسه بعد مسحه. وترجح لنا القول ببطلان الطهارة لما ذكرنا من الأسباب، وتعين إعادة الوضوء، لكن إن خلعهما بعد المسح عليهما وقبل جفاف أعضاء الوضوء، كفاه غسل القدمين، لوجود الموالاة، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز لبس أكثر من خف؟ وعلى أيهما يمسح؟ الجواب:- يجوز ذلك في الخفاف وفي الجوارب، فقد لا تحصل التدفئة والوقاية بالواحد، فيلبس اثنين أو أكثر، فإن لبسهما معاً بعد الطهارة الأولى، أو لبس الثاني قبل انتقاض الوضوء الأول، فالحكم للخف الفوقاني، فيكون المسح عليه. قال الموفق في "الكافي": وإن لبس خفاً على طهارة، ثم لبس فوقه آخر قبل أن يحدث، جاز المسح على الفوقاني، سواء كان التحتاني صحيحاً أو مخرقاً؛ لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي فيه، لبسه على طهارة كاملة أشبه المنفرد. وإن لبس الثاني بعد الحدث، لم يجز المسح عليه؛ لأنه لبس على غير طهارة. وإن مسح الأول ثم لبس الثاني، لم يجز المسح عليه؛ لان المسح لم يزل الحدث عن الرجل، فلم تكمل الطهارة أ. هـ. وبه يعلم أن من لبس الخف الثاني أو الجورب الثاني قبل الحدث من الطهارة الأولى، فالمسح يكون على الأعلى منهما، ولو كان الأسفل مخرقاً. أما إن أحدث قبل لبس الثاني، ولبس من غير تجديد وضوء وغسل للقدمين، فالمسح على الأول، أي: إذا تطهر، خلع الثاني ومسح على الأول، والأولى أن يعيد الوضوء، ويلبسهما جميعاً.

السؤال:- إذا نزع الخف الأعلى قبل تمام مدة المسح وأبقى الأول فهل يجوز المسح عليه؟ الجواب:- تبطل الطهارة إذا خلع الأعلى بعد الحدث والمسح عليه. قال الموفق في "الكافي": وإن مسح على الخف الفوقاني، ثم نزعه، بطل مسحه، ولزمه نزع التحتاني؛ لأنه زال الممسوح عليه، فأشبه المنفرد أ. هـ. وقال في "الشرح الكبير": إذا ثبت ذلك، فمتى نزع الفوقاني قبل مسحه، لم يؤثر فيه، وإن نزعه بعد مسحه، بطلت الطهارة ووجب نزع الخفين وغسل الرجلين، لزوال محل المسح، ونزع أحد الخفين كنزعهما؛ لأن الرخصة تعلقت بهما، فصار كانكشاف القدم..إلخ. وعلى هذا، فمتى نزع الأعلى قبل المسح عليه، فالأسفل يبقى كما هو، ويستمر في المسح عليه إلى تمام المدة، بخلاف ما إذا مسح على الأعلى، ثم خلعه، فإنه يلزمه خلعهما معاً، وتجديد الوضوء.

السؤال:- هل يجوز لمن كان على طهارة أن يخلع خفه ثم يلبسه قبل المسح، أو يبدله بآخر، سواء مسح على الأول أو لم يمسح؟ الجواب:- إذا غسل قدميه، ثم لبس الخفين، فله خلعهما قبل الحدث، ثم إعادة اللبس، أو إبدالهما بآخر، ما لم ينتقض وضوؤه الأول. أما إن خلعهما بعد الحدث، فإن الخلع يبطل الطهارة، كما سبق فيمن خلع بعد المسح وقبل انتهاء المدة فإن كان حال الخلع طاهراً، بطلت الطهارة على المختار وقيل: يغسل قدميه. والمختار البطلان. وسواء أعاد لبس الأول الذي خلعه بعد المسح عليه أو لبس غيره، فإن عليه إعادة الوضوء وغسل الرجلين، وابتداء مدة المسح.

السؤال:- هل يجوز لمن كان على طهارة أن يخلع خفه ثم يلبسه قبل المسح، أو يبدله بآخر، سواء مسح على الأول أو لم يمسح؟ الجواب:- إذا غسل قدميه، ثم لبس الخفين، فله خلعهما قبل الحدث، ثم إعادة اللبس، أو إبدالهما بآخر، ما لم ينتقض وضوؤه الأول. أما إن خلعهما بعد الحدث، فإن الخلع يبطل الطهارة، كما سبق فيمن خلع بعد المسح وقبل انتهاء المدة فإن كان حال الخلع طاهراً، بطلت الطهارة على المختار وقيل: يغسل قدميه. والمختار البطلان. وسواء أعاد لبس الأول الذي خلعه بعد المسح عليه أو لبس غيره، فإن عليه إعادة الوضوء وغسل الرجلين، وابتداء مدة المسح.

السؤال:- هل يجوز أن يلبس الخف الأيمن بعد غسل رجله اليمنى، ثم يلبس الخف الأيسر بعد غسل الرجل اليسرى، أو لا بد من إتمام الوضوء ثم لبسهما؟ الجواب:- المشهور عن أحمد أنه لا يلبس الأيمن حتى تتم الطهارة بغسل الرجل اليسرى، واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم: "إني أدخلتهما طاهرتين". وقد ذكر شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" فيه روايتين عن أحمد، إحداهما: يجوز المسح، وهو مذهب أبي حنيفة، والثانية: لا يجوز، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأن الواجب ابتداء اللبس على الطهارة.. قالوا: فعليه أن يخلع الخف الأولى، ثم يدخلها بعد غسله للرجل الأخرى، واحتجوا بقوله: "إني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان". وهذا أدخلهما وليستا طاهرتين، والقول الأول هو الصواب بلا شك.. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أدخلتهما وهما طاهرتان" حق؛ فإنه بين أن هذا علة لجواز المسح، فكل من أدخلهما طاهرتين فله المسح.. وإلا فأي فائدة في نزع الخف ثم لبسه من غير إحداث شيء فيه منفعة؟ وهل هذا إلا عبث محض ينزه الشارع عن الأمر به؟ إلخ. وذكر الروايتين في "المغني" و"الشرح" وقال عن الثانية: وهي جواز المسح؛ لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس، فجاز، كما لو نزع الخف الأول ثم لبسه، وكذلك الحكم في من مسح رأسه ولبس العمامة ثم غسل رجليه، قياساً على الخف.. ووجه الرواية الأولى ما ذكرنا من الحديثين، أي: عن المغيرة، وهو يدل على وجود الطهارة فيهما جميعاً وقت إدخالهما، ولم يوجد ذلك وقت لبس الأولى، ولأن ما اعتبر له الطهارة اعتبر له جميعها كالصلاة، وفارق ما إذا نزع الخف الأولى ثم لبسه؛ لأنه لبسه بعد كمال الطهارة أ. هـ.

وقال الشوكاني في "النيل" على حديث المغيرة: وقد استدل به على أن إكمال الطهارة فيهما شرط، حتى لو غسل إحداهما وأدخلهما الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، لم يجز المسح. صرح بذلك النووي وغيره.. وأجاز الثوري والكوفيون المسح لصدق أنه أدخلها كلاً من رجليه الخف وهي طاهرة.. وصرح ابن دقيق العيد بأنه لا يمتنع أن يعبر بهذه العبارة عن كون كل واحدة منهما أدخلت طاهرة.. فقوله: "أخلتهما" يقتضي تعليق الحكم بكل واحدة منها. نعم، من روى "فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" قد يتمسك به هذا القائل، فإن قوله: "أدخلتهما" يقتضي كل واحدة منهما التقدير: أدخلت كل واحدة منهما حال طهارتها أ. هـ. وبه يترجح ما اختاره شيخ الإسلام وغيره من عدم اشتراط كمال الطهارة قبل اللبس، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز أن يمسح على الخفين وقتاً أو أكثر، ثم يلبس خفين آخرين وهو على طهارة؟ الجواب:- تقدم في السؤال التاسع والعشرين وما بعده حكم لبس أكثر من خف، سواء قبل الحدث أو بعده، وذكرنا أن من لبس الخف ثم أحدث، فمسح عليه، ثم بدا له أن يلبس فوقه خفاً آخر، لزمه خلع الأول وتجديد الوضوء، ثم لبس الاثنين معاً على طهارة واحدة؛ فإن لبس الثاني من دون خلع الأول ولا تجديد الطهارة، فإن المسح يكون على الأول إذا كان ساتراً للمفروض، فعند كل طهارة يلزمه خلع الأعلى، ويمسح على الأول، ثم يلبس الأعلى إن أراد ذلك، وسواء لبس الثاني بعد مسح الأول وكان طاهراً حال لبسه، أو لبسه محدثاً، حيث إن الحكم تعلق بالأول، فيكون المسح عليه حتى تنتهي المدة أو يخلعه، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز لبس الخف في رجل وخفين في الأخرى؟ الجواب:- لا مانع من ذلك، بشرط أن يكون الخف ساتراً للمفروض، وذلك لأن إحدى الرجلين قد يحتاج فيها إلى زيادة تدفئة، أو وقاية، ويعم ذلك الجوارب، وهي الشراب؛ فربما يكون البرد شديداً، فيحتاج إلى جوربين أو ثلاثة، وقد يكون أحدهما شفافاً، فيلبس فوقه ما يحصل به الستر. وتقدم أن الشراب لا يعفى فيه عن الخرق والشق والفتق، فيلبس فوق المخرق جورباً أو أكثر، ليستر القدم.

السؤال:- إذا انفسخ الخف كله أو بعضه بدون قصد، فما الحكم في حالة كون الشخص على طهارة أو على غير طهارة؟ الجواب:- متى انخلع الخف، أو انحسر الجورب عن بعض القدم، فبدا بعض محل الفرض، كالكعب أو ما تحته، بطلت الطهارة إذا كان الوضوء الأول قد انتقض، وسواء كان انخلاعه بعد طهارة ثانية أو كان في حال كونه محدثاً، وذلك أن ظهور القدم أو بعضه يبطل به أثر المسح عليه، فيلزمه الخلع وتجديد الوضوء وغسل القدمين، وهذا هو القول المختار، وقد تقدم القول بأنه يكتفى بغسل القدمين عند من لا يشترط الموالاة في الوضوء، والراجح اشتراطها في الطهارة الصغرى، والله أعلم.

السؤال:- إذا أدخل يده لحكَّة أو لإخراج شيء، وبان من قدمه شيء، فهل يستمر المسح، سواء كان على طهارة أو على غير طهارة؟ الجواب:- المختار أنه يبطل وضوؤه إذا كان ذلك بعد انتقاض الوضوء الأول؛ فإن ظهور الكعب أو بعض القدم من الخف كظهور القدم جميعه، وحتى ولو لم يخرج للناظرين، حيث إنه قد بان له بعضه ومسته يده، وهو ينافي ستره بالخفين، كما في السؤال قبله، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز أن يمسح عن شخص مريض لا يستطيع أن يحني ظهره لمسح خفيه؟ الجواب:- يجوز لغيره معاونته في الوضوء أو في المسح على الخفين متى عجز عن المسح لألم في ظهره أو في يديه، فقد قال البخاري رحمه الله تعالى: باب الرجل يوضئ صاحبه، ثم ذكر حديث أسامة، وفيه: فجعلت أصب عليه ويتوضأ. ثم حديث المغيرة، وأن المغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ. وذكر الشارح أن الإعانة بمباشرة غسل الأعضاء مكروهة إلا لحاجة، فكذا مسح الخفين.

السؤال:- هل يجوز أن يمسح عن شخص مريض لا يستطيع أن يحني ظهره لمسح خفيه؟ الجواب:- يجوز لغيره معاونته في الوضوء أو في المسح على الخفين متى عجز عن المسح لألم في ظهره أو في يديه، فقد قال البخاري رحمه الله تعالى: باب الرجل يوضئ صاحبه، ثم ذكر حديث أسامة، وفيه: فجعلت أصب عليه ويتوضأ. ثم حديث المغيرة، وأن المغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ. وذكر الشارح أن الإعانة بمباشرة غسل الأعضاء مكروهة إلا لحاجة، فكذا مسح الخفين.

السؤال:- هل يجب على الولي أن يراعي ابنه في مدة المسح أو في الكيفية؟ الجواب:- نعم، على ولي السفيه والجاهل والصغير تعليمهم الأحكام والواجبات، كصفة الوضوء، والمسح على الخفين، ومدته، وكيفية المسح، ونوع المسح؛ وذلك لأنه يتولى شأنهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ... " إلخ. فلا بد أن يعلمهم بالفعل كيفية الطهارة من الحدث، ومن الخبث، وكيفية مسح الخفين، وكذا نواقض الوضوء، ومبطلات المسح على الخفين، وما أشبه ذلك، حتى تصح عباداتهم، وحتى ينشؤوا على معرفة ما يجب عليهم.

السؤال:- هل يجوز المسح على الخفين والكنادر والجوارب وهي مخرقة؟ الجواب:- أما الخف المخرق، فالمشهور عند الفقهاء عدم الجواز؛ قال الموفق في "المغني"، وتبعه ابن أخيه في "الشرح": إنما يجوز المسح على الخف ونحوه إذا كان ساتراً لمحل الفرض، فإن كان فيه خرق يبدو منه بعض القدم، أو كان واسعاً يرى منه الكعب، لم يجز المسح، سواء كان الخرق كبيراً أو صغيراً من موضع الخرز أو من غيره، فأما إن كان الشق ينضم، فلا يبدو منه القدم، لم يمنع جواز المسح. وقال في "الكافي": فإن ظهر منه شيء، لم يجز المسح؛ لأن

السؤال:- ما شروط المسح على الكنادر والبسطار؟ الجواب:- قد عرفت أن الكنادر غالباً لا تستر محل الفرض، بل يبدو من القدم الكعبان وظهر القدم أو بعضه، فهذا النوع لا يمسح عليه وحده ولو كان مشدوداً بخيط أو سير فوق الأخمص، كما في بعض أنواع الكنادر، وذلك لأنه لا يستر المفروض غسله من القدم، والستر شرط عند الأئمة. ثم إن المعتاد في هذه الأزمنة أن يلبس تحته شراب يستر القدم كله، فعلى هذا يكون الحكم للشراب، فهو الذي يمسح عليه عادة، لكن لا بد أن يكون صفيقاً، سالماً من الشق والخرق كما تقدم، ويكون الكنادر كالنعل التي تلبس قديماً مع الجورب ليمكن المشي فيه. ثم إن الكنادر المعروفة لا تبقى دائماً فوق الشراب، بل تخلع عند النوم، وعند دخول المسجد، وعند دخول المجالس غالباً، فعلى هذا لا بد أن يكون المسح على الشراب بشرطه؛ لأنه هو الذي يبقى طوال مدة المسح. فمن مسح على الكنادر ثم خلعها، بطل مسحه، فهو كمن خلع قبل انتهاء مدة المسح وبعد أن انقضى الوضوء، أو خلع الخف الأعلى بعد المسح عليه. وقد سبق أن الصحيح بطلان الوضوء بخلعه، وهو قول الجمهور. فعلى هذا ينبه من يمسح على الكنادر التي فوق الشراب، ثم يخلع الكنادر الممسوح عليها ويبقى الشراب، فإنه بذلك يبطل مسحه.

وأما البسطار، فهو لباس يصنع من الربل، أو من مادة الإطارات، أو من الباغات، ويكون طويل الطرف غالباً، بحيث إنه يصل إلى نصف الساق أو أعلى منه، وكثيراً ما يلبسه الجنود من الشرط المجندين في الدفاع المدني، أو التجنيد للقتال، أو الحرس الوطني، أو رجال الأمن؛ فيكون ميزة لهم وقت العمل الخاص بهم، فمتى كان ساتراً للمفروض، لا يبدو من القدم شيء، بحيث ينضم طرفه على الساق، ويبقى على القدمين مدة المسح، وهي يوم وليلة لا يخلع، فإنه يجوز المسح عليه لتمام الشروط فيه، فأما إن كان ظاهره أو ساقه واسعاً، بحيث يرى منه بعض القدم، أو يمكن إدخال اليد بينه وبين الساق إلى الكعبين، فلا يمسح عليه، إلا أن يكون تحته شراب فيمسح على الشراب مباشرة، وذلك لأن الناس يختلفون، فمن كان دقيق الساقين، وكان البسطار واسع الطرف، لم ينضم على ساقه، بل يبدو بعض القدم كالكعبين، فليس له المسح، إلا إن لبس تحته شراباً صفيقاً، فإنه يخلع البسطار ويمسح على الشراب، كما يفعل صاحب الكنادر، وهكذا يفعل مع كل لباس على القدم من أنواع المصنوعات، حيث يشترط للمسح عليه أن يكون طاهراً، وأن يكون مباحاً، وأن يستر محل الفرض، فلا يبدو منه شيء، وأن لا يخلعه إلا عند انتهاء المدة، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز المسح على الكنادر وليس تحتها خفان؟ الجواب:- قد ذكرنا أن الكنادر المعروفة الآن لا تستر الكعبين، ويبدو من القدم ما فوق الأخمص، فعلى هذا لا يمسح عليه وحده، بل يلبس عادة تحته الشراب الصفيق، السالم من الخروق، أو اثنين من الشراب، ليحصل ستر المفروض، فإن كان الكنادر من النوع الطويل، الذي يستر الكعبين إلى مستدق الساق، ويشد بسحاب أو بخيوط تربطه على الساق، جاز المسح عليه، فهو كالخف الساتر. أما البسطار، فهو في العادة طويل يصل إلى نصف الساق أو فوقه، فإن كان ينضم على الرجل، ولا يرى شيء من القدم المطلوب غسله، جاز المسح عليه، ولو لم يكن تحته شراب أو خف آخر، بشرط بقائه على القدم، وعدم خلعه إلا بعد نهاية المدة. أما إن كان واسع الرأس، لا يستر محل الفرض، فلا يمسح عليه وحده، بل يغسل القدمين، أو يلبس تحته جوارب صفيقة يكون المسح عليها، ويكون البسطار، كالنعل يلبس ويخلع.

السؤال:- هل يجوز أن يمسح على الخفين وقتاً أو أكثر، ثم يلبس الكنادر أو البسطار ويمسح عليها؟ الجواب:- قد عرفت أن الخف هو ما يصنع أو يخرز من جلود الإبل ونحوها، ويفصل على القدم ساتراً الكعبين وما تحتهما، والعادة أنه لا يحتاج أن يلبس فوقه كنادر ولا بسطار، للاكتفاء به. ومع ذلك، فإن الفقهاء ذكروا حكم من لبس خفاً فوق خف، وجعلوا الحكم للفوقاني إن لبس الثاني قبل الحدث، وللأسفل منهما إن كان اللبس بعد الحدث. وقد تقدم في السؤال الثالث والثلاثين ما قيل في ذلك. ويقال كذلك في الجوارب: إذا لبس الثاني قبل الحدث مسح على الأعلى، فإن لبس الثاني بعد الحدث، فالمسح على الأول إن كان صفيقاً غير مخرق، وكذا حكم من لبس الشراب وحده، ثم أحدث، فلبس بعد الحدث الكنادر المشدودة أو البسطار الساتر، فالمسح على الشراب لتعلق الحكم به، والله أعلم

السؤال:- إذا كانت الكنادر إلى الكعبين، فهل يمسح عليها؟ الجواب:- المشهور من الكنادر أنها لا تستر محل الفرض، بل تكون إلى نصف الكعب أو أسفل منه، ويبدو ظاهر القدم مما يلي الأخمص، فهذا النوع لا يمسح عليه وحده، فإن لبس تحته شراباً وكان الكندر كالنعل يخلعه في المجالس وعند النوم، فالمسح على الشراب. فإن شد الكنادر فوق الشراب، وأحكم ربطها، ولم يخلعهما إلا سواء، فالمسح على الأعلى، وهو الكنادر، فإن وجد من الكنادر ما يستر القدم كله إلى مستدق الساق، جاز المسح عليه بشرطه.

السؤال:- إذا مسح على الكنادر والبسطار، ثم خلعها، فهل ينتقض وضوؤه؟ الجواب:- سبق نحو ذلك في السؤال الثامن والعشرين وفي السؤال الحادي والثلاثين في حكم الخفين، وذكرنا أن القول المختار بطلان الطهارة لمن خلعهما بعد المسح عليهما من حدث، ولو كان حال الخلع متطهراً، وما في ذلك من الخلاف. فيقال في الكنادر والبسطار مثل ذلك، بشرط أن يكون المسح عليهما بعد الحدث. أما إن توضأ ولبسهما، وبقي على طهارته، ومسح عليهما لتجديد الوضوء، فإن خلعهما لا يبطل الوضوء لبقائه على طهارته الأولى، كما لو لم يلبسهما.

السؤال:- إذا لم يشق خلع الكنادر، فهل يجوز المسح عليها؟ الجواب:- اعلم أن المسح على الخفاف وما أشبهها إنما شرع رخصة للحاجة إلى التدفئة ووقاية القدم، فمتى كان محتاجاً إلى لبس الخف أو الكنادر أو الشراب، فإنه يمسح عليها إلى مدتها، سواء شق خلعها أو لم يشق، لوجود السبب الداعي إلى اللباس. ثم متى استغنى عنها، وزالت الحاجة أو خفت، شرع نزعها وغسل القدمين. ولهذا قال الفقهاء: ولا يلبس ليمسح؛ أي: لا يجوز له اللبس من غير حاجة، وإنما يريد إسقاط الغسل، كما سبق في أول الأسئلة.

السؤال:- هل يجوز أن يخلع الكنادر ويلبسها أو يلبس غيرها إذا كان على طهارة، سواء مسح عليها قبل أن يخلعها أو لم يمسح؟ الجواب:- تقدم نحو ذلك في السؤال الحادي والثلاثين في خلع الخف بعد المسح عليه، فيقال مثل ذلك في الكنادر، فمتى خلعها بعد الحدث بطل وضوءه، وسواء كان طاهراً حال الخلع أو محدثاً، وسواء مسح عليها قبل الخلع أو لم يمسح، ولا فرق بين إعادة لبس الكنادر التي خلعها أو لبس غيرها، فالمختار أن يجدد الوضوء ويغسل قديمه؛ لأن المسح بطل أثره بخلع الممسوح عليه، ولأنه يكون كمن توضأ وترك قدميه حتى يبست أعضاؤه وفاتت الموالاة، فإنه يعيد الوضوء كاملاً كما تقدم.

السؤال:- يقول بعض الإخوان: يشق علينا خلع البسطار، فنصلي فيه في بعض المساجد، ولكن بعض جماعة المسجد ينتقدون فعلنا، فما رأيكم؟ الجواب:- عليكم أن تتفقدوا أحذيتكم عند دخول المساجد، فإن كان بها أذى أو قذر مسحتموه بالتراب، وإن كان فيها نجاسة عينية طهرتموها، فبعد ذلك لا بأس بالصلاة فيها، سيما مع مشقة نزعها. وقد ثبت في الصحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه. وروى أبو داود وابن حبان في "صحيحه" عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم". وروى أبو داود عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه، وليصل فيهما". وقد روى أكثر من عشرين صحابياً ذكر الصلاة في النعال، أشار إليها الشوكاني في "النيل" والترمذي في "سننه" وذكر في "الشرح" من خرجها. ولا شك في جواز الصلاة بالنعال، لكن بعد التحقق من نظافتها، وعدم تلويثها للمسجد، وحيث إن الفرش الموجودة تتأثر بأدنى الغبار أو القذر اليسير الذي تحمله الأحذية، فينبغي مراعاة عدم تلويثها، وإيذاء المصلين بها، ولكن إذا كان هناك مشقة في خلع البسطار أو الخفين، فلا بأس بالصلاة فيها لأمن الأذى، والحرص على مسحها وتنظيفها قبل دخول المسجد، والاعتذار عن ذلك بالمشقة، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم مسح بعض الرأس؟ الجواب:- لا صلة لمسح الرأس بمسح الخفين، وله صلة بمسح العمامة؛ وذلك لأن الشافعية ذهبوا إلى جواز الاكتفاء بمسح بعض الرأس، واستدلوا بما رواه المغيرة بن شعبة أنه وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: ومسح بناصيته، وعلى العمامة والخفين. (رواه مسلم) وغيره. قالوا: لأن الناصية هي مقدم الرأس، فحيث اقتصر على مسحها دل على جواز الاقتصار على جزء من الرأس قالوا: ولو بعض شعرة، وجعلوا الباء في قوله: (وامسحوا برؤوسكم) للتبعيض؛ أي: بعض رؤوسكم. والجواب عن الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على مسح الناصية، بل كمل بمسحه على العمامة، حيث كان قد شدها على رأسه، ولم ينقل عنه الاقتصار على بعض الرأس وهو مكشوف. وقد ثبت في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم التعميم بقوله: ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، إلخ. وقد ذهب الحنفية إلى الاكتفاء بمسح ربع الرأس، لحديث الناصية. وقد ذكرنا الجواب عنه. وقد دلت السنة على وجوب تعميم الرأس، كما في حديث عبد الله بن زيد المذكور، ومثله عن علي وعن المقدادم بن معديكرب وغيرهم، وهي تبين ما أجمل في الآية، وترجح أن الباء فيها للإلصاق، وهو المعروف من اللغة في مثل هذا السياق.

السؤال:- ما شروط المسح على العمامة، وما صفته؟ الجواب:- العمامة ما يلبس فوق الرأس، لوقايته من البرد والشمس، وهي من الزينة. وقد روى القضاعي في "مسند الشهاب" والديلمي في "مسند الفردوس" حديثاً مرفوعاً بلفظ: "العمائم تيجان العرب"، وروى الترمذي والحاكم وغيرهما عن ركانة حديثاً غريباً بلفظ: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس". ثم إن العمامة تطلق على كل ما يغطى الرأس؛ لأنها تعمه، ولكن ورد المسح على نوع منها، واشترطوا له شروطاً: فمنها: أن تكون محنكة، وهي التي تلف على الرأس، ثم يجعل طرفها تحت الحنك. ومن شروطها: ستر جميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، كمقدم الرأس، وهو الناصية، وكالأذنين، وجوانب الرأس، وأطراف الشعر، فإنه يعفى عنه، لجريان العادة بعدم ستره، وصعوبة التحرز عنه، وكذا لو ظهر أطراف القلنسوة تحت العمامة، وسواء كانت ذات ذؤابة أو لم تكن، لسترها لمحل الفرض، ومشقة نزعها. ويشترط للمسح عليها كونها مباحة، كما في الخفين، وأن يلبسها بعد كمال الطهارة. وحكمها حكم الخف في التوقيت بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر. واختلفوا في العمامة ذات الذؤابة، وهي الطرف الذي يرخى بين الكتفين. فمن جوز المسح عليها، علل بأنها لا تشبه عمائم أهل الذمة، ولأنها ساترة، ويشق خلعها ومسح الرأس تحتها عادة. ومن منع المسح -وهو الأرجح- استدل بما روى أبو عبيد في "الغريب" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتعاط، وفسره بعدم التحنيك، ولعدم المشقة في رفعها، ومسح الرأس تحتها. فأما العمامة الصماء -وهي غير المحنكة، ولا ذات ذؤابة- فلا يجوز المسح عليها لأنها تشبه عمائم أهل الذمة، وقد نهينا عن التشبه بهم، وليس في نزعها مشقة.

وقد تقدم قريباً حديث المغيرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مسح على ناصيته وعلى العمامة والخفين. (رواه مسلم وغيره) . وفيه دليل على أنه مع مسح العمامة يمسح ما ظهر من جوانب الرأس، كالناصية، والأذنين، وجوانب الرأس، على القول بوجوب تعميم الرأس بالمسح في الوضوء، وهو القول الصحيح كما تقدم. وصفة المسح على العمامة أن يبل يديه بالماء، ويمرهما على أعلى العمامة وجوانبها. ويستحب أخذ ماء جديد للأذنين، كما قيل ذلك في مسح الرأس المكشوف، وإن مسحهما مع الرأس أجزأه.

السؤال:- هل يقاس على العمامة الطاقية للرجل والخمار للمرأة؟ الجواب:- الطاقية: هي القلنسوة تلبس فوق الرأس للوقاية من الشمس والحر، وهي مفصلة بقدر أعلى الرأس، ولا تستر الأذنين غالباً، فلا تقاس بالعمامة في المسح عليها، لعدم مشقة رفعها. فأما الخمار للمرأة، فهو كل ما تستر به رأسها ووجهها وعنقها كما قال تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) . ومذهب الجمهور عدم المسح عليها لعدم المشقة في نزعها، ولأنها خاصة بالنساء، فتشبه ما يوضع وقاية على الرأس من خرقة أو طاقية، فالمسح عليها ترخص لا حاجة إليه. وروي عن الإمام أحمد جواز المسح عليها إذا كانت مدارة تحت حلوقهن، إلحاقاً لها بعمامة الرجل المحنكة ولمشقة نزعها غالباً. وقد روي المسح عليها عن أم سلمة، وهذه الرواية هي المشهورة في كتب الفقهاء من الحنابلة، ولعلها تتقيد بالحاجة والضرورة، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم المسح على ما يلبس على الرأس في أيام الشتاء خشية البرد؟ الجواب:- الغالب أن تلك اللفائف التي توضع على الرأس يقصد منها الستر والتدفئة، ولا يصعب رفعها وحلها، بل في الإمكان مسح الرأس من تحتها، أو حلها ثم المسح مباشرة على الرأس. فعلى هذا لا أرى المسح عليها. لكن إن كانت شبيهة بالعمامة محنكة أو ذات ذؤابة، وسترت الرأس إلا ما يظهر غالباً ويشق ستره، وكانت صفيقة أو مبطنة أو مكررة الإدارة، ألحقت بالعمائم، وأعطيت حكمها، وإلا فلا.

السؤال:- إذا كانت اللفافة ساترة للقدم، فهل تأخذ حكم الخف؟ الجواب:- نص الإمام أحمد على عدم الجواز للمسح على اللفائف والخرق التي تشد على القدمين، وهو المنصوص المجزوم به عند فقهاء الحنابلة، حتى جعله أبو البركات إجماعاً، كما ذكره الزركشي. وهناك قول بالجواز، بشرط قوتها، وشدها بخيط قوي أو نحوه، وسترها للقدم، وإمكان المشي فيها، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. قال في "مجموع الفتاوى 21/184": وهكذا ما يلبس على الرجل من فرو وقطن وغيرهما، إذا ثبت ذلك بشدهما بخيط متصل منفصل مسح عليهما بطريق الأولى. قال: فإن قيل: فيلزم من ذلك جواز المسح على اللفائف، وهو أن يلف على الرجل لفائف من البرد أو خوف الحفاء أو من جراح بها ونحو ذلك؟ قيل: في هذا وجهان ذكرهما الحلواني، والصواب أنه يمسح على اللفائف وهي بالمسح أولى من الخف والجورب، فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة، وفي نزعها ضرر، إما إصابة البرد وإما التأذي بالحفاء وإما التأذي بالجرح. فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين، فعلى اللفائف بطريق الأولى. ومن ادعى في شيء من ذلك إجماعاً فليس معه إلا عدم العلم، ولا يمكن أن ينقل المنع عن عشرة من العلماء المشهورين، فضلاً عن الإجماع. والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره. أ. هـ. فعلى هذا، لا يمسح على اللفائف على القول المشهور، لكن إن دعت الضرورة إلى شدها، لاتقاء البرد، أو وقع الحجارة، أو نحو ذلك، وكانت ساترة صفيقة يمكن المشي فيها، ويشق نزعها، فهي أولى بالمسح عليها من الجوارب الموجودة الآن؛ فإن أكثرها شفاف أو رقيق تساهل بالمسح عليها كثير من الناس، والله أعلم.

السؤال:- ما شروط المسح على الجبيرة؟ الجواب:- الجبيرة هي ما يمسك العظم إذا انكسر؛ كالذراع والساق ونحوهما، وكذا ما يوضع على جرح لشده عن ما يتألم به. وسميت جبيرة تفاؤلاً بجبر الكسر، وعرفها بعضهم بقوله: هي أعواد ونحوها تربط على الكسر أو الجرح ليلتئم. وقيل: هي الخشب أو الألواح التي تربط على موضع الكسر حتى ينجبر تحتها. واللصوق هو ما يوضع على قرحة أو جرح فوق الدواء. ودليل جواز المسح على الجبيرة حديث جابر في الذي أصابه حجر، فشجه في رأسه فاغتسل من احتلام فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده". (رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي، وفي سنده ضعف) ، لكن يشهد له حديث ابن عباس أن رجلاً أصابه جرح ثم أصابه احتلام، فاغتسل فكز فمات، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو غسل جسده وترك رأسه حيث أصابه الجرح" (رواه أحمد، وابن ماجة، والدارمي، والحاكم، وأبو يعلى وغيرهم، كما في التعليق على شرح الزركشي 1/355) . ولكثرة طرقه ومخرجيه يعلم شهرة القصة وثبوتها. قال الزركشي في باب التيمم: جواز المسح على الجبيرة إجماع في الجملة، وقد دل عليه حديث صاحب الشجة، وروى البيهقي وغيره عن ابن عمر: من كان به جرح معصوب عليه، توضأ ومسح على العصابة، ويغسل ما حول العصابة، وإن لم يكن عليه عصابة مسح ما حوله ... ومن ثم قال الشافعي رحمه الله: روي عن علي رضي الله عنه أنه انكسر إحدى زندي يديه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبائر. قال: ولو عرفت إسناده بالصحة لقلت به، وهذا مما أستخير الله فيه أ. هـ. وحديث علي المذكور رواه ابن ماجة وعبد الرزاق والدارقطني وغيرهم، لكنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي، وهو معروف بوضع الحديث. وحيث إن المسح على الجبائر مجمع عليه، فقد ذكر لذلك شروط، في بعضها خلاف، فمنها:

أن يشدها على طهارة، لأنه مسح على حائل، فاشترطت الطهارة كالخف؛ وقيل: لا تعتبر لها الطهارة قبل الشد، وهو الصحيح، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية؛ لأن الكسر يقع بغتة، ويبادر إلى وضع الجبيرة في الحال، فاشتراط الطهارة يفضي إلى حرج ومشقة. وقد ذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى أن الجبيرة تفارق الخف من خمسة أوجه: أحدها: أن مسح الجبيرة واجب ومسح الخفين جائز، فإن له خلعه وغسل الرجلين. الثاني: أن الجبيرة تمسح في الطهارة الكبرى؛ لأنه لا يمكن خلعها قبل برء الجرح، بخلاف الخفين، فإنه ينزعهما للاغتسال. الثالث: أن الجبيرة ليس لها حد ووقت تخلع فيه كالخف، بل يمسح عليها إلى تمام البرء، وانجبار الكسر، بخلاف الخفين، فإنهما موقت مسحهما كما سبق. الرابع: أن الجبيرة يستوعبها بالمسح، كما يستوعب غسل ما تحتها إذا كان بارزاً، فإن مسحها بدل غسل ما تحتها. الخامس: أن الجبيرة يمسح عليها وإن شدها على حدث عند أكثر العلماء، وهو الصواب. أ. هـ. الشرط الثاني للجبيرة: أن لا يتجاوز بها موضع الكسر تجاوزاً لم تجر العادة به، فإن الجبيرة توضع على طرفي الصحيح، لينجبر الكسر، وفي معنى ذلك ما جرت به العادة من التجاوز لجرح أو ورم، فيعفى عن اليسير الذي لا بد منه، وهو موضع الشد، ويكفي المسح عليه. ثم إن المسح على الجبيرة ليس مؤقتاً، بل يستمر إلى حلها، ثم إذا نزعها وهو على طهارة، لم يلزمه غسل ما تحتها ولا إعادة الغسل إن كانت في غير أعضاء الوضوء، فمتى سقطت سقوط برء، كان بمنزلة حلق الرأس بعد مسحه، وكشط الجلد بعد الاغتسال، لا يوجب غسل ما تحته.

وقد فصل القول في الجبيرة شيخ الإسلام ابن تيمية في باب المسح على الخفين من "مجموع الفتاوى"، وكذا الزركشي في باب التيمم من "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" رحمهما الله تعالى، وقد ذكر الزركشي عشرة فروق بين الجبيرة والخف، تأتي إن شاء الله في جواب السؤال التاسع والخمسين

السؤال:- ما صفة المسح على الجبيرة؟ الجواب:- المسح هو إمرار اليد على الممسوح بعد أن يبلها بالماء، فمتى أراد المسح على الجبيرة، فإنه يبل يده أو يديه بماء، ثم يمسح الجبيرة كلها، ولا بد من تعميمها بالمسح، وظاهر إطلاق العلماء أنه لا فرق في مسحها بين أن يؤخره إلى تمام الطهارة، أو يمسح في أثناء الطهارة، كما لو كانت الجبيرة في القدم أو الذراع، فإن له أن يمسح عليها بعد غسل ما قبلها وله تأخير المسح إلى الانتهاء من الطهارة. وكذا إن كانت في غير أعضاء الوضوء، فله المسح عليها أثناء الغسل أو بعد الفراغ من الاغتسال كله.

السؤال:- هل اللصقة التي توضع على الجرح تأخذ حكم الجبيرة أو الخف؟ الجواب:- الجرح هو إصابة غير الرأس بمحدد يشق الجلد ويدمي المكان، فإن كانت الإصابة في الرأس أو الوجه، سميت شجة، وإن كانت في غيرهما، فهي جرح. فمتى وضع على الجرح لصوق أو دواء يمنع وصول الماء إليه، فلا بد من المسح على اللصوق والدواء إن تضرر بالغسل، فإن لم يتضرر اكتفى بمرور الماء عليه. قال الزركشي رحمه الله تعالى: إذ لا فرق بين الكسر والجرح في موضع الجبيرة. نص عليه أحمد، وقصة صاحب الشجة كانت في الجرح. وفي معنى ذلك لو وضع على جرحه دواءً، وخاف من نزعه، فإنه يمسح عليه، وكذا لو ألقم إصبعه مرارة، كما روى الأثرم والبيهقي بإسناديهما عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، وكان يتوضأ عليها أ. هـ. وهذا الأثر في "السنن الكبرى" للبيهقي في أبواب المسح على الخفين. والمراد: مرارة الشاة التي في جوفها، أي: أدخل أصبعه الجريح فيها كعلاج، وحتى لا تتضرر القرحة بالماء. وفسرت المرارة بأنها هنة رقيقة فيها ماء أخضر هي لكل ذي روح إلا الجمل.

ثم إن الموجود في هذه الأزمنة مما يسمى باللصقة عبارة عن قطعة قماش ونحوه، في أحد جانبيها شمع أو لصوق، توضع على محل الألم، وتلصق عليه، فتمسك الجلد واللحم تحته عن التمزق والتشقق، وتبقى حتى يلتئم اللحم ويبرأ، ثم تنزع. والغالب أنها توضع على محل الألم بعد غسله وتنظيفه، سواء كانت في أعضاء الوضوء أو في غيرها، وحيث إنها لا تتأثر بمرور الماء عليها، فإنه يكتفى بغسلها مع سائر الجسد عند الاغتسال من الجنابة ونحوها، ولا حاجة إلى المسح عليها كالجبيرة والمرارة، وتعطى حكم الجبيرة في بقائها إلى تمام البرء للمحل، وإن كانت في أعضاء الوضوء، فالمختار أن توضع على طهارة من الحدث الأصغر، حتى يكتفى بغسلها مع غسل ذلك العضو عند الوضوء، فإن وضعها على حدث، اختير أن يتيمم بعد كل وضوء لرفع الحدث عما تحت اللصقة، والله أعلم.

السؤال:- ما الحكم فيمن اقتصر على مسح بعض الخف أو الجبيرة أو العمامة؟ الجواب:- أما الخف، فلا يمسح إلا ظاهره من أصابعه إلى ساقه، فيبل يده، ويمرها على ظاهره مفرقة الأصابع، فيمسح ظاهره وجانبيه، ولا يمسح أسفله، ولا عقبه، وهو المؤخر. وقد سبق حديث علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخلف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه. (رواه أبو داود) كما تقدم في الجواب الثالث عشر. وأما الجبيرة فإنه يمسح على جميعها؛ لأن المسح ههنا بدل الغسل، حيث سقط الغسل للضرورة، وأقيم المسح مقامه، فوجب تعميم مسحها كلها. فمن اقتصر على مسح بعضها، كان كمن اقتصر على غسل بعض ذلك العضو أو المكان، فلا تتم الطهارة إلا بغسل الجميع، أو مسح الجبيرة فوقه. وكذا العمامة، لا بد من تعميمها على القول المختار، كما يلزمه تعميم الرأس بالمسح، كما تقدم.

السؤال:- ما الحكم فيمن اتخذ الغسل بدل المسح، سواء للخف أو للعمامة أو للجبيرة أو اللفائف التي على الجرح؟ الجواب:- ذكر العلماء أنه لا يشرع غسل الخفين على القدمين بدل المسح؛ لأن الغسل يعرضها للتلف عند التكرار، وفي ذلك إفساد لماليّتها، والشرع قد ورد بالمسح، فإذا فعله اتبع الدليل. وقد صرح العلماء بكراهة غسل الخفين في الوضوء؛ لأنه عدول عن الوارد، ولأنه مظنة إفسادهما. ومع ذلك، فإن الغسل يرفع الحدث أو يبيح الصلاة؛ لأنه أبلغ من المسح. وأما العمامة، فمن المشقة غسلها مع كل وضوء، كما أن غسل الرأس لم يفرض في الوضوء، لما في ذلك من الصعوبة والمشقة التي تجلب التيسير. قال صاحب "المطالب": ويجزئ غسله -أي الرأس- بكراهة بدلاً عن مسحه إنْ أمر يده عليه، ولا شك أن غسل العمامة التي تشد على الرأس وتحت الحنك أشد صعوبة، لكن لو غسلها وتحمل المشقة، ارتفع الحدث لوجود البلل المطلوب. وأما غسل الجبيرة أو اللفائف التي هي اللصوق على الجروح، فإنه أيضاً شاق، وفيه مضرة على الجرح أو الكسر، وسبب لتأخير البرء، فإن غسلها وتحمل الضرر، أجزأ ذلك عن المسح، لوجود المسح وزيادة.

السؤال:- إذا مسح الإنسان على الجبيرة فهل يتيمم؟ الجواب:- إن كانت الجبيرة لم تتجاوز قدر الحاجة، اكتفى بالمسح عليها، سيما إذا وضعها على طهارة بلا خلاف. أما إن وضعها وهو محدث، فقد سبق أن هناك قولاً بأنه لا يمسح عليها، لكن إن شق نزعها، مسح عليها وتيمم حتى يرتفع الشك. فأما إن كانت قد تجاوزت قدر الحاجة، ويشق نزع الزائد، فإنه يمسح عليها كلها، ويتيمم عن القدر الزائد، للخروج من الخلاف، وخصوصاً إذا كان الزائد كثيراً، كما في هذه الأزمنة، حيث يوضع على الرجل أو اليد ما يسمى بالجبس، وقد يعم الفخذ والساق والقدم، مع أن الكسر في أحدها، اعتذاراً بإيقاف الحركة للعضو المنكسر حتى يلتئم الكسر، مع أن الجبر القديم يكون بألواح صغيرة تربط بخيط فوق العظم المنكسر، فلا تشل معه الحركة، ولا يعوق الإنسان عن القيام والتنقل، ومع ذلك يحصل به البرء تماماً. وأما إن كان الجرح بارزاً، كقرحة في الوجه أو الذراع أو القدم، وفي غسلها ضرر وألم، أو تأخر برء، وشق أيضاً المسح عليها باليد لتضرره بذلك، فإنه يغسل الصحيح الذي حول الجرح، ويكتفي بالتيمم عن الجرح الذي لم يمسه الماء، ويقال كذلك في المجدور الذي عمت القروح بدنه، وصعب عليه غسلها أو مسحها أنه يكتفي بالتيمم، فإن قدر على مسح بعضها أو غسله، لم يسقط، وتيمم عن الباقي.

السؤال:- هل يشترط للمسح على الجبيرة أو العمامة أن تكونا موضوعتين على طهارة؟ الجواب:- أما العمامة، فلا خلاف أنه لا بد قبل لبسها من مسح الرأس في الوضوء، واشترط أكثر العلماء لبسها بعد تمام الطهارة، أي بعد غسل القدمين. والأقرب جواز المسح عليها إذا لبسها بعد مسح الرأس، ولو قبل غسل الرجلين، لارتفاع الحدث عن الرأس بمسحه. واختلف فيما إذا لبس العمامة في طهارة مسح فيها على الخفين، حيث قد قيل: إن مسح الخفين لا يرفع الحدث عن القدمين، وإنما يبيح الصلاة حتى تنقضي المدة للمسح. ولعل الأقوى أنه يجوز المسح على العمامة بشروطها إذا لبسها على طهارة قد مسح فيها على جبيرة أو على خفين ونحوهما، لوجود السبب المبيح للمسح. وأما الجبيرة، فقد سبق في الجواب الثالث والخمسين ذكر شروط المسح عليها، وأن المشهور عند الفقهاء اشتراط وضعها على طهارة من الحدثين، وأن الصواب عدم الاشتراط. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في باب المسح على الخفين من "مجموع الفتاوى": الخامس: أن الجبيرة يمسح عليها، وإن شدها على حدث عند أكثر العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب. ومن قال: لا يمسح عليها إلا إذا لبسها على طهارة، ليس معه إلا قياسها على الخفين، وهو قياس فاسد؛ فإن الفرق بينهما ثابت من هذه الوجوه، ومسحها كمسح الجلدة ومسح الرأس ... إلخ. وقد ذكر الزركشي في آخر باب التيمم عشرة فروق بين الخف والجبيرة. الأول: أنه يمسح، وإن كان عاصياً بسفره بلا خلاف، وفي مسحه للخف خلاف، فقيل لا يمسح مطلقاً، وقيل: يمسح مَسْحَ مقيم. الثاني: أنها تمسح مع الحدثين الأصغر والأكبر؛ لأن مسحها للضرورة. الثالث: أن مسحها لا يتوقف بمدة، لأنه مَسْحٌ للضرورة، فيبقى ببقائها. الرابع: أنه لا يشترط سترها لمحل الفرض إذا لم تكن حاجة. الخامس: أن شدها مختص بحال الضرورة، بخلاف الخف.

السادس: أنها تستوعب بالمسح كالتيمم. السابع: أنها تجوز مع خرق ونحوه، يبدو منه بعض محل الفرض، والخلاف في الخف المخرق. الثامن: صحة المسح عليها، ولو كانت من حرير ونحوه. على رواية صحة الصلاة في ثوب الحرير، بخلاف الخف على القول المحقق. التاسع: أنها لا تشترط لها الطهارة رأساً، في رواية، بخلاف الخف. العاشر: أنه لو لبس الخف على طهارة مسح فيها على جبيرة، جاز أن يمسح عليه، بخلاف ما إذا لبس الخف على طهارة، مسح فيها على عمامة، أو لبس العمامة على طهارة مسح فيها الخفين، فإنه لا يمسح على وجه، وإن كان الراجح جواز المسح مطلقاً، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم المسح على القلانس؟ الجواب:- القلانس جمع قلنسوة، وهي الطاقية التي توضع على الرأس، وقد أشير إليها في السؤال الخمسين. والصحيح عدم المسح على القلانس؛ قال في "المطالب": لأنه لا يشق نزعها، فأشبهت الكتلة، وفسرت القلانس بأنها مبطنات تتخذ للنوم، ومثلها الدنّيات، قلانس كبار كانت القضاة تلبسها. قال في "مجمع البحرين ": أراد القلانس المبطنات كدنيات القضاة والنوميات. فأما الكتلة، فلا يجوز المسح عليها، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنها لا تستر جميع الرأس عادة، ولا تدوم عليه. فأما القلانس التي ذكرناها، ففيها روايتان: إحداهما لا يجوز المسح عليها، ثم ذكر أنه قول الأئمة الثلاثة وإسحاق والأوزاعي. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قال به؛ لأنه لا يشق نزعها، أشبهت الكتلة، ولأن العمامة التي ليست محنكة ولا ذؤابة لها لا يجوز المسح عليها، وهذه أدنى منها. ثمر ذكر الرواية الثانية عن أحمد بجواز المسح عليها، وذكر عن أنس أنه مسح على قلنسيته. (رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي) ، وروى الأثرم عن عمر أنه قال: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح على قلنسيته وعمامته. وروى بإسناده عن أبي موسى أنه خرج من الخلاء، فمسح على القلنسوة. قال: ولأنه ملبوس معتاد يستر الرأس أشبه العمامة المحنكة، وفارق العمامة التي قاسوا عليها؛ لأنها منهي عنها، والله أعلم. أ. هـ. ولعل القول بالمسح خاص ببعض القلانس، وهي التي تستر الرأس كله وتلاصقه ويصعب رفعها. وقد فسر الدنيات في "حاشية الشرح" بالقلانس؛ لأنها تشبه الدن. وأما النوميات، ففي "الإنصاف" أنها مبطنات تتخذ للنوم، وكذا في "المطالب"، وأشكلت على المحشي على الشرح، فاستظهر أنها النونيات بالنونين، والأول أقرب.

وأما الكتلة، ففسرها بأنها غطاء للرأس، ولها كلاليب بغير عمامة فوقها يلبسها السلطان والأمراء وسائر العساكر، ولعلها ما يسمى بالبرنيطة. وذكر في التعليق عن الحافظ ابن حجر، قال: القلنسوة غشاء مبطن يستر به الرأس. قاله القزاز في شرح الفصيح. وقال ابن هشام: هي التي يقول لها العامة: الشاشة. وفي الحكم: هي من ملابس الرؤوس المعروفة. وقال أبو هلال العسكري: هي التي تغطى بها العمائم وتستر من الشمس. كأنها عنده رأس البرنس. أ. هـ والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

أصول الفقه

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة أصول الفقه

السؤال:- ذكر بعضهم أن معرفة الإجماع لا تحصل حتى تطوف العالم كله فهل هذا صحيح؟ الجواب:- روي عن الإمام أحمد أنه قال من ادعى الإجماع فهو كاذب. ولعله يريد في المسائل الاجتهادية، حيث إن المسائل التي أدلتها قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، لا يخالف في حكمها عاقل يدعى الإسلام ويقبله، ثم إن زماننا هذا تقاربت فيه البلاد، فأصبح من السهل معرفة أقوال العلماء وأهل الفتيا في زمن يسير، بواسطة الخطابات، والمكالمات، والإذاعات المسموعة والمرئية، فلا يحتاج إلى طواف العالم الإسلامي في معرفة الإجماع.

السؤال:- متى يحق للشاب أن يجتهد ويفتي؟ الجواب:- إن الاجتهاد في المسائل له شروط، وليس يحق لكل فرد أن يفتي ويقول في المسائل إلا بعلم وأهلية، وقدرة على معرفة الأدلة، وما يكون منها نصا أو ظاهراً، والصحيح والضعيف، والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، ولابد من طول ممارسة، ومعرفة بأقسام الفقه وأماكن البحث، وآراء العلماء والفقهاء، وحفظ النصوص أو فهمها، ولا شك أن التصدي للفتوى من غير أهلية ذنب كبير، وقول بلا علم، وقد توعد الله على ذلك بقوله تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) (النحل:116) وفي الحديث "من أفتى بغير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه" وعلى طالب العلم أن لا يتسرع في الفتوى، ولا يقول في المسألة إلا بعد أن يعرف مصدر ما يقول ودليله ومن قال به قبله، فإن لم يكن أهلا لذلك فليعط القوس باريها، وليقتصر على ما يعرف، ويعمل بما حصل عليه، ويواصل التعلم والتفقه حتى يحصل على حالة يكون فيها أهلا للاجتهاد، والله الهادي إلى الصواب.

الآذان

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الآذان

السؤال:- هل يلزم الأذان في بداية الوقت، خاصة إذا كنت في البر، وهل يجب أن يكون في الرحلات إمام راتب في كل الفروض؟ الجواب:- الأذان إذا كان هناك جماعة يسن أن يكون في أول الوقت، إذا كانوا نازلين أو مقيمين، أو في بلد، فيكون الأذان عند أول الوقت، ويجوز تأخيره إذا كان أهل البلد قليلا محصورين كأذان الصبح، أو أذان الظهر في شدة الحر، أو أذان العشاء إذا كان لا يشق عليهم التأخير. والأصل أنهم يؤذنون عند دخول الوقت، ومن الأولى إذا كانوا مسافرين أن يعينوا مؤذناً يتولى الأذان، وإماماً يتولى الجماعة، وإذا تأخر لعذر جاز أن يتولى الأذان أو الإمامة غيره ممن هو أهل لذلك.

السؤال:- هل المساهمة في بناء مرافق للمسجد كبيت الإمام والمؤذن مثلاً داخل في حكم فضل بناء المساجد؟ ثم ما هو الأجر والثواب لمن قام بذلك متبرعاً، أو مساهما في بناء تلك المرافق؟ الجواب:- نعم يدخل هذا في العمل الجاري لصاحبه، فإن المرافق ينتفع بها، وتبقى طوال وجودها يرتفق بها، وتعين على أداء العبادات، وعلى التزام الإمام والمؤذن بهذه الوظيفة الشريفة، فمن ساعد فيها فله أجره ما دامت باقية كالمسجد، والله أعلم.

السؤال:- كيف متابعة الآذان لمن يسمع الآذان، ولكن لا يمكن من الصلاة مع جماعة المسجد، ولكن مع شخص أو شخصين. الجواب:- إجابة المؤذن أن تقول مثل ما يقول سرا، تدعو بعده، والإجابة أيضاً بالحضور إلى المسجد لأداء تلك الصلاة عند التمكن، فمن لم يقدر للعذر كالسجناء والمرضى صلوا في مكانهم جماعة أو فرادى، لعدم الاستطاعة.

الأدب

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الأدب

السؤال:- بعض الشباب هداهم الله يعق والديه، ويرفع صوته عليهم، وينسى فضل والديه عليه، بل والحسرة التي يجدونها عندما يرفع صوته عليهم، فبماذا توجهون هؤلاء، وهل العقوق كبيرة من كبائر الذنوب، وهل لابد للعاق أن يتوب، وإذا لم يتب فهل يناله عقاب من الله؟ الجواب:- قد أوصى الله تعالى بالوالدين، وقرن حقهما بحقه، كما في قوله (وقضى ربك أن لا تعبدوا إليه إياه، وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) (الإسراء:23-24) فبدأ بحق الله تعالى، ثم بالإحسان إلى الأبوين، فإن بلغا عنده الكبر، وطعنا في السن، فلا ينهرهما، ولا يتأفف منهما، بل يلين لهما القول، ويتواضع لهما، ويرحمهما ويدعو الله لهما بالرحمة ويتذكر إحسانهما إليه في الصغر وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العقوق من الكبائر، بل من أكبر الكبائر، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا بلى، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) الخ ونهى عن التسبب في شتم الوالدين، بل جعله من الكبائر، فقال صلى الله عليه وسلم (من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: وكيف يشتم أو يسب الرجل والديه؟ فقال (يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) أي يصير متسببا وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله من لعن والديه) فعلى المسلم أن يعرف حق أبويه، ويعترف بإحسانهما، ويلين لهما القول، ويتواضع لهما، ويلبي طلبهما مهما كلفه، ويحرص على مجازاتهما بقدر ما يستطيع، ويتوب إلى الله تعالى من كل ذنب صدر منه في حقهما، ويسألهما الرضا عنه، والعفو عما صدر منه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (رضى الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين) والله أعلم.

السؤال:- امرأة توفيت بعيداً عن أولادها، وهي غير راضية عن أولادها بعض الشيء أو كلياً، وأولادها كانوا لا يقصرون معها، لكن كانوا يعصون والدتهم بعض الشيء ويغضبونها، وذلك لظروفهم النفسية والعصبية والمالية، والجهل بحقوق الوالدين وحيث كانوا محتارين، وخائفين من رب العالمين ... أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- عليهم الترحم عليها، وتزويدها بالدعاء، والصدقة عنها، وعليهم التوبة والاستغفار من الذنب الذي هو التقصير في حق والدتهم،، وكثرة الأعمال الصالحة، ثم هم معذورون لما كانوا فيه من ضيق العيش والجهل ونحوه.

السؤال:- أنا شاب أبلغ من العمر ست عشرة سنة، وأنا مستقيم ولله الحمد، ومشكلتي أن أهلي يعاملونني كما لو كنت صغيراً فيمنعوني من صلاة الفجر في المسجد خوفاً علي، فهل لهم ذلك، وكيف أتصرف معهم، لأني لا أريد إغضاب والدي، علي جزاكم الله خيراً. الجواب:- حيث إنك قد بلغت سن التكليف، فإنه يلزمك ما يلزم المكلفين، ومن ذلك الصلاة في المسجد مع الجماعة، إذا لم يكن هناك عذر من خوف أو مرض أو مطر، فإذا زالت الأعذار فلا يحق لك التخلف، ولا يحق لأهلك منعك، وإذا منعك أبواك فلا تطعهما، بل عليك أن تخرج وتصحب أباك إلى المسجد، أو تصحب إخوتك حتى لا يقع هناك محذور، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأصل أن صلاة الجماعة تلزمك، وتلزم أباك وإخوتك المكلفين، فإذا كان المسجد قريباً، وأنت عاقل فاهم، عارف بما ينفعك وما يضرك، فلا خوف ولا ضرر، والله أعلم.

السؤال:- هل هو طبيعي في أن بعض المؤمنين مصاب بمرض نفسي في صدره، واكتئاب بعض الأحيان، حيث إن هناك بعض المسلمين يقولون إن المسلم إذا هو مصاب بهذا أن الله غير راضٍ عنه، وعن أعماله في الصلاة، والصيام، والزكاة والقيام، والحج والصدقات، وغير ذلك من أوجه الخير، من التلاوة والنفقة وغير ذلك؟ الجواب:- لا شك أن المصائب والأمراض تصيب الصالحين من العباد، وأهل العلم والدين والعبادة، بل تصيب الأنبياء والصديقين، فقد روي أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبك. فقال (إن كنت صادقاً فأعد للبلاء تجفافاً فإن البلاء أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منحدره) أو كما قال ثم هذه المصائب والأمراض تارة تصيب العبد للاختبار والامتحان، فإن كان صادقاً في إيمانه صبر واحتسب وثبت، ولو مرض أو خسر، أو ضرب أو حبس، فلا يزيده إلا تمسكا، وإن كان ضعيف الإيمان رجع القهقرى، وكفر بعد إيمانه، كما قال تعالى (ومن الناس من يعبد على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) (الحج:11) أي يدخل في الدين على وجه التجربة من غير قناعة، فمتى ابتلي كفر وسب الإسلام، وسب التدين وأهله، بخلاف من إيمانه راسخ، فإنه يزيده البلاء ثباتاً.

السؤال:- يوجد جماعات تجمعهم روابط القرابة والنسب والصحبة، اعتادوا أن يجلسوا مع بعضهم نساء ورجالاً. فالبعض غير محارم لبعضهم بعضاً، ويتكلم بعضهم مع البعض في الدين، وقصص الحياة، دون نظرات فيها اشتياق وشهوة، أو قلوب مريضة، وغير ذلك. فهل أعمال هؤلاء أعمال خيّرة، وطاعات وعبادات، وقربات مقبولة عند الله، ومغفور لهم، ومعفو عنهم، بالرغم من عادتهم هذه ... رجاء من فضيلتكم الإفادة، جزاكم الله خيراً. الجواب:- يجوز جلوس النساء مع الأقارب إذا كان معهم محارم، لكن بشرط التحفظ والاحتشام، والحجاب الكامل بتغطية الوجه كاملاً، ويجوز الكلام معهم بما لا خضوع فيه، ولا ذكر للعورات والفواحش، وإنما يتكلمون كلاماً عاديا، أما خلوة المرأة برجل أجنبي حتى ولو كان قريباً أو نسيباً أو صاحبا فلا يجوز، وقد يتسامح في ذلك إذا زالت الخلوة، بأن كان هناك رجال، وعدد من النساء، وحصل التحفظ والتحجب، ولم يكن هناك خلوة طويلة، والله أعلم.

السؤال:- أتسلى أحياناً بلعب الورق عبر شاشة الكمبيوتر، بدون أي شخص معي في أوقات فراغي، ولا تلهيني عن صلاتي أو عبادتي فما حكم ذلك؟ الجواب:- ننصحك بحفظ الوقت في القراءة والذكر والحفظ، وتعلم العلم، وسماع الفوائد، من أشرطة، أو إذاعة صوتية، أو مرئية، فهو أفضل من هذا اللعب الذي فيه إضاعة للوقت الثمين، وإن أردت التسلية وجدت طرقا أخرى أحسن من اللعب بالورق، كالتمشية، والقراءة في التاريخ، أو التراجم والأخبار، ونحوه مما يسلي ويجلب للنفس شيئاً من النشاط، والتأهب للعمل، والله المستعان.

السؤال:- كلمة توجيهية لشباب الإسلام حفظكم الله؟ الجواب:- ننصح كل شاب يريد نجاة نفسه أن يبتعد عن اسباب الردى والهلاك، وأن يهرب عن جلساء السوء الذين يوقعون في الشرور والمعاصي، فإن أولئك المفسدين منهم من وقع في تلك الشباك وصعب عليه التخلص منها فأحب أن يوقع غيره من الجهلة والسفهاء، ليكونوا سواء في التردي والإضرار ولا يهمه محبة الخير للمسلمين، بل يحب أن يهلك غيره كما هلك بنفسه، ومنهم من يجهل العواقب، وينخدع بكثرة الهالكين، ويظن أن هؤلاء الجماهير على صواب، فسبيل النجاة أن يرجع العبد إلى ربه، ويتوب ويستغفر، ويكثر من ذكر الله، ويحافظ على الصلوات والأوراد، ويتطوع بالإكثار من الحسنات، كما نشير على الدعاة، ورجال الهيئات، أن يأخذوا بأيدي هؤلاء السفهاء، ويردوهم عن السفه، ويرشدوهم إلى أسباب النجاة، ويحرصوا على أن يضموهم إلى من يصلحهم، ويربيهم تربية صادقة حتى يسلموا من الهلاك، ويسلكوا الطريق السوي، وبعد الرشد والإدراك، وتمام العقل، والإطلاع على المفاسد، ومعرفة المفسدين يحذرونهم، ويحذرون منهم وبذلك يصبحون أعضاء في المجتمع صالحين ومصلحين، والله أعلم.

السؤال:- فإني أحمد الله وأشكره على ما من به الله الذي لا إله إلا هو على هذه الأمة ٌمن وجود شباب صالحين في هذه الأمة الخالدة. فهلا بنصيحة للشباب الصالحين. الجواب:- نصيحتي للشباب المسلم (أولاً) أن يتعلموا العلم النافع الذي يدلهم على فعل الخير، والكف عن الشر، وهو ميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، (ثانياً) أن يكونوا مثالاً حسناً، ونموذجاً طيباً في العمل والتطبيق، وإظهار السنن، والحرص على النوافل والتطوعات، والإكثار من العبادات (ثالثا ً) الحذر والبعد عن المعاصي صغيرها وكبيرها، فإن المعاصي تقسي القلب، وتزيل النعم، وهي بريد الكفر (رابعاً) هجر العصاة، وأهل الاستهزاء وأهل السخرية بالملتزمين، والمصرين على الذنوب، كالمدخنين، والخمارين، والزناة، واللعانين، والسراق ونحوهم، فإنهم في الغالب يجرون إلى ما تلبسوا، به ويوقعون، أتباعهم وجلساءهم في تلك المحرمات (خامسا ً) الحذر من الفتن والشبهات، والبعد عن أسبابها (بالتحفظ) عن دخول الأسواق التي يكثر فيها الإختلاط، والتبرج، والمعاكسات، فإن الحي لا تومن عليه الفتنة (وبالتحفظ) عن النظر في الأفلام الخليعة، والصور الفاتنة، وعن قراءة الصحف والمجلات التي تحوي تلك الصور، وتدعو إلى ترويج تلك الشخصيات التي لها تأثير بليغ في الميل إلى المحرمات، والإنهماك في المكروهات التي تثقل الطاعات، وتجرئ على فعل الجرائم، واقتراف السيئات (وبالتحفظ) عن اللهو واللعب وإضاعة الوقت في النظر إلى أهل اللعب والباطل، بما لا يعود على الشاب بفائدة ملموسة (سادساً) الحرص على حفظ الزمان في ما يستفاد منه في أمر الدين والدنيا، ومن طلب علم، وقراءة قران، وسماع أشرطة مفيدة، وبحث عن مسألة دينية، ونحو ذلك (سابعاً) الحرص على الاستغناء عن الناس بالرزق الحلال، والكسب الطيب، بحيث يتعلم من الحرف والأعمال ما يكتسب منه قوته وغذاءه ويعيش عيشة طيبة (ثامنا ً) الحرص على إعفاف

النفس بالنكاح الحلال، الذي يحصل معه حفظ الفرج، وغض البصر، والولد الصالح، والحياة السعيدة، والزوجة الصالحة التي تعين زوجها على أمر دينه ودنياه (تاسعا ً) القيام بنشر الدين، وإظهار محاسنه، وبيان آثار التمسك به على أهله، وحسن العاقبة لهم، وسوء عاقبة المعرضين عنه، والمتهاونين بما يقدح فيه (عاشراً) الدعوة إلى الله تعالى بالقول والفعل، وترغيب الشباب في العمل الصالح، وتخويفهم من آثار المخالفات والمعاصي، والمجادلة بالتي هي أحسن لمن انهمك في المعاصي، وانخدع بزخرف الدنيا وزينتها، والله أعلم.

السؤال:- نرجو إعطاء نبذة عن القدوة الحسنة، وماذا يجب على الوالدين والمدرس؟ الجواب:- لا شك أن الشباب من حين الإدراك والعقل يتأثرون بما يرون، وبما يشاهدون في المجتمع، وينطبع ذلك في أخلاقهم وأقوالهم سواء كان حسناً أو سيئاً، فيجب أولاً على الأبوين أن يكونا قدوة حسنة لأولادهما، بحيث لا يفعلان الحرام، ولا يتركان الواجب، وذلك بإحسان الكلام ولينه، واستعمال الألفاظ الطيبة في الدعاء والنصح والتعليم، والبعد عن السباب والشتم والعيب واللعن والقذف والهجاء، فإن الأطفال يقلدون من يسمعونه ينطق بذلك، وينشؤن عليه، ويصعب عليهم ترك الكلمات البذيئة، كما أن على الأبوين تربية الأولاد على العبادات بفعل الطهارة والنظافة، والطمأنينة في الصلاة، وكثرة الصدقة والصوم، والذكر والدعاء والقراءة، والدعوة إلى الله، وتعليم الخير، فإن ذلك من أسباب التقليد والقدوة والأسوة الحسنة، والبعد عن الأفعال القبيحة، كشرب الدخان، وتعاطي المسكرات والمخدرات، وآلات اللهو، والأغاني والأفلام الهابطة، والصورة الفاتنة، والمجلات الخليعة، والتبرج، وكشف العورات، ونحو ذلك مما هو دعاية للأولاد إلى فعلها، وعدم استنكارها، وعدم التقبل للنصيحة بتركها. وهكذا يجب على المدرس والمدرب أن يكون قدوة حسنة، فإن الطلاب يقدرونه ويحترمونه، ويقلدونه في أفعاله وأقواله، فمتى ظهر بلباس حسن، وقد وفر لحيته، وحافظ على الصلاة والذكر والدعاء، والنصح والتوجيه وابتعد عن الإسبال، وشرب الدخان، وترك الصلاة، وسوء المقال، انتفع به الطلاب، وتأثروا به تأثراً بلغياً مفيداً لهم، كما يتقبلون تعليمه بالقول، وينتفعون به ويعتقدون ما يعتقده. ولهذا يجب تفقد المدرسين، والنظر في عقائدهم وأعمالهم، ومنعهم من إظهار البدع والمعاصي، ولو كانوا معتقدين لها، مقتنعين بصحتها، إذا كانت مخالفة للمناهج الصحية، والأدلة والنصوص الظاهرة، فإن عرف عنهم عقائد باطلة كالرافضة،

والصوفية، والقبوريين، والمعتزلة، والاباحية، والحداثيين، والعلمانيين، فإن الواجب إبعادهم عن تعليم أولاد أهل السنة سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، وفي المسلمين من أهل السنة غنية من غيرهم، وهكذا يؤخذ على أيدى من يعلن المعاصي بقوله أو بفعله، ممن هو مغرم بحب الأغاني والموسيقى، ويميل إلى التبرج، وإبداء النساء زينتهن للأجانب، أو غير مقتنع بفرضية الصلاة، أو بوجوب الجماعة، أو تحريم الدخان والمسكرات، وإعفاء اللحى ونحو ذلك، فإن ضرر هؤلاء على الأديان، أعظم من ضرر السم على الأبدان. وأما المجتمع فإن مسئوليته على مجموع الأمة، حيث أن المجتمع يجمع مختلف الأجناس، وفيهم المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، والمبتدع والسني، والمسلم والكافر، والبر والفاجر، والمهتدي والضال، والراشد والغاوي، ومن الصعب استواءهم على حالة واحدة، فالواجب على كل فرد أن يسعى في الإصلاح بقدر المستطاع، وعلى ولي أمر الأطفال الحفاظ عليهم عن الاختلاط بأهل السفه والفساد، الذين يوقعون من جالسهم وخالطهم في الشر والمنكر، وأن يحرص على تفقد جلساء ولده، ومعرفة وجهاتهم، فإن "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" وفي الحديث "لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي" فمتى كان جلساء الأولاد من الشباب المستقيم، وأهل الصلاح والالتزام، أوصاهم بملازمتهم، والتأسي بهم، فإن عرف من بعضهم الإنحراف، وفعل الجرائم والفواحش، حذر أولاده من مؤاخاتهم، والاقتداء بهم، وحرص على إصلاح ولده مهما استطاع، ليكون قدوة حسنة له ولغيره. وأما وسائل الإعلام، وما تنشره عن ذكر الفنانين واللاعبين، وأخبارهم، فإن على أولياء أمور الأطفال أن يربؤا بهم عن الإصغاء إلى تلك النشرات التي تمثل ما هو فتنة وضلال، وقدوة سيئة، ودعاية إلى السفه والباطل، واقتراف الجرائم، والاحتيالات على الاختلاس والنهب والاختطاف، والوقوع في المعاصي والمحرمات، كالتدخين والمخدرات، وتعاطي المسكرات،

والمظاهر السيئة، وتقليد أهل الفواحش والمنكرات، وهذا يحتاج إلى حفظ وحماية للشباب عن وسائل الفساد، وإبعاد له عن اقتناء تلك الأدوات والنشرات، حتى يسلموا على عقائدهم وأخلاقهم، وينشؤا على الفطرة الحسنة، والاستقامة على الحق، والله الموفق.

السؤال:- ما واجب الشباب تجاه العلماء والدعاة؟ الجواب:- إن العلماء والدعاة والمعلمين لهم رتبة ومكانة راقية، وقدر في النفوس، حيث إن الله تعالى ميزهم، وحملهم العلم الشرعي، والفقه في الدين، والدعوة إليه، وجعل لهم منزلة مرموقة، سيما إذا تصدوا للتدريس في الجامعات، أو المعاهد العلمية، أو الحلقات، أو المنابر، ومواضع الدعوة، فإن على الطلاب أن يعرفوا لهم قدرهم، ويحترموهم وقد قيل في المعلم: قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا ومن المعلوم عدم العصمة للإنسان، فإنه مهما بلغ في الكمال والعلم، معرض للخطأ والزلل، وربما كان على معتقد غير صحيح، تلقاه عن أساتذة له أحسن بهم الظن، وتربى على أيديهم، وتلقى عنهم بعض المعتقدات المخالفة للدليل، فمتى شعر الطالب بذلك من هؤلاء فإن عليه المجادلة بالتي هي أحسن، ومناقشة تلك الأقوال، وإيراد الأدلة التي يترجح بها القول الصحيح، دون انتقاد وعيب، وثلب وتنقص يحط من قدر العالم المربي، ويمكن أن ينصح الأستاذ باجتناب المسائل الخلافية، أو الأقوال التي تستنكر، حتى لا يحدث شقاق ونزاع، ومع ذلك لا يجوز للشباب أو غيرهم التشهير بزلة العالم وتجريحه، والوقوع في العلماء عموماً أو خصوصاً، حتى لا يتجرأ العامة على النيل من العلماء واحتقارهم، وعدم الأخذ منهم، والله أعلم.

الأطعمة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الأطعمة

السؤال:- هناك عادات لدى بعض الناس، وهي عندما يقدم شخص من سفر مثل أداء فريضة الحج، أو يخرج من مستشفى، حيث كان يرقد فيه فإن زيارته لابد منها، وهذا شيء مطلوب، ولكن يقوم الزائر بشراء ذبيحة، أو أخذها من ماله إن وجدت فيه، والذهاب بها إلى المزار، وذبحها عنده صدقة لله سبحانه تعالى، ومن أجل رفع الحرج عن الشخص المزار، حتى لا يكلف نفسه عناء وليمة للزائر، ولكن هذه الطريقة أصبحت عادة يسار عليها، وتسبب حرجاً لكثير من الناس، خصوصاً الذين لا يجدون ما يشترون به تلك الذبيحة؛ وقد يتأخر عن الزيارة بسبب ذلك. الجواب:- هذه عادات سيئة لما فيها من التكلف، وإفساد المال بدون مبرر، ولما فيها من الضرر بالاستدانة أو الاقتراض، أو تأخير الزيارة والسلام خوفاً من التزام هذه الذبيحة ونحوها، فعليكم نصحهم بقطع هذه العادة، والاقتصار على الزيارة، والتهنئة بالقدوم والسلامة والشفاء من المرض، لذلك أرى تنبيه أولئك على الامتناع من هذه العوائد التي لا داعي لها، والله أعلم.

السؤال:- توجد هنا في ديار الكفر بعض المواد الغذائية المستخرجة من الحيوانات، فهل يجب علينا السؤال عن كيفية ذبح هذه الحيوانات؛ وإذا كان المكتوب فقط أنها مأخوذة من الحيوانات، فهل يجب علينا السؤال عن نوع الحيوان، هل هو خنزير أو حيوان آخر، مع العلم أنه في كثير من الأحيان يتعذر علينا. الجواب:- يترجح التورع عن اللحوم المشكوك فيها، وعن المركب من أشياء محرمة، أو فيها شك، فإن دعت الحاجة إلى الأكل منها فلابد من البحث عن مركباتها، مخافة أن يكون فيها شيء من الميتة، أو من لحم الخنازير، حتى يستبرئ الإنسان لدينه وعرضه.

السؤال:- ما حكم استعمال العطور التي فيها نسبة من الكحول (السبورتو) ؟ الجواب:- هذه النسبة تعتبر قليلة، جعلت معه لتحفظه عن التعفن، أو تحفظ الثياب عن الدنس والتلوث بهذه العطور، فأرى أنه لا مانع من استعماله، ولو كان الكحول من المسكرات، فإنه لا يقصد شربه، ولا لذة في تناوله، فليس مشروبا كالخمور، ولو حصل به لمتعاطيه تخدير، أو إزالة شعور، والله أعلم.

الأيمان والنذور

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الأيمان والنذور

السؤال:- صار بيني وبين أخي خلاف، فحلفت أربعة أيمان أن لا أكلمه، وأنا الآن نادم على ذلك، فهل أكفر أربع كفارات أم كفارة واحدة؟ أفتونا مأجورين. الجواب:- عليك كفارة واحدة، حيث إن السبب واحد، وإنما التكرار للتأكيد على شيء واحد، وهو أن لا تكلمه، فتتداخل الأيمان، ويكتفى بكفارة واحدة عن الجميع، ولا سيما الحلف على أمر محرم، وهو التهاجر بين الإخوة الذي هو قطيعة رحم، فالواجب المبادرة بالتوبة، والإقلاع عن الهجر المحرم، فقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) والمراد بالأخ هنا هو المسلم، فكيف بالأخ من الأب أو من الأبوين، فإن هجره يكون قطيعة رحم، وقد ورد في الحديث (لا يدخل الجنة قاطع رحم) ومن القطع ترك الكلام أكثر من ثلاثة أيام، فعليك التوبة والاعتذار عن أخيك، والرجوع إلى الصلح فالصلح خير، والله أعلم.

السؤال:- حلفت على ابنتي إن لم تفعل ما أريده أنا أن لا أكلمها أبداً، ولم تفعل، ونسيت وكلمتها، علماً بأنني قلت لها (والله إن لم تفعلي هذا، إنني ما أكلمك أبداً) أرجو توضيح ما يجب عليّ فعله. علماً بأني امرأة ضعيفة ومريضة، ولا أقدر على الصيام. الجواب:- هذا الحلف فيه كفارة يمين وهي إطعام 10مساكين من أوسط طعام الأهل، أو كسوتهم بما يجزئ في الصلاة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة.

السؤال:- قالت امرأة ذات يوم وقد مرض ولدها: إن شفى الله ولدي فلله علي أن أذبح جزوراً، وأوزعها على أهل القرية الفلانية، وقد شفى الله ولدها، وسافرت إلى بلد بعيد عن تلك القرية، فهل تذبح الجزور في بلدها، أم لابد أن يكون الذبح في المكان المنصوص عليه. الجواب:- يلزم الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة لله، ويلزم مع القدرة أن يوفي به على صفته، فهذا النذر طاعة، فإن قولها: فلله علي أن أذبح جزورا. معناه أن النذر أصبح لله تعالى، أي طاعة له، فعلى هذا لابد من ذبح الجزور، ولابد من توزيعها على أهل القري التي سمتها، ولو كانت بعيدة عنها، أي أن عليها أن توكل من يشتريها وينحرها، ويقسمها في فقراء تلك القرية، أو على عموم أهلها، أي حسب ما في نيتها من التعميم للجميع، أو التخصيص بالفقراء، ولا تبرأ إلا بذلك.

البيع

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة البيع

السؤال:- سماحة الشيخ نعمل بإحدى المؤسسات الخاصة، ويبدأ الدوام من الساعة التاسعة صباحاً، حتى الثانية عشرة تقريباً ومن بعد صلاة العصر حتى التاسعة مساءً، أحياناً يتطلب منا العمل الجلوس لبعد أوقات الدوام الرسمي وهذا على مدار الشهر، وعند انتهاء الشهر نطالب بأجر هذا الوقت الإضافي الخارج عن وقت العمل الأساس، فيقول القائمون على العمل: أنه لا يوجد أجر عن هذا الوقت سوى استعاضة هذا الوقت وقت الدوام مع العلم أنه إذا انتهى الشهر ينتهي معه الوقت الإضافي، وينتهي أيضاً الحق في طلب الاستعاضة. فهل طلب أجر عن هذا الوقت ليس من حقوق العاملين، وما حكم هذه الاستعاضة؟ أفتونا مأجورين، وجزاكم الله خيراً. الجواب:- لا بأس بالاستعاضة، وهو أن تتأخروا عن العمل في اليوم الثاني بقدر الزمان الذي جلستموه زائداً عن الدوام الرسمي، إذا لم يحصل لكم تعويض عن الوقت الزائد على مدة الدوام، والله أعلم.

السؤال:- إنني أعمل في إدارتي، وبكل إخلاص وتفانِ في أداء جميع الواجبات والمهمات المكلف بها من قبل رئيسي المباشر، وقد ميزت في ذلك بالعرض علي بطلب ترقيتي إلى الرتبة التي تلي رتبتي "استثنائياً" تقديراً من المسؤولين عنى ورفعا للروح المعنوية لي في ذلك، وهنالك مادة في النظام العسكري تنص على الترقية الاستثنائية بشرط القيام بأعمال مجيدة غير عادية، وليس هنالك معارض لذلك من منافسين، وقد علمت من البعض أن هذه الترقية ومالها حرام. الجواب:- إذا كانت المادة تنص على مثل هذه الترقية الاستثنائية، بشرط القيام بالأعمال، وتشجيعاً ومكافأة على النشاط، فلا مانع من هذه الترقية، وهي حلال وكذا مالها مقابل العمل المطلوب، والله أعلم.

السؤال:- بعض أصحاب محلات قطع الغيار والبويات والكهرباء مثلاً يتفقون مع أصحاب الورش أو الدهانين، أو الكهربائيين على أن يقوموا بتوجيه زبائنهم إلى هذه المحلات بعينها، دون غيرها، ليشتروا منها، وفي حالة إتمام الشراء منها يكون لصاحب الورشة أو الدهان أو الكهربائي نسبة من السعر، يتفق عليها سلفاً، علماً ان المشتري لا يمكن أن يحصل على هذا الخصم لصاحبه وهؤلاء يقولون هذه من باب السمسرة، والجزاء عن الخدمة التي قدموها لنا. ما حكم هذا العمل؟ الجواب:- لا يجوز ذلك، بل عليهم أن يتركوا للمشتري الحرية، يشتري من أية محل، فأما اتفاقهم على أن يرسلوا إلى فلان، أو صاحب المحل الفلاني، لأنه يجازيهم ويعطيهم من فائدته، فإن فيه ضرراً. أولاً: على المشتري فقد يظن أنه لا يوجد هذا الغرض إلا عند صاحب هذا المحل حسب قول صاحب الورشة، مع وجوده عند غيره، وقد يكون عند غير هذا المحل أحسن أو أرخص، فيضر صاحب السيارة أو العمارة بزيادة الثمن، أو بشراء الرديء لأجل مصلحة الكهربائي، أو الدهان ونحوه. ثانياً: فيه ضرر على أهل المحلات الأخرى، الذين لم يتفقوا مع أهل الورش والدهانين والكهربائيين، فإن الزبائن ينصرفون عنهم، ويذهبون إلى أولئك الذين يرسلهم إليهم الدهان ونحوه، فيتضررون وتكسد سلعهم. ثالثاً: فيه أخذ مال بغير حق، فإن هذا العوض الذي يأخذه الكهربائي أو الدهان لا يحل له، حيث إنه في غير مقابل، وهو قد أخذ حقه من صاحب السيارة أو العمارة كاملاً، فعلى هذا يلزم الكهربائي ونحوه أن ينصح للمسلمين عموماً المشتري والبائع، فمتى علم أن فلاناً أحسن معاملة، وأرخص سعراً، دل عليه ولو لم يكن ممن يعطيه، ولا يجوز له أن يحيل على من يعطيه دون غيره، فذلك غش وضرر على البائع والمشتري، ولو كان فيه منفعة ظاهرة للبائع، ففيه غش ومحق للبركة، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز لي أن أطلب من والدي أو عمي أو أي قريب لي أن يعطيني وكالة شرعية، لكي أقوم باستخراج سجل تجاري، بموجبه مزاولة مهنة التجارة، علماً أن الموكل لم يدفع في إنشاء هذه المؤسسة شيئاً، إلا أنه تعاطف معي، لأنني موظف حكومي، ولا يسمح لي النظام بمزاولة مهنة التجارة، علماً أن هذه الأعمال التجارية لا تؤخرني عن أداء عملي الوظيفي مطلقاً، وفي المقابل تكرماً مني وعرفاناً بالجميل، فإنني أساعد قريبي الذي ساعدني في إيجاد هذه المؤسسة، وربما عمل معي بها، ولكن لم يدفع من رأس مالها شيئاً. آمل التوجيه هل عملي هذا صحيح شرعاً أو لا. والله يحفظكم ويعطيكم الأجر والثواب. الجواب:- الأصل أن الموظف لا يزاول التجارة، مخافة تأخره عن العمل الحكومي، أو إسراعه في الانصراف، أو شغل الوقت الوظيفي بأعمال التجارة، أو بمراجعة المعاملين مع الموظف وقت الدوام، فإذا قام الموظف بالعمل أتم قيام، ووكل في متجره من يقوم به، ولم ينشغل عن عمله الوظيفي فأرى أنه لا مانع من ذلك، مع توكيل عامل أو شخص غير موظف يقوم بالتجارة، ولا بأس بمنح الأخ أو العم أو الوالد هدية أو جائزة مقابل اسمه الذي استعملته، والله أعلم.

السؤال:- أفيد فضيلتكم بأنني أرغب شراء عمارة بمدينة جدة، وليس لدي المبلغ الكافي لشرائها، مما يدفعني للشراء بالتقسيط، وحيث إنه يوجد قسم للبيع بالأقساط بشركة الراجحي، فقد أفادوني بأن أو كل مندوب الشركة على أي عقار راغب أنا في شرائه، دون أن أتدخل بينهم وبين صاحب العقار، وسوف يقومون هم بعملية الشراء لصالح الشركة من البائع، ومن ثم إذا أنا رغبت الشراء فإنهم يبيعونني هذا العقار، بعد أن تمتلكه الشركة فما رأي فضيلتكم؟ علماً بأنهم لا يطلبون عربوناً لذلك، ولا يلزمونني بالشراء في حالة عدم الرغبة في هذا لعقار؟ الجواب:- لا مانع من الشراء منهم بعد أن يملكوها، وتدخل في ملكيتهم، ويبيعوها لك بثمن مؤجل ومقسط، ولو كنت أن

السؤال:- ما حكم الإسلام في الأموال التي تدفع وتسمى "العمولة" وهي كالآتي: أن يأتي شخص ما يطلب عملاً ما، بشرط أن يأخذ عليه نسبة من إجمالي التكلفة التي يدفعها هو على أن لا تكتب في الفاتورة، ولا يعلم بها أحد، مع العلم بأن هذا الشخص يعمل لدى الشركة التي أرسل من قبلها كمندوب مشتريات، وله راتب (أي أجر) من هذه الشركة مقابل عمله الذي يقوم به. أو أن يقوم شخص -كميكانيكي سيارات مثلاً- بعمل صيانة لسيارة، وإرسال الماكينة الخاصة بهذه السيارة إلى مخرطة، ويطلب أن تكتب الفاتورة، بمبلغ، على أن يكون له نسبة مثلاً ثلاثون بالمائة، بدون كتابتها على الفاتورة، وبدون علم أحد بها، ويقوم بإعطاء الفاتورة لصاحب السيارة، وأخذ قيمتها بالكامل، بدون علمه بالخصم الذي تم من المخرطة، ولم يكتب على الفاتورة. الجواب:- حيث أن مندوب الشركة يأخذ راتباً من الشركة، فليس له الحق أن يأخذ زيادة من البائع فيدفع للبائع، تسعين ويكتكب في الفاتورة مائة وعشرين، فهذا حرام، بل عليه أن يدفع للبائع كل ما في الفاتورة، وعلى البائع أن لا يعطيه شيئاً، لأنه مساعدة على الظلم، وعلى الباعة أن يتواصوا على عدم إعطائه، وأن يبيعوه بالسعر المناسب لهم. وأما صاحب الورشة فإنه يحسب على صاحب السيارة جميع ما دفعه، ولا يحق له أن يحاسبه على أكثر مما دفع، ولا يكتب في الفاتورة إلا قدر المدفوع للبائع، لكن عليه أن يطلب من صاحب السيارة أجرة عمله وأجرة شرائه للقطع ونحوه، فإن أخذ بغير علمه، فهو حرام، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز فتح حساب في مؤسسة الراجحي للشراء والبيع بالربح والخسارة، في الأسهم والعملات والعقار. الجواب:- إذا كانت المعاملة في التجارة، وتخضع للربح والخسران، والبيع في سلع أو أسهم شركات صناعية، أو تجارية، أو زراعية، ونحوها، فلا أرى مانعاً من فتح الحساب فيها، بعد التأكد من البعد عن المعاملات الربوية، والله أعلم.

السؤال:- سبق لنا وأن قمنا بشراء قطعة أرض بالأجل لمدة سنتين، بغرض استثمارها لأغراضنا الخاصة، ولكنه بعد مضي سنة واحدة من شرائنا الأرض قمنا بعرضها للبيع، وتقدم لنا البائع السابق بطلب لشراء الأرض، هل هناك مانع شرعي في إتمام بيعنا للأرض لمن قام ببيعها لنا بالأجل؟ علماً بأنه لم يكن هناك اشتراط أثناء بيعه للأرض لنا. الجواب:- لا يجوز بيعها على صاحبها الأول إلا بعد أن يقبض ثمنها كاملاً، إلا أن يشتريها بأكثر من ثمنها الذي باعها به مؤجلا، كما لو ارتفع سعرها بعد بيعها بالأجل، فإن اشتراها غيره جاز له أن يشتريها من المشتري الذي اشتراها منكم، والله أعلم.

السؤال:- نسمع يا فضيلة الشيخ بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ فما المراد بذلك وما صفته؟ الجواب:- الكالئ هو الغائب، ويعبر الفقهاء عن ذلك بقولهم: ولا يجوز بيع الدين بالدين. وذلك أن يكون العوض والمعوض كلاهما غائب عن مجلس العقد، ولو كان الثمن معلوماً، والمبيع موصوفاً أو معروفاً، كأن يشترى شاة بعيدة بمائة ريال مؤجلة، فهو دين بدين، لأن الدين هو كل ما غاب عن مجلس العقد، فإن حضر أحد العوضين قبل التفرق صح البيع، وإن تفرقا قبل حضور أحدهما بطل العقد، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم التأمين الشرعي على التأمين التجاري، وخاصة التأمين على السيارة؟ الجواب:- حكم التأمين التجاري أنه لا يجوز شرعاً، ودليله قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (البقرة:188) حيث إن الشركة تأكل أموال هؤلاء المؤمنين بغير حق، فإن أحدهم يدفع شهرياً مبلغاً من المال، قد يبلغ مجموعه عشرات الآلاف، ولا يحتاج إلى إصلاح طوال السنوات، ولا ترد عليه أمواله، وأيضاً فإن بعضهم قد يدفع مالاً قليلاً، فيحصل منه حادث يكلف الشركة أضعاف ما دفع لها فيأكل مال الشركة بغير حق، وأيضاً فإن الكثير من الذين دفعوا التأمين للشركة يتهورون، ويركبون الأخطار، ويتعرضون للحوادث، ويسرعون ويقولون: إن الشركة قوية. وقد تدفع ما يحصل من الحوادث، وفي ذلك ضرر على المواطنين بكثرة الحوادث والوفيات، والله أعلم.

السؤال:- اشتريت من رجل سيارات بثمن مؤجل، مقسّط على أربع سنوات، وتبعاً لذلك صاحب الدين رهن منزلاً لي، ثم أراد أن يشتري المنزل مني، ويخصم من ثمنه قيمة الدين الباقي في ذمتي، فهل له ذلك؟ أفتونا مأجورين. الجواب:- إذا حل الدين بجميع، أقساطه ولم يحصل الوفاء جاز للمرتهن طلب بيع الرهن، وأخذ دينه من ثمنه، أما إن حل بعض الأقساط وطلب بيعه، وأخذ جميع دينه فليس له ذلك، لكن إن إراد المدين أن يعجل الأقساط الباقية قبل حلولها، مقابل إسقاط بعض الدين، كأن يكون الدين خمسين ألفاً، فيصطلح معه على أن يعجل له أربعين فقط جاز ذلك، والله أعلم.

السؤال:- أسمع يا فضيلة الشيخ عن بيع التورق، فما صفة بيع التورق؟ وما حكمه؟ الجواب:- هو أن يشتري سلعة وهو غير محتاج إليها، ثم يبيعها لينتفع بثمنها، والورق هو الفضة، والمعنى أنه يجعل السلعة سببا في حصوله على ثمنها الذي هو النقود، كأن يكون بحاجة إلى ثلاثين ألف ريال لوفاء دين، أو لدفع مهر، ونحو، ذلك فيشتري سيارة بأربعين ألفاً دينا إلى أجل مسمى، ثم يبيعها بثلاثنين ألفا، فجعل السيارة وسيلة على تحصيل الورق وهو النقود، وقد منع ذلك بعض العلماء، فقالوا: إن التورق هو أخية الربا، أي هو مرجعه كأخية الشاةالتي تربط بحبل في وتد مغروز في الأرض، فالوتد يسمى أخية، لانها ترجع إليه، والأكثرون على إباحته، لشدة حاجة كثير من الناس إلى النقود، وقد لا يجدون من يقرضهم، فيضطرون إلى شراء سلعة دينا بأكثر من ثمنها، لبيعها والانتفاع بثمنها إلى أن يحل الأجل، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز بيع الرهن على من هو بيده؟ الجواب:- لا مانع من ذلك، فإن المرتهن أمسك العين المرهونة كوثيقة في دينه، فإذا حل الدين وهو عنده، ولم يوفه الراهن، فله أن يبيع الرهن ويأخذ دينه، وللراهن أن يبيعه على المرتهن أو غيره، ويعطي المرتهن حقه، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم بيع الذهب الجديد بذهب قديم وزيادة، كبيع عشر غرامات ذهب جديد بعشر غرامات ذهب قديم، وشيء من الفضة؟ الجواب:- لا يجوز ذلك، بل إذا أراد الإبدال باع الذهب القديم بدراهم، ثم اشترى بالدراهم ذهباً جديداً، فأما بيع الذهب بالذهب فلا يجوز إلا مثلا بمثل يداً بيد، كما ورد ذلك في الحديث والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز بيع العملة الورقية بالعملة المعدنية دون التساوي، كأن يبيع تسعة ريالات معدنية، بعشرة ريالات ورقية؟ وهل يجوز بيع بطاقة الهاتف المساوية لخمسين ريالا بخمسة وخمسين ريالا؟ الجواب:- أرى أنه جائز، للحاجة الماسة إلى استعمال هذه العملة في الهواتف، وحيث إن الريالات الفضية والمعدنية لا توجد عند كل واحد، ويضطر إلى تحصيلها لأجل الاتصال الهاتفي غالباً والذي يتحصل عليها إنما يجدها في مكان بعيد، كالمؤسسة والبنوك، واستحصالها يحتاج إلى زمان، وإلى حمل وأجرة ذهاب وإياب، وذلك مما يكلف، فلابد له من عوض عن أتعابه، وأيضاً فهي مما تختلف مع النقود الفضية والمعدنية والورقية، والاختلاف في الحمل، والوزن، والمنفعة الآجلة، وإمكان الادخار، وعدم الإلغاء والإبطال، وفي الحديث: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم " هذا ما ظهر لي، والله أعلم.

السؤال:- شخص يقوم ببيع عسل طبيعي لأحد الأشخاص على التصريف، إن باع شيئاً منه أخذ أجره، وإن لم يبع أعاد العسل إلى صاحبه ما رأي فضيلتكم بهذا البيع وهل هذا العمل ينطبق على السلع المماثلة؟ أفتونا مأجورين. الجواب:- إذا قبض السلع على أنه أمين، وتكون السلع بيده أمانة، إذا قال له المالك خذ هذه السلع كوكيل، وما بعت منها بمائة حسبناه من المال الذي أعطيتناه، وما بقي منها لم تبعه فاردده ونقبله منك، فلا مانع من ذلك، أما إذا اشتراه وقال: بعتك الأكياس كل واحد بمائة، بشرط أن مالم ينفق أقبله منك. فلا يجوز، لكن إذا تسامح معه وقبلها منه فله ذلك، والله أعلم.

السؤال:- عندي مزرعة ملك لي، وهذه المزرعة يخترقها مجرى للسيل من الغرب إلى الشرق، وإذا جاء السيل يفسد علينا هذا المجرى أشياء كثيرة بالمزرعة ويغرق المزرعة، فهل هذا يعتبر عيباً شرعياً، وأخبر من أراد أن يشتري المزرعة، وأقول له: فيها مجرى سيل. أم أبيعه وأسكت؟ الجواب:- لابد أن تبين كل عيب يضر بالمزرعة، وينقص قيمتها، فعند البيع توقف المستام على مجرى السيل، وتخبر بأنه يدخل من هنا، ويخرج من هنا، وهذا أثره وضرره، حتى يدخل على بصيرة، فإن السكوت على هذا العيب يعتبر غشاً للمشتري، وفي الحديث " من غش فليس منا " فلو لم تخبره لكان له حق الرجوع وثبوت الخيار، والله أعلم.

السؤال:- أهديت لي ساعة مطلية طلاءً فقط، في حدود 18قيراط من الذهب، في أماكن محددة من الساعة، وهي (حور القزاز) (والجانبين) (ومكان إغلاق سير الساعة) ما حكم لبسها؟ الجواب:- هذه الساعة لا يجوز لبسها لما فيها من الذهب، ويجوز أن تلبسها المرأة، حيث تعد من شبه الحلي المباح للنساء، والله أعلم.

السؤال:- عند أبي 30سهماً من أسهم البنك المتحد، وعندما علمنا أنه بنك ربوي قام أحد إخواني بتوجيه النصح له، وأنها حرام، فقال: إذاً قوموا ببيعها. وبعد وفاته وجدنا الأسهم كما هي. وكان يريد بيعها في حياته، وكانت الأسهم قد تضاعفت فاصبحت 60. فالسؤال هل يلحقه إثم في ذلك رحمه الله تعالى؟ الجواب:- عفا الله عنه، ولعله لا يلحقه إثم، وذلك لأنه عزم على التخلي منها في حياته، ولم يستطع، ولعله لعذر حصل أو مانع وجد، وعليكم بيع الأسهم، والصدقة بجزء من الربح، ولو عشرة في المائة أو عشرين للتخلص من الربا الذي فيها، واقتسموا الباقي.

السؤال:- بالنسبة للورثة هل يأخذون هذه الأسهم ليبيعوها ويقسموا الإرث، بالرغم من معرفتهم السابقة واللاحقة بوجودها، علما أن بعض الورثة قد علم ذلك، والبعض لم يعرف إلا بعد وفاته، فما هو الحل في ذلك؟ الجواب:- نعم لهم أخذها وبيعها، والصدقة بجزء من ربحها، كالسدس أو الثمن، ومن امتنع من الصدقة بشيء من نصيبه بعد نصحه فأعطوه سهمه، وأما القاصرون فاحفظوا نصيبهم حتى يبلغوا، أو يرى وليهم تطهير حظهم بما هو الأصلح.

السؤال:- هل المشاركة في شركات المضاربة، والتكافل، والتضامن الإسلامية، للتأمين على الممتلكات ضد الظروف الطارئة والقاهرة، هل هو حرام أم حلال، وهل يتوافق هذا الاشتراك مع شرع الله؟ الجواب:- هذه الشركات معروفة بالاستغلال، واكتساح أموال الناس، فتفرض على كل مواطن أن يدفع التأمين عن نفسه وعن أولاده، وعن تجارته، وعن مسكنه، وعن سيارته الخ، فيدفع لهم شهرياً أموالاً طائلة، وقد يمضي عليه عدة سنوات لم يحتج إليهم، فلا يردون عليه شيئاً، ومتى احتاج إليهم شددوا في الشروط والالتزامات، والتنقيب عن الأسباب، فلا يدفعون له إلا بعد مدة، وبعد تكلف، ثم فيها مفسدة أخرى، وهي أنه قد يكلف الشركة أموالاً طائلة، أضعاف ما أخذت من أولئك المساهمين، وذلك من الغرر والضرر، فالأول أخذها من المساهم بدون أن تخسر، عليه والثاني دفعها للثاني أكثر وأكثر مما دفع لها، والمفسدة الثالثة مخاطرة الكثير من المساهمين، وعدم التثبت، بحيث يركب الأخطار، ويتهور مدعياً أن الشركة ستدفع ما نتج عنه من الحوادث، وتلك مفسدة كبرى، فأرى عدم المساهمة معهم، واعتماد الإنسان على الله، ورضاه بما قسم الله وقدره عليه، وحرصه على الثبات، وفعل الأسباب للوقاية، ((ومن يتوكل على الله فهو حسبه)) (سورة الطلاق: 3) ، وجزيت خيراً على حرصك على الحق.

السؤال:- أعمل مسئول مبيعات بإحدى المؤسسات، ويتم البيع بسعر ثابت بالرياض، ولا يتم التوصيل خارج الرياض. وجاءنا عميل يشترط التوصيل إلى تبوك، ورفض صاحب المؤسسة التوصيل، فتم الاتفاق مع المشتري على أجرة النقل إلى تبوك وهي 1800 ريال، وهي المعتادة في السوق، ووافق المشتري. ومن جهة أخرى اتفقنا مع نقليات للتوصيل ب 1600ريال، فما الحكم في فرق الأجرة، وما الحكم إذا كان تم أخذها فعلاً بواسطتي؟ الجواب:- أرى الاقتصار على الذي دفعتم للنقليات وهو 1600حيث تم الاتفاق المذكور على أجرة النقل وهو المعتاد، فإن أخبرتم المشتري ووافق على دفع الزيادة فلا بأس بأخذها، لطيب نفسه بذلك.

السؤال:- لي دين عند أحد الأشخاص، ولا يستطيع سداده الآن، وهو تاجر، فما الحكم في أن أبيع بضاعة من عنده خصماً من الدين المستحق عليه، بأن أرسل أحد الأشخاص لكي يأخذ منه بالسعر الذي أحدده، له ويسجل البيع باسمي عند الشخص المدين. الجواب:- حيث إنه تاجر، وعنده تجارة يقلبها، فلك مطالبته بدينك، ولو بأخذ سلع من تجارته، سواء بنفسك أو بوكيلك، وتخبره أنها من دينك، فلك أن تطلب منه الوفاء، فإذا اعتذر أنه لا يجد نقوداً فاطلب منه سلعاً قيمتها بقدر الدين، فإن أبى فلك شكايته، فإن كان مماطلاً ومصراً على ترك الوفاء، ويصعب رفعه إلى المحكمة، جاز لك العمل بمسألة الظفر المذكورة، والله أعلم.

السؤال:- رجل له أولاد ذكور وإناث، رباهم وزوجهم، وكل منهم في بيت، وله أيضا أولاد ذكور وإناث صغار قاصرون، وله أرضية وبيت طين أراد والدهم، أن يبيع البيت، وخشي معارضة أولاده له، فهل له الحق يتصرف في ملكه، وليس عليه لوم لائم من بعيد أو قريب، فهل الوالد يتصرف في ما يملك دون معارضة من أحد؟ الجواب:- الوالد يتصرف في ملكه في حياته وصحته بما يريد، وليس لأولاده رده، ولا الاعتراض عليه، إذا كان عاقلاً رشيداً، وكذا له الأخذ من أموال أولاده ما لا يضرهم ولا يحتاجون إليه، لأنهم من كسبه لحديث "أنت ومالك لأبيك" فإن كان قد تغير عقله من الكبر، أو كان مريضاً يخاف الموت، فلا ينفذ تصرفه إلا بإجازة الورثة كلهم، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم دفع العربون مثالاً في شراء سكن، أو أي شيء له ثمن؟ الحواب:- يجوز دفع العربون كمقدم للثمن، سواء كان المبيع عقاراً كمسكن، أو منقولاً كسيارة، حيث إن البائع قد لا يثق بجزم المشترى وإقدامه على الشراء، فيتوثق بأخذ مقدم الثمن، حتى إذا ترك الشراء كان عنده وثيقة، يتمكن من حبس السلعة تلك المدة، والله أعلم.

السؤال:- ما الحكم في الرجل الآخذ سيارة بالتقسيط، رغم أن البائع لم يملك السيارة بعد؟ الجواب:- لا يصح العقد حتى يملك السيارة، ولو حصل الاتفاق بينهما قبل التملك، وعرف رغبة المشتري، وعزمه على الشراء بالدين، فذهب البائع واشترى السيارة، وقبضها وغير موضعها، ثم عرضها على المشتري، وخيره فيها، وأخبره بقدر الثمن وقدر الأقساط وأوقاتها، ولم يلزمه بالشراء جاز ذلك، لانتفاء المحذور، والله أعلم.

السؤال:- "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" أرجو شرح هذا الحديث النبوي الشريف، مبيناً أثر الجالب والمحتكر على الأمة؟ الجواب:- الجالب هو الذي يخرج مالديه من السلع، ويعرضها للبيع بسعر يومها، سواء من الدواب، أو من الأطعمة، أو من الأقمشة، أو من الأواني، أو العقار، أو غير ذلك، فيحصل بعرضه وبيعه توسعة على الناس، وتسهيل الأرزاق، وتوفر الحاجات المطلوبة، فالله تعالى يرزقه ويربح تجارته. أما المحتكر فهو الذي يحبس السلع لديه، ويخزنها حتى تقل من الأسواق، ويرتفع ثمنها، ثم يعرضها للبيع، ويزيد في قيمتها، فهو يستحق الطرد من رحمة الله تعالى، حيث إنه ضيق على الناس، والحديث رواه ابن ماجة والدارمي وفي اسناده مقال.

السؤال:- ما عقوبة المحتكر في الإسلام؟ الجواب:- عقوبة المحتكر عند الله اللعن، وهو الإبعاد من الرحمة، ويستحق التعزير إذا أصر على الاحتكار، واحتاج الناس إلى ما عنده من الأقوات والأكسية والسلع الضرورية، فمنع بيعها، فللحاكم إلزامه أن يبيعها بسعر يومها، فإن أبي نكله وتولى بيعها.

السؤال:- واحدة من أقاربي اشترت بعضاً من الذهب بمبلغ وقدره 1600ريال فدفعت 1000ريال فقط، وبقي له 600ريال فعند ما عادت إليه بعد 10أيام لتدفع له الباقي لم تجده، فقد انتقل إلى الطائف، ولم تعرف في أي مكان، وأيضاً لم تعرف اسمه، وذهبت عدة مرات إلى محله، لتحاول أن تجده فلم تجده. أفيدونا حفظكم الله ماذا تفعل بالباقي وقدره 600ريال. الجواب:- لقد أخطأت، فإن الذهب لا يباع إلا يداًَ بيد، إلا إذا بيع بعرض، والمعروف أن الأوراق النقدية ليست عروضاً بل هي نقود، وتقوم مقام الفضة التي لا تباع بالذهب إلا يدا بيد. وعليها أن تسأل المجاورين له عن اسمه، وعن عنوانه في الطائف، فلابد أن أصحاب المحلات القريبة منه يعرفونه، ويعرفون من يتعامل معه، ويتصلون به هاتفياً، فبعد معرفته اتصلوا به، وسلوه عن وكيله في البلد، لتدفع له النقود، ثم اتركوها عندكم إن لم تعرفوه أشهراً، للبحث عنه، فمتى أيستم من معرفته فتصدقوا بها، فإن عرفتموه بعد ذلك فخيروه بين أجرها وغرامتها له والأجر لكم.

السؤال:- أفيد فضيلتكم بأنني أرغب شراء عمارة بمدينة جدة، وليس لدي المبلغ الكافي لشرائها، مما يدفعني للشراء بالتقسيط، وحيث إنه يوجد قسم للبيع بالأقساط بشركة الراجحي، فقد أفادوني بأن أو كل مندوب الشركة على أي عقار راغب أنا في شرائه، دون أن أتدخل بينهم وبين صاحب العقار، وسوف يقومون هم بعملية الشراء لصالح الشركة من البائع، ومن ثم إذا أنا رغبت الشراء فإنهم يبيعونني هذا العقار، بعد أن تمتلكه الشركة فما رأي فضيلتكم؟ علماً بأنهم لا يطلبون عربوناً لذلك، ولا يلزمونني بالشراء في حالة عدم الرغبة في هذا لعقار؟ الجواب:- لا مانع من الشراء منهم بعد أن يملكوها، وتدخل في ملكيتهم، ويبيعوها لك بثمن مؤجل ومقسط، ولو كنت أنت الذي دللتهم عليها، إذا لم يكن هناك إلزام قبل شرائهم لها، فيجوز ذلك بلا كراهة، والله أعلم.

السؤال:- إنني أتعامل مع شركة كبرى في بعض الأجهزة، ولي معرفة مع مدير المناقصات بتلك الشركة الكبيرة، وهناك بعض الطلبات المقدمة للشركة الكبيرة بأسعار قليلة لا تناسب الشركة، مما يجعلها ترفض. وقد طرح علي هذا الزميل بأن يعطيني بعض الطلبات، وأستوردها أنا بشركة صغيرة، يكون الربح فيها بالمناصفة بدون علم الشركة الكبيرة. الجواب:- لا أرى بأساً بذلك إذا لم يخالف العادات المتبعة، وأنظمة البلاد، ولم يحصل فيه ضرر على الشركات، أو الأفراد، أو الأعمال، فالأصل في المعاملات الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه.

السؤال:- زوجتي لها عمارة. وقد أوصت في حياتها بأن تكون هذه العمارة مسبلة بعد وفاتها، وإني أرغب في نقل هذه السبالة إلى مكان أنسب وأفضل أجرةً؟. الجواب:- لا يجوز نقلها إلى بإذن القاضي، وبعد ما تتعطل عن الإجار، فيبيعها القاضي وينقلها إلى المكان المناسب.

السؤال:- نحن مدرسون في مدرسة ابتدائية في إحدى الهجر، وطلاب تلك الهجرة يهدون لنا السمن، والأقط، واللبن، والكمأة ... وأحياناً نحن نطلب منهم ذلك، ونأخذه منهم فما الحكم الشرعي في ذلك؟ الجواب:- نرى المنع من قبول مثل هذه الهدايا، مخافة أن المدرس يميل مع هذا الطالب الذي أهدى له، فيتغاضي عن ذلك التلميذ متى غاب، فلا يغيبه، أو يعتذر عنه، وقد يزيد له في درجات أعمال السنة، أو الاختبار النهائي، أو نحو ذلك، فمتى ترتب على قبول الهدايا مثل هذه المعالمة لم يجز قبولها، ومتى علم الأستاذ من نفسه أنه لا يميل مع أحد، ولا يفضل هذا على هذا، وأنه يقوم بمعاملتهم بما يستحقونه، فلا مانع من قبول الهدايا لقوله في الحديث "تهادوا تحابوا" "فإن الهدية تسل السخيمة" أي الضغائن والبغضاء من القلوب، وقد تكون الهدايا معنوية كالفوائد، والعلوم المفيدة، والله أعلم.

السؤال:- أنا شخص حاصل على عضوية لبطاقة بنكية: تسمى (بطاقة الائتمان) ومن خلال هذه العضوية استطيع أن أشتري كل ما يلزمني، خاصة أثناء السفر، والذي أحرص على أن لا أستخدم فيه النقود وذلك للأمان من السرقة والضياع، علماً أن العضوية في هذه البطاقة تلزمني بدفع رسوم سنوية، حيث يقوم البنك الذي أشترك فيه بإرسال كشف شهري لما تم شراؤه، بدون زيادة في المبالغ، إلا أنه في حالة عدم تسديدي خلال شهر فإن تلك المبالغ تؤخذ عليها فائدة، مع العلم أنني لن أتأخر في السداد، لتوفر المبلغ فما هو حكم هذه البطاقة؟ الجواب:- هذه البطاقة في نظري لا يجوز الاشتراك فيها، لأجل الرسوم السنوية التي تؤخذ منهم بسببها، وأيضاً فإن فيها حجرا عليك أن لا تشتري بها إلا من أناس معينين، أو إذا تأخرت عن السداد فإن البنك يزيد عليك في المبالغ، والزيادة ربا صريح، لكن في السفر إذا خشيت من سرقة نقودك يمكن أن تباح هذه البطاقة بقدر الحاجة فقط.

السؤال:- ما حكم استئجار الخيام في منى إلى الحجاج؟ الجواب:- أرض منى مشعر، ومحل لأداء النسك، وهو المقام بها حتى تنقضي أيام الحج، فلا يحل بيع أرضها، ولا تأجير الأرض، وإنما هي منزل لمن سبق إليها، لحديث "منى مناخ من سبق" وهكذا لا يجوز أخذ أرض زائدة عن قدر حاجة القافلة، بل من سبق إلى أرض فإنه يأخذ منها بقدر حاجته وحاجة رفقته، ويدع الباقي للحجاج، ينزل به من سبق، وهكذا لا يجوز أن يطلب أرضا واسعة، ويبنى فيها خياماويؤجرها، حيث إنه أخذ ما لا يحتاجه من أرض المشعر، لكن يجوز أن يؤجر الخيمة قبل نصبها وبنائها، والمستأجر هو الذي ينصبها إذا لم يكن معه خيمة، فله أن يستأجر من أهل الخيام المطلوبة، ويقوم ببنائها، ويحدد الأجرة التي هي مقابل الخيمة، لا مقابل الأرض التي هي غير مملوكة، والله أعلم.

السؤال:- يوجد لدي والدة لديها مبلغ من المال، وقد اشترت بجزء من هذا المبلغ قطعة أرض، ووكلت ابنها على إنشاء الأرض، على أن يقوم بتسليم مبلغ مائة ألف ريال دفعة أولى، وبعد الانتهاء من العظم يسلم ثانية، وهو يطالب الآن بمبلغ الدفعة الثانية، وهو لم ينه العمل المتفق عليه. هل يسلم له المبلغ الذي يطلبه أم لا؟ الجواب:- أرى أنه لا يستحق الدفعة الثانية حتى ينتهي العمل المتفق عليه بينهما، وهو الانتهاء من العظم، لكن إن كان يعمل لأمه كوكيل، وليس له من الربح شيء، وقد أنفق ما يملك مما تسلمه فلا بأس أن يطالب بما يحتاجه، كأجرة العمال، وقيمة المواد، والله الموفق.

السؤال:- أتى إليّ رجل يطالبني بدين لأخيه، وكان بين وبين أخيه حساب سابق، وهذا الحساب قائم، إلا أن أخاه في اليمن، فطالبته بوكالة واتصال من أخيه فلم يفعل، وذهب لحال سبيله، ثم علمت أنه سافر إلى اليمن، ومن ثمّ جاءه الأجل فمات. وبعد عدة أشهر جاء رجل آخر مدعياً أنه دفع للمتوفى مبلغ ألف ريال سعودي، وأن المتوفي حول له بالألف عليّ شفوياً قبل موته، وكان ذلك دون علمي قبل سفره وبعد موته، ومع الأخذ بالعلم أن الميت لا يسألني شيئاً يخصه، وليس له عليّ دين، وإنما الحساب بيني وبين أخيه الذي هو مقيم في اليمن حيِّ يرزق، فما حكم هذا المطالب؟ الجواب:- لا تدفع له إلا إذا جاءك بوكالة من صاحب الحق الذي هو حي يرزق، ويقيم في اليمن، فإن أتى بما يثبت ذلك وإلا فاسأل عن عنوان صاحب الحق، وأرسل له حقه بواسطة أحد البنوك، حتى يصل الحق إلى مستحقه.

السؤال:- ما حكم بطاقات التخفيض التي تصدرها بعض الشركات بمبلغ بسيط، نرجو من فضيلتكم التكرم بالإجابة عن صفة هذه البطاقات. الجواب:- أرى أن هذه البطافات دعايات للشركة، للحصول على هذه المبالغ من المساهمين، وكذلك ما تدفعه لهم البقالات، والتموينات، والأسواق التي يحيلون عليها، ثم فيه أيضاً ضرر على بقية أهل الأسواق الذين لم يساهموا عند هذه الشركة، حيث ينصرف الناس عنهم، لأجل هذه التخفيضات الوهمية، فأرى البعد عن هذه التخفيضات، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم تقطيع آذان الأغنام وقرونها؟ الجواب:- كان أهل الجاهلية يقطعون آذان الدواب كعلامة على نوع من الأنعام التي يحرمونها، ويسمونها البحائر والسوائب، وقد ذكر الله أن ذلك من وحي الشيطان إليهم، فحكى عن إبليس أنه قال: (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) (النساء:119) . ومتى قطعت آذان الدابة أصبحت متميزة عن غيرها بهذه العلامة الجلية فيجعلونها لآلهتهم، كما قال تعالى عنهم (هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) (الأنعام:136) . أي معبوداتهم، ومنها ما يختص به الرجال، كما في قوله تعالى (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) (الأنعام:139) ولا شك أن هذا الفعل محرم حيث إنهم يحرمون ما أحل الله، ويحلون ما حرم الله ويجعلون ميزة ورمزا لهذا النوع من المحرمات، فالتحريم ليس هو مجرد تبتيك الآذان، وإنما التحريم ينصب على عزل هذا النوع، وتسميته بهذا الاسم، بحيث يمنع التصرف فيه تصرف المالك لملكه. وقد وقع في هذه الأزمنة المتأخرة أن بعض الناس يقطعون من المعز أو نوع منها أنصاف الآذان ويعتذرون عن الفعل المذكور بأنهم لا يقصدون تحريمها، ولا الإشارة إلى أنها بحيرة أو سائبة،،، الخ. ولكن ذلك من زينتها وجمالها، حيث زعموا أن في آذانها طولاً مفرطاً، وتقصيرها يزيل ذلك الشين والقبح في المرأى، وربما علل بعضهم أن طول الآذان يعوقها في الشرب والرعي، حيث تعترض الآذان دون الماء أو الأكل، فبقطعها يزيل التعويق هكذا عللوا، ويمكن أن يعتبر هذا عذرا لهم، مسوغا تقصير الآذان بقدر الحاجة، لكن بعضهم يقطع أكثر الأذن، مما لا حاجة إلى قطعه، فيدخل في المحرم أو المكروه، أما إن كان القصد الجمال فقط، فأرى أن خلق الله أحسن تقويما، فلا يحتاج إلى تحسين خلقة أو منظر، فالآذان في الأصل خلقها الله زينة، ولحاسة السمع، وجعلها في هذا الحيوانات طويلة، حتى ترفعها وقت سماع الصوت البعيد،

فتغييرها وتقصيرها فيه اعتراض على خلق الله، وتشويه للمنظر، لكن يستثنى من ذلك إذا كانت طويلة طولا مفرطا، فقد يرخص في قطع بعضها الذي يعوقها في الأكل، أو الشرب، ثم لابد عند القطع أن لا تتأذي وتتألم، وذلك أن يعملوا طريقة تخفف عنها وجع القطع، وإيقاف الدم في حينه، ولابد أن هناك طرقاً معروفة لذلك، ثم إن هناك آخرون يقطعون طرف الأذن من البقر أو الغنم لقصد السمة والعلامة، وقد تشق الأذن عرضا أو طولا وقد ورد في حديث مرفوع النهي عن الأضحية بالعضباء التي ذهب أكثر من النصف من أذنها أو قرنها وكذا ورد النهي عن المقابلة والمدابرة ونحو ذلك وهي أن تشق الأذن من وسطها أو من أحد جانبيها وكل ذلك لمجرد السمة غالباً، وهذا يجوز عند الحاجة، كخوف الاشتباه، وعدم المعرفة بالوسم المخصص، وليس في هذا ألم شديد، فيغتفر لحاجة. وأما كسر القرن أو قطعه فيجوز إذا كانت الشاة تؤذي بقرنها، فقد يحدث أن بعض المعز أو الكباش أو الإناث من الغنم حيث تكون طويلة القرن، تنطح غيرها، فيحصل من النطح موت أو عيب أو نحوه، فلا بأس بقطع القرن أو بعضه بقدر الحاجة وبدون ألم للحيوان، والأولى تركه، فأما لقصد الجمال والزينة فأرى أنه لا يجوز، لما فيه من تغيير خلق الله، وتأليم الحيوان بغير حق، والله أعلم.

السؤال:- إني أعمل في محل خياطة، وجاءني رجل يريد أن أبحث له عن محل، فقمت بالبحث، فوجدت المحل، وأبلغت الرجل أن صاحب المحل يريد (25) ألف ريال مقابل تنازله عن المحل، فجاءني بـ (15) ألف ريال وقال لي دع هذا المبلغ معك، وبعد ثلاثة أيام سوف أكمل المبلغ (25) ألف ريال، وقبل أن يأتيني الرجل بالمبلغ المتبقي. احترق حوالي 250دكاناً، ومن ضمنهم محلي، احترق المحل بما فيه من قماش، ومبلغ حوالي 180ألف ريال، والخمسة عشر ألف حق الرجل، والآن الرجل يطالبني بـ15ألف ريال حقه، وأنا لا أملك شيئاً. هل يعتبر المبلغ ديناً عندي، أم ليس له شيء؟ الجواب:- هذه الدراهم أمانة عندك، قد وثق بحفظك لها، وأودعها عندك، وحيث إنها تلفت مع غيرها من مالك، وأن الحريق قد عم غير متجرك، وأنه أمر مشهور لا تلحقك فيه التهمة، فلا شيء له عليك، فكما خسرت مالك، يخسر هو مثلك، حيث إنك لم تفرط، ولم تهمل، ولم تتعد، فعليك أن تقنعه، فإن أبى فلابد من الترافع إلى الحاكم، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الاشتراك في المسابقات التي تقيمها الجرائد والمجلات؟ الجواب:- لا شك أن هذه الجوائز التي تمنحها الصحف والمجلات، ما قصدوا منها إلا مصلحتهم، حيث يكثر شراء تلك الصحف، وتنتشر وتروج بين الأفراد فيربحوا ربحاً كثيراً، أضعاف ما يبذلونه من الجوائز، رغم أن تلك الصحف ليس لها ميزة عن غيرها، بل ربما يكون فيها فساد وشر، وصور فاتنة، ومقالات منكرة، فيقصدون ترويجها بين الناس بهذه الجوائز، فعلى هذا لا يجوز الاشتراك فيها، لما فيه من تشجيعهم، وتقوية صحفهم، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الاشتراك في المسابقات التي تقيمها المحلات والمؤسسات التجارية، وهي قد تشترط على المشارك شراء شيء من سلعها، وقد لا تشترط ذلك؟ الجواب:- هذه أيضاً من الدعايات إلى ترويج السلع، وإشهار الأماكن، ونشر سمعة بين الناس، لهذه المحلات، فننصح بعدم الشراء منهم لأجل تلك الجوائز، أما إذا اشترى منهم لحاجته إلى السلع، ولم يقصدهم، ويذهب إلى محلاتهم البعيدة لأجل الشراء، بل اشترى منهم لقربهم، منه، فلا بأس بأخذ الجوائز ونحوها.

السؤال:- ما الحكم في الاشتراك في مسابقات علمية، أو معلومات عامة، وفي حالة الاشتراك قيمة الجائزة 10000ريال. الجواب:- يجوز إذا كان ذلك في حل مسائل علمية يتعلق بالتوحيد، أو الفقه، أو التفسير، وليس فيها دعاية إلى المحلات، أو إضاعة أوقات، ولا بأس بأخذ الجائزة في هذه الحال، والله أعلم.

السؤال:- لدي أسواق تجارية وأرغب في إقامة مسابقة يعقبها توزيع جوائز على الفائزين، وطريقتها ما يلي:- اسئلة المسابقة، يتحصل عليها كل شخص، ولا يجبر بالشراء بمبلغ معين حتى يدخل في المسابقة سواء اشترى أم لم يشتر، يحق له الدخول فيها. تجمع الإجابات الصحيحة في صندوق، ويحدد، ويعلن للجميع أنه في هذا اليوم يتم سحب عشر إجابات صحيحة مثلاً، من بين خمسين إجابة، والعشر إجابات التي سيقع عليها الاختيار أصحابها هم الفائزون في هذه المسابقة. السؤال هل يدخل في هذه العملية شيء من القمار، أو أنها نوع محرم من أنواع المحرمات؟ الجواب:- ينظر إلى الهدف من هذه المسابقة، فإن كان القصد منها فائدة الباحث، وحثه على البحث والسؤال، ومعرفة الجواب الصحيح، فإن ذلك جائز، لما فيه من حرص المشتركين على العلم والتعلم، ومعرفة تلك الأحكام، فيعود عليهم بفائدة، ولو كان قصدهم الحصول على الجائزة، كجوائز المتفوقين في الجامعات، والمعاهد العلمية ونحوها. وإن كان القصد المصلحة لك دنيوية خاصة، فلا تجوز هذه المسابقة، فيما يظهر فتركها أفضل، والله أعلم.

السؤال:- هناك رجل وجد طفلاً رضيعاً في أحد المساجد، ولا يعرف أباه ولا أمه، فأخذه معه إلى البيت، وأخبر أهله وقبيلته أن هذا الطفل هو طفله من امرأة تزوجها، ولما أنجبت هذا الطفل توفيت، فسماه ونسبه إلى نفسه وإلى قبيلته، ومما اتفق هو وزوجته التي في ذمته أنه إذا توفي يعطى هذا الطفل من الميراث (لأنه أعلم زوجته بالحقيقة أن هذا الطفل لقيط) فهل تصرفه هذا صحيح؟ وماذا عليه أن يفعل إذا كان تصرفه غير صحيح؟ الجواب:- هذا الطفل هو اللقيط الذي عرفوه بأنه طفل نبذ أو ضل ولا يعرف نسبه، فعلى هذا لا يجوز أن ينسبه لنفسه، حيث أنه لم يولد من زوجته، فإن أرضعته زوجته فهو ابنه من الرضاع، وأخو أولاده من الرضاع، فإن لم ترضعه زوجته من ثديها فلا يكون محرم لبناته، ولا لأخو ته ولا يجوز أن يورثه من ماله وهو ليس من صلبه، وأما التسمية والنسبة إليه وإلى قبيلته، فيجوز ذلك على أنه من الموالي، ومولى القوم، والله أعلم.

السؤال:- واحدة من أقاربي اشترت بعضاً من الذهب بمبلغ وقدره 1600ريال فدفعت 1000ريال فقط، وبقي له 600ريال فعند ما عادت إليه بعد 10أيام لتدفع له الباقي لم تجده، فقد انتقل إلى الطائف، ولم تعرف في أي مكان، وأيضاً لم تعرف اسمه، وذهبت عدة مرات إلى محله، لتحاول أن تجده فلم تجده. أفيدونا حفظكم الله ماذا تفعل بالباقي وقدره 600ريال. الجواب:- لقد أخطأت، فإن الذهب لا يباع إلا يداًَ بيد، إلا إذا بيع بعرض، والمعروف أن الأوراق النقدية ليست عروضاً بل هي نقود، وتقوم مقام الفضة التي لا تباع بالذهب إلا يدا بيد. وعليها أن تسأل المجاورين له عن اسمه، وعن عنوانه في الطائف، فلابد أن أصحاب المحلات القريبة منه يعرفونه، ويعرفون من يتعامل معه، ويتصلون به هاتفياً، فبعد معرفته اتصلوا به، وسلوه عن وكيله في البلد، لتدفع له النقود، ثم اتركوها عندكم إن لم تعرفوه أشهراً، للبحث عنه، فمتى أيستم من معرفته فتصدقوا بها، فإن عرفتموه بعد ذلك فخيروه بين أجرها وغرامتها له والأجر لكم.

التفسير

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة التفسير

السؤال:- ما رأي سماحتكم في كتاب (صفوة التفاسير) للأستاذ/ محمد علي الصابوني. حيث إننا نقوم بتوزيع الكتب الإسلامية على الشباب المسلم في الخارج عن طريق المراسلة؟ الجواب:- هذا الكتاب قد اجتهد فيه مؤلفه، وجمعه من عدة تفاسير، واطلع على أقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين، لكن المؤلف على معتقد الأشاعرة في الأسماء والصفات، وقد ظهر أثر عقيدته في الكثير من الآيات التي تعرض لتأويلها، وصرف دلالتها، ولو على وجه الرمز والاختفاء، وهي معلومة لكل مسلم صحيح المعتقد، وأما بقية التفسير فلا مانع من قراءته، وهو أقل أخطاء من كتب الأشاعرة كالرازي وأبي السعود والبيضاوي ونحوهم.

السؤال:- يقول تعالى: (وعلى الأعراف رجال ... ) (الأعراف:46) فمن هم أهل الأعراف؟ وما حالهم؟ الجواب:- يظهر أن الأعراف أماكان مرتفعة، تطل على موقف الناس يوم القيامة، أما أصحاب الأعراف فهم الذين يقفون عليها، أو يقومون عليها وقت الحساب، وقد اختلف في المراد بهم، والظاهر أنهم من الشهداء على الناس، وأنهم لا يحرمون من دخول الجنة، لأن الله أخبر أنهم ينادون رجالا يعرفونهم بسيماهم، ويقولون لهم (ما أغني عنكم جمعكم) (الأعراف:48) الآيتين، وقيل: إنهم أناس تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وقيل إنهم أناس عصوا الوالدين فخرجوا للجهاد، فاستشهدوا في سبيل الله، والله أعلم.

السؤال:- وصف الله تعالى يحيى عليه السلام بقوله (وسيداً وحصوراً) (آل عمران:39) ما هو الحصور؟ الجواب:- الحصور في اللغة هو الممنوع، أو العاجز عن الشيء، ومنه قوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) (البقرة:196) أي منعتم وحبستم عن إكمال الحج أو العمرة، وقد فسر الحصور بأنه المنقطع للعبادة، والزاهد في الدنيا، وفسر بأنه الذي لا أرب له في الشهوات، وقيل: هو الذي لا حاجة له في النساء، والأقرب أنه من الانقطاع عن الملذات والملهيات، بحيث لا ينشغل عن الطاعة والعبادة، ولا يلزم منه عدم الرغبة في النساء، لقوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم ازواجاً وذرية) (الرعد:38) ورجح ابن كثير في تفسيره (1/362 سورة آل عمران:39) أنه لا يدل على الامتناع عن النكاح، والله أعلم.

الحج

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الحج

السؤال:- لقد يسر الله عليَّ فريضة الحج في عام 1415هـ ونويت الحج بنسك "القران" ونطقت بقولي: لبيك حجاً. لبيك اللهم لبيك ... الخ. هل هذه التلبية خاصة بنسك الإفراد، أم لجميع أنواع الحج؟ لأني قد نويت بها في نسك القران..! وكذلك عندما نويت القران في قلبي لم أكن أعلم أنه في هذا النسك حج وعمرة مقترن ببعضها، فقط طفت وسعيت وهكذا، هل علي شيء في ذلك. الجواب:- على القارن أن ينوي أن إحرامه بالحج والعمرة جميعاً، ويقول في التلبية " لبيك عمرة وحجاً " ثم يقول: لبيك اللهم لبيك ... الخ ويطوف للقدوم، ويبقى على إحرامه، ويقف بعرفة، ويعمل أعمال الحج وعليه دم، لأنه في حكم المتمتع، حيث إن نسكه يكفيه عن الحج والعمرة لتداخلهما، ويجوز إذا أحرم بالعمرة أن يدخل عليها الحج فيصير قارناً، ولا يجوز إدخال العمرة على الحج، ويفضل لمن أحرم قارناً أن يفسخ إحرامه إلى عمرة، ويصير متمتعاً إن كان في الوقت سعة، والله أعلم.

السؤال:- أعمل في الرياض منذ ثلاث سنوات، وبفضل الله أتممت فريضة الحج، ولكني أريد أن أحج عن أبي المتوفي رحمه الله، فما هي كيفية الحج للمتوفى إن كان يجوز ذلك؟ الجواب:- يجوز أن تحج عن أبيك المتوفى والذي لم يؤد فريضة الحج بعد أن حججت عن نفسك، وقد ورد في الحديث " أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال نعم، أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته، فاقضوا الله فالله أحق بالوفاء " فعلى هذا تنوى أن أجر حجتك لوالدك، وتقول عند الاحرام: اللهم تقبل حجتي عن والدي؛ وتلبي كما يلبي غيرك، وتدعو دعاء عاماً لك ولوالديك، وعند ذبح دم المتعة تقول: اللهم تقبل هديي عن والدي، ولا تلفظ بغير ذلك في بقية المناسك، بل تكفيك النية والله أعلم.

السؤال:- لي والدة كبيرة في السن، ولا تستطيع أن تتحمل مشاق أداء المناسك، وتتمنى ان ينعم الله عليها بزيارة بيته وأداء مناسك الحج، ولكني غير قادر مادياً، فهل يجوز لي أن أحج نيابة عنها؟ الجواب:- إذا كانت داخل المملكة، ولم يسبق أن حجت الفرض، وهي تقدر على الثبات والاستقرار على السيارة أو الطائرة، وعندها أو عند وليها من المال ما يكفيها نفقة وأجرة للحج، وجب عليها ذلك، ولو مع شيء من المشقة، فقد خفت المؤنة، وزالت التكلفة الشديدة لتوفر المراكب المريحة، وسهولة المواصلات، فهناك من يطوف بها محمولة، ومن يسعى بها على عربة، وتقف مع أهل عرفة، وفي بقية المشاعر، وتوكل من يرمي عنها، الجمرات، ومن يذبح عنها وبذلك يتم حجها، أما إن سبق لها أن حجت الفرض، وهي الآن كبيرة في السن، لا تتحمل المشاق إلا بصعوبة، فأرىأن لولدها أن ينوب عنها، ويجعل حجته لأمه، وهكذا إن كانت خارج المملكة، لصعوبة دخول المملكة، سيما أوقات المواسم، فلها أن توكل من ينوب عنها للفرض أو النفل، ولو من داخل المملكة لعجزها عن النفقة، والله أعلم.

السؤال:- رجل ذهب إلى مكة في أشهر الحج، واعتمر متمتعاً بها للحج في 1/11 ثم رجع إلى بلده، علماً أنها (الرياض) وفي يوم 6/12 ذهب إلى منى بثيابه ماذا عليه. وما تسمى حجته التي حجها؟ الجواب:- كان متمتعاً، ولكن انقطع تمتعه برجوعه إلى الرياض، فسقط عنه دم التمتع لسفره بين الحج والعمرة هذا السفر البعيد، ويكون حجه مفرداً، ولكن يجب عليه إذا مر بالميقات أن يحرم منه بالحج، ويذهب إلى الحرم لطواف القدوم، وحيث إنه لم يحرم، ودخل مكة بدون إحرام وتجاوز الميقاتـ فإن عليه دم جبران لتركه واجباً، ولا يأكل منه بل يدفعه لمساكين الحرم، فإن كان قد ذبح هدي تمتع لم يجزئه لعدم النية.

السؤال:- النعناع، المرامية، البابونج، والهيل إذا خلط بالمسمار "العويدى". ما حكمها للحاج؟ الجواب:- أرى أنها مباحة، حيث إنها لا تسمى طيباً، وشربها أمر معتاد، ولا يدخل ذلك في استعمال الطيب، وإن كان بعض العلماء كرهوا القرنفل ونحوه، وعدوه من أنواع الطيب، ولكن الأظهر عدم الكراهة له، والهيل والنعناع وما أشبهها فكلها تستعمل في الأشربةوالقهوة من غير كراهة.

السؤال:- هل للحاج أن يصلي الضحى في عرفة. وهل ينكر على من يصلي؟ الجواب:- لا حرج على من تطوع في السفر، فإن التخفيف عن المسافر رخصة له، لأجل ما يلاقيه من الصعوبات والمشقات، فأما إذا عدمت المشقة وحصلت الراحة والأمن والطمأنينة، فلا حرج على من تطوع، أو صلى الضحى، أو صلى الرواتب القبلية أو البعدية أو نحو ذلك، ولا ينكر على من رؤى يتطوع في عرفة أو في غيرها، والله أعلم.

السؤال:- شخص مقيم بالرياض، هل يمكن له الإحرام من جدة لأداء العمرة؟ الجواب:- ميقات أهل الرياض وأهل نجد وأهل الطائف ونحوهم من قرن المنازل أي من السيل أو من وادي محرم فمن تجاوز وأحرم من جدة لاداء العمرة أو الحج فعليه دم يفرق على مساكين الحرم والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز للمسلم أن يحج وعليه ديون، ولا يستطيع التسديد بسرعة، بل يتطلب الأمر للتسديد إلى فترة طويلة جداً تصل إلى السنين. ويخاف من الموت قبل أداء الحج، أو غير ذلك من العوائق البدنية. علماً أنه وأهله وأولاده يجمعون الفلوس، ويسافرون ويتمتعون، ويخسرون أموالاً. إذاً لماذا لا يجمع المسلم مالاً ويذهب وأهله لأداء فريضة الحج، والديون يتركون أمرها إلىالله، والخطر والموت واحد، سواء في الحج أو في الأسفار والرحلات الممتعة الأخرى، وغير ذلك من شؤون الحياة. أفيدونا جزاكم الله. الجواب:- نعم يقدم الحج على الأسفار، وعلى النفقات والخسارة التي يسرف فيها، فإن الحق لأهل الدين، فإذا كانوا يشاهدونه وهو ينفق، ويعمل ولائم، ويسافر إلى مواضع بعيده، وينفق في أسفاره، ثم لا يمنعونه من هذه النفقات، فبطريق الأولى أن لا يمنعوه من سفر الحج، فنفقته أقل من بعض النفقات في الولائم والحفلات والزيارات ونحوها، فعلى هذا لا يفرط في تأخير الحج، ولا يمنعه الدين المؤجل أو الذي لا يشدد أهله في الطلب، والله أعلم.

السؤال:- من المعلوم أن عقيقة المولود أمر مشروع، ولكن هناك عادات لبعض الناس، وهي إذا أراد أن يعق عن ولده أو بنته فإنه يدعو أهل القرية كلهم وربما دعى القبيلة كلها، وبعض القبائل المجاورين لقبيلته، وبناء على ذلك فإنه لابد أن يستنفر جميع أفراد أسرته، وكل من يعز عليه لمساعدته، ومن المعلوم في السنة أنه يعق عن الولد بذبيحتين، والبنت بذبيحة واحدة، جميعها يشترط فيها شروط الأضحية. ولكن ما يحدث في هذه القضية المشار إليها أنهم يشترون فيها عدداً كبيراً من الأغنام والجمال ويذبحونها دفعة واحده لهؤلاء المدعوين أو الحاضرين، وقد يذبح والد المولود من ماله، وقد لا يذبح بحجة أنه لا داعي لذلك، فقد ذبح من مال أقاربه ما يكفي أو يزيد من العقيقة المطلوبة. نأمل من فضيلتكم شرحاً وافياً عن هذا الموضوع، نظرا لما يسببه للناس من إهدار للأموال وهل هو مباح أم لا؟ الجواب:- وبعد فالمشروع عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة واحدة، من الغنم من الضأن أو المعز، والمشروع أن تكون مما يجزئ في الأضحية، إلا أنه لا يجزئ فيها شرك في دم، بل تكون كاملة، ولو كانت من الإبل أو البقر، والأفضل أن يدعو إليها أقاربه وأصحابه وأن يقوم بها والد الطفل دون غيره، وأن يقتصر على الوارد، لا يزيد في الذكر عن اثنتين، ولا في الأنثى عن واحدة، والأفضل أن يتصدق بجزء منها لحماً على المساكين، فأما الاسراف، وذبح الكثير، وإفساد اللحم، والتكلف بدعوة الأعداد الكثيرة فلا يجوز ذلك، لقوله تعالى (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف:31) ولقوله تعالى (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) (الإسراء:27) .

السؤال:- أفيد فضيلتكم بأنه ولله الحمد قد رزقت بابنة واسميتها (أبرار) لكنيي أشك في التسمية من الناحية الشرعية. آمل من فضيلتكم إعطائي الحكم الشرعي؟ الجواب:- التزكية منهى عنها لقوله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم) (النجم:32) وقد كان في الصحابة ابنة تسمى برة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تزكى نفسها الله أعلم بأهل البر منكم " فغير اسمها إلى زينب. فأرى تغيير اسم أبرار لأنه جمع بر وهو مذكر وفيه أيضاً تزكية للنفس والله أعلم.

السؤال:- أحد الأخوان رزق بمولودة أسماها (بيان) ما الحكم في ذلك؟ علماً بأن عمر المولودة أكثر من سنة، وقد سجلت في الأوراق الرسمية. الجواب:- أرى تغيير هذا الاسم، حيث ذكر بعض المشايخ أنه لا يجوز، وذلك لأنه اسم أو وصف للقرآن، والأولى تغييره ولو بعد مضى سنة أو أكثر، والله أعلم.

الحدود

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الحدود

السؤال:- بعض الشباب عندما تنصحهم عن شرب الدخان يقولون إنه مكروه، فما توجيهكم حول ذلك؟ الجواب:- لا شك أن الدخان خبيث، وليس من الطيبات، والله تعالى ما أباح إلا الطيبات، بقوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم) (البقرة:172) وبقوله (كلوا من الطيبات) (المؤمنون:51) وقال (ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث) (الأعراف:157) فالدخان خبيث الرائحة، وخبيث الفعل، وقد قرر الأطباء المعتبرون أنه خبيث، وأنه ضار بالجسم، ضار بالصحة، وسبب في إحداث كثير من الأمراض كالسرطان والسل الرئوي والسعال، وأمراض أخرى، ولو لم يكن فيه إلا أنه خسران مبين، وإتلاف للمال في غير فائدة، فكم صرف فيه من المال الذي يذهب هباء، ويحرق ويضر ببدن صاحبه، والله تعالى قد نهى عن إفساد المال بقوله: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (النساء:29) فمن أدمن على الدخان فقد أفسد ماله، وسعى في قتل نفسه، وقد ذكر الأطباء أن التدخين انتحار بطيء، بمعنى أنه يؤدي إلى الموت ولو تأخر زمانه، ثم إن تركه سهل يسير، ولكن يحتاج إلى عزم وقوة قلب، فكم من إنسان تعاطاه زمنا طويلاً ثم تركه، ولم يعد إليه وعافاه الله من شره، ونحيل القارئ إلى رسالتنا التي بعنوان (التدخين مادته وحكمه في الإسلام) وغيرها من الرسائل المؤلفة في هذا الموضوع، والله أعلم.

السؤال:- قام أحد الأخوان بالإنكار بشدة على شخص في مسألة فيها خلاف بين العلماء، فرد عليه ذلك الشخص بقوله لا يحق لك أن تنكر علي في هذا، فالمسألة فيها سعة، فما هي ضوابط إنكار المنكر؟ وهل صحيح أنه لا ينكر في المسائل الخلافية؟ وما حكم من ينكر على الغير في المسائل الخلافية؟ الجواب:- المسائل الخلافية هي التي تكون محل اجتهاد، وليس فيها نص صريح، ولا دليل صحيح يرجح أحد القولين، ووقع فيها الخلاف بين الأئمة المشهورين، وهي تتعلق بفروع الشريعة فهذه لا ينكر فيها بشدة على أحد المجتهدين مثل الجهر بالبسملة، والقراءة خلف الإمام، والتورك في الثنائية، وقبض اليدين بعد الرفع من الركوع، وعدد تكبيرات الجنازة، ووجوب الزكاة في العسل وفي الخضروات والفواكه، والفطر بالحجامة، ووجوب الفدية على المحرم إذا نسي وقص شعره أو تطيب ناسياً، ونحو ذلك أما إذا كان الخلاف ضعيفاً ومصادماً لنص صريح فإنه ينكر على من تركه، ويكون الإنكار بالدليل، كرفع اليدين عند الركوع والرفع منه والطمأنينة في الركوع والسجود والرفع منها، والتأمين مع رفع الصوت به في الجهرية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، ووجوب السلام للخروج من الصلاة، ونحو ذلك، أما إذا كان الخلاف في العقائد، كصفة العلو والاستواء، وإثبات الصفات الفعلية لله تعالى، وخلق أفعال العباد، والتكفير بالذنوب، والخروج على الأئمة، والطعن في الصحابة، وصفة البداء لله تعالى، والغلو في علي وذريته وزوجته، وإخراج الأعمال من مسمى الإيمان، وإنكار الكرامات، والبناء على القبور، والصلاة عندها، ونحو ذلك فهذا ينكر على من خالف فيها بشدة، حيث أن الأئمة متفقون فيها على قول السلف، وإنما جاء الخلاف من المبتدعة أو من بعد الأئمة، والله أعلم.

السؤال:- أقوم في بعض الأحيان بالتحقيق في أخطاء تقع من بعض الموظفين ونعد بعضهم بوعود في حال اعترافهم وإقرارهم، وبعد ذلك لا نلتزم بما وعدناهم به ونطبق عليهم العقوبات والجزاءات الخاصة بتلك الأخطاء فما حكم هذا العمل؟ الجواب:- كان الواجب على الموظف النصح والإخلاص في عمله، والبعد عن الغش والخيانة، والغدر والكذب، ومتى وقع منه خطأ فلا يؤاخذ عليه، لقول الله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة:286) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) أما إذا تعمدوا المخالفة، وبدر منهم ما يخل بالعمل، أو يخالف التعليمات، فإن عليهم الاعتراف بالمخالفة، والإقرار بما صدر منهم، وعليهم طلب العفو والصفح، والالتزام بعدم العودة إلى مثل ذلك، ومتى تعهدوا بذلك فالصفح عنهم أولى، إذا لم يكونوا أهل تساهل، وكثرة مخالفة، ولكم تطبيق العقوبات والجزاءات على من تكررت منه المخالفات التي تخل بالعمل، فأما أن تعدوهم وعدا بالعفو مقابل الاعتراف، ثم تخلفون الوعد، فإن هذا لا يجوز، لأنه كذب وخلف للوعد، والكذب وخلف الوعد من صفات المنافقين، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم من يكتشف شخصاً ما على معصية، ويستر عليه، ويكتفي بنصحه، رجاء صلاحه وهدايته؟ وهل يأثم لأنه لم يدل عليه الجهات المختصة؟ الجواب:- يجوز الستر عليه إذا لم يكن من أهل التهاون بالمعاصي، ولم يعرف منه كثرة اقتراف الذنوب، وارتكاب المحرمات، ففي هذه الحالة ينصحه ويخوفه، ويحذره من العودة إليها، أما إن كان صاحب عادة وفسوق، فلا تبرأ ذمته حتى يرفع بأمره إلى من يعاقبه بما ينزجر به، أما إن كانت المعصية فيها حق لآدمي، كما لو رآه يسرق من بيت أو دكان، أو رآه يزني بامرأه فلان، فلا يجوز الستر عليه لما فيه من إهدار حق الآدمي، وإفساد فراشه، وخيانة المسلم، وكذا لو علم أنه القاتل أو الجارح لمسلم، فلا يستره ويضيع حق مسلم، بل يشهد عليه عند الجهات المختصة بأخذ الحقوق، والله أعلم.

السؤال:- قبل فترة شََكيْتُ في نفسي أن أكون مريضاً بمرض، وذهبت إلى دكتور، وعملت الفحوصات اللازمة، وقبل أن تظهر نتيجة الفحوصات نذرت بيني وبين نفسي أني إذا كنت سليماً من هذا المرض عليّ لله تعالى أن أقلع عن التدخين، وفعلاً ظهرت نتيجة الفحوصات أني والحمد لله سليم من هذا المرض، وأقلعت عن هذا التدخين فترة أكثر من شهر ثم رجعت أدخن إلى حد الآن، ولم أستطع أن أقلع عنه أبداً، ماذا علي أن أفعل؟ هل أوفي بنذرى ورغم أنني لم أستطع أن أوفي بهذا النذر، ماذا علي أن افعل؟ الجواب:- لقد أخطأ أولاً بشرب الدخان، فهو محرم، ويضر بالجسم ضرراً بيناً، وينصح عنه الأطباء وأهل العلم، حتى من ينتجه أو يشربه. وأما تركه فليس فيه صعوبة، وكم من إنسان ابتلي به عددا من السنين، ثم شفاه الله منه، وأصبح تاركاً له بدون كلفة، وبدون نذر، ثم إنا ننصحك أن تقلع عنه دفعة واحدة، وتفطم نفسك منه كفطام الصغير من ثدي والدته، وبذلك تسلو عنه وتسلم من ضرره. فأما نذرك فإن لم تقدر على الوفاء به فلابد من كفارة، وهي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أهلك، والله أعلم.

السؤال:- رجل مبتلى بشرب الدخان، ولكنه متمسك بأمور دينه الأخرى، إن شاء الله، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج وتلاوة، ونوافل، ويخشى الله في كل شيء، ويرى في بعض الأماكن والمجالس وغير ذلك من الأحوال تصرفات سيئة، ومزحات فاحشة، وغيبة ونميمة، وترك صلاة، وغير ذلك من المنكرات فينهرهم دائماً وينصحهم ويرشدهم إلى الخير، ويخبرهم أن هذه أعمال منكرة وباطلة، لكنهم ينهرونه، ولا يلتفتون إليه، ويتغامزون، إلا العقلاء منهم، ويقولون: هذا شارب دخان وينصحنا، فلينصح نفسه، فينحرج الرجل الطيب هذا، ويتصبب عرقاً. فهل على هذا الرجل أن يتوقف عن الإنكار والإرشاد، أو يستمر ولا يبالي بهم ويجاهد في سبيل الله مهما حصل، فله شوق كبير إلى دوام النصيحة والإرشاد، ودعوة الناس إلى الخير. فما قول فضيلتكم جزاكم الله خيراً. الجواب:- عليه أن يستمر في نصحه وإرشاده، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، ودعوته إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة، بالتي هي أحسن، وأن يقنع من ينصحهم، ويقيم عليهم الحجة، ويأمرهم بقبول الحق ممن جاء به ولو كان عاصياً أو عدوا، وأن يأخذوا بقوله ولا ينظروا إلى عمله، فإن على الحق نوراً، وأن يحرص على التوبة من هذا الداء الدخيل وهو الدخان، ويقلع عنه بتاتاً، ويعزم على تركه ولو أحس بضرر أو دوخة، أو ألم في أول الأمر، فمع الجزم والحزم يعينه الله، وعليه أن يهجر أهل التدخين، ويبتعد عنهم، حتى يوفقه الله للاقلاع عن الدخان، وحصول السلامة منه، فهناك يقبل ما يقول، ويقتدى بالقول منه.

السؤال:- أرجو من فضيلتكم إفتائي في موضوع امرأة مطلّقة من زوجها، بسبب ارتكابها الفاحشة، وتم تعزيرها بالسجن عشرة أشهر، والجلد مائة وخمسين جلدة بموجب صك شرعي، ولديها من زوجها ثلاث بنات، واحدة عشر سنوات، واثنتان دون سبع. وهي تطالب بحضانة أو رؤية بناتها، وهي بعيدة عنهم، ما يزيد عن عام. هل من حق الأم رؤية بناتها أو حضانتهم؟ وهي تطالب القاضي بذلك. الجواب:- أرى أن حدها هو الرجم بالحجارة حتى تموت، ولا يكفي تعزيرها بالسجن، ولا بالجلد، ولا بالطلاق، فيراجع القاضي في هذا التعزير، ولابد من ذكر الدليل في الاقتصار على الجلد، مع وجوب الرجم، فإن كان له دليل، وقد سقط عنها الرجم، فلها الحق في رؤية بناتها أسبوعياً، أو شهرياً، أو سنوياً، بقدر الحاجة، وليس للأب منعها، والتفريق بينها وبينهم، (فمن فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته) .

السؤال:- ماذا يلحقني في كلب أسود اللون، وكان عطشانا وجوعاناً يريد أكلاً وماء، وضربته بالعصا حتى مات، وكان عمري عشر سنوات؟ الجواب:- مسألة الكلب إذا كان أسود اللون كله، ليس فيه ما يخالط السواد، فقتله مباح لأنه شيطان، فإن كان فيه لون غير السواد كالبياض والحمرة فلا يجوز قتله، وعليك أن تتوبي إلى الله، وتستغفري لذنبك، وتكثري من الأعمال الصالحة، رجاء أن يكفر الله عنك ما فعلت.

السؤال:- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان له مظلمة عند أخيه من مال أو عرض فليتحلل منه اليوم) مظلمة المال معروفة لدينا، وهي أخذ المال من أخيه بغير حق، من سرقة أو خلاف ذلك والله أعلم، أما مظلمة العرض من أي ناحية تعني هذه الكلمة، وكيف بعد أن ستره الله يكشف ستره، وما يترتب بعد ذلك من الضر الذي يلحق به، والمفعولة بها، وتشتيت الأسرة. ويوجد حديث ولا أحفظه هو (من ستر نفسه أو أخاه ستره الله يوم القيامة) أفيدونا بشرح هذا الحديث وجزاكم الله خيراً. الجواب:- مظلمة العرض هي أن يغتابه، ويقدح فيه في غيبته بما يعيبه، فإذا أراد التوبة من ذلك فعليه أن يستحل ممن اغتابه، ويطلب منهم السماح والعفو عنه، وإن لم يخبرهم بما قاله فيهم، لكن إذا أخبرهم بأنه قد تكلم فيهم في الغيبة، وأنه نادم وتائب، فإنهم سوف يعفون عنه، فلا يطالبونه في الآخرة بشيء، فإن خاف أن يسوء ظنهم فيه، وأن يضمروا له العداوة، فلا يخبرهم، لكن يكثر من مدحهم أمام من اغتابهم عنده، ويدعو لهم، فلعل ذلك يكفر عنه ما مضى، والله أعلم.

السؤال:- في الحديث (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) ما هو الستر المقصود؟ وهل من ارتكب جريمة يجب الستر عليه إذا لم يفتضح أمره؟ الجواب:- هذا الحديث صحيح، مروي عن عدد من الصحابة، ولكن الستر هو ستر العورات فيما يظهر، أي الكسوة، كأن تراه عارياً فتعطيه ما يستر سوأته، ويدخل في ذلك ستر العورات المعنوية، وذلك أن الإنسان لا يحب أن يفشو ما يسره، فإذا رأيت منه شيئاً مما يخفيه من أمور منزله وأسراره، وما يحصل منه في داخل داره في ماله ومع زوجته وأولاده، فعليك ستر ذلك، وعدم نشره، إذا كان لا يحب نشره، فأما من عمل ذنباً كالزنا، وشرب الخمر، وأخفى ذلك، فالأولى نصحه وتحذيره، فإن علم منه الندم والتوبة، والصدق في ذلك، فعليك الستر عليه، فإن علم منه الكذب والتمادي في هذا الجزم، سيما إذا كان ضرره متعدياً فلا يجوز الستر عليه، والله أعلم.

السؤال:- ما رأي سماحتكم في حلق اللحية إذا كانت هناك ظروف تفرض ذلك؟ الجواب:- حلق اللحية حرام، لأنها شعار الإسلام، وقد ورد الأمر بتركها، كما قال صلى الله عليه وسلم (اعفوا اللحى وجزوا الشوارب) وفي رواية (حفوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس) متفق عليه وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام من طاعة الله تعالى لقوله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء:80) ولا يجوز الحلق إلا لعذر، كالإكراه، والخوف على النفوس من فتنة، فأما حلقها لمجرد التقليد، ومحاكاة الرؤساء، والسادة، الزعماء، أو كراهية لهذا الشعر، أو التماسا للمرودة وبقاء نظرة الشباب ولو مع الشيخوخة، فكل هذا لا يجوز، ويوقع في المعصية والمخالفة، والله أعلم.

السؤال:- ما أثر استعمال المخدرات والإدمان عليها على سلامة أصول الدين؟ الجواب:- المخدر هو مأكول أو مشروب، يحصل من أثره تخدير للجسم، وإضعاف للاحساس، وهو مما ابتلى به كثير من الناس في هذه الأزمنة، وعظمت المصيبة به، فأصبح من تعاطاه لا يستطيع الصبر عنه على أي حال، ولو بذل في سبيل تحصيله النفس والنفيس، ولا شك أنه أثر إضعاف العقل، وظهور الضعف في التصرف، فربما سلب المدمن عقله، فأصبح كالمخبل الذي لا يميز النافع من الضار، فصار كالمجانين أو شرا منهم، ثم هو مؤثر على الدين والعقيدة، فإن المدمنين عليه يعرفون تحريمه شرعاً وعقلاً، ولا شك أن من تجرأ على ما يحرمه الشرع، وأقدم على فعله قد تعمد المخالفة والعصيان، وذلك قدح في الدين، وجرأة على الله، واستحلال لما حرمه، وزيادة على فعل ما يخل بالشرف وينافي المروءة والكرامة، ولكن أعداء الله من اليهود والمشركين يزينون للمسلمين الانهماك فيها، حتى يضعفوا عقولهم، وتدبيرهم، وتفكيرهم، ويقضوا على معنويتهم، ويستنزفوا أموالهم، وفي ذلك ضعف الإسلام، وقوة أعداء المسلمين.

السؤال:- ما هي العقوبة في الدنيا والآخرة للمدمن والمروج؟ الجواب:- العقوبة في الدنيا بقدر ما يحصل به الانزجار، وقد شرع في شرب الخمر الجلد أربعين جلدة، ولما لم يرتدعوا زادها عمر بن الخطاب إلى الثمانين، وورد في الحديث المرفوع (إذا شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه) وهو صحيح مروي من عدة طرق وأما في الآخرة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) وأخبر أن من تكرر منه شربها (كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال عصاره أهل النار) وقال: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) ولا شك أن المخدرات والدخان أشد ضرراً من الخمر، فهي أشد عقوبة، وأكبر إثما، وقد أفتى علماء السنة بأن المروج يستحق القتل، لأنه من المفسدين في الأرض، فضرره على الأديان أعظم من ضرر السم على الأبدان.

السؤال:- ما مفهوم العودة إلى الجريمة في الشريعة الإسلامية؟ الجواب:- لا شك أن تكرار المعصية، وركوب الذنب مرة بعد مرة، يدل على التهاون بأمر الله تعالى، والاستخفاف بالمحرمات، ويدل على نقص الخوف من الله، وعدم استحضار رؤيته ومراقبتة، وذلك مما ينقص الإيمان، ويسبب ضعف الوازع، الذي في الضمير، وعلاج ذلك. أولاً: سماع النصائح، المواعظ، والإرشادات من أهل الدعوة، وأهل العلم والدين والذين يخلصون في نصحهم وتوجيههم. ثانياً: كثرة القراءة والتدبر للقرآن، والتفكير فيما يذكر فيه من العذاب والنكال في الدنيا والآخرة، مع حضور القلب، والتأمل لما يقول ويسمع. ثالثا: استحضار رؤية الله ومراقبته واطلاعه على العبد في كل حالاته وذلك مما يؤثر في القلب تعظيمه، وتعظيم أوامره وزواجره. رابعاً: متى وقع منه الذنب فزع إلى الله تعالى، وندم واستغفر وتاب، وعزم على الرجوع إلى الله تعالى، والبعد عن كل ما يسخطه على العبد فهذا ونحوه مما يسبب التوبة والبعد عن المحرمات والله أعلم.

السؤال:- هل لعدد مرات العودة للجريمة (السوابق) دور في تشديد العقوبة؟ الجواب:- نعم حيث، إن التكرار دليل التهاون بالمحرمات، ودليل عدم الخوف من الله، وعدم مراقبته، وعدم الاكتراث بالجلد أو السجن الخفيف، فاحتيج إلى التشديد في العقوبات التي تزجر عن تلك الجرائم، وتمنع من المعاودة منه، أو من غيره، ولو بالقتل، كالذي يتكرر منه شرب الخمر، أربع مرات، لقوله صلى الله عليه وسلم (إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه) رواه أحمد وأهل السنن وهو حديث صحيح متواتر وهكذا من تكرر منه ترويج المخدرات فهو أهل أن يقتل، وكذا من زنى وهو محصن، أو قتل حرا مسلماً بغير حق، أو تكررت ردته، أو سب الله ورسوله ودينه وكتابه وشرعه، ونحو ذلك، والله أعلم.

السؤال:- كيف يعامل القضاء في المملكة العربية السعودية من عاد لارتكاب الجريمة، مرة أخرى من ناحية العقوبات؟ الجواب:- هناك تعليمات عند القضاة في عقوبة من عاد إلى الجريمة، ولهم بذلك مستندات شرعية، فشارب الخمر ورد فيه حديث متواتر رواه نحو عشرة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه) رواه أحمد وأهل السنن، وتكلم على طرقه الشيخ أحمد محمد شاكر في تحقيق المسند وأفرد ذلك في جزء مطبوع مفرداً، والسارق ورد في الحديث أنه في المرة الأولى تقطع يده، وفي الثانية تقطع رجله من نصف القدم، وفي الثالثة قيل تقطع يده الأخرى، وقيل يسجن حتى يتوب، والزاني المحصن يرجم لأول مرة، وكذا اللوطي المحصن، أما البكر فيجلد ويغرب، وإن عاد فيسجن، فأما القتل العمد ففيه القصاص، فإن عفى أهل المقتول ففيه التعزير بما يراه القاضي، أما عقوبة الحرابة فإنها بحسب ما ذكر في القرآن، ولو تكرر، فإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، فإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلوا فقط، فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا الناس نفوا من الأرض ولو بالحبس الطويل، فهكذا سائر العقوبات الشرعية، والله أعلم.

السؤال:- هل يبني القاضي الحكم على العائد للجريمة في القضية الحالية على اعتبار أن له سوابق؟ الجواب:- لا شك أن من له سوابق في الجرائم يستحق أن يحكم عليه بموجبها، فتضاعف عليه العقوبة، ويشدد عليه، حتى ولو تنوعت الجرائم، إذا لم يكن فيها حد مقدر شرعاً، فمن اختطف امرأة وأركبها معه، وهي أجنبية فعليه التعزير، فإذا كان له سوابق في الاختطاف، أو المعاكسات، أو إركاب المرأة بدون محرم ونحو ذلك، فهو أهل أن يزاد في سجنه أو جلده، ويضاعف عليه العقوبة، وهكذا من تكرر منه تعاطي المسكرات، أو ترويج المخدرات، أو الاختلاس، والسرقة، أو الاعتداء على الأعراض والأبدان والأموال، فالقاضي له الصلاحية في مضاعفة الجزاء بما يرتدع به هو وأمثاله.

السؤال:- كيف يكون تشديد العقوبة في الشريعة الإسلامية؟ الجواب:- التشديد هو التقوية في العقوبة، كالضرب بقوة، وزيادة السجن، والتنكيل المالي ونحوه، ويختلف باختلاف الذنب، وأشد الجلد حد الزنا، لقوله تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) لذلك يشدد على الزاني في الضرب لعظم ذنبه، وكذا حد القذف يشدد عليه، وهو دون حد الزنا، وكذا من تكرر منه العصيان بالأذى والاختلاس، والتزوير والغش، ويكون التشديد حسب ما يختاره ويحكم به القاضي المعتبر، العارف بالمجرم ونوع الجريمة، والله أعلم.

السؤال:- ما هي وجهة نظركم في العوامل المؤدية للعودة للجريمة بالنسبة للنساء؟ الجواب:- لا شك أن هناك دوافع وعوامل تدفع الرجال والنساء إلى معاودة الذنب وتكراره، فمنها سماع الأغاني، فإنها من الدوافع إلى الزنا والسكر ونحوه، حيث أن الأغاني مع تكرارها تثير الغرائز، وتبعث الهمم عند سماع تلك النغمات، والإصغاء إلى تلك الأغنيات بصوت رقيق وتلحين وطرب وتشبيب ومن الدوافع النظر إلى الصور الفاتنة الجميلة صور الرجال أمام النساء وصور النساء أمام الرجال، سواء بواسطة الأفلام المعروضة في الفيديو، أو التلفاز، والبث المباشر، أو في الصحق والمجلات الخليعة، فإن تكرار النظر إلى هذه الصور مما يثير الغرائز، ويدفع الهمم إلى جريمة الزنا، وعدم التفكر في الحكم عند ثوران الشهوة الجنسية، التي هي غريزة في البشر، ومن الدوافع صحبة الأشرار، وأهل الفسوق والمجون، والإصغاء إلى دعاياتهم، والتحدث معهم في العورات، وإتيان المحرمات، والسهر على المسكرات، والمخدرات، فمثل هؤلاء يتكرر منهم الذنب، ولو حصل لهم عقوبات وتنكيلات، وذلك لتأثير أولئك الجلساء وأهل الفساد والشر في من خالطهم، ومن الأسباب والعوامل فراغ الشباب ذكوراً وإناثاً، وما يحصل حالة الفراغ من التفكير والخواطر التي تدفع إلى المكالمات، والمعاكسات الهاتفية التي ينتج عنها المواعيد والاتصالات التي لا تحمد عقباها، فمتى عولجت هذه العوامل ونحوها بما يخففها زال الشر، وقلت دوافعه، والله أعلم.

السؤال:- هل ثمة اختلافات في العقوبات التعزيرية بين الرجل والمرأة، أي هل العقوبة التعزيرية للمرأة تختلف عن العقوبة التعزيرية للرجل في حالة تساوي الجرم؟ الجواب:- اعلم أن التعزير مرجعه إلى اجتهاد الحاكم، ونظره في حال أهل الجناية، وملابسات الجريمة، وسوابق ذلك العاصي، ومظهره وما عرف به، واشتهر عند الناس، وكذا بجلسائه ورفقائه وأحواله، فيبني القاضي على ذلك مضاعفة العقوبة أو تخفيفها، ويحكم بما يراه، ولا شك أن الأصل التخفيف عن النساء لقلة فعل الجرائم في حقهن من المسكرات، والسرقة والتزوير، وقطع الطريق، والاعتداء على الأموال والأعراض ونحو ذلك، فمتى وقع شيء من هذه الجرائم في الرجال والنساء فإنه يخفف عن المرأة في ذلك، لقلة تعاطيها لذلك، إذا لم يظهر للقاضي غير ذلك، والله أعلم.

السؤال:- ما واجب المجتمع المسلم تجاه أولئك الأشخاص الذين يسيئون أمن المجتمع، ويسعون إلى ترويع الآمنين، ويحاولون زعزعة أمن واستقرار المجتمع المسلم؟ وما واجب المسلم تجاه من يدرك خطره وضرره على المجتمع، وأنه أحد أسباب هذه المشاكل، وأنه يسعى للخراب والتدمير، وفرقة المسلمين؟ الجواب:- لا شك أن المسلم المؤمن يحمله إيمانه على النصح لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويعرف أنه مدين لمجتمعه المسلم بالمحبة، والأخلاص في المعاملة، ويمنعه ويحجزه عن الإضرار والإساءة وإيصال الشر إلى المجتمع المسلم الذي له الحق عليه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" والمعنى أن الإيمان يحمله على محبة إخوته والحرص على إيصال الخير إليهم، وكف الشر عنهم، فمتى بدر من أحدهم ما يخل بأمن البلاد، أو يزعزع الاستقرار، فإن ذلك دليل ضعف إيمانه، وقلة احترامه للمسلمين، وامتلاء قلبه بالحقد والضغن على بلاده وأهلها، وهذه الصفة تخرجه من الإخوة الدينية، وتبعده عن أن يكون محل ثقة وأمانة، متى وصل المواطن إلى هذه الحال السيئة فإن المسلمين جميعاً يمقتونه ويبغضونه، وينددون بفعله الشنيع، ويحذرون من الركون إلى قوله، ومن الثقة بالقرب منه، حيث أنه يعتبر عضواً أشل، وذلك أن الله تعالى عقد الأخوة بين المسلمين، وذكرهم بذلك في قوله تعالى: ((إنما المؤمنون إخوة)) (سورة الحجرات:10) وقوله ((فأصبحتم بنعمته إخونا)) (سورة آل عمران:103) وأكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" وكذلك جاءت السنة بشرعية الأسباب التي توطد هذه الأخوة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "للمسلم على المسلم ست تسلم عليه إذ لقيته وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتتبع

جنازته إذا مات، وتحب له ما تحب لنفسك" فانظر إلى هذه التوجيهات النبوية التي جاءت بها هذه الشريعة، فيما يتعامل به المسلم مع إخوته، وهكذا جاء أيضاً الإسلام بعموم الإحسان، والأمر به، حتى لغير المسلم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة" ولما أمر بالإحسان إلى الجيران جعل للجار الذمي حقاً من حقوق الجوار، وكل هذه التوجيهات تبين أن هذا الدين جاء بتأكيد المودة والإخاء، وحذر مما ينافي ذلك من محاولة الإضرار ومن زعزعة الإستقرار، وأن "من ضار مسلماً ضاره الله، ومن شق على مسلم شق الله عليه" وأن "من غش فليس من المسلمين" فيجب على أفراد أهل الإسلام أن يعرفوا حقوق إخوانهم والمجاورين لهم وأن يحذروا كل الحذر من إيقاع السوء باخوانهم، وأن ينصحوا لدولتهم وولاة أمرهم، بالتحذير من كل من عرف عنه السوء والفساد حتى يأخذوا على أيدي أولئك المفسدين، ويقضوا عليهم، حتى ينقطع دابر الفساد وأهله، والله الموفق والمعين.

السؤال:- ما شروط التوبة النصوح؟ الجواب:- التوبة واجبة على العبد في كل حال، وفي الحديث "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" ولو لم يكن إلا الغفلة، ونسيان الذكر، فإنه يعتبر ذنبا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" وتتأكد التوبة لمن عمل ذنباً ولو صغيراً، أو شروطها ثلاثة (الأول) الإقلاع عن الذنب (الثاني) الندم على ما فات (والثالث) العزم على أن لا يعود، فلا تقبل توبة المتمادي في الفسوق، والباقي على عمل الذنب فمن تاب من ترك الصلاة فليحافظ على أدائها، ومن تاب من شرب الدخان فلا بد أن يتركه ويبتعد عنه، ومن تاب من المسكرات أو المخدرات هجرها وهجر أهلها، ومن أقلع عن الذنب لكن بقي يتمدح بما فعل من المعاصي، فيفتخر بأنه فعل بفلانة أو أنه قتل ونهب، ويعد ذلك شرفاً ومنقبة، فمثل هذا لم يتب، وإنما ترك المعاصي عجزاً أو استغناءً، عنها وهكذا من تركها ولكن نفسه تتوق إلى الزنا أو المسكر، والدخان والمخدر، ويود لو تمكن منها لينال منها شهوته، ويشبع رغبته، فهذا لا تقبل توبته، لأن نيته وعزيمته الحرص على الذنب، وتمنى المعصية، فلابد للتوبة الصادقة من بغض المعاصي، ومقت أهلها، والأسف والندم على ما فرط منه فيها، حتى يكون صادقاً، وتقبل توبته.

السؤال:- ما دور هذه التوبة في تغيير مسار هؤلاء المدمنين إلى الطريق السوى؟ الجواب:- متى صدق في توبته، وترك الذنب، ومقت أهله، وابتعد عنهم، وحذر من شرهم، فإن ذلك دليل صدقه وصحة توبته، وبرهان استقامته، فإن من أبغض شخصا أو عملا ظهر منه بغضه في المعاملة، والمجالسة، والمقابلة، ثم كان هذا دليلاً على رجوعه إلى الحق، ولزومه الطريق السوى، ومحبته لأهل الخير والصلاح، ومقته للمفسدين، وأهل الخمور، والمخدرات، فتراه يسبهم، ويشنع بأفعالهم، ويحذر من مخالطتهم، ويدل على مخابئهم، وتراه مع ذلك محبا للدين، والعلم، والعمل الصالح، محافظاً على الصلوات، مبتعدا عن المسكرات والمخدرات، فهو بهذا يعرف صدقه وصحة توبته.

الرضاع

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الرضاع

السؤال:- امرأت أرضعت ابن اختها مع إحدى بناتها، فهل يجوز لذلك الطفل الرضيع أن يتزوج من بنات المرضعة الأخر غير من رضعت معه؟ الجواب:- لا يجوز ذلك، فإن هذا الراضع قد صار من أولادها، فهو أخو جميع أولادها من ذكور وإناث، سواء من كان أكبر من الطفل أو أصغر منه، حيث إن المرضعة تكون أم الطفل، وزوجها في ذلك الوقت أباه، وأولادهما أخوته ذكوراً وإناثاً، فلا يتزوج من بناتها، ولا من بنات زوجها، ولا من بنات أولادهما.

السؤال:- رجل تزوج، وعندما در لبن زوجته أخذ يداعبها، حتى إنه يشرب من حليبها الذي في ثديها "الزوج" فما الحكم في ذلك؟ الجواب:- لا يحرم الرضاع في الكبر، فهذا الفعل لا يجوز يعني امتصاص الزوج من ثدي زوجته، وسواء كان فيه لبن أو ليس فيه لبن، ولكن لو درت عليه وارتضع من لبنها فإنها لا تحرم عليه، ولا ينفسخ النكاح، والله أعلم.

السؤال:- البنت الكبرى (عبير) رضعت من زوجة خالها أكثر من خمس رضعات مشبعات، مع إبنهم الصغير (إبراهيم) هل يجوز زواج البنت الصغرى (ليلى) من إبنهم الكبير (عبد الناصر) الذي لم يجتمع معها على ثدي واحد؟ الجواب:- إذا كان ابنهم الكبير (عبد الناصر) لم يرضع من زوجتك، وكانت بنتك (ليلى) لم ترضع من أم عبد الناصر، ولا من زوجة أبيه، حلت له، ولا يضرها رضاع أختها عبير من أمه، وتكون عبير أخت عبد الناصر من الرضاع، وأختها ليلى زوجته، والله أعلم.

السؤال:- تزوجت امرأة قريبة لي منذ خمس سنوات. ومنذ أيام عرفت أنها رضعت من أمي. فقمت بسؤال أحد العلماء فقال لي: إذا كانت الرضعات محرّمات فقد صارت أختاً لي، ويجب علينا أن نتوجه إلى المحكمة. وعليه فقد قمت بسؤال والدتي التي أرضعتها فقالت: إنها كانت في زيارة لمنزلهم (يعني منزل الزوجة) بعد ولادتها، ولم ينزل بعد لبن أمها، واحتاجت للرضاعة، فقمت بإرضاعها رضعة واحدة، وبعدها نزل لبن أمها، وأقسمت بالله على ذلك، ثم رجعت إلى الشيخ الذي استفتيته أولاً فنصحني بالتوجه إلى دار الإفتاء، لأخذ القول الفصل في المسألة، وعليه فإني أعرض المسألة على فضيلتكم، سائلاً الله عز وجل أن يوفقكم فيها إلى ما يحب ويرضى. الجواب:- إذا تأكدت والدتك أن الرضعة واحدة، وحلفت على ذلك، فالقول قولها، وتصدق في ذلك، ولا يؤثر هذا الرضاع، وتبقى الزوجية كما هي، ولا تثبت الأخوة بينك وبين هذه الزوجة والله أعلم.

السؤال:- ما عدد الرضعات المحرمة؟ الجواب:- اختلف العلماء في ذلك، فذهب بعضهم إلىأن كل رضعة أو نصف رضعة تحرم، لإطلاق الآية، فإن الرضاع يصدق على كل ما يسمى رضاعاً، وذهب آخرون إلى أنه لا يحرم إلا ثلاث رضعات، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان) فمفهومه أن ما زاد على المصتين يحرم كالثلاث، فأكثر وذهب بعضهم إلا أنه لا يحرم إلا خمس رضعات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة أن ترضع سالماً خمس رضعات، ولقول عائشة (كان مما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ ذلك بخمس رضعات معلومات) وقد ذهب بعضهم إلى أن التحريم لا يكون إلا بعشر رضعات لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحرم من الرضاع إلى ما أنبت اللحم، وأنشر العظم) يعني حصل به الغذاء الذي ينبت عليه اللحم، وأقل ذلك عشر رضعات، والمختار أن الخمس تحرم لصراحة الحديث في ذلك، ثم إن الرضعة اسم لإدخال الثدي في فم الطفل ثم إخراجه سواء طال الامتصاص أو قصر، وقيل إن الرضعة هي الشبع، والمختار الأولى، والله أعلم.

السؤال:- أنني تزوجت بنت عمي وعندي منها أربعة أولاد، وحيث إنني فوجئت بأن أم زوجتي تقول: إنها أرضعت أخا لي أكبر مني، توفي وعمره أسبوع حسب قولها، وأرضعته لأن أمي كانت مريضة. أرجو إفتائي في ذلك جزاكم الله خيراً. الجواب:- لا يضرك رضاع أخيك من أم زوجتك، فإن التحريم يختص به، فهو يصبح محرما لها، أما أنت فأجنبي، فتحل لك بنتها، وكذا بقية إخواتك أجناب من هذه المرأة، لهم أن يتزجوا من بناتها، ما عدا الأخ الذي توفي.

السؤال:- أرضعت ولد أختي، وأنا شاكة هل رضع أربعاً أو خمساً، فماذا أصنع الآن؟ الجواب:- أرى أن هذا الرضاع لا يحرم على القول المختار، أن المحرم خمس رضعات معلومات، حيث هذا الرضاع مشكوك في عدده، والشك لا يرفع اليقين، ولك أن تتذكري هل كان الرضاع في مجلس واحد أو في مجالس، وما أسبابه، وأين كانت أمه في ذلك الحين، فإن غلب على ظنك أنها خمس فهو رضاع محرم، وإلا فلا يحرم.

السؤال:- نظراً لظروف والدتي الصحية، فقد تم رضاعي من امرأة أخرى، وذلك خلال الثلاث الأيام الأول كاملة من الولادة، وكان لتلك المرأة طفلة يقل عمرها عن السنة في وقت الرضاع. (أ) ما حكم هذه الرضاعة؟ وما موقع أبناء وبنات هذه المرأة وأقاربها، من أخوات، وخالات، وعمات، ونحوه بالنسبة لي؟ وما موقع أبنائي من هؤلاء؟ (ب) لزوج هذه المرأة التي قامت بإرضاعي امرأة أخرى -له منها أبناء وبنات، فما موقعهم بالنسبة لي؟ (ج) كما أن للمرأة الثانية لهذا الزوج ابن من غيره قبل زواجها به، فما موقعه بالنسبة لي؟ وإذا ثبت حكم الرضاع، فما الحكم من حيث الخلوة والمحرمية، وما يتبع ذلك من أحكام؟ الجواب:- (أ) هذه المرضعة تكون أمك من الرضاع، وأولادها إخوانك وأخواتك من الرضاعة، وإخوانها أخوالك وأخواتها خالاتك من الرضاعة، وخالاتها وعماتها خالات وعمات أمك المرضعة، فأنت محرمهن جميعاً، وأولادك تكون هي جدتهم، وأولادها أعمام أولادك، وإخوانها أخوال أولادك، كما في النسب. (ب) زوجها التي أرضعتك وهي في ذمته هو أبوك من الرضاعة، وأولاده من المرأة الأخرى إخوانك من الرضاع لأبيك، وإخوانه وأخواته أعمامك وعماتك، وعماته وخالاته عمات أبيك وخالاته، فأنت محرم لهن، وهو جد أولادك، وبنوه أعمام أولادك كالنسب. (ج) ابن المرأة الثانية، أجنبي منك، ولا قرابة بينك وبينه، أما الزوجة فأنت محرمها لكونها زوجة أبيك من الرضاع، والله أعلم.

الشهادات

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الشهادات

السؤال:- ما حكم من يشهد على شهادة شخص آخر ثقة عنده فيقول: رأيت ولم ير، وسمعت ولم يسمع، اعتمادا منه على ما أخبره الثقة عنده؟ الجواب:- يحتاط القضاة في قبول الشهادة على الشهادة، فلا يقبلونها إلا إذا تحملها الثاني بإذن الأول، بقوله: أشهد على شهادتي أن فلانا مدين بكذا، أو قد تحمل كذا، وتكون الشهادة في حقوق الآدميين كالدين والغرامة والدية والقذف، والجراح، والعتق، ونحوه، ويتعذر على القاضي الأخذ عن الأول لبعده، أو موته، أو مرضه، ولابد من عدالة الأصل والفرع، بمعرفة القاضي لكل منها، أو بمن يزكيهما، وإذا كان الشاهد الثاني لم ير ولم يسمع المشهود به فلا يجوز أن يقول: رأيت أو سمعت، بل يقول: ذكر فلان كذا، أو سمعت فلاناً يذكر هذا الحق، أو هذا الدين ونحوه، وللقاضي أن يقبله أو يرده بحسب القرائن، والله أعلم

السؤال:- يمتنع البعض عن الشهادة في القضايا التي دون الحدود، بحجة أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأن هذه أولى بالدرء، وبغية الستر على المسلمين، فيرد عليهم آخرون بأن هذا الامتناع من باب كتم الشهادة المنهي عنه، أرجو إيضاح الحق في هذا المسألة. الجواب:- إذا دعي الرجل لأداء الشهادة التي فيها حق لآمي، وبأدائها يثبت هذا الحق، وبكتمانها يضيع، وجب عليه الأداء، والصبر على ذلك، فإن احتاج حضوره إلى نفقة فعلى المشهود له تحملها، وإلا فلا يجوز له الامتناع، لقوله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) (البقرة:282) أي لا يمتنعون من أدائها، أو من تحملها، لما في ذلك من حفظ الحقوق، ويحرم كتمانها، لقوله تعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (البقرة:283) أي قد تحمل إثماً وذنباً يستحق عليه العقوبة، فأما الحدود فإنما تدرأ بالشبهات إذا كان هناك شك في الشهادة، أو خطأ أو غلط في الحق الذي يوجب الحد، مثل من سرق من بيت المال، وادعى أن له حقاً فيه، أو سرق من مال يدعي أن صاحبه قد اغتصبه حقاً، ونحو ذلك، فأما إذا رأى من يزني ولا شبهة له، ولا عذر له، وحقت العقوبة، فلا يكتم الشهادة، والله أعلم.

الصلاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الصلاة

السؤال:- هل إدراك التشهد الأخير من أي فرض يأخذ المرء أجر الجماعة وهل تحسب له جماعة؟ الجواب:- الصحيح أنه لا يدرك الجماعة إلا بإدراك ركعة كاملة، فإن وجد الجماعة في التشهد الأخير فالأفضل أن ينتظر جماعة أخرى، فإن كان لا يرجو جماعة أخرى دخل معهم وله نصيب من الأجر.

السؤال:- هناك خلاف في أمر إدراك التشهد الأخير، فقد قيل: إن إدراك التشهد الأخير من صلاة الجمعة تحسب جماعة فهل هذا صحيح؟ الجواب:- المختار أن من أدرك من الجمعة أقل من ركعة فلا جمعة له، فعليه أن يدخل بنية الظهر، ويصلي اربعاً بعد سلام الإمام أما من أدرك منها ركعة كاملة فإنه يتم معها ركعة أخرى.

السؤال:- أثناء التوجه إلى الصلاة يصلي المرء والقلب غافل، فلا يوجد خشوع فما هو السبب، وما هو الحل أفيدونا مأجورين؟ الجواب:- على المصلي إحضار قلبه في صلاته، والحرص على قطع الشواغل أثناء الصلاة، والتأمل والتفكر في أمر الصلاة، فيتفكر في معاني كلمات الأذكار وآيات القرآن، ومعنى الركوع، والسجود، والحكمة فيه، حتى يشغل قلبه عن التفكر في الدنيا وأمورها، ويحصل على الخشوع والإقبال على الصلاة.

السؤال:- ما حكم لبس ما يسمى بالبنطلون، وهل تصح الصلاة فيه، علماً بأنه غالباً ما يحدد العورة المغلظة ويجسمها؟ الجواب:- لا تجوز الصلاة فيه إذا كان ضيقاً يحدد العورة المغلظة كالألية والأنثيين، ويكره لبسه على هذه الصفة في غير الصلاة، لأنه تشبه بالكفار، وهو في هذه الحال يلفت الأنظار، ويثير الغرائز، فالأصل أنه مكروه، وقد يكون حراماً إذا كان القصد التشبه بالمشركين، وتعظيم مقامهم، وإحياء ذكراهم، ويمكن أن يرخص فيه وقت العمل الذي يستدعي التخفيف، بشرط أن يكون فضفاضا واسعاً أو سمة وعلامة كلباس العسكريين.

السؤال:- إذا رفع من سجدة التلاوة أثناء الصلاة فهل يقول (الله أكبر) أم يقرأ الآية التي بعد السجدة؟ الجواب:- ذهب كثير من العلماء إلى أنه يبدأ في الآية التي بعد آية السجدة، فإذا سمع ذلك المأمومون رفعوا وقاموا، فلا حاجة إلى التكبير الذي يقصد من رفعه إسماع المأمومين ليتابعوا الإمام، والقول الثاني وهو الصحيح أنه يكبر ثم يقرأ، لعموم الحديث الذي فيه أنه كان يكبر في كل خفض ورفع.

السؤال:- هل يجوز للإنسان وهو في مكان غير المسجد إذا سمع آية فيها سجود تلاوة أن يسجد؟ الجواب:- سجود التلاوة سنة مؤكدة، مشروع في كل وقت على الصحيح، حتى في أوقات النهي، لأنه من ذوات الأسباب، ولأنه لا يسمى صلاة شرعاً، ويجوز السجود في كل مكان كالأسواق والطرق، ولو لم تكن طاهرة، كما يجوز أن يسجد بالإيماء إذا كان راكباً أو ماشياً، فيخفض رأسه إشارة إلى السجود، ويدعو فيه بالدعاء وذلك اغتناماً للفضل، وحرصاً على امتثال الأمر، وحتى لا يتركه مع القدرة عليه، فإن كان سامعاً للقراءة وهو غير منصت لها فلا سجود عليه، أما إن كان يستمع له وينصت للقراءة وسجد القارئ فإنه يسجد، وهكذا إذا سمع في الإذاعة أو في الأشرطة حيث إنه لا يسجد المذيع، فالمستمع يسجد اغتناماً للفضل.

السؤال:- ما حكم وضع المصحف في الإبط أو على الأرض عند سجدة التلاوة؟ الجواب:- يسن وضع المصحف في موضع مرتفع عند السجود ونحوه، ويكره وضعه على الأرض، لأن الله وصف صحف القرآن بقوله: (في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة) (عبس:13-14) وإذا لم يجد فلا مانع من وضعه في الإبط أو الأرض، وإن كان الأولى عدم قبضه حتى يتمكن من تمام السجود.

السؤال:- ما حكم الصلاة على سجادة فيها صورة الكعبة أو نجمة سداسية؟ الجواب:- لا بأس بذلك وإن كان مكروهاً، لأن هذه النقوش والصور قد تلفت الأنظار، وتشوش على المصلي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهتك الستر الذي أمامه لأن تصاويره أي نقوشه عرضت له في صلاته، وكذا خلع الخميصة التي ألهته عن الصلاة وأرسلها إلى أبي جهم.

السؤال:- هل يجوز القراءة في الركعة الأولى في الصلاة برواية حفص عن عاصم، والركعة الثانية برواية ورش عن نافع مثلاً؟ الجواب:- لا بأس بذلك، فإن رواية حفص مشهورة، وقد طبعت عليها المصاحف في المملكة، وأكثر البلاد الإسلامية، ورواية ورش مشهورة أيضاً، وقد طبعت عليها مصاحف في الكثير من البلاد الإفريقية، ويقرأ بها المالكية، كما أنه يجوز أن يقرأ في الركعة الواحدة بأكثر من قراءة، حيث أن الاختلاف بين القراءات يكون يسيراً، وخاصاً بالحركات أو النقط أو اللهجات، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الصلاة خارج المسجد إذا كنت أرى المصلين وهم داخل المسجد؟ الجواب:- لا يجوز ذلك إلا إذا امتلأ المسجد، ولم تجد فيه موضعاً، فإذا امتلأ المسجد، واتصلت الصفوف حتى الأبواب، وصلى الباقون على الأرصفة، ثم في الشارع صحت صلاتهم، ولا تصح إذا كان المسجد خالياً، أو فيه فراغ، أو لم تتصل الصفوف، ولو سمع التكبير بواسطة المكبر إذا كان بينه وبينه فراغ كبير.

السؤال:- نحن نعلم أن صلاة الليل مثنى مثنى، فهل صلاة النهار مثل ذلك؟ أم أن لي أن أصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة؟ الجواب:- الأصل أن صلاة التطوع مثنى مثنى، سواء في الليل أو النهار، وقد ورد في الحديث "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" أي من صلى تطوعاً فإنه يسلم من كل ركعتين، وفي صحيح مسلم عن عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: وكان يقول في كل ركعتين التحية. أي يتشهد بعد كل ركعتين ويسلم، وهكذا ورد في الرواتب أنها ركعتان ركعتان، وأما ذكر الأربع قبل الظهر وقول عائشة: يصلي رأبعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، فالمراد أنها أربع في سلامين كما هو معتاد، والله أعلم.

السؤال:- من نسى التشهد الأول في الصلاة، ولم يجلس إلا للتشهد الأخير ماذا يعمل، علماً أنه سجد للسهو، هل يعيد الصلاة أم لا، وماذا يعمل المأمومون؟ الجواب:- على المأمومين أن يسبحوا له قبل تمام قيامه، فإذا أتم قيامه ولم يرجع فعليهم متابعته، وعليه أن يسجد للسهو ويسجدوا معه، وبذلك ينجبر هذا النقص.

السؤال:- إذا انتقض وضوء الإمام وهو في بداية التشهد الأول، ماذا يعمل الذي خلفه، هل يقوم ثم يجلس أو يزحف. الجواب:- يفضل أن يأمر المأمومين باستئناف الصلاة وابتدائها من أولها، فإن انتقاض الوضوء يبطل صلاة الإمام، فتبطل صلاة المأمومين، وإن استخلف فإن عليه أن يشير إلى من خلفه ليتقدم ويجلس مكانه، بعد أن يتقدم قليلاً فيكمل الناس الصلاة، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الصلاة في مكان فيه صور على العلب؟ الجواب:- هذه الصور التي في العلب مما تعم به البلوى، وقد كثرت في المنازل والأماكن، والعادة أنها غير محترمة، ولا يهتم بأمرها، وفي طمسها كلها مشقة، فلذلك أرى أنه لا بأس بهذه الصلاة.

السؤال:- ما حكم الصلاة في مكان فيه صور على العلب؟ الجواب:- هذه الصور التي في العلب مما تعم به البلوى، وقد كثرت في المنازل والأماكن، والعادة أنها غير محترمة، ولا يهتم بأمرها، وفي طمسها كلها مشقة، فلذلك أرى أنه لا بأس بهذه الصلاة.

السؤال:- ما حكم الصلاة أمام المرآة؟ الجواب:- المرآة التي تعكس من يقف أمامها لا تسمى آلة تصوير، حيث إن ما فيها غير ثابت، فمن صلى وأمامه مرآة صحت صلاته، ولو كان مقابلاً لها، ويرى نفسه بها، وعليه غض البصر وحفظه، مع أنه يفضل البعد عنها وعن كل ما يشغل المصلي ويلهيه عن صلاته.

السؤال:- ما حكم الصلاة أمام المدفئة؟ الجواب:- هذه الآلة تستعمل لتدفئة الجو البارد، وتجعل في المنازل والمساجد، وأرى صحة الصلاة أمامها، فليست بالنار المشتعلة التي يعبدها المجوس، وإنما هي آلة تتوقد بالكهرباء أو الغاز ونحوه، وليس فيها الاشتعال المعروف.

السؤال:- ما معنى متابعة الإمام ومسابقته؟ الجواب:- المتابعة أن تنتظر الإمام حتى يتم انتقاله وينقطع صوته بالتكبير ثم تتبعه، فإذا كبر للركوع تبقى قائماً حتى يفرغ من التكبير ويتم ركوعه ثم تنحنى راكعاً، فإذا رفع بقيت حتى يستتم قائماً ويفرغ من التسميع، ثم ترفع بعده، وهكذا بقية الأركان، أما المسابقة فهي أن تركع قبل الإمام أو تسجد قبله، أو تبدأ بالحركة قبل حركته، وهي تبطل الصلاة أو تنقصها.

السؤال:- هل هناك صلاة تسمى صلاة الإشراق؟ الجواب:- ورد الترغيب في البقاء في المسجد بعد صلاة الصبح حتى يتم شروق الشمس، وترتفع قيد رمح، ثم الصلاة بعد ذلك بلفظ "من صلى الصبح في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، فهو بحجة وعمرة تامة تامة تامة" أي له أجرها فإن لم يقدر على الجلوس وصلى بعد الإشراق فله بذلك أجر يناسبه، وإن زاد على الركعتين جاز ذلك.

السؤال:- ما حكم وضع السواك في اليد أثناء الصلاة؟ الجواب:- يكره ذلك، فإن فيه شغلا لبعض الكف، وذلك مما يشغل البال، ويلهي عن الإقبال على الصلاة، ويعوق بعض اليد عن تمام الركوع والسجود، ومع ذلك لو أمسكه كعادة فلا يخل بصلاته، فالأولى بعد التسوك أن يخبئه في جيبه، ولا يمسكه باليد.

السؤال:- إمام صلى بجماعته صلاة جهرية، وبعد الفاتحة قرأ آية واحدة ثم ركع هل ينكر عليه؟ الجواب:- نعم ينكر عليه، حيث إن الآية الواحدة عادة تكون قصيرة، فلا تكفي، لأن الصلاة يؤمر فيها بقراءة ما تيسر من القرآن وقد ذكر العلماء أن أقل ما يكفي ثلاث آيات، لأنه بقدر أقصر سورة وهي الكوثر، لكن إذا كانت الآية طويلة كآية الكرسي وآية الدين اكتفى بها، وذلك من باب الجواز.

السؤال:- الاستناد على سارية المسجد أثناء صلاة الفريضة ما حكمه لغير عذر؟ الجواب:- لا يجوز الاعتماد على السارية حال القيام في الصلاة إلا لعاجز، فإن القيام في الفريضة ركن لا تصح الصلاة إلا به، والمستند على السارية أو الجدار غير مستتم في قيامه؛ فإن حقيقة القيام هو الانتصاب والاعتماد على القدمين، دون الإعتماد على العصي ونحوها إلا للحاجة.

السؤال:- الصلاة حاسر الرأس والصلاة في فانيله وسروال طويل ما حكمها؟ الجواب:- تصح الصلاة ولو كان حاسر الرأس، فالرأس ليس من العورة، ومع ذلك فإن ستره في الصلاة وخارجها من تمام التستر والزينة التي أمر الله بها، قال تعالى: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) (الأعراف:31) أي عند كل صلاة، وتصح الصلاة في الفانيلة الساترة والسراويل الطويلة، لكن لابد من التأكد من كمال الستر بحيث لا تنحسر الفانيلة عن الظهر عند الركوع والسجود، فيبدو بعض العورة ولا تكون السراويل ضيقة تبين حجم الاعضاء.

السؤال:- هل ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه وضع يديه بين فخذيه في الصلاة وهو جالس للتحيات أو بين السجدتين؟ الجواب:- ورد عنه رضي الله عنه وضع كفيه بين ركبتيه في الركوع، ويسمى هذا التطبيق، وقد رواه بعضهم أنه وضعها بين فخذيه في الجلوس للتشهد، ولعله خطأ من الراوي، والمشهور أن التطبيق كان مشروعاً في أول الأمر ثم نسخ، وأمروا بالاعتماد بالأكف على الركب في الركوع، ونهوا عن وضعها بين الركبتين.

السؤال:- إذا كنتُ أصلي فأشكل عليّ موضع الآية، فأخذت المصحف فنظرت فيه ثم أتممت صلاتي فما الحكم؟ الجواب:- لا بأس بذلك إذا كانت الصلاة تطوعاً، فهو عمل يسير لا تبطل بمثله الصلاة، وأنت تشاهد الكثير من الأئمة في صلاة التراويح يقرؤون في المصاحف للحاجة إلى ذلك، أما إن كنت إماماً في فريضة فلا يجوز أن تقرأ في المصحف، لكن إن ارتج عليك ولم يكن معك من يفتح عليك جاز لك فتح المصحف بقدر الحاجة.

السؤال:- الأصل في متابعة الإمام هل هو انقطاع الصوت أو حركة الإمام، لأننا نلاحظ بعض الأئمة ينقطع صوته مثلاً بركوع قبل أن يتم ركوعه أو السجود فما حكم؟ الجواب:- على المأموم أن يحرص على المتابعة، فلا ينحني هاوياً حتى يتم إمامه التكبير، فأما الحركة فلا بأس أن يتحرك إذا قرب الإمام من الأرض، والأفضل أن يبقى قائماً حتى يصل الإمام إلى الأرض ثم يتبعه.

السؤال:- بعض الأيام تفوت الراتبة للفجر فأصليها بعد طلوع الشمس، هل أجمعها مع صلاة الضحى وركعتي الوضوء بنية واحدة ما الحكم؟ الجواب:- ليس للوضوء صلاة خاصة، لكن يستحب لمن توضأ أن يصلي بذلك الوضوء صلاة فرض أو نفل، فإن صلى به الظهر أو الفجر كفى، وإن توضأ فصلى الضحى أو الوتر كفاه ذلك، فإن لم يكن وقت فرض ولا نفل شرع أن يصلي به ركعتين على الأقل، أما راتبة الفجر فأرى أنها لا تكفي عن صلاة الضحى لمن اعتاد أن يصليها يومياً، فعليك أن تقضي سنة الفجر، وتصلي بعدها صلاة الضحى، ويكفيك ذلك عن سنة الوضوء.

السؤال:- إذا قام أحد الدعاة يتكلم بعد الصلاة، فقمت أنا أؤدي الراتبة هل عليّ إثم في هذا، أو يقع عليّ قول النبي صلى الله عليه وسلم ... فأعرض فأعرض الله عنه أو كما قال؟ الجواب:- لا بأس بالخروج وقت الموعظة للحاجة، فالاستماع لها مستحب، لكن لا يلزم كل أحد، فمن كان منشغلاً فله الخروج وكذا له القيام والانشغال بصلاة الراتبة ولو في وسط الموعظة.

السؤال:- ما حكم الصلاة بين السواري والأعمدة في المساجد؟ الجواب:- لا يجوز الصف بين الأعمدة إذا قطعت الصفوف إلا عند الحاجة كضيق المسجد، وكثرة المصلين، وقد جاء فيه حديث بالنهي عن الصلاة بين السواري رواه أبو داود والترمذي

السؤال:- بعض الأشخاص يصلي النافلة عند باب المسجد، فإذا أراد الناس الخروج منعهم بيده محتجاً بمنع المرور بين يدي المصلي، فهل له الحق في ذلك؟ الجواب:- لا يجوز له أن يتحرى الصلاة في طريق الناس، بحيث يتعرض للمرور بين يديه لأنه قد يضرهم ويحبسهم، وقد ينشغل عن الاقبال على صلاته بكثرة إشاراته، وتحريك يديه لمنع الناس، وذلك مما يسبب نقص صلاته أو بطلانها، فعليه أن يبتعد عن ممر الناس، ويتحرى استقبال الحائط، أو أحد العمد، ويجعلها سترة له يمنع من يمر بين يديه، أو بينه وبين سترته، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم اتخاذ السترة في الصلاة، وهل يلزم من كان في الصف الثاني اتخاذ سترة؟ الجواب:- السترة في الاصطلاح هي ستر العورة التي من السرة إلى الركبة في حق الرجال، وجميع بدن المرأة، وهي شرط من شروط الصلاة، ولا تصح صلاة من قدر على السترة فصلى عرياناً، أو بدى شيء من عورته، فإن كان عاجزاً عن تحصيلها جاز، واختير أن يصلي جالساً، فإن وجد السترة في الصلاة ستر بها وبنى. وأما السترة التي هي الشاخص أمام المصلي فهي سنة، وليست بواجبه، وذلك أن يصلى إلى سارية أو جدار، أو شيء مرتفع عن الأرض كسرير أو كرسي، فإن لم يجد فليخط خطاً كالهلال، وذلك في حق الإمام والمنفرد، وتتأكد في الصحراء كمصلي العيد، وفي السفر، فأما في المساجد فالأصل عدم الحاجة، والاكتفاء بحيطان ممتدة في الصفوف، أو يكتفى بطرف السجادة التي يصلي عليها، وليس هناك ما يدل على الوجوب، وقد ورد الحديث الذي في السنن بلفظ "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها" وفي حديث آخر "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فلا يدعن أحداً يمر بين يديه فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان" والله أعلم.

السؤال:- ما حكم قيام المسبوق قبل إكمال الإمام للتسليم؟ الجواب:- لا يجوز قيام المسبوق إلا بعد تمام التسليم من الإمام التسليمة الثانية، وخالف في ذلك الحنفية، وأجازوا السلام مع الإمام، والقيام قبل سلامه، والصحيح الأول، وهو قول الجمهور، والله أعلم.

السؤال:- رجل صلى وشك في تكبيرة الإحرام، فهل يستأنف الصلاة من جديد أم لا، وما حكم صلاته؟ الجواب:- قال العلماء الشك في ترك الركن كتركه، فمن شك في ترك الفاتحة ولم يكن شكه وسوسة فإنه يقرؤها مرة أخرى، ومن شك في ترك ركعة قضى بدلها، وأما التحريمة فإنها الركن الأساسي الذي تفتتح به الصلاة، فمن تركها لم تنعقد صلاته، ومن شك في تحريمته فإنه يبدأ الصلاة من أولها، لكن هناك من يكون معه وسوسة، وهو شك في كل شيء، مع أنه يأتي به، فمثل هذا لو فتح له باب الإعادة لأعاد الصلاة مرارا، فلا يجوز له التمادي مع الأوهام والوساوس، والله أعلم.

السؤال:- جماعة خرجوا للبرية فلما حان وقت صلاة العشاء لم يعرفوا اتجاه القبلة، فكل واحد منهم يقول: إنها من جهة كذا، فصلوا على رأي أحدهم فلما ظهر الصبح علموا أنهم صلوا على غير القبلة، فهل يعيدون صلاتهم؟ الجواب:- لا يعيدون، حيث اجتهدوا وتحروا، وبنوا على الظن الغالب الذي ترجح لهم أنه جهة القبلة، فيجزئهم ذلك، لقوله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة:115) قيل: إنها نزلت في المسافر يجهل جهة القبلة فيصلى حسب اجتهاده، ففي هذه الحالة عليهم أن يجتهدوا، وينظروا في النجوم، وفي القمر، ويحرصوا على تعلم الجهة الصحيحة بعلاماتها، فإذا أخطؤوا فلا إعادة عليهم للعذر، وإن اختلفوا وكل منهم يخطئ الآخر فلا يتبع بعضهم بعضا، بل كل منهم يصلى إلى الجهة التي يجزم بأنها القبلة، ويصلي المقلد مع أوثقهما عنده، والله أعلم.

السؤال:- يوجد عندنا في العمل رجل سمين جداً، ويعتذر عن حضور صلاة الجماعة، فهل يعذر عن صلاة الجماعة لضخامة جسمه، علماً أنه يمشي ويجلس، وصحته طيبة وما الواجب على زملائه نحوه بعد نصحه أفتونا مأجورين. الجواب:- إذا كان قادراً على المشي والجلوس، وليس به مرض يعوقه عن الحضور إلى المسجد، وهو مع ذلك يحضر من منزله إلى مقر العمل، ويشتغل ويقوم بالعمل ويستطيع أن يذهب إلى بيت الماء، ويقضي حاجته، فأرى أنه لا عذر له من الجماعة، بل يجب عليه أن يحضر إلى المسجد، ويصلي مع الجماعة، فإن شق عليه القيام صلى قاعدا، ويلزمه كل ما يقدر عليه من القيام والقعود، والركوع والسجود، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم صلاة المتنفل بالمفترض؟ الجواب:- يجوز ذلك إذا كان هو أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بأحكام الصلاة، وكذا إذا كان هو الإمام الراتب في المسجد، وقدر أنه أدى الصلاة، وكذا إذا كان هو الإمام الراتب في المسجد، وقدر أنه أدى الصلاة في جماعة، ثم جاء إلى مسجد ولم يصلوا، فله أن يصلي بهم، ودليل ذلك قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه، حيث كان إمام قومه من الأنصار وأقرأهم، وأعلمهم بالأحكام، وكان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقت العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة وهو متنفل وهم مفترضون، وقد كره ذلك بعض العلماء لاختلاف النية، ولكن الصحيح جواز ذلك لوجود الدليل الصريح، والله أعلم.

السؤال:- الإمام في صلاة المغرب سجد سجدة واحدة في الركعة الأخيرة، ثم قرأ التشهد وسلم، ما هو المفروض عمله، حيث إن المصلين ذكروه بالسهو بعد نهاية الصلاة؟ الجواب:- في هذه الحالة قد ترك الجلسة بين السجدتين، وقول (رب اغفر لي) وترك السجدة الثانية، فبعد السجدة الأولى جلس للتشهد، وسلم بعده، فإنه إذا تذكر رجع واستقبل القبلة، وجلس وقال (رب اغفر لي) الخ، ثم سجد السجدة الثانية، ثم رفع وتشهد التشهد الأخير، ثم سجد للسهو سجدتين، ثم سلم، فإن لم يفعل ذلك بطلت صلاته، فعليه وعليهم الإعادة والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الصلاة في الثوب الذي فيه صور؟ الجواب:- لا تجوز إذا كانت ظاهرة واضحة، وعلى من وجدها في الثوب أن يغسلها، أو يمحوها، أو يطمس الوجه بالمزيل او البوية ونحوها، وهكذا الصليب أو الكتابة باللغة الأجنبية، ونحو ذلك مما يشغل البال، أو يدخل في المنع.

السؤال:- رجل لا يحضر من أعماله إلا قبيل صلاة العصر، وعندما يحضر ويطلب الغداء يكون جائعاً، ويؤدي صلاة العصر، وقد تفوته الصلاة مع الجماعة فما الحكم؟ وما حكم من أخر وقتا من أوقات الصلاة حتى خروج وقتها؟ الجواب:- في هذه الأزمنة، وفي المملكة السعودية أرى أن الجوع الشديد لا يوجد، كما كان من قبل، فلا يكون الأكل عذراً في تأخير الصلاة مع الجماعة بخلاف ما كانت عليه الحال قبل ستين عاماً، وما عليه الحال في كثير من البلاد التي تلاقي الفقر والفاقة، وقد مستهم الباساء والضراء، فقد كانوا يعملون طوال النهار في الحفر ونقل التراب، وصعود المرتفعات كالنخيل والجبال، والمشي على الأقدام خمس أوست ساعات متوالية، بدون استراحة، ففي تلك الأزمنة يشتاقون إلى الطعام، وينشغلون في الصلاة بالحديث عنه، لذلك ورد الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان" فأما الآن فالغالب أن العامل يتناول الأكل أول النهار بما يسمى فطوراً، وفي العمل يجلس على كرسي ولا يزاوله إلا نادراً، وفي الذهاب والإياب يمتطي سيارة مريحة، لا يحس مع الركوب بتعب ولا جوع، فأرى أن عليه أن يبدأ بالصلاة مع الجماعة إن خشي أن تفوته الصلاة فإن قدر أن اشتد به الجوع وخاف إن ذهب للصلاة أن ينشغل قلبه في صلاته، أو كان الطعام قليلاً وخشي أن يأكله أهله ويبيت هو طاوياً، فله أن يؤخر الصلاة عن وقتها ولو فاتته الجماعة، ولا يجوز تعمد تأخير الصلاة عن وقتها أو عن جماعتها بلا عذر مسوغ، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم تأخير المرأة للصلاة عن أول وقتها إلى آخر الوقت، فلما جاء آخر الوقت حاضت، وهل تقضي هذه الصلاة؟ الجواب:- ورد الترغيب في الصلاة أول الوقت، وأنه أفضل الأعمال، ولأن فيه المبادرة إلى الخير، فيدخل في قوله تعالى (أولئك يسارعون في الخيرات) وقوله (ومنهم سابق بالخيرات) ما عدا صلاة العشاء فتأخيرها أفضل إن سهل وكذا صلاة الظهر وقت اشتداد الحر، فعلى المرأة المبادرة إلى الصلاة سيما إذا خشيت فواتها بالحيض، أما إذا دخل الوقت وهي طاهر، ثم حاضت قبل الصلاة، فإن تلك الصلاة تبقى في ذمتها حتى تطهر، فإذا زالت الشمس دخل وقت الظهر فإن حاضت قبل أن تصلي لزمها أن تقضيها إذ طهرت، وكذا لو غابت الشمس فحاضت قبل صلاة المغرب، بقيت في ذمتها فتقضيها بعد الطهر.

السؤال:- إمرأة طهرت قبل صلاة الظهر، فلم تغتسل إلا عند أذان العصر فما الحكم؟ الجواب:- عليها أن تقضي صلاة الظهر، حيث إنها أدركت وقتها، فيلزمها قضاؤها ومتى طهرت بعد صلاة العصر، فإنها تغتسل وتقضي الظهر والعصر، لأن وقتهما واحد، أي تجمع العصر مع الظهر، فمن أدرك وقت الأخيرة لزمته الصلاتان، وكذا لو طهرت في الليل ولو في آخره قبل طلوع الفجر، فإنها تقضي صلاتي المغرب والعشاء، فإن وقتهما واحد، فإن طهرت بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، لزمها قضاء صلاة الفجر، ولو لم تغتسل إلا بعد الإشراق، وقد نقل ذلك عن عبد الرحمن بن عوف وغيره من الصحابة والله أعلم.

السؤال:- رجل يقع بيته بجوار المسجد، ولا يشهد الصلاة مع الجماعة ورجل آخر بيته بالقرب من المسجد، ولا يشهد الصلاة مع الجماعة بحجة أن بينه وبين رجل آخر في السمجد شحناء، فما حكم ذلك؟ وبماذا تنصحونهم؟ الجواب:- لا يجوز ترك الصلاة مع الجامعة لمن منزله قريب من المسجد، وذلك في حدود أن يكون بينه وبين السمجد أربعون داراً، هكذا ذكر الإمام أحمد في الرسالة السنية، عند كلامه على حديث "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" ولا يكون ما بينهما من الشحناء عذراً مسوغاً لترك صلاة الجماعة، وذلك أن المسجد للمصلين، وليس لأحد التصرف فيه، ولا الاختصاص بجزء منه، وعليهما الصلح وقطع النزاع، فإنه ورد أن المتشاحنين لا يرفع لهما عمل حتى يصطلحا. فاسعوا بينهم بالصلح، والله أعلم.

السؤال:- يقوم بعض الشباب في السكن الجامعي، أو في بعض الرحلات بالاستيقاظ في وقت معين لصلاة الليل جماعة أو أفرادا، فما الحكم في هذا الأمر؟ الجواب:- لا بأس بذلك، لأن صلاة الليل من أفضل القربات، ولا بأس بفعلها جماعة كما صلى ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الليالي وكذلك صلى جماعة من السلف ومن الصحابة جماعة في بعض الليالي، وصلاتها جماعة قد يكون أنشط لهم، وأقوى على الاستمرار والخشوع والإتمام. وكذلك تنبيه بعضهم لبعض، وإيقاظ بعضهم لبعض من باب التنشيط على العمل الصالح، وهو من القربات.

السؤال:- ما حكم الجلوس لحضور موضوع ثقافي يوم الجمعة قبل الصلاة؟ الجواب:- يسن التبكير إلى المساجد يوم الجمعة، والاشتغال بالصلاة والذكر وقراءة القرآن. أما التأخر عنه فإنه يفوت خيراً كثيراً، ولو كانوا مجتمعين على خير أو علم أو نحو ذلك، ولكن إذا كان اجتماعهم أفضل من عملهم بالمسجد إذا جاؤا إليه، فإنه قد ينعس، أو قد يجلس بلا قراءة ولا صلاة ولا غيرها، فاستماعه إلى موعظة في منزل، واستفادته أولى من جلوسه في المسجد بدون عمل، وجلوسه في المسجد بدون عمل أولى من جلوسه بالبيت بدون عمل، وبطريق الأولى من جلوسه بمجالس فيها خوض وكلام لا فائدة فيه، وقد ورد النهي عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة وهو نهي للذين يدخل المسجد لصلاة الجمعة نهى عن تحلقهم في نواحي المسجد يتناجون، فيدخلون الإمام وهم كذلك، فأمروا بأن يصفوا في أماكنهم للصلاة.

السؤال:- نحن جماعة المسجد الكبير بجامعة الملك سعود، وجميعنا تقريباً من الطلاب، ونمر بظروف متقاربة من الدراسة والاختبارات، كثيراً ما نختلف مع إمام الجامع في قضية إطالته القراءة في الصلاة وتخفيفها، فهل أمر التخفيف الذي دعت إليه السنة أمر نسبي، وما المقدار المناسب قراءته في كل صلاة، وبالأخص الصلوات الجهرية؟ الجواب:- نعم التخفيف أمر نسبي، بالنظر إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة غيره، وما أرشد إليه في القراءة، وسبب النهي عن الإطالة قصة معاذ الذي كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء وقد يؤخرون العشاء إلى نحو ثلاث ساعات أو ساعتين بعد الغروب، ثم يذهب إلى قومه في العوالي، ولا يصلهم إلا بعد ساعة، ثم أولئك الذين يجتمعون ويصلون معه غالبهم أهل عمل، في حروثهم وأشجارهم، ومن المعلوم أنهم يكونون قد تعبوا وسئموا طوال نهارهم، وكلت أبدانهم، فمن المشقة الإطالة عليهم، فمعاذ كان يطيل عليهم حتى أنه قرأ مرة سورة البقرة، فهم الذين رفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه، وأمره أن يرفق بهم، وأن يقرأ بهم من أواسط المفصل (إذا السماء انشقت) و (إذا السماء انفطرت) و (إذا الشمس كورت) و (السماء ذات البروج) و (سبح اسم ربك الأعلى) وما أشبهها، فكل ذلك مما لا حرج فيه لهذه المناسبة، أما التخفيف الزائد فإن ذلك من الخطأ، ولا دلالة في الحديث عليه، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم يطيل كما قال أنس رضي الله عنه: كان يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات. رواه النسائي وهو صحيح.

ولا شك أن هذا يبين فعله، وفعله يبين قوله، أن قراءة سورة الصافات يعتبر تخفيفاً، فكأنه يأمر بالتخفيف حتى لا يقرأ مثلا السور الطويلة كالنحل، ويوسف، والتوبة، وتكون سورة الصافات قراءة تخفيف، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بهم فيقرأ ما بين الستين إلى المائة آية في صلاة الفجر أي من الآيات الوسطى، ليس من الآيات القصيرة. وذلك نحو سورة الأحزاب ثلاث وسبعون آية، وكذلك الفرقان، والنمل، والعنكبوت، وما أشبهها، فهذه السورة هي التي ما بين المائة والستين، فإذا قرأها فإن هذه هي القراءة المعتادة، ويقرأ في صلاة الصبح من طوال المفصل وهو من سورة (ق) إلى سورة (المرسلات) هذه هي القراءة الوسط، فلا ينكر على من اقتدى بهذه الأعمال.

السؤال:- هل يجوز قراءة دعاء الاستفتاح في السنن، والنوافل، والرواتب، كما نرجو تحديد السنن الرواتب بالضبط، وهل في السنن والنوافل سجود سهو وتلاوة، وإعادة، إذا نسي الشخص كم صلى هل ركعتين أو ركعة واحدة أو غير ذلك، جزاكم الله خيراً. الجواب:- نعم يستفتح في كل صلاة فرضاً كانت أو نفلا، والرواتب قبل الصلوات وبعدها من النوافل، فالاستفتاح سنة في كل صلاة فيها ركوع وسجود، وإذا سهى في أي صلاة فعليه السجود، وسواء كانت فرضاً أو نفلاً، وكذا يسجد في كل صلاة من الفرائض أو النوافل، سجود التلاوة، ومتى سها ولم يدر كم صلى بنى على اليقين، فإذا تيقن الواحدة وشك في الثانية، أتى بها، وغير ذلك، والله أعلم.

السؤال:- رجل يترك صلاة الوتر بالليل عمداً أو سهواً، أو كسلاً وتهاوناً، وكذلك سنة الفجر، فما قول فضيلكتم في ذلك جزاكم الله خيراً؟ الجواب:- لقد أخطأ وفرط وفاته خير كثير وتهاون بالسنة وبما فعله وداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا التساهل والتفويت يقدح في العدالة، وترد به الشهادة، وينقص به دينه، فعليه التوبة، والمحافظة عليها حسب القدرة.

السؤال:- رجل جاءه ضيف في منزله في وقت الصلاة أو قرب الصلاة، ولكن الضيف يريد أن يصلي في المنزل، وصاحب المنزل يريد أن يصلي في المسجد، فيضطر أن يطيع ضيفه ويصلي معه في البيت، ويترك صلاة الجماعة. مع العلم أن صاحب المنزل يصعب أن يترك ضيفه في المنزل وحده، ويذهب إلى المسجد لسببين. أولهما: أن صاحب المنزل يستحي من ضيفه في تركه وحده في المنزل والثاني: أن صاحب المنزل لا يريد أن يترك ضيفه في المنزل وحده مع نسائه وبناته، لأنه غير محرم لهن. كذلك لو جاء عدد من الضيوف اثنان أو ثلاثة وأكثر، وأرادوا أن يصلوا في البيت دون المسجد فهل يحصلون على أجر صلاة الجماعة، وليس لديهم عذر شرعي، نرجو الإجابة من فضيلتكم حفظكم الله. الجواب:- أولاً على صاحب المنزل أن يجهر بالحق، ولا يستحي من الضيف أو غيره، بل يصرح له بأنه لا يجوز لنا جميعاً أن نترك الصلاة في المسجد مع قربه وسماع الأذان، وسواء كان الضيف من أهل البلد أو قادما من بلد أخرى، فإن الأفضل للمسافر الصلاة مع الجماعة، والإتمام إذا كان في البلد، ولا مشقة عليه، وعلى هذا فلا يجوز لصاحب المنزل أن يترك الصلاة مع الجماعة لأجل الضيف، ولا يجوز له أن يترك الضيف وحده في المنزل، ولو لم يخف على نسائه وكذا إذا كان الضيوف عددا وهم قادمون من سفر فإن الأفضل لهم الصلاة في المسجد، سواء قصراً أو إتماماً، ولهم الصلاة في المنزل قصراً إذا كانو على سفر، وكانوا جماعة، أما صاحب المنزل فلا يتخلف عن الصلاة لأجل الضيف أو الضيوف، فليس وجودهم عذراً في سقوط الجماعة، والله أعلم.

السؤال:- رجل في داخل المدينة أو القرية، وقد حانت الصلاة وهو بعيد عن منزله وعن الماء، فهل يتيمم ويصلي مع الجماعة، ليحصل على أجر الجماعة، أم يذهب يتوضأ بالماء في البيت أو مكان آخر ويصلي وحده، حتى ولو كان وقت الصلاة قد فات بعض الشيء أو كلياً. أيهما الأفضل جزاكم الله خيراً. الجواب:- عليه أن يبحث عن الماء، ولو طرق الأبواب، ولو طلبه بثمن، فإن لم يجد حول المسجد ماءً، واعتذر الناس عنه ولم يعطوه ماء، ولم يجد من يبيعه فله الذهاب إلى بيته، ولو فاتته الجماعة حتى يصلي بوضوء كامل، فإن الطهارة بالماء واجبة، ولا يجوز التيمم إلا عند فقد الماء، وبعد البحث عنه وطلبه بحسب القدرة والتمكن، فإن لم يجده وخاف خروج الوقت جاز له التيمم ولو كان داخل البلد.

السؤال:- بعض فرش المنزل قد أصابه بول الأطفال وغير ذلك من النجس، وذلك في عدة أنحاء، ولا يعلم أين موقعه، وقد جفت ومضى على ذلك مدة أيام أو شهور أو سنين. فهل تجوز الصلاة على هذا الفرش. وما أقصر مدة فيما لو أصيبت بقع من الفرش ببول مستقبلاً، ولم يعرف موقع هذا البول وغيره من النجس، حتى ينظف في الحال. أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- لا يجوز الصلاة عليها إذا عرف أنها نجسة، وأنها لم تطهر بعد البول، وتطهيرها بغسلها وتنظيفها بصب الماء عليها، ثم تنشيفها مرة أو مرتين، وإذا غلب على الظن أنها نجسة بالأبوال فلا يصلى عليها، ولا يطأها ورجلاه مبتلة بالماء، وإذا احتاج للصلاة عليها بسط عليها بساطا أو سجادة ثم صلى، وعلى أهل الدار أن يحفظوا فرشهم من النجاسات، ويعودوا أطفالهم على النظافة، وعلى التبول داخل الحمامات، كما عليهم تحفيظ عوراتهم حتى لا يلوثوا الفرش والمنازل، ولو لم يصل عليها.

السؤال:- الصلوات الجهرية: المغرب، العشاء، الفجر، مثلاً المصلي منفرداً في بيته أو في مكان آخر، هل الأفضل له أن يجهر بالفاتحة والسور الأخرى في الركعتين الأوليين، أو معه أشخاص واحد أو اثنان مثلاً أن يؤذن ويقيم عند حضور الصلاة في السفر أو الحضر، عند فوات الصلاة مع الجماعة، أو أن المساجد بعيدة عنهم. أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- لا حاجة للمنفرد أن يجهر بالقراءة، لأن القصد أن يسمع نفسه ويتلفظ بالقراءة، وسواء في صلاة الليل أو النهار، وإنما يشرع الجهر للإمام ليسمع المأمومين، ويستفيدوا من سماع القرآن، فكثيرا ما يكون فيهم الجهلة والأميون، فمع تكرار سماع القرآن يفهمون كلام الله، ويحفظون منه ما تيسر، وخص الليل بالجهر لأنه وقت الفراغ، وانقطاع الأشغال، وراحة القلب وتقبله، فأما الأذان فلا يشرع إلا في المساجد العامة التي يعين فيها إمام ومؤذن، ويشرع لمن يصلي في خارج البلد، كالمسافر، والراعي الذي لا يسمع الأذان، فأما من يصلي في داخل البلد كالمعذور في المنزل، ومن فاتته الصلاة فلا داعي لأذانه.

السؤال:- رجل فاتته صلاة الجماعة صلاة المغرب مثلاً. فصلى وحده، أو يصلي في المسجد كإمام بأناس متأخرين مثله، لكنه يخجل من الناس القاعدين أثناء أدائه الصلاة، لأنه لا يجيد القراءة مثلاً، أو لأن عليه أخطاء في حركات الصلاة، من أذكار، وركوع، وقيام وسجود وغير ذلك، فهل يعتبر هذا الرجل من المنافقين وصلاته باطلة. أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- عليه أن ينتظر جماعة من المتخلفين، ويتقدمهم أحسنهم قرآناً، وأقرؤهم لكتاب الله تعالى، وعلى الإمام الذي يتقدمهم أن يقرأ بما يعرفه ويحسنه، ولو كان ضعيف القراءة، وعليه أن يحرص على تحسين صوته وقراءته، ولا يضره ما وقع منه من اللحن والخطأ، ولا يهمه قول الحاضرين الذين يعيبونه، مع بذل جهده حسب القدرة، وعلى إمامهم الحرص على إقامة أركان الصلاة والطمأنينة فيها والإتيان بالأذكار والأركان والواجبات حسب معرفته، وليس له أن يصلي وحده مع وجود جماعة متخلفين، ولو قدموه يصلي بهم لكونه أحسنهم فلا يخجل من التقدم بهم ولاقراءة حسب المعرفة.

السؤال:- رجل نسي أو نام عن صلاة سنة الفجر، هل يتوضأ ويصلي سنة الفجر، أو أن سنة الفجر، تسقط عنه وما رأي فضيلتكم في الذي يتهاون ويتكاسل عن صلاة سنة الفجر والوتر رعاكم الله. الجواب:- ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" ثم قرأ قوله تعالى: (وأقم الصلاة لذكرى) فيدخل في ذلك من نام عن صلاة الصبح، فإنه يبادر حين استيقاظه فيتوضأ، ثم له أن يصلي السنة ثم الفريضة، فقد ثبت أن الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر فناموا آخر الليل، فلم يوقظهم إلا حر الشمس، فقاموا وصلوا كما كانوا يصلونها في وقتها، ولم يتركوا السنة وعليكم نصح من يتهاون بسنة الصبح والوتر، فإنها من آكد السنن.

السؤال:- هل ممكن أن يصلي الإنسان ما شاء من صلاة الليل في المسجد، وذلك بعد أدائه صلاة العشاء، ثم يكمل الباقي والوتر في البيت قبل النوم أو بعد النوم، بقصد التيسير له؟ وهل يمكن أن يصلي صلاة الليل والوتر معاً في المسجد بعد صلاة العشاء؟ جزاكم الله خيراً. الجواب:- يجوز كل ذلك، فإن الليل كله أوله وآخره محل للتهجد والتطوع، فمن نشط في أول الليل وصلى ما كتب له وأوتر جاز له ذلك، كما في صلاة التروايح، ومن قدر على القيام آخر الليل، فأخر تهجده ووتره إلى آخر الليل فهو أفضل، ومن خاف أن يعجز من ورده وتهجده آخر الليل، فصلى بعضه أول الليل، ثم صلى آخره والوتر في السحر جاز ذلك، فالأدلة في فضل صلاة الليل عامة، يدخل فيها الصلاة أوله وآخره لكن صلاة آخر الليل ورد فيها ما يرغب في تحريها.

السؤال:- بعض المصلين إذا غاب أحد منهم عن المسجد عدداً من الأيام لمرض أو عمل، ثم عاد للمسجد للصلاة مع الإمام والجماعة مرة أخرى، انتابه شعور بالحرج والخجل من الإمام والجماعة، عند حضوره للمسجد بعد غيابه. فهل هذا الشخص يدخل في صفات المنافقين؛ أفيدونا للأهمية جزاكم الله خيراً والله يحفظكم. الجواب: - عليه أن يستمر في عمله، ومنه المحافظة على الصلوات في المسجد، وحضور جماعة المسلمين، ولا يضره غيابه عنهم مدة قصيرة أو طويلة، حيث إنه تغيب لعذر ومسوغ شرعي، كما لو سافر وطال سفره، وغاب عن أعين الناس في المسجد، ثم رجع من سفره، فلا حرج ولا خوف عليه، بل يسلم على إخوانه أهل المسجد، ويصلي معهم، فإن سألوه عن غيابه، أو ذكروا أنهم فقدوه فليعتذر إليهم بأنه مريض أو أنه انشغل في عمله الذي أبعده عن جماعة المسجد، أو سافر هذه المدة فمتى عرفوا عذره عذروه، ولم يلوموه بتخلفه، بخلاف من عرف بالكسل والتخلف عن الجماعة لغير عذر، فإنهم يعرفونه ويلومونه على ذلك والله أعلم.

السؤال:- ما حكم تحريك السبابة أثناء التشهد، وهل له صفة معينة، وهل ورد بهذه الصفة دليل؟ الجواب:- هذا التحريك سنة، ومحله عند الشهادتين، وعند الدعاء بعد التشهد، وعند ذكر اسم الله، وقد ورد في الحديث أنه يحرك إصبعه السبابة يدعو بها وأن يشير بها إلى وحدانية الله تعالى، ولهذا لا يشير إلا بواحدة وهي السبابة، وقيل لأنها محراك القلب، فتحريكها يسبب حضور القلب، ثم الإشارة بها أن يرفعها وهي محنية دون نصبها، هذا هو المعتاد المعروف عن العلماء.

السؤال:- إني خرجت من بلادي مهاجراً في سبيل الله، ومررت بعدة دول إسلامية، ولم أتمكن من الحصول على الإقامة بها، والآن تحصلت على الإقامة في إحدى الدول الكافرة، وإلى حد الآن أقصر الصلاة ولم أتمها، ونيتي عدم الإقامة، فما حكم قصر صلاتي؟ هل أستمر في القصر إلى حد مغادرتي البلاد، أو أتم صلاتي نظراً لوجود إقامة لدي مع عدم النية للإقامة في هذه البلاد؟ الجواب:- لا يجوز لك القصر والحال هذه، حيث حصلت على الإقامة، وعزمت على إقامة أكثر من أربعة أيام متوالية، وسكنت في البلد في المساكن المعتادة، وتمتعت بما يتمتع به أهل البلد، فأصبحت كأنك منهم، ولا يصدق عليك أنك مسافر، ولا على أهبة السفر، فلا تصح نية السفر وأنت مقيم، وعندك إقامة وتظهر دينك، ولو كانت الدولة كافرة، ولو كنت عازماً على فراقها، لكن لا تدري متى يكون الفراق.

السؤال:- ما حكم صلاة ركعتي سنة الفجر بالفاتحة في الركعتين، بدون قراءة أي آيات معها؟ الجواب:- تصح الصلاة فرضاً أو نفلاً بقراءة الفاتحة وحدها، وسواء سنة الفجر أو غيرها ويكره ذلك مع الإجزاء، حيث إن السنة في الصلاة الزيادة على الفاتحة في الفروض والنوافل.

السؤال:- لما كنت أصلي في بيتي جاءني أحد الأصدقاء، وأخبرني أن الصلاة بدون أن تكون الغرفة مضاءة لا تجوز، فنريد أن نسمع رأي فضيلتكم. الجواب:- تصح الصلاة في غرفة مظلمة، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الليل وهي نائمة، فإذا أراد أن يسجد غمزها فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، وذكرت في حديث آخر قالت: ليس عندنا مصباح، لو كان عندنا مصباح لائتدمنا به، أي لو وجدنا وقود المصباح وهو الشحم أو الزيت لجعلناه إداما للطعام، فهم أحوج إليه من المصباح.

السؤال:- علمت بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى من أكل ثوماً أو بصلاً أن يقرب المصلين في جماعة المسجد، وذلك حسب علمي حتى لا يؤذي الملائكة والمصلين، فما رأي سماحتكم فيمن امتلأت رئتاه برائحة الدخان، حتى ولو أنه لم يشربه قبيل قدومه للصلاة في المسجد، والمعروف أن رائحة الدخان كريهة، وأنا أقول لك أنها تزعجني في صلاتي بجانب صاحب هذه الرائحة. والنهي جاء في الحلال (الثوم والبصل) فما الحكم في الدخان وهو محرم، هل ينطبق الحديث على شاربه؟ الجواب:- إن النهي عن قرب المسجد لمن أكل ثوماً ونحوه هو نهي عن أكل هذه البقول المستكرهة، ولذلك ترك الصحابة أكل الثوم ونحوه، وقالوا: لا خير في مطعوم يحول بيننا وبين الصلاة في المسجد، وبعضهم صار يأكله في دخول الوقت الطويل كبعد العشاء أو بعد الفجر، فأما المدخن في هذه الأزمنة فإنه يتمنى أن يمنع من المسجد، ويفرح إذا قيل له لا تقرب المسجد بعد التدخين، قائلاً: إني لا أقدر على تركه، فإما أن أتعاطاه وأحضر الصلاة، وإما أن أترك الصلاة، فنقول له: خفف منه، واحرص على أن لا تشربه قرب الوقت، حتى لا تؤذي غيرك، ولا تتوسط في الصف، مع توصية المدخن بالإقلاع عنه كلياً، فهو مرض عضال، لا خير فيه، وتركه سهل يسير على من يسره الله تعالى عليه.

السؤال:- نحن جمع من المسلمين الساكنين في بريطانيا، حيث في كثير من الأيام يطول النهار طولاً مفرطاً ويقصر الليل قصراً مفرطاً، بحيث يصل أقصى النهار إلى 9:45 (وقت دخول المغرب) أما غياب الشفق الأحمر فإنه يتأخر إلى قبيل الثانية عشر ليلا: ويكون دخول الفجر بحدود 2:30 صباحاً. علماً بأن هذه الفترة تستمر قرابة الشهرين في فصل الصيف. بهذه الصورة تقع مشقة على الناس من تأخر دخول وقت العشاء، واقتراب وقت الفجر، خاصة ونحن نعيش في مجتمع غير إسلامي ويصعب على أكثر الناس ممن لا يملكون واسطة نقل إلى المسجد حضور صلاة الجماعة مع الإمام، لأسباب منها صعوبة الأمن، وانقطاع المواصلات العامة. فهل يجوز جمع العشاء مع المغرب جمع تقديم في المسجد لمن يتيسر له أن يصلي المغرب في المسجد، وذلك طوال تلك الفترة؟ وهل يجوز جمع المغرب مع العشاء جمع تقديم في البيت لتأخر وقت دخول العشاء، وخاصة للنساء والصبيان، وللذي يسكن بعيداً عن المسجد. وبالنسبة لمن لا يشق عليه أداء صلاة العشاء في وقتها المتأخر، هل له من الأولى، (إذا كان الجمع جائزاً لعامة الناس) أن يجمع أو يصلي الصلاة على وقتها المتأخر ولو منفرداً؟ الجواب:- حيث إنكم مقيمون آمنون، فلا يجوز الجمع بين العشائين بدون سبب، والوقت المعتاد للعشاء بعد غروب الشمس بساعة ونصف، ولو قبل غروب الشفق، وسواء صلى في المسجد أو في المنزل، فإن لم يشق اجتهدوا في تأخير العشاء حتى يقرب غروب الشفق. ومن صلى في بيته أو مقر سكنه يحرص على الصلاة في الوقت، أي بعد غروب الشفق الذي هو الحمرة في الأفق، فإن شق على النساء والصبيان صلوا العشاء بعد الغروب بساعة ونصف أو ساعتين.

ومن لا مشقة عليهم في التأخير عليهم تأخيرها حتى يتحقق دخول وقتها عندهم فأما الجمع لهذا السبب فأرى أنه لا يجوز ولو قصر الليل، ولو طال النهار، وأما إذا استمر النهار أكثر من ثلاث وعشرين ساعة كما في بعض البلاد، فإنه يقدر لكل صلاة وقتها من الأيام المعتادة، فيعرف أقرب بلد ودولة إليها ويقاس عليها مساحة ما بين الوقتين فتصلى الصلاة في أقرب ما يكون وقتها، ثم ينظر مدة ما بينها وبين الوقت الثاني فبعده تصلى الثانية.

السؤال:- هل للثلاثة أن يصلوا جمعة؟ الجواب:- لابد للجمعة من شروط، منها الإقامة الدائمة، وبعد المساجد الأخرى عنهم، فإذا تمت صلوها ولو كانوا ثلاثة.

السؤال:- ما حكم قضاء الرواتب لمن فرط لنوم أو كسل أو نسيان، وكذلك الضحى والوتر. الجواب:- يسن المحافظة على الرواتب، وهي السنن التابعة للفرائض، وسنة الضحى والوتر، وقضاؤها إذا فاتت في أي وقت غير أوقات النهي.

السؤال:- ما رأيكم في ما هو حاصل اليوم عند طلاب المدارس من الحديث بين الأذان والإقامة في المصليات، في أمور محرمة، مثل الحديث في المباريات، والكلام البذيء، ما هو منظور الشرع في ذلك، مع العلاج لهذه الظاهرة، الخطيرة، مثل إلقاء كلمة قبل الصلاة، أو تشغيل شريط، مع أن ذلك قد يشوش على من يؤدون السنة الراتبة؟ الجواب:- لا يجوز هذا الخوض في المسجد المعد للصلاة، سيما من الجالسين فيه لانتظار الصلاة، فإن عليهم أن يشتغلوا بالقراءة، والذكر والدعاء، والمذاكرة العلمية، وحفظ اللسان عن الكلام البذيء والفحش، وذكر الملاهي، وما يشغل عن ذكر الله تعالى، والرأي زجر من يفعل ذلك، وتعويدهم على الكلام الحسن، وتحذيرهم من هذا الخوض الباطل، ولا بأس بإلقاء نصيحة، أو كلمة مفيدة في حال انتظارهم للصلاة، فهو أولى من ذلك الكلام المكروه فأما الاستمرار على النصيحة أو تشغيل شريط إسلامي فأرى أن ذلك مما يشغل عن الذكر، وأداء الراتبة، فأكره ذلك، والله أعلم.

السؤال:- نرجو توجيه نصيحة للأئمة والخطباء؟ الجواب:- لا شك أن إمام المسجد قدوة وأسوة للمصلين وللجيران، ولمن يعرفه ويصحبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الإمام ليؤتم به" أي يقتدى به في الصلاة، فكذلك هو محل توقير وتقدير، فكان عليه أن يتحلى بمكارم الأخلاق، وشعب الإيمان، سواء فيما يتعلق بعمله أو بدينه، فيحافظ على الأوقات، ويواظب على الصلاة، وعلى تكميلها وإتمامها كما ينبغي، ويحرص على الطمأنينة في الصلاة، وعلى تحسين القراءة، وإقامة الحروف، وعلى المواظبة على السنن والمندوبات، ليقتدى به في ذلك، كما أن عليه أن يقوم على من ولاه الله إياهم، وجعله مسئولاً عنهم، وبالأخص أولاده الذكور، وإخوته وأهل بيته، فيحرص على إحضار الأولاد معه في المسجد، وعلى تأديبهم وتهذيبهم، وتعليمهم ما يلزمهم في الصلاة وفي المسجد، فإن الجيران والأهالي يقتدون به في القيام على أولادهم، وإحسان تربيتهم، وتدريبهم على الصلاة، كما أن على الأئمة والخطباء أن يقوموا بالنصيحة العامة، سيما لمن حولهم أو يقرب من مساجدهم، وذلك بتعاهدهم في دينهم ودنياهم، فيتخولهم بالموعظة، ويجدد التذكير والإرشاد يومياً أو أسبوعياً، فيما يتعلق بالعبادات، وأثرها وفوائدها، والآداب الشرعية، والمصالح الدينية، ويقرأ عليهم في الأوقات المناسبة في كتب الحديث ما فيه تخويف وتحذير عن فعل المعاصي، وترك الطاعات، وما فيه تهذيب للأخلاق، وإصلاح للأعمال، وإبعاد عن كل ما ينافي المروءة، ويقدح في العدالة، كما أن عليهم أيضاً أن يتفقدوا أحوال المصلين حولهم، ويتعاهدوا من عليه خلل في دينه، أو يتخلف عن الجماعة، أو يرتكب شيئاً من المنكرات، أو يصحب الأشرار وأهل الفسوق والعصيان، فيأخذوا على أيديهم، ويحذروهم من فعل شيء من الجرائم والمنكرات التي تنقص الإيمان، وتحول بين العبد وبين رشده، ويستعينوا على منعهم وكفهم عن الحرام بأهل الخير من المجاورين،

والرفقاء، والأصحاب، رجاء أن يصلحوا مع كثرة المنكرين عليهم، كما أن على الأئمة والخطباء أن يحرصوا على فتح مدارس خيرية في المساجد، لتعليم الأطفال حفظ القرآن الكريم، والمسابقة في استظهاره، وحفز الهمم إلى ذلك، وتشجيع من يحفظ بجوائز تدفعهم إلى المنافسة، والمسارعة في الحضور والمواظبة، كما أن عليهم أيضاً الحرص على إقامة دروس أسبوعية أو شهرية في المساجد، لبعض المشايخ المعروفين، ليستفيد الخاص والعام، ولنشر العلم في سائر الأحياء، وفي كل ذلك خير وأجر كبير، وخروج عن مسئولية العهدة التي تلزمهم، فليس هي فقط أن يقوم بالإمامة والخطابة، بل إنهم رعاة على جماعاتهم، وكل راع مسئول عن رعيته، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

السؤال:- ما حكم قراءة (إن الله وملائكة يصلون علىالنبي) (الأحزاب:56) في خطبة الجمعة؟ الجواب:- قراءة قوله تعالى (إن الله وملائكة يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلم تسليما) (الأحزاب:56) وذلك في خطبة الجمعة، فنقول: ليس قراءتها واجبة، بل تصح الخطبة بدون قراءتها، لكن يشرع للخطيب تذكير الناس بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة لقوله صلى الله عليه وسلم "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي" فالخطيب يحث الجماعة على الإكثار من الصلاة عليه في هذا اليوم، ويذكر لهم الأدلة كهذه الآية وهذا الحديث ونحوها.

السؤال:- هل يجوز الانتقال من قرية إلى قرية، ومن منطقة إلى منطقة من أجل التعزية في وفاة المتوفى، حيث أن مثل هذا يحصل، وإذا حدث هذا فإن هذا الشخص أو عدداً من الأشخاص الذين انتقلوا من هذه القرية إلى القرية الأخرى لابد أن يكونوا بحاجة إلى الأكل والشرب، والراحة بعض الوقت، نظراً لبعد المسافة، وشدة حرارة الجو. وهل يعد ذلك من النياحة؟ الجواب:- التعزية سنة، وحق من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وذلك بأن تذهب إلى أهل المصاب وتعزيهم، وتدعو لمورثهم أو قريبهم بالمغفرة والرحمة، وتسليهم، وتحثهم على الصبر واحتساب الأجر، ولو استدعى ذلك الذهاب، من قرية أو منطقة إلى أخرى، ولكن لا ينبغي تكليف أهل الميت بإصلاح الأطعمة والمأكولات، لما في ذلك من إحراجهم، وقد أتاهم ما يشغلهم، ويسن لجيرانهم أن يصلحوا لهم طعاماً بقدرهم، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز للابن غسل والدته وزوجته المتوفية؟ الجواب:- لا يجوز للرجل أن يتولى تغسيل أمه ولا بنته ولا أخته، ولا غيرهن من محارمه سوى الزوجة، فإن له أن يغسلها ويكفنها، لقول عائشة رضي الله عنها: "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عيه وسلم سوى نسائه" ولأن علياً رضي الله عنه غسل زوجته فاطمة، وكذا يجوز للمرأة أن تغسل زوجها، فإن أبا بكر رضي الله عنه غسلته زوجته أسماء بنت عميس، وذلك أن الزوجين يحل لكل منهما النظر إلى جسد صاحبه في الحياة، فكذا بعد الموت، وأما بقية المحارم كالأم والبنت، فإنه لا يجوز له النظر إلى عورتها، حتى في الطهارة للصلاة ونحوها، والله أعلم.

الصيام

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الصيام

السؤال:- ما حكم صيام يوم وإفطار يوم، مع إخلاف العادة لتحصيل صيام الخميس؟ الجواب:- يسن صيام يوم وإفطار يوم، كما يجوز سرد صوم خمسة أيام مثلاً، ثم إفطار خمسة، لمحاولة صوم الخميس ونحوه.

السؤال:- ما حكم صيام كل يوم بتتابع لظروف مخصوصة، تأويلاً لحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم وما صحة الاستدلال بهذا الحديث؟ الجواب:- يجوز سرد الصوم أياماً متتابعة، ثم سرد الإفطار أياماً أخرى، والدليل الحديث المذكور في السؤال، لأن ذلك تطوع مستحب.

السؤال:- حديث "لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم" هل هو صحيح، وما مفهومه وعمومه؟ الجواب:- النهي عن صوم السبت هو تخصيصه، لأن اليهود يسبتون فيه، فنهي عن تعظيمه تشبهاً بهم، ويجوز صومه لسبب، كمن صام يوماً وأفطر يوماً، أو وافق يوم عرفة أو عاشوراء ونحوه، فمعنى افترض عليكم شرع وسن لكم.

السؤال:- من غلب على ظنه أنه لن يواصل الصوم لسنة أو لستة أشهر ولكن قد يفطر، فهل مداومته على صيام البيض فقط، أو الإثنين والخميس افضل، لحديث "أدومه وإن قل". الجواب:- المداومة على الصوم القليل كأيام البيض أو الاثنين والخميس أفضل من الكثير المنقطع كشهر وأشهر، لهذا الحديث.

السؤال:- أنا مريضة بفشل كلوي، ويستلزم مرضي هذا تناول علاج في أوقات مختلفة، لا سيما بعد إجرائي لعملية زرع كلى، حيث نصحني الأطباء بالمداومة على العلاج وإلا تعرضت للخطر، وحيث إنني والحمد لله مسلمة وأريد أن أصوم شهر رمضان، ولكن مرضي يمنعني لظروف تناول الدواء في الصباح والظهر والليل، وكل 12ساعة. لذا أرجو إفتائى في هذا الأمر، وما هي كفارة صيامي الواجب عليَّ أداؤها في حال عدم تمكني من الصوم. الجواب:- فحيث إن الأطباء مسلمون مختصون، وقد اتفقوا على تقرير واحد، أن الصوم يضر بالعملية، وأن الفطر واجب حفاظاً على الصحة، فلا مانع من الإفطار ثم القضاء عند القدرة، فإن قرروا أن الصوم لا يناسب أبداً ودائماً، فلابد من الكفارة، وهي إطعام مسكين عن كل يوم.

السؤال:- رجل صام نفلاً، وبعد صلاة الظهر أحب أن يفطر فهل له لذلك؟ الجواب:- ورد في الأثر أن المتطوع أمير نفسه، فعلى هذا لا مانع من الإفطار ولو في آخر النهار، والأفضل إتمام العمل الذي ابتدأه، إذا كان من العبادات المأمور بها، ولقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) (محمد:33) وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مرة على عائشة فأخبرته أنه أهدي إليهم طعام، فقال "قربيه فلقد أصبحت صائماً" فأكل منه، ولعل ذلك أنه كان بحاجة إلى الطعام لبعد عهده به ولقلته، وورد أن عائشة وحفصة كانتا صائمتين فأهدى إليها حيس، فأكلتا منه فأخبرتا النبي صلى الله عليه وسلم فقال صوما يوما مكانه، ولعل ذلك وقع على وجه الاستحباب، أو أن صيامهما كان قضاءً والله أعلم.

السؤال:- كثر تزاحم الناس في الحرم المكي في العشر الأواخر من رمضان، بل في السابع والعشرين منه، لدرجة أنه يحصل من التزاحم ما الله به عليم، ما قول فضيلكتم في هذا العمل؟ الجواب:- نقول إن هذا من المبشرات، ومن الأدلة على محبة الخير والرغبة فيه، حيث إن هذه العشر ورد في فضلها أدلة كثيره، فهي موسم العتق من النار، وترجى فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "التمسوها في العشر الأواخر" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخصها بأعمال لا يعملها في العشرين الأول، فكان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد المئزر، وكان يعتكف فيها حتى توفاه الله، وكل ذلك دليل على أهميتها، فلا غرابة إذا تأسى به أهل الخير، واجتهدوا فيها، فزادوا في صلاة الليل طولاً وعدداً، وتفرغوا للعبادة، وضاعفوا عملهم في كل المجالات، ولأنهم يتفرغون فيها غالباً من الأعمال. ثم إن ليلة سبع وعشرين هي أرجى الليالي أن تكون هي ليلة القدر لقوله صلى الله عليه وسلم "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى" وقد ورد فيها أدلة كثيرة ترجحها، ومع ذلك فإن على المسلم أن لا يهجر بقية الشهر من العمل، بل يجتهد في الشهر كله، بل في جميع عمره، ومن خاف أن يتضرر من الزحام فلا بأس أن يتقدم قبل السابعة أو بعدها، حتى لا يضر نفسه وغيره، والله أعلم.

السؤال:- أنا مريض بمرض السكر، وأتناول إبر الأنسولين، ومستوى السكر لدي ما بين 250 إلى 400 أحياناً، وأيضاً مريض بالكلى وضغط الدم -شفانا الله وإياكم- هل أصوم رمضان أم أفطر؟ وما هي الكفارة؟ الجواب:- إذا كنت لا تستطيع الصيام، وقرر الأطباء أن الصيام يضرك، وأن المرض لا يرجى برؤه فعليك الإطعام عن كل يوم مسكيناً من البر أو التمر أو الأرز، نصف صاع لكل يوم للمساكين جميعاً أو مفرقة.

السؤال:- إمرأة بلغت، ودخل عليها رمضان ولم تصم خجلاً، وبعد سنة دخل عليها رمضان وهي لم تصم، فما الحكم؟ الجواب:- يلزمها قضاء ذلك الشهر الذي أفطرته بعد بلوغها ولو متفرقا، وعليها مع القضاء صدقة عن كل يوم مسكين، لقوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) (البقرة:184) وذلك نحو نصف صاع عن كل يوم، وذلك لأن الواجب أن تصومه في وقته، حيث إن البلوغ من علاماته الحيض، فمتى حاضت الجارية وجب عليها الصيام ولو كانت صغيرة السن.

السؤال:- هل تأثم المرأة إذا صامت حياءً من أهلها وعليها الدورة الشهرية؟ الجواب:- لا شك أن فعلها خطأ، ولا يجوز الحياء في مثل هذا، والحيض أمر كتبه الله على بنات آدم، وقد منعت الحائض من الصوم والصلاة، فهذه التي صامت وهي حائض حياء من أهلها عليها قضاء تلك الأيام التي صامتها حال الحيض، ولا تعود لمثلها، والله أعلم.

السؤال:- إذا جامع الرجل زوجته وهو صائم صيام قضاء رمضان فهل عليه كفارة الجماع في رمضان، أفتونا مأجورين؟ الجواب:- لا يلزمك كفارة، وإنما يفسد ذلك اليوم، حيث إن الكفارة تختص بمن جامع في نهار رمضان وهو صائم، فأما في غير رمضان فليس فيه كفارة، ولو كان قضاء لأيام رمضان، فإن وقت القضاء موسع، فكما يجوز الإفطار لمن أصبح صائماً قضاء إذا كان هناك مسوغ، فكذلك الجماع فيه يفسده ويقضي يوماً مكانه، والله أعلم.

السؤال:- مرض والدي في شهر رمضان سوى خمسة عشر يوماً، وبقي له من رمضان خمسة عشر يوماً، وقد عليه رحمه الله في شهر شوال، فماذا يجب علينا تجاه الأيام التي لم يصمها من رمضان؟ الجواب:- إذا شفي بعد رمضان وتمكن من القضاء ففرط ولم يقض، فإنكم تصومون عنه، أو تتصدقون عن كل يوم بإطعام مسكين، أما إن لم يفرط، بل استمر معه المرض حتى توفي فلا قضاء عليكم ولا اطعام، حيث لم يلزمه لكون إفطاره عن عذر، والله أعلم.

السؤال:- امرأة حلفت إن نجحت في الاختبار أن تصوم شهراً، ماذا يلزمها؟ وهل يكون صيامها متتابعاً أو متفرقاً؟ الجواب:- الصوم من الطاعات والعبادات، فيجب بالنذر لقوله صلى الله عليه وسلم "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فعلى هذا يجب الوفاء عليها، والشهر اسم لما بين الهلالين، فيلزمها صوم شهر هلالي متتابع، ولا تفطر بينه إلا أيام الحيض، ثم تقضي بدلها من الشهر الثاني، والله أعلم.

السؤال:- شخص قام من نومه ظاناً عدم طلوع الفجر، فشرب ماء فقط، وأيقظ أهله فشربوا، ثم تبين له أن الفجر قد أذن له قبل أن يستيقظ بخمس دقائق، فما حكم صيامهم؟ الجواب:- أرى أن لا شيء عليهم، لعدم العلم بالصبح، فهم معذورون كمن أكل أو شرب ناسياً، فإنما أطعمه الله وسقاه، فكذا من أكل أو شرب يعتقد أنه في ليل فبان نهاراً فلا قضاء عليه.

السؤال:- أذن المؤذن في رمضان قبل الوقت بما يقارب ربع ساعة في مسجد، وذلك ظناً منه أن الوقت قد دخل، وقد أفطرنا على أذانه اعتقاداً منا بصحة الأذان في الوقت، إلا أنه اتضح لنا أنه أذن قبل الوقت، حيث لم يؤذن من المساجد حولنا سواه. ما يلزمنا في ذلك اليوم. الجواب:- أرى أن عليكم قضاء ذلك اليوم، حيث تبين لكم أن الإفطار قبل غروب الشمس يقيناً، وحيث إن الوقت معروف معرفة عامة للأفراد، وكما في التقاويم، وحيث إن الواجب التثبت والتحري مع الغيم، وعدم التقليد للمؤذن الذي يتضح خطؤه، فلهذه الأسباب يلزم القضاء، وعليكم الاحتياط في الأيام القادمة.

الطلاق

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الطلاق

السؤال:- زوجت ابنتي من رجل وهو دائماً يضربها دون أي سبب، ويلعنها ويلعن أهلها، ويشتمها لأي سبب، ويهددها بالطلاق، وآخر شيء ضربها ضرباً جائراً، وأرسل ورقة، إن لم ترجع في الوقت المحدد فهي طالق، وعلم أنه تارك الصلاة، ونادراً ما يصلي، وإني صبرت من أجل أبنائها، وإني الآن لا أستطيع أن أصبر أكثر من هذا؟ الجواب:- لا تردوها عليه، لأنه تارك الصلاة، ونادراً ما يصلي. ولأنه يؤذيها ويضربها بدون سبب، ويلعنها ويلعن أهلها، ويشتمها لأي سبب، ولأنه طلقها طلاقاً معلقاً على شرط، بقوله: إن لم ترجع في الوقت المحدد فهي طالق، ثم إنها ما رجعت. فعلى هذا لا تردوها عليه، فإن اشتكى فاحرصوا على إثبات ما ذكرتم من الضرب والشتم واللعن، والتهديد بالطلاق.

السؤال:- لي أخ بعد أن سافرت زوجته إلى بلدها ألقى عليها الطلاق ثلاثاً وهي غائبة، ثم أتبع ذلك بإحضار اثنين من الشهود الذين لم يسمعوا إلقاء الطلاق، ولا يدرون عنه شيئاً، إلا إن أخي قال لهم: إني طلقت فلانة فذهبوا وشهدوا معه في المحكمة على هذا الأساس، وهو الآن نادم أشد الندم على ما فعل، وغير مقتنع نهائياً مما فعل، وأنه كان في حالة غضب شديد وقتها، ولا يدري لماذا فعل ذلك، ويريد إرجاع زوجته إليه مرة أخرى. فما العمل؟ أفتونا في ذلك جزاكم الله خيراً؟ وللعلم هذه هي المرة الأولى في حياته التي يلقي عليها الطلاق. الجواب:- لابد من معرفة صيغة الطلاق الثلاث، فإن كان لفظه: هي طالق ثم طالق ثم طالق، فقد وقعت الثلاث، وحرمت عليه إلا بعد زواج، فإن كان لفظه هي طالق طالق طالق، وقصد التأكيد دون التأسيس لم يقع بها إلا واحدة، وتحل رجعتها زمن العدة، أو بعقد جديد بعد العدة، ثم لابد من الاطلاع على الصك الذي صدر من المحكمة، فإذا كان فيه أن الطلاق ثلاث حكم بها، وحكم القاضي يرفع الخلاف، فإن لم يذكر فيه سوى طلقة أو طلقتين رجعنا إلى الكلام الأول، والله أعلم.

السؤال:- أختي تزوجت منذ سبع سنوات، ورزقت بطفلين من الذكور، عمر الأول 4سنوات وعمر الثاني 3سنوات، وقد طلقت من زوجها للمرة الأولى، وأرجعت لزوجها بعقد نكاح جديد، بعد أن تعدى طلاقها شهور العدة الثلاثة، وفي الأسبوع الماضي طلقها للمرة الثانية، ويوجد شهود على ذلك بالنص التالي [أنت طالق - قالت ماذا تقول - أعاد أنتِ طالق] أولاً: هل كلامه هذا يعتبر طلقة واحدة أم اثنتين؟ ثانياً: وهل تكون طالقاً منه بالفعل أي أنها ثبتت عليها الطلقة؟ ثالثاً: هل يستطيع إرجاعها بإحضار شاهدين بدون موافقتها. رابعاً: أرجوا إفادتنا جزاكم الله خيراً عن شهور العدة، هل يستطيع إرجاعها قبلها بعقد، أم بعد انتهائها بعقد جديد؟ خامساً: هل يحق لأختي النفقة خلال شهور العدة أو بعدها، وللأطفال أيضاً نفقة لهم مع والدتهم؟ سادساً: بالنسبة لحق الزوجة الشرعي المؤجل وجميع مستحقاتها الشرعية هل يسمح بتقسيط المبلغ على الزوج؟ سابعاً: ما هو الحكم في حق رعاية الطفلين، هل يكونان في حضانة الزوج أو الزوجة؟ الجواب:- هذا الطلاق يعتبر طلقة واحدة، وتكراره للإفهام والتأكيد، وحيث وقع بها طلقة قبل هذه فإن هذه هي الطلقة الثانية، فتحل له مراجعتها ما دامت في العدة، فيشهد عدلين على الرجعة، وتعود إليه، ولا يبقى له سوى طلقة واحدة، وإن انتهت العدة ورغبها، فلابد من تجديد العقد، وإن لم يرغبها حلت لغيره بعد العدة، وأما الأولاد فهم في حضانتها حتى تمام سبع سنين، ثم يخيرون بين الأبوين، وأما حقوقها من صداق ونحوه فلها طلبها أو تقسيطها، والله أعلم.

السؤال:- أفيدكم بأن والدتي قد منحتني قطعة أرض، وهي جزء من أرضها، ويحدها من أحد الجهات بعض الحجرات القديمة للمزرعة، وقد استأذنتها قبل البناء في الجزء الذي منحتني إياه أن أقوم بإزالة إحدى الحجر القديمة، لأخرج على الشارع الفرعي، ولكن بعد إكتمال البناء، ووضع الباب جهة الغرفة القديمة، رفضت والدتي أن أقوم بإزالتها، وغضِبْتُ غضباً شديداً، وقلت: عليَّ الطلاق أن أهد هذه الغرفة. ثم إني استخرت الله ورجعت عما كنت أنويه، لذا أرجو إفتائي في طلاقي هذا، هل يقع أم لا، علماً أن لديَّ خسمة أولاد من زوجتي، وكانت نيتي في طلاقي هذا هو الحلف وليس الطلاق، وكما هي العادة عندنا. الجواب:- إذا كانت نيتك الالتزام، ولم ترد الطلاق، فلا يقع الطلاق، وإنماعليك كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أهلك، أو كسوتهم، والله أعلم.

السؤال:- حصل بيني وبين زوجتي خلاف، ووصلت إلى شدة الغضب، ونعوذ بالله من الغضب، فرميت عليها الطلاق ثلاثاً، أي أنت طالق طالق. وأنا نادم على ذلك، كما اتضح فيما بعد أنها حامل، وهذه المرة الأولى؟ الجواب:- نشير عليك بالحضور عند قاضي البلد التي تقيم بها، أو عند مركز الدعوة بالرياض، ومعك زوجتك ووليها، لإثبات صفة الواقع، ثم رفعه لمكتب الفتاوى، رجاء أن يسقط هذا الطلاق، ولا يحسب، وقبل ذلك تشهد على الرجعة اثنين من أقاربك رجعة معلقة على صحتها، والله أعلم.

السؤال:- تقدم أخي الشقيق بعقد النكاح لابنه الذي لم يبلغ العامين من العمر من إحدى بناتي التي لم تبلغ العام الواحد وتم الإيجاب والقبول، وأن يكون المهر مهر المثل عند بلوغها. بلغ الابن العشرين من عمره، كما بلغت البنت التاسعة عشر، ووصل الابن في دراسته لآخر مرحلة بالثانوية بتحفيظ القرآن الكريم. كما بلغت البنت أيضا الثانوية العامة بتعليم البنات. رغبنا في إتمام زواجهما بأقرب وقت ممكن، بعد ما بلغا سن الرشد، لكن الابن حالته المادية لا تمكنه من ذلك. طلب الابن كتابة وثيقة عقد نكاح له عن طريق محكمة الضمان والأنكحة بالرياض، لغرض عرض صورها على بعض الجمعيات، وأهل الخير لمساعدته، وتم له ذلك بعد تحديد المهر بخمسة وخمسين ألف ريال، شاملة لجميع التكاليف، من حلي للمرأة، وملابس لها ولأقاربها، وهدايا، وتكاليف حفلة الزفاف، وغير ذلك، بحيث لا يلحق الزوج بعد دفع هذا المبلغ أي شيء لا لها ولا لأحد من أهلها. إنتهى العام المشروط فيه دفع المهر والدخول، ولم يوف الزوج بشروط عقد النكاح، بالرغم من حصوله على مساعدات مالية من بعض الجمعيات، فطلبت الزوجة منه دفع المهر، وإنهاء اجراءات الدخول، وكانت إجابته الطلاق. طلبت منه توثيق الطلاق بصك شرعي، فحضر إلى المحكمة واشترط لتوقيع صك الطلاق عدم مطالبتها له بشيء من المهر. رفضت الزوجة سماحها، وطالبت بما تستحقه شرعاً، لأنها لم تخل بأي شيء من شروط العقد، وإنما هو الذي أخل بشروط العقد. قام المذكور بإرجاعها إلى عصمته، ولكن يبدو بأن إرجاعه هذا الهدف منه الضغط عليها في قبول طلبه بعدم مطالبته بشيء من المهر، مقابل طلاقه لها، وهدفه أيضاً الإضرار بها، والله قد نهى عن ذلك (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) (البقرة:231) .

السؤال: الآن يا فضيلة الشيخ، هل من حق المرأة شرعاً الاصرار على مطالبته بدفع المهر كاملاً، باعتبار أن الخلوة قد حصلت بينهما أكثر من مرة، ولكن خلوة بدون جماع. أم أنها تستحق نصف المهر، أم الأفضل سماحها وعدم مطالبته بشيء، مقابل طلاقه، علماً بأن المذكور حصل على بعض المساعدات لغرض زواجه من المذكورة، لكنه لم يفعل. ويقول: أنه لا يرغب في الزواج إلا بعد التخرج من الجامعة، والعمل بضعة أعوام بعد التخرج، بينما المرأة تطالب بسرعة الزواج أو الطلاق. الجواب:- حيث طلقها باختياره بعد الخلوة بها مراراً، فإنها تستحق عليه كامل الصداق، وكذلك تستحق عليه النفقة في المدة التي قد بذلت نفسها له، وسمحت بأن تسير معه، ولكن هو الذي رفض، فلها النفقة هذه المدة، فإن تراضيتم على البعض كيفما اتفقتم جاز ذلك، ولا يجوز له إمساكها للإضرار بها، ولكم محاكمته على ذلك.

السؤال:- لقد حصل بيني وبين زوجتي خلاف، على إثره خرجت من البيت بدون إذن، وقلت لها في ساعة غضب: علي الطلاق إن خرجت من البيت بسبب هذا الموضوع فلن أحضر عند أبيك لأصلحك. فخرجت وجلست أسبوعين، واضطررت للذهاب لأبيها، لأني لم أجد من يذهب، وتم الصلح، وكان والدها قد علم بأمر الطلاق، فقال: لن تأخذ زوجتك حتى تحضر لي فتوى كتابية، تحل لك أخذ زوجتك، فوافقت درءاً للشبهة، ورغبة في معرفة الكفارة، وزوجتي تريدني وأريدها، ولم يبق سوى فتوى لوليّها بموجبها أحضر زوجتي وأولادي، علماً بأنها أول مرة وآخر مرة إن شاء الله. الجواب:- إذا لم ترد الطلاق، ولم تعزم عليه، وإنما أردت تخويفها، وتحذيرها من الخروج، فعليك كفارة وهي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أهلك، أو كسوتهم.

السؤال:- زوجتي كانت حاملاً، وبعد طلاقها بيوم أو يومين وضعت حملها، والكلمة التي نطقت بها هي كلمة واحدة: أنت طالق، فقط والآن أرغب في استرجاعها، أرجو من فضيلتكم إفتائي بذلك؟ الجواب:- زوجتك قد بانت منك بينونة صغرى بوضع الحمل، وحيث إن الطلاق مرة واحدة، فإنها تحل لك برضاها، وبعقد جديد، ومهر جديد، فإن امتنعت فلا تكره على الزواج، والله أعلم.

السؤال:- أعرض على نظر فضيلتكم أنه حصلت بعض المشاكل بين أفراد قبيلتي وأقاربي بشأن من يتزوج أخواتي من أبي ... أبناء عمي ترفضهم زوجة أبي وأقاربي الآخرون تقبل بهم لتزويجهم من بناتها، علماً بأن والدي على قيد الحياة، حينها تدخلت لفض هذه النزاعات، ثم قمت بلفظ الطلاق حيث قلت (عليّ الطلاق إنهم ما يعرفون خواتي) أقصد أقاربي الآخرين الذين يقبلون بهم أبي وزوجته، وأخي شقيق البنات ... بعد ذلك بفترة حوالي ثلاث أو أربع سنوات، قام أقاربي المقبول بهم، وذهبوا إلى أبناء عمي، وطلبوهم بأن يسمحوا لهم بالزواج من أخواتي، وسمحوا لهم جميعاً، ووعدوا بعدم التدخل في شؤونهم، وذهبوا وتملكوا لدي المأذون من أختي لأحدهم ... ونتيجة لذلك غضبت غضباً شديداً، لأنهم لم يسألوني، ولم يأخذوا بخاطري، فاستدعيت المعرس وقلت له (عليّ الطلاق بالثلاث الحارمة إنك ما تعرفها) جزاء لك لأنك تجاهلتني. فما الحكم؟ حفظكم الله مع العلم أن المقصود من الطلاق عدم إتمام الزواج. الجواب:- إذا كان هذا قصدك، ولم تقصد الطلاق، فعليك كفارة، إطعام عشرة مساكين، ولا تردهم عن الزواج، ولا تطلق زوجتك.

السؤال:- لقد حلفت على زوجتي بالطلاق إذا خرجت بدون إذني، حيث قلت: إن خرجت بدون إذني لأي مكان أنت طالق؛ فخرجت ثلاث مرات. فما الحكم؟ الجواب:- هذا التعليق بمنزلة اليمين المكفرة، حيث لم يكن قصدك إلا منعها من الخروج، ولم تكن عازماً على الطلاق، وإنما تريد تهديدها وتحذيرها من الخروج بدون إذنك، فعليك الكفارة، وهي إطعام عشرة مساكين، من أوسط ما تطعم أهلك، طعام يوم واحد أو ليلة واحدة، والله أعلم.

السؤال:- أعرض على نظر فضيلتكم أنه حصلت بعض المشاكل بين أفراد قبيلتي وأقاربي بشأن من يتزوج أخواتي من أبي ... أبناء عمي ترفضهم زوجة أبي وأقاربي الآخرون تقبل بهم لتزويجهم من بناتها، علماً بأن والدي على قيد الحياة، حينها تدخلت لفض هذه النزاعات، ثم قمت بلفظ الطلاق حيث قلت (عليّ الطلاق إنهم ما يعرفون خواتي) أقصد أقاربي الآخرين الذين يقبلون بهم أبي وزوجته، وأخي شقيق البنات ... بعد ذلك بفترة حوالي ثلاث أو أربع سنوات، قام أقاربي المقبول بهم، وذهبوا إلى أبناء عمي، وطلبوهم بأن يسمحوا لهم بالزواج من أخواتي، وسمحوا لهم جميعاً، ووعدوا بعدم التدخل في شؤونهم، وذهبوا وتملكوا لدي المأذون من أختي لأحدهم ... ونتيجة لذلك غضبت غضباً شديداً، لأنهم لم يسألوني، ولم يأخذوا بخاطري، فاستدعيت المعرس وقلت له (عليّ الطلاق بالثلاث الحارمة إنك ما تعرفها) جزاء لك لأنك تجاهلتني. فما الحكم؟ حفظكم الله مع العلم أن المقصود من الطلاق عدم إتمام الزواج. الجواب:- إذا كان هذا قصدك، ولم تقصد الطلاق، فعليك كفارة، إطعام عشرة مساكين، ولا تردهم عن الزواج، ولا تطلق زوجتك.

السؤال:- أفيدكم أنه حصل مني دين، حيث إنني قلت لزوجتي وهي في بيت أهلها: عليّ الطلاق إذا نمت في بيت أهلك هذه الليلة أنك ما ترجعين لي. وطلبت منها أن تذهب إلى بيتها: وقالت: لا يوجد لدي سيارة تعال وخذنا وفعلاً ذهبت وأخذتها. (حيث إن الدين الذي صدر مني هو عليّ الطلاق أنك ما تشوفين أهلك لمدة عام) علماً أن أخاها سيكون عنده زواج في بلد آخر غير البلد الذي نقيم فيه، هل يجوز أن نذهب إلى زواج أخيها؟ وهل تغيب عن أهلها لمدة عام، أو هناك كفارة؟ ماذا يجب علي نحو هذا الدين؟ هل يجوز أن يزوروها في بيتها، حيث إنني لم أتطرق زيارة أهلها لها في بيتها. واستثنيت من ديني إذا حدث طارئ للمستشفى، حيث قلت إلا المستشفى؟ الجواب:- إذا كنت تقصد منعها من الزيارة، ومن رؤية أهلها في منزلهم، أو في غيره، ولم تقصد الطلاق، ولا رغبة لك في الفراق، فإنا نعتبر هذا يميناً مكفرة، فعليك إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أهلك من البر أو الأرز واللحم، قوت يوم واحد، فإن كنت عازماً على الطلاق، ولا رغبة لك فيها، وجعلت وقت الطلاق رؤية أهلها، فإنه يقع الطلاق، ولكن الأولى لك الكفارة وعدم المنع لها من رؤية أهلها، سواء في زواج أخيها أو في منزلهم، أو زيارتهم لها، فإن هذا الحلف فيه شدة وقطيعة رحم، ومن قطع الرحم قطعه الله، فكفر عن يمينك، ودعها تزور أهلها ويزورونها قبل أنتهاء العام، والله أعلم.

السؤال:- سبق أن طلقت زوجتي طلقة واحد في تاريخ 13/3/1415هـ ثم قمت بمراجعتها، وأشهدت على ذلك كلاً من والدي وأخي في تاريخ 23/3/1415هـ وهي الآن في بيت أخيها. فهل يحق لي أن أمنعها من الخروج بغير إذني أم لا؟ الجواب:- إذا كان هذا أول طلاق فإنها ترجع إلى عصمتك، فعليك إخبارها بالرجعة مع الإشهاد عليها، وعليك أن تطلب مجيئها إلى منزلك، فإنك أملك بها، ولك منعها من الخروج إلى الأسواق والمزارات إلا بإذنك، كسائر الأزواج، والله أعلم.

السؤال:- إثر مشادة كلامية مع زوجي طلبت منه الطلاق، فقال لي: أنت طالق. ثم جاء في اليوم الثاني وقال لي أنا راجعتك. وفي مرة أخرى بعد مشادة وخصام في البيت قال: إذا أنت خرجت من باب الفيلا فأنت طالق. فخرجت من باب الفيلا، وأثناء مغادرة الباب الخارجي قام وسحبني بقوة إلى الداخل، وفي المرة الثالثة تخاصمنا وقال لي: أنت طالق. طالق. طالق. طالق قالها أربع مرات، وبعد يوم جاء وقال: أنا راجعتك. ولم يكن لأي إنسان رأي في ذلك، والسؤال ما حكم ذلك، وهل هو طلاق واحد أم محرم؟ الجواب:- أما المرة الأولى فهي طلاق صريح، فيقع بها طلقة واحدة، ثم ترجع إليه بقوله أنا راجعتك، مع أن الأولى أن يشهد على الطلاق وعلى الرجعة، أما المرة الثانية فلا يقع بها شيء، حيث لم يتم الخروج من الفيلا، بل سحبها بقوة وردها قبل تمام الخروج، أما المرة الثالثة فيرجع فيها إلى نية الزوج، فإن أراد بالتكرار التأكيد وتقوية الكلام، أو إفهامها فهي واحدة، ولو كررها عشراً، أما إن أراد التأسيس والعدد، فيقع بها تمام الثلاث، فعلى الأول تصح رجعته بقوله لها: أنا راجعتك. ويبقى له طلقة واحدة، وأما إن أراد التأسيس فإنها تعتبر قد بانت منه بينونة كبرى، ويفضل له أن يكتب صفة ما وقع في المرات الثلاث عند أحد القضاة، وتكتب المرأة هذا الكلام، وأسباب الغضب ومقداره، وحال المرأة عند إيقاع الطلاق، ثم يبعث التقرير والإثبات إلى مكتب الفتاوى في رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، مع كتابة العنوان كاملاً، والله أعلم.

السؤال:- أنا شاب مقيم بالسعودية، لي زوجة تقيم في اليمن. حصلت بيننا مشاكل أسرية، ولكن الحمد لله حلت سلمياً إثر عودتي إلى بلدي، دون الرجوع إلى المحاكم. وقلت لزوجتي: إذا أنت ذهبت إلى المحكمة أو قسم الشرطة فأنت طالق، بعدها دخلت المحكمة تطلب مني الطلاق واتصلت بي هاتفياً تطلب الطلاق، فقلت لها في الهاتف، أنت طالق طالق طالق، ثلاث مرات. وطلقتها المحكمة طلقة رجعية أمام القاضي. فهل يجوز إرجاعها من قبلي بطلقة رجعية. وهل الطلاق ثلاث في الهاتف طلقة واحدة أم ثلاث. الجواب:- قولك أنت طالق طالق طالق يرجع فيه إلى نيتك، فإن كنت تنوي التكرارا للتأكيد فهي واحدة رجعية، وتحل لك رجعتها في العدة أو نكاحها بعقد جديد بعد العدة، أما إن كنت تريد العدد، ونيتك بالتكرار عدد الطلقات الثلاث، فالمختار وقوع الثلاث، فلا تحل إلا بعد زوج، فالمرجع إلى نيتك في تكرار الطلاق، والله أعلم.

السؤال:- رجل شرب خمراً فصرع وذهب عقله عنه، ثم بعد هذا طلق امرأته ثلاث طلقات، ثم أرجعت إليه ولم تتزوج رجلاً قبله، حيث إن البعض قال: إنها تعتبر طلقة واحدة؟ فما هو حكم الشرع؟ الجواب:- المختار أن طلاق السكران لا يقع في حال سكره لأنه ذاهب العقل، غير مفكر فيما قال، ولا عارف لما نطق به، لذلك أرى أن ترجع ولا يحسب هذا طلاقاً، لكن إن كان قد جدد الطلاق بعد صحوته وإفاقته حسب ذلك عليه، والصحيح أن من طلق بالثلاث، أو كرره بحرف العطف وقع الثلاث، أما إن تكرر الطلاق بدون حرف عطف، ونوى به التأكيد فإنه يحسب واحدة، والله أعلم.

السؤال:- رجل أراد أن يقلع عن شرب الدخان طاعة لله، وقد عاهد الله عدة مرات أنه لم يعد يشرب الدخان، ثم حرم من أهله قائلاً: بالحرام من أهلي. عدة مرات أنه لم يعد يشرب الدخان مستقبلاً، ثم قال بعد ذلك: طلاق من أهلي بالثلاث عدة مرات، وكان شاهد الحال شقيق زوجته، وقال لشقيق زوجته، خذ أختك، فقد طلقت وحرمت كثيراً، وذلك في حالة عودته لشرب الدخان. ولكن للأسف الشديد بعد مضي سنتين رجع لشرب الدخان مرة ثانية، وأصبح خائفاً مما فعل، وكان يقصد من هذه الأيمان والحلف أن يصد نفسه عن العودة لشرب الدخان، وليس يقصد فراق زوجته، لكن غلبته نفسه، أفيدونا جزاكم الله خيراً، ومثلاً لو أنه أراد فراق زوجته لا سمح الله فما قول فضيلتكم رعاكم الله. الجواب:- حيث كان قصده منع نفسه، وإلزامها بالترك والإقلاع عن الدخان، فإن الطلاق يعتبر يميناً مكفرة بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أما التحريم بقوله: بالحرام من أهلي، فإن عليه كفارة ظهار، وهي صيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً من قبل أن يمس زوجته، أما إذا كان عازماً على الطلاق، قاصداً له ولو لم يترك الدخان فإنها تطلق منه لكن الظاهر أنه لا يريد فراق زوجته وإنما قصد إلزام نفسه بالإقلاع عن التدخين، ثم إنا ننصحه بترك الدخان، ولو لم يحلف، لأنه يضر بالصحة، فإذا كان كذلك فعلى المسلم الذي يريد نفع نفسه الإقلاع عن هذا الداء العضال، فتركه سهل يسير، إلا أنه يحتاج إلى قوة عزم وغلبة للنفس، والله أعلم.

السؤال:- لقد سافرت إلى أحدى الدول الخليجية مع أحد الزملاء، وفي أثناء الرحلة حدث بيني وبين زميلي هذا اوء تفاهم، نتج عنه أن حلفت يمين الطلاق بأن لا أسافر معه مرة أخرى وكنت وقتها في حالة غضب، ومتوتر الأعصاب. والآن هذا الزميل يريد مني أن أسافر معه مرة أخرى، وأنا أريد ذلك، ولكن بسبب اليمين فأنا لا أستطيع، وقد أشار عليّ بأن يسافر كل واحد على حدة على أن نلتقي هناك، ونذهب نسكن مع بعضنا في فندق واحد، وأن يعود كل واحد لوحده. وأنا غير مطمئن لهذا الرأي، ولذا أحببت طرح الموضوع على فضيلتكم للبت فيه. الجواب:- إذا كان قصده بهذا الطلاق منع نفسه من السفر صحبة هذا الرجل، ولم يكن عازماً على الطلاق، فعليه كفارة يمين، ويدعك تسافر معه، ولا يقع الطلاق، إما كان عازماً على الطلاق، وقد جعل علامته وقت السفر فإنه يقع الطلاق، وحيث إنه لم يطلق ولم يفارق زوجته، فإن ذلك دليل عدم إرادته الطلاق، فتكفي الكفارة والله أعلم.

السؤال:- ماذا يلحقني في زوجي الذي قد توفاه الله، فإني قد عصيت عليه، وتلفظت عليه بالطلاق، وأسقيته سم العقرب في ماء الشرب، وإني كنت في سن الجهل، وكان عمري 30عاماً، وأني ندمت بعد وقوعه على فراشه من المرض، وكبر سنه، وقد أحسنت إليه، وإني عاملته وأحسنت إليه حتى توفاه الله بحرمته، وأنه رغم ذلك العمل كان محسنا إلي وعمله إلى صالح؟ الجواب:- مسألة الزوج وما تسببت في مرضه بسقيه سم العقرب هذا ذنب كبير، وفيه إثم وعقوبة، لكن لعل الله يعفو عنك بإحسانك إليه بعد مرضه، ومعاملته الحسنة، وعليك بعد موته أن تترحمي عليه، وتكثري من الدعاء والصدقة عنه، والعمرة عنه، رجاء أن يكفر ذلك ما فعلت معه.

السؤال:- يوجد لدي رحيمي -زوج أختي- قد طلقها سابقاً، ورجعتها له، وعاد ثاني مرة وطلقها، وحلف عليها أنها إذا دخلت بيت أخيها بأنها طالق، وعادها ثالثا إذا دخل ولده عليه فهي طالق، أرجو إفادتي هل هي جائزة من بعد هذا التكرار؟ الجواب:- أما المرة الأولى فيقع بها طلقة واحدة، فأما الثانية فإن كان قصده منعها من دخول بيت أخيها، ولا يريد طلاقها حالاً فهذه يمين فإن كان عازماً على الطلاق بكل حال وقع، وأما الثالثة فإن كان قصده منع ولده أن يدخل عليه فهي يمين، يكفرها بإطعام عشرة مساكين، والله أعلم.

السؤال:- أفيد فضيلتكم بأنني قد طلقت زوجتي طلقة واحدة، على إثر مشادة كلامية، وبعد مضي فترة أسبوع على الطلاق المذكور. حدثت مشادة كلامية بيني وبين والدة زوجتي حيث إنها قالت لي، سوف نزوج إبنتنا لشخص أفضل منك ... الخ. وبناءً على ذلك قلت لها بأنني قد طلقت ابنتك طلقة واحدة، ولكن بعد سماع كلامك فإنها طالق طلقة، وثانية، وثالثة، وخرجت من البيت. فأرجو من فضيلتكم إفتائي مأجورين، هل يعتبر الطلاق طلقة واحدة، أم طلاقا بائنا بالثلاث، ولا تحل لي زوجتي حتى تنكح رجلاً غيري أم ماذا؟ أرجو تبيين الحكم الشرعي في حالتي، أثابكم الله، ونفع بعلمكم المسلمين. الجواب:- أرى أنها قد بانت منك بينونة، كبرى فلا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك نكاح رغبة، لا نكاح تحليل، ثم إذا طلقت أو توفي عنها بعد دخوله بها حلت لك، فهذا هو النكاح الذي يهدم ما قبله من الطلاق، والظاهر من كلامك مع أمها أنك طلقت وأنت مختار مقتنع، تملك شعورك، وكامل قواك العقلية، وقد كررت الطلاق لقصد العدد، وصرحت بالأولى والثانية والثالثة، وهي آخر ما تملك، فحصلت البينونة، والله أعلم.

السؤال:- رجل تزوج بإمرأة وكان المهر عند عقد القران 150ألف ريال يدفع الزوج مقدم مهر 50ألف والمؤخر من الصداق 100ألف. تم الزواج في بيت أهل العروس، وبعد الدخول بها، وقبل أن يجامعها أكتشف أنها لا تريده وجلس عشرين يوماً على هذا الوضع، يعالج وينصح، ولكن دون فائدة، ولم تعالج الأمور، ولكن الزوجة تريد الطلاق. فهل له أن يساومها على باقي المهر المؤخر. الجواب:- لا شك أن القصد من النكاح حصول الاستمتاع لكل من الزوجين، فإذا امتنعت الزوجة من تمكينه، وابتعدت عنه، وحالت بينه وبين نفسها، فلم يصل إليها، ولا تريد الاقتراب منه، فلا تستحق عليه شيئاً من المهر، فمتى طلبت الطلاق فله المطالبة بما دفع من المهر وطلب اسقاط المؤجل حيث لم يحصل له أن يستمتع بها، فلا شيء لها عليه إلا إذا رضى بإسقاط شيء من المهر وسمح به لها فإن امسكها وعالجها، ولم يعجل في الفراق فهو أولى، فربما كان هذا الامتناع لمرض، أو نفس، أو حسد حاسد، يزول بإذن الله بالرقية، والله أعلم.

السؤال:- والدي طلق والدتي منذ ثلاث سنوات، وتبلغ من العمر خمسة وخمسين عاماً، وهي ساكنة معي في بيت والدي وإخواني، وله زوجة ثانية ساكنة بهذا البيت، ولكن والدتي لا تحجب عن والدي، وذلك أنها سمعت أن المرأة المسنة لا تتحجب وهي الكبيرة بالسن، وأنه لا حرج عليها، ولكثرة دخوله عند زوجته وأولاده. فما الحكم؟ الجواب:- لابد أن تتحجب ولو كانت بنت ثمانين عاماً فإنه قد أصبح أجنبياً عنها، وأما بقاؤها مع أولادها فلا حرج عليها فهم محارمها، وعليهم النفقة عليها.

السؤال:- أنا امرأة متزوجة من رجل، ولي منه أطفال، وقد أُخبرت أنه قد تزوج عليّ بامرأة أخرى، فضاقت بي الدنيا، وقلت وأنا بأعصاب متوترة، أنه عليّ كأخي وأبي؛ ولكنه عندما رجع إلينا، ورجعت الأمور إلى مجاريها نسيت ما قلت سابقاً، ولكن الآن ما قلته يضايقني وأخاف أن علي شيئاً بذلك، أخبرني ماذا أفعل؟ الجواب:- لا يحل للمرأة أن تحرم زوجها، أو تشبهه بأحد محارمها، ومتى فعلت بقولها: أنت عليّ كأبي وأخي فلا يكون ظهاراً، وإنما يكون يميناً مكفرة، فعلي هذه المرأة كفارة يمين، إطعام عشرة مساكين، من أوسط الطعام أو كسوتهم فمن لم يجد ذلك فصيام ثلاثة أيام.

الطهارة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الطهارة

السؤال:- هل ما يفعله الحلاق من تسوية آخر الرأس يعد قزعاً؟ الجواب:- القزع هو حلق بعض الرأس دون بعض، وهو مكروه كراهة شديدة، لحديث "احلقوه كله أو اتركوه كله" وهذا الفعل أيضا مكروه، وإن لم يكن حلقا، حيث يقصر آخر الرأس، ولا يترك إلا أصول الشعر، فهو شبيه بالحلق، فأرى أنه مكروه أيضاً لما فيه من التشبه بالفسقة والكفار.

السؤال:- يوجد لي صديق يسأل عن نكاح اليد، فقال: بأنه أقسم بأن لا يعاود هذا العمل الشنيع؛ وأخذ حفنة تراب بعد قطعه اليمين، حتى يكون ذلك التراب شاهدا عليه. ثم عاد لهذا العمل، ثم أقسم على نفسه مرة أخرى بأن لا يعود لهذا العمل، وإذا عاد عليه أن يتصدق بمبلغ ألف ونصف. ثم عاد ولم يسدد هذا المبلغ، وذلك لظروفه المادية. ثم أقسم مرة ثالثة وأخذ بيده ثلاث قطع حديد، وقال يارب هذه الثلاث القطع بيدي شاهدات عليّ يوم القيامة إذا عدت، أجعلهن في ظهري يوم القيامة تعذبني بهن ولكن دون جدوى، عاد لهذا العمل القذر بعد شهر؟ الجواب:- عليه التوبة النصوح، والانقطاع عن هذا العمل، وعليه الحرص على الزواج الحلال ليعف نفسه، وحتى لا يستعمل هذه العادة، حيث إن الحامل عليها قوة الشهوة وشدتها، فهو غالباً لا يملك نفسه، مع أن فيها ضرراً صحياً، أما حلفه وإشهاده فعليه مع التوبة، كفارة يمين، إطعام عشرة مساكين، ولو كان قد أشهد التراب وقطع الحديد، وعليه الوفاء بالصدقة بألف ونصف متى قدر.

السؤال:- ظاهرة تحدث لي أحياناً، وهي أنني يمر علي بعض الأوقات حدث أحس في نفسي أن ذلك الحدث حصل قبل هذه المرة وذلك في الحقيقة غير صحيح، ولم يتم قبل ذلك، مثال ذلك: أنا جالس مع مجموعة من الزملاء أو الأصدقاء، وفجأة يمر على وأنا جالس أتوقع بذلك أنه حدث قبل هذا. الجواب:- هذا وهم وخيال لا حقيقة له، فننصحك أن تقول إذا حدث لك ذلك: كذبت. فإن هذا من الشيطان، يخيل إلى المرء أنه أحدث وهو لم يحدث، فلا تنصرف إن كنت في الصلاة، ولا تجدد الوضوء إن كنت على طهر يقيني، ولا تتمادى مع هذه الوساوس، وأكثر الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وسوف يزول عنك ذلك بإذن الله.

السؤال:- هل يجوز المسح على الخف المصنوع من غير الجلد، أم يجب أن يكون مصنوعاً من الجلد. ومتى يجوز المسح؟ الجواب:- يجوز المسح على كل ما ستر القدمين، ولبس للتدفئة والوقاية من البرد والثلج ونحوه، ولو كان من صوف، أو قطن، أو كتان أو نحو ذلك من الحوائل، ومثله الجراميق، والبسطارات، والمعمولة من الباغات الحادثة والربلات، وما أشبهها، ولكن بشرط أن تكون صفيقة غليظة، سالمة من الخروق والفتوق، فإن كانت خفيفة شفافة لم يجز المسح عليها، وإن كانت من القطن أو الصوف لكن فيها، خروق يظهر منها بعض الجلد فلا يمسح عليها لقوة الخلاف فيها والمسح جائز عند الحاجة اخذاً بالرخصة فإن لم يكن هناك حاجة فلا يجوز، والله أعلم.

السؤال:- هل مس الذكر يفسد الوضوء. حيث سمعت أنه لا يفسد الوضوء، هل هذا صحيح؟ الجواب:- ورد حديثان في مس الذكر، أحدهما فيه أن ينقض الوضوء والثاني أنه غير ناقض والعمل على أنه ناقض للاحتياط، وعمل بعض الصحابة عليه، فإن لم يتوضأ بعده متأولا صحت صلاته، فإن كان مسه لإثارة الشهوة فالنقض أرجح، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم من يغسل يده من الرسغ إلى المرفق، دون غسل الكف، مكتفياً بغسلها أول الوضوء، وهل يلزمه إعادة الوضوء. الجواب:- لا يجوز في الوضوء الإقتصار على غسل الذراع فقط دون الكف بل متى فرغ من غسل الوجه بدأ بغسل اليدين، فيغسل كل يد من رؤوس الأصابغ إلى المرافق، ولو كان قد غسل الكفين قبل الوجه، فإن غسلهما الأول سنة، وبعد الوجه فرض فمن اقتصر في غسل اليدين من الرسغ إلى المرفق فما أكمل الفرض المطلوب، فعليه إعادة الوضوء بعد التمام، أو عليه غسل ما تركه إن كان قريباً، فيغسل الكفين وما بعدهما.

السؤال:- ما حكم الوضوء من الماء الحار؟ الجواب:- لا بأس بذلك، لكن إذا كان شديد الحرارة فإنه يصح مع الكراهية، وذلك لأنه يضر بالبشرة بالإحراق والألم، وقد وجد خلاف قديم في الماء المسخن هل يرفع الحدث أم لا، والصواب أنه يرفعه، بل يصبح ضرورياً في البلاد الباردة، لكن يكره إذا سخن بوقود نجس، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الوضوء من ماء المطر الذي يمشي في الشوارع، إذا كنا لا نعلم له طهارة ولا نجاسة؟ الجواب:- هذا الماء الذي يجتمع في الشوارع، ويكثر وتطول مدة بقائه، فالأصل فيها الطهارة، حيث إنها باقية على أصلها، ولم تتغير بالنجاسة، وإنما تغيرت ظاهراً بالتراب والطين والغبار، فهي طاهرة يصح الوضوء منها، والله أعلم.

السؤال:- هل يشترط الترتيب في المسح على الجبيرة والجرح، بمعنى أنه إذا جرح رجل في يده، ونسي أن يمسح على الجرح، وبعد ما غسل رجله تذكر أنه لم يمسح على الجرح، فهل يكمل الوضوء ويمسح على الجرح، أم يمسح على الجرح ويغسل رجله اليسرى، أم يعيد الوضوء من جديد؟ الجواب:- في هذه الحال عليه أن يمسح الجبيرة عند غسل يديه، أي بعد غسل الوجه، ثم بعد مسح الجبيرة يمسح رأسه، ويكمل، فإن نسي المسح على الجرح أو الجبيرة، وغسل ما بعد ذلك العضو فالاحتياط أن يمسح الجبيرة، ويعيد غسل ما بعد ذلك العضو، فإن طالت المدة وفاتت الموالاة، فلابد من إعادة الوضوء ومسح الجبيرة في موضع غسل ذلك العضو، أما إن كان الجرح في غير أعضاء الوضوء ووجب عليه الغسل، ولم يمسح الجرح وقت الغسل، فإن له مسحه بعد الغسل ولو طالت المدة، حيث لا يشترط للغسل موالاة ولا ترتيب، والله أعلم.

السؤال:- شخص صلى وبعد الصلاة وجد على فرجه مذياً وهذا يتكرر عليه كثيراً فهل يعيد الصلاة؟ وكيف تكون طهارته وصلاته، وما حكم صلاة الجماعة بالنسبة له، حيث إن خروج المذي يتكرر منه باستمرار بدون شهوة، ويحصل له ذلك أيضا بعد البول؟ وماذا يفعل بملابسه؟ الجواب:- يعتبر هذا حدثا دائماً، كسلس البول، فيلزمه الوضوء لكل صلاة، لأنه من نواقض الوضوء، لكونه خارجا من السبيل، وإذا خرج وهو في الصلاة فلا يعيد، ولا يقطع الصلاة، لأنه يخرج بدون اختيار، ولا ينجس الملابس، وهو في الصلاة لكن بعد الصلاة عليه أن يتوضأ للوقت الثاني إن خرج منه شيء بعد الأولى، وأن يطهر ملابسه للصلاة بعدها، وأن يحاول التحفظ بلبس وقاية تحفظ الخارج، حتى لا يلوث ثيابه، وله أن يصلي مع الجماعة كمأموم، ولا يكون إماماً وهو بهذه الحال، لنقص طهارته، وعليه السعي في علاج نفسه، والله أعلم.

السؤال:- قرأت في كتاب (فقه السنة) أن حبال الغسيل التي توضع عليها ملابس عليها نجسة أنه يمكن وضع ملابس طاهرة مبتلة عليها دون غسلها، وذلك بجفاف تلك الحبال بفعل الشمس والهواء، فما هو الصواب؟ الجواب:- هذه الحبال غالباً لا تتشرب النجاسة، وأيضا فالملابس لا توضع عليها إلا بعد الغسل، فهي طاهرة حينئذ، وأيضاً فإنها تعصر بعد الغسل، فتذهب رطوبتها أو تقل، ثم لو قدر أنها تشربت شيئاً من النجاسة فهي تجف سريعاً، ومع الشمس والريح يذهب أثر النجاسة التي تشربتها لقلتها، وعدم الإحساس بلونها، فلا ينبغي التشدد في التحرز منها، والله الموفق.

السؤال:- هل الحائض يجوز لها أن تسمع القرآن في الإذاعة، وأن تجلس في مكان فيه درس قرآن في البيت؟ الجواب:- يجوز لها ذلك، فالممنوع هو مس المصحف، لكونها ذات حدث أكبر، وكذا قراءة القرآن لغير حاجة، فأما السماع فلا بأس به، ولا يلزمها أن تسد أذنيها عند الإذاعة، ولا أن تهرب من المكان الذي فيه درس قرآن.

السؤال:- أصيب أحد الأشخاص بجرح في يده ووضع عليها شاش وهو على غير طهارة ماذا يعمل. هل يتيمم بعد كل وضوء، لأننا نلاحظ بعض العوام يفعل هذا، يأتي للمسجد ثم يخبط في الأرض ويمسح على يديه، علماً أنه قد توضأ؟ الجواب:- عليه أن يمسح على الجرح عند الوضوء، فإن كان الشاش زائداً عن الجرح فعليه المسح عليه عند الوضوء والتيمم بعده عن القدر الزائد، فيجمع بين المسح والتيمم، ولو كان التيمم متأخراً أي عند دخوله المسجد، فإن كان الشاش بقدر الجرح بلا زيادة أكتفى بالمسح عليه، فيبل كفه ويمسح بها الشاش إن كان لا يضره المسح، فإن تضرر بالمسح كفاه التيمم، فيضرب الأرض بالتراب ويمسح وجهه وكفيه، ويندب أن يمسح أيضاً على الجرح بالتراب.

السؤال:- هناك حديث ما معناه عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إذا أراد أن يصلي أحدكم في نعليه فلينظر فيها" أرجو إكمال الحديث وإذا كان عليها نجاسة فهل يفرك النعل بالأرض ويصلي فيها؟ وهل أنه لا تجب غسل النعال بالماء لإزالة النجاسة من عليها؟ الجواب:- كانت النعال قديماً تخرز من جلود الإبل أو نحوها، وتربط على القدم بشراك وشسع، وهي سيور يحكم شدها، ويصعب لبسها في القيام، وكذا يصعب خلعها، فرخص في الصلاة فيها، وجاء في الحديث "إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه، فإن رأى فيهما أذى أو قذراً فيمسحه وليصل فيهما" وذلك أنه يطأ على أرض مبتلة بالمياه الجارية المتلوثة بالتراب والقذر، فتحمل على أنها طاهرة، لعدم التيقن بنجاستها، فاكتفى في تلويث النعل بها بالمسح بالأرض، فأما إذا تحقق أنها تلوثت بنجاسة كبول وعذرة فلا يكتفى بالمسح، كسائر الملابس والأعضاء، بل لابد من غسلها وإزالة أثر النجاسة، وحيث إن الأحذية الحالية يسهل خلعها ولبسها، فتلوث فرش المسجد فإن الأولى خلعها عند الأبواب، وعدم الصلاة فيها، والله أعلم.

السؤال:- إذا انقطع دم النفاس قبل الأربعين، فهل للمرأة أن تغتسل وتصوم، وما العمل لوعاد بعد ذلك، وقد صامت، فهل تعتد بذلك أم لا؟ أفتونا وجزاكم الله خيراً. الجواب:- لا حد لأقل النفاس، فمن النساء من لا ترى دما بعد الولادة، ومنهن من ينقطع الدم بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، فمتى انقطع دم النفاس، ورأت علامة الطهر اغتسلت وصلت وصامت، وحلت لزوجها، فإن عاد الدم قبل تمام الأربعين فلا يرد عن الصلاة والصوم، لكن إن صامت من رمضان، ومعها الدم قبل الأربعين إذا عاد بعد الانقطاع فإنها تقضيه للاحتياط، فإن زاد على الأربعين وهو مثل الدم النفاس، ولم ينقطع قبلها فهو دم نفاس، والله أعلم.

السؤال:- يخرج مني احياناً صفار لا يشبه دم الحيض، وليس فيه رائحة، وليس في وقته، فهل يكون حيضا أم استحاضة؟ أفتونا مأجورين. الجواب:- يعتبر هذا دم استحاضة، وهو دم عرق يسمى العاذل، يخرج من قعر الرحم، وعلامته أنه رقيق، أو صفرة، أو كدرة، ومن علاماته كونه في غير وقت العادة التي تعرفها المرأة، وأنه ليس له رائحة الدم المعروف، وعلى هذا فله حكم الاستحاضة، فلا يمنع من الصوم والصلاة، والوطء والطلاق، لكن لابد من الوضوء لكل صلاة بعد دخول الوقت، ومن التحفظ بعد الوضوء، فإن خرج شيء بعد الطهر في الوضوء لم ينقض الوضوء، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم قراءة الجنب للقرآن عن ظهر قلب، أو بمس المصحف؟ وما الدليل على ذلك؟ الجواب:- ورد عن علي رضي الله عنه قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً فإذا كان جنباً فلا ولو حرفا" ذكره في البلوغ وهو يدل على أن الجنب لا يقرأ القرآن مطلقاً، سواء عن ظهر قلب أو في المصحف، ولعل الحكمة أنه حدث كبير، والقرآن له حرمته ومكانته، وقد رفع الله قدره، ووصفه بالرفع والتطهير، في قوله تعالى (في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة) (عبس:13-14) ولعل الحكمة أيضا حث الجنب على المبادرة بالاغتسال، وعدم التواني حتى يتمكن من القراءة، وقد ذهب بعضهم إلى جواز قراءة الجنب للقرآن، لقول عائشة رضي الله عنها "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه" فالذكر عام يدخل فيه القرآن، لكن العمل على الأول، والمراد بالذكر الدعاء والثناء على الله، ويجوز دعاء الجنب بآيات قرآنية ونحوها، وأما مس المصحف وهو جنب فلا يجوز، للآية المذكورة ولقوله تعالى (لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين) (الواقعة:79-80) وحديث عمرو بن حزم "لا يمس القرآن إلا طاهر" رواه مالك وغيره وذكر ذلك مالك عن سعد بن أبي وقاص وغيره هذا هو الصحيح والله أعلم.

السؤال:- هل للحائض والنفساء مس المصحف وقراءة القرآن أم أنهن يقرأنه حفظاً فقط أفتونا مأجورين؟ الجواب:- ورد نهي الحائض عن قراءة القرآن، في أحاديث لا تخلو من مقال، ولكن مجموعها يفيد أن لها أصلاً، وحمله بعض العلماء على مس المصحف، فرأوا أن الحائض ومثلها النفساء لا تمس المصحف، لأنه (لا يمسه إلا المطهرون) (الواقعة:79) وأما القراءة حفظاً فالظاهر جواز ذلك إذا خشيت نسيان ما حفظت أو كان هناك دراسة أو اختبار ضروري، فالضرورات تبيح المحظورات، وتقتصر على قدر الحاجة، والله أعلم.

العدد

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة العدد

السؤال:- ما حكم الخروج في حوش الفلة للمرأة المتوفي زوجها؟ الجواب:- لا مانع من خروج الحادة في داخل المنزل، وأحواش المنزل وملحقاتها، ولا يؤثر على الإحداد، ولها أن تخرج للحاجة الضرورية كالمستشفى، وعيادة مريض في النهار، ولا تبيت إلا في منزلها.

السؤال:- ما يجوز للحادة أن تلبس من الملابس الداخلية والخارجية؟ الجواب:- تلبس ثياب العادة التي ترتديها وقت الشغل في دارها، كالأحمر والأخضر، والأسود، والأزرق، ولا تلبس ثياب الشهرة والزينة التي تلفت الأنظار، والتي تلبسها عند الأجانب وفي الحفلات.

السؤال:- الاغتسال للحادة هل هو صحيح من الجمعة إلى الجمعة؟ الجواب:- يجوز للحادة الإغتسال وقت الحاجة، ولو كل يوم، وليس مقيداً بالجمعة ولا غيرها، إلا أنها لا تستعمل الصابون المطيب والمسك، بل تستعمل ما لا طيب فيه من التايد والسدر والزيتون في الإدهان.

السؤال:- هل صحيح أن الصلاة تقوم بها الحادة من أول ما يؤذن المؤذن؟ الجواب:- ليس بصحيح، بل هي كغيرها، تصلي في الوقت، سواء بعد الأذان مباشرة، أو بعده بزمان، ولا تفوت الصلاة إلى خروج الوقت كغيرها.

السؤال:- ما حكم نظر المرأة الحادة في المرآة؟ الجواب:- لا مانع من نظر الحاة في المرآة للحاجة، وعند الامتشاط، واللباس، وغسل الوجه، ونحو ذلك.

السؤال:- ما حكم شم البخور دون استعماله، وكذلك حكم التروش بالشامبو للمرأة الحادة؟ الجواب:- يكره استعمال البخور بدهن العود ونحوه للحادة، وكذا الاغتسال بما فيه رائحة طيبة كالشامبو، ولها استعمال السدر والتايد، وتدهن بزيت الزيتون ونحوهما مما لا طيب فيه.

السؤال:- بعد وفاة زوجي أسألك عن هذا الحداد، أفدني عن كل شيء يلحقني في هذا الحداد؟ الجواب:- في الإحداد تتجنبين لباس الشهرة والزينة، والحلي من ذهب أو فضة، والطيب كله في الثوب والبدن أو الشعر، والاكتحال أو الخضاب، والخروج من الدار إلا لحاجة، والبروز للرجال الأجانب، وتلبسين ثياب الشغل بأي لون، حتى تنتهي من الإحداد، والله أعلم.

العقيدة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة العقيدة

السؤال:- هل مؤمنوا الجن سيدخلون الجنة؟ وإذا كانت الجن مخلوقة من النار فكيف يعذب كافرهم بالنار؟ الجواب:- لا شك أن مؤمني الجن يثابون في الآخرة بما يناسبهم، وأن كفارهم يعاقبون، كما قال تعالى حكاية عن الجن (وأنا مِنَّا المسلمون ومنَّا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا. وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) (الجن 14-15) . وكونهم مخلوقين من النار، لا يمنع تعذيبهم بالنار فإن نار الآخرة أحر من نار الدنيا بسبعين ضعفا، ويمكن أن لهم ناراً خاصة يعذبون فيها، فأمر الآخرة مخالف لأمر الدنيا (انظر للاستزادة والفائدة فتاوى شيخ الإسلام) .

السؤال:- كيف يمكن محاربة عدونا؟ الجواب:- العدو نوعان عدو من الجن وهم الشياطين، وعدو من الإنس وهم الكفار والعصاة ونحوهم، فأما الشياطين فمحاربتهم بالاستعاذة منهم، وكثرة الذكر بأنواعه، وكثرة الأعمال الصالحة، وقراءة القرآن، ومجالسة الصالحين، والبعد عن الذنوب والمحرمات. وأما عدو الإنس فمحاربة الكفار بالقتال عند توفر أسبابه، وبالبعد عنهم، وثلبهم وعيبهم، وإظهار مقتهم وتحقيرهم، والتحذير من الانخداع بهم، وبيان ضعف شأنهم وفساد أديانهم، حتى لا ينخدع بهم الجهال.

السؤال:- كيف يمكن ابطال السحر بالقرآن والسنة والأذكار والأدعية؟ الجواب:- يختار من هو من أفضل القراء وأتقاهم، وأشدهم تمسكا بالسنة، وعملا بالشريعة، وبعداً عن المحرمات والمعاصي، فإن قراءته تؤثر بإذن الله في إبطال الأعمال السحرية، كما أنه لابد من أن يكون المقروء عليه من أهل التقوى والخير والصلاح والاستقامة، قال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) (الإسراء:82) كما أنه لابد من اعتقاد أن القرآن هو الشفاء والعلاج النافع، ولا يجعل القراءة تجربة، بل يجزم بأنه يزيل المرض بإذن الله تعالى، ثم إن القارئ يستحضر الآيات التي خصت بقراءتها على المريض، ويكررها، ثم إن المسلم عليه أن يتحصن دائماً بالأدعية النبوية والأوراد المأثورة من الكتاب والسنة، ويحافظ على أذكار الصباح والمساء، فبذلك يحفظه الله من كيد الكائدين، والله أعلم.

السؤال:- هل كل ساحر يعتبر كافراً؟ الجواب:- الساحر هو الذي يستخدم الشياطين، ويتقرب إلى الجن بما يحبون من الذبح لهم من دون الله، ومن دعائهم مع الله، ومن طاعتهم في معصية الله بالزنا، وشرب الخمر، وأكل الحرام، وترك الصلاة والتلطخ بالنجاسات، والبقاء في الأماكن القذرة، حتى تجيبه الشياطين لما طلب منها من الإضرار بالمسحورين بالصرف والعطف والملاطفة، والتفريق بين المرء وزوجه، والإخبار ببعض المغيبات، وبالمسروق، ومكان الضالة، فهذا مشرك كافر، لأنه عبد الله وعبد الشيطان، وهذا هو الشرك الأكبر، فيكون كافراً، لقوله تعالى: (وما كفر سليمان ولكن الشيطان كفروا يعلمون الناس السحر) (سورة البقرة:102) . ولقوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) (سورة البقرة:102) وقد ورد الأمر بقتل الساحر لحديث (حد الساحر ضربه بالسيف) (رواه الترمذي 1360) . فعلى هذا يكون كافراً ولو صلى وصام وقرأ ودعا، فإن الشرك يحبط الأعمال، والله أعلم.

السؤال:- هناك من القراء من يخصص بعض الآيات لأمراض معينة مع تكرارها بأعداد معينة، مع عدم اعتقادهم بأن العدد هو السبب في الشفاء. فما حكم هذا التخصيص؟ وما حكم التكرار؟ الجواب:- لا شك أن القرآن شفاء، كما أخبر الله تعالى بقوله تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) (فصلت:44) وقوله: (قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور) (يونس:57) ، فأما قوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (الإسراء:82) ، فقال كثير من العلماء أن (من) ليست للتبعيض، وإنما هي لبيان الجنس، أي جنس القرآن، ومع ذلك فإن في القرآن آيات لها خاصية في العلاج بها، ولها تأثير في المرقي بها، ومن ذلك فاتحة الكتاب، ففي حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي رقى بها (وما أرداك أنها رقية؟) (رواه البخاري 2276) وقد ورد فضل آيات خاصة كآية الكرسي ونحوها، وسورتي المعوذتين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما تعوذ متعوذ بمثلهما) (صحيح، رواه أبو داود 1463) . وكذا سورتا الإخلاص والآيتان من آخر سورة البقرة، فأما تكرارها ثلاثا أو نحو ذلك فلا بأس به فإن القراءة مفيدة، سواء تكررت أو أفردت، لكن التكرار والإكثار أقوى تأثيراً.

السؤال:- يذكر أحد القراء بعد معالجته لإحدى حالات المس وخروج الجني من جسد الإنسي أنه اتصل به مساء ذلك اليوم نفس الجني الذي أخرجه بقصد إزعاجه. فهل هذا الأمر ممكن؟ الجواب:- نعم يمكن ذلك، فإن الجن لهم تسلط على الإنس، ومتى تمكنوا من الإزعاج فعلوه، ويكثر تأثر الذين يعالجون الجن بتهديدهم، وإضرارهم أو إضرار أقاربهم، لكن متى تحصنوا بالقرآن، والأوراد والأدعية، والعلاجات الواقية لم يقدروا عليهم، ولم يضروهم بإذن الله، وهناك أدعية معروفة تحصن من شرهم، كما يعرف ذلك من يشتغل بالرقية وعلاج المس، والله أعلم.

السؤال:- سمعنا من أحد الثقات ممن يقرؤون بالرقى الشرعية أنه أثناء قراءته على مريض به مس مات الجني المتلبس به، فرأى نفسه يحاكم بسبب ذلك من الجن، وأنه تخلص من ذلك بشهادة أحد الجن له بأنه كان يذكر اسم الله عند علاجه، وأنذر الجني قبل أن يشد عليه بالقراءة فخلي سبيله. فهل هذا الأمر ممكن؟ الجواب:- يمكن ذلك، فإن أهالي ذلك الجن قد يحاكمونه إذا قتل أخاهم أو قريبهم، كما لو أضر أحدهم، ولم يذكر اسم الله عليه، فإذا تحاكموا عند قضاتهم المسلمين، وكان الجني هو المتسلط المعتدي، والإنسي عالجه بالرقية، وذكر اسم الله، أو بأية علاج يخرج به، فإنهم يحكمون ببراءة الإنسي، ويهدرون دم الجني لاعتدائه وظلمه، والله أعلم.

السؤال:- لقد سمعت قصصا كثيرة عن اختطاف الجن للإنس، وقد قرأت قصة مفادها أن رجلا من الأنصار رضي الله عنه خرج يصلي العشاء فسبته الجن وفُقد أعواما. فهل هذا الأمر ممكن أعني اختطاف الجن للإنس؟ الجواب:- يمكن ذلك، فقد اشتهر أن سعد بن عبادة قتلته الجن لما بال في جحر فيه منزلهم، فقالوا: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ورميناه بسهم فلم نخطئ فؤاده ... ووقع في زمن عمر أن رجلاً اختطفته الجن، وبقي أربع سنين، ثم جاء وأخبر أن جناً من المشركين اختطفوه، فبقي عندهم أسيراً، فغزاهم جن مسلمون فهزموهم، وردوه إلى أهله، ذكر ذلك في منار السبيل وغيره، والله أعلم.

السؤال:- هناك قول مشهور بين الناس عن بعض القبائل التي لديها فراسة وقدرة على تقصي الآيات، ومعرفة أصحابها، وقيل ذلك لأن أحد أجدادهم قد تزوج من الجن، وهذا هو سبب أكتسابهم هذه القدرة. فما مدى صحة ذلك؟ الجواب:- هذا غير صحيح، ولا أعرف أن الإنسان يتولد بين إنسي وجني، حيث إن الجن ليس لهم أجسام، وإنما هم أرواح هوائية، وإن كانوا يقدرون على التشكل بأشكال منوعة، فأما هؤلاء الذين يعرفون الآثار والأشباه فهم من أهل الفراسة، وقوة الذكاء والمعرفة، والفطنة والتجربة، وقد جعل الله تعالى فروقاً بين الآثار ومواطئ الأقدام، كما جعل فروقاً ظاهرة بين الناس في الطول والقصر، والسواد والبياض والصغر والكبر، فأنت ترى مائة ألف من البشر لا تجد فيهم اثنين متشابهين في كل الصفات، فهذا هو السبب الذي به يميز هؤلاء بين الناس، ويعرفون الآثار والأشباه، والله أعلم.

السؤال:- بعض من يرقون بالرقي الشرعية يطلبون من الجني المتلبس في بدن الممسوس الخروج، وفي بعض الأحيان يطلب هذا الجني الخروج من بعض الأعضاء، مثل العين أو الأذن، فيرفض الراقي ذلك- اعتقادا منه أن ذلك قد يؤذي المسوس- ويطلب منه الخروج من الفم، أو أصبع القدم، حتى لا يؤذي عين أو أذن الممسوس، وأحياناً يقول بعض الكلمات، مثل: من العظم إلى اللحم، إلى الشحم، إلى الجلد، إلي الهواء. فهل هذه الأقوال والتصرفات فيها محظور شرعي؟ الجواب:- وبعد فإن الجني يلابس الإنسي ويسيطر على بدنه، ولا نعرف من أين يدخل، ولا كيف يخرج، إلا أنه شوهد أنه يخرج من أصابع اليد، فينغمس الأصبغ في الأرض ويخرج من بدن الممسوس، ويمكن أن يخرج من الجنب أو الظهر، أو البطن كما دخل من أحدها والظاهر أنه لا يعطل العضو الذي دخل منه أو خرج، فلا يتضرر الأصبع ولا اليد ولا الرجل، فأما العين أو الأذن فلا نعلم كيف يدخل منها أو كيف يخرج، وإذا قدر دخوله من العين والأذن فلا نعلم كيف يدخل منها أو يخرج منها أو كيف يخرج، وإذا قدر دخوله من العين ونحوها فإنه كذلك يخرج دون أن يحصل تغير في السمع، ويراجع في ذلك أهل الرقية والعلاج لهذه الأمور.

السؤال:- بعض القراء يقول: لا أحد يقرأ عليها إلا بعدما أنتهي من قراءتي؟ ما هو رأيكم؟ الجواب:- لا مانع من اختصاص بعض القراء بصفة أو بزمان يرى أن مشاركته مع غيره قد يبطل عمله، فيجوز أن يمكن من القراءة وحده حتى ينهى قراءته كتجربة.

السؤال:- ما رأيكم في القراءة في زيت الزيتون؟ وهل ممكن أن يقرأ في القارورة الواحدة أكثر من شخص؟ الجواب:- لا مانع من قراءة آيات وأدعية في ماء كماء زمزم، أو في زيت الزيتون، ثم يدهن به المريض، ولا مانع من قراءة أكثر من قارئ في تلك القارورة.

السؤال:- الشخص المريض هل ممكن أن يقرأ عليه في آن واحد أكثر من قارئ؟ الجواب:- لا مانع من تكرار القراءة على المريض، وتعدد القراء على المريض الواحد في زمن واحد، فهو كلام الله الذي جعله شفاء لما في الصدور.

السؤال:- ما رأيكم في بيع الماء المقروء فيه والزيت والعسل؟ الجواب:- لا مانع من بيع الماء والزيت والعسل بسعر تكلفته، فأما قراءته فلا ثمن لها وأرى أن لا يأخذ لها مقابلاً فبيعه سيما بثمن رفيع قد يقلل من نفع قراءته وتأثيرها.

السؤال:- ما رأيكم لو قرأنا على المريض بعض السور، مثل يس، والفرقان، والبقرة، وغيرها؟ الجواب:- لا مانع من القراءة على المريض بالقرآن كله، أو ببعض السور، سورة يس أو البقرة أو الفرقان، أو الملك أو الواقعة، أو بعض الآيات، كآية الكرسي، والفاتحة والمعوذتين، وآخر البقرة، وأول آل عمران، وأول سورة طه وآخر الحشر، ونحوها.

السؤال:- ما حكم تكرار الدعاء؟ الجواب:- لا شك أن الدعاء للحي والميت والمريض والسليم مطلوب ومفيد، وأن الله يحب أن يدعوه عباده، قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) (غافر:60) وفي الحديث: (من لم يسأل الله يغضب عليه) وتكراره أدعى إلى قبوله.

السؤال:- ما حكم أداء العمرة من أجلها - وهل ممكن بدون سعي؟ الجواب:- لا مانع من أداء العمرة وجعل ثوابها للمريض، وهناك يدعو للمريض أو المرضى، ولا تصح العمرة إلا بطواف وسعي.

السؤال:- يزعم أحد الدجالين أنه يستطيع أن يتعرف على السارق بعد أن يسرق غيباً، وذلك بأمور لا يعلمها كثير من الناس منها، أنه يأمر بإحضار صحن ماء وطفل دون سن البلوغ، ويكون قد رضع من ثدي أمه حولين كاملين ولم يخِفْه كلب، ثم يقوم بقراءة شيء من القرآن، وبعض الكلمات التي لا يفهم معناها، ثم يسأل الطفل هل رأيت شيئاً في الماء الذي في الصحن؟ فيصف الطفل السارق بالتفصيل، وأين أخفى المسروقات، فما حكم الدين فيه؟ وهل تجوز الصلاة خلفه، وأن نصله في السراء والضراء؟ علماً أنا قد نصحناه ولكن لا يقبل النصيحة ويقول: إنه على الحق.. الجواب:- لا شك أن هذا من السحرة، ومن عمل الشياطين، لأن هذا خارج عن قدرة البشر، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله، والوحي إنما نزل على الرسل، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، ولا شك أن الشيطان يتصور للكهان، ويصف لهم السارق، ويبين لهم موضع السرقة، سواء في هذا الصحن والماء، أو في غيره، ولا يجوز سؤالهم ولا تصديقهم (ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) وعلى هذا فلا يجوز تقديمه في الإمامة، ولا الصلاة خلفه، ولا صلته سرا أو جهارا، ولا إعطاؤه ولو في حالة الضرورة حتى يتوب، والله أعلم.

السؤال:- يوجد رجل يدعي أنه يتعامل مع الجن، ويقول: إنه على استعداد بأن يقوم بدفع الأرباح مضاعفة لمن يتعامل معه، فمثلاً إذا أعطيته مبلغ مليون ريال، فإنه يستخدم مادة الزئبق، للتعامل مع الجن، وبعدها يعطي أرباح خمسة ملايين ريال تقريباً، رأي فضيلتكم فيما يدعيه هذا الشخص، وهل صحيح أن الجن يحضرون مبالغ لمن يستخدمهم على حد زعمه؟ الجواب:- أرى أن هذا لا يجوز، حيث إن التعامل معهم غالباً لا يكون إلا بعد التقرب إليهم بما يحبون، وهو عمل الساحر الذي يتقرب إلى الشيطان بما يحب حتى يبطل عمله، وهكذا لما ذكر من استخدامهم الزئبق، فإنه خداع وأكل للمال بالباطل، وقد يدخل في القمار والاختلاس، فإن عمل الشياطين يكون بالتخييل والسحر، ومعلوم أنهم لا يملكون مثل ما نملك من الأموال والنقود والأمتعة، فإذا أعطوا الإنسان شيئاً من ذلك فإما أن يكون من التخييل الذي لا حقيقة له، أو أنه اختلاس من أموال الناس، فلا يحق التعامل معهم، والله أعلم.

السؤال:- يزعم أحد الدجالين بأنه يعلم الغيب، وذلك بالقراءة على المصروعين، ويأمرهم بأن يتبخروا بأوراق يُكتب عليها، ويعطيهم تمائم (حجابات) ليلبسوها، وإذا حضر إليه شخص يريد العلاج ويكون من شاربي الخمر فيخبره بأنه شرب بالأمس خمراً، وباقي الخمر موجود في مكان كذا، وإني لن أعالجك من الصرع حتى تترك شرب الخمر فيعترف بذلك، أفتونا في هذا الأمر، وهل يجوز أن نؤاكله ونسلم عليه، ونصلي خلفه، لأنه يصلي أحياناً بالناس، وقد نصحناه ولم يقبل النصيحة؟ ويقول: إنه على الحق.. أفتونا مأجورين. الجواب:- هذا لا شك أنه من الكهنة الذين يستخدمون الشياطين، ويتقربون إليها بما تحب حتى تطلعهم على بعض الأمور الغائبة، وذلك أن يذبح لهم، أو يدعوهم بأسمائهم، أو يطيعهم في معصية الله بأكل الحرام والنجاسات، أو نحو ذلك، ومعلوم أن هذا من الكفر والشرك، فعلى هذا يجب أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا، ولا تجوز الصلاة خلفهم، ولا السلام عليهم حتى يتوبوا، والله أعلم.

السؤال:- عند حدوث سرقة ما يأتي الشخص المسروق إلى أحد الدجالين، فيقوم هذا الدجال بنفخ (قربة) ثم يأمره أن يعلقها في مكان السرقة، فتنتفخ بطن السارق في أي مكان كان هو، أو يقرأ على بيض الدجاج فيظهر السارق ومكان اختفائه على البيض، فما حكم الشريعة في ذلك؟ وهل تجوز الصلاة خلفه ومواصلته؟ علماً أنا نصحناه ولكن لا يقبل النصيحة ويقول: إنه على الحق… الجواب:- كل هذا من الكذب والتكهن، وعمل الشياطين، عندما يخدمه الكاهن، ويطيعه ويتقرب إليه بما يحب، ويعمل هذه العملية، فهو يلابس السارق ويسبب هذا الانتفاخ، وهكذا يسبب ظهور اسم السارق على هذا البيض، ومعلوم أن الكاهن كافر، وكذا من سأله فصدقه كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فلا تجوز الصلاة خلفه، ولا صلته حتى يتوب، والله أعلم.

السؤال:- كما تعلمون فإن كثيرا من الناس يعانون من أمراض لا يجدون لها علاجاً طبياً، فيلجؤون إلى كتاب الله، وإلى أهل العلم، وبعض حملة كتاب الله من أهل التقوى والصلاح ليرقوهم بالرقى الشرعية لعلاجهم، وقد يكون مكان الوجع للنساء في رؤوسهن أو صدورهن أو أيديهن أو أرجلهن فهل يجوز كشف هذه الأماكن للقراءة عليها عند الضرورة، وما هي حدود الكشف للمرأة عند القراءة؟. الجواب:- يسن تعلم الرقية الشرعية، رجاء نفع المسلمين، وعلاج هذه الأمراض المستعصية، ولأن كتاب الله هو الشفاء النافع المفيد، ولكن لا يجوز للرجل الأجنبي أن يمس شيئاً من جسد المرأة عند الرقية، ولا يجوز لها إبداء شيء من بشرتها كالصدر والعنق ونحوهما، بل يقرأ عليها ولو كانت محتجبة، وذلك يفيد حيث كان، ويسن أن تتعلم الأخوات القارئات الرقية، رجاء أن يعالجن بها النساء المحتشمات، والله أعلم.

السؤال:- يوجد في قريتنا مسجد وأمامه قبر، وبينهما جدار، ولكن يوجد منافذ في هذا الجدار تطل على القبر، والقبر يوجد في قبلة المسجد. فهل يجوز الصلاة في مثل هذا المسجد؟ حيث هناك من يقول بأنها تجوز، والبعض الآخر يقول لا تجوز، نرجو القول الفصل في هذا الموضوع الهام؟ الجواب:- لا يجوز أن يصلى في هذا المسجد المجاور للقبر، سيما إذا كان القبر في قبلة المصلين، وبينهم وبينه جدار فيه نوافذ تطل على القبر، ولو لم يخطر ببالهم تعظيم القبر، فقد ورد النهي عن الصلاة في المقبرة ورأى عمر رجلاً يصلي عند قبر فنهاه، وقال: القبر القبر. فعلى هذا يلزم نقل المسجد إلى موضع آخر. أو التسوير على القبر بسور خاص حاجز بينه وبين جدار المسجد، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي؟ الجواب:- لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاحتفال بيوم ميلاده، ولا ثبت عن خلفائه الراشدين، ولا عن صحابته الكرام، وهم الذين يفدونه بأنفسهم، ويحبونه من كل قلوبهم، ولو كان مشروعاً ما خفي عليهم، وأما صوم يوم الإثنين فقد قال صلى الله عليه وسلم (أنه هو ويوم الخميس ترفع فيهما الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) لكن سئل عن صومه فقال: (ذلك يوم ولدت فيه) ولم يأمر بالاحتفال به، ومعلوم أن المحتفلين يوما في السنة، وقد لا يوافق يوم الاثنين، ومعلوم أن يوم نزول الوحي أفضل من يوم الميلاد، وكذا يوم بدر، ويوم حنين، ويوم الفتح ويوم حجة الوداع ونحوها، فهي أولى بالاحتفال بها، وإذا كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتبع سنته، ويعمل بشريعته، ويكثر من الدعاء له والصلاة عليه، ويقتدي بسنته، فأما الاجتماع ليلة الميلاد، وإلقاء الخطب، وحصول الاختلاط، أو صنعة الطعام، والسهر تلك الليلة، مع العقائد السيئة، بأنه يحضرهم، ويشاركهم في الفرح، فكل ذلك لا أصل له، كما لا يجوز الاحتفال بموالد المشايخ والأولاد ونحوهم، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب:- لا يجوز، وإنما تشد الرحال إلى المسجد النبوي، ثم يزور القبر من قريب بعد وصوله إلى المدينة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) والله أعلم.

السؤال:- ما حكم تقسيم البدعة إلى بدعة مفسقة ومكفرة؟ الجواب:- هناك بدعة مفسقة كبدعة الموالد، وصلاة الرغائب، وإحياء ليلة الإسراء، وبدعة الرافضة يوم عاشوراء، وعيد الغدير للرافضة. أما المكفرة فبدعة الرافضة بسب الصاحبة، والطعن في القرآن، وبدعة الجهمية بالتعطيل ونحو ذلك.

السؤال:- لدي أمر طالما أشغلني حيث إنني أحد موظفي أرامكو، وحديث عهد بهذه الوظيفة، ولكن ما أشغلني إنني أعمل مع رافضة في نفس القسم، وجرت العادة على الاشتراك في وجبات الطعام، خلال وقت الدوام، ويكون الأكل جماعياً، وما قد يتخلل ذلك من الضحك والمزاح، مما قد يضعف عند المسلم قضية الولاء والبراء، والغيرة على هذا الدين، مع العلم أنني أحدث واحد فيهم، ورئيسى المباشر منهم، مما قد يضطرهم إلى مضايقتي في العمل إذا أحسوا مني بغضهم. أفيدونا رعاكم الله، فإنني في حيرة من أمري، لما قد يترتب على ذلك إن أنا قطعتهم، وجعلت علاقتي معهم مجردة فيما يتعلق بالعمل، ولكن قد يضايقوني كما أسلفت؟. الجواب:- عليك أن تحاول الانتقال إلى جهة أخرى لا يوجدون بها، أو لا يكون لهم سلطة فيها، فإن لم تجد قريباً فعليك أن تظهر لهم المقت والاحتقار، والسخرية منهم، وأن لا يكون لك انبساط معهم، ولا انشراح صدر، وإذا رأيت منهم مضايقة خاصة فسجل كلماتهم واكتب بها إلى المسئولين في الشركة، حتى يلقوا جزاءهم، كما أن عليك محاولة إقناعهم ببطلان معتقدهم، وصحة ما أنت عليه، فإن رجع أحد منهم وإلا قامت عليهم الحجة، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم أكل الطعام الذي يعد من أجل عيد النصارى؟ وما حكم إجابة دعواتهم عند احتفالهم بمولد المسيح عليه السلام؟ الجواب:- لا يجوز الاحتفال بالأعياد المبتدعة، كعيد الميلاد للنصارى، وعيد النيروز والمهرجان، وكذا ما أحدثه المسلمون كالميلاد في ربيع الأول، وعيد الإسراء في رجب ونحو ذلك، ولا يجوز الأكل من ذلك الطعام الذي أعده للإحتفال بتلك الأعياد، ذلك لأن إجابتهم تشجيع لهم، وإقرار لهم على تلك البدع، ويكون هذا سببا في انخداع الجهلة بذلك، واعتقادهم أنه لا بأس به، والله أعلم.

السؤال:- ما هو الغريب بشخصية على بن أبي طالب رضي الله عنه؟ أعماله، تفقهه، بماذا كان يأخذ بالرأي. بالعقل أم بالنقل؟ الجواب:- على بن أبي طالب رضي الله عنه كان من أعقل الناس وأحزمهم، وقد اشتهر بالشجاعة والإقدام، أما أول أمره فقد كان في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم في صغره، ولما نزل الوحي كان صغيراً، فهو أول من أسلم من الصبيان، ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، ولم يكن قادرا على الدفاع عنه لصغره، ولكونه على دينه، وعند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة صحبة أبي بكر رضي الله عنه خلفه فنام على فراشه، ثم بعد الهجرة تزوج بفاطمة فولدت له الحسن والحسين ومحسنا وأم كلثوم، وماتت بعد موت أبيها بنصف عام، وتزوج بعدها فولد له أولاد من غيرها، ولما قتل عثمان رضي الله عنه بايعه أهل المدينة بالخلافة، وخرج عليه أهل الشام مطالبين بقتلة عثمان، وكذا خرج عليه بعض الصحابة وتوجهوا نحو العراق للطلب بالثأر من قتله عثمان، ولم تتم له الخلافة لكثرة الفتن، أما أعماله فهو أنه ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم في غزواته إلا أنه خلفه في غزوة تبوك على أهله وبعثه في سنة تسع بعد أبي بكر، ليبلغ الأمان والتعليم للحجاج، أما علمه وفقهه فهو من أعلم الصحابة وأحفظهم، لكن أفسدت علمه الرافضة، وكذبوا عليه، وزادوا في حديثه ونقصوا، ولو خلص علمه لكان فيه الخير الكثير، وكان يأخذ بالنقل والدليل، فإن لم يجد نصا اجتهد برأيه كما افتى في قضية الزبية وغيرها.

السؤال:- عندما يود استقطاب النصارى لدين الإسلام هل يجوز استقطابهم بأناشيد دينية مصاحبة بالموسيقى؟ وهل يجوز تكوين فرقة تطلق عليها فرقة دينية، لكون أنهم يختارون أناشيد دينية مصاحبة المعازف والموسيقى؟ الجواب:- أرى أنه لا حاجة إلى الاستقطاب بهذه الصورة، بل عليه أن يستعمل معهم المباح من إسماع القرآن بالتجويد والترتيل، وإسماع الأحاديث البليغة المؤثرة في السامع، والقصائد والأناشيد المفيدة المؤثرة في السامع، وكذا إيراد الأدلة الواضحة على محاسن الإسلام، وشرح تعاليمه وأهدافه السامية التي يتبين معها أنه دين الفطرة المحتوى على كل المصالح البشرية، فمن لم يستقطب إلا بما فيه محذور من الأغاني والمعازف والموسيقى فلا خير فيه، ولا يظن به الاستجابة والله أعلم.

السؤال:- نحن معشر السودانيين عندما يتوفى أحد منا يأتي المعزون ويقولون الفاتحة رافعين أكفهم.. منهم من يقرأ الفاتحة (بحكم أن سورة الفاتحة دعاء ومناجاة) ومنهم من يدعو للمتوفى بالمغفرة سرا فينهض أقرباء المتوفى (هم ينهضون للتمييز بين أقرباء المتوفى من المعزين) ويرفعون أيضاً أكفهم.. منهم من يقرأ الفاتحة، ومنهم من يدعو للمتوفى بالمغفرة وذلك سراً. هل هذا العمل جائز؟ الجواب:- لا يخفى أن العبادات كلها توقيفية فلا يشرع شيء منها بغير دليل، وحيث لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن الأئمة المقتدى بهم في صدر هذه الأمة شيء من هذه البدع فإنا نراها محدثة، فقراءة الفاتحة وإهداء ثوابها للميت لم يفعله أحد من السلف فيما نعلم، فلا يجوز، وكذا رفع الأكف، وكذا نهوض أقرباء الميت حال الدعاء، فأما التعزية فهي سنة، وفي الحديث (من عزى مصابا فله مثل أجره) والمصاب هم أولاد الميت وإخوته ونحوهم، فيسن تعزيتهم وتسليتهم، ويسن الدعاء للميت سرا وجهرا كما في الصلاة عليه، والدعاء للموتى عند زيارة القبور ونحو ذلك، فإن الدعاء مما ينتفع به الميت كالدعاء للحي، فمن دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثل. كما جاء في الحديث والله أعلم.

السؤال:- كثيراً ما يسألني بعض الأخوة الوافدين عن مذهبي هل أنا حنبلي أم شافعي.. الخ، وأنا في الحقيقة أجهل ذلك الأمر تماماً، فقط يكفيني أنني مسلم، وإذا أشكل على شيء من أمر ديني أسأل العلماء.. فما هو توجيه فضيلتكم؟ الجواب:- يكفيك أنك مسلم متبع للشريعة فأما المذهب الحنبلي أو الشافعي فلا يلزم التقيد به، لكن أولئك العلماء كان لهم مكانة مرفوعة مشهورة في الأمة، ودونت أقوالهم فاتبعها أصحابهم وأتباعهم، فأصبحت مذاهب معترفا بها، مع أنهم متفقون في باب المعتقد والتوحيد، وكذا متقاربون في الفروع، لكن بعضهم قد يخفى عليه الدليل أو وجه الدلالة فيجتهد ويفتى بحسب اجتهاده، ولا يلزم غيره بما قال به، لكن أولئك الأتباع تعصب أكثرهم، وتقيد بأقوال أولئك الأئمة ولو كانت مخالفة للدليل، وتكلفوا في رد النصوص حتى توافق ما ذهبوا إليه، فعلى هذا ننصح العامة بأن ينتموا إلى الإسلام، وأن يرجعوا فيما أشكل عليهم إلى العلماء المعتبرين، وإلى مؤلفات أهل العلم الذي عرف عنهم النصح للإسلام والمسلمين والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الحلف بغير الله كالحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الكعبة وماذا أقول لمن يفعل ذلك؟ الجواب:- يحرم الحلف بغير الله، فقد روى البخاري وغيره عن عمر رضي الله عنه أنه كان يحلف بأبيه، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وقال صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) وقال صلى الله عليه وسلم (من حلف بالأمانة فليس منا) ونهى من كان يحلف بالكعبة. وقال (قولوا ورب الكعبة) وذلك لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، والتعظيم بهذه الصفة يختص بالله تعالى فمن عظم الولي أو النبي صلى الله عليه وسلم أو السيد البدوي أو نحوهم وحلف به دون الله فقد عظم غير الله فيكون ذلك شركا، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فقال واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله) أي ليجدد توحيده كفارة لهذا الشرك وعليه التوبة وعدم الرجوع إلى الحلف بغير الله كالحياة والشرف ونحو ذلك والله أعلم.

السؤال:- أسمع كثيراً من الناس عندما يرغب تأكيد أمر ما يقول (والنبي) فهل ذلك جائز؟ الجواب:- هذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حرام، ونوع من الشرك، فإن الحلف بالشيء تعظيم للمحلوف به، والمخلوق لا يعظم المخلوق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) وهو يعم الحلف بالأنبياء والملائكة والصالحين وسائر المخلوقات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) فأما ما ورد في القرآن من الحلف بالمرسلات والذاريات والنازعات، والفجر، والعصر، والضحى، ومواقع النجوم، الخ فهو من الله تعالى، ولله أن يقسم من خلقه بما يشاء، فأما المخلوق فلا يحلف إلا بربه تعالى.

السؤال:- لدينا ما يسمى بالقرقيعان، فيطوف الأولاد على المنازل مرددين أناشيد معينة وذلك في ليلة الخامس عشر من رمضان، ويقام لها مهرجانات في المراكز الترفيهية أو النوادي. ما حكم ذلك في الإسلام، وإقامتها بتلك الطرق التي أوضحناها أعلاه، وكذلك الطوفان على المنازل، وهل يجوز إقامتها داخل المنازل مختصره على العوائل الأقارب والجيران، بقصد تسلية أطفالهم من غير الطوفان على المنازل أو إقامة المهرجانات كما ذكرنا أعلاه، وكما نود سؤال فضيلتكم عن رسائل التهاني بحلول شهر رمضان، وكذلك بعيدي الفطر المبارك والأضحى المبارك المتبادلة، سواء بين الأفراد أو الجهات الحكومية. الجواب:- سبق وأن كتبنا جواباً عن ما يسمى بالقرقيعان، بواسطة الشيخ محمد المنجد، وأن تخصيصه في هذه الليلة، وبتلك الأناشيد بدعة شنيعة، فينهى عنه، وتغلق تلك المهرجانات الترفيهية والنوادي والاجتماعات، ويقتصر على الصلاة والذكر وقراءة القرآن، وأنواع العبادات، وأما إقامته في المنازل فإن كان يختص بالأطفال بحيث لا ينشغل معهم الآباء والكبار، وبحيث لا يخرجون من المنزل فلا بأس به، فإن كان يستدعى الخروج، وطرق أبواب منازل الجيران فينهى عنه. وأما التهانئ بحلول رمضان فسنة مأثورة ذكرها ابن رجب في اللطائف، وذكر دليلها وهكذا التهاني بالأعياد الشرعية، لما فيها من الفرح بإكمال الأعمال، والاغتباط بذلك، وهو أمر مشهور متداول بين المسلمين قديماً، والله أعلم.

السؤال:- رجل يكتب على ورقة، وفي أثناء الكتابة أخطأ في بعض الكلمات، فانزعج كثيراً من ذلك ومن شدة غضبه سب دين وسماء القلم والورقة. فهل يعتبر سباب دين القلم أو الورقة أو الحجر أو الشجر أو الكرسي أو الكأس أو ... الخ من هذه الأشياء هل يعتبر كفراً؟ الجواب:- لا شك أن هذا السب حرام، ولو قيل أن القلم والورقة لا يدينان بالدين الذي هو العبادات، لكن معلوم أن الدين واحد، وأن الله تعالى هو الذي سخر هذه الأقلام والأدوات، ويسر استعمالها، فيخاف أن السب يرجع إلى الله تعالى، فعليه التوبة والاستغفار، وعدم العودة إلى مثل هذا.

السؤال:- يكون في بعض الرحلات برنامج لقراءة القرآن، ويكون في حلقات منفصلة يشرف على كل منها شخص يجيد قراءة القرآن، يقوم بتقويم الأخطاء، فهل في ذلك حرج؟ الجواب:- لا حرج في ذلك، حيث إن قراءة القرآن يلزم الحرص على إقامتها، فإذا كان هناك قراء يجتمعون لقراءة القرآن، وكان بهم أو عليهم شيء من الخلل أو الأخطاء أو النقص، ووكلوا إلى أحدهم إقامة تلك الأخطاء وتصحيحها، فالتزم بذلك وكان أهلا، فإن ذلك من فعل الخير، حيث إنه يرشد إلى إقامة القرآن وعدم الخطأ فيه، وذلك من العمل الصالح الذي يفيدهم جميعاً.

السؤال:- ما حكم الإمارة في الحضر، مثلاً شباب في شقة عليهم أمير أو معسكر أقيم داخل المدينة أو غيرها؟ الجواب:- الذي ورد تخصيص ذلك بالسفر، لأنهم في السفر يحتاجون إلى آراء يرفعونها إلى رئيسهم أو أميرهم، فأما في الحضر فالغالب أن كلاً منهم يشتغل بنفسه، ولا يحتاجون إلى أمير. ويمكن أن يرئسوا عليهم رئيساً في مجتمعهم، إذا كانوا مثلاً في شقة يقولون: نحن نحتاج إلى تدبير أمرنا في هذه الشقة، نجعل لك الرئاسة أو الإمارة، يا فلان، بحيث يعرضون عليه تدبير شأن المنزل، كنوع المأكل مثلاً، وتحديد وقت الراحة، وتحديد المشتروات اللازمة وغيرها. يعرضونها عليه، وإذا توافقوا على رأيه صح ذلك إن شاء الله.

السؤال:- ما حكم من وقع في الكفر والشرك جهلاً؟ وماذا يعمل؟ الجواب:- يجب (أولاً) دعوته إلى الله تعالى وإلى الإيمان والتوحيد، وتعريفه بالحق والدين، وإقامة الأدلة على ذلك، ثم إزالة شبهته، والجواب عن الإشكالات التي تعرض له، فإن أصر وعاند على الشرك واستمر عليه، وجبت عقوبته ولو بالقتل، فيحل دمه وماله، ويحكم بردته، ويقتل كما يقتل المرتد، أما إذا لم تقم عليه الحجة فلا يجوز تكفيره، لكن إن تمكن من البحث والسؤال عن الدين فلم يفعل، أو قلد أهل بلده على الشرك أو وسائله، ولم يهتم لدينه، فقد فرط وأهمل، فمثل هذا لا يحكم بإسلامه، ولا يستغفر له، ويتبرأ منه، وفي الآخرة أمره إلى الله تعالى، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، وأما من لم يسمع بالإسلام ولم يصل إليه الدعاة فحكمه حكم أهل الفترات، وأولاد المشركين، وقد تكلم عليهم الحافظ ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء:15) . والله أعلم.

السؤال:- هل يأثم من يستقدم الكافر يعمل لديه، وبم تنصحون من يفعل ذلك؟ الجواب:- لا يجوز ذلك، فقد حرم الله تولى الكفار وخدمتهم، فقال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) (آل عمران:28) أي فالله بريء منه لهذا الذنب، وأشد من هذا قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة:51) حتى قال بعض الصحابة: ليتق الله أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر. يعني بتوليه لهم، وقد قال عمر رضي الله عنه: (لا تقربوهم بعد أن أبعدهم الله، ولا تعزوهم بعد أن أهانهم أو أذلهم الله، ولا ترفعوهم بعد أن وضعهم الله) أو كما قال، ولا شك أن الكفار يضمرون العداوة والضغينة للإسلام وأهله، لذلك فهم يحرصون على إهانة المسلمين في كل مكان، فإذا استقدموا أظهروا شعائر دينهم، وصاروا دعاة إلى الكفر بأقوالهم أو بأفعالهم، ثم يستبدون بمصالح المسلمين، ويستعملون أموالنا في حرب الإسلام وأهله، ونصر دينهم، وعمارة معابدهم وتشريد المسلمين وإهانتهم ومن قال: إنهم يخلصوّن في العمل وأنهم أهل أمانة وإتقان وإنجاز للعمل. ونحو ذلك فليس بصحيح، فالمسلمون أولى بهذه الصفات، ويوجد في البلاد من المسلمين من يحسنون هذه الأعمال وزيادة، كما أنهم أولى بمصالح المسلمين، وأولى بالثقة والأمانة، والمنفعة التي يحصل منها خير وعز ونصر للإسلام وأهله.

السؤال:- أطلب من سماحتكم أن تفيدونا بما يتفق مع شرع الله في المأتم بأننا نعمل الآتي: نقرأ سورة الفاتحة على قبر الميت. تكون التعزية في المأتم لمدة قد تصل إلى ثلاثة أيام أو أكثر، ونأكل ونشرب في المأتم. نجمع من كل واحد حوالي خمسة وعشرين ريالاً، وتدفع لأهل الميت. تذبح ذبيحة شاة أو نحوها في ثالث أيام الوفاة. نجمع حصوات مع القول بصوت مرتفع (لا إله إلا الله) وتوضع على قبر الميت. ترفع النسوة أصواتهن بالبكاء والعويل، ولطم الخدود، وذكر محاسن الميت. يلبسن الأسود الخشن حدادا على الميت. لا تباشر النساء في أيام العدة أي عمل، نحو إعداد الطعام والقيام بالأعمال المعتادة التي تقوم بها النساء. الجواب:- هذه عادات جاهلية، أو بدع منكرة، عليكم تركها وبيان نكارتها. فأما القراءة على القبور فلا تجوز، ولم يفعلها أحد من السلف، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وإنما ورد قراءة (ياسين) عند المحتضر قبل خروج روحه أما بعد موته وعند دفنه أو بعد الدفن فلا يشرع شيء من القراءة، ولا التلقين ونحوه. أما التعزية فهي سنة، ولا تكون في المأتم، بل يعزى أهل الميت في كل مكان، ولا بأس باجتماعهم ثلاثة أيام ليقصدهم المعزون، ولا يجتمعون للأكل، وإنما يصلح لأهل الميت وحدهم طعام بقدرهم، ويكره لهم فعله للناس. وهذه النقود التي تجمع من كل واحد لا حاجة إليها إلا إذا كانوا فقراء تحل لهم الزكاة. لا تجوز هذه الذبيحة، سواء كانت من مال الميت أو من غيره، أما إذا أصلح لأهل الميت طعام ولو بذبيحة أو أكثر فلا بأس. وجمع هذه الحصوات، والذكر عند الجمع، ووضعها على القبر بدعة منكرة، يجب تركها وإنكارها. ورفع الصوت بالنياحة والعويل، ولطم الخدود، وتعداد محاسن الميت بدعة، ومن فعل الجاهلية، وقد ورد حديث (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) .

ولبس السواد حدادا على الميت بدعة، وإنما زوجاته يتجنبن لباس الشهرة والزينة، والحلي والجمال، والطيب زمن الإحداد. وتركهن الأعمال والأشغال المعتادة زمن الإحداد بدعة، فللحادة أن تصلح الطعام، وتكنس الدار وتغسل الأواني، والثياب ولا حرج عليها في ذلك والله أعلم.

السؤال:- ما حكم دفع زكاة أموال أهل السنة لفقراء الرافضة (الشيعة) وهل تبرأ ذمة المسلم الموكل بتفريق الزكاة إذا دفعها للرافضي الفقير أم لا؟ الجواب:- لقد ذكر العلماء في مؤلفاتهم في باب أهل الزكاة أنها لا تدفع لكافر، ولا لمبتدع، فالرافضة بلا شك كفار لأربعة أدلة. الأول: طعنهم في القرآن، وادعاؤهم أنه قد حذف منه أكثر من ثلثيه، كما في كتابهم الذي ألفه النوري وسماه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، وكما في كتاب الكافي، وغيره من كتبهم، ومن طعن في القرآن فهو، كافر مكذب لقوله تعالى (وإنا له لحافظون) (الحجر:9) . الثاني: طعنهم في السنة وأحاديث الصحيحين، فلا يعملون بها، لأنها من رواية الصحابة الذين هم كفار في اعتقادهم، حيث يعتقدون أن الصحابة كفروا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي وذريته، وسلمان وعمار، ونفر قليل، أما الخلفاء الثلاثة، وجماهير الصحابة الذين بايعوهم فقد ارتدوا، فهم كفار، فلا يقبلون أحاديثهم، كما في كتاب الكافي وغيره من كتبهم. والثالث: تكفيرهم لأهل السنة، فهم لا يصلون معكم، ومن صلى خلف السنى أعاد صلاته، بل يعتقدون نجاسة الواحد منا، فمتى صافحناهم غسلوا أيديهم بعدنا، ومن كفّر المسلمين فهو أولى بالكفر، فنحن نكفرهم كما كفرونا وأولى.

الرابع: شركهم الصريح بالغلو في علي وذريته، ودعاؤهم مع الله، وذلك صريح في كتبهم، وهكذا غلوهم ووصفهم له بصفات لا تليق إلا برب العالمين، وقد سمعنا ذلك في أشرطتهم. ثم إنهم لا يشتركون في جمعيات أهل السنة، ولا يتصدقون على فقراء أهل السنة، ولو فعلوا فمع البغض الدفين، يفعلون ذلك من باب التقية، فعلى هذا من دفع إليهم الزكاة فليخرج بدلها، حيث أعطاها من يستعين بها على الكفر، وحرب السنة، ومن وكل في تفريق الزكاة حرم عليه أن يعطى منها رافضيا، فإن فعل لم تبرأ ذمته، وعليه أن يغرم بدلها، حيث لم يؤد الأمانة إلى أهلها، ومن شك في ذلك فليقرأ كتب الرد عليهم، ككتاب القفاري في تفنيد مذهبهم، وكتاب الخطوط العريضة للخطيب وكتب إحسان إلاهي ظهير وغيرها، والله الموفق.

السؤال:- ما هي العقيدة الصحيحة؟ الجواب:- على المسلم أن يصدق بأن الله تعالى هو الرب الخالق المالك المتصرف، وهو المنعم المتفضل على عباده، وهو المستحق لجميع أنواع العبادة من الذل، والخضوع، والدعاء، والاستغاثة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والركوع، والسجود، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك، وهكذا عليه أن يصدق برسالة الرسل وصدقهم، وأن خاتمهم وآخرهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن رسالته عامة لجميع الثقلين، وأن شرعته باقية إلى قيام الساعة، وعليه أن يصدق بما بعد الموت، وبالجزاء على الأعمال، وبالجنة والنار، وبكل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر من الجمع، والحشر، والحساب، والحوض، والميزان الخ، وهكذا يؤمن بكل ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وتنزيهه عن صفات النقص، والمرجع في ذلك إلى كتاب الله تعالى، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن على المسلم التصديق بأن القرآن كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تولى حفظه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بلغه وبينه، وأن الصحابة حفظوه ودونوه، وحفظوا السنة وبلغوها، كما أن على المسلم التصديق بأن الصحابة رضي الله عنهم هم خيراً هذه الأمة وصفوتها وهم الأمناء على وحي الله وعلى شرعه، وأنهم نقلوا إلينا ما تحملوا عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلاً، حتى وصل إلى هذا الزمان، وعلى المسلم الإيمان بما قدره الله عليه من الأعمال، وأن يعتقد أنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، وبذلك تصح عقيدته.

السؤال:- ما حكم الاحتفال بمرور سنة على زواج رجل من امرأته، بغير نية التشبه بالكفار أو تقليدهم؟ الجواب:- لا يجوز ذلك، فهو من العادات السيئة، ولا داعي إلى ذلك، وليس مشروعاً، ولا شك أن فيه تشبهاً بالكفار والمشركين، وأهل البدع الذين سنوا أعياداً للموالد ونحوها، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم قول الإنسان في الدعاء: اللهم إني أسألك بجاه فلان أو بحق فلان. وهل هناك فرق بينها وبين قول الإنسان لصاحب القبر: يا فلان اغثني؟ الجواب:- لا يجوز سؤال الله تعالى بجاه فلان أو بحق فلان، ولو بجاه الأنبياء أو المرسلين، أو بحق الأولياء أو الصالحين، فإنه ليس على الله حق لأحد، ولا يجوز السؤال إلا بأسماء الله تعالى وصفاته، كما قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (الأعراف:180) فأما إذا قال لصحاب القبر: يا فلان اغثني. فإنه شرك ظاهر، لأنه دعاء لغير لله، فالسؤال بالجاه وسيلة إلى الشرك، ودعاء المخلوق شرك في العبادة، والله أعلم.

السؤال:- هل الجنة والنار تفنيان، أم أن النار وحدها هي التي تفنى، أم أنهما لا تفنيان أبداً؟ علما بأنه كثر السؤال حول هذا الموضوع. الجواب:- نعتقد أن الجنة والنار موجودتان، وأنهما باقيتان أبد الآبدين، لا تفنيان ولا تبيدان، وقد دلت على ذلك النصوص الصريحة في القرآن، فقد ذكر الله تعالى أبدية الخلود في النار في أربعة مواضع من القرآن، وأبدية الجنة في سبعة مواضع من القرآن والأبدية هي البقاء والاستمرار والدوام، بدون انقطاع أو فناء، ومن قال بفناء النار فهو مجتهد، وليس كل مجتهد بمصيب.

السؤال:- هل يجوز لنا أن نقول (جزاك الله خيراً) لغير المسلم إذا عمل لنا عملاً، أو قدم لنا مساعدة؟ الجواب:- لا يجوز الدعاء للكافر بالخير، فليس أهلا له، وإنما إذا عمل عملاً نافعاً ونحو ذلك فإنك تشكره بقولك: شكراً. أو أشكرك، لحديث (من لا يشكر الناس لا يشكر الله) والأولى أن تستعمل كلمة الشكر بلغته أي بغير العربية، ويكفي الإشارة إلى اعترافك بفعله الجميل، مع ملاحظة أنه لا يجوز استخدام الكافر، ولا قبول مساعدته، لما فيه من تحمل المنة، وفي الأثر: اللهم لا تجعل لمبتدع علي منة فيوده قلبي.

السؤال:- ترد إلينا بعض الرسائل من المملكة المغربية، وبدلا من تحية الإسلام الخالدة (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) يكتبون العبارة التالية (سلام تام، بوجود مولانا الإمام) فما الحكم في هذا القول؟ الجواب:- هذه التحية مبتدعة، وفيها تغيير للتحية المشروعة، وفيها تعظيم لمولاهم، واعتقاد أن تمام السلامة متوقف على وجوده، مع أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، ومنه السلام، وأيضاً وصف له بالمولى والله المولى، كما قال تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) (محمد:11) . والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الذبح والاعتكاف عند القبور، وما يفعل في المولد؟ الجواب:- لا يجوز الذبح عند القبور، فهو تعظيم للميت لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعن الله من ذبح لغير الله" ولقوله تعالى: (فصل لربك وانحر) (الكوثر:2) . أي اجعل صلاتك ونحرك لله وحده، فمن ذبح للأموات فقد أشركهم مع الله. وهكذا العكوف عند هذه القبور، والإقامة عندها، وإحضار القهوة والشاي، فإن الاعتكاف عبادة لله لا تصلح إلا في المساجد، لقوله تعالى (وأنتم عاكفون في المساجد) (البقرة:187) . فصرفها لغير الله شرك، ولو كانوا مشايخ أو أولياء، أو صالحين فإنهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهكذا تحري قراءة الفاتحة عند القبور، أو إهداؤها له في ذلك المكان، ولا يجوز عمل الوليمة عند القبر، وإحضار الأكل، وكذا قولهم: شرفونا بالفاتحة، لأن كل ذلك بدع، وكل بدعة ضلالة، ولم يفعله الصحابة، ولا الأئمة المقتدى بهم. وهكذا ما يفعل في يوم المولد من الاجتماع، والضرب بالطبول طوال الليل، حيث لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به، بل نهى عنه بقوله "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود عليه، وهكذا لا يجوز الدعاء الجماعي، والذكر الجماعي بعد كل صلاة، بل كل أحد يذكر الله لنفسه، ولا يتابع غيره، حيث لم ينقل هذا عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

وهكذا ما يفعل بالمريض من كتابة بعض المشايخ في أوراق كلمات غير مفهومة ثم يشربونها، وإنما السنة القراءة على المريض، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على نفسه الآيات، وينفث في كفيه، ويمسح ما أقبل من جسده فأما التعاليق فأنها لا تجوز وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من تعلق شيئاً وُكل إليه" وأخبر "أن الرقى والتمائم والقولة شرك" فالتمائم هي التعاليق التي تربط على العنق أو العضد، وكذا النساء اللاتي يخططن ويقلن: هذا هكذا. وهو من التكهن، وفي الحديث: "ليس منا من تكهن أو تكهن له" وهكذا ذبح الإبل من الحول إلى الحول، والتلطخ بالدم، هو من أمر الجاهلية، وهكذا ترك الاغتسال من الجنابة يبطل الصلاة، لقوله تعالى (وإن كنتم جنبا فاطهروا) (المائدة:6) فعليكم نصحهم وقراءة الآيات والأحاديث عليهم ومحاولة ترك هذه البدع والشركيات.

السؤال:- ما حكم الحلف بالله كاذباً؟ وهل يختلف الأمر إذا أراد المرء أن يتخلص من ورطة مالية؟ الجواب:- الحلف الكاذب كبيرة من الكبائر، وذنب عظيم، وتسمى اليمين الغموس، لأنها تغمس صاحبها في الإثم، لكن إذا وقع في شدة، ولم يستطع التخلص إلا بالحلف على النفي، فله ذلك مع التأويل، وعليه التوبة والاستغفار عن هذا الكذب، وإن كان الحلف على مستقبل، كما لو حلف أن لا يكلم فلانا، أو لا يأكل من ماله، أو حلف ليفعلن ذلك، فاضطر غلى الحنث فله ذلك، وعليه الكفارة بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، والله أعلم.

السؤال:- إذا قابلني شخص ولا أعلم أهو كافر أم مسلم فهل أسلم عليه أو أرد عليه السلام لو سلم أم لا؟ الجواب:- ورد في الحديث: الأمر بالسلام "على من عرفت ومن لم تعرف" ولكن ذلك خاص بالمسلمين، أو من ظاهره الإسلام، كما ورد النهي عن السلام على اليهود والنصارى، فقال صلى الله عليه وسلم "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه" وكذا قال: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم". ولكن في ذلك الزمان كانوا يتميزون عن المسلمين في اللباس وفي المظاهر ويمنعون من التشبه بالمسلمين، وأما في هذه الأزمنة وللأسف فإن كثيراً من المسلمين تشبهوا بهم، فصرنا لا نميز بين مسلم ونصراني، حيث إن الكل إلا ما شاء الله سواء في اللباس، وفي حلق الحلى، وفي كشف الرأس، أو لباس القبعة أو الكبوس، فيبقى الأمر مشتبها، فإذا سلم عليك من هو متشبه بالمشركين فقل وعليكم، ولا تبدأه بالسلام للشك في أمره، وإذا عاتبك فاعتذر إليه فإنك معذور حيث لا تدري أهو مسلم أو نصراني لزهده في لباس المسلمين، وتفضيله للباس النصارى ونحوهم، وأخبره "أن من تشبه بقوم فهو منهم" وانصحه حتى يتميز عن الكفار، ويتحلى بما يتحلى به المسلمون كآبائه وأجداده، وعلماء المسلمين، فإن أصر على ما هو عليه فقد وقع في قلبه تعظيم للنصارى، فقلدهم، واحتقر المسلمين فخالفهم، مع أنه لا يكتسب مصلحة من ذلك سوى التقليد الأعمى، الذي يدل على أنه معجب بأولئك الكفار، معتقد أن ما نالوه من العلم الدنيوي، ومن الابتكار ونحوه بسبب دينهم الباطل، وقد أبعد النجعة، فالمسلمون أكمل عقولا، وأقدر على العمل والاختراع، فلا يغتر بالمشركين.

السؤال:- هناك أناس يجلسون لقراءة القرآن في السر، وكل فرد يقرأ جزءاً من القرآن، بدعوى ختم القرآن كاملاً في هذه الجلسة، فهل هذا العمل جائز أم يعتبر من قبيل البدعة؟ الجواب:- أرى أن العمل المذكور لا يجوز. ولا اذكر أنه نقل مثله عن السلف، والإنسان إنما يثاب على ما قرأه بنفسه، أو أنصت له للاستفادة، فأما قراءة غيره وهو لا يستمعها فأجرها لصاحبها، ولا يعتبر هؤلاء قد ختموا القرآن، وإنما قرأ كل واحد جزأ فله أجره، فعليهم أن لا يفعلوا مثل هذا، بل إما أن يقرأ أحدهم والبقية يستمعون، وإما أن يقرأ كل منهم بنفسه من غير ارتباط بقراءة غيره، والله أعلم.

السؤال:- هل تشرع الموعظة والتذكير عند الدفن في المقبرة؟ الجواب:- نعم يشرع ذلك، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جئ بالميت ولما يلحد له، جلس وجلسوا حوله، فأخذ يقص عليهم عذاب القبر ونعيمه في حديث طويل مشهور ولأن الموضوع يناسب فيه ذكر الموت وما بعده، والحاضرون يشاهدون القبور، ومعهم هذا المتوفى، فهم بحاجة إلى ما يرقق القلوب، ويذكر بالآخرة، ويزهد في الدنيا، فالتذكير يؤثر فيهم غالباً، وقد ذكروا عن بعض السلف أنه حضر جنازة تدفن، فأبصر بعض الحاضرين يهرب من الشمس والغبار فأنشد قوله: من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يوما راغما جدثا قفراء موحشة غبراء مظلمةً يطيل تحت الثرى في غمها البثا تجهزى بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا

السؤال:- من هم شهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم غير المقتولين في المعركة؟ الجواب:- ورد ذكر عدد من الشهداء في كثير من الأحاديث، كقوله "الشهداء خمسة المطعون، والمبطون والغريق، وصاحب الهدم، والمقتول في سبيل الله" فالمطعون هو المصاب بالطاعون، والمبطون هو المصاب بمرض الاستسقاء ويسمى الكوليرا، وورد أيضا "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه أو أهله فهو شهيد" وغير ذلك من الأحاديث، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز لأحد من الناس في هذا الزمان أن يقسم على الله أن يحقق له كذا وكذا مما يريد أم لا؟ الجواب:- لا يجوز الإقسام على الله تعالى بقوله: أقسمت عليك يارب أن تنزل المطر، أو تهزم اليهود أو تغني فلاناً، أو تعطيه كذا، أو تحقق لي ما أطلبه في هذا المكان، ونحو ذلك، فإن معناها أن العبد يلزم ربه ويفرض عليه، والله تعالى هو الذي يتصرف في العباد، وليس العبد أهلا أن يأمر ربه بأمر على وجه الإلزام، بل إن ذلك منقص للتوحيد، أو مما ينافى كماله أو أصله على حسب النية، فأما ما روى عن بعض السلف من الإقسام على الله فلعل ذلك من باب الدعاء، وأما قوله صلى الله عليه وسلم "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" رواه البخاري فهذا على وجه الفرض، يعني أن الله تعالى يجيب دعوته، مع العلم أنه لا يجرؤ أن يقسم على ربه، والله أعلم.

السؤال:- أفيد فضيلتكم علماً بأن مكاتب المنتدى الإسلامي تقع في دول تتعامل بالتاريخ الميلادي، ونحن نتعامل بالتاريخ الهجري، فسبب لنا ذلك إحراجاً في التعامل مع الدوائر الحكومية التي لا تتعامل بالتاريخ الهجري، ومشكلة في تحديد الميزانية، ودفع الرواتب، ورفع التقارير المالية للجهات المختصة في تلك الدول. فهل يجوز لنا الاعتماد على التأريخ الميلادي في المعاملات والميزانية، من باب الضرورة، مع قناعتنا الكبيرة بأهمية التأريخ الهجري، وكونه شعاراً للمسلمين، وعلامة من علامات التمايز عن الكافرين. الجواب:- لا بأس بالجمع بين التاريخين، مع تقديم التاريخ الهجري، ويكتب بعده الموافق لكذا وكذا ميلادي، وذلك أن التاريخ الهجري يعتمد على الأشهر الهلالية، وهي مشاهدة ظاهرة للعيان، لا تخفى على ذي عينين، وأما الميلادي فليس للأشهر علامة بارزة يعلم بها إلا الحساب، ولذلك جاء الشرع الإسلامي باعتبار الأشهر العربية في الصوم والحج والاعتكاف ونحوها، فالبداءة بالتاريخ الهجري فيه إظهار لشعائر الإسلام، وخواصه بين من يجهله والله أعلم.

السؤال:- ما حكم قول المسلم لأخيه أسألك الدعاء؟ الجواب:- لا بأس بذلك، سيما إذا كان أخوه من الصالحين، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يطلبوا من أويس القرني أن يستغفر لهم مع أنه دونهم في الفضل، وورد في حديث "ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وملك يقول آمين، ولك بمثل". ولأن الدعاء من أفضل الأعمال، ويرجى إجابته من العبد الصالح، وقد حكى الله عن نوح أنه استغفر لوالديه، ولمن دخل بيته مؤمنا، وللمؤمنين والمؤمنات، ونهى الله عن الاستغفار للمشركين ومفهومه فضل الاستغفار للمؤمنين.

السؤال:- يوجد مذبح يعمل به أشخاص، منهم من يصلي ومن لا يصلي، وأغلب الموجودين هناك يسبون الدين الإسلامي، فهل يجوز الأكل من ذبائحهم؟ الجواب:- لا يجوز إقرار الذين يسبون الدين في هذا المسلخ، ولو كانوا يصلون فإن سب الوالدين كفر مخرج من الملة، فأما من لا يصلي فلا يتركون أيضاً إذا كانوا جاحدين لها، أو مصرين على تركها، أو لا يصلون ولو في المنازل، ولا يجوز الأكل من ذبائح هؤلاء، ولو سموا أنفسهم مسلمين، ولو ذكروا عليها اسم الله، وعليكم أن لا تسكتوا عنهم إن كانت البلاد إسلامية تطبق فيها أحكام الشرع، فإن لم تقدروا على طردهم وإبعادهم عن هذا العمل فحذروا المسلمين من أكل ذبائحهم، والله أعلم.

السؤال:- هناك خمسة في منزل أحدهم جاحد للصلاة ذبحوا ذبيحة لا أعلم أيهم ذبحها، ودعوني لللأكل معهم، فهل أجيبهم أم لا، وهل الأصل الحل أو الحرمة؟ الجواب:- عليك البحث عن حل هذه الذبيحة، والتأكيد من الذي تولى ذبحها، وإذا ذكروا لك أن الذي تولى ذبحها أحد المصلين فأجبهم، وكل، وإن لم يخبروك أو عرفت أن جاحد الصلاة هو الذي ذبحها فلا تجب ولا تأكل، وقبل ذلك عليك أن تنصح هذا الجاحد للصلاة، وتحذر إخوته من صحبة من هذا حاله، وتخبرهم بأنه كافر، حيث إنه تارك للصلاة وجاحد لوجوبها، مع أنه معلوم من الدين بالضرورة.

السؤال:- ما حكم طفل الأنابيب؟ الجواب:- قد أفتى العلماء في هذه الرئاسة بمنعه، لما فيه من كشف العورة، ولمس الفرج، والعبث بالرحم، ولو كان مني الرجل الذي هو زوج المرأة، فأرى أن علىالإنسان الرضا بحكم الله تعالى فهو (يجعل من يشاء عقيما) (الشورى:50) .

السؤال:- هل يعذر الإنسان بجهله في أمور الشركيات المخرجة عن الملة؟ الجواب:- لا عذر لأحد في ذلك، فلله الحجة البالغة، فالجاهل لا يجوز له البقاء على جهله، بل عليه أن يسأل عن حكم كل فعل يقدم عليه، فإن الله تعالى وهبه عقلا يميز به الأشياء، فعلى العلماء أن يعلموا الجهلة، ويزيلوا الجهل عنهم، وعلى الجهال أن يبحثوا ويتعلموا، ويزيلوا الجهل الذي هو نقص وعيب في الدنيا والدين ويسألوا عن الأحكام، وعن الحلال والحرام، لقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (النحل:43) ، فإن كانوا بعيدين لا يقدرون على البحث فلهم حكم أهل الفترة.

السؤال:- بعض الناس بل أكثرهم إذا سمع بمصيبة أو خبر لا يسره قال جملة (لاحو لله يارب) أو قال: (لا حولله) أو أن يحلف فيقول: (وحياة الله) أو ما شابه ذلك، فهل من قال (لا حولله) كأنه يقول لا حول لله وهذا كفر والعياذ بالله؟ وهل من حلف بحياة الله يكون قد أشرك وهل يجوز له قول ذلك؟ الجواب:- قول وحياة الله لا بأس به فهو الإخبار عن أن الله تعالى هو الحي الدائم الذي لا يموت، وقد أخبر عن نفسه بقوله (الحي القيوم) (البقرة:255) (الحي الذي لا يموت) (الفرقان:58) فهو حلف بصفة من صفات الله اللازمة، فلا محذور فيه، وأما قول: لا حول لله. فلا يجوز، فإنه نفي بحرف "لا" التي لنفي الجنس، والحول هو التحول والتحويل والنقل، والله هو الذي يملك ذلك، كما قال تعالى (قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) (الكهف:39) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من "قول لا حول ولا قوة إلا بالله" وأخبر بأنها من كنز تحت العرش، فعلى الإنسان أن يعود نفسه على النطق بالكلام الحسن، والتحفظ عن الكلام الذي لا يجوز، والله أعلم.

السؤال:- نسأل فضيلتكم عن ظاهرة أخذت في الإزدياد داخل المستشفيات، وهي دخيلة على المجتمع المسلم، حيث انتقلت إلينا من المجتمعات الغربية الكافرة، ألا وهي -إهداء الزهور للمرضى- وقد تشترى بأثمان باهظة، فما هو رأيكم في هذه العادة.؟ الجواب:- لا شك أن هذه الزهور لا فائدة فيها، ولا أهمية لها، فلا هي تشفي المريض، ولا تخفف الألم، ولا تجلب صحة، ولا تدفع الأمراض حيث هي مجرد صور مصنوعة على شكل نبات له زهور، عملته الأيدي، أو الماكينات، وبيع بثمن رفيع، ربح فيه الصانعون، وخسر فيه المشترون، فليس فيه سوى تقليد الغرب تقليدا أعمى، بدون أدنى تفكير، فإن هذه الزهور تشترى برفيع الثمن، وتبقى عند المريض ساعة أو ساعتين، أو يوما أو يومين، ثم يرمى بها مع النفايات بدون استفادة، وكان الأولى الاحتفاظ بثمنها، وصرفه في شيء نافع من أمور الدنيا أو الدين، فعلى من رأى أحداً يشتريها أو يبيعها تنبيه من يفعل ذلك، رجاء أن يتوب ويترك هذا الشراء الذي هو خسران مبين.

السؤال:- مسلمان اثنان متمسكان بطاعة الله واحد منهما يعاني من ضيق في الصدر دائماً ومرض نفسي واكتئاب، والثاني صحيح سليم مما يعانيه الأول، هل يستويان في الأجر عند الله، وقبول الأعمال الصالحة، أم أن المريض النفسي أكثر وأعلى في القبول والأجر عند الله، حيث إن الشخص السليم يقوم بالطاعات المختلفة، وخصوصاً الصيام بسهولة. أما الثاني المريض فيلقى صعوبة في أداء الطاعات، والأعمال الصالحة. أفيدونا جزاكم الله خيراً وما حكمة الله في ذلك؟ الجواب:- هذا المريض يثاب على المرض إذا صبر واحتسب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من سيئاته" أو كما قال، ولا شك أن المرض النفسي وضيق الصدر، والاكتئاب يورث الهم والنصب والألم، وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" رواه الترمذي وغيره ومعناه أن البلاء كلما كان اعظم كان الجزاء عليه والثواب أعظم عند الله، ولهذا يسلط البلاء والمرض على الأنبياء، كما قال صلى الله عليه وسلم "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه، وإلا خفف عنه" هكذا أخبر صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فهذا المريض يثاب على مرضه، وما هو فيه من الألم والشدة، ويعظم له الجزاء على تحمله، وعلى قيامه بالطاعة والعمل الصالح، مع ما هو فيه من المرض، أما الصحيح فيثاب على كثرة أعماله من صيام وصلاة وصدقة، ودعوة إلى الله، وأمر بالمعروف ونهي المنكر، وجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك من الأعمال التي لا يقدر عليها المريض، والله أعلم.

السؤال:- بعض الناس يتكلمون بألفاظ أظنها في نظري كلمات شركية والله أعلم. فمثلا يريد شخص أن يتأكد من شخص عن صحة خبر، أو إجابة طلب، فيقول له أمانتك، في ذمتك، النار على قلبك، هل هذا صحيح؟ وهكذا. وفي حالة أخرى يريد شخص أن يحلف على شخص آخر، فيقول له: عليك وجه الله، أو تراك في وجه الله أنك تجيني في البيت، أو أنك تعمل كذا، فما يقول فضيلتكم في ذلك، جزاكم الله خيراً. الجواب:- ينبغي التقييد بالألفاظ الشرعية، والبعد عن الكلمات المشتبهة، فقولهم: أمانتك. إن كان يريد الحلف لم يجز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من حلف بالأمانة فليس منا" فإن كان يريد أن هذا الكلام أمانة عندك، أو يريد التذكير بالأمانة التي حملها الإنسان فلا أرى بأسا، أما قولهم. في ذمتك فالذمة هي العهد، أي إن هذا الأمر في عهدك وجوارك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك" أما قولهم: النار على قلبك، فيظهر أنه من باب التخويف بالنار، كأن المعنى تذكيره بالنار وعذابها، وأنها تطلع على الأفئدة، حتى يخبر بالصحيح من القول. فأما قوله: عليك وجه الله، فيقصد به في الظاهر التذكير في أمر خفي لا يظهر، وكذا قولهم تراك في وجه الله. يظهر انهم أرادوا في حمايته وحفظه وجواره.

السؤال:- رجل يصلي ويصوم ويزكي، ويتلو القرآن، ويصلى الليل والنوافل، ويتفقه في دينه، ويعمل الخير، ويخشى الله في كل شيء، ويستغفر عند كل ذنب، لكنه لم يطعم حلاوة الإيمان، ويعبد الله اجتهادياً، فما قول فضيلتكم حفظكم الله في هذا النوع، هل هو غير مؤمن، والله غير راض عنهم وإذا مات هذا الرجل وهو على هذا الحال فهل هو إن شاء الله من أهل الجنة؟ أفيدونا رعاكم الله. الجواب:- عليه أن يخلص النية في أعماله، وأن يتذكر فضل ربه عليه، ونعمته في كل حال، وعليه أن يتفكر في آيات ربه ومخلوقاته، وعظائم مصنوعاته، ليأخذ منها عبرة وموعظة، وذكرى للمؤمنين، ويشغل بذلك وقته وسكوته، كما أن عليه أن يكثر من ذكر الله تعالى بالتهليل، والتسبيح والتحميد، والتكبير، والحوقلة، مع تأمل معاني تلك الكلمات، واستحضار مدلولها، وتعلم ما تفيده، وعليه أيضا، أن يستغفر ربه ويتوب إليه، ويتضرع إليه، ويدعوه سرا وجهراً، ويحضر قلبه عند دعائه، ولعل ذلك، أن يحبب إليه الأعمال الصالحة، وهو على كل حال مؤمن، نشهد له بالخير، ونرجو له ولكل عبد صالح أن يدخله الله الجنة بفضله ورحمته، فعليه أن يعلق قلبه بربه، يرجوه ويدعوه خوفا وطمعاً.

السؤال:- موظف يعمل في الدولة أكثر من عشرين عاماً، يخلص في العمل، وينضبط في العمل، ويحسن الخلق من أجل إرضاء المسئولين ومديره، ومن أجل أن يستلم رواتبه كاملة دون حسم، ومن أجل الترقيات، كل هذه التصرفات محصورة في هذا الحال، ليس لله من ذلك شيء، لكن هذا الموظف يعبد الله، ويخلص أعمال الخير لله تعالى، خارج عمله، ويصلي ويصوم، ويتصدق ويزكي، ويحج ويتلو القرآن، ويقرأ التفسير، ويعمل في كل أوجه الخير مخلصاً لله تعالى، موافقاً لشريعته/ فما يقول فضيلتكم جزاكم الله خيراً في حاله أثناء دوامه، هل هذا جائز أو شرك أم ماذا؟ أفيدونا وماذا يعمل، وهل عليه آثام ما مضى من سنين العمل بالوظيفة، حفظكم الله ورعاكم. الجواب:- معلوم أن العمل الوظيفي لا يسمى عبادة، وليس هو من القربات التي لا تصلح إلا لله تعالى، فالإنسان يعمل في وظيفته لأجل حل الراتب، ولأجل استحقاقه ما بذل له، ونحو ذلك، فالنية فيها لا تسمى قربة، لكان إذا عرف انها أمانة بينه وبين الله تعالى، وأن الله هو المطلع عليه، فراقب ربه في هذا العمل، حتى يكون ما يأخذه حلالاً بدون شبهة، فله أجر هذا الإخلاص، ولو كانت نيته أن لا يحسم عليه شيء من الراتب ونحو ذلك، وحيث إن هذا الموظف يقوم بواجباته الدينية، ويؤدي ما فرض الله عليه، ويبتعد عن المحرمات، فإنه يمدح على ذلك والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.

السؤال:- يقال إن تذكر الميت من قبل الحي، مثل ولد يتذكر والده الميت في كل حين، وفي كل مكان وزمان، والحزن عليه، والبكاء عليه، والتأثر به، يقال: إن الميت يتأثر من ذلك ويضره، ويسيء له، فينبغي عدم تذكر الميت بحزن وبكاء وتأثر. بل يكتقى بالدعاء والاستغفرا له، والترحم عليه فقط. فما صحة ذلك من عدمه، جزاكم الله خيراً، وما ينبغي أن يفعل بحق الميت؟ جزاكم الله خيراً. الجواب:- ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" رواه البخاري وفسر ذلك بما إذا أوصى أهله بذلك، كفعل الجاهليين وقيل هذا إذا كان من عادتهم النياحة والندب فلم يحذرهم، وقيل: إن العذاب هو التألم والحزن على فعلهم الذي لا يغنى عنهم شيئاً، فلا يدخل في النهي، وذلك لأنه مما يغلب على الإنسان، ولا يستطيع دفع حديث النفس، وما يخطر بالبال من تذكر الميت، والحزن عليه، والتألم لفقده، فإذا تذكره واسترجع ودعا ربه أن يعينه على الصبر والسلوان، ويخلف له خيراً من مصيبته أثابه الله وآجره على مصيبته.

السؤال:- حديث "لا يعذب بالنار إلا رب النار" ما صحة هذا الحديث، وهل يصح استخدام لمبة صعق الناموس، وهل تدخل في الحديث؟ الجواب:- الحديث رواه البخاري في كتاب الجهاد وكذا رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد وغيرهم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وقال لهم "إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار" ثم قال بعد ذلك "إني أمرتكما بإحراق فلان وفلان، والنار لا يعذب بها إلا رب النار، فإن وجدتموهما فاقتلوهما". ومع ذلك فقد روي عن بعض الصحابة أنهم أحرقوا من يعمل عمل قوم لوط، وعن علي رضي الله عنه أنه أحرق الغلاة الذي اتخذوه إلهاً من دون الله، فأما آلة صعق الناموسة فلا بأس باستعمالها، وذلك لأنه لا يوجد حيلة لابادته سوى هذه الآلة، وأيضا فليس أهلها هم الذي يقذفون الناموس فيها بل هو الذي يزج بنفسه فيها، كالفراش الذي يلقي نفسه في النار التي توقد في الصحراء.

السؤال:- رجل يحافظ على الأذكار، ومع ذلك يصيبه مكروه، فهل يمكن أن يبطل عمل الأذكار؟ الجواب:- لعل المراد أن هذا الرجل يقع في بعض المكروهات، أو يعمل المعاصي، ويخشى أن يحبط عمله الذي من جملته الأذكار اليومية، وعلى هذا ننصحه بالاستمرار على الأذكار والأوراد، والإقلاع عن المكروهات، والحسنات يذهبن السيئات، ومتى تاب فإن الله يمحو عنه السيئات، ويضاعف له الحسنات، ولا يقنط من رحمة الله، ولا يدع العمل الصالح، وإذا كان القصد أن هذا الرجل محافظ على الأوراد، ومع ذلك تصيبه بعض العقوبات، والمصائب البدنية والمالية، ويخشى أن أذكاره باطلة، حيث لم تؤثر في حفظه وحمايته، نقول له لا تخف، فإن المصائب والابتلاء تصيب الأنبياء والصالحين، ولا ينقص ذلك من حسناتهم، ولا يدل على أن أذكارهم لم تقبل، بل أن ذلك لرفع درجاتهم، ومضاعفة جزائهم.

السؤال:- حبذا لو تكرمتم بالحديث عن شيخكم عبد الرازق عفيفي رحمه الله، أخلاقه علمه، طلبه للعلم ... الجواب:- الشيخ عبد الرازق عفيفي عطية، مصري الجنسية أصلاً، ومن علماء الأزهر قديماً، أدرك الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا ونحوهما، وكانت دراسته في العلوم الشرعية كالحديث، واللغة والتفسير، والأحكام، حتى تفوق على زملائه وبعض مشايخه، وكان من زملائه الشيخ عبد الله بن يابس الذي أصله من بلاد القويعية، وقد كان بينهما من المحبة والصحبة وقوة الاخوة مالا يوجد مثله إلا نادراً، وكان زواجهما متقارباً في مصر من زوجتين صالحتين كالأختين، وقد استضاف الشيخ عبد الله عند مجيئه من مصر لأول مرة، واستزاره الشيخ عبد الله إلى بلاده، ونال هناك حفاوة وإكراماً من قبيلة الشيخ عبد الله، ولم يزالوا يودون الشيخ عبد الرزاق، ويتصلون به حتى توفى رحمه الله. وأما زملاؤه المصريون فكثير. قدم إلى المملكة قبل عام 1370هـ ودرس في الطائف في دار التوحيد، وقدم بعد ذلك إلى الرياض واستقر بها، وحصل على الجنسية السعودية حين بدأوا في تسجيل المواطنين، وأصبح هو وأولاده من جملة المواطنين، ولا أذكر أنه رجع إلى مصر بعد مجيئه منها. أما علمه فهو بحر لا ساحل له في أغلب العلوم التي يتناولها بالبحث والشرح، فلقد عرفته لأول مرة عام 1374هـ وكان يزور بعض المشايخ كالشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، ونقرأ عليه في المجلس حديثاً من أول صحيح البخاري، فيشرحه شرحاً موسعاً، بحيث يستغرق شرح الحديث الواحد أكثر الجلسة، وعرفته في أحد الأعوام يفسر سورة سبأ في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، فكان يبقى في تفسير الآيتين نحو ساعة أو أكثر، ويستنبط من الآيات فوائد واحكاماً، وأقوالاً وترجيحات يظهر منها عظمة القرآن، وما فيه من الاحتمالات والفوائد، مما يدل على توسع الشيخ وسعة اطلاعه، وكثرة معلوماته.

أما أخلاقه فقد عرف منه لين الجانب، وطلاقة الوجه، وحسن الملاطفة، فهو أمام الزوار والتلاميذ والزملاء دائماً يظهر الفرح والسرور، والانبساط في الكلام، والإجابة على الأسئلة بدون غضب أو ملل أو تبرم، أو رد شديد للسائل، فجليسه يلقى منه كل المؤانسة والتبسم، بحيث لا يمل جليسه، ولا يزال يتلقى عنه أنواعاً من الفوائد، ولطائف المعارف، وغرائب المسائل، كما أنه يكرم من زاره، ويقدم ما حضر بدون تكلف، ويجود بما يقدر عليه دون أن يمن بما أعطاه، أو يرد من سأله، وهكذا دأبه مع العلماء وطلبة العلم، والاصحاب والزملاء الأقدمين، فهو جواد كريم بما اعتاده، ومجيب لمن دعاه بدون تكلف أو تشدد. أما تدريسه فقد أفنى حياته في وظيفة التدريس في مصر، ثم في المملكة في دار التوحيد بالطائف، ثم في معهد الرياض العلمي، ثم في كلية الشريعة وكلية اللغة بالرياض، ثم في معهد القضاء العالي مديراً ومدرساً، حتى أحيل للتقاعد، ثم عمل متعاقداً في رئاسة إدارت البحوث العلمية والإفتاء بقية حياته، حتى وافاه الأجل وهو على رأس العمل في هذه الرئاسة، وقد تتلمذ عليه أكابر العلماء في هذه المملكة، واعترفوا بفضل علمه، وافتخروا بالانتماء إلى تعلميه في أغلب المراحل، كما انتفع الكثير بالفوائد التي تلقوها عنه في دروسه في المسجد وغيره.

أما التأليف فلم يكن يرغب فيه، ولا يحب الكتابة في أي فن من الفنون، بل يرى أن هذه الكتب والمؤلفات الحديثة لا فائدة فيها، ويكتفى بما كتبه وجمعه العلماء السابقون، حيث أنهم تطرقوا إلى كل فن، وأوضحوا ما يحتاج إلى توضيح، فمن جاء بعدهم لا يستطيع أن يضيف إلى علومهم زيادة، ولقد ضرب مثلاً بإحضار مجموعة من التفاسير، وقارن بينها، فأظهر أن الآخر عيال على الأول، وأن المتأخرين إنما توسعوا في الكلام بما لا فائدة فيه، وكان ينهى عن الانشغال بكتب المعاصرين التي كتبوها في الأصول، أو التفيسر، أو الأدب والفقه ونحو ذلك، حيث أنهم لا يزيدون على من سبقهم، ومع ذلك فقد أشرف على رسالتي في أخبار الآحاد التي قدمتها لنيل درجة الماجستير، وعلى رسالة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وغيرهما، وكان يولي التلميذ توجيهات ودلالة على المواضيع، وأماكن البحث، ونحو ذلك مما يدل على قدرته على الكتابة لو أراد ذلك، فهو من حملة العلوم المتعددة، وأي فن يتطرق إليه يوسعه بحثاً، فرحمه الله وأكرم مثواه.

الفرائض

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة الفرائض

السؤال:- توفي والدنا عن زوجة، وخمس بنات، وأخ شقيق وأختين شقيقتين، وكان قد وهب لبناته الخمس قطعة أرض، ودونها في صك، ثم بنى عليها منزلاً من عدة طوابق، وأنشأ فيه مؤسسة، وبها مستودع وثلاجة، وبعد موته طالب العم والعمات بميراثهم من المنزل، فهل لهم حق في ذلك؟ الجواب:- إن تصرفه في الأرض وبناءه عليها باسمه يعتبر تملكاً لها، فلا تختص بالبنات، بل تصبح تركة، يرث منها الإخوة نصيبهم، فإن للوالد أن يتملك من مال أولاده ما لا يضرهم ولا يحتاجونه، مع أن إعطاءهم للأرض قد يكون قصده حرمان الإخوة من الإرث فلا ينفذ العطاء، ثم لا يصح إن كان وصية بعد الموت، لأنه لا وصية لوارث، فأعطوا أعمامكم حصتهم، ويبقى لكم ما يخصكم، والله أعلم.

السؤال:- مات ميت عن مال جمعه من الحرام، فهل للورثة أن يأخذوا هذا المال أم لا؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب:- يجوز أن يأخذوه وإثمه على المكتسب، ويفضل أن يتصدقوا به حتى يسلم أبوهم من الوزر، وإثم الكسب الحرام، والله أعلم.

السؤال:- إمرأة لها ثلاثة أولاد ذكور، وبنت واحدة، توفي أحد الأبناء الذكور في حياة والدته، وله ابن وبنتان. ثم توفيت المرأة (الجدة) فهل يرث ابناء الابن المتوفي؟ الجواب:- لا يرث أولاد الابن المتوفي من جدتهم أم أبيهم، بل يكون ميراثها لبقية أولادها وهم ابنان وبنت، أما ابن المتوفي وبنتاه فلهم تركة أبيهم، وليس لهم من جدتهم شيء، والله أعلم.

السؤال:- والدي تزوج بامرأة، وأنجب منها ولداً وطلقها، وتزود بامرأة أخرى، وأنجب منها بنتين وطلقها، وتزوج أيضاً بامرأة ثالثة وأنجب منها بنتين وولداً وطلقها. والدي توفي منذ خمسة وعشرين عاماً، وترك لنا تركة، ولم يرث أحد منهم من تركة والدهم. ومع الأيام توفيت بنت من بناته قبل أن تستلم نصيبها من ميراث والدها: أولاً: هل ترث أم البنت من ميراث بنتها؟ ثانياً: هل يرث أخواتها من ميراث أختهم؟ الجواب:- وبعد فهذه البنت لها نصيب في تركة والدها. وحيث إن الورثة أربع بنات وابنان، فإن نصيب البنت المتوفاه ثمن التركة، ترثه أمها السدس، وإخوانها الأشقاء، فإن لم يكن لها إخوة أشقاء، ذكور فلأختها الشقيقة النصف، والباقي لأخوتها وأخواتها من الأب، للذكر مثل حظ الأنثيين، والله أعلم.

السؤال:- توفيت والدتي، وأبقت وراءها ثلاثة أولاد وبنتين، ولد واحد وبنتان من رجل، وأنا وأخي من رجل آخر. أي أن ولدا وبنتين أخواني من أمي، وأنا وأخي وقد أبقت وراءها مبلغاً وقدره سبعة وعشرون ألفاً وخمسمائة ريال، نأمل تقسيم هذا المبلغ بين الورثة، حيث الورثة ولد وبنتان أخواني من أمي، وأنا وأخي. الجواب:- 6875- لك ربع المال وقدره ستة الآلف وثمانمائة وخمسة وسبعون. 6875- ولأخيك الشقيق ربع المال كذلك. 6875- ولأخيك من الأم كذلك. 2/1 3437- ولأختك من الأم ثمن المال ثلاثة الآف وأربعمائة وسبعة وثلاثون ونصف. 2/1 3437- ولأختك الثانية من الأم كذلك.

السؤال:- إنني كلفت باستفتاء في رجل يقود سيارة بدون رخصة قيادة، وكبير في السن، وكان في أحد الأيام راكباً في سيارته بصحبة زوجته، فأنطلقت بهم السيارة من رأس جبل، فأنجاه الله من هذا الحادث، وتوفيت زوجته رحمها الله بواسع رحمته، وسؤاله هل يرث من ميراثها، وهل يلزمه شيء من صيام، وما إلى ذلك، وفقكم الله لكل خير آمين؟ الجواب:- لقد أخطأ في قيادة السيارة وهو كبير السن، وليس معه رخصة قيادة. وأخطأ أيضاً في صعوده رأس الجبل، وعلى هذا فإنه لا يرث من زوجته التي تسبب في موتها، وعليه ديتها لورثتها، وعليه كفارة، وهي تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، وعليه أن لا يعود لمثل هذه المخاطرة، والله أعلم.

السؤال:- أنا امرأة تقدمت في عام 1400هـ بطلب أرض لوالدي من البلدية، وفي عام 1410هـ توفي والدي وترك من الورثة أنا وأختي ووالدتي وعمة لي أخت أبي من الأب.. وكل منا أخذ نصيبه من الميراث. وفي عام 1415هـ نزل من البلدية استمارة باسم المتوفي، فكيف توزع هذه الاستمارة بين الورثة. هل هذه الإستمارة تخصني أنا وأختي فقط، أم تشمل الجميع؟ الجواب:- هذه المنحة التي نزلت من البلدية باسم الوالد تصبح ملكه، فتورث عنه كما يورث المال، فلك أنت الثلث، ولأختك الثلث، والثلث الباقي بين الوالدة والعمة، للوالدة ثلاثة أثمانه، وللعمة خمسة أثمانه، ولا تباع إلا بعد ما يعرف موضعها، وحدودها، وطولها وعرضها ثم تقدر بقيمة وتقسم القيمة والله أعلم.

السؤال:- هل يرث الأحفاد جدهم إذا كان والدهم قد توفى قبل الجد؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي فلماذا؟ الجواب:- الأحفاد هم أولاد البنين، دون أولاد البنات، فإذا مات أبوهم قبل أبيه لم يرثوا من الجد إن كان له ابن لصلبه أو بنون، فإن الابن أقرب من ابن الابن، فإن كان الجد ليس له بنون ولو واحداً، أو إنما له بنات، فللأحفاد ما بقي بعد ميراث البنات، وكذا يرثون جدهم إن لم يكن له بنون ولا بنات، فيقومون مقام أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين، والله أعلم.

السؤال:- توفى أحد الإخوان -رحمه الله تعالى- وترك زوجة وأخوين فقط، وترك بعض التركة لا بأس بها، فما حكم نفقة عدتها، هل تؤخذ من رأس التركة أم مما يخصها من الميراث، نرجو الإجابة الشافية. الجواب:- نفقة الزوجة من نصيبها، حيث إن التركة بعد الموت انتقلت من ملك الزوج إلى الورثة، وحيث إن المتوفى ليس له أولاد فللزوجة الربع، والباقي للأخوين الشقيقين، وإذا أنفقت المرأة من المال بعد الموت على نفسها حسب من حصتها، والله أعلم.

السؤال:- توفى أخي الشقيق -رحمه الله تعالى- وترك أختين شقيقتين، وثلاث أخوات لأب، وبنت أخ شقيق، ووالده متوفيان إلى رحمة الله تعالى منذ فترة طويلة، ولنا أقارب آخرون عبارة عن أبناء لأولاد عم أبينا، وعددهم ستة عشر رجلاً، فنرجو إفادتنا عن الأشخاص الذي يرثون شقيقي؟ الجواب:- ترث الأختان الشقيقتان الثلثين من جميع التركة، والباقي لأبناء العم الذكور، ولا شيء للأخوات لأب، ولا لبنت الأخ الشقيق، والله أعلم.

السؤال:- أطلب من فضيلكتم الفتوى عن تركة لأخي المتوفى، علماً أنه لا يوجد له أولاد، ولم يتزوج إطلاقاً، ونفيدكم بأن لنا أخاً أكبر، وهو متوفى، وله أولاد 6ذكور و4بنات، والذي نطلبه من فضيلتكم هل إرث تركة أخي الذي لم يتزوج، ولا يوجد له، أولاد، وعلماً يوجد له بيت وسيارة، هل أولاد أخيه وشقيقته يرثون، أم شقيقته فقط؟ الجواب:- يرثه أخوه الشقيق الموجود، وأخته الشقيقة فقط لأخيه الثلثان، ولأخته الثلث، ويسقط الباقون. وإن كان أخوه ميتاً فلأخته النصف والباقي لأبناء أخيه الذكور دون الإناث.

السؤال:- هل ابن الزنا يرث وإن اعترف به أبوه؟ هل أبناء ابن الزنا المعترف به أبوه يعتبرون محرماً لأخوات أبيهم، وهل يكن عماتهم، كما لو كان أبوهم أبا شرعياً؟ علما أن أخوات أبيهم شرعيون. الجواب:- ابن الزنا لا يلحق الزاني، ولو اعترف به أبوه، فللعاهر الحجر، فلا يرث من الزاني، ولا من أولاد الزاني، وكذا أولاد ابن الزنا، لا يعتبرون محارم لبنات الزاني، ولا لأخواته، بل تختص قرابتهم بأمهم، فالحرام لا يحرم الحلال والله أعلم.

السؤال:- ورثنا من والدنا عمارة، ونريد أن نبيعها، وقد حدد المبلغ بـ 100.000ريال، ونريد تقسيمها بالتساوي، وعدد الأولاد 5، وعدد البنات 3 ووالدتي. الجواب:- نصيب الزوجة الثمن اثنا عشر ألفاً وخمسمائة، ولكل بنت ستة الآف وسبعمائة وثلاثون ريالاً وثلاثة أرباع ريال، ولكل ابن من الخمسة ثلاثة عشر ألفاً وأربعمائة وواحد وستون ريالاً ونصف ريال.

اللباس والزينة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة اللباس والزينة

السؤال:- ما حكم الدمية المصورة على هيئة إنسان، والمعروفة لدى الناس (بعرائس الأطفال) وقد انتشرت بكثرة عجيبة في الأسواق، وأقبل عليها الناس لشرائها، ويقال إنها في حكم الصور الممتهنة، نأمل من فضيلتكم الإجابة عن حكم بيعها وحكم اقتنائها؟ الجواب:- هذه الألعاب محرمة لأنها صور مجسمة تامة، لها ظل ولها رأس، ووجه وعينان، وشفتان وأنف، وسائر أعضاء البدن، فالوعيد للمصورين ينال أهلها، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم. ويكلفون بنفخ الروح فيها. ولا تدخل الملائكة بيتا هي فيه. وليست ممتهنة، بل هي محترمة رفيعة الثمن، ولو كانت لعبة للأطفال، فإنها صورة مضاهئة لخلق الله تعالى، وليست كلعب عائشة رضي الله عنها، فإنها كانت تعملها بيدها، بدون وجه، وبدون تفاصيل جسم، وإنما هي عبارة عن أعواد ترتبطها، وتلف فوقها خرقا تتسلى بها، فإذا كانت اللعب مما يصنعها الأطفال بأيديهم فلا مانع من استعمالها يتلهى بها الطفل، وأما هذه التي تصنع في مصانع ويبذل فيها ثمن فإنها محرمة كما ذكرنا.

السؤال:- توجد بعض الكتب فيها صور، فما حكم إدخالها المسجد، علماً بأن الصور في الداخل، وليست على الغلاف، وهي كتب دراسية، وهل صحيح أن الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه صورة، وما حكم إدخال البطاقات التي تحمل صوراً إلى المسجد؟ الجواب:- الأفضل أن يتحاشى إدخالها في المسجد، حيث إن فيها هذه الصور، ولكن إذا كان مضطراً إليها لكونها دراسية، ومضطراً إلى دخول المسجد فالأولى أن يطمس على وجه الصورة بمزيل أو نحوه، وإذا لم يتمكن، أو كان له في بقائها مصلحة، فالأولى إذا دخل بها ألا يكشف على محل الصورة بل يتركها في وسط الكتاب غير مكشوفة، ويقرأ من الكتاب في أماكن أخرى ليس فيها صورة؛ وذكر أن الصور تمنع دخول الملائكة إذا كانت منصوبة أو ظاهرة أما إذا كانت ممتهنة أو خفية فالصحيح أنها لا تمنع إن شاء الله. وكذلك أيضاً البطاقات والأوراق النقدية وما أشبهها تستعمل للحاجة.

السؤال:- ما حكم اصطحاب الصور التي في النقود أو في البطاقات الشخصية أثناء الصلاة؟ الجواب:- حيث أن هذه الصور في النقود والبطاقات الشخصية أصبحت من الضروريات التي لا يستغنى عن استصحابها في أغلب الأحوال، فإنه يجوز اصطحابها ولو في الصلاة (أولا) الحاجة الماسة لذلك (ثانياً) وجود الخلاف في حكمها من حيث العمل والاصطحاب والحمل (ثالثاً) كونها ناقصة حيث لا يوجد سوى الوجه ونحوه، ثم على المصطحب لها أن يحرص على إخفائها وتغييبها في جيبه ومخبئه، ولا يبرزها ليكون أخف للحكم، والله أعلم.

السؤال:- علمت بحديث: "لعن الرسول صلى الله عيله وسلم المرأة التي تلبس لبسة الرجل والرجل الذي يلبس لبسة المرأة" فهل ينطبق الحديث على التي تلبس البنطلون والبلوزة (القميص) والجينز وغيرها من لباس الرجال المعروفة حالياً في كثير من بلاد المسلمين. هل ينطبق عليها الحديث إذا لبسته أمام زوجها وأبنائها وإخوانها فقط. لأن لعن الرسول جاء دون تحديد لبسه أمام أحد؟ الجواب:- لا يجوز لها لباس هذه الأكسية التي يلبسها الرجال، فذلك من اللبس المذموم، الذي فيه التشبه بالرجال، وورد فيه اللعن في الحديث، ولو كانت عند النساء، أو عند المحارم فقط، فإن هذا يسبب اعتيادها، وصيرورة ذلك محبوباً لديها، ويجرها إلى أن تلبسه عند الأجانب، وفي الحفلات، وترى ذلك فخراً وميزة وشرفاً، فتدخل في هذا الوعيد الشديد. أما إذا كانت عند الزوج وحده فلا مانع من لبس ذلك، لأن لها أن تتكشف عنده وله أن ينظر إلى جميع جسدها، والله أعلم.

السؤال:- رجل في نصف عمره، هو باق قوي، يريد أن يغير بياض الشيب في وجهه، وعلم مسبقا أن استعمال مادة السواد للشعر لا يجوز، كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يريد أن يستعمل مادة الحناء الحمراء، حتى لا تصبح لحيته حمراء بحجة أن هذه المادة يستعمله كبار السن من كهول؛ فماذا ينصح فضيلتكم. الجواب:- يسن تغيير الشيب بغير السواد، وسواء كبير السن أو المتوسط، والأفضل أن يصبغ بالحناء الأحمر، ويجوز أن يخلطه بالكتم، ليكون قريباً من السمرة، فلا يكون أسود خالصاً، ولا أحمر صرفا، بل أبلغ من الأحمر، ودون السواد، هذا هو الجائز، وتركه بلا صبغ جائز لأنه وقار، وروي أن إبراهيم أول من شاب، فقال: يارب ما هذا البياض، قال: هذا وقار. فقال: رب زدني وقاراً، والله أعلم.

السؤال:- لقد لاحظت في الآونة الأخيرة حدوث بعض ما ينقض الحياء في حفلات الزواج، كلباس يكشف الساعد واليد، وبعض الساق، وربما الأفخاذ، وكأن هذا الزواج هو تحلل عن كل أمور الشريعة، فما نظركم لتلك الفتيات والنساء، وآبائهن، وأزواجهن، وإخوانهن وغيرهم، فهل عليهم وزر في الصمت والمساعدة، وهل هناك حكم على من تفعل مثل ذلك الأمر؟ الجواب:- هذا الفعل محرم، وذلك أن المرأة عورة، ولا يجوز لها أن تلبس ما يبين تفاصيل جسمها، وأرجلها، وأيديها، ولا يجوز أن يبدو منها شيء من أعضائها عند الأجانب، ولا في المجتمعات العامة، ولو كان بين النساء، فإن اعتياد المرأة من زمن الصغر على مثل هذا اللباس يتحكم فيها، ويصعب عليها التخلص منه، ولا شك أن الولي كالأب والزوج الذي يساعدها على هذا التكشف يدخل في المعاونة على الإثم والعدوان، فلا يجوز له الترخيص لموليته في حضور هذه الحفلات التي فيها اختلاط، أو تكشف، أو إظهار شيء من البدن الواجب ستره ولو أمام النساء، والله أعلم.

السؤال:- لقد لاحظت في الآونة الأخيرة كثرة الأدوات، والأشياء المطلية بالذهب، في أمور عدة، كالساعات، والأقلام، وأيدي أبواب، وبعض الأواني، وأشياء كثيرة جداً، فهل هذه الأشياء حقاً مطلية بالذهب الحقيقي المعروف، وما حكمها؟ الجواب:- إذا تحقق أن هذا الطلاء من خالص الذهب فإنه يحرم استعمال هذه الأشياء، فلا يكتب بالقلم، ولا يستعمل أيدي الأبواب المذهب ولا يشرب في الأواني المذهبة، حتى ولو فنجان القهوة والشاهي أو الملعقة الخ، أما الساعة، والنظارة، والخاتم، فتصح للنساء دون الرجال، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم وضع مفرق الشعر المائلة؟ الجواب:- ثبت عن عاشئة رضي الله عنها قالت: كانت العرب تفرق، وكانت اليهود تعقص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة اليهود فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم أنه فرق بعد. والفرق هو قسم الشعر من وسط الوجه، فالفرقة المائلة مخالفة للعرف، ولفعل العرب، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهي شيء مستحدث، والظاهر أنها تقليد للغرب بما يلفت الأنظار، فيدخل في التشبه المحرم.

السؤال:- ما حكم وضع خصل من الشعر على الوجه؟ الجواب:- متى أصلح الشعر فإنه إما أن يعقص، بأن يرد إلى الخلف كله، وإما أن يظفر جدائل وقروناً كله، وهو التسريح المعروف، فأما نشره وتفريقه فهو شيء مستحدث، وكذلك وضع خصلة أو خصلات منه على الوجه تتدلي، بحيث تلفت الأنظار، فهو من الموضات الجديدة، فيدخل في النهي عن التشبه، فمن تشبه بقوم فهو منهم.

السؤال:- ما حكم لبس الفيونكة التي على شكل تسريحة في الشعر؟ الجواب:- أرى أن هذه الفيونكة صنعة مستغربة، وتقليد غربي، فتسريح الشعر هو مشطه وإصلاحه بالمشط، وإزالة ما فيه من التجعد والتعقد، ثم فتله وظفره بعد ذلك، وليس منه هذه الفعلة المستغربة.

السؤال:- ما حكم رفع جزء من الشعر على الرأس، ثم إسداله مع باقي الشعر؟ الجواب:- ذكرنا أنه يفضل فرق الشعر من وسط الوجه، وفتله على الجانبين، وهو فعل أمهات المؤمنين ومن بعدهن، فرفع جزء من الشعر إلى أعلى الرأس مستنكر، سواء كان من المقدمة أو أحد الجانبين، بل عليه أن يظفر من جهته، أما السدل الذي هو إرخاء الشعر وتدليته، فيجوز دون أن يرفع إلى جهة أخرى، إذا لم يحصل الفتل.

السؤال:- ما حكم لبس ربطة الشعر التي توضع على جبهة الفتيات؟ الجواب:- لا أرى بأساً بهذه الآلة التي تربط شعر الفتاة الصغيرة، مخافة تشعثه وانتشاره، سواء كانت فوق الوجه، أو من جهة الخلف، وإن استغني عنها بالفتل والظفر فهو أولى.

السؤال:- ما حكم نتف شعر الوجه بدون الحواجب؟ الجواب:- لا بأس بنتف شعر الوجه للمرأة، أو إزالته من الذقن، أو العنفقة، أو الخدين، أو الجبين، أما الحاجبان، فلا يجوز النتف ولا الإزالة لشعرهما، للنهي عن النمص، وهو نتف شعر الحاجبين أو تخفيفه.

السؤال:- ما هو أرفع حد لوضع التسريحة أو الكعكعة على الرأس؟ الجواب:- ورد تحريم وصل الشعر، ولعن الواصلة والمستوصلة وهو وصل الشعر بغيره، فأما التسريحة والكعكعة فإن كانت لإطالة الشعر فهي داخلة في النهي، وإلا فهي بدعة منكرة، وفيها صرف المال الكثير لمن يعملها، مع أنه لا جمال فيها والله أعلم.

المعاقين وفاقدي الحواس

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة المعاقين وفاقدي الحواس

السؤال:- ما الحكم إذا خص رب أسرة طلفة المعاق بالحنان والرعاية أكثر من أفراد الأسرة الآخرين؟ الجواب:- يجب على الوالد التسوية بين أولاده في العطية، والتمليك المالي، ويستحب له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض، أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم، بمعنى أن الجميع محبوبون، ولكن هؤلاء تزداد الشفقة عليهم والرقة نحوهم، فأما إذا استووا في الصحة والحضور والسن فالأصل التسوية، بينهم حتى كان بعض السلف يسوى بينهم في التقبيل إذا قبل واحداً منهم قبل الآخرين، من باب الشفقة والرحمة لهم جميعاً. السؤلا:- ما واجب الدولة تجاه المعاق الذي لا يستطيع العمل؟ الجواب:- على من عرف حاله من المسئولين أو من افراد الأمة أن يساعده ويعطيه ما يحتاجه، ويقوم بخدمته إذا علم أنه لا يقوم بها غيره، ولا شك أن الإعاقة تختلف، فالعادة أن الحكومة تهتم بالمعاقين، وتجري لهم مرتباً، أو تجعل لهم من يحضنهم ويربيهم، لكن إذا علم أن هناك من هو مهمل لم يكن له من يقوم بشأنه، فإنه يتعين ذلك على من عرف حاله من المسلمين.

السؤال:- ما حكم إجراء عملية لتعقيم الأشخاص المصابين بأمراض وراثية خطرة، ثبت انتقالها من السلف إلى الخلف، مع العلم بأن إجراء مثل هذه العملية لا تعطلهم عن القيام بأعمالهم اليومية كما أنها أيضاً لا تؤثر على أجسامهم أو عقولهم؟ الجواب:- ينظر في تلك الأمراض الوراثية، فإن كانت خطرة بحيث تعوقهم عن العمل للدنيا، أو العمل للآخرة، أو كانت مؤثرة على الأبدان بمرض شديد، يؤثر على البدن ضعفاً في الجسم، وألماً في الأعصاب أو العظام، أو تعطيل شيء من الحواس، كحاسة الشم أو الذوق، أو البصر، ويصعب مع ذلك علاجها، أو لا تزول بالعلاج، وكان من خطرها أيضاً انتقالها إلى الجليس والمخالط، وثبت أيضاً انتقالها إلى الفروع كالذرية انتقالاً محققاً، ففي هذه الأحوال يجوز أن يعمل لأولئك الأشخاص عملية التعقيم الذي هو قطع النسل، حتى لا يتأثر المجتمع بذرية يحملون تلك الأمراض الخطرة التي تعوقهم عن العمل، أو تؤثر في أبدانهم، أو عقولهم، فيكونون عالة وكلاً على المجتمع، مع الإيمان بأن قدر الله غالب، وأن التعقيم قد ينجح وقد لا ينجح، فكم من عقيم قد ولد، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في العزل، وقال: " ما عليكم أن لا تفعلوا فإنه ما من نفس منفوسة إلا الله خالقها " وأن الله تعالى قد علم عدد من سوف يولد، ومن سوف يخلق إلى يوم الدين، ثم لابد أن تكون تلك العملية لا تعوقهم عن أعمالهم اليومية، ولا تؤثر على أجسامهم، ولا على عقولهم.

السؤال:- ما رأيكم فيمن يقول: إن من أسباب الإصابة بالإعاقة الزواج المبكر، والولادة المتأخرة للمرأة؟ الجواب:- هذا غير صحيح، فإن في كثير من الدول والفرق يحصل الزواج المبكر، ففي فرقة الرافضة لا يتجاوز الشاب عندهم السابعة عشرة حتى يتزوج، وفي دولة اليمن يزوجون بعد البلوغ، وغالباً قبل العشرين، ولا يوجد هناك في الأولاد معوق إلا نادراً، كما يوجد في أولاد غيرهم، وأما المرأة فقد كانت في الزمن الأول تلد وهي عجوز، أي في الخمسين أو بعده، ولم يعرف في أولادها المعوق إلا نادراً، وبالجملة فهو قضاء الله وقدره، ولا ننكر أن يكون هناك أسباب معلومة أو غير معلومة يمكن العلاج لها، وقد لا تمكن معرفتها، ليعرف العباد عظم نعمة الله تعالى في تمام الخلق وإحسانه.

السؤال:- ما حكم استخدام بعض العبارات التي قد يقولها أحد والدي الطفل المعاق للاحتجاج على هذا القدر؟ الجواب:- لا مانع من الكلام مع الطفل المعاق بما يخفف عنه الحزن، وكذلك لا بأس بأن يتكلم أحدهما مع الناس بمثل قوله: هذا قدر الله وخلقه، ولا راد لما قضى، وقد رضينا بتدبيره، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقدر الله وما شاء فعل فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يخلق ما يشاء فاوت بين خلقه لتعرف نعمته، ويشكره المعافون، ويعترفون بفضله عليهم، فأبواه قد يصيبهما الحزن عند ما يولد هذا المعوق الناقص في الخلقة، ولكن يجب الرضاء بقضاء الله تعالى وقدره، ويحرم الاعتراض على الله في خلقه، والتسخط لعطائه، ويصبر ويحتسب، ليحصل له الأجر الكبير على تحمله ما تحمله من الأذى والتعب والمشقة، وفي ذلك خير كثير.

السؤال:- ينهج بعض آباء الأطفال المعاقين نهجاً معيناً، وذلك بإيواء أطفالهم بمراكز المعوقين الداخلية، ما موقف الدين الإسلامي من هذا التصرف؟ الجواب:- لا بأس بذلك، وحيث أن الحكومة أيدها الله تعالى قد أولت المعاقين عناية كبيرة، وهيأت لهم مراكز لتربيتهم وتغذيتهم وحضانتهم، والقيام بشؤونهم وحاجاتهم، فإن على الآباء أن يسجلوا أولادهم المعاقين في المراكز الحكومية، وذلك لراحتهم وإيوائهم ورعايتهم، وحتى لا يتكلفوا بنفقة الحضانة والعلاج ونحو ذلك، ومن اختار منهم أن يؤوي ولده في مراكز أخرى، أو يتولى علاجهم بنفسه فلا حرج عليه في ذلك، والدين الإسلامي لا يمنع من إيواء الطفل في مراكز داخلية أو خارجية.

السؤال:- ما حكم استغلال الوالدين للمعونات المقدمة من الدولة لابنهم المعاق بغير الإنفاق عليه. الجواب:- لا بأس بذلك، فإن الأب يملك التصرف في مال ولده، لحديث " أنت ومالك لأبيك " وعلى الوالد أن ينفق على ولده المعوق، ويستأجر من يحضنه، ويصرف عليه أجرة العلاج ونحو ذلك، ولا يجوز له أن يأخذ من ماله الخاص ما يضره أو يحتاجه، أو يعطيه ولداً آخر.

السؤال:- ما حكم استخدام الأعمي لـ (كلب) أو غيره كقائد له في سيره؟ الجواب:- لا يجوز استخدام الكلب قائداً، ولو جرب نفعه، فإن الكلب بهيمة لا يعقل ما نقول له، ولو فهم بالإشارة بعض الأشياء، وقد ورد النهي عن اقتناء الكلب إلا لصيد أو حرثٍ أو ماشية وأن من اقتناه لغير ذلك نقص من عمله كل يوم قيراط وعلىهذا فلا يجوز استخدام الكلب كقائد، فربما يذهب به إلى المزابل والجيف وأماكن القذر كعادته، وأما غيره فإن كان من الدواب كشاة وحمار وبعير فلا يصح ذلك، فإن الأعمى إذا صار خلف هذه البهائم فقد يتردى في حفرة أو يعثر بحجر ونحوه؛ فعليه أن يستأجر من يقوده إن لم يكن له ولد أو قريب في النسب يتولى قيادته إلى الأماكن التي يحتاج إلى زيارتها، أو يلزمه ذلك كالمساجد والمنازل، والله أعلم.

السؤال:- هل يسقط الجهاد عن الأعمى، والأعرج، وفاقد أحد الأطراف (اليد) وكذلك المجنون؟ الجواب:- قال تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) (الفتح:17) فهذه الآية في سورة الفتح، وردت في الجهاد، والمعنى أن هؤلاء لا يستطيعون الجهاد، فالأعمى يحتاج إلى قائد، ولا يبصر العدو أمامه، ولا يقدر علىالرمي، أو الضرب بالسلاح، لكونه لا يبصر ما أمامه، أما الأعرج فإن كان عرجه شديداً، فإنه يعوقه عن السير خلف الأعداء، وعن الهرب من العدو، ويكون ذلك سببا في قتله أو أسره، أما فاقد أحد اليدين، أو إحدى العينين فمثل هذا يستطيع الهرب، واللحاق بالعدو، ومزاولة القتال بالرمي والسيف ونحوه، فلا يسقط عنه القتال عندما يكون فرض عين، أما المجنون وهو فاقد العقل وناقصه، والمعتوه فلا يجب عليه القتال، مخافة أن يصرع في حال القتال، فيستولى عليه العدو، ومثله من يعتريه إغماء أو فتور كالمدخن أو سكر يغيب فيه عقله، فإنه في تلك الحال يسلم نفسه وسلاحه للعدو، مما يكون سبباً لحصول الضعف في المسلمين.

السؤال:- هل يجوز أن يكون الإمام (الحاكم) أعمى؟ وما حكم ولاية الأعمى؟ الجواب:- معلوم أن وظيفة الإمامة العظمى التي هي نصب إمام أو خليفة أو ملك يتولى أمور البلاد الإسلامية يدبر شؤون المسلمين في كل أماكنهم أن هذه الوظيفة من أهم الوظائف، فيختار لها الكفء، ومن تجتمع فيه الأهلية، من جميع الصفات، مثل السمع والبصر والعقل، والذكورة والحرية، والقوة والقدرة على التنفيذ ونحو ذلك، حتى يتمكن من التصرف وتنفيذ الأوامر ونحوها. فأما الولايات التي دون وظيفة الحاكم العام كالقضاء، والخطابة، وإمامة الصلاة ونحوها، فلا مانع من تولية فاقد البصر ونحوه مما لا يخل بالتصرف والفهم، وإدراك الحقائق، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي ابن أم مكتوم على المدينة في غزواته أو الكثير منها، فيقوم بالإمامة والخطابة والأذان ونحوها.

السؤال:- من شروط تولي القضاء أن يكون القاضي سميعاً بصيراً، هل البصر لازمٌ؟ الجواب:- ليس لازماً أن يكون القاضي بصيراً، فقد تولى القضاء كثير من المكفوفين، ولم ينقص ذلك في معرفتهم، وقد عرف بالعادة أن الأعمى يكون معه من الذكاء والفطنة والحفظ، ومعرفة الأصوات، والتمييز بين الناس ما ليس مع المبصر، فيقابل ذلك معرفة المبصرين للوجوه والأشخاص، وأما اشتراط الفقهاء في القاضي أن يكون بصيراً فأرادوا بذلك كمال الصفات وتوفرها عند الوجود، وإلا فلا خلاف أن الكثير من فاقدي البصر قد تولوا القضاء، وعرفوا ما يدلي به الخصمان بدون اشتباه، واعتبر قضاؤهم نافذا، والله أعلم.

السؤال:- ما كيفية اجتهاد الأعمى في تحري القبلة؟ وإذا لم يعرف الأعمى القبلة ولم يجد مخبراً عنها فماذا يعمل؟ الجواب:- عليه أن يعرف ذلك باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أي يسأل من حضر، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالإجتهاد الغاالب علىظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه، والله أعلم.

السؤال:- هل الأصم مأمور بجميع التكاليف، ومسؤول عنها مثل العادي؟ الجواب:- نعم بلا شك، لأنه مكلف بعقله وفهمه وحواسه، والغالب أن فاقد السمع فقط يمكنه السؤال، ويفهم بالإشارة، ويشاهد الناس يعملون الأعمال كالعبادات والمعاملات، وترك المحرمات، فهو مطالب بمثل ما يعملون، حيث يعلم أن تلك الأعمال لا يستثنى منها أحد من القادرين، أما إن كان قد فقد السمع في الصغر قبل أن ينطلق لسانه بالكلام، فهذا هو الأبكم، وهو أيضاً مكلف، فإن الله تعالى قد منّ عليه بالعقل الذي هو وسيلة إدراك المعاني، وبالبصر الذي به يميز ويعرف ما ينفعه وما يضره، فهو يفهم بالإشارة، وفي إمكانه أن يسأل، ويبحث عن الإحكام، ويعرف ما هو مطالب به، ويشاهد الناس فيطبق ما يفعلونه في العبادات، كالطهارة، وشروط الصلاة، وأداء العبادات، كالصلاة والصوم، والحج ونحوها، ويمتنع من المحرمات التي يشاهد الناس يبتعدون عنها، أو يعاقب من فعلها. فهو مكلف كغيره، وإن كان قد يعذر في بعض التفاصيل لأسباب ظاهرة كالقراءة والأذكار والأدعية ونحوها.

السؤال:- هل يجب على الشخص الأبكم أن يحرك شفتيه عند قراءة الفاتحة في الصلاة؟ الجواب:- عليه أن يتعلم من القراءة ما تصح به صلاته، فإذا كان لا يقدر فإن عليه أن يحاول الذكر والقراءة والدعاء بقلبه، وعليه تحريك شفتيه بقدر ما يستطيع، وإن لم يفهم اكتفى بالنية، وحضور القلب الذي يظهر منه خشوعه وإخباته، وسكون جوارحه في الصلاة كغيره.

السؤال:- ما حكم إستخدام الصور لتعليم الطلاب الصم أمورهم الدينية، مثل تعليمهم الصلاة؟ الجواب:- يجوز ذلك للحاجة الماسة، فإن الصم البكم لا يسمعون ولا ينطقون، فيلاقي المعلم صعوبة في إفهامهم وإيصال المعلومات إلى أذهانهم، ففي الصور المرسومة تقريب للمعنى، ووسيلة إلى تصور المراد، وإدراك المتصور منه كرسم القيام في الصلاة، وقبض اليدين على الصدر، وكتابة اسم (قيام) ورسم الركوع وكتابة كلمة (ركوع) وهكذا بقية الأعمال إذا توقف الفهم على الرسم، واستخدام الصور المرسومة، سواء على السبورة أو على ورقة ونحو ذلك.

السؤال:- الشخص المتخلف عقلياً البالغ هل يجب على النساء أن يتحجبن عنه؟ الجواب:- إذا كان التخلف شديداً، بحيث لا يعقل ولا يفهم، ولا يدرك المعاني وليس له الشهوة التي تبعثه إلى النظر واللمس ونحو ذلك، ولا همة له نحو النساء، بل هو كالطفل او أقل حالة، فلا حاجة إلى التحجب عنه، ويدخل في قوله تعالى (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) (النور:31) أما إذا كان يعقل بعض هذه الأشياء، وله ميل إلى النساء، ويظهر من كلامه أنه يحس بشهوة، فلا يمكن من دخوله على النساء، ويلزمهن التحجب عنه، لقصة ذلك المخنث الذي قال لأخي أم سلمة: إذا فتحتم الطائف فإني سأدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخل عليكن " رواه البخاري وغيره والله أعلم.

السؤال:- ما حكم إجراء الفحض الطبي للزوجين قبل الزواج؟ الجواب:- لا بأس بذلك إذا خيف من مرض داخلي، مما يؤثر على الصحة، ويمنع من راحة الزوجين، واستقرار الحياة والطمأنينة فيها، فربما كان في أحدهما مس أو صرع، أو مرض مزمن ولو سهل، كربو أو سكر أو بلهارسيا أو روماتيزم، وهكذا مرض العقم، وعدم الإنجاب، لكن إذا كان ظاهر الزوجين السلامة، والبيئة والمجتمع الذي هما به لا توجد فيه هذه الأمراض ونحوها فالأصل أن لا مرض ولا خوف، فلا حاجة إلى فحص طبي لكل زوجين، لكن إذا قامت قرائن، وخيف من وجود مرض خفي، وطلب أحد الزوجين أو الأولياء الكشف لزمه ذلك، حتى لا يحصل بعد العقد خلاف ونزاع.

السؤال:- هل يجوز أن يقوم بعملية العلاج الطبيعي لامرأة معاقة جسدياً رجل أخصائي في حالة عدم وجود امرأة متخصصة؟ الجواب:- يجوز ذلك عند الضرورة، ولا يجوز إذا وجد امرأة ولو بأكثر أجرة، أو أمكن التصبر حتى توجد امرأة، وذلك أن الضرورات لها أحكامها، فمتى كان هناك حاجة شديدة إلى العلاج للمرأة عند رجل، أو للرجل عند امرأة، جاز بقدر الحاجة فقط، ومعلوم أنه يحرم على الرجل أن يمس المرأة الأجنبية، لكن إذا كان هناك ضرورة جاز له أن يعالجها، كإنقاذها من الغرق أو الحرق أو الحادث ولو تكشفت.

السؤال:- ما حكم تعويض العامل (مادياً) إذا تعرض لحادثة معينة أثناء تأديته لعمله، وإصابته بإعاقة مستديمة كالشلل مثلاً؟ الجواب:- إن كان العمل بأجرة محدودة، والعامل أجير مشترك، كبناء وحفر ونقل تراب أو لبن، أو صعود أو نزول، فحصل أن سقط العامل أو انهدم عليه الحائط، أو سقط من شجرة، فلا ضمان على المستأجر، لأن العامل هو الذي أقدم على هذا العمل، وخاطر بنفسه، فإن كان المستأجر قد خدعه، ولم يوضح له الخطر، فلابد من ضمان ما حصل بسبب إيهامه، وعدم إيضاح الخطر في ذلك العمل.

السؤال:- هل للأعمى حضانة الطفل الصغير؟ الجواب:- يجوز ذلك إذا كان عنده امرأة تقوم بحضانة الطفل وتربيته، ولو كانت ضريرة أو كبيرة، فأما الرجل الأعمى فإنه لا يقدر على الحضانة بنفسه، فعليه أن يترك أطفاله عند أقاربه من النساء، والله أعلم.

النفقات

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة النفقات السؤال: هل عمل المرأة في البلاد العربية من الإسلام أم لا؟ وهل يجوز للمرأة الاختلاط بالرجال في بعض أنواع العمل؟ الجواب:- لا بأس أن تعمل المرأة في الدوائر الخاصة بالنساء، أو التي لا يحصل فيها اختلاط بالرجال، وذلك كالمدارس النسائية، وأقسام المستشفيات التي تعالج النساء، فأما أماكن الاختلاط فلا يحق لها العمل فيها كما لا يجوز لها التبرج والتكشف أمام الرجال، ولا الأكل في المطاعم المختلطة، وذلك حفاظاً على أنوثتها، وخوفاً عليها أن تفتن الرجال أو تفتتن بهم، لضعف المرأة وخطر النظر إليها والخلوة بها، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) . وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهن (يدنين عليهن من جلابيبهن) (الأحزاب:59) وقال (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) (النور:31) وقال (ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) (النور:31) وكل هذا شرع حفاظاً على المرأة، وخوفاً عليها من الفتنة، والله أعلم.

السؤال:- فضيلة الشيخ لي جيران يؤذونني كثيراً، وأحاول دائماً الإحسان إليهم، ولكن أجد القسوة، وإنهم يرون هذا الإحسان مني ضعفاً وخوفاً وأنا أعلم حق الجار، فهل أعاملهم بمثل عملهم، أو بماذا تشيرون علي؟ الجواب:- عليك أن تصد عنهم، ولا يضرك أذاهم، ولا تهتم بهم، فمتى سمعت منهم سباباً أو هجاء، أو عيباً أو ثلباً أو تنقصا، فلا تلفت إليهم: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمررت ثمت قلت لا يعنيني وإذ أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل وفي الحديث في صفة الإحسان (أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك وتجزي على الإساءة عفواً وغفراناً) والله أعلم.

السؤال:- امرأة توفيت منذ أيام، وهي أم لنا من الرضاعة، وأنا وكيلتها في جميع أمورها، حيث إنها تسكن معي في بيتي وليس لها إلا أبناء ولدها، وهم ثلاثة، أولاد وبنت واحدة، أبوهم متوفى وهم يعيشون مع والدتهم المطلقة منذ طفولتهم، وهي تملك أرضاً وبيتاً قديماً، ومبلغاً بسيطاً من المال، وبما أنها تعيش معي فكل ما يخصها عندي مما حيرني في كيفية إعطاء ورثتها تركتها، وماذا يجب علي أن أفعله بحيث لا أرتكب خطأ في حقها وحقهم جميعاً؟ الجواب:- عليك أن تحفظ مالهم، وتتصرف لهم بالتي هي أحسن، ولا تبع لهم عقاراً إلا بإذن المحكمة، حتى يبلغوا ويرشدوا، ثم ادفع لهم ما لهم بشهود أو بواسطة المحكمة، واحتسب تعبك وتصرفك أجراً أخرويا، وجزيت خيراً.

النكاح

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى متنوعة النكاح

السؤال:- ما هو الإنشاد في العقيدة الإسلامية؟ وما حكمه بالنسبة للرجال والنساء والجويريات اللواتي لم يبلغن المحيض؟ الجواب:- النشيد هو قراءة القصائد إما بصوت واحد أو بترديد جماعتين، وقد كرهه بعض المشايخ، وقالوا: إنه من طرق الصوفية، وأن الترنم به يشبه الأغاني التي تثير الغرائز، ويحصل بها نشوة ومحبة لتلك النغمات، ولكن المختار عندي جواز ذلك إذا سلمت من المحذور، وكانت القصائد لا محذور في معانيها، كالحماسية والاشعار التي تحتوي على تشجيع المسلمين على الأعمال، وتحذيرهم من المعاصي، وبعث الهمم إلى الجهاد، والمسابقة في فعل الخيرات، فإن مصلحتها ظاهرة وهي بعيدة عن الأغاني، وسالمة من الترنم ومن دوافع الفساد.

السؤال:- ما حكم إجابة الدعوات التي يحصل فيها بعض المنكرات مثل المراويس والطبول، علماً بأن الداعي إلى حضورها من المقربين، وفيها تلك المنكرات؟ الجواب:- لا يجوز إجابة مثل هذه الدعوة مع ظهور هذه المنكرات، وكذا إذا ظهر شرب الخمور أو الدخان أو الأفلام الخليعة أو الاختلاط بين الرجال والنساء، أو التبرج والسفور، لكن إذا كنت قادراً على إزالة المنكر أو تخفيفه، أو إذا حضرت احترموك وتركوا هذه المنكرات فعليك الحضور لذلك، وإلا فلا تحضر ولو كان من الأقارب إلا بشرط إزالة المنكرات.

السؤال:- هل ينكر على من حضر إلى تلك المنكرات ولم يحصل منه إنكار وقد تكرر حضوره إلى تلك الأماكن عدة مرات؟ الجواب:- ينكر على من حضرها وأقرها، فإن ذلك من إقرار المنكرات، وسواء تكرر حضوره أو لم يتكرر، فلا يجوز حضور مثل هذه المنكرات إلا بشرط إزالتها أو الإنكار على أهلها أو البعد عنها.

السؤال:- إذا كان المدعو يحضر إلى المنكرات ولم يحصل منه إنكار علماً بأن عنده علم جيد هل لنا أن ننكر عليه، حيث إنه يقول إن هناك فرقاً بين السماع والاستماع، وهذا الكلام كما تعلمون ليس عليه دليل، فهل يترك هذا الشخص على ما هو عليه، أم لابد من مناصحته إبراء للذمة؟ الجواب:- من حضرها ولم ينكر وادعى الجواز واحتج بأن هناك فرقاً بين الاستماع والسماع فلا حجة له، بل عليه أن ينكرها إذا كان معه علم وقدرة على إبطال شبهتهم وعليكم الإنكار عليه، وتحذيره من الإقرار على المنكرات، ولو بالبعد عنها، وعدم المداهنة لأهلها، ولو كان من ذوي القربى، والله أعلم.

السؤال:- رجل طلب من زوجته أن ترقص له فرفضت إلا إذا كان هناك موسيقى ترقص معها، فهل لو استجاب لطلبها يكون آثماً بذلك؟ الجواب:- لا يجوز استعمال الموسيقى، ولا إقرارها، سواء بين الزوجين أو غيرهما، كما أن أمر هذا الرجل امرأته بالرقص أمامه لا يستحسن، ولا فائدة فيه لهما، والأصل أن المرأة تجمل لزوجها، ولا يصل إلى هذا الحد.

السؤال:- رجل سافر إلى بلد أجنبي لطلب المعيشة، ولا تتم حصول الإقامة والعمل في هذا البلد إلا بعد الزواج بالكافرة إما كتابية أو غيرها. ومن ثم يحصل الشخص على الإقامة والعمل، فهل يجوز له أن يتزوج للضرورة أم لا؟ علماً بأنه ترك عائلته في بلده، ومنهم من ليسوا بذوي العوائل كالشباب، وهل يجوز لهم الزواج منهم؟ الجواب:- لا شك أن الزواج بالكافرة فيه خطر كبير على الزوج، فكثيراً ما تدخل عليه الكفر أو المعاصي، وقد يولد له أولاد يدخلون في دين أمهم، ولا يستطيع تخليصهم، لكن إذا كان مضطراً إلى الإقامة هناك طريداً أو شريداً، لا مأوى له ولا بلاد، بل كل البلاد تبعده وتطرده، إلا هذه الدولة الكافرة التي شرطت عليه هذا الشرط، فإنه يجوز، ولا نقول: إن الزواج بالكتابية المحصنة حرام، بل هو مباح كما ذكر في القرآن، وإنما نقول: إن الإقامة هناك ذريعة إلى إقرار الكفر أو تحسينه، والله أعلم.

السؤال:- هل الرجل من أهل الجنة يتزوج بثنتين من الحور العين، أم أنه يزوج بأكثر من ثنتين؟ الجواب:- ورد أنه يزوج من دخل الجنة اثنتين من نساء الدنيا، ومن الحور العين نحو سبعين حورية، ولعل أهل الجنة يتفاوتون في ذلك، وليس في الجنة أعزب، وقد ذكر الله في القرآن مالهم من ذلك كقوله تعالى (وزوجناهم بحور عين) (الطور:20) وقوله (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) (الزخرف:70) ونحو ذلك كثير، والله أعلم.

السؤال:- بعض النساء ينبت لها شعر في الوجه كلحية خفيفة، وشعر في القدمين، ويؤثر في مظهرها فهل لها حلقه؟ الجواب:- لا بأس بإزالته بالموسى أو بالنورة، أو بالمزيل، لأنه يشوه المنظر، وإنما أمر الرجل بإعفاء اللحية لأنها فارقة بين الرجل والمرأة، ولأن من طبع المرأة اللين، والرجل الخشونة في الوجه ونحوه، فلا أرى مانعاً من إزالة المرأة ذلك.

السؤال:- شخص يريد أن يتزوج، ولكن أخوه الذي أكبر منه لم يتزوج، وهو معرقل عليه، وذلك لظروف ومشقة المعيشة. فماذا يفعل مأجورين؟ الجواب:- إذا قدر وتيسر له ذلك فلا يعوقه أخوه فكل منهما مسؤول عن نفسه، فقد يكون أقوى شهوة، وأشد حاجة من أخيه الأكبر، والله أعلم.

السؤال:- متى تستحق المرأة الصداق كاملاً؟ الجواب:- إذا سمي لها الصداق عند العقد، أو بالاتفاق بين الزوج وولي المرأة، ثم عقد عليها ملكت الصداق بمجرد العقد، فإن طلق قبل الدخول رجع له نصفه، فإن دخل بها الخلوة الشرعية فإنها تملك الصداق كله، أما إذا عقد ولم يذكر الصداق فمتى دخل بها فلها صداق مثلها، تملكه بالدخول.

السؤال:- لي خالة ملتزمة بدين الله، نحسبها كذلك والله حسيبها، تقدم لخطبتها شاب من أبناء قريتنا، فوافقت على الزواج منه، ثم حصلت بعض الأمور التي منعت وقوع الزواج، وحاولنا دون فائدة، فذهب ذلك الشاب ولم يعد، فندمت خالتي عليه وتعبت كثيراً، وعمرها الآن ما يقارب العشرين سنة ثم تقدم لها شاب آخر ملتزم، نحسبه كذلك والله حسيبه، فوافقت على الزواج منه، رغم أنه متزوج قبلها بإمرأة أخرى له منها ثلاثة أولاد، ومضى على زواج خالتي بذلك الرجل تسعة أشهر، ولكنها لم ترتح معه نفسياً، وربما أحياناً تفكر في رجل آخر وهي في عصمة زوجها، أقصد بالتفكير هنا أن تطلب الطلاق من أجل الزواج برجل آخر. هل يحق لها طلب الطلاق، وهل تأثم بذلك، علماً بأنها تخاف الله في ذلك؟ الجواب:- أرى أن تنصح خالتك عن طلب الطلاق، وأن تحثها على الصبر والتحمل فقد ورد في الحديث (أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" وحيث أن زوجها المذكور قد عدل في القسمة، وأعطاها حقها من النفقة والكسوة، والعشرة الطيبة، وحسن الخلق، ولم تشاهد منه ما يسيء بقاءها معه، وإنما رأت أنه دين صالح مستقيم، ولكن عنده زوجة أخرى ولم تر من زوجته ما يضرها، فلا مسوغ لطلب الطلاق، فهذا ما أراه مناسباً لها.

السؤال:- زوجتي كثيرة الجحد لما أقدمه لها، فدائماً تقول: لم نر منك خيراً. وأنا لا آلو جهداً في تحقيق الطلبات، وإن كانت طلباتهم الباقية كمالية، فماذا أصنع معها، فقد أتعبتني وأكثرت اللوم علي؟ الجواب:- قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة النساء "أنهن يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط". وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهن بذلك أكثر أهل النار، فعليك نصحها وتخويفها من النار، وتذكيرها بإحسانك إليها، ومسارعتك في تلبية طلباتها الكمالية، فضلاً عن الضرورية، وتحذيرها من كفران العشير، وجحد المعروف، ومتى أصرت على الجحد وإنكار الخير فلا يهمك ذلك منها، حيث أديت الواجب وزيادة.

السؤال:- أنا فتاة في الثانية والعشرين من عمري، وقد توفيت أمي وأنا صغيرة، وعشت سنين مؤلمة تحت وطئة زوجة أبي التي لا ترحمني أبداً، بل تضايقني بكلمات سيئة، وأنها تستطيع الضغط على أبي في تزويجي من تشاء، فكيف أصنع معها، وهل أقبل بأي خاطب تخلصاً من ظلمها؟ الجواب:- بعدأن بلغت هذا السن فقد تكامل عقلك، وعرفت ما فيه المصلحة، وفي الظاهر أنك أعرف من زوجة أبيك، حيث قد درست وتعلمت ما فيه الخير، من العلوم الدينية والأدبية، فلا تخضعي لتصرفات أحد، ولا للمضايقة والإضرار، بل تستطيعين التخلص من الضنك والشدة، ولا يهمك ما تسمعين من الكلام المسيء بل عليك، أن تعتذري إلى أبيك، وتشرحي له الحال، فإن لم يصدقك فأنت أخبر بنفسك، ومتى تقدم خاطب كفء فاقبلي، ولو لم تقبل زوجة أبيك، فهي لا تملك أن تتصرف في حقك، وبالإمكان أن تعرفي من يناسبك من الأزواج، وتقبليه دون الرجوع إلى رأيها أو سماع قولها في المدح والذم، والله أعلم.

السؤال:- أنا عندي طفلان الأول عمره ست سنوات، والثاني سنتان ونصف، ونسكن في سكن فوضوي، ليس عندنا سكن وزوجي لا يريد مني أن أنجب مرة ثالثة، وأنا أريد، وهو يمتنع ويقول: حتى يكون عندنا سكن. فهل هذا حرام في الدين أم لا؟ مع العلم أن أبنائي مرضى من السكن والرطوبة التي في البيت، لأن سقف البيت غير عادي، وأمام السكن البحر، وخاصة في الشتاء يمرضون كثيراً. الجواب:- لا بأس بطاعة الزوج في استعمال مانع الإنجاب، لما ذكر من ضيق الحال، مع العلم أن الأولاد ليسوا سببا في الفقر، بل كثيراً ما يحصل الرزق مع وجودهم، لقوله تعالى (نحن نرزقهم وإياكم) (الإسراء:31) . وعليكم السعي في تجديد السكن، أو استبداله، مع تقوى الله ورجائه (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) (الطلاق:2) كما أن عليكم اتقاء المرض والبعد عن أسبابه، فالوقاية خير من العلاج، والله الموفق.

السؤال:- أنا امرأة متزوجة، ولي أولاد وبنات، ومشكلتي أن زوجي يسرق من الذهب الخاص بي، والذي اشتراه لي أهلي، ولقد تظاهرت بالنوم ذات مرة، ورأيته يفعل ذلك فهل أصارحه أم أسكت حفاظاً على الأسرة، وبماذا تنصحونني؟ الجواب:- يفضل أن تحفظي ما يخصك من الحلي ونحوه، وخصوصاً إذا اشتريته أو اشتراه أهلك، فإذا اختلس زوجك منه شيئاً فأظهري له الإستياء عند فقده، وأظهري التبرم والتحسر على ما ضاع منه أو سرق، وأوصيه أن يبحث عنه، أو يعوضك بدل ما ذهب من الذهب، وأرى أن لا تصارحيه بأنه هو الذي أخذه، ولو كنت على يقين من سرقته، حفاظاً على مصلحة الاجتماع وبقاء الأسرة، وأن تعذريه إذا أخذ منه شيئاً لحاجة عارضة، فقد تنزل به فاقة شديدة يضطر معها إلى بيع شيء مما يملكه، أو يقدر عليه في منزله، ولعله أن يرده بعد أن يوسر به ولو بعد حين، والله أعلم.

السؤال:- أنا امرأة متزوجة، ولي أربعة أطفال ولله الحمد، ومشكلتي أنني قد ابتليت برجل يشتري المخدارت ويتعاطاها، وقد خصص غرفة في المنزل بهذه السموم، وأنا أخاف على نفسي وأولادي منه إذا سكر، وكلما نصحته أو هددته بفضحه وكشف أمره هددني بالطلاق، فكيف أصنع معه؟ وأنا أعيش الآن في رعب منه؟ الجواب:- لا تصبري معه على هذه الحال، فإنه سوف يضرك ويضر أولادك، فعليك أن تفضحيه، وتدلي عليه لجنة المكافحة، وقبل ذلك أخبري أهله أو أهلك إن رأوا نصيحته وتخويفه أجدى، فمتى لم يرتدع، واستمر على أخلاقه وتعاطيه هذه المخدرات التي تقضي على العقل والبدن، فإن البقاء معه لا يجوز، لما فيه من الخطر على زوجته وأولاده من القتل، أو الضرب، أو على المال من الإتلاف والإفساد، ولما فيه من الإسراف وصرف الثمن الكثير فيما هو ضار على الصحة، ومذهب للعقل والمعرفة، ففي فضيحته زجر له ولأمثاله، ولو ادى ذلك إلى سجنه الطويل، أو تعذيبه، ومتى هدد بالطلاق فلا بأس، فإن إيقاع الطلاق منه أولى من البقاء معه على هذه الحال، وهكذا لو طلق فإنه المتضرر، حيث أنه سوف يبقى بدون زوجته، والعادة أنه يفتضح فلا يرغبه النساء ولا الأولياء، وسوف يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً، فأنقذي نفسك وأولادك من هذا الخطر الكبير، والله أعلم.

السؤال:- أنا رجل رزقني الله مجموعة من البنات، ولقد تقدم لهن من الخطاب الكثير، ومشكلتي معهن أنه إذا جاء خاطب لأي منهن تعذرت بالدراسة، وردت الخاطب رغم أنه كفء، فيما أرى. وإني أخاف من الترديد أن يفوت الكفء فهل لي إلزامهن بالزواج إذا كان المتقدم كفئاً؟ وجهوني بارك الله فيكم؟ الجواب:- لا يجوز الاعتذار بالدراسة، ففي الإمكان المواصلة بعد الزواج، كما هو الواقع، فالتأني له آفاته، فكثير من الطالبات بعد التخرج لم يتقدم لها من تريده من الشباب، بل عزفوا عنها لتقدم السن، فبلغت الثلاثين أو الأربعين، فمنهن من تزوجت كبيراً، ومنهن تزوجت من معه ضرة أو عدد ضرات، ومنهن من بقيت بدون زواج، فندمت حين لا ينفع الندم، فأنا أقول: عليك أن تحرص على تزويجهن متى تقدم الكفء الكريم، لحديث "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" فإن امتنعن فعليك أن تهددهن بالفصل من الدراسة، خوفاً عليهن من البقاء إلى العنوسة، واحرص أن تفعل الأصلح للجميع، والله الموفق.

السؤال:- أنا رجل متزوج، ولي زوجتان ولكن إحداهما كبيرة في السن، لا حاجة لها بالرجال، فهل يلزمني القسم لها من حيث المبيت معها؟ وإذا رضيت بتركه وطلبت مني إعفاءها من المبيت معها؟ فهل يلحقني ذنب؟ أفتونا مأجورين؟ الجواب:- لا شك أن الحق في القسم للزوجة، وأن القصد منه الأنس والمحادثة، والملاطفة والمجالسة التي يكون من آثارها إثبات المودة، والمحبة المذكورة في قوله تعالى (وجعل بينكم مودة ورحمة) ((الروم:21) . وليس القصد هو الجماع، وحده ومتى سمحت إحدى الزوجات بالمبيت، وأعفت زوجها من ذلك، فإن الحق لها وقد أسقطته، وحينئذ لا يلحق الزوج إثم إذا جعل يومها للضرة، أو لإحدى زوجاته، وقد ثبت أن سودة أم المؤمنين وهبت ليلتها لعائشة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة ليلتين فإذا رضيت الزوجة أن تبقى مع أولادها في عصمة الزوج، وأعفته من حقها في المبيت، فله أن يجعله لزوجته الأخرى، والله أعلم.

السؤال:- نحن ثلاث أخوات مدرسات، ووالدنا يرفض تزويجنا، وكل ما جاءه خاطب أظهر فيه عيباً طمعاً في مرتباتنا، فهل له ذلك؟ وكيف نصنع؟ أفتونا مأجورين؟ الجواب:- لقد أخطأ والدكن في رفض تزويجكن ورد الأكفاء المتقدمين للخطبة، فعليكن تخويفه من الإثم، ونصحه عن هذا الرفض، فقد ورد في الحديث (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) وعليكن أيضاً إخبار أعمامكن وأخوالكن رجاء نصحه وزجره عن هذا الرفض الذي فيه ضرر عليكن وتفويت لمصلحتكن، وذلك أن المرأة إذا كبر سنها وهي لم تتزوج لم ترغب فيها الأزواج، وذهب عمرها، وضاعت عليها حياتها، ولا شك أن للمرأة رغبة وشهوة في النكاح وفي الولد ولابد أن تميل إلى الرجال إذا لم تحصن، ولا يؤمن عليها الضرر والمشقة، فلا يجوز حبسها عن الأكفاء، ولا يجوز التعلل بعيوب لا حقيقة لها، ولا يجوز، إمساكها لأجل مرتبها، ويمكن أن تتزوج وتفرض لوالدها بعض الراتب شهرياً، حتى يغنيه الله تعالى، ومتى استمر على رفضه بعد النصح والتخويف والوعد والوعيد ففي الأمكان التراقع إلى محكمة الأنكحة بأن يتقدم الخاطب مع الزوجة أو مع أحد أقاربها ودور المحكمة أنها تحضر الوالد وتلزمه بالعقد عليها، فإن أصر فإن للقاضي عزله عن الولاية، وتولية غيره، أو يعقد لها القاضي ولو كان الوالد ساخطاً إذا عضل موليته، لقول تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) والله أعلم.

السؤال:- أنا فتاة في الخامسة والعشرين من عمري، وقد تقدم لي خاطب فرفضه والدي، لأنه جاء عن طريق أمي وأخوالي، رغم أنه شاب ملتزم، فهل له الحق في هذا؟ وهل لأخي الكبير تزويجي إذا رفض أبي الكفء؟ الجواب:- لقد أخطأ الوالد في رفضه للزواج، فلا حق له في هذا الرفض، ولا عذر له في كون هذا الشاب جاء عن طريق أخوالك إذا لم يكن فيه عيب سوى أنه عن طريق الوالدة والأخوال، وحيث تقدم بك السن ولم تتزوجي، فلا يحق للوالد التأخير، فإن ما بعد هذا السن تقل الرغبة في الزوجة، ويؤدي حبسها إلى بقائها زمنا طويلاً بلا زوج، أو اضطرارها إلى الزواج بمن لا تريد كالكبير والمتزوج، وعلى هذا فانصحوا هذا الوالد، ويكلمه برفق من ينصحه من الأخ والأخوال، والأقارب ومتى أصر على العضل فإن محكمة الأنكحة تحضره إذا رفع إليها الخبر، وتكلفه بالعقد لها، أو تولي غيره كالأخ الكبير، أو العم وغيرهما.

السؤال:- زوجي ينقل كلامي لأهله ثم يأتي إلي بكلامهم، فيترتب على ذلك مشاكل كثيرة، ولقد طلبت منه كثيراً ترك ذلك لكنه لم يمتثل، فكيف أصنع؟ الجواب:- هذا الفعل يسمى نميمة، وهي نقل الكلام على وجه التحريش والإفساد ويسمى أيضاً العضة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم (ألا أنبئكم ما العضة هي النميمة القالة بين الناس) وأما الوعيد فقد قال تعالى (هماز مشاء بنميم) (القلم:11) هذا في وصف بعض أهل النار وقال تعالى: (ويل لكل همزة لمزة) (الهمزة:1) وهو النمام وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة نمام) . وفي الأثر (إن النمام يفسد في الساعة ما لا يفسد الساحر في السنة) . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن النمام يعذب في قبره) ولا شك أن التحريم يكون أشد إذا كان بين الرجل وزوجته وأقاربه، فعليه الخوف من الله تعالى والمراقبة له، والبعد عن الأسباب التي توقعه في العذاب العاجل والآجل، وعليه أن يجتنب الكذب والغيبة والنميمة، والبهتان والتحريش بين الناس، وأن يعدل إلى الصدق وصيانة الأعراض، والخوف من الله ومراقبته، فهو شديد العقاب، والله أعلم.

السؤال:- زوجتي مدرسة، وتعمل بإحدى المدارس بوزارة التربية والتعليم، بإحدى الدول العربية، وهي تلتزم والحمد لله بالزي الشرعي، إلا أنها لم تغط وجهها، نظراً لأن قانون تلك البلد يحرم دخول المدرسات إلى المدرسة إلا بعد أن تكشف وجهها، وأنا الآن في حرج من ذلك، علىالرغم أن عادة هذا البلد هو كشف الوجه، فهل تستمر في العمل وهي تكشف وجهها، وليس عليها إثم مع العلم أنها تعمل في مدرسة بنات. أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً. الجواب:- عليها أن تحرص على التستر في الأسواق، وفي الطرق، وفي السيارة، ونحو ذلك مما لا يلزمونها بالكشف، فإذا قربت من المدرسة فلها الكشف عند الدخول، ولها الكشف داخل المدرسة، حيث إن المجتمع كلهن نساء كاشفات كما لها الكشف في منزلها عند النساء أو عند المحارم، فلها أن تستمر في هذا العمل، حيث لا يكون الكشف إلا عند دخول المدرسات إلى المدرسة، ولا يلزمونها في بقية الأماكن، فيعفى عن ذلك المكان الخاص للضرورة، وبقدر الحاجة، والله أعلم.

السؤال:- أنا فتاة يتيمة أعيش عند زوجة أبي، وزوجة أبي سامحها الله تكيل لي التهم، وتعمل لي مشاكل كثيرة. تتظاهر عند أبي بالطيبة، والمشكلة أنه يصدقها، وتهددني بأنها سوف تضغط على أبي أن يزوجني لأي خاطب، فكيف أصنع؟ أرشدوني جزاكم الله خيراً؟ الجواب:- هذا من جملة الابتلاء والامتحان الذي يسلطه الله على بعض الناس، ولعل ذلك يكون فيه أجر كبير، وثواب على الصبر والتحمل، فعليك أن تنصحيها وتخوفيها عذاب الله وعوقبته، فإن الله عزيز ذو انتقام. وعليك مع ذلك أن تحسني عشرتها وصحبتها، وتتحاشي أذاها، وتدفعين السيئة بالحسنة، وتخالقينها بحسن الخلق، رجاء أن ترجع إلى رشدها وتعرف خطأها، فأحسني إليها ولو أساءت، وصليها ولو قطعت، وانصحي لها ولو خانت، وعليك أيضاً، أن توصي بعض الأخوات بنصحها وتوبيخها، وتذكريها بعذاب الله، وتحذريها من عقوبة الكذب والظلم، وأن الظلم ظلمات يوم القيامة. وهكذا فافعلي مع والدك إذا انفردت معه، عليك أن تعتذري منه، وتشرحي له الحال مفصلة، وعليك مع ذلك الحرص على بر الوالد وخدمته وطاعته، فقومي بكل ما يمكن من خدمته والإحسان إليه، وحذريه من الظلم وسوء الظن، وتصديق الكذب، وهكذا يحسن أن تتوسطي بأحد أقارب الوالد من ذكر أو أنثى، ممن يشرح له الحال، وينصحه عن تصديق الكذب، وعن سوء الظن، ولعل في ذلك ما يخفف ما أنت به من العذاب، وعليك إحسان الظن بالله تعالى، وأنه يجعل بعد عسر يسرا، فأكثري الدعاء والعبادة، وتقربي إليه بأنواع الطاعة، والاستعاذة من الهم والغم، وسوء الأخلاق، وشماتة الأعداء، وقهر الرجال، وجهد البلاء، والله يجيب من دعاه.

السؤال:- أردت أن أتقدم لخطبة فتاة، وعندما أقدمت على ذلك علمت من أقارب لها أن شخصاً معيناً متقدم لخطبتها، وهم الآن في مرحلةالسؤال عن هذا الشخص، ولم يرفض ولم يقبل، فهل يجوز لي أن أتقدم، أو أعرض نفسي على تلك الفتاة في هذه الفترة، ثم تختار هي الأنسب لها في دينها ودنياها، أم لا يجوز؟ أفتونا في ذلك جزاكم الله خيراً. الجواب:- لا يجوز لك أن تخطبها إذا كان غيرك من الأكفاء قد خطبها، ولو كان دونك في الرتبة أو الخير، فقد قال صلى الله عليه وسلم (ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يذر) فإذا علمت أنهم ردوه ولم يقبلوه، أو اعتذروا عنه، فلك أن تتقدم، وإلا فالنساء سواها كثير، وذلك لأنك بالخطبة على خطبة أخيك تحرمه شيئاً سبق إليه، ومن سبق فهو أحق، ثم تكون خطبتك إذا قدموك ومنعوه سبباً في وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين، فيحقد عليك هو وأهله، وتقع الشحناء بين المسلمين، وقد أمر الله بالمحبة والمودة، والتراحم والتعاطف الذي يحصل به التعاون على البر والتقوى، والله أعلم.

السؤال:- زوجي رجل كريم، لكن كرمه زاد عن حده، فوصل إلىدرجة الإسراف، فإذا ناقشته في ذلك قال: ما أحد رائح إلا بكفنه، رغم اننا نسكن في بيت أجار، فهل له الحق في هذا التبذير، وكيف أتعامل معه، حيث لم ينفع معه النصح؟ الجواب:- لا يجوز هذا العمل، فإنه سفه وإفساد للمال المحترم في غير شيء ضروري، فالمال لا يحصل لكل أحد، ولا يحصل إلا بعد تعب، والإنسان عليه أن يقتصد في النفقة، ويبعد عن الإسراف، لقوله تعالى (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) وقد نهى الله تعالى عن التبذير الذي هو إخراج المال فيما ليس بضروري، فقال تعالى (ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا اخوان الشياطين) فالله لا يحب المسرفين، والمبذرون إخوان الشياطين والإنسان يحفظ ماله لحاجته ويحرص على تأمين سكنه، ولو كان لا يروح إلا بكفنه فهو منهي عن الإفساد في المطعم والمشرب، والملبس والمركب، وسائر النفقات الزائدة عن قدر الحاجة، والله أعلم.

السؤال:- أنا امرأة متزوجة، وأعيش مع زوجي حياة مستقرة، غير أن أخوات زوجي يخلقن لي المشاكل، فكل ما يزرنني يخلقن لي مشاكل، فإن أبيت استقبالهن غضب زوجي وإن استقبلتهن فتحن لي باب المشاكل، فماذا أفعل؟ أرشدوني وجزاكم الله خيراً. الجواب:- أرى أن تتحملي هذه المشاكل، وأن تكثري من نصحهن وتخويفهن، ووعظهن عن خلق هذه المشاكل، وتخبري زوجك بفعلهن وما يحصل بسببهن لعله يقوم بالنصح والتحذير لهن، رجاء أن يرتدعن عن هذه المشاكل، مع الصبر والتصبر، فهو خير من التقاطع، والمنع من الزيارة للأقارب، والله أعلم.

السؤال:- أنا موظف متوسط الدخل، وزوجتي مصابة بحب المظاهر، وتقليد الآخرين، وهذا يكلفني كثيراً، فظروفي المادية لا تسمح بذلك، فإذا دخلت معها في نقاش حصلت مشاكل كثيرة، فماذا أصنع معها؟ الجواب:- أنصحك بالاقتصاد، والاقتصار على الأشياء الضرورية، وعدم التمادي مع الزوجة في الأشياء التي لا حاجة إليها، وعليك إقناعها بأن الإسراف إفساد للمال، وتعريض لكم إلى الاستدانة، وشدة الحاجة، فالله تعالى لا يحب المسرفين، والمبذرون هم إخوان الشياطين، وقد قال تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً، وارزقوهم فيها واكسوهم، وقولوا لهم قولا معروفاً) (النساء:5) فعليك بنصحها وإقناعها، والقناعة كنز لا يفنى. (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) (الذاريات:58) .

السؤال:- أنا شاب تزوجت بامرأة، ولما دخلت بها لم أجدها بكرا. فظلت تبكي بعدها، وسردت لي كثيراً من الحكايات عن هذا الموضوع التي تبرر فعلتها. فأخذت على نفسي عهداً أن استرها أبغي الأجر والثواب من الله. ولكن الآن أنا في حيرة من أمري هل ستلتزم بعد ما سترها الله، أم تتمادى في أفعالها. وهل هي صادقة معي أم لا؟ وهل إذا طلقتها أكون قد ظلمتها؟ وهل أخبر أهلها؟ الجواب:- لك أن تسترها إذا رأيت أن كلامها مقنع، وأنها ستكف عن فعلها، ولا تعود إلى فعل الفاحشة، وأن سترها فيه خير، فمن ستر مسلماً ستره الله، ولعلك في إمساكها تعفها عن الحرام، وتقوم بحاجتها، وتكون لك زوجة صالحة، فإن ظهر لك إنها غير عفيفة، ورأيت منها التطلع إلى الرجال، والاتصالات المشبوهة، والمكالمات والمعاكسات، فالطلاق والفراق أولى بك، حفاظاً على فراشك، والله أعلم.

السؤال:- إنني متزوجة، ومقيمة مع زوجي والحمدلله، ولي إخوة ثلاثة اثنان منهم متزوجان وساكنان في بيت الوالد بين إخوتي جميعاً، أي أن كل أخ له غرفة هو وزوجته في هذا البيت، وزوجات إخواني لا يحتجبن من أخ الزوج، ويظهرن بكامل زينتهن أمامه، مما أدى ذلك للوقوع بالفاحشة بين أخي وزوجة أخي الثاني، ولما ذهبت لقضاء إجازتي هذا العام في بلدي فاجأتني زوجة أخي وهي تبكي على ما حصل، وهي الآن تمكنه من نفسها خوفاً من أن يبلغ زوجها، فتصعد تلك المشكلة، وربما يفقد أحدهما الآخر، وقد أعلمت أبي عن ذلك، ولكن دون جدوى، وأنا خائفة جداً من الفضيحة، فبماذا تنصحونني أن أعمل معهم، حيث إنني والله لا أنام الليل إلا قليلاً، وأنا أفكر بهذا الموقف ومصيره، أرجو من فضيلتكم رأي الشرع بهذا العمل، وبماذا تنصح تلك المرأة وأخا زوجها، بارك الله فيكم ووفقكم لكل خير. الجواب:- لا يجوز السكوت على هذا، بل عليك أن تنصحيها بالامتناع من فعل الفاحشة، ولو أدى ذلك إلى أن يبلغ زوجها، وعلى الزوجة المذكورة أن تتحجب عن أخي الزوج المذكور، وكذا الزوجة الثانية، ويحرم عليها التبرج أمامه، حيث إن هذا مما يسبب الوقوع في الفاحشة كما حصل، ولها أن تطلب منزلاً، بعيداً عن هذا الذي فعل معها الفاحشة، وأنت عليك أن تنصحي أخاك المذكور ولو سرا، وتهدديه بإخبار أخيه وأبيه إن لم يمتنع، فإن هذا محرم شرعاً مع البعيده، فكيف بزوجة الأخ القريب، والله المستعان.

السؤال:- زوجي كثير اللعن، كثير الوقوع في أعراض الناس، رغم أنه من المحافظين على الصلاة، بل والنوافل، لكن به ذلك العيب، ولقد نصحته ولم يمتثل، فما توجيه فضيلتكم لي؟ الجواب:- عليك أن تكرري النصح له والتخويف من العذاب، فقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) أي لأن الإيمان الكامل يمنع صاحبه من إطلاق لسانه في الطعن والعيب واللعن والشتم والكلام المنكر لأن عاقبته وخيمه وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) وورد في الحديث أن اللعنة تذهب إلى الملعون، فإن كان يستحقها وإلا رجعت إلى قائلها وهكذا الوقوع في أعراض الناس، فإن إثمه كبير، فعليه التوبة، وأن يملك عليه لسانه، حتى لا يحبط أعماله والله أعلم.

السؤال:- أنا شاب لا استطيع الزواج لعدم مقدرتي على ذلك، وأخاف الله جل جلاله، وأرغب الزواج من خارج المملكة بنية الطلاق؛ وذلك حفاظاً على نفسي من الوقوع في الحرام، حتى ييسر الله أمر الزواج، آمل من صاحب الفضيلة الإجابة الشافية، أطال الله في عمرك. الجواب:- يشترط في النكاح تعيين الزوجين، ورضاهما، والإيجاب من الولي المرشد، والقبول من الزوج، وحضور شاهدي عدل، ولابد من المهر الذي يفرض لأمثالها، ولا تحدد مدة البقاء معها، بل يتزوجها على أنها زوجة مستمرة، فإن أضمر الزوج التجربة أو الطلاق بعد مدة، وكان ذلك في نفسه، ولم ينقصها من صداقها المعتاد، فلا يفسد ذلك النكاح في الظاهر، والله أعلم.

السؤال:- لي أخ متوفي، وكان قد عقد قرانه على قريبة لنا، ولم يتم حفل الزواج لوفاته، وكان قد دخل بها قبل وفاته في منزل أهلها (دون علمهم) وبعد عقد القران، ولم تنتقل معه إلى بيته، حيث كان رحمه الله يجهز ويفرش البيت، وهي ليست بحامل منه وليس لديهم أطفال، فما هو نصيبها من ميراثه، وهل لها نفقة في فترة العدة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب:- (لها صداق أمثالها لاوكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة) فإن لم يكن فرض لها صداقا مسمى أعطيت ما يستحقه أمثالها، فإن كان قد فرض لها فلها المهر المسمى، أو تمامه إن كان قد دفع إليها شيئاً. أما الميراث فإن لم يكن له ولد من غيرها، ولم يكن له زوجة أخرى فلها ربع التركة، فإن كان له ولد من غيرها ولو أنثى فلها الثمن من تركته، فإن كان له زوجة أخرى معها فلكل واحدة نصف الثمن إن كان له ولد، ونصف الربع إن لم يكن له ولد من غيرها، أما العدة فتحد عليه أربعة أشهر وعشراً، ولا نفقة لها زمن العدة والله أعلم.

السؤال:- فتاة تسكن في بيت زوج أمها، ليس بأبيها جاء من يريد الزواج منها، فعقد لها زوج أمها بتوكيل منها -الفتاة اسمها فلانة بنت فلان- باسم زوج امها، لأنه ربّاها وهي طفلة، ووالدها الحقيقي متوفى، ولها أخ من الأب في اليمن، يصعب حضوره إلى هنا، هل عقد النكاح صحيح أم باطل؟ الجواب:- لا يصح هذا العقد، حيث إن زوج أمها ليس ولياً لها، وليس هو من عصبتها غالباً، ومثل هذه لابد أن يوكل أخوها، بأن يبعث وكالة لزوج أمها أو لغيره، ليتولى العقد لها، فإن لم يفعل تولى العقد قاضي المحكمة الخاصة، فالسلطان ولي من لا ولي له، والله أعلم.

السؤال:- زوجتي تحب كثرة العلاقات والزيارات، سواء على الأقارب أو الجيران، فلا يكاد يوم يمر علينا إلا وعندنا ناس، أو سوف نذهب لأناس، مما لا أجد معه وقتاً للراحة أو اللقاء بأولادي، دون ارتباط، وكلما أناصحها تقول: بالعكس الزيارات مما يقوي الصلة والرابطة بين الأقارب والجيران، فهل أنا محق في كلامي أم لا؟ وكيف أصنع معها؟ الجواب:- لا شك أن كثرة الخروج، والتردد إلى الجيران وإلى الأقارب يومياً يحصل به مفاسد، منها الملل والضجر من المزور والكراهة، له فإن الإنسان يحتاج إلى وقت راحة واستجمام في منزله، فإذا طرق عليه الباب لأول مرة فتح واستبشر، وفي المرة الثانية قد يفتح على مضض، ثم بعدها يستثقل من يمنعه من راحته، ولهذا يوصف من يكثر الجلوس عند الآخرين بالثقيل، الذي يطيل البقاء عند الآخرين وقت راحتهم، ولذلك قال تعالى (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا) (الأحزاب:53) قال بعض المفسرين: هذه الآية نزلت في الثقلاء وقد قيل في الحكم: زرغبا تزدد حبا وحددت الزيارة بقدر حلب الناقة، فعليك نصحها أن تقر في منزلها، وأن تجعل الزيارة أسبوعياً أو كل أسبوع مرتين، مرة إلى الجيران، ومرة إلى الأقارب، وتبقى في منزلها أكثر الوقت، تدبر المنزل، وتصلح ما يحتاجه، والله أعلم.

السؤال:- أنا رجل متزوج ولله الحمد، ولي أولاد، وامرأتي امرأة طيبة، ومشكلتي يا فضيلة الشيخ أني أتصنت على زوجتي فإذا اخفضت صوتها وهي تتحدث في الهاتف أسأت الظن فيها وحاولت أن اتصنت لأعرف ما تقول، ومع من تتحدث، فهل أنا محق في هذا العمل، فكيف أقضي على الشكوك التي تساورني بين الفينة، والفينة رغم أني لا دليل عندي على هذه الشكوك أرشدوني وفقكم الله. الجواب:- عليك بحسن الظن، حيث إنها امرأة طيبة، لا تعاب في دينها وأمانتها، فننصحك بالابتعاد عن الشكوك والتوهمات، حتى لا تسوء الصحبة بينكما، واحرص على ترك هذه الظنون والتوهمات التي لا دليل عليها، وترك هذا التصنت ولو خفضت صوتها، فلا داعي لما تفعله من هذا التصنت، والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الرقص بالنسبة للنساء مع -العلم حفظكم الله- أن الرقص في الوقت الحاضر يختلف تماماً عن الرقص في الماضي، فلم يعد هناك امرأة ترقص بثوبها وشعرها فقط، وإنما الآن ترقص المرأة إضافة إلى ما سبق بصدرها وعجيزتها، وتضيف إلى ذلك حركات بيديها وجسمها، هذا مع لبس الملابس الشقاقة أو العتيقة التي يحجم حسمها وكأنها عارية وهي بذلك تشد انتباه الحاضرات، حتى أنه يفتتن بها الكثيرات، وخاصة الشابات منهن، مع العلم بأن هذه الطريقة في الرقص تحدث من كثير من الحاضرات. الجواب:- هو على هذه الصفة منكر، وداعية إلى الفحش والزنا، وسبب للفتنة والوقوع في المنكرات، وإذا اشتمل الحفل على مثل هذه الرقصات فلا يجوز حضوره للنساء، خشية الفتنة والاندفاع إلى اقتراف الحرام فعليكم التنبيه إلى ذلك والله أعلم.

السؤال:- ما حكم تشغيل الأشرطة التي تحتوي على موسيقى في الأعراس؟ الجواب:- هذه الأشرطة لا يجوز اقتناؤها، ولا سماعها سواء في حفلات الزواج أو في غيره، فإن الموسيقى من آلات الطرب وهو محرم، لما فيه من إثارة الغرائز، والاندفاع إلى التلذذ بتلك الأصوات المغرية إلى فعل الفواحش والمنكرات، فينهى عن بيعها وسماعها وكل ماله صلة بترويجها، والله أعلم.

السؤال:- هناك أشرطة سجل عليها أصوات ضرب بالدفوف، فما حكم تشغيلها في الأعراس، وما الحكم إذا كان الصوت مجهولاً هل هو صوت دفوف أم صوت طبول؟ الجواب:- لا مانع من استعمالها في الحفلات المذكورة، وذلك لأن الأصل أنها مباحة في حفلات الزواج، أو مستحبة ومندوب إليها، ولا يضر الشك في أنها أصوات دف أو طبل لكن إن اتضح أنها أصوات طبل لم يجز إستعمالها، وإن تحقق أنها دفوف أو شك فيها لم يمنع ذلك من استعمالها، والله أعلم.

السؤال:- يلبس بعض النساء ملابس مشقوقة من الأسفل، أو مفتوحة على الصدر، أو تبين شيئاً من الأذرعة، فما حكم ذلك؟ وما حكم لبس بعض الملابس المشقوقة من الخلف على الظهر، ويبين ما بين الكتفين، وتقول من تفعل ذلك أنها بين النساء، وليس في ذلك شيء. الجواب:- لا يجوز هذا اللباس بهذه الصفة، لأنه تقليد ولباس مستورد من الغرب، ولأنه قد يبدى شيئاً من البشرة، كالساقين، والصدر، والثديين، والذراعين، مع أن المرأة كلها عورة، لا يجوز أن تبدي شيئاً من جسدها أمام الرجال، وإذا اعتادت مثل هذا اللباس ولو مع النساء أو المحارم أصبحت قدوة شر لزميلاتها، وقد تألف هذا اللباس وتخرج به في الطرق والأسواق وهو مما يلفت نحوها الأنظار، ويسبب الفتنة، وهكذا لا يجوز اللباس الذي قد شق من الأسفل إلى الركبة أو فوقها أو تحتها، وكذا إذا كان مشقوقاً من الخلف على الظهر، لأنه يخرج منه ما بين الكتفين ولو كانت بين النساء أو المحارم، لما في اعتياد ذلك من الدعاية إلى اللباس المشقوق ومن الاقتداء بها ومن صيرورة ذلك ديدنا لها لا تقدر على مخالفته، فعلى المرأة أن تلبس لباسها المعتاد، ولباس نسائها، فهو زينة وجمال كامل، وبعيد عن التشبة بالغرب، والله أعلم.

السؤال:- لقد عمت البلوى بالأفراح التي يحصل فيها من الإسراف ما يغضب الله ورسوله، وهو نذير هلاك الأمم، سواء الإسراف في المأكل، أو في اللباس العاري الشفاف، أو الغناء الغرامي، والرقص الغربي، والقصات الغربية، والقزع الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يمنع النساء المؤمنات من حضور تلك الحفلات الزوجية وإذا سئلن في ذلك أجبن بأن هذا حرام، وهو نذير هلاك وعذاب، ويرد عليهن النساء الأخر بأن يأتين ينكرن بقلوبهن، (والدين في القلب) علما بأنه يضرب في تلك الزواجات بطبول مغلقة وطبول لها ما يصلصل كالجرس، ومغلقة أيضاً وألبسة عارية شفافة، تسمى (الأوقنذا والدانتيل والجوبير والخيش) وكذلك أغاني المطربين الفجار، أفيدونا نصر الله بكم السنة وقمع أهل الفجور؟ الجواب:- أولاً: عليكم نصحهم عن هذا الإسراف، بل يقتصرون على أدنى الكفاية من الطعام، بذبح اثنتين أو على الأكثر أربعاً من الغنم المتوسط، والاقتصاد في صنعة الطعام، وفي استئجار بيوت الحفلات، فالاقتصار على الحفل في منزل أحد الزوجين بدون تكلف ودفع الزيادة والمنافسة في استئجار بيوت الحفلات الغالية، وقد قال الله تعالى (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف:31) وقال الله تعالى (ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) (الإسراء:27) . والتبذير هو إفساد المال المحترم، بحيث يكثر من الأطعمة التي لا أهمية لها، والتي يذهب أكثرها في الأرض أو مع القمامات، مما ينذر ويخيف بسلبها كما حصل لمن قبلنا. ثانياً: عليكم تحذير الأهالي عن تعاطي الأكسية الشفافة أو الضيقة، التي تبرز محاسن المرأة، وتمثل أعضاءها، كالثديين والعجيزة، والبطن والظهر، فإن هؤلاء كاسيات عاريات فاتنات، وإنما على المرأة الاحتشام، ولباس الواسع الغليظ من الثياب مطلقاً.

ثالثاً: لا يجوز استعمال الأغاني المطربة، والتي تشتمل على الوصف الداخلي للمرأة، وعلى ما يثير الفتنة، ويدعو إلى الدعارة، وإنما يقتصر على الضرب بالدف، دون استعمال الطبول، ويقتصر على الغناء المباح بالمدح والترحيب ونحوه، ويمنع من ضرب الدفوف المغلقة، وهي ما فيها، أجراس تصوت، وإذا اشتملت الأعراس على المنكرات المذكورة فلا يجوز للمرأة حضورها مع عدم القدرة على التغيير، ولا يكفي التغيير بالقلب، فإنه فيه إقراراً والله أعلم.

السؤال:- انتشر بين كثير من الناس عادت سيئة، وهي مصافحة الرجل للمرأة التي ليست محرما له، وكذلك مصافحة المرأة للرجل، وتقبيل رأسها، والجلوس معها وإبداء شيء من زينتها؟ الجواب:- معلوم أن هذا لا يجوز، فإن المرأة الأجنبية لا يحل لها مصافحة الأجانب، ولو كانوا أبناء عمها أو أبناء خالها، كما أنه لا يحل لها كشف الوجه وإبداء الزينة، ولو كانوا من أقاربها غير المحارم، ولا يحل تقبيل رأسها، ولا تقبيلها رأس أجنبي غير محرم كما لا يحل لها الخلوة بالأجنبي ولو كان لتعليم الفاتحة، لقوله صلى الله عليه وسلم (ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) ولقول عائشة (ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، كان إذا أراد البيعة لهن قرأ عليهن الآية ثم قال قد بايعتكن) بخلاف الرجال فإنه يقبض يد الرجل عند المبايعة، ولا يقول إني لا أشتهي أو إني واثق بنفسي ونحو ذلك، والله أعلم.

السؤال:- ما الضابط لخروج المرأة وذهابها إلى السوق، وبخاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه أسباب الفتنة؟ الجواب:- لا يجوز الذهاب في كل الحالات إلا لضرورة شديدة، بأن لا تجد من ينوب عنها في شراء حوائجها الخاصة، أو لا يعرف ما تريده غيرها، ومتى خرجت فلابد أن تكون في غاية الاحتشام والتستر، وتغطية جميع بدنها، ولا يجوز لمن دخلت الأسواق أن تبدي شيئاً من جسدها أمام الرجال، كالكفين والوجه والقدمين وغيرها، لأنها عورة، وهكذا لا تبدي الحلي على يديها، ولو كانت مستورة بالجوارب أو الشراب، وهكذا لا تدخل الأسواق وهي متطيبة بطيب له رائحة ظاهرة، ولابد أيضاً أن تصحب محرمها وهو زوجها أو من تحرم عليه من أقاربها أو أصهارها، وهكذا، وقد يجوز إذا صحبت نسوة ثقات وأمنت المفسدة، والتزمت الاحتشام التام، والبعد عن الأخطار وأسبابها.

السؤال:- شخصان أغتاب أحدهما الآخر، ليقع اللوم عليه، ويبرئ نفسه أمام الآخرين، لكن الشخص الثاني يخشى الله من آثام الغيبة، فمثلاً زوجان تشاجرا واختلفا، فذهبت الزوجة لأهلها واغتابت زوجها بما حصل منه، وما فعله، وذلك أمام أهلها، ثم قام أهلها بدورهم يغتابون الرجل زوج ابنتهم، أمام الآخرين، وهكذا إلى أن يفضحوا الرجل، سواء كان فيه هذا الشيء أو لم يكن فيه. لكن الرجل زوج المرأة لما سمع عن زوجته ما حصل منها من الغيبة والظلم منها ومن أهلها أمام الناس وسماعهم، أراد أن يدافع عن نفسه بالمثل، ويخبر الناس بما حصل منها، لكن خشي الله من آثام الغيبة والظلم. فهل يسكت ويسلم أمره إلى الله، ولا يبالي بما حصل؟ فماذا يقول فضيلتكم في هذا الشأن: والله يرعاكم. الجواب:- لا شك ان الغيبة حرام، وهي ذكرك أخاك بما يكره، ولو كنت صادقا فيما تقول، أما إن كذبت عليه بما ليس فيه فهذا من البهتان العظيم، والظلم الكبير، وإثمه أكبر من إثم الغيبة، فعلى هذا يجوز للزوج أن يبرئ نفسه مما كذبوا عليه أمام الناس، حتى يعلم الجمهور عدم صحة ما قيل فيه، وتبرأ ساحته ويصون عرضة عن الكذب فإنه لو سكت لصدق الناس ما نسب إليه، وظنوه حقاً، وانتشر ت له سمعه سيئة، كما أن على من علم ذلك نصح الزوجة وأهلها عن مجرد الغيبة والكذب والبهتان، وعن افشاء الأسرار بين الزوجين، وبيان أن هذا من الظن، والظن أكذب الحديث، وهكذا يجب السعي في الإصلاح بينهما، وجمع الكلمة، وإزالة ما في القلوب من الشحناء والعداوة والبغضاء، رجاء أن تصلح الحال، وتعود الصحبة كما كانت.

السؤال:- رجل يخشى الله كلما أراد أن يداعب ويلاعب زوجته، ويمزح معها، تقول له: عليك وجه الله. عليك وجه الله، فيصد عنها ويبتعد، خوفا من الله. فما رأي فضيلتكم حفظكم الله في هذه الكلمة (عليك وجه الله) وما رأيكم في فعل زوجته مع زوجها في صده عنها بدون ضرر عليها. أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- لا يجوز للزوجة أن تمتنع عن زوجها إذا طلبها في نفسها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبانا عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعا الرجل امرأته فلتأته ولو كانت على التنور) فعليها التوبة وعدم الإمتناع من زوجها، وأما قولها: عليك وجه الله، فلا يجوز لورود الحديث بلفظ (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) ومع ذلك إذا قالت له مثل هذه الكلمة فليس له الامتناع عن حقه في الاستمتاع، بل له أن يطالبها بالمجيء إليه ولو قالت له هذه الكلمة ونحوها.

السؤال:- أنا رجل خطبت فتاة ملتزمة فهل لي أن اراسلها للاستفسار عن الأمور المتعلقة بالعبادات عامة وبالعلم الشرعي خاصة للاستفادة من هذه الفترة. الجواب:- أرى أن ذلك جائز، ولو لم يحصل عقد النكاح، بشرط أن تكون وثقت بأنها ستقبل النكاح ولا ترده، وبشرط أن تكون محتويات المخاطبات الهاتفية أو الرسائل معاني شريفة رفيعة، لا تشتمل على غرام وحب، وكلام سافل، وأن تحرص على احتواء تلك الرسائل على الإرشادات، والتعاليم الشرعية، والفوائد العلمية، ولا بأس باحتوائها على شيء مما يتعلق بالحياة الزوجية، كالأمتعة والمساكن، والمطالب، ونحوها والله أعلم.

السؤال:- إذا مات رجل وترك زوجة لم تنجب، فهل لها الحق بالمطالبة بمتأخر الصداق؟ الجواب:- نعم فإن الزوجة تملك صداقها بمجرد العقد، فإذا كان مؤجلاً فإنه يحل بالموت أو بالطلاق، فعلى هذا يحق لها المطالبة بالصداق المؤخر، ثم لها الميراث من التركة ولو لم تنجب، فإن كان له ولد من غيرها ففرضها الثمن، وإن لم يكن له أولاد ذكور ولا إناث، ففرضها الربع، بعد قضاء الدين والحقوق كالوصايا.

السؤال:- قبل الزواج اشترط أهل الزوجة عليّ بأن الزوجة تعمل بعد الزواج، فوافقت على هذا الطلب، لكن بعد الزواج رفضت عمل الزوجة، ففوجئت بأهل الزوجة يقولون شرعاً بأن الزوجة تعمل، لأنه يوجد شرط قبل الزواج، فهل من حق الزوجة مباشرة العمل بدون موافقة الزوج؟ الجواب:- ليس من حقك أن ترفض عملها، بل عليك أن تمكنها من العمل الذي وافقت عليه قبل الزواج، فإن المسلمين على شروطهم وفي الحديث (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) فأما أن تمكنها من العمل حسب شرطهم، وإما أن تطلقها، فإن تركت العمل من نفسها فلها ذلك، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز للمرأة أن تصبغ حاجبيها، وهل هو داخل في جواز صبغ الشعر.؟ الجواب:- لا بأس بصبغ الحاجب إذا شاب، ولكن يصبغ بالحناء والكتم، ولا يصبغ بالسواد، فأما غير الشيب فلا حاجة إلى صبغة، فبقاؤه أسود أجمل له وأحسن.

السؤال:- تم استئصال ثدي زوجتي الأيسر بمستشفى الرياض المركزي، لوجود سرطان به؛ حيث أجمعت تقارير الأطباء على أن السرطان سوف ينتشر في جسدها في حالة وجود جنبين، وأنها سوف يتوفاها الله بعد حوالي الشهر إذا استمر الحمل بها، ويمكن لسماحتكم الاطلاع على التقارير الطبية اللازمة لإصدار فتواكم بهذا الأمر؟ الجواب:- لا مانع من الإجهاض إذا كان الأطباء معروفين بالإصابة، وكانوا من المسلمين الموثوقين، ورؤيت علامات تؤكد صحة ما قالوا، فلا بأس، والإجهاض في هذه الحالة فيه إحياؤها، وهو أهم من الجنين الذي قد يهلك معها والله أعلم.

السؤال:- ما حكم خروج المرأة للسوق لقضاء مستلزماتها، ومستلزمات أبنائها، علماً بأن الزوج يرفض خروجها، ولو حتى للسوق النسائي، وأنت تعلم أن المرأة لها نظرتها، ورغبتها في الملبوسات وغيرها، وليس دائماً، وإنما ولو في السنة مرتين في الأعياد وفي المناسبات فقط؟ الجواب:- ليس للمرأة أن تعصي زوجها، ولا تخرج إلا بإذنه أو ترخيصه العام، أو الخاص، وليس له منعها من الخروج المأمون، إذا عرف عفتها، وأمن عليها الفتنة، سيما إذا تعذر قضاء حاجتها إلا بخروجها، وتخرج مع محرم، أو مع نسوة ثقات، إلى مكان قريب، بعيد عن الاختلاط والاختطاف.

السؤال:- ما حكم لبس النقاب الساتر للمرأة، بحيث يكون عليه غطاء آخر ليس شفافاً، وخاصة في أماكن النساء؟ الجواب:- يجوز إذا كان ضيق الفتحات، أو لبست فوقه غطاءً ساتراً، فأما إذا كان واسع الفتحات، فإنه فتنة يلفت الأنظار، والله أعلم.

السؤال:- أنا امرأة متزوجة، وأهل زوجي يكشفون على بعض، وزوجي وأهله يطالبوني أن أكشف وجهي على إخوة زوجي وهم كثيرون. فما الحكم؟ الجواب:- لا يجوز للمرأة أن تكشف عن زينتها إلا لزوجها، أو أبيه، أو ابنه، أو أبيها، أو ابنها، أو أخيها، أو ابنه، أو ابن أختها، أو عمها، أو خالها، أو على النساء والأطفال، أو من لا شهوة له، ولا شك أن الوجه هو مجمع الزينة، فلا تكشف المرأة وجهها لإخوة زوجها، ولا لأزواج أخواتها ولا لأبناء أعمامها أو أبناء أخوالها البالغين، ونحوهم من الأجانب، ولا تطيع المرأة زوجها أو أهله في الكشف على غير محارمها فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولو أدى ذلك إلى الطلاق، وعلى المسلمة أن تتمسك بدينها حتى يعرف أهل التقصير تصلب المؤمن بإسلامه، وعدم مداهنته، أو مراعاته فيه للقريب أو البعيد، والله أعلم.

السؤال:- فضيلة الشيخ هلا ذكرت لنا الحجاب الإسلامي الكامل؟ الجواب:- الحجاب الإسلامي للمرأة أن تقر في منزلها، ولا ترى الرجال الأجانب، ولا يرونها، لقوله تعالى (وقرن في بيوتكن) (الأحزاب:33) . أمر بالقرار في البيت، وعدم الخروج إلا لضرورة، وإذا احتاجت للخروج والبروز أمام الرجال نهيت عن التبرج (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) (الأحزاب:33) والتبرج إبداء شيء من البدن كالوجه أو اليد أو القدم بل عليها أن تستر بدنها كله بثياب صفيقة، ساترة واسعة، لا تبين شيئاً من تفاصيل الجسم، بل تستر بدنها كله، ولا تظهر شيئاً من الزينة كالثياب الجميلة، والحلي، والبدن، لقوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) (النور:31) فهذا هو الحجاب الكامل، أي ستر الوجه والبدن كله وتوسيع الثياب، والمشالح والأردية، والله أعلم.

السؤال:- تزوج والدي من امرأة غير أمي وأنجبت هذه المرأة من والدي ولدا وبنتاً، وقد توفي الولد والبنت، وطلق والدي هذه المرأة وتزوجت رجلا آخر وأنجبت ولدا. وأنا تزوجت امرأة وأنجبت بنتا. هل يجوز أن أزوج ابنتي لابن زوجة أبي سابقا، وهو من رجل غير أبي أي من رجل آخر؟ الجواب:- يجوز ذلك، فلا قرابة بينهما، ولو كان أخوك منها حيا لقال لولدها الثاني: يا أخي من أمي تزوج بنت أخي من أبي، حيث لا صلة بينهما توجب المنع من الزواج، والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز للرجل الذي لديه زوجتان أن يقسم لكل زوجة أسبوعاً، بدلاً من يوم، فكل زوجة لها أسبوع يجلس عندها، ثم الأسبوع الآخر عند الأخرى، وهكذا؟ الجواب:- يجوز ذلك، فإن القصد التسوية بينهن في القسم الذي هو المبيت والمؤانسة، فإذا رضين بهذا القسم الطويل جاز ذلك، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوج بأم سلمة مكث عندها ثلاثا، ثم قال: إنه ليس بك هوان على أهلك، وإن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي والله أعلم.

السؤال:- أنا شاب من إحدى القبائل لها عادة في مساعدة المحتاجين منهم، أو ممن جاورهم من القبائل مادياً بالطريقة التالية:- هذه القبيلة بعد جمعها لما تيسر من المال الذي ستساعد به القبيلة، أو الشخص المحتاج، تذهب على شكل جماعة، وعندما يقربون من البيت يبدأون بالغناء والرقص، بدون طبل أو مزمار، ثم يسلم للقبيلة أو الشخص المبلغ، وهذا الرقص والغناء يحصل منهم أيضاً في حفلات الزواج، والأعياد، وبعض المناسبات، وهي مقتصرة على الشيب والشباب (ملاحظة: أصبحت هذه الطريقة عادة عندهم) فما رأيكم حفظكم الله في هذا العمل؟ وما نصحيتكم لي حيال هذا، حيث أنني أكره هذا الفعل، رغم محاولة بعض الأقارب إقناعي بأنه مباح، وليس فيه شيء. الجواب:- لا شك أن مساعدة الفقير، وذا الحاجة، والأعزب، والغارم من أفضل الأعمال وأرقى القربات، فعليك أن تشجعهم على ذلك، فأما الأغاني، والرقص فلا يجوز، بل هو محرم، وعليك أن تنصحهم عن هذا الفعل، وتبين لهم أن يقتصروا على تسليم المساعدة دون الغناء والرقص ونحوه، فأما في حفل الزواج فلا بأس بالدف فيه، وشيء من الغناء المباح، بلا تشبيب، ولا كذب، ولا طبول، أو مزامير، وكذا في الأعياد لا بأس بالفرح، والغناء المباح، دون ضرب الطبول، والسهر على الأغاني الماجنة ونحوها.

السؤال:- أن لي على زوجي أموال كثيرة حقوق، وعندي ما يثبت ذلك من أوراق وشهود، ولكنه لم يوفها لي، ورفض إرجاع مالي عنده من حقوق، بقصد أن لدي أموالاً، ولست بحاجة لها أرشدوني ماذا أفعل؟ الجواب:- نوصيك بالصبر، وعدم التشديد على زوجك، إذا كنت مستغنية عن هذا الدين، فيبقى عنده كأمانة، واحفظي ما لديك من الوثائق والإثباتات، فإن سمحت بها فهو زوجك وأبو أولادك، والذي لك يرجع له ولأولاده، وإن احتفظت بحقك جاز لك الطلب به في الحياة، وبعد الممات، والله أعلم.

السؤال:- عندي عائلتان إحداهما سافرت مع أولادها إلى أبيها في المدينة المنورة، وأنا جلست مع الثانية في الرياض، فترة شهر كامل، ثم أنا سافرت إلى المدينة المنورة، وجلست مع التي كانت سافرت إلى المدينة المنورة، واستقريت معها يومين في المدينة المنورة، واليوم الثالث وصلنا الساعة الواحدة والنصف بالليل وذلك اليوم نمت معها واليوم الرابع ذهبت إلى التي كانت في الرياض، علما أني أنام مع كل واحدة يومين كالعادة، فهل هذا العدل أم لا؟ وأولادي الذين سافروا إلى المدينة المنورة مع والدتهم دفعت لهم مبلغاً قدره 800ريال، فهل يلزمني أن أعطي أولادي الذين لم يسافروا مع والدتهم وقعدوا في الرياض، أدفع لهم بـ800ريال أم لا؟ الجواب:- هذه التي سافرت باختيارها يسقط حقها من القسم، فإذا رجعت إلى الرياض أو بلدك فابدأ القسم بينهما من جديد، حيث إن المسافرة منعتك من نفسها، لكن إن طلبت الثانية أن تمكنها من السفر كالأولى فعليك الموافقة. أما المبلغ الذي أعطيت الأولى فإن كان للنفقة والأجرة والحقوق فلها ذلك، وإن كان مجرد عطية وهبة خالصة فللثانية مثل ذلك، والله أعلم.

السؤال:- استعمال المرأة للحناء في الرأس مما يؤدي ذلك إلى تغير السواد؟ الجواب:- إذا كان الشعر أبيض فلا بأس بتغييره بالحناء والكتم، لينقلب إلى الحمرة والسمرة فأما الشعر الأسود فلا حاجة إلى استعمال الحناء فيه، بل يترك على حاله.

السؤال:- لي قريبة يتيمة، ليس لها أب ولا أخ، وإنما لها خال، فهل يصح أن يكون وليا لها في النكاح؟ الجواب:- لا ولاية للخال في النكاح، بل الولاية لأقرب عصباتها من النسب، كابن الأخ وإن نزل، ثم العم الشقيق، ثم العم لأب ثم ابناهما كذلك، ثم بنوه وإن نزلوا، وهكذا يقدم الأقرب كالميراث، فإن لم يكن لها أقارب ولو بعيدين فالحاكم ولي من لا ولي له، وإن تعذر مراجعة الحاكم والقاضي وكلت من يعقد لها، ولا تزوج نفسها، والله أعلم.

السؤال:- ما رأي سماحتكم في الأناشيد التي نسمعها في عصرنا هذا؟ الجواب:- الشعر مثل الكلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، ولا شك أن حكم هذه الأناشيد حكم نظم الشعر ثم إلقاؤه، فإن كان محتواها مفيداً كالترغيب في الخير، والتحذير من المعاصي، والزهديات، والحث على مكارم الأخلاق، والنهي عن سفاسفها، وذكر العبادات والنوافل ونحوها، فإن ذلك مباح، لكن يكون إنشادها عادياً، بدون ترنم وتمايل، ونغمات مثيرة للأشجان، أما إن احتوت على التشبيب، والدفع إلى الغرام، ووصف الخدود والقدود، وإثارة الغرائز، والدعاية إلى الجرائم، وذكر المحرمات، والنداء إلى اقتراف الفواحش، وما إلى ذلك فهو محرم بأي صوت أو بأي لغة، فالعبرة بالمحتوى، ومعنى ذلك الشعر، وكذا بحال الإلقاء من الترنم والتغنج ونحوه

فتاوى رمضانية

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى رمضانية المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم إنّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون) (آل عمران:102) . (يا أيها الناس اتقوا ربَّكُم الذي خَلقكم منْ نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا) (النساء:1) . (يا أيها الذين آمنُوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) (الأحزاب:70-71) . وبَعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. وهذه الرسالة، عبارة عن أسئلة مهمة تتعلق بشهر رمضان المبارك دعت الحاجة لجمعها وعرْضِها على فضيلة شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، حفظه المولى من كل حسودٍ وحقودٍ. وذلك ليجيب عليها، فاستجاب لذلك غفر الله له على الرغم من ضيق وقته وكثرة مسؤولياته. ثم قمت بتخريج ما في هذه الرسالة من أحاديث وآثار.

وكانت طريقتي في ذلك، أن أكتفي إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، إذ أن المقصود من التخريج معرفة ما إذا كان الحديث صحيحاً أم لا، أما إذا كان الحديث في غير الصحيحين فإني أتوسع إلى حدّ ما في التخريج، مع التعقيب عليه غالباً بما يناسب، وقد يُلاحظُ أن بعض الأحاديث أو الآثار قد توسعت في تخريجها، والبعضُ أقل من ذلك، وأعزو هذا إلى أنني ما كنت أعمل في هذه الرسالة في مدة مُتقاربة، بل كانت المدة متباعدة ففي وقت تكون الأمور مهيأة، والنفس مُرتاحة، وفي أوقات أخرى تكون النفس مشغولة ‍ فلذا لم أضع منهجاً موحداً أسير عليه فلينتبه. وهذه الرسالة كانت لدي منذ سنتين أو أكثر، وكنت أعمل فيها بين وقت وآخر نظراً لارتباطات أخرى، ولما دخل شهر شعبان هذا العام 1413هـ، رغب بعض المحبين وألح علي أن أنجزها -على ما بها من تقصير على أن أستدرك ذلك في طبعة قادمة بعون الله- وذلك لحاجة الناس لمثلها، ولتكون عوناً للسائلين وتبصرة للسالكين، فأجبته لذلك. وإنني هنا أدعو إخوان الهدى، وخلان الود والوفاء، أن يغضوا الطرف عن التقصير، لأنه قلما يخلو عمل من الهفوات والعثرات، وأطلب منهم أن ينظروا في عملي في هذا الكتاب بعين الرضا والقبول، وأن يسددوا ويقاربوا ورحم الله الحريري حيث قال: وإن تجد عيباً فسد الخللا قد جل من لا عيب فيه وعلا ورحم الله من قدم النصيحة لأخيه، وسدد وقارب وأسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، هو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله خير الآل، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بالغدو والآصال. ولا تنسنا أخي من صالح دعوة في ظهر الغيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

السؤال:- ما حكم صلاة التراويح؟ وما فضل قيام ليالي رمضان مع الإمام؟ وما قولكم في حال كثير من الناس ممن ترك هذه الفضيلة العظيمة، وانصرف لتجارة الدّنيا، وربّما لإضاعة الوقت باللعب والسّهر؟ الجواب:- صلاة التراويح هي القيام في ليالي رمضان بعد صلاة العشاء، وهي سنة مؤكَّدة، كما دلّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه". متفق عليه، وقيام رمضان شامل للصلاة أول الليل وآخره، فالتراويح من قيام رمضان، وقد وصف الله عباده المؤمنين بقيام الليل، كما قال -تعالى-: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً) (الفرقان:64) . وقال -تعالى-: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) (الذاريات:17) . ويُستحب أن يُصلى مع الإمام حتى ينصرف، فقد روى أحمد وأهل السنن بسند صحيح عن أبي ذر -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". وكان الإمام أحمد -رضي الله عنه- لا ينصرف إلا مع الإمام عملاً بهذا الحديث، ولا شك أن إقامة هذه العبادة في هذا الموسم العظيم تُعتبر من شعائر دين الإسلام، ومن أفضل القربات والطاعات، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما روى عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله -عز وجل- فرض عليكم صيام رمضان، وسننتُ لكم قيامه".

فإحياء هذه السنّة وإظهارها فيه أجر كبير، ومضاعفة للأعمال، وقد ورد في بعض الآثار: "إن في السماء ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله -عز وجل-، فإذا دخل رمضان استأذنوا ربهم أن يحضروا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح، فمن مسهم أو مسوه سعد سعادة لا يشقى بعدها". فكيف يفوت المسلم هذا الأجر الكبير، وينصرف عنه لتعاطي حرفة أو تجارة، أو تنمية ثروة من متاع الحياة الدّنيا التي لا تساوي كلها عند الله جناح بعوضة، فهؤلاء الذين يزهدون في فعل هذه الصلاة، ويشتغلون بأموالهم وصناعاتهم، لم يشعروا بالتفاوت الكبير بين ما يحصل لهم من كسب أو ربح دنيوي قليل، وما يفوتهم من الحسنات والأجور، والثواب الأخروي، ومضاعفة الأعمال في هذا الشهر الكريم. ولقد أكبّ الكثير على الأعمال الدنيوية في ليالي رمضان، ورأوا ذلك موسماً لتنمية التجارة، وإقبال العامة على العمل الدنيوي، فصار تنافسهم في ذلك، وتكاثرهم بالمال والكسب، وتناسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت من ينافسك في الدّنيا فنافسه في الآخرة".

أما الذين يسمرون هذه الليالي على اللهو واللعب فهم أخسر صفقة، وأضل سعياً، وذلك أن الناس اعتادوا السهر طوال ليالي رمضان غالباً، واعتاضوا عن نوم الليل بنوم الصبيحة وأول النهار أو أغلبه، فرأوا شغل هذا الليل بما يقطع الوقت، فأقبلوا على سماع الملاهي والأغاني، وأكبوا على النظر في الصور الفاتنة، والأفلام الخليعة الماجنة، ونتج عن ذلك ميلهم إلى المعاصي، وتعاطيهم شرب المسكرات، وميل نفوسهم إلى الشهوات المحرّمة، وحال الشيطان والنفوس الأمارة بالسوء بينهم، وبين الأعمال الصالحة، فصدّوا عن المساجد ومشاركة المصلين في هذه العبادة الشريفة، فأفضلهم من يصلي الفريضة ثم يبادر الباب، والكثير منهم يتركون الفرض الأعظم وهو الصلاة، ويتقربون بالصوم مجاراة ومحاكاة لأهليهم، مع تعاطيهم لهذه المحرمات، وصدودهم عن ذكر الله وتلاوة كتابه، وذلك هو الخسران المبين، والله المستعان.

السؤال:- ما الحكمة في تسمية قيام رمضان بالتراويح؟ وهل ترون أن من الأفضل استغلال وقت التوقف في صلاة التراويح بإلقاء كلمة، أو موعظة؟ الجواب:- ذُكر في المناهل الحسان (عن الاعرج) ، قال: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، قال: وكان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات، وإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف، (وعن عبد الله بن بكر) قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالطعام، مخافة فوت السحور". (وعن السائب بن يزيد) قال: أمر عمر بن الخطاب أُبي بن كعب وتميماً الداري -رضي الله عنهم- أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، فما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر، وقال ابن محمود في كتاب الصيام: "وسُميت تراويح من أجل أنهم يستريحون بعد كل أربع ركعات لكونهم يعتمدون على العصي من طول القيام، ولا ينصرفون إلا في فروع الفجر". وحيث إنَّ الناس في هذه الأزمنة يخففون الصلاة، فيفعلونها في ساعة أو أقل، فإنه لا حاجة بهم إلى هذه الاستراحة، حيث لا يجدون تعباً ولا مشقة، لكن إن فصل بعض الأئمة بين ركعات التراويح بجلوس، أو وقفة يسيرة للاستجمام، أو الارتياح، فالأولى قطع هذا الجلوس بنصيحة أو تذكير، أو قراءة في كتاب مفيد، أو تفسير آية يمرّ بها القارئ، أو موعظة، أو ذكر حكم من الأحكام، حتى لا يخرجوا أو لا يملّوا، والله أعلم.

السؤال:- ما هي السنة في عدد ركعات التراويح؟ هل هي إحدى عشرة ركعة، أم ثلاث عشرة ركعة؟ وهل يلزم الاكتفاء بصورة واحدة طوال الشهر أم الأفضل التنويع؟ وما رأيكم فيمن يزيد على ذلك بحيث يصلي ثلاثاً وعشرين أو أكثر؟ الجواب:- قال في مجالس شهر رمضان: واختلف السلف الصالح في عدد الركعات في صلاة التراويح، والوتر معها، فقيل: إحدى وأربعون ركعة. وقيل: تسع وثلاثون. وقيل: ثلاثة عشرة. وقيل: إحدى عشرة. وقيل: غير ذلك، وقال أبو محمد ابن قدامة في المغني: (فصل) والمختار عند أبي عبد الله -رحمه الله- فيها عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال مالك: ستة وثلاثون، وزعم أنه الأمر القديم، وتعلق بفعل أهل المدينة، فإن صالحاً مولى التوأمة قال: "أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة، يُوترون منها بخمس". ولنا أن عمر -رضي الله عنه- لما جمع الناس على أُبي بن كعب كان يُصلي بهم عشرين ركعة، وقد روى الحسن أن عمر جمع الناس على أُبي بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الثاني، فإذا كانت العشر الأواخر تخلف أُبي فصلى في بيته ... وروى مالك عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. (وعن علي) : "أنه أمر رجلاً يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة". وهذا كالإجماع. قال بعض أهل العلم إنما فعل هذا أهل المدينة، لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة، فإن أهل مكة يطوفون سبعاً بين كل ترويحتين، فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات ... إلخ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله تعالى-: له أن يُصليها عشرين ركعة، كما هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، وله أن يُصليها ستاً وثلاثين ركعة، كما هو مذهب مالك، وله أن يُصلي إحدى عشرة، وثلاث عشرة، وكله حسن، فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام وقصره، وقال: الأفضل يختلف باختلاف المصلين، فإن كان فيهم احتمال بعشر ركعات، وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر والأربعين، وإن قام بأربعين أو غيرها جاز، ولا يكره شيء من ذلك، ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقَّت لا يزاد فيه ولا ينقص منه، فقد أخطأ.. إلخ. ومن كلام شيخ الإسلام المذكور وغيره من الآثار يُعلم أن قيام الليل يحدد بالزمان، لا بعدد الركعات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي إحدى عشرة ركعة، في نحو خمس ساعات، وأحياناً في الليل كله، حتى يخشوا أن يفوتهم الفلاح يعني السحور، وذلك يستدعي طول القيام، بحيث تكون الرّكعة في نحو أربعين دقيقة، وكان الصحابة يفعلون ذلك، بحيث يعتمدون على العصي من طول القيام، فإذا شق عليهم طول القيام والأركان خففوا من الطول، وزادوا في عدد الركعات، حتى يستغرق صلاتهم جميع الليل، أو أغلبه، فهذا سنة الصحابة في تكثير الركعات، مع تخفيف الأركان، أو تقليل الركعات مع إطالة الأركان، ولم ينكر بعضهم على بعض، فالكل على حقّ، والجميع عبادة يُرجى قبولها ومضاعفتها، والله أعلم.

السؤال:- بعض الناس عندما يأتون إلى مسجد تُصلى فيها التراويح ثلاثاً وعشرين ركعة، فإنهم يقومون بأداء إحدى عشرة ركعة فقط، ظناً منهم بأنه لا يجوز الزيادة على ذلك، وبالمقابل لا يُتمون مع الإمام، وينصرفون إلى قراءة القرآن، أو كتاب معين، أو ربما جلسوا مع بعض زملائهم يتحادثون، فهل فعلهم هذا صحيح، أم المطلوب أن يُتابعوا الإمام في صلاته، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة"؟ الجواب:- قيام رمضان يحصل بصلاة جزء من كل ليلة، كنصفها أو ثلثها، سواء كان ذلك بصلاة إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث وعشرين، ويحصل القيام بالصلاة خلف إمام الحي حتى ينصرف، ولو في أقل من ساعة، لما روى أهل السنن بسند صحيح، عن أبي ذر -رضي الله عنه قال-: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُقم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يُقم بنا في السادسة، ثم قام بنا الخامسة حتى ذهب شطر الليل، أي: نصفه، فقلنا: يا رسول الله: لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". الحديث، وكان الإمام أحمد يُصلي مع الإمام ولا ينصرف إلا معه، عملاً بهذا الحديث، فمن أراد هذا الأجر فعليه أن يصلي مع الإمام حتى يفرغ من الوتر، سواء صلى قليلاً أو كثيراً، وسواء طالت المدة أو قصرت. فالصلاة أفضل عبادة بدنية يتقرب بها العباد، وليس لها حدّ محدود، بل من أطال أو زاد في عدد الركعات فله أجر ذلك، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

السؤال:- ما مشروعية الجماعة في قيام رمضان؟ وما السبب في عدم استمرار النبي، صلى الله عليه وسلم، بالجماعة في صلاة التراويح؟ الجواب:- قال أبو محمد بن قدامة في المغني: والمختار عند أبي عبد الله فعلها في الجماعة، قال في رواية يوسف بن موسى: الجماعة في التراويح أفضل. وإن كان رجل يُقتدى به فصلاَّها في بيته خفت أن يقتدي الناس به، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا بالخلفاء". وقد جاء عن عمر أنه كان يُصلي في الجماعة، وبهذا قال المزني، وابن عبد الحكم، وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، قال أحمد: كان جابر وعلي وعبد الله يصلونها في جماعة.. إلخ. وأما المرفوع في ذلك ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت: صلى النبي، صلى الله عليه وسلم، في المسجد ذات ليلة، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، وكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أوالرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أنني خشيت أن تفرض عليكم". وذلك في رمضان. وعن أبي هريرة قال: خرج رسول الله، فإذا الناس في رمضان يُصلون في ناحية المسجد، فقال: "ما هؤلاء"؟ قيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأُبي بن كعب يُصلي بهم، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "أصابوا، ونعم ما صنعوا". رواه أبو داود.

وروى مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الليلة الثانية، فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد، فقال: "أما بعد فإنه لم يخف عليَّ شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تُفرض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها". ففي هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ببعض أصحابه جماعة، ولم يداوم عليها، وعلل تركها بخوفه أن تُفرض عليهم، فلما أمنوا من ذلك بعده جمعهم عليها عمر -رضي الله عنه- فروى البخاري عن عبد الرحمن بن عبد قال: خرجت مع عمر -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يُصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب.

السؤال:- ما مشروعية حضور النساء لصلاة التراويح؟ وما رأيكم -أحسن الله إليكم- في مجيء بعضهن مع السائق بدون محرم، وربما جئن متبرّجات أو متعطرات؟ وكذلك بعضهن يصطحبن أطفالهن الصغار، مما يسبب التشويش على المصلين، بكثرة إزعاجهم بالصياح والعبث فما توجيهكم؟ الجواب:- قال في مجالس شهر رمضان: ويجوز للنساء حضور التراويح في المساجد، إذا أمنت الفتنة منهن وبهن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". متفق عليه. ولأن هذا من عمل السلف الصالح -رضي الله عنهم-، لكن يجب أن تأتي متسترة متحجّبة، غير متبّرجة ولا متطّيبة، ولا رافعة صوتاً، ولا مبدية زينة، لقوله -تعالى-: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) (النور:31) . أي لكن ما ظهر منها، فلا يمكن إخفاؤه، وهي الجلباب والعباءة ونحوهما، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، لما أمر النساء بالخروج إلى الصلاة يوم العيد قالت أم عطّية: يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: "لتُلبسها أختها من جلبابها". متفق عليه. والسنة للنساء أن يتأخرن عن الرجال، ويبعدن عنهم، ويبدأن بالصف المؤخر، عكس الرجال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها. وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها". رواه مسلم، وينصرفن عن المسجد فور تسليم الإمام، ولا يتأخرن إلا لعذر، لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا سلَّم حين يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيراً قبل أن يقوم، قالت: نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. رواه البخاري أ. هـ.

ولا يجوز لهنَّ أن يصطحبن الأطفال الذين هم دون سن التمييز، فإن الطفل عادة لا يملك عن العبث، ورفع الصوت، وكثرة الحركة، والمرور بين الصفوف، ونحو ذلك، ومع كثرة الأطفال يحصل منهم إزعاج للمصلين، وإضرار بهم، وتشويش كثير بحيث لا يُقبل المصلي على صلاته، ولا يخضع فيها، لما يسمع من هذه الآثار، فعلى الأولياء والمسئولين الانتباه لذلك، والأخذ علي أيدي السفهاء عن العبث واللعب، وعليهم احترام المساجد وأهلها، والله أعلم. أما ركوب المرأة وحدها مع قائد السيارة فلا يجوز، لما فيه من الخلوة المحرمة، حيث جاء في الحديث عنه، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم". وقال -أيضاً-: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان". فعلى المرأة المسلمة أن تخشى الله، ولا تركب وحدها مع السائق، أو صاحب الأجرة، سواء إلى المسجد، أو غيره خوفاً من الفتنة، فلا بد من أن يكون معها غيرها من محارم أو جمع من النساء، تزول بهن الوحدة مع قرب المكان، والله أعلم.

السؤال:- ما الفرق بين صلاة التراويح والقيام؟ وما الدليل على تخصيص القيام بالعشر الأواخر؟ وهل من دليل على تخصيص القيام بتطويل القراءة والركوع والسجود؟ الجواب:- صلاة التراويح هي قيام رمضان بما تقدّم، ولكن طول القيام في العشر الأواخر يسمى بالقيام، وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، "إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله". قال ابن رجب في اللطائف: يُحتمل أن المراد إحياء الليل كله، وقد روي من وجهٍ فيه ضعف بلفظ: "وأحيا الليل كله، وفي المسند عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم، يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر". وخرج أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعاً وعشرين لم يذق غمضاً اهـ. وقال -أيضاً- في معنى شدّ المئزر: والصحيح أن المراد اعتزاله للنساء ... وقد ورد ذلك صريحاً من حديث عائشة وأنس، وورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان، وفي حديث أنس: وطوى فراشه، واعتزل النساء. ومن هذه الأحاديث يُعلم سبب تخصيص ليالي العشر الأواخر بالقيام، فإن ظاهر هذه الأحاديث أنه يقوم الليل كله بالصلاة والقراءة، ولا شك أن ذلك يستدعي طول القيام والركوع والسجود، وقد ذُكر في المناهل الحسان عن الأعرج، قال: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، وكان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات، وإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفّف.

وعن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه، قال: كنّا ننصرف في رمضان من القيام، فنستعجل الخدم بالطعام، مخافة فوت السحور. وسبق في حديث السائب أن القارئ يقرأ بالمئين، حتى كانوا يعتمدون على العصي، فما كانوا ينصرفون إلا في فروع الفجر، وروى مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة طول القنوت". أي طول القيام، وروى مسلم -أيضاً- عن حذيفة، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: "سمع الله لمن حمده". ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد، فقال: "سبحان ربي الأعلى". فكان سجوده قريباً من قيامه". وروى البخاري ومسلم عن ابن مسعود، قال: "صليت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأطال، حتى هممت بأمر سوء، هممت أن أجلس وأدعه". فمن هذه الأحاديث يؤخذ أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي داوم عليها طول القيام، وطول الأركان، وأنه يخص العشر بمزيد من الاجتهاد، والله أعلم.

السؤال:- بعض الناس مّمن يُحبُّ الخير والتقرُّب إلى الله يذهب بعيداً أو قريباً للصلاة في ليالي شهر رمضان المبارك خلف إمام معين، بحجة خشوع هذا الإمام وقراءته الجيدة، فهل هذا الفعل مشروع؟ الجواب:- من المشاهد أن القلب يخشع ويخضع عند سماع القرآن من القارئ الذي يتقن القراءة، ويتغنّى بالقرآن، ويجيد التلاوة، ويكون حسن الصوت، يظهر من قراءته أنه يخاف الله -تعالى- فإذا وجد الإنسان الخشوع، وحضور القلب خلف الإمام الذي يكون كذلك، فله أن يُصلي خلفه، وله أن يأتي إليه من مكان بعيد أو قريب، ليحصل له الاستفادة والإِخبات في صلاته، وليتأثر بهذه القراءة التي رغب سماعها، وأحضرها لبّهُ، وخشع لها، فينصرف وقد ازداد إيماناً، واطمأنَّ إلى كلام الله -تعالى- وأحبّه، فيحمله ذلك على أن يألف القراءة ويكثر منها، ويتدبّر كتاب الله، ويقرؤه للاستفادة، ويحرص على تطبيقه والعمل به، ويتلوه حق تلاوته، ويحاول تحسين صوته بالقرآن. وقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن" وفي الصحيحين عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به". وعن البراء -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "حسِّنوا القرآن بأصواتكم، فإنَّ الصوت الحسن يزيد القرآن حُسْناً". فمن هذه الأدلة يباح اختيار الإمام الذي يجيد القرآن، ويكون حسن الصوت به والترتيل، وإذا كان بعيداً فالذهاب إليه أكثر أجراً، لما يكتب من الخطوات والذهاب والمجيء، والله الموفق.

السؤال:- ما حكم القراءة من المصحف للإمام الذي لا يحفظ؟ وما حكم متابعة المأموم الإمام بالنظر في المصحف عند القراءة بحجّة إصلاح خطأ الإمام، أو من أجل زيادة الفهم والتدبُّر والخشوع، كما يحتجون؟ وهل ترون هناك بأساً فيما إذا خصّص الإمام أحد المأمومين ليحمل المصحف ليصلح الأخطاء التي قد يقع فيها؟ الجواب:- لا أرى بأساً في حمل المصحف خلف الإمام، ومتابعته في القراءة لهذا الغرض، أو للفتح عليه إذا غلط، ويغتفر ما يحصل من حركة القبض وتقليب الأوراق، وترك السنة في قبض اليسار باليمين، كما يغتفر ذلك في حقّ الإمام الذي يحتاج إلى القراءة في المصحف، لعدم حفظه للقرآن، ففائدة متابعة الإمام في المصحف ظاهرة، بحضور القلب لما يسمعه، وبالرقة والخشوع، وبإصلاح الأخطاء التي تقع في القراءة من الأفراد، ومعرفة مواضعها، كما أن بعض الأئمة يكون حافظاً للقرآن فيقرأ في الصلاة عن ظهر قلب، وقد يغلط ولا يكون خلفه من يحفظ القرآن فيحتاج إلى اختيار أحدهم ليتابعه في المصحف، ليفتح عليه إذا ارتج عليه، ولينبهه إذا أخطأ، فلا بأس بذلك، إن شاء الله.

السؤال:- ما معنى التغنِّي بالقرآن؟ وما حكمه؟ وما معنى التحبير في القراءة؟ وماذا ترون في مسألة تكلُّف بعض الأئمة في نطق القرآن بحيث يخرجون عن سجيّتهم بقصد تحبيره؟ الجواب:- التّغني هو تحسين الصوت بالقرآن، والترنُّم به، وهو مُستحب، لحديث أبي هريرة: "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن". وروى مسلم عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود". وروي عنه أنه قال: "لو علمت أنك تستمع إليّ لحربته لك تحبيراً". والتحبير تحسين الصوت وتحزينه، وحيث أعجب النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرّه على التّحبير، فإن ذلك يدل على الاستحباب، لكن التكلف والتشدد في النطق بالحروف، والمبالغة في المد والشد، والإظهار والإفصاح الزائد عن القدرة المعتادة لا يجوز، فإنّ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيها تكلف، فقد قرأ سورة البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، وقد ثبت عن عثمان -رضي الله عنه- أنه كان يختم القرآن في ركعة". ولو كانوا يتكلّفون هذا التكلف المعهود في قراءة المعاصرين لما أمكنهم ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا القرآن من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح، يتعجّلونه ولا يتأجّلونه". رواه أبو داود بمعناه. قال النووي في التبيان: معناه يتعجّلون أجره، إما بمال وإما بسمعة ونحوها، وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل العشق، ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونةٌ قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم". ذكره في جامع الأصول، وعزاه لرزين، والله أعلم (الحديث فيه ضعف) .

السؤال:- ما ترون في مسألة ترتيب القراءة في صلاة التراويح للإمام؟ هل يقرأ حسب ترتيب السور، أم له أن يقرأ من هنا وهناك بدون تسلسل السور؟ وهل ينبغي أن يقرأ القرآن كاملاً في قيام رمضان أم يقتصر على بعضه؟ الجواب:- قال النووي في التبيان: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف، فيقرأ الفاتحة ثم البقرة، ثم آل عمران، ثم ما بعدها على الترتيب، وسواء قرأ في الصلاة أو في غيرها حتى قال بعض أصحابنا: إذا قرأ في الركعة الأولى سورة: (قل أعوذ برب الناس) ، يقرأ في الثانية: بعد الفاتحة من البقرة ... ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة، فينبغي أن يُحافظ عليها إلى أن قال: وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف، وروى ابن أبي داود عن الحسن: "أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه في المصحف". وبإسناده الصحيح عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قيل له: "إن فلاناً يقرأ القرآن منكوساً؟ فقال: ذلك منكوس القلب". انتهى. وقال في المناهل الحسان: ويستحب أن يقرأ بسورة القلم في عشاء الآخرة، من الليلة الأولى من رمضان بعد الفاتحة، لأنها أول ما نزل من القرآن، ويستحب أن لا ينقص عن ختمه في التراويح، ليسمع الناس جميع القرآن. اهـ. ونقل ابن قدامة في المغني عن القاضي أبي يَعْلى، قال: لا يستحب النقصان عن ختمة في الشهر، ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة، كراهية المشقّة على من خلفه، والتقدير بحال الناس أولى، فإنه لو اتفقّ جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه كان أفضل. انتهى.

السؤال:- كثيرٌ من أئمة المساجد يحددون قدراً معيناً من القرآن لقراءة كل ليلة وكل ركعة، كجزء في الليلة مثلاً وصفحة من المصحف في الركعة، وهكذا.. فما توجيهكم -عفا الله عنكم- في ذلك؟ الجواب:- لا بأس بتحديد قدر معين يقرأ به المصلي كل ليلة، يقسمه على ركعات التراويح، كما عليه العمل في صلاة أئمة الحرمين، ويكون ذلك بقدر ما يحتمله المصلون، ويناسب المقام، ولا بأس بالزيادة في بعض الليالي، كالعشر الأواخر التي تخص بطول القيام، فيزاد في قدر القراءة فيها، وأما الركوعات التي في بعض المصاحف فلا يلزم التقيد بها، وإن كانت متناسبة، والأولى أن يكون الركوع عند آخر السورة، أو عند موضع منفصل عما قبله.

السؤال:- ما حكم تجويد القراءة؟ وما حد اللحن المبطل للصلاة وما الحكم في اللحن في فاتحة الكتاب؟ وماذا تقولون في إمامة من تكثر أخطاؤه بصورة ملفتة للنظر؟ الجواب:- التجويد المطلوب هو إظهار الحروف وإيضاحها، قال النووي في التبيان: "وينبغي أن يرتل قراءته، قال الله -تعالى-: (ورتل القرآن ترتيلاً) (المزمل:4) . وروى أبو داود والترمذي وصححه عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. وعن عبد الله بن مغفل، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع في قراءته". وقال ابن عباس: "لأن أقرأ سورة وأرتلها، أحب إلى من أن أقرأ القرآن كله"، وقد نُهي عن الإفراط في الإسراع، ويُسمى الهذرمة، فثبت أن رجلاً قال لابن مسعود: "إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: هذا كهذ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع". وقال ابن قدامة في المغني، والمستحب أن يأتي بها مرتلة معرّبة، يقف فيها عند كل آية، ويمكن حروف المدّ واللين، ما لم يخرجه ذلك إلى التمطيط.. فإن انتهى ذلك إلى التمطيط والتلحين كان مكروهاً، لأنه ربما جعل الحركات حروفاً، قال أحمد: يعجبني من قراءة القرآن السهلة. وقال: قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم". قال: يحسّنه بصوته من غير تكلُّف. اهـ. وقال -أيضاً-: تكره إمامة اللحان الذي لا يُحيل المعنى، نصّ عليه أحمد، وتصحّ صلاته بمن لا يلحن، لأنه أتى بفرض القراءة، فإن أحال المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة الصلاة، ولا الائتمام به، إلا أن يتعمّده فتبطل صلاتهما.

وقال -أيضاً-: يلزمه أن يأتي بقراءة الفاتحة مرتّبة مشدّدة، غير ملحون فيها لحناً يُحيل المعنى، فإن ترك ترتيبها أو شدّة منها، أو لحن لحناً يُحيل المعنى، مثل أن يكسر كاف (إياك) أو يضم تاء (أنعمت) أو يفتح ألف الوصل في (اهدنا) لم يعتد بقراءته إلا أن يكون عاجزاً عن غير هذا. اهـ. وبهذا يعرف حد اللحن الذي يُبطل الصلاة، ولا شك أن الذي يكثر غلطه في الآيات والحروف لا تجوز إمامته مع وجود من يجيد القراءة. والله أعلم.

السؤال:- يقوم بعض الأئمة بوضع مكبرات صوت وجهاز يعرف باسم (جهاز صدى) يحدث أثناء القراءة تردّداً في أواخر الكلمات مما يجعلها متداخلة غير واضحة أحياناً، وقد تحدث نوعاً من جمال الصوت بالمقابل ربما تأثر المصلون وخشعوا على إثره، فما ترون في ذلك أحسن الله إليكم؟ الجواب:- هذه المكبرات كثيراً ما تحدث التشويش وخفاء الصوت، حيث إنها تلتقط الأصوات قبل أن تُفهم، وأحياناً تُحدث الصدى في داخل المسجد، مما لا يفهم معه صوت القارئ. فأرى أن لا تستعمل هذه الأجهزة القوية إلا إذا قصر من صوتها، فإن كان قصد الإمام تحسين الصوت، أو تحصيل الخشوع، فليكن ذلك بغير هذه المكبرات، وإن قصد سماع البعيد، ليحصل له شهرة، وثناء بين الناس، كان ذلك داخلاً في الرّياء والسمعة، فإن قصد تنبيه الغافل، وحضور المتكاسل، كان ذلك حسناً، لكن لا يُبالغ في رفع صوت المكبر، بحث يُشوّش على المساجد الأخرى. والله أعلم.

السؤال:- بعض أئمة المساجد يرددون آيات الرحمة وآيات العذاب ثلاث مرات، أو أربع مرات، أو أكثر بقصد الخشوع، وإبكاء المصلين فما مدى موافقة ذلك للسنة؟ وهل أثر عن السلف؟ وهل كانوا يقتصرون على البكاء في آيات الجنة والنار أم الدليل يفيد ما هو أعم من ذلك؟ وما هي نصيحتكم للأشخاص الذين يبكون عند الدعاء ولا يبكون عند سماعهم الآيات؟ الجواب:- يجوز ترديد الآية للتدبر، قال النووي في التبيان: (عن أبي ذر) قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم، بآية يرددها حتى أصبح، والآية: (إن تُعذّبهم فإنهم عِبادُكَ) . رواه النسائي وابن ماجة. وعن تميم الداري) أنه كرّر هذه الآية حتى أصبح: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) . وذكر أن أسماء -رضي الله عنها- كرّرت قوله تعالى: (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) . طويلاً، وردّد ابن مسعود: (رب زدني علماً) . وردد سعيد ابن جبير: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) ، وردد -أيضاً-: (فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم) ، وردد أيضاً: (ما غرك بربك الكريم) . وكان الضحاك إذا تلا قوله تعالى: (لهم من فوقهم ظلل من النار، ومن تحتهم ظلل) . رددها إلى السحر. اهـ. ومن هذه الآثار يعلم أن القارئ يردد هذه الآيات الوعظية لتأثره بها. وليس لتأثيرها في غيره، ولكن لا مانع من الأمرين. وأما البكاء عند سماع القرآن فهو صفة العارفين، وشعار الصالحين، كما قال تعالى: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) (الإسراء:109) . وقد ورد في الحديث: "اقرأوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا". وكان عمر إذا قرأ في الصلاة يبكي، حتى تسيل دموعه على ترقوته، وحتى يسمع بكاؤه من وراء الصفوف.

وثبت في الصحيح أن ابن مسعود قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، من أول سورة النساء إلى قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) . قال: "حسبك الآن". قال: "فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان". وكان عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- كثير البكاء، وكان في خديه خطّان من البكاء، وقال أبو رجاء: رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع، والآثار في هذا كثيرة، يعلم منها أن بكاء السلف كان عند سماع القرآن، ولكن كانوا -أيضاً- يبكون عند سماع المواعظ، ففي حديث العرباض: قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون..". الحديث. فينبغي الخشوع والبكاء أو التباكي، عند سماع آيات التخويف، وآيات العذاب، وكذا عند المواعظ التي تشتمل على تذكير وتنبيه، سواءً كانت من الأدعية أو الأدلة، وينبغي أن يُعلم أن البكاء هو أثر الخشوع، وحضور القلب، وأثر التفكر والتأمل لما يسمعه من الآيات التي تتعلق بالآخرة، سواء في ذكر الجنة والنار، أو ذكر الموت وما بعده، أو ذكر العقوبات والمثلات الدنيوية، وكذا ما تشتمل عليه الأدعية في القنوت أو غيره من ذكر الرغبة والرهبة، والإلحاح في الطلب، فمتى أحضر السامع قلبه، وتدبر معاني ذلك، رق قلبه ودمعت عيناه، وليس ذلك خاصاً بدعاء القنوت؛ بل يعم كل ما اشتمل على الوعظ والتخويف من المسموعات والمرئيات، والله المستعان.

السؤال:- بعض الأئمة مّمن رزقه الله صوتاً حسناً ورقّة وخشوعاً في قراءة القرآن، خصوصاً من الشباب لوحظ أنّ تقدير الناس والثناء عليهم تجاوز حدّ الاعتدال، بل وصل الأمر أن يقوم الشيخ المُسّن بتقبيل رأس هذا الإمام الشابّ، فما مدى موافقة ذلك للشّرع؟ وهل لكم من توجيه لهؤلاء المأمومين أن لا يبالغوا في المدح والثناء؟ وهل من نصيحة للأئمة لينجوا من حبائل الشيطان وكيده؟ الجواب:- إذا كان هذا الصوت طبيعة وجبلة فلا مانع من ذلك، لكن على الإمام أن لا يبالغ إلى حدّ فيه شيء من التكلُّف، الذي يُخرجه عن حدّ الاعتدال، بل عليه أن يقرأ كما علّمه الله، ويلزمه الإخلاص في قراءته، وإصلاح النية، بأن يُريد وجه الله والدّار الآخرة، ولا يكون قصده الشّهرة وانتشار الخبر عنه على ألسُن الناس، كما أن عليه التواضع، وتصغير نفسه، واحتقار عمله، بأن لا يرى نفسه أهلاً للتوقير ولا للاحترام، وعليه أن يمنع من يغلو فيه، أو يعامله بما لا يستحقّه، كما أن على المأمومين أن لا يصلوا به إلى حدّ التعظيم والتبجيل. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، في غاية من التواضع، وحثّ أصحابه على أن لا يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله فيها، كما روي عنه أنه قال: "إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد".

وروي عنه أنه قال: "إِنَّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد"، كما أن الواجب على العامّة أن لا يبالغوا في هذا الاحترام والتوّقير، لما فيه من الغلو الذي يُخشى معه الغرور، والإعجاب بالنفس، ومع ذلك فإن محبة المؤمنين بعضهم لبعض متأكِّدة، لأجل الإيمان والعمل الصالح، ولكن أثر المحبة في ذات الله، الاقتداءُ بالصّالحين، واتِّباع آثارهم، والانتفاع بإرشادهم، ومعلوم أن كل عبد صالح مخلص لله تجب محبّته على إخوانه، وأن الصّغير عليه أن يحترم من هو أسن منه. وقد ورد في الحديث: "إنّ من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه" إلخ. ولكن لا يتوقّف الإجلال على تقبيل الأيدي والأرجل، ونحو ذلك، وإنما يتمثَّل في السلام والاحترام، والتقديم والتّوقير، ونحوه. والله أعلم.

السؤال:- بعض الشباب -وفقهم الله- لا يستقرّون في مسجد واحد، فكل يوم يتنقلون بحثاً عن الأصوات الجيدة، فهم يرون أن الإمام الفلاني قراءته مؤثِّرة، فلا يستقرّون ولا يثبتون، بل يتركون المساجد القريبة حيث لا يلتذّون بقراءتهم ولا يكمل خشوعهم في الصلاة! فما توجيهكم وما هو الأفضل بالنسبة للسنة؟ الجواب:- لا نلومهم على ذلك، فإن الصوت الحسن، والقراءة الجيدة، لها وقع في النفس، وتأثير في حضور القلب، وخشوع البدن، والتأثُّر بكلام الله -تعالى-، والتّلذُّذ بسماعه. مما يكون سبباً في فهمه، وإدراك معانيه، وتدبره، ومعرفة إعجازه وبلاغته، وقوة أساليبه، وكل ذلك سبب في العمل به، وتقبّل إرشاداته، وتوجيهاته، فلا يُعاب من التمس قارئاً حسن الصّوت، مجوّداً للقرآن، حافظاً له، خاشعاً في قراءته، مطمئناً في صلاته، فإن مثل هذا يقصد للصلاة خلفه، ولو من مكان بعيد، ويفضل على غيره ممن لا يجيد القراءة، أو يلحن، أو يغلط كثيراً، أو لا يحسن صوته، ولا يتغنَّى بالقرآن، أو يقرأ بالهذرمة والسرعة الشديدة، أو لا يطمئن في صلاته، ولا يخشع في قراءته، ولو كان مسجده قريباً، ولكن ينبغي توجيه جميع الأئمة إلى العمل بالسنة في تحسين الصوت بالقرآن حسب القدرة، والتخشع في القراءة والطمأنينة في الصلاة، حتى لا يهرب منهم المصلون في التراويح أو غيرها، ولكن ينبغي أن يستمرّ المصلي خلف إمام واحد من أول الشهر إلى آخره، حتى يستمع إلى القرآن كله، فيستقر خلف الإمام الذي يختاره، ويركن إلى قراءته، وحسن صوته، وكمال الصفات المطلوبة فيه، ولا ينبغي له التنقُّل كل يوم في مسجد فيفوت عليه سماع بعض القرآن، لوجود التفاوت بين الأئمة في طول القراءة وقصرها. والله الموفق.

السؤال:- هل للإمام في صلاة التراويح أن يسرد الركعات بسلام واحد؟ وما هو الهدي الصحيح في ذلك؟ وما تقولون فيمن يُصلّي الشفع والوتر كصلاة المغرب؟ هل يؤثر ذلك؟ الجواب:- السنة في صلاة التراويح، وفي صلاة التهجّد أن يسلم من كل ركعتين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وسواء صلاة أول الليل أو آخره، لظاهر الحديث، وأمّا قول عائشة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: "يُصلّي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلّي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلّي ثلاثاً". فليس المراد أنه يسرد الأربع أو الثلاث بسلام واحد، وإنَّما أرادت وصف الأربع الأولى بالطول الزائد، وأن الأربع الثانية دونها في الطول، مع تسليمه من كل ركعتين، كما ذكر ابن عباس في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما بات عنده أنه صلى ركعتين ثم ركعتين إلخ. لكن قد ثبت عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يُوتر بخمس، لا يجلس إلا في آخرها، وبسبع يسردهُنّ، وبتسع يتشهًد بعد الثامنة ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة". ولعلّ ذلك كان في آخر حياته، ولم يكن يداوم عليه، وقد أجاز العلماء أن يُصلّي الوتر خمساً بسلام، أو سبعاً بسلام، وأجاز بعضهم الثلاث سرداً، وكره كثير من العلماء أن يصليها بتشهدين كالمغرب، ولكن ذلك جائز مع الكراهة، والله أعلم.

السؤال:- في بعض المساجد يصلي الإمام التراويح، فإذا بقي الوتر والدعاء تقدّم آخر ليكمّل، وذلك لحسن صوته، وتباكيه في الدّعاء هل هذا مناسب؟ الجواب:- الأولى أن يتولَّى الإمام الرّاتب صلاة التراويح وصلاة الوتر، لينصرف مرة واحدة، ويصدق على من صلَّى معه أنه عمل بالحديث، وهو قوله، صلى الله عليه وسلم: "من صلّى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". ويجوز أن ينصرف قبل الوتر إذا أحبّ أن يوتر آخر الليل حتى يجعل وتره آخر صلاته، وعلى هذا يقدم غيره، ويصلي معه، فأما تقديمه لأجل رقة صوته، أو حفظه لكثير من الأدعية في القنوت، فلا يُشرع ذلك، وإنَّما عليه أن يدعو بما يحفظ من الأدعيّة المأثورة، ولو لم يحصل للسامعين بكاء ولا تخشّع، فحسبه أنه قنت بدعاء مُفيد، وارد في السنة أو عن سلف الأمة، ولا يلزم في الدعاء تحسين الصّوت والتّباكي، وإنَّما الواجب إحضار القلب، والإخلاص في الدعاء، ورجاء الإجابة. والله الموفق.

السؤال:- لقد انتشرت في المساجد في شهر رمضان ظاهرة البكاء بصوت عال، يصل إلى حدّ الإزعاج، وتجاوز بعض الناس حدّ الاعتدال، وأصبحت هذه الظاهرة عادة عند بعضهم ألفوها، فهم يتباكون لبكاء الإمام، أو المأمومين من دون تفهّم وتدبّر، فهل ورد في السنة الحثّ على التباكي؟ وما الفرق بين التباكي والخشوع الكاذب؟ هل من توجيه للأئمة المكثرين من البكاء، حيث يُخشى عليهم أن يداخل الرّياء أعمالهم، ويزيّن الشيطان لهم فتختلف النّية؟ الجواب:- البكاء مسنون عند سماع القرآن، وعند المواعظ والخطب ونحوها، قال -تعالى-: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سُجّداً وبُكِيّاً) (مريم:58)) . وروى أهل السنن عن عبد الله بن الشخير قال: "رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء". فإذا حصل البكاء في الصلاة لم تبطل إذا كان من خشية الله، وكذا عند سماع القرآن، حيث إنه يغلب على الإنسان، فلا يستطيع رده، ولكن لا يجوز التكلّف في ذلك برفع الصوت عمداً، كما لا يجوز المباهاة بذلك، وقصد الشهرة بين الناس، فإن ذلك كالرّياء الذي يُحبط الأعمال، كما ورد في الحديث: "من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به". وهكذا لا يحسن البكاء تقليداً للإمام أو لبعض المأمومين، وإنَّما يُمدح إذا كان من آثار الخشوع، والخوف من الله -تعالى-، وقد ورد في الحديث: "اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا". والتباكي هو تكلّف البكاء ومحاولته دون خشوع غالب دافع عليه، وأما الخشوع الكاذب فهو ترك الحركة، وسكون الأعضاء، دون حضور القلب، ودون تدبُّر وتفهم للمعاني والحالات.

وعلى الأئمة وكذا المأمومين محاولة الإخلاص، وصفاء النيّة، وإخفاء الأعمال، ليكون ذلك أبعد عن الرياء الذي يُحبطها، فإن كثرة البكاء بدون دافع قوي، وتكلف التخشّع، ومحاولة تحسين الصوت وترقيقه ليكون مثيراً للبكاء، ليُعجب السامعون والمأمومون به، ويكثر القاصدون له، دون أن يكون عن إخلاص أو صدق، هو مما يُفسد النيّة، ويُحبط الأعمال، وقد يطلع على ذلك بعض من يسمعه. والله علاّم الغيوب.

السؤال:- بعض الأئمة -هداهم الله- لا يطمئنون في صلاتهم وقراءتهم، فهم يُسرعون سرعة قد تخلّ، رغبة في ختم القرآن، ليتمكّنوا بعد ذلك من الذّهاب إلى مكة، للجلوس في الحرم بقيّة الشهر، ويتركون مساجدهم، أو يضعون إماماً قد لا يُتقن القراءة، (وبإمكانهم الذهاب هم وغيرهم في بداية الشهر أو وسطه حتى لا يضيقوا على المسلمين) . فهل الأفضل أن يلزموا مساجدهم، ويفيدوا الناس، أم يذهبون إلى مكة كما هو حال كثير من الناس، حيث أصبحت المسألة عادة أحبّوها إلى جانب رغبتهم في التزوُّد من الطاعة، فكثير من النّاس (الشباب) يذهب ليلتقي بزملائه وأصدقائه ومعارفه، وقد يذهب عليه الوقت دون أن يستفيد الفائدة المرجوّة؟ الجواب:-

لا شكّ أن وظيفة الإمامة من أفضل الأعمال، إذا احتسب بها الإمام، وأدّى حقّها، ثم إنها في هذا الزمان وهذه البلاد أصبحت وظيفة حكوميّة، يلتزم بها من تَعيّن لها، ويتقاضى عليها مكافأة من بيت المال، فيلزمه والحال هذه القيام بها كما ينبغي، ولا يجوز الإخلال بها، ولا التخلّف عنها إلا لعذر غالب، كما لا يجوز له السفر الذي يلزم منه إهمال المسجد، وإضاعة الجماعة، ولو كان سفر طاعة، فإنه يكون كالمتقرّب بالنوافل مع إضاعة الفرائض، ويلزمه إذا عرض له عارض، أو طرأ عليه سفر ضروري، أن يُقيم مقامه من يؤدِّي عمله وهو إمامة المسجد ونحوه، بشرط أن يختار من فيه الأهليّة والكفاءة، وأداء الواجب، ويكون مرضيّاً عند جماعة المسجد، ففي رمضان إذا كان راغباً في أداء العمرة قدّمها في أول الشهر أو وسطه، فإن في ذلك تحصيلاً للفضل، وسوف يجد غالباً من يخلفه يومين أو ثلاثة، ممن فيهم الأهليّة والكفاءة، وقد لا يجدهم في آخر الشّهر، ولا ينبغي أن يكون قصده من العمرة في آخر الشّهر الشّهرة، أو صحبة الأصدقاء، والزملاء، حتى لا يفقد بينهم! بل يكون هذا القصد تابعاً لا أساساً، لا يترك لأجله مسجده أو وظيفته، ولا يستعجل أو يسرع في القراءة ليختم القرآن في أول العشر، ثم يسافر بعد ذلك إلى مكة أو غيرها، ومن ليس عنده عمل وظيفي فله أن يذهب متى شاء، أول الشهر أو آخره، بشرط الإخلاص وحسن النيّة. والله أعلم.

السؤال:- نظراً للجدل الذي يحصل كل عام على موضوع الختمة، نرجو الإفادة، ما الصحيح في هذه المسألة؟ ما حكم تخصيص ليلة معينة للختمة كليلة سبع وعشرين، أو تسع وعشرين؟ الجواب:- الدعاء بعد ختم القرآن مشهور عن السّلف، ومعمول به عند أكثر الأئمة. قال ابن قدامة في المغني، فصل في ختم القرآن، قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله يعني الإمام أحمد، فقلت: أختم القرآن أجعله في الوتر أو في التراويح؟ قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع، وادع بنا ونحن في الصلاة، وأطل القيام، قلت: بما أدعو؟ قال: بما شئت. قال: ففعلت بما أمرني، وهو خلفي يدعو قائماً، ويرفع يديه. قال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغت من قراءة: (قل أعوذ برب الناس) ، فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة؛ قال العبّاس بن عبد العظيم: وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة، ويروي أهل المدينة في هذا شيئاً، وذكر عن عثمان بن عفّان اهـ. وقال النووي في (التبيان، في آداب حملة القرآن) : "يُستحبُّ حضور مجلس ختم القرآن استحباباً مؤكّداً! وقد روى الدارمي وابن أبي داود بإسنادهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما- أنه كان يجعل رجلاً يراقب رجلاً يقرأ القرآن، فإذا أراد أن يختم أعلم ابن عباس، فيشهد ذلك". وروى ابن أبي داود -يعني في كتاب المصاحف- بإسنادين صحيحين، عن قتادة قال: كان أنس -رضي الله عنه- إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا". وروى بأسانيده الصحيحة عن الحكم بن عتيبة، قال: أرسل إِليَّ مجاهد وعبده بن لبابة فقالا: "إنّا أرسلنا إليك لأنّا أردنا أن نختم القرآن، والدّعاء يُستجاب عند ختم القرآن، وفي بعض الروايات: وإنه كان يقال: إن الرحمة تنزل عند خاتمة القرآن".

وروى بإسناده الصحيح عن مجاهد قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن، يقولون: تنزل الرحمة. ثم قال: (المسألة الرابعة) الدعاء مستحبّ عقب الختم استحباباً مؤكَّداً. وروى الدارمي بإسناده عن حميد الأعرج قال: من قرأ القرآن ثم دعا أمّن على دعائه أربعة آلاف ملك". وينبغي أن يُلحّ في الدّعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة، وأن يُكثر في ذلك في صلاح المسلمين، وصلاح سلطانهم، وسائر ولاة أمورهم، وقد روى الحاكم أن ابن المبارك كان إذا ختم كان أكثر دعائه للمسلمين والمؤمنين والمؤمنات. وقد قال نحو ذلك غيره، فيختار الداعي الدعوات الجامعة، ثم ذكر -يرحمه الله- أدعيّة كثيرة قد لا تكون كلها مأثورة، ثم قال: ويفتح دعاءه ويختمه بقول: "الحمد لله رب العالمين". إلى آخره، وذكر نحو ذلك في كتابه الأذكار، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع 24/322، عن طائفة من السلف، وله -يرحمه الله- دعاء مطبوع ومحفوظ، ومتداول بين المسلمين. والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الارتحال لحضور الختمة في أحد الحرمين؟ لأننا نرى أن كثيراً من الناس لا يصلي التراويح ولا القيام، فإذا جاء وقت الختمة توافدوا بأعداد هائلة؟ ومما هو ملاحظ أنه قد رسخ لدى بعض الناس أن ليلة الختمة ليلة مميزة، فيقعُ تعظيمها والتفرغ لها، والإكثار من العبادة فيها، حتى أن بعضهم ربما حَرِصَ بعد الانتهاء من ختمة القرآن مع الإمام أن يذهب إلى مسجد آخر ليشهد ختمة الإمام، الأخرى، فما موافقة ذلك للسنة؟ الجواب:- إذا عرف أن الدّعاء عند الختمة مشروع، وأنه كان معروفاً عند السّلف، وعلم أنهم كانوا يحضرون القارئ عند ختمه للقرآن، ويؤمّنون على دعائه فإن الحضور المذكور سنة وفضيلة، حيث كان الدَّاعي من أهل الفضل والدِّين، والصلاح، ممَّن يُرجى إجابة دعائه، وحيث إن الموضع له فضله وشرفه، ومضاعفة الأعمال فيه، وكونه مظنة القبول، وحيث يؤمّن عليه الجمع الغفير من المصلين، من رجال ونساء، وكبار وصغار، ولكن يكون القصد من السفر الصلاة في الحرمين، وأداء النسك، أو الاعتكاف، أو الإكثار من نوافل الصلاة فيهما، والمحافظة على صلاة الجماعة، ويكون حضور دعاء الختم تابعاً لذلك، فأمَّا من لا يصلي في رمضان التراويح، ولا يقوم ليالي العشر، وإنما يحضر دعاء الختم، أو يسافر لأجله فإنه قليل الحظ من حصول المغفرة، والعتق من النار.

وأما تخصيص ليلة معينة لختم القرآن فلا حاجة إلى ذلك، بل يختم القرآن متى أتمّ قراءته المعتادة، لكن ورد عن بعض السلف أنه ختم ليلة سبع وعشرين، ذكره ابن رجب في لطائف المعارف. ولعلّ ذلك من باب التحري، لكونها أرجى أن تكون ليلة القدر، ولما ورد فيها من الفضل، وإجابة الدعاء عن كثير من السلف، كما ذكر ابن رجب عن جماعة من العبَّاد دعوا الله في تلك الليلة، فأجيب دعاؤهم، ولعله اقترن به ما صار سبباً لقبوله، ويمكن أن ختمهم في تلك الليلة من باب المصادفة، ولم يكن عن قصدها لذاتها، وبكل حال فيحسن تحرِّي الليالي اللاتي يُرجى فيهنَّ إجابة الدّعاء، بعد ختم القرآن أو غيره، كأوتار العشر الأواخر من رمضان. فأمّا من اعتقد أن تلك الليلة -التي حصلت فيها الختمة- لها مزية أو شرف فليس كذلك، فإن الختم يختلف فيه الأئمة، حيث إن بعضهم يختم أول العشر، وبعضهم آخرها، فأمّا الحرص على حضور الختمة مع أكثر من إمام، فَيُسن ذلك كما نقل عن مجاهد وغيره! أن الدُّعاء يستجاب عند ختم القرآن، وأن الرَّحمة تنزل عنده، لكن إذا فوت على الإنسان وقتاً أو صلوات بعض الليالي لم يشرع ذلك، فإنَّ الذي يسافر إلى مكة، ثم إلى المدينة، ثم يرجع إلى بلده، يفوته في هذه المدة صلاة بعض الليالي، وإنْ كان قصده حسناً، لكن السفر ليس ضرورياً والأعمال بالنيّات، ولا ينبغي فعل ما ينكره عوام الناس وخواصهم، ولم يكن عليه عمل الأمة ولا دليل على مشروعيّته، سواء من هذه الأمور أو غيرها. والله أعلم.

السؤال:- يلاحظ أن بعض أصحاب التسجيلات الإسلامية -وفقهم الله- من حرصهم على نفع المسلمين، وكذلك من باب التنافس مع التسجيلات الأخرى، يقومون بتسجيل قراءة بعض الأئمة الجدد خصوصاً من الشباب (صغار السن) ممن رُزق صوتاً حسناً، ويتم توزيع هذه الأشرطة على هيئة إصدارات تُباع في الأسواق، إلاّ أن هناك ملاحظتين نأمل التوجيه من فضيلتكم عليهما: أولاً: يتم إصدار هذه الأشرطة دون العناية التامة بها، فتخرج أشرطة غير صافية تتخللها تكبيرات، ويقع في القراءة أخطاء كثيرة ولحن، قد يصل إلى اللحن الجليّ. ثانياً: تصرف بعض التسجيلات على الإصدار بعض التكاليف المالية والجهود، وبالتالي تقوم هذه المحلات بالاحتفاظ بالحقوق، فما مدى مشروعية هذا العمل. إضافة إلى أن دفع هؤلاء الأئمة الشباب إلى الساحة، والتسجيل لهم وإطلاق عبارة (قراءة فضيلة الشيخ ... ) عليهم قد يؤدِّي ذلك إلى دخول العجب والرّياء إلى نفوسهم، وهم في بداية الطريق، فما هو توجيهكم أثابكم الله؟ الجواب:- هذه المفاسد يجب تلافيها، فيجب (أولاً) على أهل التسجيلات تصفية القراءة من غيرها، وعدم تسجيل السكتات والتكبيرات، وكل ما ليس من القرآن، حتى لا يختلط القرآن بغيره، فكما لا يجوز كتابة غيره معه في المصاحف، مع عدم التمييز، فكذا لا يجوز في التسجيل مخافة الاشتباه، وكذا لا يجوز إقرار الأخطاء من نقص أو زيادة أو تغيير أو لحن، ولو لم يغير المعنى، فإن تسجيل ذلك ونشره تغيير وتحريف لكلام الله، وإظهار لهذه الاغلاط عند من لا يتفطَّن لها، كما أن فيها عيباً ونقصاً لذلك القارئ، حيث ينتشر غلطه، وكثرة خطئه.

وأما احتفاظ أهل التسجيلات بحق التسجيل، ومنعهم أن يُسجّل عند غيرهم، فقد يكون لهم الحق في ذلك، حيث تعبوا وتكلّفوا في التسجيل، وصرفوا عليه مالاً كثيراً، كما يحصل ذلك في المطابع. لكن الأولى بهم التغاضي والتسامح بنشره، حرصاً على نشر العلم والفوائد بين المسلمين. وأما ما ذكر السائل من مبالغتهم في وصف القارئ وإطرائهم له فلا ينبغي مثل هذه المبالغة خوف الإِعجاب بالنفس، واحتقار الغير، ولا مانع من وصفه بالقارئ ونحوه إذا كان أهلاً لذلك. والله أعلم.

السؤال:- ما حكم القنوت وما صفته وموضعه؟ وهل السنة في دعاء القنوت فعله كل ليلة أم يفعله في بعض الليالي؟ وهل يلزم التقيد بالمأثور من الدعاء؟ وهل يدعو بصيغة الجمع أم يتقيد بالصيغة المأثورة؟ وما قولكم في مسألة التغني في الدعاء كهيئة أدائه لقراءة القرآن؟ الجواب:- المنصوص والمختار عن الإِمام أحمد، وكثير من العلماء، أن القنوت مسنون في الركعة الأخيرة في الوتر، في جميع السنة، قال في المغني: قال أحمد في رواية المروذي: كنت أذهب إلى أنه في النصف من شهر رمضان، ثم إني قلت: هو دعاء وخير، ووجهه ما روي عن أبي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوتر فيقنت قبل الركوع". وعن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك". إلخ. و (كان) للدوام، ولأنه وتر، فيشرع فيه القنوت، ولأنه ذكر يشرع في الوتر، فيشرع في جميع السنة، كسائر الأذكار، وقد روي عن أحمد أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، واختاره بعض الأصحاب، وهو مذهب مالك والشافعي، ومنه يعلم أنه يُستحبّ ترك القنوت أحياناً حتى لا يعتقد العامة وجوبه. وأما الدعاء فيه، فيدعو بما روى الحسن بن علي، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلمات أقولهن في الوتر: اللهم أهدني فيمن هديت"، إلى قوله: "تباركت ربنا وتعاليت" وبما روى علي، وهو قوله: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك". إلخ. وبسورتي أبي، الأولى: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك". إلخ، والثانية: "اللهم إيَّاك نعبد". حيث كان عمر يقنت بهما، ويزيد بقوله: "اللهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يصدُّون عن سبيلك".

ومنه يعلم جواز الزيادة بما يناسب الحال، مع اختيار الأدعية المأثورة الجامعة، لكن لا تنبغي الإطالة الزائدة، التي توقع المأمومين في الملل والضَّجر، وإذا كان الدعاء يؤمّن عليه كان بلفظ الجمع، وقد يفضل لفظ الجمع، ولو دعا الإنسان وحده. وأما التغني والتلحين الذي يخرج الدعاء عن حدّ كونه دعاء خشوع وإنابة فلا يجوز، فإن المطلوب عند الدعاء انكسار القلب، وإظهار التواضع والخشوع، وذلك أقرب إلى قبول الدعاء. والله أعلم.

السؤال:- هل يلزم في قراءة الوتر أن يداوم الإمام على القراءة بسورة (سبح - الكافرون - الإخلاص) ، أم له غير ذلك؟ وما السنة الواردة؟ الجواب:- قال أُبي بن كعب -رضي الله عنه-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوتر: (بسبِّح اسم ربك الأعلى) . و (قل يا أيها الكافرون) . و (قل هو الله أحد) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وروى أبو داود والترمذي نحوه عن عائشة، وفيه: كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة: (قل هو الله أحد) والمعوذتين، لكن أنكر أحمد وابن معين زيادة المعوذتين. والظاهر أنه يكثر من قراءتها، ولا يداوم عليها فينبغي قراءة غيرها أحياناً حتى لا يعتقد العامة وجوب القراءة بها، وقد ذهب مالك إلى أنه يقرأ في الوتر أي الركعة الأخيرة: (قل هو الله أحد) . والمعوذتين، وقال في الشفع: لم يبلغني فيه شيء معلوم، نقل ذلك ابن قدامة في المغني، ولو كانت قراءة سورة الأعلى، وسورة الكافرون، متبعة لما خفيت على مالك، وهو إمام دار الهجرة فدلّ على أنها تقرأ أحياناً لا دائماً. والله أعلم.

السؤال:- هنالك -أحسن الله إليكم- سنة قد تهاون فيها أكثر الناس، ألا وهي سنة الاعتكاف فما توجيهكم؟ وما شروط الاعتكاف؟ وما يجوز وما لا يجوز؟ وهل يجوز للمرأة أن تعتكف؟ وأين يكون؟ الجواب:- الاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله، وهو سنة مؤكَّدة في كل زمان، وتتأكَّد في العشر الأواخر من رمضان، كما روت عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفّاه الله -عز وجل-، ثم اعتكف أزواجه من بعده. وروى البخاري عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتكف في كل رمضان عشرة أيّام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً. قال ابن رجب في اللطائف: "وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم، يعتكف في العشر قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلياً لمناجاة ربه، وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيراً يتخلى فيها من الناس". ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، حتى ولا لتعليم علم، أو إقراء قرآن؛ بل الأفضل له الانفراد بنفسه، وهو الخلوة الشرعية لهذه الأمة، وإنما كان في المساجد لأن لا يترك به الجمعة والجماعات. فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقبله وقالبه على ربه، وما يقرْبه منه، فما بقي له همّ سوى الله وما يرضيه عنه، فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة والمحبة له، والأنس به، أورثت صاحبها الانقطاع إليه بالكليّة على كل حال". اهـ. ولا يصحّ الاعتكاف إلا بشروط: (الأول) : النية، لحديث: "إنّما الأعمال بالنيات". (الثانية) : أن يكون في مسجد، لقوله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد) . وكان صلى الله عليه وسلم، يعتكف في مسجده.

(الثالث) : أن يكون ذلك المسجد الذي تقام فيه صلاة الجماعة حتى لا يتكرّر خروجه لكل وقت، مما ينافي الاعتكاف. ولا يخرج المعتكف إلا لما لا بدّ له منه، ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ويحرم عليه مباشرة زوجته، ويستحبّ اشتغاله بالقربات، واجتناب ما لا يعنيه. وله أن يتحدَّث مع من يزوره. وله أن يتنظف ويتطيَّب، ويخرج لقضاء حاجة وطهارة. وأكل وشرب، إذا لم يجد من يأتيه بهما. وأما المرأة فالأفضل في حقها البقاء في بيتها، والقيام بخدمة زوجها وولدها، ولا يشغلها ذلك عن عبادة ربها. ولأن خروجها مظنّة الفتن بها، وفي انفرادها ما يعرضها للفسقة وأهل الفساد. ولكن إن أمنت هذه المفاسد، وكانت كبيرة السن، وكان المسجد قريباً من أهلها ومحارمها، جاز لها الاعتكاف فيه، وعلى ذلك يحمل اعتكاف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، بعده، لقربهن من المسجد. وبالجملة لا يصح اعتكافها في مسجد بيتها، وهو مصلاها فيه، ويصحّ في كل مسجد، ولو لم يكن فيه جماعة مستمّرة، ويكره خروجها وانفرادها محافظة على نفسها. والله أعلم.

السؤال:- ما فضل ليلة القدر؟ ولماذا سُمّيت بهذا الاسم؟ وما الأقوال الواردة في تعيينها، وما الأرجح مِنْ أقوال العلماء؟ هل هي في العشر الأواخر أم العشر الأواسط؛ أم في بداية الشهر؟ وهل تنتقل من ليلة إلى ليلة؟ وما الحكمة في إخفاء ليلة القدر؟ الجواب:- هي الليلة التي أُنزل فيها القرآن، وذكر من فضلها إنزال القرآن فيها، وأنها خير من ألف شهر، أي العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر، وذلك دليل فضلها. ومن فضلها أن الملائكة، والروح تنزل فيها لحصول البركة، ومشاهدة تنافس العباد في الأعمال الصالحة، ولحصول المغفرة، وتنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذّنوب العظيمة. ومن فضلها أنها (سلام) أي سالمة من الآفات والأمراض. ومن فضلها حصول المغفرة لمن قامها لقوله، صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه". وسميت ليلة القدر لعظم قدرها، أو لأنها تُقدّر فيها أعمال العباد التي تكون في ذلك العام. لقوله تعالى: (فيها يٌفرق كل أمر حكيم) . ويسمّى هذا التقدير السنوي، وقد اختلف الناس في تعيينها. وذكر الحافظ ابن حجر في آخر كتاب الصيام من فتح الباري، ستة وأربعين قولاً في تعيينها، ثم قال: وأرجحها أنها في الوتر من العشر الأواخر، وأنها تَنْتَقِلُ، وأرجاها أوتار العشر الأواخر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.

قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة، لاقُتصِر عليها إلخ، وقد أطال الكلام عليها ابن رجب في المجلس الخامس من وظائف رمضان، وذكر فيها عدة أقوال بأدلتها، وأكثر الأدلة ترجّح أنها في السبع الأواخر، أو أنها ليلة سبع وعشرين، لما استدلَّ به على ذلك من الآيات والعلامات وإجابة الدعاء فيها، وطلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها، والنور والضياء الذي يشاهد فيها. والله أعلم.

السؤال:- إذا دخل جماعة من الناس المسجد وقد فاتتهم صلاة الفريضة والإمام يصلي التراويح، هل يدخلون معه بنية صلاة الفريضة ويقومون بعد سلامه لإكمال ما بقي، أم لهم أن يصلوا جماعة وحدهم؟ وإذا كان فرداً واحداً هل الأفضل أن يصلي وحده، أم عليه أن يدخل مع الإمام بنية صلاة الفريضة، ليحصل على أجر الجماعة؟ فما قولكم غفر الله لكم؟ الجواب:- أرى أن لا يدخل من يصلي الفرض مع من يصلي التراويح، سواء كان واحد أو عدداً، وذلك لاختلاف العدد، واختلاف النية، مما يعمّه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه". ولا شك أن الاختلاف هنا موجود، فهذه فرض وهذه نفل، وهذه أربع، وهذه ركعتان، وقد لا يدرك معه إلا ركعة، فيتشهد بعدها، وعلى المنع جمهور الفقهاء، وفيه عن أحمد روايتان. قال ابن قدامة في المغني: فإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر ففيه -أيضاً- روايتان، نقل إسماعيل بن سعد جوازه، ونقل غيره المنع منه، ونقل إسماعيل بن سعد، قال: قلت لأحمد: فما ترى إن صلى في رمضان خلف إمام يصلي بهم التراويح؟ قال: ويجوز ذلك من المكتوبة! وقال في رواية المروذي: لا يعجبنا أن يصلي مع قوم التراويح، ويأتم بها للعتمة، وذكر نحو ذلك في الشرح الكبير، وعلل المنع بأن أحدهما لا يتأدَّى بنية الآخر، كصلاة الجمعة والكسوف، خلف من يصلي غيرهما، أو صلاة غيرهما خلف من يصليهما، لم تصحّ رواية واحدة، لأنه يفضي إلى المخالفة في الأفعال، فيدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "فلا تختلفوا عليه" اهـ. وعلى هذا فلا مانع من صلاتهم وحدهم في ناحية المسجد، ثم يدخلون مع الإمام في بقية التراويح، وكذا يصلي المنفرد وحده صلاة العشاء أربعاً، كما وردت بتشهدين كالمعتاد، حتى لا يحصل اختلاف متعمَّد، وتغيير لهيئة الصلاة عما وضعت عليه.

وقد أجاز بعض المشايخ دخوله معهم تحصيلاً لفضيلة الجماعة، واغتفروا ما يحصل من المخالفة، كما أجازوا صلاة المغرب خلف من يصلي العشاء لذلك، ولم أجد من نقل ذلك من الأصحاب. والله أعلم.

السؤال:- إذا صلَّى المأموم التراويح مع الإمام وأحبّ أن يجعل الوتر في آخر الليل هل بهذا يكتب له قيام ليلة أم لا؟ الجواب:- يفضل في حق المأموم متابعة الإمام حتى ينصرف من التراويح والوتر، ليصدق عليه أنه صلى مع الإمام حتى انصرف، فيكتب له قيام ليلة، وكما فعله الإمام أحمد وغيره من العلماء. وعلى هذا فإن أوتر معه وانصرف معه فلا حاجة إلى الوتر آخر الليل، فإن استيقظ آخر الليل صلى ما كتب له شفعاً، ولا يُعيد الوتر، فإنه لا وتران في ليلة، فإن أحبّ نقض الوتر فقد فعله بعض السلف، بأن يصلي أول ذلك ركعة تشفع وتره مع الإمام، ثم يوتر آخر تهجده. لكنّ كثيراً من العلماء كرهوا ذلك، فإنه لم يُشرع التطوع بركعة واحدة سوى الوتر، وفضّل بعض العلماء أن يشفع الوتر مع الإمام، بأن يقوم بعد سلام الإمام فيصلي ركعة ثم يُسلم، ويجعل وتره آخر تهجده. لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى. وكذا قوله: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً والله أعلم.

السؤال:- أيهما أفضل في الحرم المكي في رمضان الصلاة تطوعاً أو الطواف، أو قراءة القرآن؟ الجواب:- يفضل لغير أهل مكة الطواف، لأنه لا يتيسّر لهم كل وقت فأما أهل مكة فالأفضل التطوع بالصلاة والقراءة إذا ناسب وقتها، فإن عجز القادم عن الطواف في بعض الأوقات أو كان هناك ما يمنع من فضل الطواف كالزحام وكثرة النساء مع خوف الفتنة فالصلاة تطوعاً أفضل، ويمكن الجمع في الطواف بين القراءة والدعاء فيكون له أجران. والله أعلم.

السؤال:- أيهما أفضل إتمام صلاة التراويح أو تشييع الجنازة؟ الجواب:- أرى أن تشييع الجنازة أفضل، لأنه يفوت وغير مستمر، أما التراويح ففي الإمكان قضاؤها ولو منفرداً، ولا شك أن أقارب الميت يتعين عليهم تشييعه ودفنه فهو فرض كفاية.

السؤال:- هل طلب الإجازة الاضطرارية لأداء العمرة في رمضان جائز أم لا؟ الجواب:- لا بأس بذلك فإنها حق للموظف، كما في النظام أن الموظف له الحق في السنة -إجازة- عشرة أيام عند الحاجة، ولا شك أن أداء العمرة في رمضان له فضله وأهميته. وكثير من الموظفين يتمتع بهذه الإجازة في الخارج أو يجلس بدون عمل، فالعمرة فيها أفضل من البطالة.

السؤال:- ما تعليقكم على إفطار جماعة المسجد فيه قبل الصلاة وإتمام ذلك بعدها؟ الجواب:- يجوز ذلك في المسجد الحرام والمسجد النبوي اغتناماً للوقت، وللمسجد لضيق الأماكن، ولا بأس به في غيره عند الحاجة، كمن ليس له منزل وإلا فيكره فالأصل تناول طعام الإفطار في المنازل.

السؤال:- ما حكم شرب الشاي والقهوة بعد تسليمتين من القيام؟ الجواب:- يجوز ذلك حيث إن القيام تطول مدته وقد يرهق الكثير من كبار السن، والذين اعتادوا من أسباب النشاط تناول القهوة ونحوها، فإن لم يكن هناك حاجة فالأولى تركه. والله أعلم.

الأدلة على وجوب الزكاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة الأدلة على وجوب الزكاة ذكرنا أن الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوبها: أولاً: الأدلة من القرآن الكريم: قول الله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) (البقرة:43) . قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) (البقرة:110) . قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة:267) . قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة:103) . قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) (النور:56) . قوله تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) (المعارج:24-25) . قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (البينة:5) . والآيات في وجوب الزكاة كثيرة، وفيما ذكر كفاية. ثانياً: الأدلة من السنة النبوية: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان" رواه البخاري ومسلم. وفي لفظ لمسلم. "وصيام رمضان والحج" بتقديم الصيام على الحج وقال: هكذا سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الرواية أنسب للترتيب لأن فرض الصوم متقدم على فرض الحج.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" رواه البخاري ومسلم وفي رواية للبخاري: "فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم". ثالثاً: الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب الزكاة وأنها أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وقد قاتل الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة في عهد أبي بكر وكان هذا إجماعاً منهم.

الأموال التي تجب فيها الزكاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة الأموال التي تجب فيها الزكاة أولاً: السائمة من بهيمة الأنعام: وتخرج المعلوفةُ فإنه لا زكاة فيها، والسوم هو الرعي، أي إذا كانت ترعى من الأرض بأفواهها أكثر السنة فإنها سائمة، قال تعالى: (لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) (النحل:10) ، ففي قوله (فيه تسيمون) أي ترعون بهائمكم، فالسّوم هو الرعي، ومنه أيضاً قوله: (والخيل المسومة) (آلم عمران:14) ، أي المرعية التي ترعى (على قول بعض التفاسير) . وقد اشترطوا أن تكون السائمة ترعى أكثر من ستة أشهر، فإذا كانت ترعى -مثلاً- ستة أشهر ونصفاً، ويعلفها خمسة أشهر ونصفاً ففيها الزكاة، أما إذا كان يعلفها ستة أشهر وترعى ستة أشهر فإنها لا زكاة فيها، فإذا كانت نصف السنة محجورة -مثلاً- في هذا السور أو هذا البستان لا تأكل إلا العلف الذي يقوتها، فهذه لا زكاة فيها ولو كثرت ولو أصبحت مئات، وذلك لأنها غير تامة النعمة، فالنعمة لا تتم إلا إذا كانت ترعى بأفواهها مما ينبت الله تعالى من الأعشاب. ثانياً: الخارج من الأرض: أي ما ينبته الله تعالى من الثمار، ومن الحبوب ونحوها. ثالثاً الأثمان (وهي الذهب والفضة) : والأثمان هي قيم السلع كالدراهم والدنانير، فالدراهم نقود تصنع من الفضة، والدنانير نقود تصنع من الذهب، وتسمى أثماناً، لأنها هي أثمان السلع، فكل سلعة تقدر بالنقود، فيقال -مثلاً-: ثمن هذا الكتاب خمسة دراهم، وثمن هذا الكأس درهمان، فلذلك سميت أثماناً، فكانوا لا يتعاملون ولا يقدرون الأثمان إلا بالدراهم والدنانير، وإن كان يجوز جعل الأثمان من غيرها، فيجوز -مثلاً- أن تقول: اشتريت هذه الناقة بعشرين صاعاً من الأرز، كما تقول: اشتريتها بمائة ريال، ولكن الأصل أن الأثمان من النقدين. رابعاً: عروض التجارة:

وسميت بذلك لأنها تعرض ثم تزول، فالتاجر يعرض هذه السلع فإذا باعها اشترى غيرها وعرضها، فكل يوم يعرض سلعة جديدة يبيعها ثم يستبدلها، وهذا هو سبب تسميتها عروضاً، والتجارة هي الأرباح، أي ما يطلب فيه الربح، والتاجر هو الذي يتجر لأجل الربح فيشتري السلع لا لأجل الاقتناء، ولا لأجل الاستهلاك، ولكن لأجل الاستفادة، أي لأجل أن يبيعها ويربح فيها.

تقديم وتأخير الزكاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة تقديم وتأخير الزكاة ونقلها من بلد إلى بلد آخر

السؤال:- من كان عنده زكاة مال وأراد أن يقدمها قبل حولها للحاجة إلى ذلك فما حكم ذلك؟ وما معنى الحاجة؟ الجواب:- يجوز ذلك كما نص عليه العلماء وقالوا: إنه يجوز ولو قدمها لسنتين وإن كان ذلك لا يستحب، واستدلوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا كنا احتجنا، فأقرضنا العباس صدقة سنتين" لما ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم تحمل صدقة العباس ومثلها معها قال ذلك لأنه قدم صدقة سنتين، فعلى هذا يجوز للحاجة. والحاجة أي إذا رأيت فقيراً مضطراً إلى المال، فإذا لم تعطه فإنه سَيُعْوِزُه ذلك إما إلى الاستدانة وتضاعف الدين عليه، وإما أن يسجن ويتضرر ورثته وأطفاله وأولاده، ففي هذه الحال لك أن تقدمها ولو سنة أو نصف سنة، وتزيل بها الشدة التي وقع فيها، حتى لا يتضرر أهله، وحتى لا يتضاعف دينه، وكذلك إذا رأيت مشروعاً خيريّاً تحب المساهمة فيه، ورأيت الناس لم يبادروا بالمساهمة فيه، أي المساهمات التي تصح فيها الزكاة كتجهيز غزاة مثلاً، أو أزمة من أزمات المجاهدين، كما في هذه الأزمنة للمجاهدين في البوسنة والهرسك وغيرها، فأردت أن تقدم الزكاة للحاجة الماسة فهذه الحاجة تبرر تقديم الزكاة.

السؤال:- لقد حددت ميعاداً لإخراج الزكاة في شهر رجب من كل عام، فهل يجوز تأخيرها وإخراجها في شهر رمضان؟ الجواب:- لا بأس بالتأخير للمصلحة، لكن لابد من معرفة قدر المال الذي تجب فيه الزكاة في شهر رجب، أي تعد المال وتعرف الزكاة الواجبة وتقدرها ثم تخرجها في رمضان. والله أعلم.

السؤال:- هل يمكن تعديل بداية الحول بتقديمه أو تأخيره، حيث إنه في تاريخ 11/3 استلمت محلاً، وأريد أن يكون في بداية السنة أو نصفها؟ الجواب:- يجوز جعل تمام الحول في نصف السنة، أو في رمضان، أو في نهاية السنة، ولو كان ملكك البضاعة في أثناء السنة.

السؤال:- إذا تأخرت في إخراج الزكاة لعدم معرفة بعض الأحكام. ماذا يكون عليّ في ذلك؟ الجواب:- عليك أن تتلافى وتخرج زكاة ما مضي من رأس المال أو الأرباح.

السؤال:- هل يجوز إخراج الزكاة وإرسالها إلى ناس مستحقين في بلد آخر؟ أي في بلدي لأنني مغترب في المملكة العربية السعودية؟ الجواب:- يجوز نقل الزكاة إلى غير بلد المال على الصحيح لمصلحة راجحة، كشدة فقر وفاقة وقرابة مسلمين ذوي حاجة ونحو ذلك، ولا يجوز على وجه المحاباة مع وجود من هو مستحقها ومعرفة استحقاقه ثم حرمانه، فإن كان أهل البلد مشكوكاً في استحقاقهم مع التحقق من حاجة الأقارب في البلد البعيد وشفقتهم وترقبهم لما ترسل إليهم فهم أولى والصدقة عليهم صدقة وصلة.

حكم إنكار فريضة الزكاة وحكم منعها بخلا أو جحودا

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة حكم إنكار فريضة الزكاة وحكم منعها بخلا أو جحودا ذكرنا سابقاً أن الزكاة واجبة، وبينا الأدلة على وجوبها من الكتاب والسنة، وأنها من أهم أركان الإسلام، وأن منعها يعرض صاحبها للعقوبة الشديدة، فقد ورد في الحديث أن مانع الزكاة يصفح ماله يوم القيامة بصفائح من حديد يُحمى عليها في نار جهنم ... الحديث وهذا في من منع زكاة الذهب والفضة. أما من منع زكاة الغنم والبقر والإبل، فإنها يؤتى بها يوم القيامة فتنطحه بقرونها كما ورد في الحديث. ومانع الزكاة له حالات ثلاث: الحالة الأولى: من منعها جحوداً وإنكاراً لوجوبها، فهذا بلا شك أنه كافر بالإجماع؛ لأنه أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه العظام ولأنه مكذب لله ولرسوله وإجماع المسلمين حتى لو أخرجها فإنه لا ينفعه ذلك ما دام منكراً لوجوبها. الحالة الثانية: من منعها جهلاً بحكمها؛ إما لأنه حديث عهد بالإسلام لم يعرف الأحكام بعد، أو لأنه نشأ ببادية نائية فهذا معذور بجهله، فإذا علم حكمها وجب عليه إخراجها. الحالة الثالثة: من منعها بخلاً أو تهاوناً مع اعترافه بوجوبها فهذا لا يكفر ولكن تؤخذ منه الزكاة قهراً لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أداها طيبة بها نفسه فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا". ولو أدى ذلك إلى قتاله، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه والصحابة، فقد قاتلوا مانعي الزكاة مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله".

حكمة تشريع الزكاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة حكمة تشريع الزكاة لقد شرع الله تعالى هذه الزكاة تطهيراً للمال وتنمية له ومواساة للمستضعفين، ولأجل ذلك كله جعلها الله تعالى حقاً في هذه الأموال. فقال تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات:19) ، وقال تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) (المعارج:24-25) ، وهذا الحق هو الزكاة، وبيَّن أهله فهو للسائل والمحروم، أي للفقراء ونحوهم، فإذا كان في الأموال حق فلا تبرأ الذمة إلا بأداء هذا الحق إلى مستحقه، وإلا فإن المانع له مستحق للعقاب. كذلك علم الله أن في الخلق من هو في حاجة، فليس الخلق كلهم أغنياء، ففيهم المستضعفون، وفيهم الفقراء، وفيهم العجزة، وفيها الكسالى، وفيهم المساكين، وفيهم المدينون، فجعل في أموال الأغنياء حقاً لهؤلاء من باب المواساة. فلو أن الأموال انفرد بها الأثرياء وحجزوها وأمسكوها، ولم يخرجوا منها شيئاً، لتضرر أولئك. والله تعالى فرق بين خلقه، فمنهم من يسر له الأسباب، وهيأها له، وأعانه على الاكتساب، فأعطاه من الأموال ما يكون سبباً في ثروته وفي غناه، وأعطاه كذلك من الذكاء والفطنة والقدرة على الاكتساب وعلى تحصيل الأموال ما يستطيع أن ينمي به هذه الأموال، وهناك من هم مثله في الذكاء والفطنة ولكن لم يتيسر لهم هذا الأمر الذي هو الاكتساب. إذاً فكسب الأموال وجمعها ليس هو بطريقة الذكاء ولا العقل ولا الاحتيال، ولكن بالأسباب مع التوفيق، ولذلك يقول الشاعر: لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بتخوم أقطارِ السماء تعلُقي لكن من رُزق الحَجَا حُرم الغنى ضدانِ مفترقان أي تَفَرُّقِ ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس الرفيق وطيب عيش الأحمق

أي هناك من هو أحمق مغفل، تأتيه الدنيا وتتراكم عليه وتكثر عليه، وهناك أناس أذكياء وأقوياء وأصحاء وعقلاء لا تأتيهم الدنيا، بل يكونون فقراء. وقد يكون ذلك بعناية من الله، ففي بعض الأحاديث: (إن الله يحمي عبده الدنيا كما يحمي أحدُكم مريضه من الطعام والشراب) . أي أن الله علم أنه لو أعطي من هذه الدنيا لما صلحت حاله. وذكر ابن رجب في شرح الأربعين النووية حديثاً قدسياً يقول الله فيه: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك) . فالله تعالى هو الذي يختار لعباده، فمنهم من إذا أغناه الله شكر وقام بحق هذه الأموال، وأعطى ما يجب عليه فيها، ومنهم من إذا أغناه الله بطر وكفر بنعمة الله ولم يشكرها، وكذلك منهم من إذا أغناه الله لجأ إلى ربه ودعاه وخشع واستكان، ومنهم من إذا افتقر سبَّ القدر وحظه وسب قدره، وأخذ يعترض على ربه وعلى القضاء، وربما أوقعه فقره في شرك ونحو ذلك. وهذه الأموال التي يسهلها الله لبعض الناس ثم يرزقه القيام بحقها فإن ذلك من حسن حظه، فلم يدفعه غناه إلى مالا تحمد عاقبته، بل شكر نعمة الله وأدَّى حقوقها. ومنهم من يرزقه الله المال الكثير، فيمسكه ويبخل به ولا يؤدي حقه، وقد يكون ذلك سبباً في تلفه، ففي الحديث المشهور: أن الملكين "يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً". فالغني في الحقيقة الذي يُحمد صاحبه هو الذي تؤدى حقوقه، ومن حقوقه إخراج الزكاة ومواساة الفقراء بالمال. ومعلوم أن الفقراء وعوام الناس يحترمون أصحاب الأموال ويجلّونهم ويرون لهم قدرهم، وهذه طبيعة في المخلوقات، والناس عامة يميلون إلى ذلك، قال بعضهم: رأيتُ الناس قد مالوا إلى من عنده مال رأيت الناس قد ذهبوا & إلى من عنده ذهب

فلما فرق الله تعالى بين الناس، جعل في هذه الأموال هذا الحق المعلوم، وأمر بإخراجه وإعطائه إلى مستحقه، وأمر بأخذه من أهله وصرفه في وجوهه، فقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة:103) ، ومن هذه الآية أخذوا أن الزكاة فيها فائدتان: الفائدة الأولى: أنها تطهير. الفائدة الثانية: أنها تزكية. فالزكاة تطهير المال من المكاسب الرديئة، فإن المال قد يختلط به شيء من الكسب الذي فيه شُبه، فربما يغش في سلعة، وربما يخدع بائعاً، وربما يختلس شيئاً، وربما يخفى عيباً، ونحو ذلك، فهذه المكاسب الرديئة تطهرها هذه الزكاة، وتنقيها من درن الشبهة التي وقعت في ماله. والزكاة تزكية للمال كذلك، وتزكية المال هي تنميته، فالمال إذا أديت زكاته نما وكثر قدراً، من الله تعالى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "وما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً"، فإذا تصدق فإن الله تعالى يخلف عليه ودليل ذلك قوله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) (سبأ:39) ، فهذا وعد من الله أنه يخلف ما أنفقت في وجوه الخير، إما خلفاً دينياً كمضاعفة الأجر، وإما خلفاً دنيوياً بأن يزيد مالك وينمو. وقد أخبر الله تعالى بأنه يجازي أهل الصدقة في قوله: (وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) (يوسف:88) ، وهذا الجزاء لابد أن يتحقق بإذن الله. على كل حال فالصدقة من أفضل الشعائر التي شرعها الله تعالى والتي أمر بها، سواءٌ صدقة الفريضة أو صدقة التطوع، ولها أحكام كثيرة مذكورة في الكتب المطولة.

زكاة الخارج من الأرض من الزروع والثمار

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة زكاة الخارج من الأرض من الزروع والثمار يراد بالخارج من الأرض: الثمار والحبوب التي تنبت بالسقي وتنمو وهي من رزق الله تعالى. فالله تعالى جعل الأرض رخاءً تنبت ما يأكله الناس والأنعام، فلو كانت الأرض كلها ذهباً أو فضة لما عاش عليها دابة أو إنسان، ولكن الله جعلها قابلة للإنبات، فأنزل عليها الماء وأسكنه في الأرض، وجعل في الأرض مستودعات تخزن فيها المياه إذا كثرت فتبتلعها الأرض مستودعات تخزن فيها المياه إذا كثرت فتبتلعها الأرض وتمسكها حتى يستخرجها الناس عند الحاجة إليها، لشربهم ولسقي دوابهم، ولسقي حروثهم وأشجارهم التي فيها معاشهم وحياتهم. وهذا الخارج من الأرض تارة يحتاج إلى سقي وإلى مؤونة وإلا كلفة في السقي فتكون زكاته أقل، وتارة لا يحتاج إلى سقي، بل ينبت بنفسه ويستقي بعروقه أو نحو ذلك، فتكون زكاته أكثر لأن المؤونة فيه أقل. وأكثر الفقهاء على أن زكاة الخارج تختص بالحبوب والثمار، التي تكال وتدخر، وأنه لا زكاة فيما سوى ذلك، وذلك لأنها إذا كانت لا تدخر فلا تتم بها النعمة، أما التي تدخر فإنه ينتفع بها في الحال، وفي المآل. بخلاف التي لا تدخر. فمثلاً الفواكه التي تؤكل رطبة ولا تدخر، هذه لا ينتفع بها إلا في الحال، هذا هو القول الراجح والمشهور. وهناك من يقول من العلماء كالحنفية: أن كل شيء ينبت من الأرض، وفيه منفعة، وفيه غذاء، فإنه يزكى ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح والدلاء نصف العشر". فقالوا جملة: "فيما سقت السماء" عامة يدخل فيها الفواكه فيكون فيها زكاة.

واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: (والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام:141) ، على قول بأن حقه هو الزكاة. فقالوا إن الأمر يعود إلى أقرب مذكور، والآية ذكر فيها النخل والزرع وهما زكويان، لأن ثمرهما يكال ويدخر، ثم ذكر فيها الزيتون والرمان والغالب أنهما لا يدخران، فالرمان يفسد إذا طال زمانه فلا يدخر، والزيتون يمكن أن يُصبَّر ويعتصر منه زيت الزيتون ولكن نفسه لا يدخر أصلاً، ومع ذلك فالآية عقبهما (والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) فقوله: (ثمره) وقوله: (حقه) تعود إلى أقرب مذكور، فهذا دليل على أن الرمان والزيتون فيهما زكاة. وعلى هذا القول تُخرج زكاة كل خارج من الأرض، أي كل ما سقت السماء أو كان عثرياً وكذلك كل ما سقي بالنضح ونحوه فيلزمون أصحاب البقول بالزكاة منها أو من ثمرها. البقول مثل: الخس، والفجل والرجلة، وأشباهها من البقول. وكذلك أيضاً يخرجون زكاة البطيخ، والتفاح، والموز، والبرتقال، والمشمش، والخوخ، وما أشبهها وذلك أنها من جملة ما يُسقى، هذا قول الحنفية ونحوهم.

وقالوا أيضاً أنها من جملة الأموال فتدخل في قوله: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات:10) . وتدخل في قول: (خذ من أموالهم صدقة) (التوبة:103) . وأيضاً تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم". فإن أكثر الذين يزرعون هذه البقول يبيعون منها بكميات طائلة، فيبيعون مثلاً من البطيخ بعشرات الألوف بأنواعه، ويبيعون أيضاً من الفواكه كالرمان والخوخ والمشمش وغير ذلك، بكميات كثيرة، فإذا أسقطنا منها الزكاة فقد أسقطنا حقاً للفقراء مذكوراً في هذه الآية: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) (المعارج:25) . وهذا وجه من أوجه الزكاة في كل خارج من الأرض، حتى أوجبوها أيضاً في الخضار إما منها أو من قيمتها، الخضروات التي تطبخ وتؤكل مثل الباذنجان، والبطاطا، أو تؤكل بدون طبخ مثل الخيار والجزر. قالوا: إنها كلها من جملة الخارج من الأرض فتؤدى زكاتها. القول الثاني: أن الزكاة لا تخرج إلا مما يكال ومما يدخر، وقولنا يكال: يعني يعبر بالوزن أو بالمكيال، فجعلوا الكيل والوزن والادخار هو السبب. والادخار معناه: الاحتفاظ بها في المآل بحيث ينتفع بها في الحال وفي المآل. فمثلاً التمور تكال وتدخر، فتؤكل في الحال رطباً ويمكن أن تصير تمراً ويجفف ويكنز ويخزن وينتفع به، فهي على ذلك مال زكوي. وهكذا الزبيب، وهو العنب فيؤكل عنباً رطباً، ويترك في شجره حتى يصير زبيباً، ثم بعد ذلك يجفف ويدخر ويؤكل وينتفع به، فهو مال زكوي. كذلك الحبوب بأنواعها، سواء كانت قوتاً كالبر، والأرز، والدخن، والشعير، والذرة، أو لم تكن قوتاً ولكنها تكال وتدخر كالحبة السوداء، والرشاد، والحلبة، وكذلك الحبوب الأخرى مثل القهوة، والهيل، والقرنفل، والزنجبيل، وأشباهها. هذه كلها تدخر وينتفع بها في الحال وفي المآل. أما إذا كانت تفسد إذا خزنت كالبصل نحوه فلا تخرج منه الزكاة على هذا القول.

والحاصل أن القول الذي اختاره أكثر الفقهاء أنها خاصة بالحبوب والثمار هو الصحيح، وأن الحبوب تعمّ ما كان قوتاً يؤكل، كالبر والشعير والأرز وتعم ما ليس بقوت، كالحبة السوداء والرشاد ونحو ذلك، فهذه ليست قوتاً ولكنها دواءٌ ونحوه، فهذه كلها حبوب تكال وتدخر ففيها الزكاة. النصاب الواجب في الحبوب والثمار: لا تجب الزكاة في الحبوب والثمار حتى تبلغ نصاباً، وهذا هو القول الراجح، وهناك من: لا يشترط النصاب، وهو قول عند الحنفية ويستدلون بعموم الحديث الذي ذكرنا "فيما سقت السماء أو كان عثرياً العشر" قالوا: يعم القليل والكثير إذا زرع عثرياً أو زرع ما يُسقى وحصده ولو عشرة آصع أو عشرين صاعاً فقد دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء أو كان عثرياً العشر". ولكن القول الصحيح أنه لابد من النصاب، وذلك أن الزكاة شرعت لأجل المواساة والقليل لا مواساة فيه، فإذا كان محصوله عشرين صاعاً أو مائة صاع فهي قليلة بالنسبة إلى محصول غيره فلا يكون فيها زكاة لأنها بقدر قوته وقوت عياله. والدليل على اشتراط النصاب حديث أبي سعيد الذي في الصحيح، قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) . ذكر التمر في الحديث كمثال ويلحق به غيره، فيكون خمسة أوسق من البر وخمسة أوسق من الدخن ونحو ذلك. والوسق: ستون صاعاً هذا الأصل. والوسق هو كيس يجعل فوق ظهر البعير، وعلى هذا فيكون النصاب للحبوب والثمار ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.

والصاع النبوي هو مثل صاعنا الآن، إلا أنه لا يُجعل له علاوة، لأن صاعنا الآن يُجعل له علاوة فوقه، وأما في ذلك الوقت فكانوا يمسحونه مسحاً، ولا يجعلون له علاوة، فقدروه بأنه أقل من صاعنا بالخمس وخمس الخمس. ثم قدره بعضهم بالكيلو، فأقل ما قيل فيه إن الصاع النبوي يساوي اثنين كيلو وأربعين غراماً (2.40كغ) يعني أكثر من ثلثي الصاع، لأن صاعنا ثلاثة كيلو بالكيلو الوافي، ولكن لما قدروا الصاع النبوي وجدوه بهذا القدر، وكانوا يعبرون الصاع بالوزن، فكان عندنا في هذه البلاد وفي غيرها الكيل بالصاع، والوزن بالوزنة، والوزنة معيار معروف عندهم زنته خمسون ريالاً فرنسياً، فقدرنا الصاع وإذا هو مائة ريال فرنسي، ولكن هذه الوزنة أضمحلت وترك التعامل بها وصار بدلاً منها هذا الكيلو المعروف الآن، ولذا احتيج إلى معرفة الصاع بالمكاييل المعروفة الآن. وعلى هذا من بلغ عنده هذا النصاب من الحبوب والثمار فعليه الزكاة، ومن نقص عنه فلا زكاة عليه.

زكاة الدين

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة زكاة الدين قسم العلماء الدين إلى قسمين: الأول: دين على مليء بحيث يقدر صاحبه على أخذه متى أراد، ولكنه ليس بحاجة إليه فيتركه عند هذا الرجل، ويعتبره كأمانة سواء كان الذي هو عنده يتّجّر به، أو قد أنفقه أو نحو ذلك، فهو ليس بحاجته فتركه. وهذا يجب أن يزكيه كل عام، لأنه قادر على أخذه واعتبر كأنه وديعة فيزكيه كما تزكى الودائع والأمانات، وكما تزكى الحسابات التي في البنوك وفي المصارف. الثاني: دين على مماطل أو على معسر فمثل هذا لا يزكيه، لأنه قد يبقى عشر سنين أو عشرين سنة، ولو ألزمناه بزكاته لأفنته الزكاة. فلو كان مثلاً في ذمته له خمسة آلاف ريال وبقيت عشرين سنة، كل سنة يخرج زكاتها من كل ألف خمسة وعشرين، فإنها تفنى شيئاً فشيئاً، فلأجل ذلك لا زكاة فيما كان على مماطل. والمماطل هو الذي عنده مالٌ لكنه لا يوفي فقد ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام "مطل الغني ظلم" مطله يعني تأخيره للوفاء ظلم. أما المعسر فهو الفقير الذي ليس عنده شيء وقد أمر الله بإمهاله وإنظاره في قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) (البقرة:290) فإذا كان ليس عنده وفاء فلا زكاة فيه. أما إذا أوفاه فقيل إنه يستقبل به حولاً، والقول الآخر وهو الأقرب أنه يزكيه عن سنة واحدة، ويعتبر كأنه مال حال عليه الحول وقبضه، فيخرج زكاته عن سنة واحدة ولو بقي عشر سنين. مسألة: بعض النساء قد تترك صداقها لزوجها عشرين أو ثلاثين سنة. أما الصداق الذي يسمى مؤخراً فإنها تتركه لأنها ليست بحاجة إليه والزوج ينفق منه ويكتبه في ذمته، قد يكون قادراً على الوفاء ولكنها ليست بحاجة فإذا أدخله في ماله فإنه يزكيه كزكاة ماله ويكتب لها رأس المال، فإذا طلبته أعطاها رأس المال بدون نقص، ولا يلزمها أن تزكيه وهو عنده وهي لا تنتفع به، لأنه أدخله مع ماله وزكاه مع جملة ماله.

السؤال:- أقرضت شخصاً مبلغاً من المال وحال عليه الحول ولم يسدد فهل أدفع الزكاة أم أنتظر حتى يسدد ثم أخرج عن سنة عند القبض؟! الجواب:- متى كان الدين أو القرض عند شخص غني موسر، تقدر على أخذه منه متى أردت، فإن فيه الزكاة كل عام، لأنه بمنزلة الأمانة، وسواء تركته عنده للتوسعة عليه أو لعدم حاجتك إليه، أما إن كان الدين أو القرض عند معسر أو مماطل أو عاجز عن الوفاء، فإن المختار والراجح أنه لا زكاة فيه حتى تقبضه، فإذا قبضته فأخرج زكاته عن سنة واحدة، ولو بقي عند الغريم عدة سنوات والله أعلم.

السؤال:- لي ديون على بعض الأشخاص منذ عدة سنوات ولم يقوموا بتسديدها لي، فهل على هذه الديون زكاة؟ الجواب:- ليس عليها زكاة حتى تأتي فتزكيها عن سنة واحدة ولو بقيت عندهم عشر سنين، فلا زكاة عليك إلا لسنة واحدة، وذلك لأنك غير قادر على الاستفادة منها.

السؤال:- إذا كان على المحل ديون عند الناس لم أستلمها عند تمام الحول هل عليها زكاة؟ الجواب:- إذا كانت على معسر فلا زكاة فيها حتى تقبض، فإن كانت على موسر تقدر على استلامها متى شئت ففيها الزكاة.

السؤال:- إذا كان عليّ دين لا يخص المحل وكان ربح المحل يغطي هذا الدين أو بعضه، هل عليه زكاة؟ الجواب:- إذا قبضت نصيبك من الربح، فأسقط الدين الذي في ذمتك وأخرج زكاة ما بقي.

السؤال:- لنا قريب فقير ومحتاج ونعطيه من زكاة مالنا سنوياً. وقبل مدة أعطيناه مبلغاً من المال في غير وقت الزكاة. ولكنه حتى الآن لم يتمكن من إعادته إلينا رغم مرور عدة سنوات على ذلك، وسؤالنا هو: هل يجوز لنا إعفاؤه من دفع ذلك المبلغ على أساس احتسابه من الزكاة التي سوف ندفعها هذا العام. إن شاء الله تعالى. الجواب:- الصحيح أنه لا يجوز إسقاط الدين الذي في ذمة الغريم عند اليأس منه أو تأخره. مع نية احتسابه من الزكاة، لأن الزكاة مال يدفع إلى الفقراء لفقرهم وحاجتهم، لكن لو أعطي من الزكاة فردها على أهلها وفاء لما في ذمته جاز ذلك، إن لم يكن هناك قصد أو محاباة.

زكاة الفطر

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة زكاة الفطر وما يتعلق بها من أحكام معنى زكاة الفطر وسبب تسميتها بذلك: هي الصدقة التي تخرج في آخر رمضان، وفي ليلة عيد الفطر وصباح عيد الفطر، وسميت بزكاة الفطر لأنها شرعت عند إتمام الشهر، وفي الزمن الذي يفطر فيه الصائمون من رمضان، فهي زكاة الإفطار، أو صدقة عيد الفطر الذي بعد إكمال رمضان. تاريخ تشريع زكاة الفطر: الظاهر أنها شرعت وقت فريضة رمضان، أي في السنة الثانية من الهجرة، وذلك لأنها تضاف إلى رمضان وإلى الإفطار منه، فهي تابعة له، ولم يذكر أنهم صاموا الشهر ولم يخرجوا زكاة الفطر. حكم زكاة الفطر: لا شك أنها واجبة، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير.." الحديث. والفرض في الظاهر هو الإيجاب والإلزام، فدل على أنها من الفرائض. وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، لكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية، على قاعدتهم في التفريق بين الفرض والواجب، وقد روي أن قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى) (الأعلى:14) . نزلت في زكاة الفطر كما روى ذلك ابن خزيمة عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده مرفوعاً.

السؤال:- هل زكاة الفطر واجبة؟ وعلى من تجب؟ الجواب:- زكاة الفطر واجبة على المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، وقدرها صاعاً من طعام، أو من تمر، أو شعير، أو زبيب، أو إقط وأمر بها أن تخرج قبل خروج الناس إلى صلاة العيد فهي فريضة نبوية شرعت في آخر رمضان؛ طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين حتى يستغنوا يوم العيد من الطواف والسؤال. والله الموفق. الحكمة من تشريع زكاة الفطر: روى ابن عباس قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين". رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والحاكم وصححه. وذلك أن الصائم في الغالب لا يخلو من الخوض واللهو ولغو الكلام، ومالا فائدة فيه من القول، والرفث الذي هو الساقط من الكلام، مما يتعلق بالعورات ونحو ذلك، فتكون هذه الصدقة تطهيراً للصائم مما وقع فيه من هذه الألفاظ المحرمة أو المكروهة، التي تنقص ثواب الأعمال وتخرق الصيام. ثم هي أيضاً طعمة للمساكين، وهم الفقراء المعوزون، ليشاركوا بقية الناس فرحتهم بالعيد، ولهذا ورد في بعض الأحاديث: "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم" يعني أطعموهم وسدوا حاجتهم، حتى يستغنوا عن الطواف والتكفف في يوم العيد، الذي هو يوم فرح وسرور. ثم إن إخراجها عن الأطفال وغير المكلفين والذين لم يصوموا لعذر من مرض أو سفر داخل في الحديث، وتكون طهرة لأولياء غير المكلفين، وطهرة لمن أفطر لعذر، على أنه سوف يصوم إذا زال عذره، فتكون طهرة مقدمة قبل حصول الصوم أو قبل إتمامه. أصناف زكاة الفطر:

في حديث أبي سعيد المتفق عليه قال: "كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة، فقال: إني لأرى مدّين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه، وللنسائي عنه قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط". وللدار قطني عنه قال: "ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صاعاً من دقيق، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من سلت، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من شعير، أو صاعا من أقط". وغير ذلك من الروايات. وقد ذهب الأكثرون إلى أنها لا تخرج إلا من الأصناف الخمسة المذكورة، وهي: الطعام، أي: البر كما ورد مفسراً في بعض الروايات، والشعير، والتمر، والزبيب، والأٌقط؛ لأنها الأقوات المعتادة لغالب الناس، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية جواز إخراجها من غالب قوت البلد، ومنه الأرز والذرة والدخن إذا غلب أكلها في إحدى الجهات، وهو الأقرب إن شاء الله تعالى.

السؤال:- ما الأطعمة التي يجوز إخراج زكاة الفطر منها؟ الجواب:- ورد في الحديث أنها تخرج من خمسة أشياء وهي البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط لكن ذكر بعض العلماء المحققين أن تخصيص هذه الخمسة حيث إنها المستعملة في ذلك الوقت، وأجاز إخراجها من غالب قوت البلد، كالأرز مثلاً والذرة في البلاد التي تقتاتها ونحو ذلك. مقدار زكاة الفطر: ذكر في حديث أبي سعيد أنها صاع من أحد الأصناف المذكورة، وقد اختلف في مقدارها من البر، فرأى معاوية الاكتفاء بنصف صاع منه، لكونه أفضل من الشعير، وأن الفقراء قد لا يأكلون الشعير أحياناً؛ بل يطعمونه الدواب والبهائم، وكذا التمر؛ سيما الرديء منه، فنصف الصاع من البر يعدل الصاع من الشعير في القيمة، ثم هو أنفع من الشعير للفقراء، وقد عمل بذلك كثير من الصحابة، ذكرهم الحافظ في شرح البخاري وغيره. وورد في ذلك حديث حسنه الترمذي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فجاج مكة "ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه، صاع من طعام". ولكن حديث أبي سعيد أصح منه، وفيه صاع من طعام، وقد فسّره الخطابي بالبر وهو الأولى، وقد اختار أبو سعيد البقاء على ما كان عليه وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إخراج الصاع كاملاً دون موافقة معاوية على رأيه. ثم إن الصاع معروف، وهو أربعة أمداد، والمد من البر ملء الكفين المتوسطين مجموعتين، وقدر الصاع بأنه خمسة أرطال وثلث بالعراقي، والصاع معروف في هذه البلاد، وهو مع العلاوة يقارب ثلاث كيلو، وبدون علاوة نحو كيلوين ونصف، والاحتياط إكمال الثلاثة. إخراج قيمة زكاة الفطر (نقداً) :

ورد في السنة إخراجها من الأطعمة التي ذكرت في الأحاديث، أو من غالب قوت البلد، ليحصل بها الاقتيات والاستغناء عن التكفف والتسول يوم العيد، ويكفى الفقراء عن الشراء والحمل بإيصالها إلى منازلهم غالباً. وقد ذهب الحنفية إلى جواز إخراج القيمة، وهو إخراجها نقداً من الدراهم أو الدنانير، وزعموا أنه أرفق بالفقير، حتى يتمكن من شراء ما يناسبه من الطعام أو غيره، وهو خلاف النصوص الواردة والأحاديث المتكاثرة، فإن القيمة كانت موجودة في العهد النبوي، ولم يأمر بالإخراج منها؛ ولأن في إخراجها طعاماً إشهاراً لها وإعلاناً للعمل بها، بخلاف القيمة فإنها تكون خفية، يعطيها المزكي بخفية، وقد يأخذها من لا يستحقها.

السؤال:- بعض الناس يخرجون زكاة الفطر نقوداً فهل هذا جائز؟ الجواب:- نحن نقول بأنه لا يجزئ، وقد جوزه الأحناف، أما الجمهور فإنهم على أنه لا يجزئ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها من الطعام، والنقود كانت موجودة في زمانه، فلو كانت جائزة لأمر بأن يتصدق بالقيمة. فلما لم يأمر بها وجعلها طعاماً تعين الطعام، وقد ذكرنا أنه ورد تحديده في خمسة أنواع، ويختار بعض المشايخ والعلماء أنها تخرج من قوت البلد الغالب والمعتاد.

السؤال:- هل يجوز زكاة الفطر دراهم؟ وهل صحيح أن صيام رمضان لا يكمل إلا بإخراج الزكاة؟ وما حكم إخراجها بعد صلاة العيد؟ الجواب:- الصحيح إن شاء الله أنه لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، لأنه مخالف للنصوص الواردة، فإن القيمة كانت موجودة في العهد النبوي، ولم يأمر بها، بل أمر بالطعام، ولأن هذه الزكاة تفعل في هذه الأيام علناً، فإخراجها من القيمة فيه إماتة لهذه السنة، حيث إنه لا يتفطن لها ولا يعلم من أخرج ومن لم يخرج، فأما صيام رمضان فهو كامل بإتمام الشهر بدونها، ولكنها طهرة للصائم عن اللغو والرفث وطعمة المساكين، والأفضل إخراجها قبل الصلاة، ويجوز قبل العيد بيوم أو يومين وتجزئ في يوم العيد بعد الصلاة، ويقضيها بعده مع إثم التأخير والله أعلم.

السؤال:- بعض الدول تلزم المواطنين بدفع زكاة الفطر نقوداً على عدد الأنفس للدولة، ويتم دفعها في شهر شوال، هل هذا يصح وإن كان باطلاً فما العمل؟ الجواب:- ليس بباطل إن شاء الله ما دام أنها تلزمهم، فليس لهم إلا الامتثال، حيث إن هناك في مذهب الحنفية جواز إخراج الزكاة نقوداً، فلا مانع بأن يتأولوا على حسب ما تلزمهم به. ولكن إذا قُدِّرَ مثلاً أحداً سَلِمَ من إلزام الدولة له، فيخرجها طعاماً كما ورد. على من تجب زكاة الفطر: تجب على المسلم الحر العاقل إذا فضل شيء من قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، فيخرج عن نفسه وعن كل من يمونه ممن تجب عليه نفقته، فإن عجز عن الجميع بدأ بنفسه، فامرأته، ثم برقيقه، ثم بولده، ثم بأمه، ثم أبيه، ثم الأقرب فالأقرب من عصبته، ففي حديث ابن عمر الذي في الصحيحين قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان ... على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين". وفي حديث ثعلبة بن أبي صُعََير مرفوعاً: "صاع من بر، أو قمح، على كل إنسان، صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى" رواه أبو داود وأحمد وغيرهما. ووقع في بعض طرق حديث ابن عمر: "على كل صغير وكبير، حر وعبد ممن تمونون" رواه الدارقطني. ولا تلزمه فطرة زوجته إذ نشزت، ولا عبده المكاتب؛ لأنها لا تلزمه نفقتهما، ومن تبرع بنفقة إنسان شهر رمضان لم تجب عليه فطرته التي هي تابعة لوجوب النفقة. واستحبها بعض الصحابة عن الجنين في بطن أمه من غير وجوب، ومن وجبت فطرته على غيره فأخرج عن نفسه كالزوجة والابن والأم أجزأت عنه، لأنه المخاطب بها، وإنما تحملها عنه وليه تبعاً للنفقة أو للحاجة. جهة إخراج زكاة الفطر:

مصرف الفطرة كمصرف الزكاة، فأهلها هم أهل الزكاة المذكورون في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) (التوبة:6) . وحيث أن وصف الفقر والمسكنة هو الغالب، فإن المقدم فيها هم الفقراء والمساكين الذين تعوزهم النفقة، ويحتاجون إلى تحصيل القوت الضروري لهم ولعوائلهم، ولهذا ورد في الحديث: "اغنوهم عن السؤال في هذا اليوم". ثم عليه أن لا يحابي بها أحداً، وأن يقدم من علم أنه أشد حاجة، فإن كان أقاربه من أهلها فهم أولى من الأباعد مع الاستواء في الحاجة؛ ولأنه ورد في الحديث: "صدقتك على الفقير صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة". ولا يجوز لمن تلزمه مؤنته كزكاة المال.

السؤال:- هل يصح أن يُعطى الكافر من زكاة الفطر أم لا؟ الجواب:- لا يعطى الكافر من زكاة الفطر، ولا من زكاة المال، ولا من صدقات التبرع، فإنه قد اختار الكفر وهجر الإسلام، فهو عدو للمسلمين، فلا حق له في صدقاتهم وأموالهم، بل يصرفونها للمسلمين لقوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) والله أعلم. نقل زكاة الفطر من بلد الشخص إلى بلد آخر: لا يجوز ذلك إلا إذا لم يوجد في البلد فقراء، وقد ذكر العلماء أنها تتبع البدن، فيخرجها في البلد الذي تدركه ليلة العيد وهو فيه، ولو كان سكنه وأهله في غيره، كمن يصوم آخر الشهر بمكة، فإنه يخرجها هناك، وأهله يخرجون عن أنفسهم في موضعهم الذي يوجدون فيه ليلة الفطر، فإن لم يوجد في بلده فقراء من أهلها، وعرف فقراء في بلد آخر جاز نقلها إلى أقرب بلدة يعرف فيها من هم من أهل الاستحقاق، وقيل: يجوز إلى أبعد منها إذا كانوا أشد حاجة أو لهم رحم وقرابة. وقت إخراج زكاة الفطر: لا شك أنها تجب بغروب الشمس ليلة عيد الفطر، فمن أسلم بعده لم تلزمه الفطرة، ومن ولد بعد الغروب لم تجب على وليه، وإذا تزوج بعد الغروب وتسلم زوجته لم تلزمه فطرتها، وكذا لو اشترى عبداً بعد خروج شهر رمضان ولو بلحظات؛ فإن فطرته على البائع. والأصل أنها تخرج ليلة العيد، والأفضل إخراجها في يوم العيد قبل الصلاة، فإن عرف الفقير فأوصلها إليه فهو الأفضل، وإلا أودعها له حتى يأخذها بعد الصلاة، ليتحقق اغناء الفقراء في يوم العيد، ووقع في حديث ابن عمر عند البخاري: "وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" ولمسلم: "أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" ولابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: "من السنة أن تخرج صدقة الفطر قبل الصلاة". وقال الخرقي: وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه. وفي حديث ابن عمر في الصحيح: "وكانوا يعطون قبل العيد بيوم أو يومين) ".

والصحيح أنها لا تجزئ إن قدمها قبل العيد بثلاث ليال فأكثر، لإضافتها إلى الفطر، ولأن تقديمها بكثير لا يحصل به التوسعة على الفقير في يوم العيد، واغتفر التقديم بيوم أو يومين لأن ما قرب من الشيء أعطي حكمه، ولو قيل بجواز التقديم إذا كان الفقراء قليلاً وأهل الزكاة كثيراً، بحيث يجتمع عند الفقير ما يقوته نصف العام، كما هو الواقع في كثير من البلاد، لجاز ذلك في الظاهر، لحصول الإغناء لهم يوم العيد وزيادة والله أعلم. فتاوى عامة حول زكاة الفطر

السؤال:- هل يجوز تقسيم زكاة الفطر على عدة فقراء؟ الجواب:- لا بأس بذلك، فإن القصد من إخراجها تطهير الصائم من اللغو والرفث، والتوسعة على المساكين وإغناؤهم يوم العيد عن السؤال، والتطوف الذي فيه ذل وهوان في يوم العيد الذي هو فرح وسرور، فإذا كان الفقراء كثيراً جاز أن تفرق عليهم زكاة شخص واحد، كما يجوز أن يعطى الفقير الواحد زكاة عدد والله أعلم.

السؤال:- إذا أخذت زكاة الفطر فهل يجوز لي أن أزكي عني وعن أولادي منها؟ الجواب:- نعم يجوز للفقير إذا اجتمع عنده أموال من زكاة الفطر أن يُخرج منها عنه وعن عياله، فقد ورد في الحديث ما معناه: "أما غنيكم فينفق من ماله، وأما فقيركم فيأتيه أكثر مما ينفق".

السؤال:- فقير أخذ زكاة الفطر فزادت عن حاجته وخشي فسادها. فهل يجوز له بيع بعضها؟ وإن جاز فهل يجوز للمشتري أن يشتريها بأقل من سعرها الأصلي، لأن السلعة انخفضت قيمتها؟ الجواب:- معلوم أن الفقير يملك الزكاة والصدقات التي تدفع له، وإذا ملكها جاز له أن يتصرف فيها حسب الحاجة والضرورة، لكن لا يصرفها في المعاصي ولا الملاهي، ولا يسرف في النفقة، ومتى علم صاحب الزكاة أنه يسرف ويفسد المال وينفق فيما لا حاجة إليه، أو يبذله في حرام أو قمار أو فواحش حرم إعطاؤه من الزكاة، فأما إذا عرفت حاجته وأهليته للزكاة فإنه يعطى منها، وسواء أعطي من النقود أو اشتري له بها ما ينتفع به، ككسوة وطعام وحاجة المنزل، وإذا زاد الطعام عن حاجته جاز أن يبيعه ويشتري بثمنه حاجات أخرى كالكسوة والأواني ونحوها لسد خلته، وحصول الإغناء له عن التكفف والطواف في أيام الفرح، كالأعياد ولو كان ذلك من زكاة الفطر واستغنى عنها، فله بيعها حتى لا تفسد ولو بأقل من قيمتها الأصلية، ثم التصرف في الثمن بحسب الحاجة والله أعلم.

السؤال:- أشرف سنوياً على توزيع زكاة الفطر في أحد الجوامع، وقد سجلت عندي أسماء العوائل المستحقة لزكاة الفطر، وأنا أعطيهم ما يكفي العائلة لمدة سنة كاملة، ولكن اكتشف أن بعض العوائل تقوم ببيع زكاة الفطر التي تأتيها، فهل يجوز لآخذ زكاة الفطر أن يبيع ما يأتيه من زكاة الفطر إذا زادت عن حاجته، وهل نمنع عنه زكاة الفطر في العام القادم؟ الجواب:- يجوز له بيعه ما دام أنه تأتيهم صدقات زائدة عن قوتهم وعن قدر حاجتهم، وأنهم بحاجة إلى أشياء ككسوة ونحوها. فلا مانع من أن يبيعها، ولكن ينظر من هو أشد حاجة، إذا عرفت مثلاً أن هؤلاء يأتيهم ما يكفيهم وأنهم يبيعون الزائد، فاطلب أناساً آخرين هم بحاجة إلى الصدقة، وأن الصدقة إذا أتتهم ينفقونها على عيالهم ولا يبيعونها. هذا هو الأصل.

زكاة المعادن والركاز

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة زكاة المعادن والركاز تعريف المعدن: المعدن لغة: مأخوذ من العدن وهو الإقامة، سمي بذلك لعدونه أي إقامته. يقال: عدن بالمكان إذا أقام به. وشرعاً: كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة، كالحديد والنحاس والرصاص وغيره. تعريف الركاز: الركاز لغة: من الركز بمعنى الإثبات. وشرعاً: ما يوجد في الأرض أو على وجهها من دفائن الجاهلية ذهباً كان أو فضة أو غيرها. أدلة وجوب الزكاة في المعادن والركاز: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس" وذلك لعدم الكلفة في أخذه فيلحق بالغنائم التي تغنم من الكفار فيصرف الخمس في مصارف الفيء. ومن الأدلة على وجوب الزكاة حديث بلال بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه معادن القبيلة.. فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة رواه مالك وأبو داود، ومن الأدلة عموم حديث: "وفي الرقة ربع العشر" رواه البخاري. صفة المعدن الذي تجب فيه الزكاة: جميع المعادن التي تخرج من الأرض فيها الزكاة، كثيرة كانت أو قليلة، سائلة أو جامدة، هذا هو القول الصحيح، أما من جعل الزكاة في الذهب والفضة فقط، دون غيرهما مما تخرجه الأرض، فهذا قول ضعيف والله أعلم. نصاب الزكاة في الركاز ومقدار الواجب فيها:

إذا عثر على كنز مدفون في الأرض، وعرف أنه للكفار، سواء من الذين كانوا قبل الإسلام أو كانوا كفاراً من غير العرب، كالذي يوجد مدفوناً ومكنوزاً قديماً، يرى عليه أنه ليس للمسلمين، ففيه الزكاة قليله وكثيره ومقدارها الخمس. أما إن رُئي عليه علامات الإسلام كأن يوجد عليه ذكر اسم الله أو ذكر اسم دولة إسلامية، فإن هذا الكنز يعتبر لُقَطَة يعمل به ما يعمل باللقطة، وأما إذا عرف أنه من دفائن الجاهلية أو من دفائن الكفار، ومعلوم أنه يُخرج منها الخمس من القليل أو الكثير لقوله تعالى: (واعلموا إنما غنمتم من شيء فأن الله خمسه ... ) (الأنفال:41) إلى آخرها فيصرف كما يصرف الفئ الذي ذكر الله.

زكاة سائمة الأنعام

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة زكاة سائمة الأنعام الأنعام هي: الإبل والبقر والغنم، وهي من نعمة الله تعالى على عباده، قال تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) (النحل:5-7) . دليل وجوب الزكاة في سائمة بهيمة الأنعام: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاع قرقر أو فر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار! قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم، قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عفصاء ولا جلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها وتطؤه، بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.." الحديث. الشروط الواجبة لزكاة سائمة بهيمة الأنعام: أن تبلغ النصاب: والنصاب في الإبل خمس، وفي الغنم أربعون شاة، وفي البقر ثلاثون بقرة، وما دون ذلك فلا زكاة فيه. أن يحول عليها الحول عند مالكها. أن تكون سائمة وقد سبق بيان معنى السوم. أن تكون غير مستخدمة، فإن كانت مستخدمة في الحرث وحمل المتاع ونحو ذلك فلا زكاة فيها. كيفية زكاة سائمة بهيمة الأنعام: أولاً: كيفية زكاة سائمة الإبل:

كانت الإبل هي أغلب الأموال عند العرب في ذلك الوقت وأنفسها، وأكثر ما يقتنون وأكثر ما يستعملون ويركبون ويحلبون ويأكلون، وكانوا ينتفعون بها منافع كثيرة، قال تعالى: (وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) (يس:72) ، فهذه من المنافع، أي أنهم يركبون عليها ويأكلون منها، وقال تعالى: (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم) (النحل:80) ، فأخبر أن من جلودها تصنعون البيوت والخيام التي تقيكم الحر والبرد، وقال: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين) (النحل:80) ، فأخبر أيضاً بأن من جزتها وصوفها ووبرها ما فيه هذه المنافع، فكانوا يخرزون جلودها أحذية ودلاء وقرباً ومزادات وأوعية وجرباً -جمع جراب- وكانوا ينسجون أيضاً من جلودها أكياساً وحبالاً من الشعر والوبر ونحوه، ففيها منافع زيادة على شرب اللبن، وزيادة على أكل اللحوم، وزيادة على الركوب والتنقل، فهي أكثر أموالهم وأنفسها وأغلبها. فإذا كانت الإبل أربعاً وعشرين فما دونها فزكاتها من الغنم، وفي كل خمس من الإبل شاة، الشاة اسم لواحدة من الغنم، وتطلق كلمة الشاة على الأنثى من الضأن، وتسمى نعجة، والذكر من الضأن ويسمى كبشاً، والأنثى من المعز وتسمى عنزاً، والذكر من المعز ويسمى تيساً والشاة تصدق على الجميع، ففي الخمس من الإبل شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه، والذي بين الفرضين يسمى وقصاً، أي أن الخمس فيها شاة، والست والسبع والثمان والتسع ليس فيها إلا شاة، فإذا تمت عشراً ففيها شاتان. فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض، وما بين الخمس والعشرين إلى الخمس والثلاثين يسمى وقصاً، فالوقص لا شيء فيه، فمن كان عنده خمس وعشرون فعليه بنت مخاض، ومن كان عنده خمس وثلاثون فعليه بنت مخاض أنثى.

وسميت بنت مخاض لأن أمها غالباً قد حملت، والمخاض هو الحمل، والماخض هي الحامل، أي أن أمها قد صارت ماخضاً، ويقدرون عمرها بسنة فهي ما تم لها سنة. فإن لم يكن عنده بنت مخاض فابن لبون ذكر، أي يصح أن يدفع ابن لبون، وهذا مما يؤخذ فيه الذكور، وذلك لأن ابن اللبون أكبر ولكنه أقل ثمناً لأنه ذكر، لأنهم يغالون في الإناث، وابن اللبون وبنت اللبون ما تم له سنتان؛ لأن الغالب أن أمه قد ولدت وصارت ذات لبن، وليس شرطاً أن تكون أمه موجودة وليس شرطاً أن تكون أمه ذات لبن، وإنما عرف بأغلب أوصافه. فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، وما بين الست والثلاثين والخمس والأربعين هذا وقص، فإذا تمت خمسا وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، وبنت اللبون هي التي تم لها سنتان. فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة، والحقة ما تم لها ثلاث سنين، وتسمى طروقة الفحل، لأن العادة أن الفحل يطرقها، لأنها قربت من أن تحبل، أما ما دامت صغيرة فلا يطرقها الفحل لصغرها، فإذا استحقت طرق الفحل، أو استحقت أن يحمل عليها وتركب؛ فإنها تسمى حقة. فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، وهي التي نبتت ثناياها وسقطت بعضها، وسميت بذلك من الجذع الذي هو النبات، وهي ما تم لها أربع سنين، فبنت المخاض لا تدفع إلا مرة واحدة في خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين، والجذعة لا تدفع إلا مرة واحدة في إحدى وستين إلى خمس وسبعين. فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل. فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.

فإذا زادت على مائة وعشرين صار الوقص عشراً، فإذا صارت مائة وثلاثين ففيها بنتا لبون وحقة؛ لأنها أربعون وأربعون وخمسون، فإذا صارت مائة وأربعين ففيها حقتان وبنت لبون؛ لأنها خمسون وخمسون وأربعون، فإذا كانت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق، لأنها خمسون وخمسون وخمسون، فإذا صارت مائة وستين ففيها أربع بنات لبون لأنها أربعون أربعون أربعون وهكذا. فإذا وصلت إلى مائتين استقرت الفريضة فإن شاء أخرج أربع حقاق، وإن شاء أخرج خمس بنات لبون، لأن المائتين خمس أربعينات، وأربع خمسينات. مسألة: من بلغت عنده صدقة الجذعة وليس عنده جذعة وعنده حقة فإنها تُقبل منه الحقة. الجذعة: ما تم لها أربع سنين، والحقة: ما تم لها ثلاث سنين، فإذا كان عنده صدقة الجذعة ولم يجد الجذعة، دفع الحقة ودفع معها الفرق، والفرق في ذلك الوقت قدر شاتين أو عشرين درهماً. ولكن في هذه الأزمنة قد تختلف، فقد تكون الشاتان تساوي الحقة أو تقرب منها، فلذلك يُنظر في القيمة، وكذلك العشرون درهماً في هذه الأزمنة قد لا تأتي بسلخه، ولكن ينظر إلى القيمة، وقد أخذ العلماء من هذا جواز دفع القيمة والعمل عليه الآن أن عمال الزكاة يقدرون بنت المخاض بكذا، وبنت اللبون بكذا، والحقة بكذا، والشاة بكذا، لأنهم يذهبون بسيارات ويشق عليهم أن يحملوا معهم هذه الأغنام التي يأخذونها أو الإبل ونحوها. مسألة: من بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة. هذه المسألة عكس المسألة السابقة، فمن بلغت عنده صدقة الحقه ولكنه لا يملك الحقة، فإنه يدفع الجذعة ويعطيه العامل الفرق بينهما، وجعل العلماء قياساً على ذلك فارقاً بين الأسنان كلها، فقالوا: من لم يجد بنت مخاض ودفع بنت لبون، فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق الفرق، ومن لم يجد بنت لبون ودفع بنت مخاض فإنها تقبل منه ويدفع معها الفرق وهكذا. ثانياً: كيفية زكاة سائمة الغنم:

إذا تمت الغنم أربعين فقد تمت النصاب ففيها شاة، ولا تزال كذلك إلى مائة وعشرين. فمن عنده أربعون فعليه شاة، ومن عنده ثمانون فعليه شاة، ومن عنده مائة وعشرون فعليه شاة. فإذا زادت على مائة وعشرين فعليه شاتان، أي من كان عنده مائة وإحدى وعشرون فعليه شاتان وهكذا إلى مائتين. فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، أي من كان عنده ثلاثمائة وتسع وتسعون ففيها ثلاث شياه، فإذا تمت أربعمائة ففيها أربع شياه، فإذا تمت خمسمائة ففيها خمس شياه، فإذا تمت ستمائة ففيها ست شياه وهكذا. فإذا كانت الغنم أقل من أربعين فليس فيها زكاة لأنها لم تكمل النصاب. ثالثاً: كيفية زكاة سائمة البقر: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، -وكان البقر فيها كثيراً- أمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً، أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة. فلا زكاة في البقر حتى يتم نصابها ثلاثين، ويخيَّر صاحبها أن يدفع تبيعاً أو تبيعة. والتبيع ما تم له سنة، فإذا وصلت أربعين بقرة، فإنه يدفع مسنة، والمسنة ما تم لها سنتان، وما بين الثلاثين والأربعين وقص ليس فيه شيء. ثم إذا تمت خمسين فلا تزيد المسنة، ولا تزيد الزكاة إلى ستين، فإذا تمت ستين ففيها تبيعان أو تبيعتان، فإن الستين ثلاثون وثلاثون. فإذا تمت سبعين ففيها مسنة وتبيع لأنها أربعون وثلاثون. فإذا تمت ثمانين ففيها مسنتان لأن الثمانين أربعون وأربعون. فإذا تمت تسعين ففيها ثلاثة أتبعة، لأن التسعين ثلاثون ثلاثون ثلاثون. فإذا تمت مائة ففيها تبيعان ومسنة لأن المائة ثلاثون وأربعون.. وهكذا.

زكاة عروض التجارة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة زكاة عروض التجارة ذكرنا فيما مضى أن عروض التجارة هي كل ما يعرض للبيع من كبير أو صغير، ومن عقار أو منقول، فكل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح، فإنه يقوّم إذا حال الحول، ويجب فيه ربع العشر، ويدخل في ذلك العقار، فالذي يعمل في العقار، يشتري الأرض ثم يبيعها بربح بعد يومين أو شهر أو أكثر أو أقل، أو يشتري العمارات والفلل وذلك لأجل الربح، ففي هذا زكاة. ويدخل في ذلك أصحاب المعارض الذين يشترون السيارات ثم يبيعونها، وكذلك أصحاب الماكينات، وأصحاب المضخات، وأصحاب الثلاجات، وما أشبهها، كل هؤلاء يشترون السلع لأجل الربح فيها فتقوَّم هذه السلع كل سنة ثم يُزكى ثمنها. ويكون تقديرها بالأحظ للمساكين والفقراء، فإذا كان الأحظ لهم تقديرها بالدراهم، قدرناها بالدراهم، وإذا كان الأحظ تقديرها بالدنانير (أي الذهب) قدرناها بالذهب، فلو كانت مثلاً إذا قدرناها بالدراهم ما ساوت إلا مائة وتسعين وهذا أقل من النصاب، وإذا قدرناها بالذهب ساوت أثنى عشر جنيهاً، فالأحظ للفقراء تقديرها بالذهب، حتى يكون فيها زكاة. وكذلك العكس، فلو مثلاً ثمنّا هذه السلع فكانت بالجنيه عشرة جنيهات، وإذا ثمناها بالدراهم ساوت ألفي درهم، فيكون الأحظ للفقراء تثمينها بالدراهم، لأنها أكثر وأحظ للفقراء وأجلب للمنفعة. مسألة: معلوم أن السلع تتعرض للزيادة والنقص في أسعارها فقد ينقص سعرها عن وقت الشراء، وقد يزيد، فكيف تقدر في هذه الحالة؟ نوضح ذلك بمثال: رجل اشترى سلعة بمائة ريال، وبقيت في مستودعه ستة أشهر وحال الحول، نظرنا كم قيمتها الآن، فإن كان قيمتها الآن رخيصة ما تساوي إلا ثلاثين أو خمسين فإنها تزكى بقيمتها التي تساويه الآن، وهكذا الوزاء سعرها فاصبحت تساوي مائة وخمسين فإنه يزكيها بما تساويه الآن ولا يزكيها بالثمن الذي اشتراها به.

وإذا كانت السلعة تباع بثمنين، ثمن الجملة، وثمن المفرق فإنه يقدرها ببيع الجملة وذلك لأنّا ثمناها جملة. فائدة: لا شك أن التجارات الآن هي أغلب أموال الناس، وهي التي تكون فيها الزكوات كثيراً، فأكثر التجار تجاراتهم هي العروض: فمنهم: من تجارته في العقار فيقدرها ويزكيها، ومنهم: من تجارته مثلاً في السيارات كأصحاب المعارض فيقدرها، ومنهم: من تجارته في قطع الغيار للسيارات ونحوها فيقدرها في الحول، ومنهم: من تجارته في الأدوات الكهربائية ومنهم: من تجارته في الأكسية والألبسة ونحوها، ومنهم: من تجارته في الأطعمة والمواد الغذائية، ومنهم: من تجارته في الأواني والمواعين وما أشبهها، ومنهم: من تجارته في الفُرُش واللُحُف وما أشبهها، ومنهم: من تجارته في الكتب والرسائل إلى غير ذلك كما هو معروف. ولو أنَّا أسقطنا الزكاة عن هؤلاء لقلت المنفعة، وقلت الزكاة التي تصرف للمساكين، ولم يأتهم إلا زكاة نقدية قليلة، أو زكاة المواشي، أو زكاة الخارج من الأرض. أدلة وجوب الزكاة في عروض التجارة:

لقد أجمع علماء الأمة أن عروض التجارة فيها زكاة. وقد خالف في ذلك الشيخ الألباني عفا الله عنه، ولا أعلم أحداً خالف في ذلك قبله، فإنه نشر في بعض تعاليقه أن زكاة العروض لا تجب، وليس فيها زكاة واجبة، وليس عليهم إلا أن يتصدقوا تبرعاً، فخالف بذلك الإجماع، وسبب ذلك أنه تكلم على حديث سمرة الذي رواه الحسن عن سمرة: "كنا نعد الزكاة من كل شيء نعده للبيع" فلما لم يكن الحديث صحيحاً على شرطه قال بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة وكأنه لم يطلع على حديث آخر فيه دليل على زكاة العروض فقال: إذا لم يثبت هذا الحديث فإنه لم يثبت في العروض حديث ولهذا فإنه لا زكاة فيها، ومن أراد أن يصدق تطوعاً وإلا فلا؛ وخالف بذلك الإجماع. ثم خالف الآيات الصريحة في قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة:103) أليست عروض التجارة هي أغلب الأموال؟؟ لا شك أنها أغلب أموال الناس قديماً وحديثاً. فالله قد أمر بالأخذ وكذلك قوله تعالى: (والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم) (المعارج:25) وفي آية أخرى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات:19) أليست أموالهم هذه تدخل فيها هذه الأموال التي هي عروض التجارة؟ لا شك أنها تدخل بطريق الأولى، فإذا أسقطنا منها الزكاة فماذا بقي؟!.

كذلك أيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثُ لأصحاب الأموال من يجمع الزكاة منهم فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الزكاة - أي زكاة أهل المدينة- فجاء في الحديث: منعَ ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب، وهؤلاء ليسوا أصحاب حُرُوث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا إنه كان فقيراً فأغناه الله". والغالب أن من كان فقيراً واستغنى فالغالب أنه استغنى بسبب التجارة، ثم قال: "وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، إنه قد احتبس أدراعه وأعتُدَه في سبيل الله. وأما العباس فعمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي علي ومثلها معها" كل هؤلاء ما عندهم إلا التجارة، لكن خالداً عنده سيوف ودروع ورماح وخناجر قد جعلها وقفاً لقتال المشركين، وليس عنده شيء يزكيه، وما عنده لم يعرضه للبيع، إنما أوقفها واحتبس أدراعه وأعتاده وخيله ونحوها في سبيل الله لم يجعلها تجارة فاعتذر عنه. وأما العباس فكان أيضاً يتعاطى التجارة ولمّا هاجر إلى المدينة لم يكن عنده إلا التجارة، لم يكن صاحب ماشية ولا صاحب بستان ما عنده إلا التجارة. إذاً فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل من يقبض من التجار الذين هم أصحاب التجارات يقبض منهم زكواتهم. أليس ذلك دليلاً ولكنه فات على الشيخ الألباني -عفا الله عنه- فجزم بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة في تعليقه على هذا الحديث عند تخريجه لأحاديث كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق. وروى البيهقي عن ابن عمر قال ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة.

فالحاصل أن إجماع الأمة من كل مذهب ثابت على أن عروض التجارة فيها زكاة، وأنها كل ما أعدّ للبيع والشراء. وإن لم يصح حديث سمرة، فقد صح فيه فعل الصحابة وصح العمل عليها حتى ذكروا أن عمر رضي الله عنه في خلافته مر عليه أحد الموالي يحمل جلوداً فأوقفه وقال: هل أديت زكاتها؟ فقال ما عندي إلا هذه ولم تبلغ نصاباً فهذه جلودٌ ذَهَبَ بها ليبيعها فلو بلغت نصاباً لأخذ زكاتها. وهذا دليل على أنهم كانوا يأخذون الزكاة على كل شيء يباع. شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة: الملك التام لعروض التجارة. بلوغ النصاب وذلك بعد تقويمها بأحد النقدين. أن يحول عليها الحول. نصاب عروض التجارة ومقدار الواجب فيها: يجب أن تقوّم عروض التجارة، فإذا بلغت نصاب أحد النقدين فإنها تُزكى، وإذا لم تبلغ فلا زكاة فيها. ومقدار الزكاة هو (2.5%) ، فلو ملك شخص عروض تجارة قيمتها (مائتا ألف ريال) وجب عليه فيها (خمسة آلاف ريال) .

زكاة الأثمان (الذهب والفضة)

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة زكاة الأثمان (الذهب والفضة) كان الناس في الماضي يتعاملون بالذهب في صورة دنانير والفضة في صورة دارهم، ولم تُعرف الأوراق النقدية، التي يستعملها الناس الآن، وسمي الذهب والفضة بالأثمان لأنها هي أثمان السلع. دليل وجوب زكاة الذهب والفضة: الأدلة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة كثيرة، منها قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم تُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (التوبة:34-35) . ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار..". نصاب الذهب والفضة ومقدار الواجب فيهما من الزكاة: ذكرنا فيما مضى أنه يجب أن يزكي الذهب والفضة ولو كانا مرصودين أو مخزونين، وذلك أنه يمكن تنميتها، فإذا قال قائل: كيف أدفع زكاتها كل سنة وهي لا ربح فيها ولا يحصل فيها زيادة وهي مخزونة؟ فإذا كنت أدفع كل سنة زكاتهما فإنهما ينقضيان. نقول: لماذا تمسكهما؟ ولماذا تخزنهما وهما قابلان للتنمية؟ أما آن لك أن تنميهما بنفسك بأن تتجر فيهما، أو تعطيهما لمن يتجر فيهما بجزء من الربح فأنت المفرط والمهمل فلو شئت لاتجرت فيهما. والحاصل: أنها مادامت موجودة عندك ففيها الزكاة إذا بلغت النصاب.

ونصاب الذهب: عشرون مثقالاً أو عشرون ديناراً كما ورد في الحديث والدينار قطعة من الذهب يتعامل بها، ويقدر النصاب بخمسة وثمانين غراماً هذا إذا كان غير مضروب. أما إذا كان مضروباً فإن نصابه أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنيه أو نصف الجنيه السعودي. وقولنا: مضروباً أي من النقود، والمراد بغير المضروب هو التبر والمقطع أو المصوغ أو الحلي، فكل ذلك يُسمى ذهباً ففيه الزكاة، فإذا بلغ هذا الذهب النصاب ففيه الزكاة وهي ربع العشر. أما نصاب الفضة: فإذا بلغت مئتي درهم ففيها الزكاة، والدرهم قطعة من الفضة كانوا يتعاملون بها. فإذا كان عنده من الفضة مائتا درهم فإن عليه الزكاة فيها إذا حال عليها الحول. وقدرها العلماء بـ (ستة وخمسين ريالاً) بالريال العربي السعودي، وقدروها باثنين وعشرين ريالاً فرنسياً فإذا بلغت الفضة هذا النصاب ففيها الزكاة وهو ربع العشر.

السؤال:- ما مقدار الذهب الذي تجب في الزكاة؟ الجواب:- نصاب الذهب عشرون ديناراً، والدينار أربعة أسباع الجنيه، فيقدر الآن بأحد عشر جنيهاً ونصفاً أو ما يساويها في الوزن، وقدره بعضهم بالجرام بخمس وثمانين جراماً، وقيل: باثنين وتسعين جراماً وحيث إن الجنيه السعودي موجود ومتوفر فالاعتبار بوزنه من الذهب الخالص. النصاب بالعملات الورقية: اختلف في هذه الأوراق المتداولة بين الناس، هل هي أسناد أو أنها نقود؟ فالذين جعلوها أسناداً قالوا: إنها عروض. والذين جعلوها نقوداً قالوا: إنها قيم. فالذين جعلوها أسناداً قالوا: ننزلها منزلة ما هي بدلاً عنه، فمن كان عنده ستة وخمسون ريالاً من الورق وحال عليها الحول اعتبر غنياً واعتبر أن عليه الزكاة على هذا القول. وأما الذين جعلوها نقوداً بأصلها فقالوا: تقدر قيمتها. والآن قيمتها أنقص عند الصرافين من قيمة الفضة. فمثلا لو أردت أن تحصل على ريال فضي لما حصلت عليه إلا بعشرة أو خمسة عشر من الأوراق النقدية لأنه يُتنافس فيه، فلذلك يجوزون المبادلة بينهما مع المفاضلة، فيجوز أن تصرف ريال فضة بخمسة عشر ريالاً من الأوراق، ولو كان هذا يسمى ريالاً عربياً، وهذا اسمه ريال سعودي، ولكن القيمة تختلف، فعلى هذا يمكن أن نقول: إن الريال الفضي بعشرة ريالات من الأوراق، يكون نصاب الأوراق خمسمائة وستين أي ستة وخمسون نضربها في عشرة. فإذا كان الذي يملكه خمسمائة وستين ريالا من الأوراق وحال عليه الحول، فإنه يعتبر غنياً فعليه الزكاة فيها. وإن كان الناس في هذه الأزمنة لا يعتبرون الغني إلا بكثرة المال، فيقولون: خمسمائة وستون ريالاً يمكن أن يشترى بها طعاماً مرة واحدة ونحوه فكيف يكون غنياً؟! نقول: ما دام أنه لم يحتج إليها طوال العام، فإنه دليل أن عنده غيرها ما يكفيه فيعتبر غنياً. النصاب بالريالات السعودية:

العملة المعمول بها في هذه البلاد هي الريال السعودي وهو مقوّم بالفضة، وقد عرفنا أن نصاب الفضة (مائتي درهم) فمن ملك مائتي درهم فقد بلغ النصاب ووجب عليه الزكاة وما كان دونه فليس فيه زكاة. وحيث إن الدرهم الإسلامي يساوي سبعة أعشار المثقال، وزنة المثقال أربعة جرامات وربع الجرام. فإن (المائتي درهم) تساوي (140 مثقالاً) وتساوي (140 مثقال 4.25=595غم) . فمن ملك (595غم) من الفضة فقد ملك النصاب ومن أراد تحويلها إلى الريال السعودي فما عليه إلا أن يعرف سعر الفضة في ذلك اليوم ثم يضربه في (595غم) والناتج هو النصاب من الريالات السعودية ومثال ذلك: رجل ملك (595غم) فضة يعني ملك النصاب وكان سعر الفضة في اليوم الذي يريد إخراج الزكاة فيه (7ريالات) فيعمل الآتي: 595غم × 7ريال= 4165ريال فمن ملك مبلغاً من المال قدره (4165ريال سعودي) في ذلك اليوم فقد ملك النصاب فعليه أن يخرج زكاتها وهو ربع العشر ويساوي 4165×2.5%= 104.125ريال. ومن ملك أقل من (4165) في ذلك اليوم فإنه لم يملك النصاب. وهكذا أيضاً من أراد أن يخرج زكاة ماله في أي بلد من البلاد فعليه أن يعرف سعر الفضة ثم يضربها في 595غم والناتج هو النصاب. والله أعلم.

شروط وجوب الزكاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة شروط وجوب الزكاة الشرط الأول: أن يكون المالك مسلماً: فلا يجب على الكفار، وذلك لأن الكفار لا يطهرون بهذه الزكاة، ولا ينميها الله لهم، فالزكاة خاصة بالمسلمين، لأنها عبادة. الشرط الثاني: أن يكون حراً: فلا تجب الزكاة على العبد، وذلك لأن العبد لا يملك، بل هو وما في يده لسيده. الشرط الثالث: ملك النصاب: فمن كان ما له أقل من النصاب فلا زكاة عليه، وما ذاك إلا لأن الله تعالى فرضها على الأغنياء، والذي ملكه دون النصاب لا يسمى غنياً، فهو أهل لأن يعطى، كما في حديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: "أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فالذي يملك أقل من النصاب لا يسمى غنياً. الشرط الرابع: مُضيًّ الحول: فلا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، واستثني من الحول: أولا ً: الخارج من الأرض: فلا يشترط له حول، بل إذا حُصد أخرج زكاته؛ لقول الله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام:141) ، فالزروع تبقى في الأرض أربعة أو خمسة أشهر ثم تحصد، فإذا حصد وصفي، فإنه تخرج زكاته، ولا يلزم عليه مضي الحول ولا نصف الحول. ثانياً: ما كان تابعاً للأصل: كنماء النصاب وربح التجارة، فإن حولهما حول أصلهما، وهذا أيضاً لا يشترط له الحول، فنما النصاب يكون في الماشية، فمثلاً إذا كان الأصل نصاباً، فالنماء لا يشترط له النصاب، فلو كان يملك خمساً من الإبل سائمة في شهر محرم، ولما جاء شهر ذي الحجة ولدت الخمس خمساً فأصبحت عشراً، فهل عليه نصاب أم نصابان؟ الصحيح أن عليه نصابين؛ لأنه أصبح عنده عشر، ولو أن الأولاد ليس لها إلا شهر أو أقل من شهر، لأن النماء تابع الأصل.

ومثله الغنم، فلو كان عنده مائة وإحدى وعشرون من الغنم ففيها شاتان، وقبل تمام الحول بشهر ولدت مائة، فأصبح له مائتان وعشرون فيها ثلاث شياه، ولو أن أولادها لم يتم لها إلا نصف شهر أو شهر، فالنماء الذي هو الأولاد يتبع الأصل. وكذلك ربح التجارة يتبع أيضاً أصله، وصورة ذلك لو أن إنساناً فتح دكاناً في شهر محرم ورأس ماله خمسة آلاف، ثم إنه ربح في شهر محرم خمسة آلاف، وفي شهر صفر خمسة، وفي شهر ربيع خمسة، ولما انتهت السنة لانتهاء ذي الحجة، فإذا معه خمسون ألفاً بعضها اكتسبه في شهر ذي الحجة، وبعضها في شهر ذي القعدة، وبعضها في شهر شوال، وبعضها في شهر رمضان، وبعضها في شهر شعبان، فهو يزكي عن الخمسين، ولا يقول: هذه لم أربحها إلا اليوم أو أمس، أو في هذا الشهر!! نقول: إن هذه التجارة تجارة واحدة، وربح التجارة تابع لأصلها، حيث إن أصلها نصاب. الشرط الخامس: استقرار الملك: فإذا بلغ النصاب فلابد أن يكون الملك مستقراً، فإذا كان الملك غير مستقر فلا زكاة فيه. أما عن صورة الاستقرار فهي تتضح بمثالين: المثال الأول: صداق المرأة قبل الدخول بها غير مستقر؛ لأنه يمكن أن يسقط بالخلع، ويمكن أن يسقط نصفه بالطلاق، فإذا دخل بها الزوج استقر، وملكته كله. المثال الثاني: ثمن المكاتب، والمكاتب العبد الذي يشتري نفسه من سيده بمال في الذمة، فيتكسب حتى يعطيه، فمثلاً إذا قال العبد: أنا أشتري نفسي بعشرين ألفاً، فهذه العشرون لا تزكى لأنها غير مستقرة، فيمكن أن يعجز العبد فيعود رقيقاً.

صرف الزكاة عينا بدل النقد

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة صرف الزكاة عيناً بدل النقد

السؤال:- حيث إنني أودًّ أن أساعد بعض الأسر بأموال الزكاة، ولكنني أنوي أن أقدمها لهم عينية على هيئة سيارة أو ماكينة إنتاج صغيرة أو أي منقولات أو ما شابه ذلك. فهل هذا يجوز شرعاً؟ أم ماذا؟ الجواب:- الذي يظهر أن الزكاة تصرف لمستحقيها نقداً أو عيناً مستهلكة، كطعام ولباس يسد حاجة الفقير، لكن إن كانت الأسرة دائمة الحاجة ويكلفها الطلب والتكفف الدائم، ويحبون أن يعطوا ما يمكنهم من الاكتساب الدائم، جاز إعطاؤهم ما يعينهم على ذلك، كسيارة أجرة يكتسبون منها، وماكينة خياطة يعملون عليها، وماكينة ماء يسقون عليها حرثهم، أو بعض من الأدوات التي أصبحت ضرورية كغسالة ومكيف ونحو ذلك من الآلات التي تعم الحاجة إليها، كما يلاحظ عدم المحاباة بالزكاة، فإذا عرفت غير هذه الأسر مثلهم في الحاجة أو أشد فاقة، فإنك تعطيهم ما تقدر عليه، فإن الزكاة حق معلوم للسائل والمحروم، فاتق الله وأعطها لمستحقها، تقبل الله من الجميع وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- هل يجوز إخراج زكاة المال في صورة أخرى بدلاً من المال، مثل الطعام والملابس أو أشياء أخرى، تشترى وتقدم لأرباب الزكاة؟ وهل يجوز إخراج جزء منها للأقارب؟ وما هي درجة القرابة؟ الجواب:- يحسن إخراج زكاة المال من جنسه إلا أموال التجارة، فتقوم وتخرج زكاة قيمتها نقوداً. لكن إن رأى المزكي أن يشتري بها حاجة ضرورية للفقير ككسوة ونفقة ومتاع هو محتاج إليه فالأقرب جوازه. ثم إن الزكاة تدفع إلى أهلها الذين سماهم الله ولو كانوا من القرابة. بل يفضل إعطاء القريب إذا كانت حاجته أشد ما لم تكن محاباة وتخصيصاً له دون من هو أحق منه من الأباعد. ولا يجوز دفعها إلى من يرثه المزكي، ولا إلى أصوله وفروعه، كالآباء والأجداد والأولاد وإن نزلوا.

صرف الزكاة لآل محمد وهم بنو هاشم

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة صرف الزكاة لآل محمد وهم بنو هاشم لا تحل الزكاة لآل محمد صلى الله عليه وسلم ولا لمواليهم، وآل النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم، وكثير من العلماء قالوا: وبنو المطلب، وذلك لأن عبد مناف هو أبو هاشم وأولاده أربعة: هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل، فأما بنو هاشم فهم الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو المطلب من ذرية عبد مناف، فلما حصر بنو هاشم في الشعب دخل معهم بنو المطلب، وقالوا: أنتم إخواننا ولا نرضى أن نتخلى عنكم؛ فلذلك أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الفيء ومن الغنيمة، وجعل لهم هذا الحظ، وجعلهم من ذوي القربى المذكورين في قوله تعالى: (فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (الأنفال:41) ، ولم يعط بني نوفل ولا بني عبد شمس؛ لأنهم لم يناصروهم، فقال في بني المطلب: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام". وقد اختلف العلماء هل يحرمون من الزكاة لفقيرهم أو يعطون من الزكاة؟ فكثير منهم قالوا: ما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يولهم على الزكاة، ولم يعطهم من الزكاة، واقتصر على إعطائهم الخمس من الفيء، فإن ذلك دليل على أنهم مثل بني هاشم. والراجح أنهم ليسوا مماثلين لهم، وأن الحكم يختص ببني هاشم، وأن بني هاشم هم الذين يسمون بذوي القربى. وقد اختلف أيضاً العلماء اختلافاً آخر في ذوي القربى؛ فذهب بعضهم إلى أن ذوي القربى هم أقارب الخليفة، ولو لم يكن من بني هاشم، فلما كانت الخلافة في بني أمية كانوا يستبدون بهذا القسم الذي هو سهم ذوي القربى، فيقولون: نحن من ذوي قربى، ولما آلت الخلافة إلى بني العباس، فبنو العباس من بني هاشم، استعادوا سهمهم الذي هو سهم ذوي القربى.

والحاصل أن بني هاشم لا يعطون من الزكاة، وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أوساخ الناس، فلا تحل لهم، حتى إن الحسن مرة أخذ تمرة من صدقة فوضعها في فمه، فلم يتركها النبي عليه الصلاة والسلام حتى أخرجها وعليها ريقه، وألقاها في الصدقة؛ بقوله: "كخ كخ! إنها لا تحل لنا" مع كونه طفلاً، ولما وجد تمرة في الطريق قال: "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" فلم يأكلها خشية أن تكون من الصدقة. فكل ذلك دليل على تورعه عليه الصلاة والسلام، ثم علل بقوله: "إن لكم في خمس الخمس، ما يغنيكم عن الصدقة. وقد اختلف الآن هل يعطون أو لا يعطون وذلك لأنهم الآن قد يكونون محرومين من بيت المال ومن خمس الخمس ومن الفيء، ولا يأتيهم شيء، ويعتري كثيراً منهم غرامات وديون، ويحتاجون إلى أن يعطوا ما يخفف عنهم، وقد لا يجدون من يعطيهم إلا من الزكاة؛ فلذلك رُخص لهم عند الحاجة، ولطول الزمان، فبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين جداً، فكيف يصيرون من ذوي القربى مع بعد النسب؛ لذلك رأى بعض العلماء إنهم يعطون عند الحاجة. أما الموالي فدليله حديث أبي رافع لما قال له رجل: اصحبني حتى تصيب من الصدقة، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنها لا تحل لنا الصدقة، ومولى القوم منهم". والصحيح أنها خاصة بالأقرباء الذين في ذلك العصر، فأما المتأخرون إذا احتاجوا فإنهم يعطون ما يسد حاجتهم.

صرف الزكاة لصالح المشاريع الخيرية العامة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة صرف الزكاة لصالح المشاريع الخيرية العامة

السؤال:- هل يجوز دفع الزكاة لصالح المشاريع الخيرية في البوسنة والهرسك، من دفع لرواتب الدعاة، وتسديد لإيجار المراكز التي يتخذونها، والنفقة على الطلاب المحتاجين، وطبع كتب العقيدة السلفية وغيرها من الأعمال الدعوية الخيرية، أفتونا مأجورين بارك الله فيكم وبعلمكم؟ الجواب:- أرى -والله أعلم- أن هذه المشاريع في سبيل الله، لأنها تُعين على جهاد الكفار وتقوية المجاهدين حسياً ومعنوياً، فإن الدعاة يعلمون المسلمين العقيدة والعبادة التي هي إظهار لكلمة الله تعالى وإذلال للكفر وأهله، وحض للمسلمين على العقيدة السلفية، وبها يندفعون نحو أعدائهم ويقاتلون الكفار، وسواء كانت الدعوة عن طريق الكتب السلفية أو عن طريق المحاضرات والدروس أو الدعوة العامة والله أعلم.

السؤال:- لدينا في المسجد مشروع مساعدة العوائل الضعيفة، ومعظمهم أرامل دون عائل، أو أيتام أو فقراء، فنقوم بتقديم بعض المواد الغذائية الأساسية، وذلك في بداية كل شهر عربي، إضافة إلى تقديم بعض الإعانات المقطوعة في الأعياد وغيرها. أو تقديم الإعانات لبعض الشباب المقبلين على الزواج. فهل يجوز دفع الزكاة لمثل هذه الحالات. الجواب:- أرى أنه لا مانع من صرف الزكاة لمثل هؤلاء بصفتهم أرامل بدون عايل، وأيتاماً ذوي حاجة، وفقراء معوزين، وكلهم من أهل الاستحقاق للزكاة، وأنتم ممن يساعد على الخير، فجزاكم الله خيراً وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- بتوفيق من الله ثم بمجهودات فردية، وكذلك بمساعدة إخوان لنا في هذا البلد، أسسنا وجهزنا مركزاً للتشخيص والتحاليل الطبية في المنطقة الشمالية الشرقية والوسطى من الصومال. هذا المركز الوحيد في منطقة يقطنها مليون ونصف من إخواننا المسلمين وتنتشر فيه الأمراض المعدية والأوبئة. ويقوم هذا المركز بخدمات التشخيص الطبية الدقيقة مما يساعد على العلاج الصحيح إن شاء الله، كما أننا نقوم بالأعمال الدعوية والتوعية الدينية الصحيحة، مستغلين الخدمات الطبية والأدوية التي نوفرها للمحتاجين. ولاستمرار هذه الخدمة وكذلك توسيعها أردنا أن يشارك إخواننا المحسنون بشراء بعض الأجهزة والأدوية للمركز. فهل يجوز صرف الزكاة للخدمات العلاجية والطبية الأخرى. الجواب:- أرى والله أعلم جواز صرف الزكاة في ذلك، لأن العلاج من ضروريات الحياة، وليس كل فرد يقدر على تكلفة الكشف وثمن العلاج ونحوه، فإذا كان هناك مركز يعمل ذلك مجاناً فهو أهل أن يمون من الزكاة سيما إذا اختص بالمعوزين والفقراء، ومع ذلك يقوم بالدعوة إلى السنة، والحث على الاستقامة، والتحذير من المعاصي، والترغيب في كثرة الصالحات والحسنات، وبيان أن الشافي هو الله وحده، وأن هذه المراكز أسباب نصبها العبادة، فإذا لم يوجد متبرع لهذا المركز وكان تأسيسه مفيداً بما ذكر، جاز تموينه من الزكاة المفروضة بقدر الحاجة والله أعلم.

السؤال:- لدينا جمعية تقوم بإنشاء مشروع كبير، وهو بناء مسجد جامع ومدرسة عربية إسلامية، وفيها قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم، ومستوصف طبي، فهل يجوز للجمعية الأخذ من الزكاة لإنشاء مثل هذا المشروع. الجواب:- الأصل أن الزكاة لا تصرف إلا في الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن، وهم الفقراء، والمساكين، والعمال عليها، والمؤلفة قلوبهم، والمكاتبون، والغارمون، والمجاهدون، وأبناء السبيل، لكن ذهب بعض العلماء إلى أن المشاريع الخيرية تدخل في سبيل الله، والمختار أنه الجهاد فقط وعلى هذا فالتمسوا لهذا المشروع غير الزكاة والله أعلم.

السؤال:- تقدم إلينا أحد الإخوة السودانيين بطلب المساعدة في حفر بئر في منطقتهم في السودان، فهل يجوز صرف الزكاة في مثل هذا الأمر أم لا؟ الجواب:- إذا كان أهل البلد فقراء عاجزين عن حفر البئر، وهم بأمس الحاجة إلى حفرها للشرب أو إخراج مائها بمضخة، ولم يوجد من يتبرع بالحفر وإخراج الماء من غير الزكاة، جاز الصرف عليها من الزكاة والله أعلم.

السؤال:- تعاني كثير من مناطق العالم الإسلامي من الأمراض والأوبئة، بالإضافة إلى الفاقة والجوع الذي اجتاحها، وكان هذا أحد مداخل المؤسسات التنصيرية، ولذلك تقوم لجنة الطبيب المسلم التابعة لبعض الهيئات الخيرية بإقامة مخيمات طبية دعوية في عدد من الدول المسلمة الفقيرة، وتهدف بذلك إلى تقديم الخدمة الطبية والدعوة إلى المحتاجين إليها، وهذا يستلزم الإنفاق على التالي: تذاكر سفر للأطباء والصيادلة والدعاة. شراء وشحن الأدوية والأجهزة الطبية اللازمة للقيام بمهام المخيم. مصاريف أخرى وتشمل "المسكن والمعيشة، وشراء الكتب الدعوية والإرشادية". فهل يرى فضيلتكم جواز أخذ الزكاة للقيام بمثل هذا العمل؟ الجواب:- فحيث إن المستفيد من هذا العمل طائفة من الفقراء والمساكين، وحيث إن العلاج لهذه الأمراض المستعصية أصبح من الضروريات في هذه الحياة، وحيث إنه لا يوجد متبرع بهذا العلاج. وهذه الأدوية، وأن الدولة لا تتولى علاج المواطنين، فأرى أنه يجوز ما ذكر أعلاه، فإن الله تعالى جعل للعاملين عليها سهماً من الزكاة، فيدخل في ذلك رواتب الأطباء وتذاكر الإركاب لهم وللصيادلة والدعاة، وكذا شحن الأجهزة الطبية ودفع قيمتها، وما ذكر من المصارف للحاجة الماسة إذا لم يوجد متبرع، فهي من الضروريات. والله أعلم.

صرف الزكاة لطباعة الكتب والأشرطة الإسلامية وشراء الجوائز التشجيعية

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة صرف الزكاة لطباعة الكتب والأشرطة الإسلامية

السؤال:- فحيث إن نشر الكتاب الإسلامي والشريط مهم في الدعوة إلى الله في هذا الزمان، في تصحيح العقيدة وتوضيح العبادات الشرعية والحث على الآداب الإسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل يجوز صرف الزكاة في نشر وطباعة الكتاب والشريط الإسلامي، وقد سبق أن ناقش مجلس المجمع الفقهي هذه المسألة وقد صدر عنه القرار التالي: الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بدروته الثامنة والمنعقدة بمكة المكرمة فيما بين 27/4/1405هـ، 8/5/1405هـ - وبعد دارسة ما يدل عليه معنى (وفي سبيل الله) في الآية الكريمة، ومناقشة وتداول الرأي فيه ظهر أن للعلماء في المسألة قولين: أحدهما: قصر معنى: (وفي سبيل الله) في الآية الكريمة على الغزاة في سبيل الله، وهذا رأي جمهور العلماء، وأصحاب هذا القول يريدون قصر نصيب: (وفي سبيل الله) من الزكاة على المجاهدين في الغزاة في سبيل الله تعالى. القول الثاني: أن سبيل الله شامل عام لكل أطراف الخير، والمرافق العامة للمسلمين، من بناء المساجد وصيانتها، وبناء المدارس والربط وفتح الطرق، مما ينفع الدين وينفع المسلمين، وهذا قول قلة من المتقدمين، وقد ارتضاه واختاره كثير من المتأخرين، وبعد تداول الرأي ومناقشة أدلة الفريقين قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: نظراً إلى أن القول الثاني قد قال به طائفة من علماء المسلمين، وأن له حظاً من النظر في بعض الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) (البقرة، ومن الأحاديث الشريفة مثل ما جاء في أبي داود: أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اركبيها فإن الحج في سبيل الله".

ونظراً إلى أن القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله تعالى، ونشر دينه بإعداد الدعاة، ودعمهم ومساعدتهم على أداء مهمتهم فيكون كلا الأمرين جهاداً. لما روى الإمام أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". ونظراً إلى أن الإسلام محارب بالغزو الفكري والعقدي من الملاحدة واليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، وأن لهؤلاء من يدعمهم الدعم المادي والمعنوي، فإنه يتعين على المسلمين أن يقابلوهم بمثل السلاح الذي يغزون به الإسلام وبما هو أنكى منه. ونظراً إلى أن الحروب في البلاد الإسلامية أصبح لها وزارات خاصة بها، ولها بنود مالية في ميزانية كل دولة بخلاف الجهاد بالدعوة، فإنه لا يوجد له في ميزانيات غالب الدول مساعدة ولا عون. لذلك كله فإن المجلس قرر -بالأكثرية المطلقة- دخول الدعوة إلى الله تعالى وما يعين عليها، ويدعم أعمالها في معنى: (وفي سبيل الله) في الآية الكريمة هذا وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين. أما الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فقال: (ها هنا أمر هام يصح أن يصرف فيه من الزكاة، هو إعداد قوة مالية للدعوة إلى الله، ولكشف الشبه عن الدين وهذا يدخل في الجهاد، وهذا من أعظم سبيل الله) . نرجو من فضيلتكم التفصيل في هذه المسألة المهمة؟ الجواب:-

فإني أقول إن ما ذكره هؤلاء العلماء المشهورون قول صحيح ورأي سديد، وفيه توسعة على المسلمين، وتأييد للدعاة والمرشدين، وسبب قوي لنشر الدين وقمع المشركين. ولا شك أنه سبيل الله تعالى الطريق الموصل إليه، وجمعه سبل، كما قال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (المائدة:16) أي يهدي إلى السبيل التي تؤدي من سلكها إلى السلام، فكل عمل صالح يقرب إليه تعالى ويوصل إلى رضاه وجنته فهو من سبيل الله؛ لأن الله تعالى يحب أن يتقرب به إليه، ويترتب عليه ثوابه وكرامته، فالله تعالى ذكر في آية الصدقات أشخاصاً يستحقونها لحاجاتهم الخاصة بهم، كالفقير والغارم والمؤلف وابن السبيل ونحوهم، ممن يأخذها لمصلحته وحاجته الحاضرة، ثم أجمل الجهات الأخرى بقوله: (وفي سبيل الله) وقد جعل الله الهجرة من سبيله بقوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً) (النساء:100) .

ولا شك أن مصلحة الدعوة إلى دين الله، وبيان محاسن الدين، والرد على المفسدين والملحدين، وتفنيد شبهات الكفار والمنافقين ونحو ذلك، هو من نصر الله ونشر دينه الذي ارتضاه وأحبه وفرضه على البشر، فإذا تعطل هذا الباب ولم يوجد من ينفق عليه، ويدفع به إلى الأمام، ويتبرع للدعاة والمصلحين بما يكفل استمرارهم، وجب أن يصرف فيه من الزكوات المفروضة، لاقتضاء المصلحة، فالنفقة فيه قد تكون أهم من دفعها لبعض المذكورين، كالمكاتب والمؤلف وابن السبيل، فإن هؤلاء قد يتحملون الصبر، ولا يكون فيهم من الضرورة كضرورة الرد على المفسدين وقمع المنافقين، ونشر العلم وطبع المصاحف وكتب الدين، وتسجيل أشرطة إسلامية، تتضمن بيان حقيقة الإسلام وأهدافه، ومناقشة الشبهات التي تروج على ضعفاء البصائر، فمتى توقف الإنفاق على هذه المصالح من التبرعات جاز الصرف على جميعها، وما أشبهها من الزكاة، التي شرعت لمصالح الإسلام وما يسد خلتهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. صرف الزكاة في شراء الجوائز التشجيعية

السؤال:- هل يجوز صرف الزكاة على شكل جوائز تشجيعية في أثناء المحاضرات للمسلمين وغير المسلمين؟ الجواب:- تصرف الزكاة للمسلمين الفقراء ولو جعلت كجوائز، أما الكفار فلا تصرف لهم إذا عرف عنادهم ويجازون من غيرها.

صرف الزكاة للأغنياء

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة صرف الزكاة للأغنياء فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب"، وذلك لأنه أتاه رجلان، فنظر فيهما فرآهما جلدين فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب". فاشترط في القوي أن يكون مكتسباً؛ لأن هناك من يكون قوي البدن، ولكنه لا يستطيع الاكتساب، ولا يعرف التكسب، ولا يحسن تنمية المال، ولا الاحتراف ولا الاشتغال، فيكون فقيراً. والغني قيل إنه من كان عنده مال مزكى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسمهم إلى قسمين: قال: "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم"، فالذي عنده مال فيه زكاة اسمه غني، والذي ليس عنده مال فيه زكاة اسمه فقير، وهذا تحديدهم. وقديماً حددوهم بربع النصاب، فقالوا: الغني الذي يملك خمسين درهماً، وهي ربع النصاب. والصحيح أن هذا لا يخضع لتعريف، بل كل زمان يقاس أهله به، ففي زماننا لو أن إنساناً يملك ألفاً أو نصف الألف لا يعد غنياً، لأن الألف لو بدت له حاجة لأنفقها، ولو نزل به ضيف لم تكفه ضيافة، ولو احتاج إلى كسوة لم تكفه لكسوة أهله أو لكسوة نفسه، فلا يعد غنياً في هذه الحال. وكذلك أيضاً في الزمان الأول الذي أدركناه، فنحن أدركنا -مثلاً- زماناً كانت السلع فيه رخيصة ومتوفرة، حتى إن أحد أعمامي ذكر أنه حج وليس معه إلا ريالان أنفق منهما، حتى الفدية وجدها بأقل من الريال، والبقية نفقته وأكله في ذهابه وإيابه، وذلك من نحو أكثر من تسعين سنة، فالزمان يختلف.

صرف الزكاة للأقارب

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة صرف الزكاة للأقارب كالإخوان والأبناء والوالد وغيرهم

السؤال:- هل يصح للوالد أن يعطي ولده من الزكاة إذا كان محتاجاً؟ وهل تعطي زوجة الابن المحتاجة من الزكاة؟ وهل يعطي الإخوة من الزكاة؟ الجواب:- لا تحل زكاة الرجل لأولاده أو أولاد أولاده ذكوراً وإناثاً وأن نزلوا، لأنه ملزم بالنفقة عليهم إذا احتاجوا، وكذا زوجة الابن لأن نفقتها على زوجها ونفقة زوجها على والده. أما الإخوة فتحل لهم الزكاة إذا كان لا يرثهم ولا يرثونه لوجود أولاد لهم.

السؤال:- هل يجوز دفع الزكاة للأقارب كالإخوان، والأخوات؟ الجواب:- إذا كانوا فقراء، ولم يكونوا من الورثة الذين تلزمك مؤنتهم، جاز دفع الزكاة لهم بهذين الشرطين.

السؤال:- أنا امرأة متزوجة وزوجي عليه ديون، فهل يجوز أن أسدد ديونه من زكاة ذهبي؟ وإذا أعطيته فماذا أعمل؟ الجواب:- الصحيح أن زكاة الزوجين لا تصح من بعضهم البعض، فلا يدفع لزوجته من زكاته، ولا تدفع لزوجها من زكاتها وهذا في الزكاة المفروضة. أما حديث زينب امرأة عبد الله لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم"، فهي صدقة التطوع وليست الزكاة المفروضة. أما إذا كانت قد دفعت لزوجها زكاة ذهبها فإنها تزكي مرة أخرى لأنها أعطت الزكاة لمن لا يستحقها.

السؤال:- شخص لديه ابنة أخت متزوجة من رجل لديه امرأة أخرى، هل تعطى هذه البنت من الزكاة؟ الجواب:- نعم يعطيها خالها إذا كانت فقيرة وزوجها لا ينفق عليها؛ لفقر أو بخل، لعدم التوارث.

السؤال:- هل يجوز إعطاء أخي جزءاً من زكاة أموالي علماً بأنه لا يصلي؟ وهل يجوز أن أعتبره من المؤلفة قلوبهم؟ الجواب:- عليك أن تنصحه وتحذره من ترك الصلاة، وتبين له الإثم فيها فإذا أصر وامتنع عن أداء الصلاة، فأخبره أنك ستقطع صلتك به، وتقطع عنه صدقتك، ولا تعطه حتى من الزكاة ما دام على هذه الحال. فإن اهتدى ورجع فَعُد إليه وأعطِهِ، وإن أصر وعاند فلا تعطه لا من الزكاة ولا من غيرها لعله أن يتوب.

صرف الزكاة لمن يريد الزواج

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة صرف الزكاة لمن يريد الزواج

السؤال:- هل تصرف الزكاة لإنسان يريد الزواج، ولا يملك ما يتزوج به من مال؟ الجواب: نعم. أفتى بذلك مشايخنا، فقالوا: إن الزواج من الضرورات كحاجة الإنسان إلى الطعام والشراب والسكن.. فكذلك حاجته إلى الزواج، ولو لم يفعل لحصل عليه ضرر، ولحصلت مفاسد كثيرة على الشباب والشابات، فلأجل ذلك ذكروا أنه يباح له أن يأخذ من الزكاة ما يستعين به في مهر زواجه، ووليمته وما هو تابع لذلك.

السؤال:- أنا طالب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وإنني مقدم على الزواج بإذن الله تعالى، وكما يعلم فضيلتكم أن مكافأة الطالب هي ثمانمائة وخمسون ريالً فقط، وحيث إن متطلبات الزواج كثيرة وليس لدي مصدر مالي يساعدني على إتمام الزواج سوى الله تعالى ثم مساعدة أهل الخير، وحيث إن والدي يعمل مؤذناً براتب (1050 ريال) ولا يستطيع مساعدتي، فلأجل ذلك هل يحق لي الأخذ من الزكاة لإتمام الزواج؟ الجواب:- لا مانع من أخذ الزكاة للإعانة على الزواج لأنه من الضروريات، والزكاة مصرفها لضروريات وحاجات الفقراء والغارمين ونحوهم، فلك أن تأخذ من الزكاة بقدر الكفاية للمهر والتكاليف والله أعلم.

السؤال:- أنا شاب متدين ولله الحمد والمنة، وأستلم راتباً شهرياً أقل من ثلاثة آلاف ريال، وعندما عزمت على الزواج ساعدني أهل الخير، فمنهم من أقرضني، ومنهم من أهدى لي، وبعد ذلك تزوجت امرأة ثيباً، إلا أنني وجدت فيها عيباً، والآن هذه الزوجة حبلى وعلى وشك الولادة، وأنا عازم على الطلاق إن شاء الله بعد ولادتها. وأنا الآن أجمع المال لكي أتزوج مرة أخرى، وحيث أن عليّ بعض الديون فسأقوم بدفع مبلغ شهري للمولود القادم إضافة إلى أنني أسدد شهرياً ما علي من ديون ولا يبقى معي من الراتب إلا مبلغ يسير جداً، فهل يجوز لي أخذ الزكاة؟ الجواب:- لا تحل لك الزكاة حتى تعقد النكاح ويبقى في ذمتك بعض المهر وتوابعه فتكون من الغارمين، وأنا أنصحك أن تمسك زوجتك أم ولدك ولو كانت ثيباً، فقد تكون أحسن من غيرها إذا لم يكن بها عيب سوى أنها ثيب والله أعلم.

فتاوى متفرقة في زكاة الأموال

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة زكاة الراتب الشهري

السؤال:- راتبي (8000) ريال ولا يبقى منه كل شهر في الغالب إلا مبلغ يسير، فهل تجب علي الزكاة؟ نرجو بيان كيفية إخراج زكاة الرواتب فهي مشكلة على الكثيرين؟ الجواب:- لا زكاة في المال حتى يحول عليه الحول، فالراتب إذا كنت تنفقه فلا زكاة عليك، فإن كنت تدخر منه قدر النصاب فعليك الزكاة فيما يحول عليه الحول من المدخرات، وكلما حال الحول على جزء من المال أخرجت زكاته، فمثلاً إذا وفرت ألفين في شهر محرم عام 1415هـ فإنك تزكيها في محرم 1416هـ من السنة التالية، ثم تزكي ما ادخرته في صفر بعد سنة، وفي ربيع الأول بعد سنة، أي أنك تزكي مدخرات كل شهر في مثله من السنة التالية، وإن مر بك شهر لم تدخر فيه شيئاً، أو أنفقت من المدخرات فلا زكاة عليك في ذلك الشهر، وإن كان في ضبط ذلك مشقة فإنه يجوز التعجيل بأن تجعل لك شهراً تحصي فيه ما وفرته في جميع السنة وما قبلها وتخرج زكاة الجميع، فلو جعلت رمضان شهر زكاتك أخرجت زكاة ما ادخرته في شعبان قبل حلوله، وفي رجب وفي جمادي وهكذا، فإن تعجيل الزكاة جائز للحاجة والمناسبة والله أعلم.

السؤال:- لدى راتب شهري يزيد بعضه عن الحاجة، فأدخره في البنك، وكل شهر قد يزيد هذا الادخار وقد ينقص فهل أخرج زكاة كل شهر بعد تمام الحول مع ما في هذا من مشقة؟ أم أجعل شهراً معيناً من السنة أحصر رأس المال عند هذا الشهر ثم أخرج الزكاة، ثم أنتظر حولاً آخر عند هذا الشهر من العام القادم وهكذا؟ الجواب:- نختار لك الأمر الثاني وهو أيسر عليك وأخف مؤنة وأحوط بالعبادة، وفيه زيادة أجر إن شاء الله على التقديم، فتجعل لك شهراً معيناً كرمضان مثلاً، كلما دخل أحصيت ما يوجد لديك فيه من المال المدخر وزكيته لله، ولو أن بعضه لم يمض عليه سوى شهر أو شهرين.

السؤال:- أنا موظف في شركة أهلية، وأتقاضى راتباً شهرياً وقدره (4000) ريال سعودي ضمنه بدل إيجار سكن وقدره (1000) ريال سعودي، فهل على زكاة من راتبي هذا؟ وكم تبلغ قيمة الزكاة؟ علماً بأنه ليس لي مورد ثان أنفق منه؟ الجواب:- متى كان لديك توفير من راتبك الشهري فاضل عن النفقة ففيه الزكاة، وذلك بعدما يتم التوفير نصاباً بما يقرب من أربعمائة ريال سعودي من الأوراق النقدية ولابد من تمام الحول على النصاب فإذا كنت تدخر كل شهر بعضاً من مرتبك، فالأحوط والأرفق أن تجعل شهراً معيناً كل عام تخرج فيه زكاة ما تدخر هذا العام وما قبله، وقدر الجزء الواجب ربع العشر أي اثنان ونصف في المائة والله أعلم.

السؤال:- هل على رواتب العامل بالمحل زكاة إذا لم يستلمها لمدة طويلة من نفسه؟ الجواب:- نعم، إذا استلمها زكاها عما مضى اعتبرها كالأمانة عندكم فيزكي عن كل سنة ما تحصل عليه إن بلغ نصاباً ولم يكن عليه دين. زكاة المال المعد للزواج وبناء المسكن

السؤال:- هل المال المعد لبناء منزل أو للزواج تجب فيه الزكاة؟ الجواب:- فيه زكاة لأنه صالح للنماء، ولو كنت تجمعه لأن تبني به أو تجمعه لأن تتزوج به ومكث خمس سنوات وأنت تجمع فعليك أن تزكيه كلما حال الحول، لكونه مالاً يصلح للاستعمال.

السؤال:- لدى مكتب عقاري وخصصت شهر رجب من كل سنة لإخراج الزكاة من مالي، ولكن قبل حلول شهر رجب من هذا العام بدأت في تأسيس فيلا، فهل المال المخصص لها في حالة التأسيس يُخرج عنه الزكاة الآن أم بعد الانتهاء من بيعها أو تأجيرها؟ الجواب:- هذا المال الذي خصصته لتأسيس الفيلا تجب فيه الزكاة إذا دخل شهر رجب وهو موجود، فإن صرفت منه شيئا في البناء قبل شهر رجب فلا زكاة فيما صرف ويزكى الباقي والله أعلم. زكاة الأرض المعدة للبناء والمعدة للتجارة

السؤال:- لدي قطعتا أرض إحداهما في منطقة الرياض والأخرى في منطقة ثانية، وقد قدمت إحداهما على البنك العقاري وأرغب في بيعها وشراء غيرها في منطقة أخرى، وربما أقوم ببناء إحداهما مستقبلاً إن شاء الله، فهل أزكي كلا القطعتين أم إحداهما فقط، وأيهما؟ الجواب:- ما دام أنك لم تعزم على البيع، وأنك قد رهنتها عند البنك، فنرى أنه لا زكاة فيها، فإذا عزمت على البيع وبدأت بالإعلان عن البيع، فنرى أن فيها الزكاة، ويبدأ الحول منذ عزمك وإعلانك على البيع، فإذا تم الحول فإنك تخرج زكاتها؛ أما التي لم تعد للبيع أو أنت متردد أو عازم على عمارتها فإنه لا زكاة فيها.

السؤال:- لدى عدة أراض أملكها، إلا أنني لم أعرضها للبيع ولم أسَوِّم عليها، وليس لي نية معينة فيها. فهل فيها زكاة؟ حيث إنني تارة أقول: لن أبيعها إلا إذا احتجت لها، وتارة أقول: لن أبيعها إلا إذا ارتفع سعرها. الجواب:- لا زكاة فيها ما دمت مترددا في بيعها، فإذا عزمت على البيع وأظهرت السوم عليها، وأوصيت عليها أهل المكاتب فهناك يبدأ الحول وتزكي بعد الحول.

السؤال:- اشتريت قطعة أرض تبلغ قيمتها (8500) جنيه مصري، ومعي في البنك الإسلامي بمصر مبلغ (17500) جنيه مصري مخصصة لبناء هذه المساحة كبيت أسكن فيه، فهل على قطعة الأرض هذه زكاة؟ وإن كان فكم تكون؟ وهل على المبلغ الخاص ببناء هذه الأرض زكاة؟ وإن كان فكم يكون؟ الجواب:- لا زكاة في الأرض المعدة للبناء، سواء للسكن أو التأجير، فإن الزكاة فيما أعد للتجارة والبيع بخلاف ما أعد للاستعمال أو السكن كهذه الأرض. فأما النقود المودعة في البنك فإنها تزكى ما دامت نقوداً.، ولو أعدت لغرض خاص كبناء سكن أو زواج أو شراء حوائج خاصة. ومقدار الزكاة في المائة اثنان ونصف أي في الألف خمسة وعشرون فقط.

السؤال:- عندي قطعة أرض "منحة" لها حوالي أربع سنوات، وأنا متردد في نية بيعها، هل عليها زكاة؟ وكيف أخرج زكاتها؟ الجواب:- لا زكاة فيه حتى تباع، فإذا بيعت فالأفضل إخراج زكاة سنة واحدة، فإن لم يخرج فعليه أن يستقبل بثمنها حولاً كاملاً، فإن بقي عنده حتى تتم سنة زكى الثمن فإذا أنفقه قبل ذلك سقطت زكاته، ولا زكاة في العقار إذا كان للاستغلال.

السؤال:- اشتريت أرضاً لكي أقدم على البنك العقاري، وكان شرائي لها في شمال الرياض ومن المتوقع زيادتها، فإذا زادت فمن المحتمل أن أبيعها علماً أن أصل شرائي لها كان من أجل التقديم على البنك. فهل علي زكاة فيها؟ الجواب:- لا زكاة فيها حيث إنك ما أردتها وقت الشراء إلا للسكن بعد عمارتها من بنك التنمية العقاري، ولأن احتمال بيعها عارض فأصل الشراء على أنها للعمارة، فلا بأس ببيعها عند المناسبة، وإذا بعتها فاستقبل بثمنها حولاً كاملاً ثم زكه بعد ذلك.

السؤال:- لدي قطعة أرض أعددتها للتجارة، وقد قمت بتسويرها وبناء بعض المساكن بها، وقد قمت بتأجيرها للاستفادة منها، علماً بأنه عليَّ ديون ولا أستفيد من إيجارها شيئاً، فهل عليها زكاة؟ وكيف تكون؟ الجواب:- الزكاة على الإيجار، فإن توفر عندك الإيجار وتم السنة أخرجت الزكاة، وإن صرفت المال في وقته لقضاء دينك فلا زكاة عليك، فإذا أجرتها مثلاً بعشرين ألفاً، واستلمت العشرين وبقيت عندك العشرون إلى تمام السنة، فأخرج زكاتها، وأما إذا صرفت العشرين في وقتها وأعطيت هذا الغريم كذا، وأعطيت الآخر كذا، وأخذ الغرماء منك، فلا زكاة عليك، لأنك لست بغني، الغني هو الذي يتوفر عنده مال طوال السنة.

السؤال:- هناك بعض من الناس يشتري أرضاً ويعرضها للبيع، وقبل أن يحول عليها الحول يبيعها ويشتري أرضاً أخرى. وهكذا، فكيف يزكي؟ مع أنه يعترف بأنه يعمل هذا العمل تخلصاً من الزكاة؟ الجواب: لا يجوز الفرار من الزكاة، فإذا كان يعمل هذا العمل فراراً من الزكاة، فإنه يزكي قيمة الأرض الثانية التي اشتراها، إلا إذا جزم بأنه سيعمرها، فعندئذ تسقط الزكاة. أما إذا اشترى أرضاً لأجل الربح في قيمتها، ثم بقيت نصف سنة، ثم باعها واشترى بثمنها أرضاً أخرى لأجل الربح فيها، فإذا حال الحول فإنه يزكي قيمة الأرض الأخرى ولو لم تبع. أما إذا لم يعرضها للبيع، بل اشتراها وتركها، وقال لا حاجة لي في ثمنها ولست بائعاً لها، وأتركها إلى أن أحتاج إلى تعميرها أو أحتاج إلى ثمنها أو نحو ذلك فلا زكاة فيها. زكاة الآلات والسيارات المباعة بالتقسيط السؤال: رجل يبيع السيارات بالتقسيط. هل يدفع الزكاة رغم أنه لم يتسلم كل المبلغ، أم يخرج زكاة الأموال مجتمعة من الأقساط فقط؟ الجواب:- يخرج زكاة الأموال المجتمعة من الأقساط. وأما المؤجلة فإن كانت على أناس ذوي يسار وثروة يستطيع أن يأخذها منهم في حينها فإنه يزكيها، وإن كانت في أيدي أناس ذوي فقر وقلة وعسر فلا زكاة فيها إلا إذا قبضها. هذا حكم زكاة الدين. وقيل إن الدين المؤجل لا زكاة فيه إلا إذا حل أجله، فإذا حل أجله ينظر هل ذلك المدين معسر فلا زكاة فيما عنده حتى يسلمه ولو بقي خمس سنين ففيه زكاة سنة واحدة إذا قبضته، وإن كان موسراً ثرياً وأنت لست بحاجة إلى المال وتركته عنده، فإنك تزكيه حيث إنه بمنزلة الوديعة.

السؤال:- رجل يبيع سيارات بالتقسيط، فكيف يزكي قيمة السيارة إذا حال عليها الحول؟ الجواب:- يعتبر هذا من أصحاب الديون، فيزكي الدين الحال ويزكي ما وصل إليه من الأقساط. أما الدين الذي لم يحل ولا يستطيع أن يأخذه قبل حلوله فلا يزكيه حتى يقبضه أو حتى يحل. زكاة العمارات والدكاكين المؤجرة

السؤال:- عندي عمارة مؤجرة، فهل أزكي أصل العمارة أي قيمة العمارة؟ أم أزكي دخلها (الإيجار) ؟ الجواب:- الزكاة للإيجار فقط إذا حال عليه الحول بعد ملكه، فإن أنفقته قبل الحول سقطت زكاته، أما قيمة العمارة فلا زكاة فيها، لأنها لم تعرض للبيع، وهكذا كل ما يعد للاستعمال أو الإيجار لا زكاة في قيمته، وإنما الزكاة تكون في غلته والله أعلم.

السؤال:- عندي دكاكين وشقق للإيجار، فمتى تبدأ الزكاة، في دخلها هل عند قبضها أو بعد ما يدور عليها الحول؟ الجواب:- إذا قبضت الإيجار فإنه يبدأ حوله، وتزكيه بعد الحول إذا بقي في ملكك سنة كاملة بعد القبض، فإن أنفقته قبل الحول سقطت زكاته والله أعلم.

السؤال:- لدي منزل مدين لصندوق التنمية العقارية بقرض يدفع على أقساط سنوية بقيمة (9600) ريال للقسط الواحد السنوي. وهذا المنزل مؤجر. فهل تجب الزكاة في هذا الإيجار؟ الجواب:- إذا قبضتم الإيجار وبقى عندكم إلى تمام السنة أو بقي بعضه ففيه الزكاة، فإن صرفتموه قبل تمام العام أو دفعتموه إلى صندوق التنمية سقطت زكاته والله أعلم. زكاة الآلات المستعملة للحراثة وضخ الماء وغيرها

السؤال:- لدينا مضخة ماء وحراثة وطاحون، هل في هذه الآلات زكاة أو على ما تنتجه؟ الجواب:- لا زكاة في قيمة هذه الآلات المستعملة في الحراثة، كما لا زكاة في النواضح وسيارات النقل والأجرة وأدوات الاستعمال، وإنما الزكاة في الناتج من الحرث إذا كان مما يدخر، كالحبوب ولو لم تكن قوتاً، والثمار كالتمر والزبيب إذا بلغت نصاباً. زكاة الأسهم (أسهم الشركات والعقارات)

السؤال:- عندي أسهم في شركة صافولا وأسهم في شركات أخرى، فكيف أزكيها يا فضيلة الشيخ، علماً أن توزيع الأرباح لهذه الأسهم ليس في وقت واحد؟ الجواب:- لعلك تتصل بالشركة لتتأكد هل هم يزكون الأرباح أو الصافي من رأس المال أم لا، فإن كانوا لا يزكون شيئاً فعليك أن تزكي الأرباح كلما استلمتها، فأما رأس المال: فإن كانت الشركة صناعية قد جعلت رأس المال، في مكائن وأدوات صناعية فلا زكاة إلا في الأرباح، وإن كانت الشركة زراعية فالزكاة في الناتج إذا كان من الحبوب والثمار، وإن كانت الشركة تجارية تستورد سلعاً وتبيعها وتشتري بدلها، فالزكاة في الجميع وعلى الشركة إخراج زكاة الجميع أو إخبار الأهالي بمقدار ما وصلت إليه قيمة السهام أو مقدار رأس المال وربحه والله أعلم.

السؤال:- هل الأموال التي تدفع في المساهمات العقارية عليها زكاة؟ علماً بأن الأرباح لا تصرف إلا بعد بيع الأرض. الجواب:- معلوم أن هذه العقارات تشترى لطلب الربح، ولكن الشركات التي تطلب المساهمة فيها تؤجل بيعها لمدة طويلة انتظاراً لوصول الرغبة وارتفاع القيمة، ففي هذه المدة لا زكاة فيها، فمتى عرضت للبيع جملة أو مفرقة ابتدأ حول الزكاة، والمخاطب فيها هو رئيس الشركة، فإذا باعها فعليه إخراج الزكاة من القيمة، ثم تقسيم بقية الثمن على المساهمين بما في ذلك رأس المال والأرباح والله أعلم.

السؤال:- ما حكم شراء أسهم الشركات وبيعها وكذلك العملات؟ وكيف تخرج زكاة الأسهم التي ساهم بها في إحدى الشركات؟ الجواب:- أسهم الشركات تختلف، فهناك أسهم في أراضي، وهناك أسهم في توريد البضائع وتصديرها، فهذه يجوز بيع الأسهم التي فيها قليلاً كان أو كثيراً. أما الشركات التي عمدتها العمل بالنقود كالصرافة ونحوها، فأرى أن بيعها لا يجوز، وذلك لأنه يكون بيع دراهم بدراهم، وبيع العملات قد يجوز إذا كان يداً بيد، فإذا سلمت مثلا الريالات واستلمت الدولارات، أو استلمت بها سند قبض كشيك أو نحوه فهذه جائز. أما إذا لم يكن هناك تسليم واستلام إنما هي مواعيد، أو لا يقدرون على التسليم، فمثل هذا لا يجوز، لأن بيع النقد بالنقد لابد فيه من التقابض قبل التفرق لكونه جنساً واحداً، يجري فيه الربا، فالحاصل أن بيع الأسهم إن كانت في بنوك إنما عملها الصرافة وبيع العملات، فلا يجوز شراء الأسهم. وإن كانت في شركات كأراضي أو معارض سيارات أو بضائع فإنه يجوز والحالة هذه. أما زكاة الأسهم في الشركات التجارية فإن على الشركة إخراج زكاة رأس المال، وعلى المساهمين إخراج زكاة ما قبضوه من الأرباح وأما أسهم العقار فتخرج بعد بيع العقار وقبض رأس المال مع الربح أو بدونه.

السؤال:- لي أسهم في شركة القصيم للأسمنت، وفي حد علمي أن الدولة تأخذ زكاة الأرباح من الشركات كل سنة، فهل تجب على زكاة بالنسبة لرأس المال الذي ساهمت به فيها أم لا؟ الجواب:- فيما يظهر أن الدولة تأخذ زكاة رأس المال من التجار بقدر ما سجلوه عند وزارة التجارة، فأما الأرباح فإن أهلها يزكونها وتعتبر ربحاً خاصاً جديداً فلا تسقط زكاته فعليك أن تخرج زكاة كل ما تقبضه من الأرباح، أما رأس المال فإنه قد جعل في مكائن ومعدات وأدوات وسيارات عاملة، ومثل هذه الأشياء لا زكاة فيها والله أعلم.

السؤال:- لقد وضعت أموالي في مساهمة عقارية، فهل فيها زكاة؟ وكيف أزكيها؟ الجواب:- ينظر في هذه المساهمة، هل أعلن عن البيع وابتدأوا بالبيع؟ أم أن الذين اشتروها جمدوها وقالوا: لا نبيعها حتى تصل إليها الرغبة أو نحو ذلك؟ أي لا يريدون بيعها إلا بعد سنة أو سنتين، ففي مثل هذه الحال نرى أنه لا زكاة فيها حتى تعرض للبيع.

مسائل وفتاوى تتعلق بالأصناف الثمانية

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة مسائل وفتاوى تتعلق بالأصناف الثمانية

السؤال:- مؤسسة تجارية يوجد بين موظفيها من يستحق الزكاة فما حكم إعطائهم من أموال المؤسسة الزكوية؟ الجواب:- إذا كان هؤلاء الموظفون مسلمين وفقراء، فلا مانع من دفع الزكاة إليهم، لكن بقدر استحقاقهم، ولا يجوز أن يجعلوها كراتب لهم أو أجرة على العمل، ولا أن يقصدوا بها استجلاب إخلاصهم وبقائهم في العمل، والأفضل دفعها إلى الموظفين بخفية أو بواسطة طرف ثالث، بحيث لا يشعر أنها من المؤسسة لإبعادهم عن الشبهة والله أعلم.

السؤال:- هل يجوز صرف الزكاة لمن أسلم مباشرة أو بعد فترة زمنية؟ الجواب:- تصرف الزكاة لمن أسلم مباشرة أو بعد فترة زمنية إذا عرف فقره وحاجته، وهو الغالب على العمالة الذين قدموا للتكسب، فإنما حملهم الفقر والفاقة على مفارقة الأهل والرضا بالعمل بأجر ضئيل، مع الغربة الطويلة، فتحل لهم الزكاة.

السؤال:- أنا موظف أقوم بتوزيع الصدقات على الفقراء والمساكين، وأستلم راتباً على ذلك ومكافأة مقابل المخاطر التي قد أتعرض لها أثناء أخذ المبلغ من البنك وتوزيعه على الفقراء، والتنقل بين مناطق المملكة عبر الطرق البرية والجوية، وسؤالي يا فضيلة الشيخ هو: هل أعتبر من الأصناف الثمانية وهو صنف العاملين وسواء كانت تلك الأموال صدقات أو زكوات؟ الجواب:- أرى أن تشترط على أهل الصدقات نفقتك منها، أو يعطوك التكلفة والنفقة والأجرة من غيرها، فإن لم يفعلوا أو كنت محتاجاً إلى التكلفة جاز لك الأخذ مقابل عملك، وتعتبر من العاملين عليها، وإن كان الأصل أن العمال هم الذين يبعثهم الملوك لجمع الصدقات من البوادي وأهل الحروث ولا يُفْرَضُ لهم راتب فيحق لهم الأخذ بقدر عملهم والله أعلم.

السؤال:- أنا شاب مصري حضرت للعمل إلى الرياض منذ سنتين وكنت آخذ راتباً شهرياً قدره (1000ريال) والآن أصبح بفضل الله (1500ريال) وخلال هذه الفترة تم زواجي ولكن بسبب التجهيز للزواج فقد تراكمت عليّ الديون والتي تقدر بـ (2500) ولما علم بعض أهل الخير بظروفي عرضوا عليّ سداد الديون من زكاة أموالهم؛ لأنني الآن لا أدري متى أسددها وكما قلت: إنني متزوج وقد رُزقت بمولود وكثرت علي الديون، فهل يجوز لي أخذ الزكاة منهم لسداد ديوني؟ الجواب:- لا مانع من أخذ الزكاة لقلة الراتب، وحاجة الزوجة والابن إلى النفقة، وكثرة الدين بالنسبة إلى الدخل، فأنت من الغارمين والله أعلم.

السؤال:- بلغني أن أحد العاملين عندي عليه ديون، فهل يجوز مساعدته من زكاة مالي؟ الجواب:- تحل له زكاة مالك بشرط أن يكون عاجزاً عن وفاء الدين، وأن يكون دخله لا يفضل منه بعد نفقة عياله ما يسدد الدين في الحال، وأن لا يكون قصدك ترغيبه في العمل أو الإخلاص فيه لديك، وأن لا تنقص من راتبه عندك، وأن لا تعطيه أكثر من حاجته فانظر، ماذا ترى والله أعلم.

السؤال:- أنا طالب في كلية الشريعة بالرياض وليس لي عمل مع العلم أني إن عملت أعد مخالفاً للأنظمة في هذه البلاد وبالتالي أكون مخالفاً لولي الأمر، وليس لي دخل إلا ما آخذه من الكلية وهو مبلغ وقدره (850 ريال) فقط وليس لي الحق في الحصول على مكافأة المتزوج لأني غير سعودي، وأنا بين أمرين؛ إما أن أستدين وتبقى نفسي مرهونة بهذا الدين، وإما أن آخذ من مال الزكاة من المحسنين، وذلك لأني قمت بإعفاف نفسي بالزواج، ووالدي يعمل بالراتب الشهري ويصرف على اثنى عشر شخصاً تقريباً، فهل لي أن آخذ من مال الزكاة من المحسنين؟ الجواب:- لا مانع من أخذ الزكاة بقدر الدين الذي تراكم عليك، ثم إذا أصبت له وفاء تكفّ عن أخذ الزكاة، إلا إذا كانت المكافأة التي تصرف لك من الكلية لكثرة المصارف لا تكفي جاز أخذ الزكاة بقدر الحاجة والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- هل تحل لي الزكاة وقد فقدت مالي وانقطعت بي السبل وأنا في بلد غريب؟ وإذا أخذتها هل أردها عندما تتحسن ظروفي؟ الجواب:- تحل لك الزكاة إذا انقطعت بك السبل وضاقت بك الحال لفقد ما تملك، ولكن متى اتسغنيت وحسنت حالك فتعفف من الزكاة، ولا يلزمك رد ما أخذت حيث إنك أخذت وأنت من أهله والله أعلم.

السؤال:- لقد حصل على أخينا حادث انقلاب سيارة، وقد توفي بعض من كان معه بالسيارة وجرح البعض، وقد حُكم علينا بتسديد الديات الشرعية في كل متوفي وإرش الجرحى، ونحن ناس فقراء ومعسرون، وقد عجزنا عن تسديد المبلغ المحكوم به علينا، وأغلب المحسنين يريدون معرفة هل الزكاة جائزة لنا؟ وهل نحن من أهلها نظراً لظروفنا؟ الجواب:- هذه الديات عن قتل خطأ فتحملها العاقلة الذين هم أقارب القاتل، وتؤجل عليهم ثلاث سنين، ولا يجوز الحكم بغير هذا فإن كان جميع العاقلة فقراء لا يقدرون على الدفع مع التأجيل، حلت لهم الزكاة، وكذا إن لم يكن هناك عاقلة وحملها الجاني، وتبين فقره، حلت له الزكاة، أما إثبات العجز وأهلية الزكاة فيرجع فيه إلى الصكّ الشرعي الصادر في القضية، ثم إلى إثبات القاضي أو غيره عجز العاقلة عن التحمل، ثم عجز الجاني عن الدفع، فهنالك يثبت استحقاقه للزكاة.

السؤال:- عند دفع زكاة المال هل يكفي أن أعطيها واحداً من الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن، أم يجب توزيعها عليهم جميعاً؟ الجواب:- يجوز الاقتصار على واحد منهم، أي لو كان عندك زكاة فصرفتها كلها إلى الفقراء أجزأ، أو صرفتها على الغارمين أجزأ، أو صرفتها لأبناء السبيل، أو المجاهدين كلها أجزأ ذلك، لأنها وقعت موقعها. وذهب بعض العلماء إلى أنها تقسم ثمانية، فكل من كان عنده زكاة، فإنه يقسمها ثمانية أسهم، حتى يعم الثمانية، والصحيح أن ذلك ليس بلازم. والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب".... إلى قوله: "فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فاقتصر هنا على الفقراء، فدل على أن من أداها للفقراء فقد برئت ذمته.

مسائل وفتاوى تتعلق بزكاة الخارج من الأرض

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة مسائل وفتاوى تتعلق بزكاة الخارج من الأرض المسألة الأولى: عدم اعتبار الحول في الزروع والثمار: لا يشترط في زكاة الزروع والثمار الحول، وذلك أنها نماء في نفسها، فتخرج منه الزكاة عند كماله، كما قال تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام:141) . المسألة الثانية: ما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً وما سقي بالنضح: المراد بالسماء: المطر، أي ما سقاه المطر، ويُسمى بعلاً، وذلك أنه إذا قرب نزول المطر يذهب بعض الناس إلى بعض الأماكن ويحرثون الأرض ويبذرون فيها البذر فيأتي المطر ويسقيها فتنبت وتنمو إلى أن تحصد ولا يشتغلون فيها إلا بالبذر والحصاد، فهذه ليس فيها كلفة، ففيها العشر أي من كل مائة صاع عشرة آصع. ويوجد في بعض البلاد النخيل التي تشرب من السماء، أو تشرب من الأرض عروقها، وكذلك كثير من الأشجار وتسمى عثرياً، فالعثري هو الذي يشرب بعروقه، ويوجد من هذا في بعض نواحي المملكة قرب الأردن في وادي السرحان وفي العراق، فيغرسون الشجرة كالنخلة مثلاً، ثم إنها تصل بعروقها إلى الماء وتعيش فتسمى "عثرياً". وكذلك الذي يسقى بالعيون لا كلفة فيه عليهم أيضاً، وكثير من البلاد عندهم عيون كالشام واليمن ومصر والعراق، يعتمدون على سقي زروعهم من هذه العيون كالنيل الذي في مصر وغيره، وهذا لا يكلفهم شيئاً فيسقون بلا مؤونة. أما ما سقي بالنضح فالمراد بالنضح: السقي بالدلاء القديمة، فكانوا في السابق يسقون على النواضح وهي الدواب من الإبل والبقر والخيل والحمير ونحوها، يعلقون الرشاء في ظهرها، ثم تجره حتى يخرج وينصب في مصب مهيأ له يسمى مصباً، هذه هي طريقة السقي بالنضح، والدلو الكبير يسمى غرباً وجمعها غروب، والنواضح هي الإبل أو البقر التي تجر هذه الدلاء.

ثم جاء بعد ذلك ما يسمى بالدولاب -السواقي- ولكنها تحتاج إلى بقر أو إبل تديرها، وهي عبارة عن تاعورة متعلق فيها دلاء على هيئة الاسطال تمتلئ ثم تستدير وتخرج وتنصب في المصبات، وهذه تعتبر مؤونة وكلفة. ثم جاء بعد ذلك ما يسمى بالمضخات والماكينات وهذه تحتاج إلى مؤونة، فتحتاج إلى زيت ووقود، وتحتاج إلى صيانة ونحو ذلك، ولذلك فإن زكاتها نصف العشر فيما تنتج.

السؤال:- ما هي زكاة الخارج من الأرض إذا كان يسقى بواسطة استخراج الماء من الأرض كما هو الآن في مزارعنا في السعودية؟ الجواب:- يجب العشر فيما سقى بلا مؤونة ونصف العشر فيما سقى بمؤنة، ولا شك أن السقي بالماكينات والآبار الكهربائية هو سقي بمؤنة لأنه يصرف كثيراً في الوقود والزيت والمال، والتعب في الحفر والتركيب والإصلاح، فمثل هذا ليس فيه إلا نصف العشر، أما إذا سقي من المطر كالبعل أو من نبع الأرض كالعثري أو من العيون الجارية، فهذا ليس فيه مؤونة فيخرج منه العشر كاملاً. ثم الزكاة إنما تخرج من الحبوب والثمار التي تكال وتدخر، فأما الخضار والفواكه التي لا تدخر بل تفسد إذا مكثت طويلاً فلا زكاة فيها لكن إذا ربح فيها، فإنه يزكي ماله كتجارة أو ادخار، والله أعلم.

السؤال:- ما سقي بمياه الصرف الصحي المنقاة هل يسمى "عثرياً"؟ الجواب:- مادام أنه يسقى بلا مؤونة فإنه يعتبر عثرياً أو يعتبر مُسقى بلا مؤونة. المسألة الثالثة: إذا خرصتم فدعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نضجت الثمار أو الحبوب يرسل من يخرصها على أهلها، فكان يقول: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع". ولكن هذا خاص بالنخل، لأن العادة أن كثيراً منه يذهب هدايا وعطايا ومنحاً وأكلاً، فأمرهم بأن يتركوا منه الثلث طعاماً لأهله وهدايا، فإن كان الثلث كثيراً فليقتصروا على الربع، ويمكن أن يكون ذلك في العنب، لأن العنب يدخر؛ لأنه زبيب، فيقال فيه أيضاً: إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن كان الثلث كثيراً فدعوا الربع. وذلك أن العنب يذهب منه الكثير هدايا وعطايا وأكلاً ونحو ذلك. المسألة الرابعة: ضم الأنواع بعضه إلى بعض وضم ثمرة العام الواحد بعضه إلى بعض: أي تُضم أنواع التمر بعضها إلى بعض حتى يكمل النصاب فمثلاً يضم البرحي إلى الهشيشي ويضم إلى السكري وهكذا يضمها كلها حتى تكمل النصاب ثم يخرج زكاتها. وهذا يكون في الأنواع المتماثلة أما الغير متماثلة فلا تُضم فمثلاً لا يضم التمر إلى البر أو القمح إلى الشعير لأنها أجناس والجنس لا يضم بعضه إلى بعض كما لا تضم البقر إلى الغنم لتكميل النصاب. كما يصح ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب فما أنتجه في أول العام فإنه يضمه إلى ما أنتجه في بعض العام ثم يخرج الزكاة. أما ثمرة عامين فلا تضم فما أخرجه هذا العام لا يُضم إلى ما أخرجه في العام الماضي. المسألة الخامسة: إخراج الزكاة من قيمة الثمرة:

السؤال:- هل يجوز لمن عنده نخل أن يخرج زكاته من ثمن بيع الثمرة إذا باعها؟ الجواب:- قد اختلف في إخراج القيمة، والصحيح أنه جائز إذا باعها، لأن كثيراً من أهل النخيل في هذا الزمان يبيعونه رطباً، وكذلك أهل العنب، وعندما يبيعونه يقولون: ما بقي عندنا شيء نخرج الزكاة منه إلا قوتنا الذي ادخرناه لأولادنا. أما الباقي فقد بعناه بقيمة كذا وكذا، فيجوز أن يخرجوا الزكاة من القيمة التي باعوا الثمر بها. المسألة السادسة: زكاة العسل:

السؤال:- هل في العسل زكاة؟ وإذا كان فيه زكاة فما نصابه؟ وما مقدار الزكاة فيه؟ الجواب:- اختلف العلماء رحمهم الله في زكاة العسل هل يجب فيه شيء أم لا، فالذين قالوا بوجوبها قد تمسكوا ببعض الآثار الواردة في ذلك، أما الذين قالوا بعدم الوجوب فحجتهم أنه لا دليل في المسألة يعتبر صحيحاً. والحاصل أنه ينبغي إخراج الزكاة احتياطا وحتى تبرأ الذمة، ومن لم يخرج زكاته فلا نحكم بأنه تارك للزكاة أو أنه آثم ونحو ذلك.

مسائل وفتاوى تتعلق بزكاة الذهب والفضة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة مسائل وفتاوى تتعلق بزكاة الذهب والفضة المسألة الأولى: ضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب:

السؤال:- ما صورة ضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب؟ الجواب:- يقول الفقهاء: يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب، وتضم قيمة العروض إلى كل منهما، فيقولون مثلاً: إذا كان عند عشرة دنانير نصف نصاب من الذهب، وعنده مائة درهم نصف نصاب من الفضة، يصبح المجموع نصاباً. فإذا قلنا: إن الزكاة في القيمة، نقول: نقدر الذهب كم يساوي بالفضة، فإذا بلغ قيمة نصاب الفضة فعلية الزكاة. وهذا هو الأرجح؛ أن يثمن الحلي كم تساوي من الدراهم، فإذا بلغت النصاب بالفضة فعليه الزكاة. المسألة الثانية: زكاة الحلي: الحلي يراد بها ما يلبس من حلي الذهب أو من الفضة، أي ما تتحلى به النساء، لأن التحلي خاص بالنساء، أما الرجال فلا يلبسون الحلي لأنه محرم عليهم، ويمكن للرجل أن يلبس خاتماً من فضة أو يرخص له بقبيعة السيف ونحوها من الأدوات، أما المرأة فإنها بحاجة أن تلبس الحلي لتتجمل به عند زوجها، وكذلك عند الخطَّاب فتتجمل بالذهب، فأبيح لها ما جرت العادة بلبسه، فمنه ما يلبس بالرقبة ويسمى قلائد، وقد يتوسعون به بما يسمى (بالرشارش) حتى تصل إلى الثدي أو تحت الثدي، ويلبس أيضاً في الأيدي، في الأصابع ويسمى الخواتيم، وفي الذراع ويسمى بالأسورة، وتسمى أيضاً غوايش، ويسميها بعضهم بناجر، وهذه كلها من الحلي، ويلبس في الأذن أيضاً الأقراط واحدها قرط، ويسميها بعضهم خرص، ويتوسعون الآن فيلبسون على وسط البطن ما يسمى بالحزام، وكانوا في القديم يلبسون في الأرجل ما يسمى بالخلاخل وهي الزينة الخفية وقد ذكرها الله تعالى بقوله: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) (النور:31) . فهذا الحلي هل يزكى أم لا؟ الجواب:-

كثير من الفقهاء قالوا: إنه لا يزكى وما ذاك إلا أنه معدُّ للاستعمال؛ ولأنه لا يتنامى، ولأن المرأة تقتنيه لتتجمل به، فهو ملحق بثيابها وبأكسيتها، وملحق أيضاً بالأواني التي تستعمل للطبخ وللشرب، وما أشبه ذلك ولو كانت ثمينة، وملحق بما يستعمل من الفرش ومن الوسائد وما أشبهها، فهو مستعمل هكذا قالوا، وإذا كان كذلك فليس فيه زكاة كسائر المستعملات لا سيما وهو لا يتنامى. واستدلوا أيضاً بأن خمسة من الصحابة نقل عنهم أنهم لا يزكون الحلي، منهم عائشة رضي الله عنها كانت تحلي بنات أخيها محمد بن أبي بكر ولا تزكيه. ومنهم أختها أسماء رضي الله عنها، كانت عندها حلي لها ولبناتها ولا تزكيه. ومنهم جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقد روى عنه أنه قال: ليس في الحلي زكاة. هكذا روي عنه موقوفاً وهو صحيح. ورواه بعضهم مرفوعاً ولكنه خطأ. فجماعة من الصحابة ذهبوا إلى أن الحلي لا زكاة فيها قياساً له على سائر المستعملات، وقد أيد هذا القول كثير من العلماء، وقد كتب فيه الشيخ عبد الله المنيع واختار أنه لا يزكي، وكتب فيه أيضاً الدكتور إبراهيم الصبيحي واختار أيضاً أنه لا يزكي، وكتب فيه بعض الأخوة مثل: فريح البهلال، وعبد الله الطيار، وكلامه فيه متوقف. ويختار شيخنا الشيخ ابن باز وابن عثيمين أنه يزكى، ويستدلون بحديث عبد الله بن عمرو أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال: "أتؤدين زكاة هذا" قالت: لا. قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار"، فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله. وقد روي هذا الحديث من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فلما كان هذا الحديث مقبولاً فلا عذر لنا في ترك العلم به لصحته وصراحته.

وأجاب الذين قالوا إنه لا يزكى منهم -شيخنا الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، فإنه يختار أنها لا تزكى - أجابوا بالمقال الذي في عمرو بن شعيب، وأجاب بعضهم بأن هذه الزكاة مجملة، فلا يدري ما هي، فيمكن أن زكاته عاريته، ويمكن أن زكاته ضمه إلى غيره، ويمكن أن زكاته استعماله فيما اشترى لأجله وما أشبه ذلك، وهذه كلها تخمينات لكن قالوا: إنه مجمل، ولا ندري هل بلغ النصاب أم لا، سوى ما كان على طفلة قد يكون عمرها خمس سنين، فهل تبلغ النصاب أم لا، فأفاد هذا بأن لفظة الزكاة في هذا الحديث مجملة. ومما استدلوا به أيضاً على وجوب الزكاة حديث عائشة رضي الله عنها وهو صحيح مروي في السنن وفي المسند، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدي فتخات من فضة، والفتخات واحدها فتخة وهي الخواتيم، قال لها: "ما هذا يا عائشة؟ " فقالت: أردت أن أتجمل لك به؟ فقال: "أتؤدين زكاته؟ " قالت: لا. فقال: "هو حظك من النار" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وهذا أيضاً مما استدلوا به، وهو صريح وثابت ولا مطعن فيه. ولكنه مشكل أيضاً من حيث إنه لم يعين نصاب الزكاة، فلعل زكاته عاريته أو نحو ذلك. ولكن المشايخ قالوا: لا نأخذ بالتأويلات ونرد اللفظ الصريح، فلأجل ذلك يختارون ويرجحون أنه يزكى إذا بلغ النصاب. ومما استدلوا به أيضاً: الآية الكريمة في سورة التوبة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة:34) . وقال ابن عباس رضي الله عنه: كل مال أديت زكاته فإنه ليس بكنز. وكانت أم سلمة تلبس أوضاحاً من ذهب. فقالت: يا رسول الله! أكنزٌ هو؟ قال: "إذا أدّيتِ زكاته فليس بكنز". أخرجه أبو داود وصححه الحاكم.

فالله تعالى عمم في هذه الآية الذين يكنزون الذهب والفضة، وإن كان أكثر المفسرين حملوه على المكنوز الذي يوضع في الصناديق أو ما أشبهها، ولكن الغالب أن كثيراً من هذه الحلي تبقى في الصناديق أكثر الزمان. وحيث إن النساء في هذه الأزمنة تباهين بها وأكثرن منها، فصارت المرأة تشتري ما قيمته مائة ألف أو مائتا ألف أو أكثر أو أقل، ولا تلبسه إلا في المناسبات، فقد تلبسه في السنة مرة أو مرتين، أو مراراً يسيرة في الأعياد والحفلات، ثم تغلق عليه. فأصبح في هذا شيء من الإسراف، فلأجل ذلك يترجح أنه يزكى عملاً بهذه الأدلة التي استدل بها مشايخنا وعملاً بأنه من جملة الكنز أي داخل في ما تضمنته هذه الآية.

السؤال:- هل في الحلي التي تلبسه المرأة زكاة؟ ما قول فضيلتكم في ذلك؟ وكيف تخرج؟ الجواب:- قد اختلف في ذلك مشايخنا، فمنهم من يرى أن فيه زكاة ومنهم من يرى أن لا زكاة فيه. والمشهور عند الفقهاء أنه لا زكاة فيه لأنه لا يتنامى، وهذا اختيار شيخنا محمد بن إبراهيم -رحمه الله- والشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- وعليه كانا يفتيان. والقول الثاني: أنها تزكى ويختاره شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، يختاران أن المرأة تزكي حليها إذا بلغ نصاباً، ويقدر النصاب بأحد عشر جنيها ونصف جنيه، إذا كان الذهب عندها بهذا القدر فإنها تقومه وتزكي قيمته، وهذا الذي نفتي به وذلك لقوة الأدلة، فإن هناك أحاديث مرفوعة، كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب. فقال: "أتخرجين زكاة هذا؟ " فقالت: لا. قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ " فألقتهما. فقوله: "أتؤدين زكاة هذا؟ " المراد به الزكاة الشرعية كما هو الظاهر. وكذلك حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليها فتخات من فضة فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقالت: وضعتهن أتزين لك يا رسول الله. قال: "هل تؤدين زكاتهن؟ " قالت: لا. قال: "هي حسبُك من النار". أو كما قال. فأخرجت زكاتهما. فهذان حديثان ثابتان والأصل أن الزكاة إنما تطلق على الزكاة المالية التي هي ربع العشر، وعلى كل حال فكل من المشايخ له نظره وله اجتهاده، وقد كتب فيها أيضاً كثير من المشايخ رسائل وكل منهم يختار الذي يميل إليه.

أما كيفية إخراج الزكاة فإنها تقدر بقيمتها الذي تساويه الآن، فالمرأة مثلاً إذا كان عندها من الذهب ما يبلغ 500جرام، سألت من يبيع الذهب بكم تشتري هذه الخمسمائة التي عندي وقد استعملتها؟ فإذا قال: قيمة الجرام كذا وكذا قدَّرت ما عندها من الجرامات، وعرفت قيمتها، وأخرجت زكاة القيمة.

السؤال:- هل حلي المرأة الذي تلبسه يزكى أم لا؟ مع ذكر الأدلة الجواب: قد اختلف العلماء في زكاة الحلي الملبوس، فروي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي عليها فتخات من فضة فقال: "أتؤدين زكاتها؟ " قالت: لا. قال: "هي حسبك من النار". وهو صحيح. وحمل على أن زكاته إعارته أو لبسه. وعن عبد الله بن عمرو أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال: "أتؤدين زكاة هذا"، قالت: لا. قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار"، فألقتهما وهو صحيح ولعل زكاته عاريته أو ضمه مع غيره، وعلى هذا فالأحوط إخراج زكاة الحلي الملبوس، وإن لم يخرجها واكتفى بعاريته أو لبسه فلا بأس لوجود الخلاف، فقد كانت عائشة تحلى بنات أخيها ولا تخرج عنه زكاة، ولأنه مال مستعمل فهو كاللباس.

السؤال:- نرجو أن تبينوا لنا هل في الحلي الذي تستعمله المرأة زكاة أم لا؟ الجواب:- حلي النساء الملبوس فيه خلاف بين العلماء وأكثرهم على أنه لا زكاة فيه كالأكسية والأواني والأمتعة التي تستعمل، ولأن عائشة كانت تحلي بنات أخيها ولا تزكيها، ولأن الزكاة شرعت في المال النامي الذي يزيد بالتجارة فيه أو يصلح للتجارة كالنقود والخارج من الأرض وبهيمة الأنعام أما الملبوس فلا ينمو فالزكاة تنقصه وقد تتلفه سيما إذا كان قليلاً، أما من قال بإخراج زكاته فاستدل بحديثين صحيحين ولكنهما مجملان فلفظ الزكاة فيهما قد يحمل على الإعارة أو غيرها، والأحوط إخراج زكاته إذا كان هناك ثروة وغنى، فإن كان أهله فقراء فهم أحق من غيرهم.

السؤال:- عندي ذهب كثير أستعمله للزينة وأعيره لصديقاتي فهل فيه زكاة؟ الجواب:- قد وقع خلاف بين المشايخ في زكاة الحلي، والرأي الذي عليه الفتوى أنه يزكى ولو كان يلبس ولو كان يعار، فيقدر ثمنه وتخرج زكاة الثمن إذا بلغ النصاب الذي هو خمسة وثمانون جراماً من الذهب الخالص، فقد ورد عن ابن عباس وغيره في تفسير قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة:34) قال: كل مال أخرجت زكاته فليس بكنز، ولأنه قد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قصة امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال: "أتؤدين زكاة هذا؟ " قالت: لا. قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار" إلخ ولمن منع الزكاة في الحلي أدلة وتعليلات مذكورة في كتب الفقه وغيرها والله أعلم.

السؤال:- تضاربت آراء الأئمة الأربعة "جزاهم الله خير الجزاء" حول إخراج زكاة الحلي المعد لزينة النساء، فمنهم من قال: تجب بشروط، ومنهم من قال: لا تجب، ومنهم من قال: تجب بدون شروط، فما الرأي الذي ترونه مناسباً جزاكم الله خيراً؟! وإذا كانت تجب فيها الزكاة فكيف تخرج هل بسعر السوق الحالي -علماً بأنك لو رغبت في البيع سوف لا تجد الثمن الذي قد اشتريت به- أم بالسعر القديم للشراء مع افتراض عدم ثبات الأسعار؟! الجواب:- لا شك أن هناك خلافاً قوياً قديماً وحديثاً في حكم زكاة الحلي المستعمل، ولكن القول الذي أختاره هو لزوم إخراج زكاته كل عام ولو كان ملبوساً، لقوة الأدلة والتعليلات التي تؤيد هذا القول، وعلى هذا فإنها تقدر بقيمتها الحالية ولا ينظر إلى رأس مالها الذي اشتريت به، فتزكى قيمة الحلي التي يقوم بها في الحال، سواء كان أكثر مما اشتريت به أو أقل، ثم تزكى تلك القيمة بربع العشر والله أعلم.

السؤال:- امرأة تقول: إنها لم تزكِ حليَّها منذ خمس سنوات، وهي الآن تريد أن تزكي، فماذا تفعل؟ الجواب:- ذكرنا أن في المسألة خلافاً، فهناك من يرى أن فيها زكاة، وهناك من ألف كتباً بأنه لا زكاة فيها، فلما كان فيها هذا الخلاف نقول: عفى الله عما سلف، وعليها أن تُخرج الزكاة في المستقبل، ولا يلزمها أن تزكي عن السنوات السابقة، لأنه قد يضُرُّ بها إذا ألزمناها أن تخرج زكاة عشر سنين أو عشرين سنة، فقد يكلفها الكثير، فعليها أن تخرج سنة واحدة عما مضى من السنوات، ثم تخرج في المستقبل كل سنة. المسألة الثالثة: زكاة المجوهرات:

السؤال:- هل على اللؤلؤ والألماس زكاة؟ وما مقدارها؟ وكيف تخرج؟ الجواب:- اختلف العلماء في زكاة الحلي الذي تتخذه النساء من الذهب أو الفضة أو غيرها كاللؤلؤ والألماس والبلاتين ونحو ذلك مما تتخذه النساء للزينة، سواء في الرقبة أو الذراع أو العضد أو الأصابع أو الآذان. فذهب الجمهور إلى أنه لا يزكى، لأنه لا ينمي ولا يزيد، فإخراج زكاته كل عام يسبب نقصه ثم تلاشيه، بخلاف المال الذي له نماء وزيادة كل عام، كأموال التجارة والماشية والحرث والكسب والنقود التي يصلح أن يُتجر بها، فلذلك تخرج منها الزكاة ولا تنقصها لزيادتها بالاتجار ونحوه، وقد روى عن جابر مرفوعاً وموقوفاً: ليس في الحلي زكاة، وقد كانت عائشة تحلى بنات أخيها عبد الرحمن ولا تخرج منه زكاة. وذهب آخرون إلى أن الحلي يزكى إذا كان كثيراً ولا يلبس إلا نادراً، لأن في اتخاذه إسرافاً وتبذيراً، وقد تتخذه النساء هرباً من الزكاة ولا تحتاج إلى التجمل به إلا في الحفلات النادرة ونحو ذلك، فتخرج زكاته حتى لا يتخذ ذريعة إلى إسقاط حق الفقراء فيه. وذهب آخرون ومنهم بعض مشايخنا إلى أنه يزكى كله سواء الملبوس أو غير الملبوس إذا بلغ حلي المرأة نصاباً، وذلك لورود الأحاديث في ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن عائشة رضي الله عنهما، ولأنه مال يصلح أن ينمى ويستعمل في تجارة، ولأن التحلي ليس من الضروريات للحياة، وخوفاً من الإسراف فيه والهرب بسببه من الزكاة المفروضة، وهذا أحوط ولا فرق بين الذهب والألماس واللؤلؤ والمرجان وسائر المجوهرات والله أعلم.

السؤال:- هل تجب الزكاة في المجوهرات خلاف الذهب مثل الألماس واللؤلؤ علماً بأنني استعمله في المناسبات وليس للتجارة؟ الجواب:- هذه المجوهرات تكون من الحلي الذي يلبس للزينة وتتجمل به المرأة عند زوجها وفي الحفلات، فإن الحلي اسم لكل ما تتحلى به المرأة، وليس خاصاً بالذهب والفضة، بل يعم كل الجواهر والمعادن الثمينة أو غيرها، وقد اختلف العلماء والمشايخ في زكاة الحلي المعدّ للاستعمال أو العارية، وأكثر الفقهاء على أنه لا زكاة فيه، وكثير من العلماء المحققين ذهبوا إلى وجوب الزكاة فيه ولو كان مما يلبس ويستعمل، وهذا هو الأحوط خروجاً من الخلاف، ويدخل في ذلك الألماس واللؤلؤ والزبرجد والعقيان والبليتين وسائر المجوهرات التي يتحلى بها، فنختار أنها تزكى كل سنة بأن تقدر قيمتها، وتخرج زكاة القيمة، وتصرف للمستحقين، ولو كانت تلبس دائما فإن الأحاديث عامة فيما يلبس ومالا يلبس والله أعلم.

السؤال:- هل في الألماس زكاة؟ الجواب:- يظهر أن جميع ما يُتحلى به من ذهب أو فضة أو ألماس أو لؤلؤ أو جواهر نفيسة أو نحو ذلك، فكلها ملحقة بالحلي، فيكون فيها الزكاة، كما أنه في الحلي من الذهب والفضة زكاة على ما اختاره مشايخنا.

مسائل وفتاوى تتعلق بزكاة سائمة الأنعام

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة مسائل وفتاوى تتعلق بزكاة سائمة الأنعام المسألة الأولى: زكاة صغار الأنعام:

السؤال:- هل الزكاة تشمل صغار الغنم والمعز، أم هي على الكبار فقط؟ فمثلاً: عندي خمسمائة نعجة تلد في السنة منها أربعمائة، هل تشمل الزكاة هذه الصغار أم لا؟ الجواب:- روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للعامل: اعتدَّ عليهم بالسّخلة ولا تأخذها منهم. وقال علي: عد عليهم الصغار والكبار. وهذا إذا كانت الكبار قد تم حولها بعد كمال النصاب، فمثلاً لو كان عنده من الغنم سبعون من الكبار فولد منهن قبل الحول بيوم واحد إحدى وخمسون، فأصبح الجميع مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان، فالسخال أكملت نصابين فإن لم يلد إلا بعد إخراج زكاة السبعين فلا زكاة في السخال إلا في العام الثاني. المسألة الثانية: الخلطة في بهيمة الأنعام: تكون الخلطة في بهيمة الأنعام إذا اختلطا جميع الحول، يعني لو كان هناك شخصان لهما غنم مختلطة، والراعي واحد، والمرعى واحد، والمبيت واحد، والمسقى واحد، وتحلب في مكان واحد، فمثل هؤلاء تكون زكاتهم واحدة، وهكذا لو كانوا ثلاثة أشخاص. فمثلاً إذا كان هناك ثلاثة أشخاص لدى كل واحد منهم أربعون شاة، فالجميع لديهم مائة وعشرون شاة، ولكنها مختلطة جميع السنة، فما عليهم إلا شاة واحدة. ولكن كيف يخرجون هذه الشاة؟ الجواب:- يتراجعون بينهم السوية، فإذا أخرجت هذه الشاة من غنم زيد مثلاً، فإنها تقدر وَيَحْمِلُ كل واحد منهم الثلث، ثم يعطون زيدا الثلثين.

السؤال:- نحن مجموعة لدينا عدد من الغنم، فإذا جمعناها قد تصل إلى النصاب الواجب فيه الزكاة، فهل علينا زكاة إذا جمعناها ووصلت للنصاب، أم أنه لابد أن يبلغ كل واحد إلى النصاب؟ الجواب:- الخلطة في المواشي تُصَيِّرُ المالين كالمال الواحد، فإذا كانت هذه الأغنام مختلطة طوال العام يرعاها شخص واحد، وتجتمع في المرعى وفي المبيت التي تبقى فيه طوال الليل، وتحلب في مكان واحد، فإنها تزكي إذا بلغ مجموعها نصاباً، إذا كانت سائمة أي ترعى من الأعشاب أكثر السنة، أما إذا تفرقت فلا زكاة فيما دون النصاب، فإن كان صاحب كل فرقة يعزلها وتبيت في منزله أو يسقيها وحده أو تختص براع واحد أو علفها أكثر الحول فلا زكاة فيها حتى تبلغ النصاب.

السؤال:- هل يجوز الجمع بين المفترق أو التفريق بين المجتمع خشية الزكاة، وما مثال ذلك؟ الجواب:- مثال ذلك لو أن هناك ثلاثة أشخاص، عند كل واحد أربعون شاة فقط، فجاءهم المصدق ليأخذ منها كل واحد شاة، فلو قالوا: نريد أن نجتمع، فتصير الغنم مائة وعشرين ليس فيها إلا شاة واحدة، فلا يأخذ منا إلا شاة واحدة. فهذا العمل لا يجوز لأنه حيلة، فبدلاً من أن يأخذ المصدق من كل واحد شاة فتكون ثلاث شياه، ففي هذه الحيلة يأخذ فقط واحدة من الجميع. أما التفريق بين المجتمع فمثال ذلك: لو أن شخصين لديهم سبعون من الغنم مختلطة لها راع واحد وتأكل من مرعى واحد، ولما جاء المصدق ليأخذ الزكاة قالوا: نريد أن نقتسم لنتفرق فيأخذ كل واحد خمساً وثلاثين من الغنم، فإذا جاء المصدق لم يأخذ منّا شيئاً فهذا أيضاً لا يجوز، ذلك أنه فرار من الزكاة. المسألة الثالثة: ضم الأنواع بعضها إلى بعض:

السؤال:- هل يجوز ضم المعز إلى الضأن لإكمال النصاب، وهكذا ضم البقر إلى الجاموس، وهكذا في الإبل؟ وكيف تخرج الزكاة بعد الضم؟ الجواب:- نعم يجوز ضم الأنواع بعضها إلى بعض، فالمعز والضأن نوعان يضمان بعضهما إلى بعض، والبقر والجاموس نوعان يضمان وهكذا البخت والعراب من الإبل يضمان، فكل نوعين يضمان بعضهما إلى بعض، وتخرج الزكاة من أكثر النوعين، فلو كان عنده ثلاثون من المعز وعشر من الضأن فتخرج الزكاة من المعز لأنها الأكثر، وهكذا في بقية الأنواع. المسألة الرابعة: الوقص لا زكاة فيه: الوقص هو العدد الذي يقع بين الفريضتين فلا زكاة فيه. والوقص لا يكون إلا في زكاة الأنعام، أما الأموال الأخرى فلا وقص فيها. مثال الوقص في الغنم: من بلغت الغنم عنده أربعين شاة فزكاتها شاة واحدة، فإذا زادت عن أربعين فلا زكاة فيها، يعني تبقى الزكاة شاة واحدة فقط حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان، فصار العدد بين الأربعين إلى المائة وعشرين وقصاًَ لا زكاة فيه. ومثاله في الإبل: إذا بلغت الإبل خمساً فإن زكاتها شاة واحدة، فإذا بلغت تسعاً فإن زكاتها شاة واحدة أيضاً، فإذا بلغت عشراً فإن زكاتها شاتان، والعدد بين الخمس والعشر يعتبر وقصاً فلا زكاة فيه. ومثاله في البقر: إذا بلغت البقر ثلاثين ففيها واحدة، فإذا زادت فتبقى زكاتها واحدة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، والعدد الذي بين الثلاثين والأربعين وقص لا يزكى ... وهكذا ما بين الفريضتين لا يزكى. المسألة الخامسة: زكاة المعلوفة أكثر الحول:

السؤال:- رجل يملك رؤوساً كثيرة من الغنم تتكاثر عنده وهي رأس ماله، وبعض الأحيان يبيع منها في كل أسبوع رأساً أو رأسين، علماً بأنها تأكل من الشعير أكثر الحول، فهل فيها الزكاة؟ الجواب:- لا زكاة في المعلوفة أكثر الحول، إذا كانت محجوزة داخل السور أو الشباك لا تخرج ولا ترعى، فإن كانت تخرج كل يوم ولو ساعة أو كل يومين، وتأكل مما في الأرض من العشب اليابس أو الشجر ولو شيئاً قليلاً، فإنها تزكى حيث يصدق عليه أنه يسيمها أي يرعاها من النبات ما تقتات به ولو بعض الوقت ففيها زكاة السائمة.

السؤال:- أنا مزارع ولدي أغنام ترعى مع الراعي، وأغنام وبقر ترعى من المزرعة فهل في الراعية في المزرعة زكاة؟ وكيف أزكيها؟ الجواب:- إذا كانت لا تخرج من المزرعة غالباً وإنما تأكل من نبات المزرعة الذي تسقونه من مائها، وكان هذا شأنها أكثر العام، فهي غير زكوية، حيث إن من شرط وجوب الزكاة أن تكون سائمة أي راعية من نبات الأرض الذي ينبت من المطر أكثر الحول، فأما المعلوفة أغلبه فلا زكاة فيها لما يلاقيه أهلها من كلفة العلف والطعام ونحو ذلك، فإذا كانت للتجارة بحيث يبيع منها، ويظهر السوم عليها، ويشتري بدل ما باع، ثم يعرضها للبيع، ففيها الزكاة كسائر سلع التجارة والله أعلم.

السؤال:- هل على الغنم التي ترعى في البر وتعلف زكاة ولو تركت بدون علف هلكت؟ وهل على الغنم التي ترعى ثلاثة أشهر مثلاً بدون علف وبقية السنة تعلف هل عليها زكاة؟ الجواب:- إذا كانت ترعى بأفواهها من الأعشاب في البراري فإنها تزكى، ولو كان يعلفها مع ذلك إذا رجعت إلى بيتها، ولو كان عمدة أكلها هو العلف، حيث إنها تسمى سائمة يعني راعية أكثر السنة. أما التي لا تخرج للمرعى إلا ثلاثة أشهر ثم بقية السنة تكون في البيت ومن وراء الأسوار تعلف، فإنها لا زكاة فيها إلا إذا كانت للتجارة، وهي التي يبيع منها كل حين ويشتري بدل ما باع، فزكاتها بتقدير قيمتها، وإخراجها كزكاة عروض التجارة والله أعلم.

السؤال:- هل على البهيمة التي تأكل في الأسواق زكاة؟ الجواب:- يقولون لا زكاة في البهائم إلا إذا بلغت من الغنم أربعين وكانت سائمة، يعني ترعى بأفواهها وليست معلوفة، يعني إذا كان أغلب أكلها مما تجده في الأرض ففيها الزكاة، سواء كانت في الأسواق تأكل من الشجر أو من فتات الطعام أو ما أشبهه، أو ترعى في البرية من العشب أو الشجر ونحو ذلك، فإن فيها الزكاة، وإن كانت معلوفة فلا زكاة فيها ولا تجب الزكاة إلا إذا تم النصاب. المسألة السادسة: ما يأخذه الساعي في زكاة الأنعام:

السؤال:- ما الذي يحق للساعي أخذه من زكاة الأنعام دون إجحاف بالغني أو ضرر بالفقير؟ الجواب:- لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: "إياك وكرائم أموالهم" أي خيارها. فعلى الساعي أن يتجنب السخال فإنه يعدها ولا يأخذ منها، وإنما يأخذ من الكبار، ولا يأخذ أيضاً السمينة الأكولة المعدّة للأكل والربيَّ -أي تربي ولدها- ولا يأخذ المخاض أي الحامل، ولا يأخذ الفحل، فكل هذه الأنواع من كرائم الأموال، وهي عزيزة على صاحبها وفي أخذها إجحاف به. وعلى الساعي أيضاً أن لا يضر الفقراء فلا يأخذ المريضة أو المعيبة أو الكبيرة الهرمة، وذلك أنها لا تنفع الفقراء وفيها ضرر عليهم وهضم لحقوقهم. وعلى الساعي أن يعرف أحكام الزكاة، فيعرف شروطها وأنصباءها حتى لا يقع في إجحاف الأغنياء ولا إضرار الفقراء. المسألة السابعة: زكاة الخيل والبغال والحمير وغيرها من الماشية وزكاة الطيور؟ جميع هذه الأنواع لا زكاة فيها، إلا إذا أعدت للتجارة والنماء ففيها الزكاة، وتعتبر من عروض التجارة. أما إذا أعدت الخيل للركوب أو الحمل أو الجهاد فإنه لا زكاة فيها، لأنها ليست بمال نام، والمال النامي هو المال الذي فيه الزكاة، وقد جاء في الحديث: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". وهكذا يقاس عليها الأنواع الأخرى، فكل ما أعدّ للتجارة فإنه يزكيه كما يزكي عروض التجارة، وسوى ذلك فلا زكاة فيه، إلا المنصوص عليه وهو سائمة الغنم والإبل والبقر.

مسائل وفتاوى تتعلق بزكاة عروض التجارة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة مسائل وفتاوى تتعلق بزكاة عروض التجارة

السؤال:- أنا صاحب شركة سيارات تأجير فهل أزكي على أقيام السيارات؟ أم الزكاة على دخل السيارات؟ ومتى أحسب ذلك؟ الجواب:- حيث إن السيارات لم تعرض للبيع وإنما هي للاستعمال أو التأجير فلا زكاة في قيمتها، وإنما الزكاة في أجرتها إذا تم الحول على الأجرة، والأفضل أن تزكي الأجرة آخر كل سنة ولو لم يتم الحول على بعضها، إذا تم الحول على بعضها وبلغ النصاب، ومثل السيارات جميع ما يعد للإيجار، كالدور والعمارات والدواب والأدوات والمعدات، فإن الزكاة في أجرتها والله أعلم.

السؤال:- أنا صاحب مؤسسة مقاولات، رأس مال المؤسسة عبارة عن سيارة وانيت ومجموعة أخشاب ومكتب بالإيجار، ولدي مجموعة من العمالة، وعليَّ ديون لبعض الأفراد، ودخل المؤسسة يوزع رواتب على العمال وإيجار المكتب، وأي مبلغ زائد عن ذلك أسدد به بعض الديون، ولا يتوفر لدي أية مبالغ، فهل عليّ زكاة في هذه الحالة؟ الجواب:- أرى أنه لا زكاة عليك، وذلك لعدم توفر المال عندك، ولا زكاة في السيارة المستعملة، ولا في الأخشاب التي تستعمل في العمارة، ولا في الدخل الذي تدفعه للرواتب أو تدفعه لوفاء الدين، حتى يتوفر لديك مال زائد عن الدين وعن الرواتب ويبلغ النصاب.

السؤال:- نحن ثلاثة إخوة شركاء في محل قطع غيار سيارات ونصيبي الشهري من المحل ثلاثة آلاف ريال، وأقوم بجمع المال المبلغ شهرياً مع أموالي الأخرى وأزكي عنها سنوياً، فهل تكون الزكاة على نصيبي من الدخل فقط أم على جميع البضاعة التي في المحل؟ الجواب:- إذا كان لا يحصل لك منه إلا ثلاثة آلاف فلا يلزمك إلا زكاة هذا المبلغ الذي هو الربح، أما رأس المال الذي في المحل فعليكم جميعاً، أي تشتركون في إخراج زكاة رأس المال أو القطع التي في المحل بعد تقديرها بما تساويه والله أعلم.

السؤال:- اشتريت سيارة منذ سنتين، ومن ذلك الوقت وأنا متردد هل أتاجر بها أم أستعملها، فهل فيها زكاة؟ الجواب:- ليس فيها زكاة حتى تعرضها للبيع، أما إذا كنت تستعملها أو لم تعرضها لبيع ولم تعزم على بيعها فليست من عروض التجارة.

السؤال:- عندي محل تجاري فيه من البضائع الكثير وبعض هذه البضائع يمر عليها حول كامل لا يباع منها. فهل فيها زكاة وكيف يكون ذلك؟ الجواب:- فيه زكاة ما دام أنه معروض للبيع في هذا المحل، وذلك أن كل من أتاك عرضت عليه هذه السلعة ونظر إليها وعرف أنها اشتريت للتجارة. ففي كل سنة تُثمِّن ما عندك وتخرج الزكاة.

السؤال:- كيف أقيم الزكاة في السنة الأولى أنا وزميلي وهكذا في السنوات القادمة؟ الجواب:- تخرج زكاة نصيبك من الربح، ويخرج زميلك زكاة نصيبه من الربح، وكذا في كل سنة بعد قسم الأرباح أو تقدر التجارة مما هو معروض للبيع سواء من رأس المال أو من الأرباح.

السؤال:- هل تجب الزكاة في حصة المضارب قبل القسمة إذا بلغ نصاباً؟ الجواب:- المضاربة كونك تعطي إنساناً مالك يتجر به، فإذا أعطيته مثلاً عشرين ألفاً واشترى بها بضائع على أن له نصف الربح، ويرد عليك رأس مالك، فبعد سنة أصبحت العشرون ثلاثين بأرباحها، حصة العامل خمسة آلاف، وحصة صاحب المال خمسة آلاف، ورأس المال عشرون. فما الذي يزكى؟ يُزكى الجميع؛ الثلاثون ألفاً، وتكون الزكاة عن الجميع؛ عن الربح، وعن رأس المال. هذه صورة المضاربة وصورة الزكاة فيها.

السؤال:- نصيب إخواني من الأرباح السابقة التي بقيت، هل فيها زكاة؟ وكذلك الأرباح القادمة؟ أم تعتبر مثل الراتب الشهري، علماً بأنه يتم توزيع الأرباح بعد مرور الحول. الجواب:- إذا تم الحول ووزعت الأرباح فكل واحد يخرج زكاة نصيبه إذا بلغ النصاب، بعد وفاء الدين إذا كان عليه دين، وليست كالراتب فإن ربح التجارة لا يشترط له الحول.

السؤال:- هل ما آخذه أو أعطيه إخواني من المكسب قبل كمال الحول عليه زكاة؟ الجواب:- لا زكاة فيما تنفقونه من الأرباح على أنفسكم أو أهليكم قبل التصفية وتمام الحول.

مسائل وفتاوى متفرقة حول الزكاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة مسائل وفتاوى متفرقة حول الزكاة

السؤال:- شخص ادعى أن عليه ديناً. ويذكر أن لديه صكاً في دينه، ولكني لم أره وأنا لا أعرفه، فهو مجرد شخص كبير وافر اللحية، فأعطيته مالاً من الزكاة. فهل الزكاة في محلها؟ أرجو إفادتي؟ الجواب:- في محلها إن شاء الله، ذكر العلماء أنك إذا أعطيته وتعتقد أنه فقير، وأنه من أهل الصدقة فإنك لا تغرم للصدقة مرة أخرى، بل تُجزئك إذا أعطيته حتى لو تبين بعد ذلك أنه غني، فقد ورد في الحديث أن رجلاً قال "لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فأعطاها سارقاً. فقال الناس: تصدق على سارق. فقال: اللهم لك الحمد على سارق لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فأعطاها زانية. فأصبح الناس يتحدثون: تُصدُق على زانية. فقال: اللهم لك الحمد على زانية. لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فأعطاها غنياً. فقال الناس: تُصدق على غني. فقال: الحمد لله على زانية وعلى غني وعلى سارق. فأُتي فقيل له: أما صدقتك فقد تُقبلت. أما السارق فلعله يستعف عن السرقة، وأما الزانية فلعلها تستعف به عن الزنى، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما آتاه الله أي، إذا تعرف على عدد من الناس يحبون الخير ويستحقون الصدقات وهو عنده أموال، فلعله يتصدق، ولعله يخرج من ماله ولم يذكر أنها لم تقبل.

السؤال:- لي صديق عليه ديون تبلغ تسعين ألف ريال، وسبق أن أعطيته الزكاة. هل يلزم عند إعطائه الزكاة إخباره أنها زكاة أم لا بأس بكتم ذلك؟ الجواب:- لا بأس بكتم ذلك إذا كنت تعرف أنه من الغارمين. الغارمون لهم حق في الزكاة كما ذكرهم الله مع أصناف أهل الزكاة، وبشرط أن تعرف أنه لا يقدر على وفاء هذه الديون أي ليس عنده مقابل لها، أما إذا كان عنده تجارة، أو عنده أموال، أو كان عنده عقارات فإنه يمكن أن يبيعها ويستغنى عنها ويوفى بثمنها، فلا تحل له الزكاة لا منك ولا من غيرك.

السؤال:- عندنا في المسجد صندوق للتبرعات وتأتينا أحياناً مبالغ لا ندري هل هي زكاة أم صدقة، فماذا نفعل بها مع العلم أننا ذكرنا للإخوان أن يوضحوا هل هي زكاة أم صدقة؟ الجواب:- تصرف في المصارف الخيرية، فإن غلب على ظنكم أنها من الزكاة فاصرفوها للفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم، وإن استوى الأمران أو غلب أنها تبرع، فاصرفوها في الدعوة والكتب والأشرطة ونحوها، فإن ذلك من مصارف الصدقات، وفيه أجر كبير لمن ساهم فيه.

السؤال:- تقول امرأة: إنها ورثت عن أبيها مبلغاً من المال، ولكن لم تقبضه إلا بعد ثلاث سنوات، وذلك لأنه عقار تأخر بيعه، فهل تزكي السنوات التي مضت أم لا؟ أو تزكي سنة واحدة؟ الجواب:- تزكي سنة واحدة كالديون التي إذا قُبضت تُزكى عن سنة واحدة إذا كانت هذه الديون على شخص معسر، فنعتبر أن هذا مال لم يستطع صاحبه تحصيله، فإذا قدر على تحصيله وكان قد ملك المال، اعتبرناه قد حال عليه الحول من زمان، فيؤدي الزكاة عن سنة واحدة.

السؤال:- توفي أبي رحمه الله وله نخل فيه تمر يُقَوَّم بستة آلاف ريال، وهذا المال يوزع بين الورثة، فهل فيه زكاة؟ الجواب:- نعم، هذا يعتبر من المال الزكوي، لأن التمر فيه زكاة إذا بلغ هذا المبلغ، ولو كان سيوزع فالزكاة لا تسقط.

السؤال:- أيهما أفضل: الإسرار بالزكاة عند صرفها لمستحقيها أم إظهارها؟ الجواب:- قد اختلف العلماء في هذه المسألة، وقد قال الله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) (البقرة:271) ، فإظهارها قد يكون فيه مصلحة، والمصلحة، هي ألا يُظن بهذا الإنسان البخل، فإنه -مثلاً- لو لم يره أحد يتصدق، لقال الناس: هذا بخيل لا يخرج شيئاً، ويمنع الحقوق، ويمنع الصدقات وقيل إن في إظهارها وإشهارها حثاً للناس على المسابقة إلى الصدقة، فإذا علموا أن فلاناً تصدق بكذا؛ فيتصدق الثاني والثالث والرابع مثله؛ فيكثر الذين يتصدقون على المساكين، وإن كان ذلك فيه شيء من المنافسة، ولكنها منافسة صالحة. أما إذا خاف على نفسه الرياء، فإنه لا يجوز أن يظهرها، فقد قال الله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس) (النساء:38) يعنى رياء للناس، وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار أن أحدهم قال: "ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله ولكنك تصدقت ليقال جواد: فقد قيل، أو ليقال كريم" فهو لم يتصدق إلا ليمدح بين الناس ويقال: هذا كريم وهذا سخي ومنفق وجواد، فليس له إلا ما نوى. أما إذا أمن على نفسه أنه لا يؤثر فيه مدح الناس ولا ذمهم، ورأى أنه إذا أظهرها اقتدى به غيره، فإن إظهارها جائز للآية الكريمة: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) (البقرة:271) .

وقد كان كثير من السلف بل كثير من أبناء الصحابة يحرصون على إسرار الصدقة، حتى إنهم كانوا يعطون الفقراء وهم لا يشعرون، أي أنهم يعطونهم من الأقوات وما أشبهها ولا يدري الفقير من أين يأتي هذا المال وهذا القوت وهذا الغذاء ونحوه، لحرصهم على إخفاء الصدقات الذي هو أبلغ في الإخلاص وأبعد عن الرياء، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا يعلم شماله ما تنفق يمينه. متفق عليه.

مصارف الزكاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة مصارف الزكاة قال تعالى: (إنما الصدقات والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) (التوبة:60) . يتبين من هذه الآية أن الزكاة لا تدفع إلا للثمانية المذكورين وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل. فقد روي أن رجلاً جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم من الزكاة فقال: "إن الله لم يرض فيها بقسمي ولا بقسم أحد حتى تولى قسمها، فإن كنت من أهلها الذين سماهم الله أعطيناك"، وقد ثبت بذلك أن الله تعالى هو الذي تولى قسم الزكاة، كما أنه هو الذي فرض الفرائض، فيُقتصر على هذه الأصناف. وكلمة (إنما) في الآية المذكورة تفيد الحصر، أي لا تصلح إلا للأصناف الثمانية المذكورة. وفيما يلي نأتي على بيان الأحكام المتعلقة بكل قسم: أولاً وثانياً: الفقراء والمساكين: وقد بدأ الله تعالى بالفقراء والمساكين، وذلك لأنهم الأغلب والأكثر، والفقراء أشد حاجة، وذلك لأن الفقر مشتق من الفقار الذي هو فقار الظهر، والظهر يسمى فقاراً، وكأن الفقير من شدة حاجته مكسور الظهر، بحيث لا يستطيع تكسباً ولا يستطيع تقلباً، وأما المسكين فإنه مشتق من السكون؛ فهو لحاجته كأنه ساكن الحركة لا يستطيع تقلباً ولا تكسباً. فإذا ذكر الفقير والمسكين معاً، فالفقير أشد حاجة، وقال بعضهم: إنه الذي كسبه يكفيه أقل من نصف شهر، فإذا كان راتبه مثلاً أو دخله من صنعة أو نحوها يكفيه أربعة عشر يوماً، أو إثني عشر يوماً، وهذه المدة أقل من نصف شهر فنسميه فقيراً، لأنه بقية الشهر يقترض، أو يُتصدق عليه إلى آخر الشهر.

وإذا كان دخله يكفيه عشرين يوماً أو ثمانية عشر أو نحو ذلك أكثر من نصف الشهر، وبقية الشهر يقترض أو يتصدق عليه سميناه مسكيناً، وهذا تفريقهم بين الفقير والمسكين. وكثيراً ما يذكر الله تعالى الفقراء ويحث على الصدقة عليهم، ويصفهم بأوصاف يستحقون بها الصدقة، قال تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) (البقرة:271) .، فقد اقتصر الله على الفقراء، وقال تعالى: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض) (البقرة:273) ، إلى آخر الآية؛ اقتصر أيضاً على الفقراء، وفي آية أخرى قال تعالى: (للفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم) (الحشر:8) ؛ فقد اقتصر الله على الفقراء في هذه الآيات. وقد اقتصر أحياناً على المساكين كقوله تعالى: (ولا تحاضون على طعام المسكين) (الفجر:18) ، (ولا يحض على طعام المسكين) (الماعون:3) ، (أو مسكيناً ذا متربة) (الماعون:16) ، (فكفارته إطعام عشرة مساكين) (سورة: المائدة:89) ، (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) (المجادلة:4) ، وهنا اقتصر الله تعالى على المساكين، ولا شك أنه يدخل فيهم الفقراء، فإنهم أولى بالإطعام وأولى بالصدقة، ولكن نظراً للأغلب فإنه إذا اقتصر على المساكين دخل فيهم الفقراء، وإذا اقتصر أيضاً على الفقراء دخل فيهم بالتبعية المساكين. ثالثاً: العاملون عليها: أما العاملون عليها فهم الجباة الذين يجمعونها، فهم يجبون الزكاة ويجمعونها من أهلها، ويسمون العمال والعاملين.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث من يجبي الصدقات من أهلها وبالأخص من البوادي؛ وذلك لأن أغلب أموال الناس في ذلك الزمان كانت بهيمة الأنعام، فكان يحتاج إلى من يذهب إليهم ليجمعها، فيعطي الذين يذهبون أجرتهم، أو حقاً مقابل تعبهم ومقابل عملهم، ولكنه يحثهم على الأمانة، ويحثهم على ألا يخفوا شيئاً من الصدقة وأن يعطوا من يرونه مستحقاً للزكاة من الفقراء والمساكين، فإذا أتيتم إلى البوادي: فوجدتم هذا غنياً عنده زكاة غنم وإبل، وهذا فقير ليس عنده شيء، فلكم أن تأخذوا من هذا الغني وتعطوا هذا الفقير، وما بقي عندكم تأتون به إلينا لنتولى توزيعه ونعطيكم حق تعبكم وأجرتكم. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحثهم على ذلك. وقد ورد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "هدايا العمال غلول"، ومعناه أن العامل لا يقبل هدية من أحد عن الزكاة، وكذلك لا يقبل ضيافة مخافة أنه إذا قبل ضيافة أو قبل هدية يتغاضى عن صاحبها، وإذا لم يهد له أو لم يكرمه ولم يضيفه ظلمه وزاد عليه وأخذ منه مالا يستحق، بل يكون عفيفاً ويكون بعيداً عن أن يستضيف أحداً أو يقبل من أحد هدية، فإذا أهدي إليه فلا يقبل الهدايا. وفي قصة ابن اللتبية أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه مزكياً للأغنام والإبل فجاء وقال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام خطيباً وقال: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليّ؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟! "، ثم أخذ يوبخهم على الغلول فقال: "والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر". وأخذ يعدد من أصناف المال، فكأنه يعرّض بأن هذا الفعل يعتبر غلولاً.

والله تعالى يقول: (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) (آل عمران:161) أي عقوبة له أنه يحمل ما غله، ويأتي به حتى يتمنى التخلص منه. فاعتبر هذا هدية واعتبره غلولاً، لأنه إذا أهدي إليه تغاضى عنهم، فإذا جاء إلى أناس وزكاتهم -مثلاً- عشر من الغنم وخمس من الإبل المتوسطة، فأهدوا إليه شاة أو ضيفوه وأكرموه، فإنه يستحي منهم، فيأخذ من الغنم رديئها، ومن الإبل رديئها، فيأخذ منهم دون ما يجب عليهم، لأنهم أكرموه، فبدلاً من أن يأخذ الشاة التي قيمتها أربعمائة يأخذ ما قيمتها مائتان وهكذا. فهذا ظلم للفقراء، وهذا اعتبر غلولاً، فإذا إذا لم يقبل هديتهم فإنه يأخذ الواجب، وقد تقدم أنه يأخذ الأوسط، فلا يأخذ الأردى والأدون ولا يأخذ الخيار والنفيس. وفي زماننا هذا تفرض الحكومة للعمال رواتب شهرية كسائر الموظفين، فإذا كان كذلك، فإنه لا يحق لهم أن يخفوا شيئاً من هذه الزكوات، بل يعتبرون كوكلاء يجمعونها ويدخلونها في بيت المال، ولا يحل لهم منها شيء لا قليل ولا كثير، وذلك لأن الحق الذي فرضه الله لهم، إنما هو إذا لم يكن لهم شيء مسمى من الدولة، فإذا قيل لهم: لا نعطيكم شيئاً، ولكن خذوا قدر ما تستحقونه لإعاشتكم، فيأخذون بقدر حقهم، فلا ظلم على العامل ولا ظلم على الموكل، أما إذا فرض لهم فليس لهم أن يتجاوزوه. رابعاً: المؤلفة قلوبهم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم تأليفاً لهم، إما قائداً يرجى إسلامه، أو يرجى إسلام نظيره، أو يرجى كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانية، أو يرجى أنه يتولى جباية الزكاة من قومه، فإذا لم يعط فإنه لا يجبي الزكاة بل يجحدها أو يمنعها، فهؤلاء سادة في قومهم مطاعون يعطون تأليفاً لهم؛ حتى يؤمن شرهم، وحتى يقوى إيمانهم، وحتى يكونوا ناصحين ومخلصين لو لي الأمر، فهذا هو سبب إعطائهم.

فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه وقوي الإسلام وتمكن، وصار القادة والسادة الذين كانوا في أول الإسلام يخاف من شرهم كآحاد الناس لم يعطهم من الزكاة، وقال: إن الله قد نصر الإسلام، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وفد عيينة بن حصن إلى المدينة وكان ابن أخيه الحر بن قيس من جلساء عمر رضي الله عنه، وكان جلساء عمرهم القراء شباباً كانوا أو شيباً، فقال عيينة لابن أخيه: لك يد عند هذا الأمير اشفع لي حتى أدخل عليه، وكان قد اشتكى أن عمر لم يعطهم ما كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه وقال بصوت جهوري: هي "يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل" فهذه كلمة نابية جافية من أحد أجلاف العرب، وغضب عمر وكاد أن يبطش به، ولكن ابن أخيه حثه على العفو، وقرأ عليه قول الله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (الأعراف:199) ، فوالله ما جاوزها وكان وقافاً عند كتاب الله. وكان عيينة بن حصين هذا من المؤلفة قلوبهم، هو والأقرع بن حابس، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما انتصر على هوازن وقسم غنائمهم، قسم الإبل، فأعطى عيينة بن حصين مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى شاعراً من شعراء بني سليم وهو العباس بن مرداس أقل من المائة، فأنشأ يقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد كبين عُيَيْنةَ والأقرعِ وما كان بدْرٌ ولا حابس يفوقان مرداس في المجْمَعِ وما كنتُ دونَ امريٍ منهما ومن تخْفض اليوم لا يُرْفَعِ يعرض بالأقرع وعيينة، فدل على أنهما ممن كان يتألفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في عهد عمر قطع هذا التأليف وأسقط حقهم.

اتصل بي مرة من البحرين أحد الجهلة من أهل السنة، ولكنه انخدع بمن عنده من الرافضة الذين طعنوا في عمر، فقالوا: عمر أسقط حقاً في كتاب الله، أسقط حق المؤلفة قلوبهم، وهو في القرآن، فجعلوا ذلك طعناً، فعجبت لهذا الذي صدقهم، فقلت له: إن التأليف يستعمل عند الحاجة إليه، فهو لم يسقط الآية ولم يسقط حقهم الذي في الآية، بل الآية موجودة، ولكنه رأى أن التأليف له مناسبة وله وقت، فإذا لم يحتج إلى التأليف لقوة الإسلام فلا حاجة إلا إعطائهم؛ لأن هذه الصدقات تجمع من الناس لمن يستحقها، وهؤلاء أثرياء وأغنياء فلا حاجة إلى تأليفهم ما دام الإسلام قوياً. خامساً: في الرقاب: ويراد بهم المكاتبون، فالعبد الذي يشتري نفسه بثمن مؤجل، ثم يخلى بينه وبين الحرفة ويبدأ يحترف ويتكسب، وكلما حل نجم أعطاه، فقد لا يقدر على تحصيل ذلك النجم أو ذلك القسط في تلك السنة لعجز أو لقلة مصالح، فيتصدق عليه، ويعطى من الزكاة؛ حتى يخلّص نفسه ويفك رقه. ويجوز لمن كان عنده زكاة كثيرة أن يشتري رقيقاً ويعتقه؛ لأن هذا من الرقاب. سادساً: الغارمون: وقد قسم الغارم إلى قسمين: غارم لإصلاح ذات البين وغارم لنفسه أو لحاجته، والغارم لحاجته هو المدين الذي استدان وتحمل ديناً من هذا ومن هذا، وكثرت الديون التي عليه، فلم يف بها ماله، ولو كان مظهره مظهر الأغنياء، ولو كان ينفق ويكرم ويطعم ويلبس فاخر الثياب ويركب فاخر السيارات وما أشبه ذلك، ولكن تراكمت عليه الديون، فلم يستطع وفاءها، فهو من الغارمين.

ومع ذلك يرشد إلى أنه لا يحل له هذا الإسراف ما دام أنه مدين، وأن عليه أن يحرص على إبراء ذمته ووفاء الدين الذي عليه؛ حتى لا يبقى مطالباً بحقوق الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله"، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الدين، أي أن يستدين الإنسان إلا للضرورة، حتى إنه كان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين لم يخلف عنه وفاء؛ إلا إذا تحمله أحد أصحابه، إلا في آخر الأمر كان يتحمل الديون عن الأموات ويوفيها من بيت المال، ويقول: "أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم، من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً فإلي وعلي". والحاصل أن الغارم ذكرنا أنه قسمان: الغارم لنفسه وهو الذي يستدين ولا يقدر على الوفاء، والثاني: الغارم لإصلاح ذات البين، وصورة ذلك إذا وقع بين طائفتين قتال جئت إليهم، وأصلحت بينهم، وقلت لهم: أنا أتحمل لكم أيها القبيلة بألف، واتحمل لكم أيها القبيلة الأخرى بألفين، على أن تسقطوا حقوقكم، فهذه الآلاف التي تحملتها لا نكلفك أن تدفعها من مالك ولو كنت ثرياً وغنياً؛ لأن فيها تكليفاً كبيراً وفيها شيء من الإجحاف في أموال ذوي الجاه؛ فلذلك تستحق أن تأخذها من الزكوات. ففي حديث قبيصة قال: تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله من الزكاة، فقال: "اجلس عندنا حتى تأتينا الزكاة -أو الصدقات- فنأمر لك بها"؛ لأنه تحمل حمالة لإصلاح ذات البين. سابعاً: في سبيل الله:

قال أكثر العلماء: إنه يراد به الجهاد، أي أنه يصرف في سبيل الله، فيجهز به الغازي الذي له راتب مثلاً، وكذلك أيضاً يدفع في العتاد، فيشتري بالزكاة عتاداً كسلاح ودروع وأدوات للقتال وما أشبه ذلك، ونفقات للمقاتلين إذا لم يكن لهم ما يكفيهم، فكل ذلك داخل في سبيل الله، وأكثر ما ترد هذه الكلمة للجهاد كما في قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) (آل عمران:196) ، (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) (البقرة:190) ، ونحو ذلك. لكن ذكر بعض العلماء أن الكلمة عامة، وأن سبيل الله في الأصل هو كل أمر يوصل إلى رضاه، كل شيء يحبه الله ويرضاه فإنه من سبيل الله، فأدخلوا في ذلك كثيراً من الأعمال الخيرية فأدخلوا فيه بناء المساجد وقالوا: هي من سبيل الله، وأدخلوا فيه بناء المدارس وعمل القناطر وإصلاح الطرق التي يحتاج إليها المسلمون وليس هناك مالية تكفيها، وكذلك أيضاً الدعاة الذين ليس لهم قدرة على التكفل بالدعوة، وكذلك المعلمون عند الحاجة إليهم، ومعلم القرآن، وهكذا أيضاً نشر العلم الذي يدخل فيه -مثلاً- طبع الكتب وطبع الأشرطة الإسلامية وما أشبه ذلك، فقالوا: هذه كلها داخلة في سبيل الله، فإذا لم يوجد من يتبرع بها فإنه ينفق عليها من الزكاة. ولكن الأكثرين قالوا: لا تدفع من الزكاة، وسبيل الله خاص بالمجاهدين وبالجهاد. وعلى كل حال إذا تعطلت هذه الأشياء، فتعطلت الدعوة، وتعطل الدعاة، وتعطل نشر العلم، وتعطل تحفيظ القرآن، ولم يوجد من ينفق على ذلك إلا من الزكاة فعند ذلك يجوز، ولكن إذا وجد من يتبرع ببناء المساجد ويتبرع بإعاشة الدعاة -مثلاً- ويتبرع بطبع كتب العلم وما أشبه ذلك؛ فإنها لا تصرف من الزكاة. ثامناً: ابن السبيل:

وعرفوه بأنه المسافر المنقطع الذي سافر من بلاده، ووصل إلى بلاد أخرى، ولكنه انقطع عن الوصول إلى أهله، ولم يستطع الرجوع إليهم، ولو كان غنياً في بلده، ولكن لا يستطيع أن يصل إليه شيء من ماله. ويتصور هذا في الأزمنة القديمة أما في هذه الأزمنة، فإن في إمكانه أن يتصل بأولاده -مثلاً- ويأمرهم بان يرسلوا له مالاً بواسطة البنوك أو بواسطة المصارف، فيصل إليه ما يكفيه، ولكن إذا وجد منقطع سواء له مال في بلده ولا يقدر عليه أو ليس له مال، فإنه يدخل في مسمى ابن السبيل.

مقدمة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله فتاوى الزكاة مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير خلقه أجمعين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا كتاب الزكاة لفضيلة شيخنا العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله ورعاه، والذي جمعته من فتاوى الشيخ التي تصدر من مكتبه في دار الإفتاء، ومن دروس الشيخ المسجلة على الأشرطة، كما أضفت مجموعة من الأسئلة والاستفسارات التي أجاب عليها فضيلته لإكمال الموضوع، ثم بعد الانتهاء من المراجعة والتصحيح وعزو الآيات وتخريج الأحاديث قدر المستطاع، قام فضيلة الشيخ بمراجعة الكتاب والتقديم له، نسأل الله أن يحفظ علينا شيخنا وأن يمد في عمره بالطاعة وخدمة الإسلام والمسلمين، إنه سميع مجيب الدعاء. كما نسأله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن لا يكون فيه رياءٌ ولا سمعة، وأن يكتبه في موازين حسناتنا يوم نلقاه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، كما أسأله تعالى أن يوفق المسلمين إلى كل خير، وأن يهدي ضالهم ويثبت من هداه الله إلى الحق، وأن ينصرهم على عدوهم إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً.

مسألة محيرة

مسألة محيرة المقدمة تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله الهداية والتوفيق لأقوم طريق، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد: فإن الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره هو أحد أركان الإيمان المشهورة، وبه يطمئن العبد فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ومع ذلك فإنه مأمور بفعل الأسباب، ومباشرة الأعمال لدينه ودنياه، حيث منحه ربه قوة في العمل، وقدرة على مزاولته، وبهذه القدرة يتحصل على ما كتب الله له من الرزق في هذه الحياة، وبها يعمل ما يثاب عليه في الآخرة، أو يعاقب من الحسنات أو السيئات. وحيث إن هناك طائفة الجبرية الذين غلبوا جانب القدر واحتجوا به على ما وقعوا فيه من المعاصي، فقد شابهوا المشركين الذين قالوا: ((لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا)) . (سورة الأنعام، الآية: 148) . فرد الله عليهم بقوله: ((قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا)) . (سورة الأنعام، الآية:148) .ولكن هؤلاء الجبرية إنما يحتجون بالقدر على المعاصي، وفيهم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وعند مراد الله تفنى كميت وعند مراد النفس تسدي وتلحم وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم

وبهذا يعرف تناقض هؤلاء الجبرية، فإن الاحتجاج بالقدر إنما هو بعد المصائب والوقائع لقوله تعالى: ((لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)) . (سورة الحديد، الآية: 23) . فإن الإنسان مأمور بفعل أسباب الخير، والتوقي عن أسباب العطب والضرر، وأخذ الحذر من أسباب الأمراض والعاهات، فلا يتردى من شاهق، ولا يتعرض للسباع والهوام، ولا يسلم نفسه لأعدائه وهو يقدر على الامتناع، وعليه أن يتوقى البرد والحر وأسباب الأمراض والمصائب، ولا يتهور ويلقي بنفسه إلى التهلكة، فإن من أودى بنفسه أو أتلف ماله متعمداً مع قدرته على الإمساك فهو أقرب إلى وصف الجنون والخبال. ومن تعاطى أسباب الهلاك كأكل السم وإتلاف المال، فإنه يحجر عليه، ويمنع من التصرف، ولا يقبل احتجاجه بالقدر والكتابة العامة لكل ما يجري في الكون، فإن الله تعالى هو الذي قدر المقادير، ومع ذلك أمر العباد ونهاهم، وكلفهم، وفرض عليهم الفرائض، وحرم عليهم محرمات، ووعدهم على الامتثال بالثواب، وعلى العصيان بالعقاب. ولا شك أن هذا دليل التمكن والقدرة على مزاولة الأعمال، وقد قال تعالى: ((فاتقوا الله ما استطعتم)) . (سورة التغابن، الآية: 16) .فدل على أن التكاليف مشروطة بالاستطاعة، وتسقط عند العجز، كما شرط الله في الحج الاستطاعة، وقال تعالى: ((لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)) . (سورة البقرة، الآية: 286) .

وقد كنت كتبت جواب سؤال لبعض من زعم الحيرة، وساء فهمه، وعاند في الطاعة، واحتج بالقدر، وأشبه الشيطان في قوله: ((رب بما أغويتني)) . (سورة الحجر، الآية:39) . وقد أجبته باختصار حسب ما يتضح به الصواب، وأحلت بالتفصيل على ما كتبه علماء الأمة وتوسعوا فيه، وناقشوا فيه شبه المبطلين، وقد رغب إلي بعض الإخوة في نشره رجاء أن يقتنع به أهل العناد، فأذنت له في ذلك، وأضفت إليه تكملة من رسالة للشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى، من شرحه لقصيدة شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الجبرية، وفي ذلك كفاية ومقنع لمن قصد الحق بالصواب. وأما من عاند وأصر على الاحتجاج بالقدر، فعلاجه أن يضرب ويجلد، ويضيق عليه، ويحتج بالقدر، حتى تنقطع شبهته، والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين نص السؤال الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبعد: فقد سئل فضيلة الشيخ0 العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، حفظه الله ورعاه، عن مسألة محيرة، لكثير من الناس، فقال السائل: عندما يؤمر إنسان بمعروف وينهى عن منكر في أي أمر من أمور الدين، كبيراً كان أو صغيراً، فإنه يرد ذلك إلى القضاء والقدر، ويقول: قدر الله علي أن أفعل هذا الشر وهذه المعصية. فإذا قلت له: ألا تستطيع عمل الخير وترك الشر؟! قال: بلى. ولكن إذا قدر الله علي أن أكون من أهل النار فيسبق علي الكتاب لا محال.

ثم يستدل بقول الله تعالى: ((يضل من يشاء ويهدي من يشاء)) . (سورة فاطر، الآية: 8) . ويستدل أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. فوالذي لا إليه غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) . (أخرجه البخاري برقم (6594) ، ومسلم برقم (2643) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه) . نرجو توجيه رد واضح على هذه المسألة المحيرة لكثير من الناس، خاصة أنني لم أجد كتاباً مبسطاً إلى عامة الناس يوضح المسألة، ويرد على الشبهات التي تعترضهم، وجزاكم الله خيراً. نص الجواب وقد أجاب فضيلته بهذا الجواب الشافي الكافي، عل الله أن يهدي به أناساً قد ضلوا في هذا الأمر، فقال فضيلته: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: إن هؤلاء الذين يحتجون بهذه الحجج، لاشك أنهم متناقضون، فهم لا يعملون بها في كل حال! فلا يعملون بالقضاء والقدر، ويسلمون له في كل أحوالهم! فلأجل ذلك يقال: أنهم متناقضون! ونحن نقول للجواب عن هذا السؤال: إن هذا السؤال قديم، يحتج به الفسقة دائماً! ويرددونه في مجتمعاتهم، ويرددونه إذا نصحوا! فهو ليس بجديد! وقد ذكروا أن ذمياً أو ملحداً دخل على شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله-،وقدم له أبياتاً يحتج فيها بالقدر! فقال: أيا علماء الدين، ذمي دينكم تحير، دلوه بأوضح حجة إذا ما قضى ربي بكفري –بزعمكم- ولم يرضه مني، فما وجه حيلتي؟

دعاني، وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل؟ بينوا لي قضيتي قضى بضلالي، ثم قال: ارض بالقضاء، فهل أنا راض بالذي فيه شقوتي؟! فإن كنت بالمقضي – يا قوم – راضياً فربي لا يرضى بشؤم بليتي وهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي فقد حرت، دلوني على كشف حيرتي إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة فهل أنا عاص في اتباع المشيئة؟ وهل لي اختيار أن أخالف حكمه؟ فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي ثم إن شيخ الإسلام أجابه نظماً، وهو جالس في مجلسه، فأخذ القلم وجعل يكتب الجواب وهم حاضرون، فظنوا أنه يكتب نثراً، فإذا هو يكتب نظماً على نمط ذلك السؤال! فنظم في مجلسه مائة وثلاثين بيتاً على نمط تلك القصيدة التي نظمها ذلك الشاعر الذمي! والقصيدة موجودة في مؤلفات شيخ الإسلام، أولها قوله: سؤالك – يا هذا – سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية فهذا سؤال خاصم الملأ العلا -قديماً- به، أبْليسَ أصْلُ البَلِيَّةِ ومن يك خصماً للمهيمن: يرجعن على أُمِّ رأْسٍ، هاوياً في الحُفَيْرَةِ وتدعي خصوم الله – يوم معادها إلى النار، طرا معشر القدرية سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به للشريعة إلى أن قال في آخرها: فدونك علماً بالذي قد أجبت من معان إذا انحلت بفهم غريزة أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى، ولله رب الخلق، أكمل مدحتي وقد طبعت هذه القصيدة في المجلد الثامن من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وطبعت أيضاً في ترجمة شيخ الإسلام: (العقود الدرية في مناقب الشيخ ابن تيمية) لابن عبد الهادي، وتوجد أيضاً في غير ذلك. ثم إن شيخنا عبد الرحمن بن محمد الدوسري رحمه الله، نظم أيضاً على نمطها أبياتاً أخصر منها متضمناً لمدلولها.

كذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مطبوعة في المجلد الثامن من الفتاوى عنوانها: (أقوم ماقيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل) . والعنوان يظهر أنه ليس من وضع شيخ الإسلام، وإنما هو من بعض النساخ. كذلك أيضاً للعلامة ابن القيم كتاب كبير اسمه: (شفاء العليل) يدور حول القضاء والقدر، وضح فيه المسألة وبين كيف يحتج بالقدر؟ ومتى؟، وأيضاً ذكر شيخ الإسلام القضاء والقدر بكلام مختصر في كتابه: (العقيدة الواسطية) حيث ذكر أن الإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق ... الخ. وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ... الخ. ثم قال: ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين. ثم قال: ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر ... الخ. ثم قال شيخ الإسلام: والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم ... الخ. ثم قال: وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة ... الخ. أقسام الناس في القدر: والإيمان بالقدر ينقسم الناس حوله ثلاثة أقسام: القسم الأول: نفوا قدرة الله:

وهم المعتزلة، فقالوا: إن العبد يخلق فعله، وليس لله قدرة على أفعال العباد، بل العبد هو الذي يتحرك بنفسه، وهو الذي يفعل بنفسه، والله لا يقدر أن يرده، فلو أراد العبد شيئاً وأراد الله ضده، لم يقدر الله على أن يرده! وهؤلاء غلوا في قدرة العبد، ونفوا قدرة الله، وادعوا أن ذلك تنزيه لله، وهؤلاء في الحقيقة قد تنقصوا الله، وجعلوه عاجزاً! وقد تكلم بعض العلماء عليهم في ذلك، ومنهم صاحب شرح الطحاوية، وأورد لذلك قصصاً وأمثالاً. القسم الثاني: غلبوا قدرة الله: وهم الجبرية الذين لم يجعلوا للعبد أية قدرة؛ بل جعلوه مجبوراً على حركاته وعلى أفعاله، وليست له أية أفعال، ولا تنسب إليه أية أقوال! بل إن حركاته بمنزلة حركة الشجر التي تحركها الرياح، أو حركة المرتعش الذي ترتعد يداه، ولا يقدر على أن يمسكهما، فجعلوه مجبراً على فعله، ولم يجعلوا له أي اختيار في ذلك، ويقول قائلهم: ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماءِ!! ويقول آخر: وضعوا اللحم للبزاة على ذروتي عدن ثم لاموا البزاة إذ أطلقوا لهن الرسن لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن فكأنهم يقولون: إن الله هو الذي أوقع العبد في المعصية، وهو الذي حرك أفعاله، فإذن تعذيبه له يكون ظلماً، فليس للعبد أي اختيار!! ولا شك أنهم مخطئون. ولا بأس أن أعلق على أقوالهم وإن كان الكلام يستدعي طولاً، فأقول: إن هؤلاء متناقضون، ذلك لأنهم لا يستمرون على فعلهم؛ بل إنهم لا يعتمدون عليه في كل الأحوال، ولا يحتجون بالقدر في كل حال من الأحوال. ونقول لهؤلاء: إذا كان الحال كذلك فلا تطلبوا المعيشة مادام أن الله قدر لكم رزقاً، فإنه سيأتيكم به، اجلسوا في بيوتكم ولا تتكسبوا، ولا تحرثوا، ولا تزرعوا، ولا تتاجروا، ولا تعلموا، ولا تعملوا، أي عمل! بل لا تأكلوا، ولا تشربوا، ولا غير ذلك، فإذا كان الله قد قدر لكم ذلك فإنه سيأتيكم ويصل إليكم!

فلو قلنا ذلك لهم لما امتثلوا، فدل ذلك على أنهم متناقضون. فما دام أنك تقدر، وأنك تقلب في أمور الدنيا، فلماذا لا يكون لك القدرة على الأعمال الصالحة، مثل العبادات والطاعات والحسنات والقربات ونحوها؟! كذلك أيضاً نقول لهم: إن هذا كله بقضاء وقدر، ولكن لكم أفعال تستطيعون بها أن تنسب إليكم، فقد روي أن عمر رضي الله عنه رفع إليه سارق، فلما أراد أن يقطع يده، قال السارق: يا أمير المؤمنين، هذا قدر، فالله قدر علي هذه السرقة. فقال عمر رضي الله عنه: أنت سرقت بقدر الله ونحن نقطع يدك بقدر الله فإذا كان هذا بقدر فهذا أيضاً بقدر! كذلك ذكر أن رجلاً كان يقود أعمى، فجعل يقوده بعنف، وجعل يعثر به في الحفر، وفي الحجارة، ونحوها ويقول: هذا بقدر! هذا مقدر! ثم إن الرجل الأعمى ضربه بعصاه بقوة، فقال: هذا أيضاً بقدر، فإذا كان تعثرك بي وتعمدك بي بقدر، فأنا أضربك بقضاء وقدر! ونقول لهؤلاء أيضاً: إن العقوبة التي رتبها الله تعالى على هذه الأفعال، لا شك أنكم تستحقونها؛ لأن الله رتب على من فعل كذا عقوبة كذا، فالعقوبة على أفعالكم بقضاء وقدر. القسم الثالث: أهل السنة والجماعة: إن عقيدة أهل السنة أن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم، أو جعل لهم اختياراً يفضلون به بعض الأعمال على بعض فلذلك تنسب إليهم أعمالهم، وتضاف إليهم أفعالهم، ولو كانت بقضاء الله وبقدره وبمشيئته، فإنه سبحانه لا يعصى قسراً، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكن له الحجة البالغة. والله سبحانه وتعالى يذكر دائماً احتجاج المشركين بالقدر، ثم يرد عليهم، وينكر عليهم، مثل قوله تعالى: ((سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء - هذا احتجاج من المشركين بعموم مشيئة الله – إلى قوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين)) . (سورة الأنعام، الآيتان: 148، 149) . فأخبر بأن له الحجة، ولو شاء لهداهم.

ويقول تعالى في آية أخرى: ((إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين)) . (سورة الشعراء، الآية: 40) .فهو سبحانه وتعالى لو شاء لهداهم، ولكن اقتضت حكمته أن يكون في هذا الخلق سعيد وشقي، وفاجر وتقي، وكافر ومسلم، ومشرك وموحد، وعابد وغير عابد، اقتضت ذلك حكمة الله سبحانه وتعالى، واقتضى أمره وحكمته أن جعل الناس قسمين: قسم خلقهم للجنة، فبعملها يعملون! وقسم خلقهم للنار، فبعملها يعملون! ومكن كلاً منهم، وأعطاهم إرادة، وأعطاهم قدرة يزاولون بها أعمالهم، وتلك القدرة وتلك الإرادة هي التي يثابون أو يعاقبون عليها! ومع ذلك فإنهم كلهم تحت مشيئة الله، ولهم مشيئتهم، ولكنها مرتبطة بمشيئة الله، يقول الله تعالى: ((لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله)) . (سورة التكوير، الآيتان: 28، 29) . يعني أن لكم مشيئة على الاستقامة، ومع ذلك فإن مشيئتكم مرتبطة بمشيئة الله. وقال تعالى: ((فمن شاء ذكره، وما يذكرون إلا أن يشاء الله)) . (سورة المدثر، الآيتان: 55، 56) . وقال تعالى: ((فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاءون إلا أن يشاء الله)) . (سورة الإنسان، الآيتان: 29، 30) . فالله أثبت للعباد مشيئة، ولكنها مغلوبة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وله الحكمة في ذلك، وبمشيئة هؤلاء العباد الذين مكنهم وأعطاهم إياها، يثابون ويعاقبون عليها. فعلى كل حال نقول لهؤلاء الذين يقولون: (سبق الكتاب) ، (وكتب الكتاب) !! ونحو ذلك.

نقول لهم: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة)) . فقال رجل من القوم: ألا نتكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا. اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: ((فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى)) . (سورة الليل، الآيات: 5-10) .)) . (أخرجه البخاري برقم6605) ، (ومسلم برقم2647) (من حديث علي رضي الله عنه وقد سمعه في البقيع) . فقد أثبت الله تعالى في هذه الآية أن للإنسان عملاً فقال: ((أعطى واتقى، وصدق)) وهذه كلها أعمال، ثم قال: ((فسنيسره لليسرى)) أي إذا عمل صالحاً كالتقوى والصدق ونحوها فإنا سنيسره لليسرى. ثم قال: ((بخل واستغنى، وكذب)) وهذه أيضاً أعمال، قال: ((فسنيسره للعسرى)) أي إذا عمل أعمالاً غير صالحة كالبخل والكذب ونحوها فإنا سنيسره للعسرى. فالإنسان إذن له عمل، وعمله هو أنه يؤمر فيأتمر ويمتثل، ويكون ذلك بمشيئة الله، فلو شاء الله تعالى لم يستطع، ولو شاء الله لرده، ولحال بينه وبين ذلك، لكنه شاء، وله مشيئته التامة، فحلى بينه وبين هذا الاختيار، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وتوعدهم على ذلك: فتوعدهم على الشر بأنه يعاقبهم عليه، وإن كان الله قادراً على هدايتهم. ووعدهم على الخير بأنه يثيبهم عليه، وإن كان الله قادراً على إضلالهم. وله الحكمة البالغة بأن: خلق هؤلاء للجنة وهداهم، وأقبل بقلوبهم، فله المنة عليهم، فلا ينعمهم إلا بفضله. وخلق هؤلاء للنار، ويعذبهم بها، وإن كان قادراً على أن يهديهم، ولكنه حال بينهم وبين ذلك، ولم يوفقهم لأسباب الهداية، وجعل لهم الاختيار في أن فضلوا الشر على الخير، فإن عملوا بالشر وصاروا من أهله، عاقبهم ربهم، وعقوبتهم تكون عدلاً منه وليس ظلماً: ((ولا يظلم ربك أحداً)) . ((سورة الكهف، الآية: 49) .

وبالجملة فإن الكلام في هذا يطول، ومن أراد أن يتوسع في ذلك فليراجع رسالة شيخ الإسلام، وغيرها من الرسائل، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمداً وآله وصحبه وسلم. خاتمة وبعد هذا الجواب المفصل المقنع إن شاء الله فإننا نذكر مثالين – واقعين لكثير من الناس في القضاء والقدر –، وقد ذكرهما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – في كتابه: ((الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية)) فقال: المثال الأول: رجل كان مسرفاً على نفسه كثير الجراءة على المعاصي فقال له صاحبه – وهو يناصحه ويحاوره –: أما ترتدع عما أنت عليه؟ أما تتوب إلى ربك وتنيب إليه؟ أما علمت أن عقابه شديد على العاصين؟. فقال المسرف: دعني أتمتع فيما أريد؛ فلو شاء الله لهداني، ولو أراد لي غير ذلك لما أغواني. فقال له الناصح: بهذا الاعتذار الكاذب ازداد جرمك، وتضاعف ذنبك؛ فإن الله لم يغوك بل الذي أغواك: الشيطان؛ وانقادت له النفس الأمارة بالسوء حيث قال الشيطان _ مخاطباً لربه _: ((قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين)) . (سورة ص، الآيتان: 82، 83) . فالشيطان دعاك إلى المعاصي فأجبته، والله دعاك إلى الهدى فعصيته. بين الله لك السعادة وطرقها، وسهل أسبابها ورغبك فيها ووضح لك طريق الشقاوة، وحذرك من سلوكها واتباع خطوات الشيطان. وأخبرك بما تؤول إليه: من العذاب الشديد؛ فرضيت، واستبدلت الضلالة بالهدى، والشقاوة بالسعادة. وجعل لك قدرة وإرادة تختار بهما، وتتمكن بهما من كل ما تريد. ولم يلجئك إلى فعل المعاصي، ولا منعك من الخير فسلكت طريق الغي وتركت طريق الرشد. فلا تلم إلا نفسك.

أما سمعت ما يقول الداعي لأتباعه يوم القيامة _ حيث يقوم خطيباً فيهم: ((وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي)) . (سورة إبراهيم، الآية: 22) . فقال المسرف: كيف أستطيع أن أترك ما أنا فيه: والله هو الذي قدره علي؟! وهل يمكنني الخروج عن قضائه وقدره. فقال له الناصح: نعم؛ يمكنك الخروج بقدره. والتوبة والإقلاع عما أنت فيه _ وأنت تعلم علماً لا تشك فيه _ من قدر الله. فارفع قدر الله بقدره. ثم إن قولك: (إن المعاصي الواقعة مني، من قدر الله) ؛ إن أردت: أن الله أجبرك عليها وحال بينك وبين الطاعة؛ فأنت كاذب. وأول من يعلم كذبك نفسك: فإنك تعلم كل العلم أنك لو أردت ترك الذنوب لما فعلتها، ولو أردت إرادة جازمة فعل الواجبات لفعلتها. فلقد أقدمت على المعاصي برغبة منك ومحبة لها، وإرادة لا تشك ولا يشك غيرك فيها، وتعلم أن قولك: (إنها بقضاء الله وقدره) ؛ دفع اللوم عنك. فهل تقبل هذا العذر: لو ظلمك ظالم، أو تجرأ عليك متجرئ؛ وقال: (إني معذور بالقدر؛ فلا تلمني) . أما يزيدك كلامه هذا حنقاً وتعرف أنه متهكم بك؟!. فقال المسرف بلى؛ هذا الواقع. فقال الناصح: كيف ترضى أن تعامل ربك _ الذي خلقك وأنعم عليك النعم الكثيرة _ بما لا ترضى أن يعاملك به الناس؟!. وإن أردت بقولك: (إنها بقضاء وقدر) ؛ بمعنى: أن الله علم مني أني سأقدم عليها، وأعطاني قدرة وإرادة أتمكن بهما من فعلها؛ وأنا الذي فعلت المعاصي بما أعطاني ربي: من القوى التي مكنني فيها من المعاصي؛ واعلم أنه لم يجبرني ولم يقهرني، وإنما أنا الذي فعلت، وأنا الذي تجرأت_: فقد رجعت إلى الحق والصواب، واعترفت بأن لله الحجة البالغة على عباده. المثال الثاني في الآجال والأرزاق

اعلم: أن الآجال والأرزاق _ كسائر الأشياء _ مربوطة بقضاء الله وقدره. فالله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؛ ((ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) . (سورة الأعراف، الآية: 34) . فهذا أمر لا ريب فيه ولا شك. ومع ذلك، فهي أيضاً كغيرها: لها أسباب دينية، وأسباب طبيعة مادية، والأسباب تبع قضاء الله وقدره. ولو كان شيء سابق القضاء والقدر - من الأسباب -: لسبقته العين؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: ((العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا)) . (أخرجه مسلم برقم (2188) . لقوتها ونفوذها. فمن الأسباب الدينية لطول العمر، وسعة الرزق: لزوم التقوى والإحسان إلى الخلق، لاسيما الأقارب. كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره _ أي يطيل عمره _ فليصل رحمه)) . (أخرجه البخاري برقم (2067) و (5986) . ومسلم برقم (2557) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: (من سره) . وبرقم (2557) عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: (من أحب)) . وذلك: أن الله يجازي العبد من جنس عمله؛ فمن وصل رحمه: وصل الله أجله ورزقه، وصلاً حقيقياً.؟ وضده: من قطع رحمه، قطعه الله: في أجله وفي رزقه. قال تعالى: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب)) . (سورة الطلاق، الآية: 2) . ومن الأسباب الدينية لقطع طول العمر: البغي والظلم للعباد. فالباغي سريع المصرع، والظالم لا يغفل الله عن عقوبته، وقد يعاقبه عاجلاً بقصم العمر. ومن الأسباب الدينية لمحق الرزق: المعاملات المحرمة كالربا والغش، وأكل أموال الناس بالباطل، فصاحبها يظن _ بل يجزم _: أنها توسع عليه الرزق. ولهذا تجرأ عليها. والله تعالى يعامله بنقيض قصده. قال تعالى: ((يمحق الله الربى ويربي الصدقات)) . (سورة البقرة، الآية: 276) .

فالمعاملة بالربا تمحق صاحبها، وتمحق ماله. وإن تمتع به قليلاً فمآله إلى المحق والقل. كما أن المتصدق يفتح الله له: من أبوب الرزق. ما لا يفتحه على غيره. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، بل تزده)) (ثلاثاً) . (أخرجه مسلم برقم (2588) . والترمذي برقم (2029) . وأحمد في المسند (2/386) . ولم يرد في شيء من هذه الروايات قوله: بل ((بل تزده ثلاثاً)) .) . وكذلك الغش وأكل أموال اليتامى والأوقاف بغير حق: من أكبر أسباب المحق؛ مع ما على صاحبها: من الإثم والعقوبة. ومن أسباب طول العمر وقصره الطبيعية: الصحة والمرض. فالعافية من الأسقام سبب لطول العمر؛ كما أن الأمراض بأنواعها سبب لقصره. والمسكن والبقعة: إذا كانت صحيحة طيبة الهواء، صارت من أسباب عافية أهلها وطول أعمارهم. والعكس بالعكس: البقاع الرديئة المناخ والهواء، أو البقاع الوبيئة _ سبب لقصر العمر، كما هو شاهد. والتوقي عن المخاطر والمهالك، واستعمال الأسباب الواقية _ فائدتها في طول العمر ظاهرة. والإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وسلوك المخاطر، وكل أمر فيه خطر _ سبب ظاهر للهلاك. والأمثلة في هذا كثيرة. ومن الأسباب المادية في حصول الرزق وسعته: استعمال المكاسب النافعة. وهي كثيرة متنوعة: كل أحد يناسب له ما يوافقه ويحسنه، ويليق بحاله. كما قال تعالى: ((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)) . (سورة الملك، الآية: 15) . فيدخل في هذا العمل جميع الأسباب النافعة. وكذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض)) . (سورة البقرة، الآية: 267. وانظر: آية 254، 265منها) . إلى غير ذلك من الآيات.

وكل هذه الأمور تابعة لقضاء الله وقدره. فإن الله تعالى قدر الأمور بأسبابها: فالأسباب والمسببات من قضاء الله وقدره ولهذا لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله؛ أرأيت أدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، ورقى نسترقيها؛ هل ترد من قضاء الله وقدره شيئاً؟ فقال: ((هي من قضاء الله وقدره)) . (أخرجه الترمذي برقم (2065) و (2148) وابن ماجه (3437) (وأحمد في المسند وقد ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (359/2159)) . وكذلك الأدعية المتنوعة سبب كبير لحصول المطلوب، والسلامة من المرهوب. وقد أمر الله بالدعاء، ووعد بالإجابة. والدعاء نفسه، والإجابة كلها داخلة في القضاء والقدر. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأمر، بالعمل بكل سبب نافع، مع الاستعانة بالله. كما ثبت في الصحيح مرفوعاً: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)) . (أخرجه مسلم رقم (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه) . فهذا أمر بالحرص على الأسباب النافعة في الدين والدنيا، مع الاستعانة بالله. لأن هذه هي الاستقامة. وذلك لأن الانحراف من أحد أمور ثلاثة: إما أن لا يحرص على الأمور النافعة؛ بل: يكسل عنها، وربما اشتغل بضدها. أو يشتغل بها، ولكن: يتكل على حوله وقوته، وينظر إلى الأسباب، ويعلق جميع قلبه بها، وينقطع عن مسببها. أو لا يشتغل بالأسباب النافعة، ويزعم: أنه متوكل على الله. فإن التوكل لا يكون إلا بعد العمل بالأسباب. فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الطرق النافعة للعبادة. ولنقتصر على هذا فأنه يحصل به المقصود. والله أعلم؛ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الآداب والأخلاق الشرعية

الآداب والأخلاق الشرعية تقديم فضيلة الشيخ العلامةعبد الله بن عبد الرحمن الجبرين المقدمة الآداب الأول: المحبة والأخوة في الإسلام من آثار المحبة: المحبة في الله النصيحة لأخيك النصيحة سرا النصيحة لولاة الأمور، والنصيحة للعامة الأدب الثاني: الإنصاف الأدب الثالث: التواضع ولين الجانب الأدب الرابع: المودة وإفشاء السلام الأدب الخامس: التعاون على البر والتقوى الأدب السادس: الإيثار الأدب السابع: حُسن الظن الأدب الثامن: الصبر خاتمة تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأمر ونهى، أشهد أن الله هو الإله الحق لا إله لنا غيره ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنه أرسل الرسل يدعون إليه ويُعرِّفون بحقّه على عباده، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بيَّن الأحكام والآداب والأخلاق الشرعية بقوله وفعله؛ صلى الله عليه وسلم وآله وصحابته ومن سار على نهجه واتبع هديه. وبعد: فهذه محاضرة كنت ألقيتها في بعض المساجد لبعض المناسبات ضمّنتها بعضاً من آداب الإسلام التي ربى بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته، والتي دلّت عليها العقول الزكية والفطر المستقيمة، وشهد بفضلها وأثرها وحسنها الموافق والمخالف، وعرف بتحقيقها والتخلق بها ما يهدف إليه الإسلام من التعاون على الخير والتعامل بالحسنى، والمواساة والإيثار، والصدق والوفاء، والبعد عن الشقاق والنزاع والسباب والشتم والعيب والثلب والقذف وتتبع العثرات، ونحو ذلك مما يزرع البغضاء والأحقاد. وقد كتب العلماء المتقدمون والمتأخرون في الأدب الديني ومحاسن الإسلام وما يدعو إليه من الأخلاق النبيلة والسمات الرفيعة ما يُعرف به أن هذا الدين أشرف الأديان وأكملها وأنه تنزيل من حكيم حميد.

فنهيب بالمسلم أن يقرأ ما كتبه علماء الأمة في الآداب الشرعية ومكارم الأخلاق وما تحويه من تفصيل وإيضاح للأدلة النقلية والعقلية، وما أثر عن سلف الأمة من الأقوال والأفعال، وكيف اكتسبوا بَذلك أفئدة الناس وأقنعوهم باعتناق الإسلام عن محبة وطمأنينة مما سبَّب تَمكُّن الدين من القلوب والإقبال عليه بصدق ورغبة؛ وهذا ما نؤمِّله في أبنائهم في هذا الزمان، واللَّه المستعان وعليه التكلان. وليعلم أن هذه المحاضرة ألقيتها ارتجالاً دون استعداد أو تحضير؛ فلهذا لم أذكر جميع الأدلة، ولم أتوسّع في شرح الآداب لضيق الوقت عن استيفاء ما في الموضوع من الفروع، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. كتبه عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، نبي هذه الأمة، وكاشف الغمة، الذي خاطبه ربه: (وإنك لعلى خلق عظيم) (سورة القلم، الآية:4) . وعلى آله وأصحابه الكرام الطيبين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن الإسلام قد أمر بكل ما تستحسنه العقول وتستسيغه، ونهى عن كل شيء تستقبحه العقول الزكية، وأمر المسلمين بالآداب والأخلاق الإسلامية، التي من شأنها التأليف بين قلوبهم وإزالة البغضاء والشنآن؛ وذلك مما يقوِّيهم ويكون سبباً في نصرهم على أعدائهم ويرفع من شأنهم ويعلي كلمتهم. وإن مما دفعنا إلى الكتابة في هذا الموضوع هو ما نراه من مخالفة صريحة للآداب الإسلامية والأخلاق الشرعية؛ بل إننا نجد -والعياذ بالله- من يحضّ على عدم العمل بها والصد عنها. ونحن نذكر بعض الآداب والأخلاق -لا كلها- لأن كل خصلة قد تحتاج بحثاً منفرداً؛ ولكن نختار بعض الآداب المهمة ليُعلم بذلك قدر الإسلام حيث قدّر هذه الآداب. والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الآدب الأول المحبة والأخوة في الإسلام

لا شك أن الإسلام ربط بين المسلمين وجعلهم إخوة، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوةً) وقال: (فأصبحتم بنعمته إخوانا) (سورة آل عمران، الآية:103) ، وقال: (فمن عفي له من أخيه شيء) (البقرة:178) . فجعلهم كلهم إخوة، وإن حصل ما حصل بينهم من القتال ومن القتل فإنهم -رغم ذلك- لا يخرجون عن هذه الأخوة. ولا شك أن الأخوة تقتضي المحبة بمعنى أن تحب لأخيك الخير وتدله عليه. فالمحبة من أعظم الخصال التي دعا إليها الإسلام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . فالمراد أنه يحب له الخير ويكره له الشر، ومعلوم أنه إذا أحب له الخير دلّه عليه، وإذا رأى منه شراً حذّره عنه. فالأخوة في الإسلام هي أن تعرف أن كل من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويعترف بالعبادات ويفعلها، ويعتقد ما تعتقده من حق الله، فإنه أخٌ لك في الله، وأخ لك في الدين، ولو تباعدت الأنساب أو اختلفت الألوان، فما دمت أنت وهو على دين واحد فإنه أخوك، وإذا كان أخاك فعليك أن تحبه في الله ولله. ثم إن للمحبة في الله والمحبة في الدين آثاراً؛ ليست المحبة في الله مجرد دعوى المحبة ثم تترك أخاك على ما هو عليه من الجهل أو البدعة أو المعصية أو الحاجة الشديدة؛ وأنت تقدر على إزالة ذلك عنه! فمن هذه الآثار نذكر ما يلي: 1/ المحبة في الله: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن تكون المحبة لله، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كُنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أنُ يقذف في النار". فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" أي لأجل الله، ولأجل صلاحه، واستقامته فإذا كان كذلك فإنه يجد حلاوة الإيمان.

بل قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحبة من الخصال التي يستحق أهلها أن يكونوا من أهل الظلال يوم القيامة في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه". والمراد باجتماعهما الاجتماع في حياتهما، وبتفرقهما التفرق بعد موتهما؛ يعني اجتمعا في الدنيا على أنهما متحابان ولم يفرق بينهما إلا الموت. فهذان من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. والمسلمون والحمد لله كذلك، ولكن كثيراً ما يوسوس الشيطان بينهم، ويوقع بينهم البغضاء والوحشة ونفرة بعضهم من بعض فتكون تلك النفرة سبباً للتقاطع والتباغض والتحاسد الذي نهى عنه الله في قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يَكُن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ... ) (الحجرات:11) . واللمز هو العيب، كما في قوله تعالى: (ويلٌ لكل هُمزة لُمزة) (الحجرات:11) . فقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الوسائل التي تحصل بها المحبة منها: صفاء القلب. والنية الخالصة. ومعلوم أن المسلمين إذا صفت قلوبهم وخلصت نياتهم، ونصح بعضهم بعضاً، وأحب بعضهم بعضاً؛ زالت بينهم المنافسات والحسد والبغضاء ونحو ذلك، وأصبحوا مجتمعين وأصبحت قلوبهم مجتمعة مؤتلفة، لم يكن بينهم حقد، ولا تفرق واجتمعت كلمتهم على ما يحبه الله تعالى، وهو ما أراده من العباد.

وهذا هو ما حصل لصفوة الأمة وخيارها وهم الصحابة -رضي الله عنهم- الذي كانوا أعداء قبل الإسلام فائتلفوا بالإسلام؛ فذكّرهم الله بذلك في قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) (آل عمران:103) ، وقال تعالى: (هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم) ، فأصبحوا إخواناً متماسكين بهذه الأخوة في قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (آل عمران:103) . فهذا ما يحث عليه الإسلام؛ يحثنا على أن نكون مجتمعين غير متفرقين، مجتمعة قلوبنا وإن تفرقت أبداننا، مجتمعة أهدافنا، ونياتنا، وأعمالنا، لا يخالف بعضنا بعضاً؛ فإن وقع الاختلاف، وقع التضاد والتحاسد، ونحو ذلك، وبذلك تضعف كلمتنا وتضعف معنوياتنا، ولم يكن لأحد عند الآخر قدر، وصار كل منا يستبدّ برأيه وبنفسه ويدعي أن الصواب في جانبه، ويحقر إخوته ولو كانوا أكبر منه وأفضل، ويلتمس مثالبهم ومعايبهم وينشر السمعة السيئة لمن خالفه! وهذا ما يتمناه أعداؤنا، ويتمناه الشيطان وأولياؤه؛ فإنهم يتمنون للمسلمين؛ سيما أهل السنة وأهل الحق، أن تكون قلوبهم متفرقة مثلما قال الله تعالى عن اليهود: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) (الحشر:14) . فهذا بلا شك مما يتمناه أعداؤنا. ولا شك أن هذا التفرق الذي نحس به ونسمع به بين الحين والآخر أثر من آثار الآداب السيئة، وإلا فلو تأدبنا بآداب الإسلام لما حدث لنا هذا التفرق، ولما التمس بعضنا عورة بعض ولا أحد يستهزئ بالآخر ويدّعي أن الكمال في جانبه. ما هكذا يكون المنصفون! / النصيحة لأخيك: لا شك أن المحبة تقتضي أن تنصح أخاك إذا رأيته قد أخلّ بواجب. وهذه النصيحة من أعظم آثار المحبة فتنصحه لله تعالى وتقول: إني أحبك في الله -من آثار محبتي أن أنصحك بكذا وكذا، وأدلك على كذا وكذا ...

وهذه النصيحة ليست مقتصرة على الأمور الدنيوية، مثل مشاركته في تجارتك أو مساهمته معك، أو أن تدله على ما يربح فيه ... وشبه ذلك، فإن هذا ليس من خصوصيات المحبة، بل المحبة أوسع من ذلك. فمن المحبة أن ترشده إلى الطاعة وتدله عليها، وتحذره من المعصية وتحثه على الابتعاد عنها، وتبيّن له طرق الخير والشر، وتوضح له الطريق السوي الذي يوصله إلى رضى الله تعالى والجنة؛ وهذه هي حقيقة المحبة. وسوف يتقبل منك إذا علم أنك صادق المودة، ليس لك هدف دنيوي، ولا قصد إلا أنك تريد له الخير وتدله عليه. ولا تحتقر نفسك أن تنصحه، وتدله على ما ينفعه في دينه ودنياه، ولو كنت أجهل منه، أو أصغر منه؛ هذا هو مقتضى المحبة. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية أمثلة من آثار هذه المحبة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا، ولا تظالموا ولا تهاجروا، ولا تحاسدوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره- بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". وظاهر الحديث بيِّن لا يحتاج إلى شرح، فلماذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأخوة بين المسلمين بقوله: "وكونوا عباد الله إخواناً"، أمرهم أن يثبِّتوا هذه الأخوة التي من آثارها عدم تحقير بعضهم بعضاً، وأن لا يظلم بعضهم بعضاً، ولا يعتدي بعضهم على بعض، ولا يهجر بعضهم بعضاً. فكل ذلك من آثار هذه المحبة ومن آثار هذه الأخوة.

فإذا عرفت أن كل المسلمين إخوة لك فإياك أن تُغل قلبك بحق لأحدهم أو بغض لهم، أو احتقار أو ازدراء لأيهم، خاصةً إذا كان عالماً أو طالب علم فتكون بذلك مخالفاً لهذه التوجيهات النبوية التي دل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون مخلاً بهذه الأخوة لأنك إذا لم تعمل بهذه الإرشادات فلست صادقاً في أنك تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، الذي هو شرط من شروط الإيمان كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". فلا يكون كامل الإيمان، ولا من أهل الإيمان الصحيح الحق إلا من أحب لأخيه ما يحب لنفسه. / النصيحة سرا: ومن آثار المحبة أنك إذا رأيت أخاك واقعاً في خطأ أرشدته سراً فيما بينك وبينه، فتخلو به وتقول له: يا أخي، إنك وقعت في هذه الزلة وفي هذا الخطأ، ومن النصيحة أن أنبهك عليه بيني وبينك، فإن المؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح، وأنا لا أحب أن أنشر عنك سمعة سيئة، ولكني أحب أن أدلك على الخير، وأحب أن أنبهك لأني رأيتك قد أخطأت في هذا القول وفي الفعل، وقد رأيتك تقصّر في هذا العمل، ولا تقوم بهذا الأمر. فتنِّبهه على الخطأ سواء كان في الآداب، أو في الطاعات، كأن يتثاقل عن الصلوات، ويتكاسل عن الجمع أو الجماعات، أو يسبل ثوبه، أو يحلق لحيته ويطيل شاربه.. إلخ. فهذه من الأفعال التي تستدعي نصحه، وبيان الحق له فيها. وهكذا إذا وقع في الأخطاء القولية، في خطبة أو موعظة أو نصيحة فعليك أن تبين له أنك تحبه، ثم تنصحه فيما بينك وبينه، فبهذا يظهر له حبك له، فيتقبَّل منك، فإن كان له عذر اعتذر وقبلته، وإن لم يكن له عذر قبل وتقبل نصيحتك، وشهد بأنك من أهل الأخوة الصادقة.

فالنصيحة من الآداب الحسنى، ومن آثار المحبة الصادقة، ومن الآداب الدينية، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله بقوله: "الدين النصيحة". فينصحهم عن التقصير والنقص الذي يقعون فيه، ويبيّن لهم وجه الخلل، ووجه النقص الذي يقعون فيه. ذلك أنه ليس كل إنسان كاملاً، بل لا بد أن يقع الإنسان في خلل وفي نقص، فإذا رأيت أخاك قد وقع في الخلل فإن من كمال الأخوة والمحبة أن ترشده إلى الصواب، وتبين له الحق وتدله عليه؛ وسيستقبله منك وينساق إليه بكل سرور. فلا شك أن تبادل النصيحة من الآداب الشرعية الناتجة عن المحبة والمودة الصادقة / النصيحة لولاة الأمور، والنصيحة للعامة: وتكون النصيحة لكل فرد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله: "الدين النصيحة" وكررها ثلاثاً: قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم". وولاة الأمور هم كلُّ من كان له ولاية في أمر من الأمور: فإمام المسجد ومؤذنه، ورب الأسرة، وأمير القبيلة؛ أو البلدة، ومدير المدرسة والمدرس نفسه، ومعلمو الكُتّاب والموظفون ونحوهم، كل منهم يُعتبر من ولاة الأمور. فلهم حق علينا أن ننصحهم، وأن نبين لهم؛ وهذا من الآداب الشرعية. ونصيحتهم لا بد أن تكون من أثر محبتهم، فمعلوم أنه لا بد أن يقع أحدهم في خطأ وخلل، إما عن عمد وإما زلة بغير تعمد، فكل منهم حق علينا أن ننصحه؛ فاستقامتهم يحصل بها عز ونصر ويقوى بها المسلمون جميعاً. والنصيحة من المواعظ التي أمرنا بها في قوله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل:125) . وهي أيضاً من التذكير كما في قوله تعالى: (فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد) (ق:45) . كما أنها من الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى: (وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) (لقمان:17) . الأدب الثاني

الإنصاف قال تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) (الحشر:14) . فقد ذم الله الحسد في هذه الآية وهو من الآداب السيئة وضده الإنصاف وهو من الآداب الشرعية. والإنصاف هو أن تنصف من نفسك، وتعترف بما أنت مخلّ به، ولا شك أن ذلك يرفع من قدرك ولا ينقصك عند الله ولا عند عباده بل يرفع من معنوياتك. فمن الآداب الشرعية كون الإنسان ينصف من نفسه؛ فيعترف بالحق على نفسه، وبما أخطأ فيه، فيسترشد ويستصوب ما أخطأ فيه، ويجعل الحق قصده، ومطلبه، ويأخذ به حيث وجده. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر من التقاطع ومن الشحناء ويسميها الحالقة ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين". فإذا نظرنا في آداب المسلم وجدناه ينصف من نفسه ويَّتبع الحق ويتقبله أينما كان ومع من كان، ووجدناه يحب أهل الخير ويتقبل منهم نصحهم وإرشادهم فالإنسان ينصف من نفسه، ويعترف بما عنده؛ وهذه من الآداب الحسنة. وأما الذي يشمئز من الناس ولا يقبل كلام من فوقه، ويحتقر من دونه من جاءه بنصيحة، ويقول: من أنت حتى تنصحني؟ أين علمك وأنا أعلم منك وأجلّ وأكبر منك سناً، وقدراً؟ فكيف ترشدني وتنصحني؟ فهل يقول هذا عاقل؟ فالحق مقبول مع من جاء به، يقول القائل: اقبل الحق مما جاء به وإن كان عدواً، ورُدَّ الباطل على من جاء به وإن كان صديقاً. انظر إلى القول لا إلى القائل، فإذا كان القول صواباً فاقبله وأنصف من نفسك، واعترف بخطئك إذا بُيِّن لك خطؤك؛ لأنك لست معصوماً، بل لا بد أن يقع منك خطأ؛ قال صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". ولقد كان العلماء الأجلاء -رحمهم الله- إذا نُصحوا تقبَّلوا النصيحة وأقبلوا عليها مهما كان قائلها، وردوا آراءهم، وطمسوا ما كتبوه من الكتابات، ورجعوا إلى الحق الصوا.

وذلك هو واجب الجميع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فعلى هذا يلزمنا أن نرجع إلى الحق، وأن ننصف من أنفسنا أن لا نُصِرَّ على أخطائنا، ولا نصر على باطل بعد أن تبين لنا أنه كذلك، ولو كان الذي جاء به صغيراً أو حقيراً أو نحو ذلك. هذا هو الإنصاف. ولا شك أن الإنسان لا سيما طالب العلم وحامله، عليه أن يكون قدوة للناس في علمه، وفي عمله، فلا يحتقر مَن دونه ولا يتكبر على الصغير ولا على غيره؛ ولا يتكبر على أحد، ولا يحمل في نفسه اشمئزازاً ولا عتواً ولا نفوراً عن الحق، بل يكون متواضعاً لكل الناس. الأدب الثالث التواضع ولين الجانب ومن الآداب التي أدّبنا بها الإسلام التواضعُ ولين الجانب؛ فإنه أمر أهله بالتواضع ونهى عن التكبر، والمتواضع هو الذي يُقبِل على الناس إقبالاً متساوياً بين كبيرهم وصغيرهم، ويسمع من هذا ومن ذاك، ويقبل من هذا ومن هذا، ويلين جانبه لهم، ويسعهم خلُقُه، ويُسفر لهم وجهَه، ويبسط لهم جاهَه ويتواضع لهم من خلقه قلباً وقالباً. أما المتكبر فإنه ذلك الذي يشمخ بأنفه، ويترفّع بنفسه، ويحتقر من هو دونه كائناً من كان يزدري الناس ويراهم كأنهم حشرات على وجه الأرض، ولا يرى لغيره عليه حقاً ومن آثا ر تكبره هذا أنه لا يقبل نصحاً من أحد، فيدّعي أنه أرفع منهم قدراً وأفضل، فلا يتأثر بإرشاد ولا بموعظة تكبّراً وإعجاباً بنفسه. وهذا لا شك من الأخلاق السيئة، فينبغي للمسلم أن يكون متواضعاً للصغير والكبير، لا يرفع نفسه ولا يترفع على أحد مهما كانت مقدرته ومنزلته، فيكون من آثار ذلك أن يقبل كل من أرشده أو نصحه، فإذا كان كذلك فقد تأدب بأدب حسن من تلك الآداب التي تخلّق بها نبينا عليه السلام، وتخلق بها أصحابه -رضي الله عنهم-.

ولا شك أن من آداب الإسلام التي حرص عليها الإسلام مع التواضع، لينُ الجانب، والنظرُ إلى المسلمين بعين الرحمة والشفقة، ونصحهم وإرشادهم على الخير، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا شفقة عليهم من الوقوع في عذاب الله. وهذه كلها من آثار محبته للمسلمين، والشفقة عليهم من مواقعة العذاب. فإذا تأدبنا بهذا وابتعدنا عما يضاده أصبحنا إخوة، وأمة متماسكة قوية لها معنوياتها ولها مكانتها، وأما إذا تفرقت كلمتنا وتشتتت آراؤنا واستبدّ كل منا برأيه؛ فإن ذلك من أسباب الفرقة وضعف المسلمين، ويكون سبباً في تمكين أعدائنا مناً؛ الذين يكيدوننا ويتربصون بنا الدوائر. والمسلمون إذا اجتمعت كلمتهم وتمسكوا بدين الله كما أمرهم الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا) (آل عمران:103) . وتمسكوا بهذا الحبل المتين واجتمعوا على أمره تعالى وأخذ بعضهم ينصح بعضاً وتأدبوا جميعاً بالآداب الشرعية كان ذلك من الأسباب التي تقوي كلمتهم وتجعلهم أمة متماسكة متكاملة. الأدب الرابع المودة وإفشاء السلام جاءت الآداب الإسلامية لإثبات المودة وإفشاء السلام مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدّلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم". فجعل إفشاء السلام سبباً للمحبة، وجعل المحبة سبباً لدخول الجنة: "لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا" ومعناه: إذا كنتم متباغضين، متقاطعين كل منكم يخذل الآخر ويبغضه، ولا يبين له خطأه، فإن عاقبتهم الهلاك المحقق. ولا شك أن هذا من أسباب العذاب، بخلاف إذا ما تحاببنا وزالت البغضاء من قلوبنا، وأصبحنا إخوة متحابين في ذات الله تعالى، يحب بعضنا بعضاً، ونعمل بالأسباب التي تثبت هذه المحبة؛ كتبادل الزيارات، والنصائح، وتبادل أسباب المودة وإفشاء السلام وأشباهها.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أيضاً على الأسباب التي تثبت هذه المحبة والمودة، والتي تُبْعدُ عن ضدها، فقال صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن حق الطريق، قال: "حق الطريق غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "للمسلم على المسلم ست بالمعروف تسلم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتتبع جنازته إذا مات، وتحب له ما تحب لنفسك". وكذا لو تأملنا النواهي التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم أمته، لعرفنا الحكمة فيها، لكونها تسبب بغضاً وحقداً. فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبَع أحدكم على بيع أخيه" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب بعضكم على خطبة أخيه"، وغيرها من نواهيه صلى الله عليه وسلم، مثل النهي عن الغش في المعاملات، وبيع الغرر، وبيع الأشياء المجهولة والخفية، أو بيع ما لم يقسم، إنما هي قطع لمادة العداوة والبغضاء، والحقد والشحناء بين المسلمين. فالمشتري مثلاً يسيء الظن فيمن خدعه، ومن غشه أو باع على بيعه فتحدث من هذا العداوة والشنآن بينه وبين البائع وذلك كله منافٍ لحكمة الألفة والأخوة والمودة التي دعانا إليها الإسلام. الأدب الخامس التعاون على البر والتقوى ومن الآداب الشرعية أن يتعاون المسلمون على البر والتقوى كما أمرهم الله تعالى بذلك في قوله: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة:2) . والتعاون هنا ليس مقصوراً على أمور الدين، بل يشمل التعاون على أمور الدنيا، وعلى تنفيذ حدود الله وتنفيذ أوامره، وعلى الأمر بالخير والدعوة إليه.

ولا يكون هذا التعاون صحيحاً إلا إذا ائتلفت القلوب وتقاربت وتحابَّت وحسنت ظنون بعضهم في بعض فعند ذلك تجدهم يتزاورون ويتحابون ويتجالسون في الله، ويتبادلون النصيحة فيما بينهم، ويرشد بعضهم بعضاً، ويهدي بعضهم بعضاً، ويبين الأخ لأخيه النقص الذي فيه، ويفكرون في علاجه. ثم بعد ذلك يتعاونون على علاج جراح الأمة. وماذا نفعل حتى تعود الأمة إلى دينها؟ إذا رأينا الأمة متفرقة؟ إذا رأينا أن المعاصي قد تمكّنت وكثر أهلها؟ إذا رأينا دعاة الفساد ودعاة الضلال يتعاونون على ضلالهم ويقوِّي بعضهم بعضاً؟ أفلا نكون نحن أولى بالحق ونحن أهل الأخلاق النبوية؟ الذين تخلّقوا بخلق النبي صلى الله عليه وسلم. وتأدبوا بأدبه؟ سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) (القلم:4) . فقالت: "كان خلقه القرآن"، تعني: أنه متأدب بآدابه ومتخلق بأخلاقه، وعامل بإرشاداته ومهتد بهديه، وسائر على نهجه. فعلى أمته أن يتأدبوا بآداب نبيهم التي احتوى عليها القرآن، والتي رويت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم والتي سار عليها صحابته -رضي الله عنهم- فظلوا مجتمعين في عهده غير متفرقين. الأدب السادس الإيثار قال الله تعالى في الأنصار: (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (الحشر:9) . فكانوا يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين مع أنهم من عدنان وهم من قحطان، وهؤلاء من مكة وهؤلاء من المدينة!! ولكن أحبوهم وقدّموهم على أهلهم لأنهم مؤمنون؛ فلأجل الإيمان يؤثرون هؤلاء على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

وسبب نزول هذه الآية أن صحابياً استضافه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد عند أهله إلا الماء، فقال رجل من الأنصار: أنا أكْرِم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب به إلى بيته، وقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: ما عندي إلا عشاء صبيتي، فقدمت العشاء لذلك الضيف! وبات هو وصبيته جياعاً تلك الليلة، فأنزل الله هذه الآية: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) . وقد نُقل أن كثيراً من المهاجرين من الحجاز ومن العراق هاجروا إلى خراسان، فلما استوطنوا تلك البلاد -وكان أهلها من المجوس- وكانوا تجاراً فيها فإذا أصبحوا جاء أحد يشتري من بعضهم وقد سبق له أن باع في هذا اليوم فإنه يدلّه على أخيه الذي لم يبع ويقول: اذهب إلى ذلك الأخ فإنه لم يبع شيئاً اليوم، ولم يأته أحد من الزبائن، أما أنا فقد أتاني قبلك اثنان. فيؤثر أخاه بالزبائن على نفسه. وما كانت نتيجة هذه الإيثار؟ أن تأثر الناس من أبناء تلك البلاد من الفرس وغيرهم بذلك، فدعاهم ذلك إلى الإسلام، وقالوا: إن ديناً حث أهله على أن يتخلقوا بهذه الأخلاق، ويتأدبوا بهذه الآداب. فلا شك أنه دين قوي دفعهم إلى هذه الأخلاق والآداب الكريمة؛ فدفعهم ذلك إلى اعتناق الإسلام تاركين ديانتهم المجوسية أو النصرانية أو غيرها. فإذا تأدب المسلمون بهذه الآداب التي منها أدب الإيثار، وأدب المحبة، وأدب المواساة ونحوها، أحب بعضهم بعضاً، وأحبهم الآخرون ودخلوا في الإسلام وتمكن في قلوب الذين دخلوا فيه حديثاً لِما رأوا من آداب وأخلاق أهله. وإذا ما تخلق المسلمون جميعاً بهذه الأخلاق أصبحوا بذلك أمة لها قوتها ولها معنوياتها، ولها مكانتها في الأمم السابقة واللاحقة. وهذا ما يريده منا الإسلام.

أما إذا ظهر فينا التخاذل والتحزُّب الذي ذمه الله تعالى في قوله: (كل حزبٍ بما لديهم فرحون) (الروم:32) . بأن يصير هؤلاء حزباً يندّدون بأضدادهم ويتتبّعون عثراتهم، ويدّعون أن الكمال في حقهم دون غيرهم، ويدْعون الناس إلى الانضمام إليهم ويحذرون من الانضمام للأحزاب الأخرى، فيتلمَّسون العورات للغير، ويسيئون الظن بإخوتهم. فإن ذلك من أسباب الضعف، ومن الفشل. الأدب السابع حُسن الظن إن الواجب على المسلم أن يحسن الظن بأخيه المسلم، وكيف ذلك؟ إذا كنت تعرف سلامة عقيدة أخيك، وسلامة فطرته، ومنشأه ومجتمعه الذي نشأ فيه، وعرفته من خلال دروسه ومؤلفاته، أو مشايخه وماذا قرأ عليهم، وهكذا عرفت خطبه ونصائحه وغير ذلك، وعرفت أنه على العقيدة السليمة والفطرة المستقيمة فبذلك تحبه وتحسن الظن به. فإذا جاءك من ينقل لك عن أخيك فلان بأنه أخطأ في كذا، أو أنه قال كذا وكذا. فماذا يكون موقفك؟ إن هذا الناقل قد يكون من الوشاة الذين يسعون بين الناس فساداً، وليقف من هذا الناقل موقف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فقد روي أن رجلاً جاء إلى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- فقال: إن فلاناً قال كذا وكذا، وشاية ونميمة (ينقلها عن عمد) . ماذا قال عمر -رضي الله عنه-؟ عرض عليه ثلاث خيارات، قال: إن كنت موشياً نحن نبحث، فإن كنت صادقاً، واعتذر عذرناه، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت عفونا عنك. فقال: بل العفو. والنمام قد ذمه الله بقوله تعالى: (همّازٍ مشاءٍ بنميم) (القلم:11) .

والذي ينقل لك عن أخيك الصالح، أنه قال كذا وكذا، فالغالب أنه يكون نماماً، وقد ورد أن النمام معذب في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام" وفي رواية: "لا يدخل الجنة قتّات". وهو النمام، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم ما العضْهُ؟ -وهو نوع من السحر- هي النميمة. القالة بين الناس! " فجعل النميمة من السحر أو شبيهاً بالسحر! فإذا جاءك إنسان ونقل إليك عن أخ لك مسلم محب متثبّت، فعليك أن تسيء الظن به. ثم إذا كان صحيحاً فعليك أن تحسن الظن بذلك القائل، وتلتمس له عذراً أياً كانت تلك المقالة، فتقول: لعل له عذراً، لعل عذره كذا وكذا. روى عن بعض السلف أنه قال: لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً. فلو كان لها محمل واحد خير، وعشرة محامل شر، فاحملها على محمل الخير لأنك تحسن الظن بصاحبها، وتعرف أنه من أهل الخير والنصيحة والمودة، وأنه لا يتعمد أن يزلّ أو يطعن في مسلم، وأن يكفر مسلماً، أو يقترف ذنباً. وإذا كانت هذه حالة المسلم فإن الواجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين. وليس حسن الظن خاصاً بالدنيا؛ بل يجب حسن الظن أيضاً في أمور الآخرة. فمن عقيدة المسلم أن يكون حسن الظن بربه، فيظن بربه خيراً، أنه يغفر له ويعفو عنه سيئاته، ويكفر عنه خطاياه، ويرفع درجاته ويجزل مثوبته، ونحو ذلك. فعلى المسلم أن يحسن الظن بإخوته، فيظن بهم الظن الحسن الذي يؤدي بهم إلى الخير، ويدفعهم إليه ويدلهم على ما فيه خير لهم، وما فيه الصلاح لهم والاستقامة عليه. هذا من الآداب الشرعية، فمتى كان المسلمون كذلك استقامت حالتهم، واجتمعت كلمتهم. الأدب الثامن الصبر لقد أمرنا بالصبر على ما يصيبنا، قال تعالى: (وتواصَوا بالحق وتواصوا بالصبر) (العصر:3) ، وقال: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (البلد:17) ، وقال: (واصبر على ما أصابك) (لقمان:17) .

والصبر -كما قال البعض- مشتق من المرارة؛ لأن الصبر طعمه مُر، فلذلك كان في الصبر شيء من القساوة، وشيء من الشدة؛ ولكن عاقبته أحلى من العسل. فعلينا أن نصبر على الإيذاء، وعلى التعب، والمشقة، وعلى ما نراه من احتقار وتخاذل، ولا يفتّ ذلك في عضدنا. كما علينا أن نصبر على تنفيذ أوامر الله تعالى، وعلى القيام بشرعه مهما كان الأمر؛ حتى تكون العاقبة لنا فإن العاقبة للمتقين. وقد أمرنا الله تعالى بالصبر في قوله: (اصبروا وصابروا) (آل عمران:200) ، وفي قوله تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) (آل عمران:186) ، بعد أن أخبرنا بأنه يبتلي عباده ليصبروا. فلا بد من الصبر والمصابرة، ولا بد من الوقوف أمام العصاة ونحوهم بحزم، وعلينا أن نتحمل وأن نقف أمام العقبات التي نتعرض لها؛ حتى نكون بذلك من الصابرين الذين يُوفَّون أجرهم بغير حساب، كما وعدنا الله بقوله: (إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب) (الزمر:10) . وينبغي أن نكون متعاونين على تنفيذ أوامر الله، يقوي بعضنا بعضاً على مراجعة ولي الأمر، ويقوي بعضنا بعضاً على كتابة ملاحظة من الملاحظات؛ فإذا رأينا منكراً فعلينا أن نجتمع مع فلان أو فلان ونكتب لهم عن هذا المنكر ونطالب ولي الأمر أو المنتدب لهذا الأمر بأن يغير من هذا المنكر وأن يخفف منه ونصبر على نفقة أو تعب أو سهر أو سفر أو ما أشبه ذلك؛ فإن ذلك مما يضاعف الحسنات ونُؤجَر به عند الله سبحانه وتعالى. خاتمة تبين بهذا العرض أن الإسلام يهدف إلى جمع الكلمة، ونشر المحبة بين المسلمين وإخراجهم من الضغائن والعداوات والبغضاء ونحوها. فإن لم يفعلوا ذلك نقص حظهم من الإيمان، وزادت العداوة بينهم، وقل التماسك بينهم. فكلما كان المسلمون متماسكين قويت كلمتهم. إذا كان علماء الأمة وعامتهم وطلبتهم، وصغارهم وكبارهم؛ يقدّر بعضهم بعضاً، ويوقر بعضهم بعضاً. فماذا تكون حالتهم؟

وعلماء هذه البلاد -والحمد لله- وسكانها من طلاب العلم والعبّاد وعامة الناس كلهم والحمد لله على عقيدة التوحيد، التي هو إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلّغه وفيما جاء عنه، وهم على عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات، ليس بينهم اختلاف فيما يظهر والحمد لله؛ وهم على عقيدة واحدة في الإيمان، وفي القرآن، وفي الأوامر والنواهي، وفي محبة الصحابة، وآل محمد وأهل البيت وغيرهم. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا هذا التخاذل؟ ولماذا هذا التخالف؟ ولماذا هذا التحاسد؟ ولماذا هذا التضاد وهذا الاضطراب الذي يُلاحظ من البعض؟ لا شك أنه مكيدة من أعداء الله، ومن أعداء الإسلام، يريدون أن يفرّقوا بين علماء أهل السنة! فإذا افترقت كلمتهم وتضادت، وصار كل منهم له وجه خاص، قال تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة:148) . ولكل منهم حكم، وطريقة خاصة!! تفرقت حينئذ كلمتهم، ولم تبق لهم شوكة، وكان ذلك سبباً لبعدهم وعدم تنفيذ الأوامر التي يُراد تنفيذها. ونحن نحسن الظن بعلمائنا، وطلابنا وشبابنا، كلهم -والحمد لله-، ونعرف أنهم مخلصون إن شاء الله في طلب العلم، وفي عبادتهم، لا يريدون من طلب العلم إلا التفقه في الدين والعمل والدعوة إليه، ولا يريدون بالعمل إلا وجه الله والدار الآخرة. هذا هو ظننا، وهو إن شاء الله صواب وموافق في جميع من نعرفه من العلماء والعُبّاد. فإذا تأدبنا بالآداب الشرعية التي أدّبنا بها الإسلام زالت عنا هذه المخالفات وهذه الاضطرابات التي نسمعها، وأصبح المسلمون إخوة كما أمرهم الله تعالى: (فأصبحتم بنعمته إخواناً) (آل عمران:103) ؛ فإنهم يجتمعون على تنفيذ أوامر الله.

نسأل الله أن يجمع قلوبنا على طاعته، وأن يؤلِّف بين قلوب المسلمين، وأن يجمع كلمتهم، وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتّباعه، والباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه. ونسأله أن يزيل ما بينهم من البغضاء والحقد والشنآن، وأن يجعلهم إخوة متحابين في ذات الله، متبادلين المحبة في ذاته، وأن ينصرهم على أعدائهم، ويقويهم ويقوي كلمتهم، وأن يثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام

الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام تقديم الشيخ العلاّمة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين الحمد لله الذي خلقنا للعبادة، ونفذ فينا تصرفه ومراده، ووفق من شاء من خلقه لتوحيده وإفراده، وخذل آخرين ورماهم بطرده وإبعاده، أحمده سبحانه وأشكره، وقد وعد الشاكرين بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهي أفضل شهادة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأحفاده. أما بعد: فقد قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ الأِنَس إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56) . ومعنى (يعبدون) يوحدون، أي أنه تعالى أوجد هذا النوع من الإِنس والجن، وكلفهم وأمرهم ونهاهم، وقد أقام عليهم الحجة، حيث آتاهم العقول التي يحصل بها التفكر والإدراك، ونصب لهم الآيات البينات، التي يحصل بالنظر فيها التذكر والاعتبار، فسخر لهم الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ومطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وجموع وأشتات، وإخوان وأخوات، وآباء وأمهات، وأبناء وبنات، وآيات بعد آيات.

وقد لفت أنظارهم إلى هذه المخلوقات، فقال تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً * وخلقناكم أزواجاً * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا) (النبأ:6-10) الآيات. وقال تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) (ق:6-7) الآيات، وقال تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم:6) الآية، ونحو خطبة قس بن ساعدة الإيادي الجاهلي، والذي ذكر فيها: أن لله ديناً هو أحب من الدين الذي هم عليه، ونبياً قد حان أجل خروجه، وهكذا ذكروا قصة زيد بن عمرو بن نفيل الذي ترك عبادة الأصنام، وحرم أكل ما أهل به لغير الله، وهو جاهلي، وغيره كثير وفي ذلك يقول ابن المعتز: فيا عَجَبا كَيْفَ يعْصي الإِلَهَ أَمْ كَيْفَ يْجحدُهُ الجاحِدُ وفي كُلِّ شيءٍ لهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وَلَهُ في كُلِّ تَحرِيكَةٍ وَتَسْكِينَةٍ أَبَداً شَاهِدُ ويقول آخر: تَأَمَّل في نَباتِ الأَرضِ إِلى آثَارِ مَا صَنَعَ الملِيكُ عُيُونٌ مِنْ لُجين شَاخِصَاتٌ بأحدَاقٍ هِيَ الذّهبُ السَّبِيكُ على قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ بِأَنَّ الله لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ ومع هذه الآيات والبينات، فإن ربنا سبحانه لم يتركنا هملاً، بل أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبَيَّنَ للناس ما نزّل إليهم، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كُل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (النحل:36) .

وورد في الحديث عن زيد بن ثابت، وأُبي بن كعب مرفوعاً: "لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع من أعمالهم" رواه أحمد وغيره. وحيث إن جميع نوع البشر خلقوا للعبادة، فإن فرضاً عليهم أن يدينوا لله تعالى بالتوحيد، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالطاعة، فمن أطاعه وشهد له بالرسالة وتقبَّل شريعته فهو من أهل الجنة، ومن عصاه ودان بغير الإسلام فهو من أهل النار. وقد ختم الله الرسالة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل دينه وشريعته آخر الشرائع، وأرسله إلى جميع الناس بل إلى الثقلين، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى". قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" رواه البخاري. وقد سلط الله على الإنسان أنواعاً من الأعداء: كالشياطين، قال الله تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) (مريم:83) ، أي تدفعهم إلى التمادي في الكفر وتصدهم عن الهدى. وكالنفس الأمَّأرة بالسوء والنفس اللوامة. وكالهوى الذي يُعمي ويصم. وكالشهوات التي تغري بتناولها من يميل إليها، ولو كانت محرمة أو ضارة بالعقل والدِّين. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حفت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات" متفق عليه. فلأجل ذلك لا يستغرب قلة من يعتنق الإسلام ويدين به، ولو كان هو دين الفطرة، ودين العقل السليم، لكن لوجود الصوارف عنه صار أهله قلة في غيرهم، وكثيراً ما يذكر الله عن الأكثرين قلة التعقل والعلم، كقوله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الأعراف:187) ، (بل أكثرهم لا يعقلون) (العنكبوت:63) .

وقد كنت كتبت مقالة كرد على شخص نشر مقالة يبرر فيها الأديان التي يدين بها المشركون واليهود والنصارى والهندوس وغيرهم، ويستبعد أن يعذبهم الله بالنار، وقد نشرت تلك المقالة في بعض الصحف المحلية، فأحب بعض الإخوان طبعها والزيادة عليها في رسالة صغيرة، فأجبته إلى ذلك لتعم الفائدة، والله الموفق والمعين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين قال فضيلة الشيخ الإمام العلاَّمة أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم الجبرين: الحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد: فقد اطَّلعت على ما نشر في جريدة "الشرق الأوسط" العدد (5824) يوم الثلاثاء الموافق 4/6/1415هـ بقلم من سمَّى نفسه: (عبد الفتاح الحايك) الذي اعترف بأنه ليس من أهل الإفتاء، ومع ذلك تجشَّم الفتوى بغير علم، وحكم لليهود المعاصرين والنصارى والهندوس والبوذيين والقاديانيين والمشركين والمنافقين بأنهم من أهل الجنة، واستغرب أن هذه الجموع والمليارات من الأُمم مآلهم إلى النار، وما علم أَن الله تعالى خلقَ الجنة وخلق لها أهلها وهم في أصلاب آبائهم، وخلقَ للنار أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وأنه قال للنار: أنت عذابي أُعذِّب بكِ من أشاء، وللجنة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء، ولكل منكما عليَّ ملؤها. وأخبر تعالى بأن أكثر الناس هم الضالون في قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليلٌ من عبادي الشكور) (سبأ:13) ، وقوله: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّهُ فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين) (سبأ:20) ، وقوله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (يوسف:103) .

وقد أخبر الله عن إبليس أنه قال: (قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) (ص:82-83) ، وقال: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (الأعراف:17) ، ونحو ذلك من الأدلة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائةٌ وتسعة وتسعون. وواحدٌ في الجنة. محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع وقد أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وشريعته خاتمة الشرائع، ونسخ برسالته جميع الأديان، وكلَّف جميع الناس أن يتبعوه بقوله: (الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته وأتبعوه لعلكم تهتدون) (الأعراف:157-158) ، وقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (سبأ:28) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة" وقال: "بٌعثت إلى الأسود والأحمر". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أَن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم". وفي رواية: "حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به".

وأخبر صلى الله عليه وسلم بأركان الإسلام بقوله: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت". ولا شك أن من امتنع عن الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة ولم يُقم الصلاة ولا الزكاة والحج فليس بمسلم ولا مؤمن؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بي إلاّ دخل النار"، أو كما قال. وقد أنكر الله على اليهود قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة بقوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) (البقرة:80) ، فدل على أنهم من أهل النار وأن هذه المقالة صدرت بغير علم، كما أنكر عليهم قولهم: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة:111) ، وكذا قولهم: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) (البقرة:135) وهي الدين الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) (الحج:135) .

وقد أخبر الله تعالى بأن هذا هو الدين الذي اختاره ورضيه للأمة فقال تعالى: (حُرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) (المائدة:3) ، وقال: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران: 85) . والإسلام هو ما بني على الأركان الخمسة كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، فمن لم يدخل في هذا الإسلام ويحافظ على أركانه فهو من الخاسرين، والنار أولى به. أدلة تكفير اليهود والنصارى وقد ذم الله اليهود والنصارى حتى في سورة الفاتحة في قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (الفتحة:7) . فاليهود مغضو ب عليهم، والنصارى ضالون كما في الحديث الصحيح. وقد حكى الله عنهم مقالات كفرية كقوله: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير) (المائدة:17) . وكذلك: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إلهٌ واحدٌ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم) (المائدة:73) . (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) (المائدة:72) .

وقال عنهم: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) (التوبة:30) . الآيات في تكفير اليهود والنصارى وبيان نوع كفرهم وشركهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه كثيرة جداً. وقد دعاهم الله إلى الدخول في الإسلام بقوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً) (النساء:47) . وكل ذلك دليل كفرهم وخروجهم من الدين الصحيح وأنهم كذبوا بالحق لما جاءهم مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلذلك حلت عليهم اللعنة والغضب واستحقوا العذاب في الآخرة، قال تعالى: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بِما عصوا وكانوا يعتدون) (المائدة) ، ولا شك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به هو أعظم الكفر. وهم المرادون بقوله تعالى: (قل هل أنبّئُكم بشر مِنَ ذلك مثُوبةً عِند الله من لعنه الله وغضِب عليه وجعل مِنهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل) (المائدة:60) . فتأمل هذه الآيات وما بعدها وما يشبهها في سورة النساء تجد أن جميع من كذّب محمداً صلى الله عليه وسلم أو خرج عن شرعه أو أنكر رسالته أو ادعى أنه رسول العرب أو نصب العداوة للمسلمين أتباع هذه الشريعة المحمدية، أنه كافرٌ مستحقٌ لغضب الله ولعنته وعذابه، ولا ينفعه انتماؤه إلى الأديان السابقة والمنسوخة المحرَّفة. الإسلام هو الدين الصحيح وغيره محرف ومنسوخ وقد أقام الله البراهين والأدلة على صحة هذه الرسالة والشريعة وأمر بإبلاغها للخاص والعام، فمن بلغته فعاند وعصى وركب هواه واتبع الأديان الباطلة وتمادى في غيه، فإن مصيره إلى النار وبئس القرار.

ولا شك أن الأديان السماوية كانت سبيل النجاة قبل تحريفها ونسخها، لكنْ وقع من أهلها التحريفُ للكلم عن مواضعه، وتغييرُ شرع الله، ثم عصيان هذا النبي الكريم، فبطل التمسك بها؛ مع أن الأديان الباقية الآن كلها باطلة حيث دخلها الشرك بالله وعبادة الأنبياء كالمسيح وأمه والعُزَيْر والصالحين، وتغيير دين الله عما هو عليه، والتعبد بما لم يأذن به الله؛ فيُحكم عليهم بأنهم كفار فلا يدخلون في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة:62) . فالإيمان بالله يستلزم تصديق رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ويستلزم تقبل كلامه القرآن الكريم فلا يدخل في ذلك من كذب محمداً أو طعن في القرآن ولو عمل ما عمل من الصدقات والصلوات الباطلة. أعمال الكفار الصالحة وعبادتهم تكون هباءً منثوراً وقد أخبر الله أن أعمال الكفار تكون هباءً منثوراً، منها: أعمال أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالله وبرسله وكتبه. فقوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين) (المائدة:86) . دليلٌ على أنهم ليسوا على دين، وأن عبادتهم باطلة حيث لم يؤمنوا بما أُنزل إليهم من ربهم ولم يقيموا التوراة والإنجيل فإن إقامتها تستلزم اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فمن لم يتبعه لم يكن على شيء. وهكذا اشترط الله للأمن الإيمان بالله واليوم الآخر في قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة:62) .

فلابد من الإيمان بالله الذي يستلزم تصديق رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقبل منهم الإيمان إلا بشرط وهو التصديق بما جاءت به الرسل. ولا شك أن العمل الصالح الذي اشترطه الله للمؤمنين لا يحصل إلا بما وافق شرع الله المنزَّل على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإِيمان بأركانه الستة، ومنها الإِيمان بالرسل والكتب وهو يستلزم الاتباع للرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل بالكتب وخاتمها القرآن الكريم، فمن لم يتبعه فليس بمؤمن ولا ينفعه عمله، ولو عمل أي عمل. ومعلوم أن الإسلام في وقت كل نبي هو اتباع ما جاء به؛ فاتباع موسى في زمنه، واتباع عيسى في وقته سُمي إسلاماً، لكن زال بعد أن حُرِّفت تلك الشرائع ونُسخ ما بقي منها. ثم إن حجة الله قائمة، فكتاب الله تعالى محفوظ، وقد تُرجم وفُسِّر بكل اللغات، وانتشر الإِسلام وبلغ أَقصى الأرض وأَدناها ولم يبق لأحد عذر، حيث إن دين الإسلام مشهور معروف ولا يحتاج إلى زيادة تَعَلُّم، كل من دخل فيه أَمكنه أَن يعرف ما أوجب الله عليه في بضعة أيام، ويعمل بما يقدر عليه، ولا يلزمه معرفة التفاصيل دفعة واحدة، فالزكاة لا تلزم الفقير، والصوم لا يكون إلا في السنة مرة، وأحكامه سهلة، والحج في العمر مرة واحدة على المستطيع، والمحرمات يمكن معرفتها في مجلس واحد، فكيف يُقال إن اعتناق الإسلام يستدعي بضع سنوات في دراسته وعرضه على الأديان الأُخرى. وقد شوهِدَ أَنه دين الفطرة التي فطرَ الله الناس عليها، فمن لم يتبعه مع سماعه به فهو من أهل النار، ومن لم يبلغه ولم يسمع به فهو كأهل الفترات يحكم الله فيهم بما يشاء. والله المستعان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. شبهة بين مسلم ونصراني

السؤال:- يوجد معي في العمل نصراني، فأردت أن أناقشه في الدين لعل وعسى أن يسلم، وخلال المناقشة قال لي: كيف عرفت أني سأدخل النار؟! يمكن أن تكون أنت من أصحاب النار؟ فوسوس الشيطان في نفسي، فهل من كلمة توضحها لي أستطيع بها مناقشته، وأقنعه بالكلام أن الدين عند الله الإسلام، وأننا لعلى الصراط المستقيم، وهم في الضلال المبين؟ الجواب:- كل الفرق يدَّعون أن الصواب في جانبهم وأن غيرهم من أهل النار، فالنصارى يقولون: إنهم أهل الصواب، واليهود يقولون: إنهم أهل الصواب؛ حتى حكى الله عن اليهود أنهم قالوا كما جاء في كتابه الكريم: (لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً) (البقرة: 80) . وكذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: (لن يدخُل الجنّة إلا من كان هوداً أو نصارى) (البقرة:111) ، فهم يدّعون أن الجنة لهم، اليهود يقولون: إن الجنة لليهود، والنصارى يقولون: إن الجنة للنصارى، وأنتم الذين هم أتباع محمد من أهل النار هذا في زعمهم، ويدّعون أيضاً أنهم هم المسلمون: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا) (البقرة:135) ونحن نجادلهم: أولاً: نقول لهم: عليكم أن تنظروا في سيرة نبينا وفي معجزاته فهي دليل على صدقه وعلى نبوته، وأن تنظروا بما أيده الله به من القوة ومن التمكين، ومن النصر المبين؛ فهو دليل على أنه على حق وما أيد به أتباعه أيضاً، من النصر ومن القوة ومن نشر الدين، فهو دليل على أنهم على حق. ثانياً: عليكم أن تنظروا في شريعته التي جاء بها، فمن تأملها عرف أنها من عند الله، هذا القرآن الذي ألقاه الله، وهذه السنة التي نرى ونلاحظها، وهذه النواهي وهذه العبادات، لا شك أن من تأملها عرف أنها من عند الله ونقول لكم: أنتم ما عباداتكم؟ وما شريعتكم؟

نحن نعترف أن عندكم التوراة والإنجيل، ولكن قد دخلها التحريف والتبديل والتغيير الكثير فقد أضيف إليها ما ليس منها وتعددت، ولو لم يكن إلا أن عندكم أربعة تسمى أناجيل: إنجيل يوحنا، وإنجيل متى، وإنجيل كذا.. هل كلها مُنَزَّلة أو واحد مُنَزَّل؟ فإن كان المنزل منها واحداً، فما المنزل منها؟ نحن عندنا كتاب الله واحدا، وهو هذا القرآن المُنَزَّل لم يتعدد، إذاً فكيف مع ذلك لا تصدقون بهذه الشريعة وهي كاملة وافية، ليس فيها ما يغيرها؟ وشرائعكم قد غُيّرت، وأحكامها مُغَيّرة، وأوامرها وشرعياتها وعباداتها كلها مُغَيرَّة، ما عندكم إلا شيء قد دخله التغيير حتى الشركيات عندكم، واقتراف المحرمات وما أشبهها، فهذا دليل على أن هذه الشريعة هي الباقية التي يجب على كل من في الأرض أن يدين بها. الفترة معناها وأحكامها قال فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله في آخر رده السابق صـ (27) : (ومن لم يبلغه ولم يسمع به فهو كأهل الفترات يحكم الله فيهم بما يشاء) . ولمزيد من الفائدة فقد أوردنا بعض الأسئلة المتعلقة (بالفترة) على فضيلته حفظه الله: معنى الفترة ومقدارها

السؤال:- ما معنى الفترة وما مقدارها؟ الجواب:- قال الله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل) (المائدة:19) الآية. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة، فقال أبو عثمان النهدي، وقتادة: كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي، وعن قتادة أيضاً: خمسمائة وستون سنة، وقال معمر عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة والمشهور هو القول الأول، وهو أنها ستمائة سنة. إلخ. انتهى. ومعنى الفترة: أي الزمن الذي لم يبعث فيه أحد من الرسل، ومع ذلك فهذه الفترة لم ينقطع فيها أثر النبوة، فإن العرب لم يزل عندهم بقية من دين إبراهيم وإسماعيل، حيث إنهم يفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم، ولهذا ذكرهم الله بذلك بقوله: (مِلّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهيم هو سمَاكمُ المسلمين مِن قَبلٌ) (الحج:87) . فهم يعترفون بتوحيد الربوبية، ويخلصون لله العبادة في الشدة كلجة البحر، ويحجون البيت الحرام ويعتمرون، ويحترمون الأشهر الحرم، ويهدون الهدي، ويقلدونه القلائد التي أمر الله بعدم إحلالها، وعندهم خصال الفطرة: كالختان، ونحوه.

أما أهل الكتاب فعندهم التوراة والإنجيل والزبور، وفيهم دين أنبيائهم الذي توارثوه عن آبائهم، بما في ذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث: (يجدونه مكتوباً عِندهم في التوراة والإنجيل) (الأعراف:157) . ولكن لطول هذه الفترة، ولكون الأنبياء الأولين تختص رسالاتهم بأقوامهم؛ سمى الله هذا الزمن الذي بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى، وبينه وبين إبراهيم فترة، وذكر أهل الكتاب بذلك حيث إنهم أولى بقبول رسالته لمعرفتهم بالرسل ورسالاتهم ومعجزاتهم، فتكذيبهم له إنكار للحق مع وضوحه، وقد قال تعالى عن الجميع: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى مِن قبل قالوا ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون) (القصص:48) ، يعني موسى وهارون، أي: تعاونا وتناصرا، وقرئ (سحران) ، أي: التوراة والقرآن. أهل الفترة

السؤال:- من هم الذين يحكم بأنهم من أهل الفترة؟ الجواب:- يدخل فيهم الذين لم تبلغهم الرسالة ولم يعلموا بها، ولم يسمعوا بالشريعة، كالذين في أطراف الأرض وفي أقاصي البلاد، ممن نشأ في جهل عميق، ولم يكن حولهم من يعرفهم بالدِّين والتوحيد وعبادة الله تعالى، وحقه على العباد، كما يدخل فيهم أهل الفترة الذين انقطعت عنهم الرسالة، ولم يبق عندهم شيء من ميراث الأنبياء من الكتب والرسالات كما حصل لبني إسرائيل لما قتلهم بختنصر، وأحرق ما عندهم من الكتب المنزلة، ولم يبق إلا القليل الخافي أو ما في الصدور، ويدخل فيهم أيضاً من فقد السمع ولم يكن معه معرفة بالإشارة ونحوها، وكذا من فقد العقل كليّاً ولم يعرف ما يحدث في الناس، وهكذا من مات صغيراً ولم يدرك ما أدركه الأكابر من العقل والفطنة ونحو هؤلاء. من مات بعد مجيء الإسلام

السؤال:- من مات بعد مجيء الإسلام، ولكن لم تصله الرسالة أو وصلته ولكن ناقصة أو محرّفة -أي لم يصله الدين الصحيح- فهل يعتبر من أهل الفترة؟ الجواب:- لا شك أن نوع الإنسان مكلف ومأمور ومنهي، وعليه واجبات لربه، وقد خص الله نوع البشر بتكاليف حيث فضَّله بالعقل والتمييز، فمتى تم عقله وجبت عليه العبادات والفرائض الدينية، ووجب عليه ترك المحرمات، فإذا جهلها لزمه البحث والسؤال عما خُلِقَ له، فمتى فرط مع قدرته اعْتُبِرَ ملوماً. ولا شك أنه يوجد في الفترات من يجهل الإسلام، ولم يصل إليه عنه خبر، وكذا من يصل إليه خبر الإسلام مشوهاً محرفاً، أو ناقصاً، ولا يستطيع الوصول إلى من يعرِّفه الإسلام والتوحيد الصحيح، فمثل هذا قد يُعْذَر ويُلْحَق بأهل الفترات، ولكن الغالب أنه يقلد من قبله، ويتبع من يصده عن الهدى، فيكون معه في العذاب، كما قال تعالى: (قالت أخراهم لأولهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) (الأعراف:38-39) الآية، فأخراهم الأتباع، والأتباع، الذين أضلهم من قبلهم. وقال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا) (البقرة:166-167) فالذين اتبعوا هم الأبناء والمتأخرون الذين أضلهم من قبلهم، أخبر بأنهم رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب. وقال تعالى: (فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم) (إبراهيم:21) فالضعفاء هم الأولاد والأحفاد الذين قلدوا من قبلهم فلا ينجون من العذاب. وقال تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (الأحزاب:67) ، عذبهم باتباعهم أكابرهم على الضلال.

وقال تعالى: (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين) إلى قوله عنهم: (بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً) (سبأ الآيات:31-32) . وقال تعالى عنهم وهم في النار: (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار * قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار) (ص:60-61) . وقال تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) (النحل:25) وفي الحديث: "من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً". والله أعلم. وكل هذه الأدلة ونحوها كثير واضحة في أن الأتباع يعذبون مع أكابرهم ومن قبلهم ممن دعاهم إلى الضلال وأوقعهم في الكفر والشرك، وتدل على أن في إمكانهم اتِّباع الحق الذي كان موجوداً بعد الأنبياء والرسل، لكن غيَّره من أغواهم الشيطان. وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وهو أول من غيّر دين إبراهيم"، وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر". قال ابن كثير عند قوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة) (المائدة:103) بعد أن ساق أحاديث في معناها، "فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة، أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها، والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، إلى آخر كلامه رحمه الله". وقد دل الحديث على أن العرب كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل، ثم حدث بعد ذلك التغيير وعبادة الأصنام بسبب عمرو بن لحي وغيره.

ولا شك أن العرب يدركون أن دينهم باطل، كما انتبه لذلك بعضهم كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، ففي تراجمهم وأخبارهم ما يدل على أنهم أنكروا ما عليه قومهم، وأهل بلادهم من الشرك وعبادة الأصنام، فمنهم من ترك عبادة غير الله كزيد بن عمرو الذي قال في حقِّة النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده". وقال: "رأيته في الجنة يسحب ذيولاً"، وكذا ما ذكر في خطبة قس بن ساعدة التي نبه فيها على الدين الصحيح، واستدل بالآيات والمخلوقات على وحدانية الله تعالى، إلى غير ذلك. فأما غيرهم فقد ورد في حديث عياض بن حمار: "أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" رواه مسلم. وهو دليل على أن هناك بقايا قد تمسكوا بالدين الموروث عن أهل الكتاب. وكما تدل عليه قصة سلمان الفارسي حيث تنقل من عالم إلى عالم، يأخذ عنه التوحيد والعبادة، إلى أن هاجر إلى المدينة. والله أعلم. مصير أطفال المسلمين وأطفال المشركين

السؤال:- نرجو بيان القول الفصل والراجح في مصير أطفال المسلمين وأطفال المشركين بالتفصيل مع ذكر الأدلة من الكتاب والسنة؟ الجواب:- يُراد بالأطفال كل من مات قبل البلوغ ولم يدرك التكليف. # فأما أولاد المسلمين، فالصحيح: أنهم في الجنة مع آبائهم، وينتظرونهم عند أبواب الجنة، ويقال في الدعاء له عند موته في الصلاة عليه: "اللهم أجعله ذخراً لوالديه وفرطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً، الله ثقل به موازينهما إلخ..". وقد ذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) (الإسراء:15) : أن القاضي أبا يعلى حكى عن الإمام أحمد أنه قال: "لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة". وقد يستدل على ذلك بقوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتنهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين) (الطور:21) . # فأما أولاد المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ وآباؤهم كفَّار، ففيهم خلاف طويل، وقد تكلم عليهم ابن القيم في طريق الهجرتين في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين، فذكر فيهم ثمانية أقوال: الأول: الوقف فيهم وترك الشهادة بأنهم في الجنة أو في النار، ودليله ما في الصحيحين عن أبي هريرة وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يموت وهو صغير من أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". الثاني: أنهم في النار: لما روى أبو عقيل عن بهية عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال: "في النار" وأبو عقيل ضعيف. الثالث: أنهم في الجنة لما في حديث سمرة الطويل في المنام عند البخاري لما ذكر أن الولدان مع إبراهيم الخليل قيل له: "وأولاد المشركين؟ " قال: "وأولاد المشركين". الرابع: أنهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار، كأصحاب الأعراف، ثم أنكر هذا القول ورده. الخامس: أنهم تحت المشيئة، وهذا قول المرجئة.

السادس: أنهم خدم أهل الجنة، يعني الولدان الذين ذكرهم الله بقوله: (يطوف عليهم ولدان مخلدون) (الواقعة:17) . وذكر عن الدارقطني حديثاً عن أنس مرفوعاً: "سألت ربي للاهين من البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم فهم خدام أهل الجنة"، وهو حديث ضعيف. السابع: أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فكما هم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة، أي لو أسلم الآباء بعد موت الأطفال كان أولادهم معهم في الحكم. الثامن: أنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويرسل إليهم هناك رسول، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، أي: عند امتحانهم واختبارهم يظهر معلوم الله فيهم، ويتبين من يعلم الله فيه الخير أو الشر، ويجازون حسب ما يعلم الله فيهم من الأهلية واستحقاق الثواب أو العقاب. وقد وردت بذلك أخبار كثيرة، ذكر بعضها ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) (الإسراء:15) وابن القيم في الطبقة الرابعة عشرة في القول الثامن فيهم في آخر طريق الهجرتين. والله أعلم. كيف حكم عليهم بأنهم من أهل النار؟

السؤال:- ورد بأن أهل الفترة يختبرون، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم حَكَمَ على بعض من مات قبل الرسالة بالنار فعندما سأله رجل عن أبيه فقال: "أبوك في النار". ثم قال له: "إن أبي وأباك في النار". فكيف حكم عليهم بأنهم من أهل النار مع أنهم ماتوا قبل مجيء الرسالة؟ أليسوا من أهل الفترة؟ الجواب:- وردت أحاديث كثيرة في امتحانهم في الدار الآخرة ذكرها ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) (الإسراء:15) وابن القيم في كتابه: "طريق الهجرتين" في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين. وأشهرها حديث الأسود بن سريع الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل أصم لا يسمع، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات في الفترة" وفيه: "فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسول أن ادخلوا النار، فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً"، ثم رواه عن أبي هريرة وقال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها رد إليها". ومنها حديث أبي سعيد الخدري رواه محمد بن يحيى الذهلي والبزار عن عطية العوفي عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة، والمعتوه والمولود يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً، ويقول المولود: رب لم أدرك العقل، فترفع لهم نار فيقال لهم: ردوها. قال: فيردها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول: إياي عصيتم فكيف لو أن رسلي أتتكم". وفي رواية البزار: "فكيف برسلي بالغيب" قال بزار: لا يعرف إلا من طريق عطية عنه.

ومنها حديث معاذ بن جبل ذكره عن محمد بن المبارك الصوري، بإسناده عنه مرفوعاً: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً، وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيراً، فيقول الممسوخ: يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد مني، وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك، فيقول الرب عز وجل: إني آمركم بأمر فتطيعوني فيقولون: نعم، فيقول: اذهبوا فادخلوا النار. قال: ولو دخلوها ما ضرتهم، فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعاً ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك، فيقول الرب عز وجل: قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون، ضميهم، فتأخذهم النار"، وفي إسناده ضعف. لكن يتقوَّى بالشواهد والطرق الأخرى والأحاديث التي ذكرها ابن كثير وغيره. فهذه الأحاديث بمجموعها تثبت جنس الامتحان في يوم القيامة، حتى لا يعذب الله تعالى من لا يستحق العذاب. وقد نقل ابن القيم وابن كثير عن ابن عبد البر أنه قال: "أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها" اهـ. وأجاب ابن القيم بوجوه: منها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل صححوا بعضها، فحديث الأسود رواه أحمد وإسحاق وابن المديني، فهو أجود من كثير من أحاديث الأحكام. ومنها: أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة، فدل على أنهم عملوا بالأحاديث، وذكر البيهقي في الاعتقاد له: أن بعض الأئمة نصوا على الامتحان، وقالوا: لا ينقطع إلا بدخول دار القرار. ومنها: ما في الصحيح: في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وأنه يعطي ربه عهوداً ومواثيق أن لا يسأل غير ما سأل، ثم يسأل، فيقول الله له: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك، فالغدر مخالفة للعهد الذي عاهد عليه ربه.

ومنها: قوله تعالى: (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) (القلم:42) ، فهو صريح في أن الله يدعوهم إلى السجود في القيامة، وأن الكفار لا يستطيعونه إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. فأما الذين جزم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار، فلعله قد اطلع على ذلك كما تقدم أنه رأى عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، أي أمعاءه؛ لأنه أول من غيَّر دين إبراهيم، وهكذا قوله في حديث ابن مسعود عند أبي داود: "الوائدة والموؤودة في النار"، وفي رواية: "إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم"، ذكره ابن كثير، وقال: إسناده حسن. وحيث إن مشركي العرب عندهم بقية من دين إسماعيل، ولكنهم قلدوا آباءهم في الكفر وعبادة الأصنام. فلا مانع من تعذيبهم على ذلك، والحكم عليهم بأنهم من أهل النار، فإن كان منهم من لم تقم عليهم الحجة، وعاش في جهل وَبُعْدٍ عن شرع الله، ولم يتمكن من البحث عن الدين الصحيح، فله حكم أهل الفترة، وحكم أولاد المشركين، وأما من كان قادراً على البحث وقد أعطاه عقلاً وإدراكاً وعنده آثار وبقايا من دين إبراهيم وإسماعيل، وأصر على عبادة غير الله وهو يعترف بأن الله تعالى هو الرب خالق كل شيء، بما تلقاه عن آبائه وأجداده، ومع ذلك يخلص العبادة لله وحده إذا كان في لجة البحر، ويعلم أنه لا ينجي منه إلا الله تعالى، ثم يعود إلى الشرك، كما هو حال مشركي العرب، فلا مانع من أن يجزم لهم بأنهم من أهل النار إذا ورد فيهم حديث ينص على ذلك، والله يحكم بين عباده، ولا يظلم ربك أحداً، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب، ويعترف على نفسه كما حكى الله عنهم قولهم: (وقالوا لو كُنّا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) (الملك:10) . فهذا ما ظهر لي، ومن لديه جواب غير هذا وله وجه من النظر فله أن يقول به.

وقد كتب السيوطي رسالة في نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وهي مطبوعة في " الحاوي "، ولكنه تكلف فيها وردَّ الأحاديث الصحيحة، وأنكر عليه شيخنا عبد العزيز بن باز وغيره، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الجهل وآثاره السيئة

الجهل وآثاره السيئة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على النبي المكرم وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فقد كنت ألقيت محاضرة في إسكان الحرس الوطني وكان الحاضرون غالباً من العامة وكبار الأسنان فتكلمت عن الجهل وآثاره السيئة مما يناسب المخاطبين واقتصرت على النتائج المشاهدة الناتجة عن الجهل بالله تعالى وعظمته وحدوده ووعده ووعيده وعن إزالة الجهل ووسائل التعليم القديمة والحديثة ثم إنها سجلت وما معها من الأسئلة والأجوبة فنسخها الأخ/ طارق بن محمد الخويطر ورغب في نشرها لتعم الفائدة وبعد عرضها علي صححت الأخطاء التي نتجت عن الارتجال وعدم التركيز وحذفت التكرار وأذنت في نشرها رجاء أن ينفع الله بها من أراد به خيراً ولم أتكلم فيها عن الجهل البسيط والجهل المركب ولا عن فضل العلم وأهله وحق حملته ونحو ذلك مما لا مناسبة له إذ ذاك وبكل حال فالإعراض عن التعلم والإكباب على اللهو واللعب والانهماك في الملذات والشهوات والانشغال بالدنيا وبحضوض النفس كل هذا ونحوه سبب قوي لما وقع فيه الجمع الغفير من المخالفات واقتراف المحرمات والتخلف عن الجمع والجماعات وتعاطي المسكرات والمخدرات فإنهم لو تعلموا وتفقهوا لعرفوا سوء عاقبة هذه الأشياء وشين مغبتها فلعلهم أن يراجعوا أنفسهم ويفيقوا من غفلتهم ليعرفوا ويعترفوا بخطئهم فيتوبوا إلى ربهم ويقلعوا عن المحرمات ويحافظوا على الصلوات والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم في 16/1/1415هـ. كتبه: عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين الجهل وآثاره السيئة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير.. أحمد الله إليكم وأشكره وأثني عليه وأستغفره، وأشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه..

أيها الاخوة: لا شك إن شاء الله أنكم ممن يحب العلم، وممن يحب الخير، وممن يحب العبادة ويعمل بها بحسب الجهد والطاقة، فإن المؤمن يدفعه إيمانه إلى فعل العبادات، فما الذي أجلسكم هاهنا إلا طلب الفائدة، وما الذي أنهزكم من مساكنكم إلى المسجد إلا طلب الأجر، فطلب الأجر وطلب الثواب من الله تعالى هو قصد كل مسلم وكل مؤمن ومع ذلك فإن كثيراً من المؤمنين الذين آمنوا بالله إلهاً ورباً والذين صدقوا بنبيه رسولاً والذين انتموا إلى هذا الدين، وافتخروا به شريعة وعبادة ينقصهم بعض العلم، ينقصهم علم بتفاصيل الشريعة، وقد ينقصهم علم بأصولها وبأساسها، فينتج من هذا النقص آثار سيئة هي آثار هذا الجهل الذي هو الجهل بالله وبحقوقه، والجهل بالإسلام ونتائجه، والجهل بالعبادات والجهل بالمحرمات، وسبب الجهل هو الإعراض من كثير من الناس وعدم الاهتمام، فكثير من الناس يعتقد أنه مجرد ما يقول أنا مسلم ويفعل ما يفعله أهل بيئته ومجتمعه يكتفي بذلك، أو كثير من الناس يولد بين أبوين مسلمين ولكن.. في قرية أو في بلدة بعيدة ونازحة عن سماع القرآن وعن سماع الذكر، وسماع النصائح والعلوم والخير فيبقى على جهله ويبقى شغله بدنياه إما شغله بدوابه التي هي معاشه ومعاش عوائله، وإما شغله بحرفة وبصناعة وبعمل ونحو ذلك، ولا شك أن هذا كله خطأ، وأن الواجب على الإنسان أول ما يعرف أن يتعلم ما خلق له، وأن يتعلم ما أمر به حتى يزيل الجهل عن نفسه، فإنه إذا بقي جاهلاً نتج عن هذا الجهل آثار سيئة. أحب أن أذكر أولاً حقيقة الجهل وبأي شيء يكون ثم أذكر بعد ذلك إزالة الجهل والأسباب التي يزول بها ويمكن أن أذكر قبل ذلك النتائج والآثار السيئة التي حصلت بسبب البقاء على الجهل وأنها آثار سيئة، أقول وبالله التوفيق: الجهل ينقسم إلى: جهل بالله وبعبادته.

وإلى جهل بالشريعة وبالحقوق التي على الإنسان لربه سواءً مما أمر بفعله أو أمر بتركه، والواجب أن يزيل هذا الجهل أما الجهل بالله فإن كثيراً من الناس يعتقدون أن الله تعالى هو ربهم ولكن ينقصهم العلم بأن الله معهم حيث ما كانوا، وينقصهم العلم أن الله تعالى يراهم أينما قاموا، ينقصهم العلم بأن الله شديد العقاب، وينقصهم العلم بأن الله يثيب ويعاقب، والعلم بشدة العذاب، والعلم بكثرة الثواب، جهلوا هذه الأشياء، جهلوا عقاب الله فلم يهمهم ما فعلوا من المعاصي، جهلوا مراقبة ربهم فلم يهمهم ما وقعوا فيه، جهلوا عظمته وكبرياءه فلم يخافوه، ولم يحبوه، ولم يرجوه، جهلوا ما أمروا به فلم يمتثلوا ما نهوا عنه، ولم ينزجروا، فلا شك أن هذا الجهل من قلة الاهتمام فلا يجوز مثلاً أن يبقى الإنسان على هذا الجهل الذي هو جهل بالعقيدة، فنحن بحاجة إلى أن نتعلم هذه الأشياء وقد كتب فيها وقد ألفت فيها المؤلفات وقد اشتمل عليها القرآن، فمثلاً الذي يستحضر أن الله تعالى معه دائماً كيف يعصيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله تعالى معك حيثما كنت)) . (عزاه صاحب الكنز إلى الطبراني عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه-) . وقال تعالى: ((الذي يراك حين تقوم* وتقلبك في الساجدين* إنه هو السميع العليم)) . (سورة الشعراء: الآيات 218، 219، 220) . لاشك أن الذي يستحضر أن الله يراه ويطلع عليه، ويعلم سره ونجواه ويعلم ما توسوس به نفسه، كما في قوله تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان ونعلم وما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) . (سورة (ق) : الآية، 16) . ويستحضر أن الله يطلع على ضميره ويعلم حديث قلبه ويعلم ما توسوس به نفسه؛ لا شك أنه يخافه أشد الخوف ويرجوه أشد الرجاء، ويحبه غاية المحبة، ويعبده حق العبادة، ويجاهد فيه حق الجهاد، ويبتعد عن المحرمات ويكثر من الحسنات، وما ذاك إلا أن قلبه امتلأ بمعرفة ربه، امتلأ بما

يدل على التعظيم فكان أبعد عن الحرام، وكان أقرب إلى طلب الحلال، والاستكثار من العبادات والقربات فهذا أثر من آثار الإعراض عن الله تعالى. وكثير من الناس أيضاً أعرضوا عن التعلم الذي هو تعلمهم الشرائع فوقعوا في بدع وفي منكرات أو تعلموا ضد ما أمروا به فوقعت منهم تلك البدع والخرافات، يذكر كثير من المشايخ الذين زاروا بعض البلاد النائية في داخل المملكة أن عندهم أشياء من البدع وعندهم شركيات وعندهم محرمات وإذا سئلوا لماذا تفعلون هذا؟! يقولون لا نعلم الحكم ولا ندري ما حكمها، ونعتقد أنها مباحة، أو أنها لا بأس بها. فمنها التعاليق ويسمونها (الحروز) أو يسمونها (الحجب) وهي خرزات مثلاً أو حديد أو خيوط أو شعر أو نحو ذلك، يجعلونه في خرقة ثم يجعلون معه عوذة أو صورة أو نحو ذلك أو سن ذئب أو نابه أو ما أشبه ذلك، ويقولون إن هذا يحجبنا عن الجن ويحرسنا عن ضررهم وما دروا أن هذا من الشرك، وما سمعوا أو ما قرؤوا أن سبب ذلك الجهل وإلا فلو قرؤوا الكتب لوجدوا فيها الحكم الصريح، مثل كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ونحوه لو قرؤوه لوجدوا به علاج تلك الأشياء، هذا أثر من آثار الجهل يعني بهذا التعاليق ونحوها. ويذكرون أن بعضهم إذا أرادوا بناء بيت أو تأسيسه ذبحوا عند الأساس كبشاً أو دجاجاً أو نحو ذلك وقالوا إن هذا الذبح يطرد الجن حتى لا يضرونا في مساكننا وغيرها. وما دروا أن هذا شرك لأنه ذبح لغير الله وإن الجن يكفيهم الاستعاذة والتحفظ بالله تعالى والتعوذ بأسمائه وصفاته وتكفي الاستعاذة من شرورهم وما أشبه ذلك.

كذلك أيضاً فشا في كثير من البلدان أنواع من الشركيات هي السحر والشعوذة واستخدام الشياطين، وادعا معرفة المغيبات وما أشبهها وما أكثرها في كثير من أطراف المملكة وفي وسط المملكة، وليس العجب من الذين يدعون الشعوذة والسحر وعمله فإن أولئك عبيد للشياطين فالسحرة والكهنة ونحوهم، هؤلاء عبدوا الشياطين، هؤلاء قد خرجوا من الإسلام، هؤلاء قد وقعوا في هذه الآثام وقد تخلوا عن دين الله – سبحانه وتعالى -، ولكن العجب من الذين يصدقونهم، العجب من الذين يتهافتون إليهم ويأتون إليهم ويسألونهم ويعتقدون أنهم على حق وأنهم مصيبون وأنهم وأنهم ... وما الذي حملهم على ذلك؟ حملهم الجهل. لو قرأوا هذا الكتاب الذي هو كتاب التوحيد لحصل لهم المعرفة بهذا الحكم، وتنوروا في بصائرهم وفي معرفتهم، ولكن اعتقدوا أن هؤلاء قد تميزوا وقد عرفوا وقد فضلوا غيرهم، وأنهم وأنهم..، وما دروا أنهم ممن عبد الشيطان وتقرب إليه بهذه القربات حتى خدمه الشيطان وأصبح من أعوانه.

كذلك فشت أيضاً فيهم بدع المحدثات ونحوها فبدع الموالد والاعتناء بالمولد النبوي أو بمولد الإنسان نفسه، وهذه أيضاً سببها الجهل، وإلا فلو قرؤوا كتب الشريعة لعلموا أن البدع كلها ضلالة، وهم يسمعون قول كل خطيب أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ولكن لا يفقهون ولا يفهمون ما المراد بذلك، فبقوا على جهلهم واستحكمت فيهم تلك العادات فأصبحوا يعدونها من العبادات أو من القربات ولا شك أن هذا أثر من آثار الجهل السيئة، والكلام على البدع مذكور في كتب ألفت في ذلك لو قرؤوها لوجدوا فيها الشفاء فلو قرؤوا كتاباً مطبوعاً اسمه (البدع والنهي عنها، لمحمد بن وضاح) أو اقرؤوا (الباعث على إنكار الحوادث، لأبي شامة) أو غيرها من الكتب لما وقعوا في هذه المحدثات ولا في هذه المنكرات، وفي كثير من البلاد الإسلامية وفي داخل المملكة فشت المعاصي بكثرة، وهي وسيلة من وسائل المحرمات، فمنها مثلاً معصية التبرج أو السفور، فكثير من البلاد نساؤهم كرجالهم لا تحتجب المرأة ولا تستر وجهها عن الأجانب، بل إذا جاءها أجنبي أو نزل بها ضيف قامت مقام الرجال، فهي تصافحه وربما تعانقه، ولو كان أجنبياً وتجلس معه وتكلمه خالية، أو معها غيرها أو ما أشبه ذلك، ولا شك أن هذا سببه الجهل والعادات السيئة، عادات نشأت عليها ولقيت عليها أماً وجدة، وجدة أم ونحوهن واعتقدوا أنها سنة أو أنها مباحة، ولا شك أن الذي حملهم على ذلك هو الجهل بالشريعة وإلا فلو أمعنوا في قراءة القرآن ولو قرؤوا السنة ولو قرؤوا كتب أهل العلم لما بقوا على هذا الجهل ولما وقعوا في هذه الآثار آثار الجهل السيئ، ولا شك أن هذا ذنب كبير وهو اختلاط المرأة بالرجال الأجانب وجلوسها معهم وسفورها وإبداؤها لزينتها أمام من ليس بمحرم لها، وكأنهم ما قرؤوا كتاب الله تعالى الذي نص على تحريم ذلك في آيات كثيرة ولكن الجهل داء قاتل، الجهل بالله وبحقوق الله تعالى أوقع في مثل هذه الأشياء وهناك أيضاً

معاص كثيرة سببها الإعراض عن العلم فالمعاصي لا يمكن دخولها الآن تحت الحصر ولكن نذكر بعض الأمثلة على وجه السرد والإيجاز فنقول: ما شربت الخمور إلا بسبب الجهل، فكثير من الناس تعاطوا الخمور وادعوا أنها ليست ممنوعة، أو أنها ليست حراماً، وسموها مثلاً نبيذاً أو شراباً روحياً، وما أشبه ذلك، أو رأوا من يشربها واعتمدوا على أنها جائزة أو رأوها يتعامل بها أو تصنع فتعاطوها إما سراً وإما جهراً ولم يردعهم عن ذلك رادع ولو عرفوا مافي القرآن الكريم لعرفوا أنها محرمة غاية التحريم، ولكن بسبب الجهل والإعراض عن أحكام الشريعة وقعوا فيما وقعوا فيه. كذلك مثلاً فشا شرب الدخان، الذي هو مصيبة الزمان وحادثة كبيرة في هذه الأزمنة وهو الذي لا نفع فيه ولا شفاء ولا سلوه ولا أية عذر يبيحه وإنما هو تسويل من الشيطان، ودعوة من أعداء الله دعوة إليه حيث لهم فيه مصلحة وحيث أن للمسلمين فيه مضرة لأجل ذلك وقع الكثير فيه فما الذي أوقعهم فيه؟ هو الجهل. وذلك لأنهم جهلوا مضاره الكثيرة التي كتب العلماء فيها وجهلوا حكمه ورأوا كثرة من يشربه ومن يتعاطا ومن يتبادله فاحتجوا بذلك وما علموا أن الباطل باطل وإن كثر أهله (لا كثرهم الله) ولو كانوا على علم لما وقعوا في مثل هذا الشيء وأكثر منه.

كثير من الناس أيضاً وقعوا في حلق اللحى أو قصها أو نحو ذلك هذا أيضاً بسبب الجهل وذلك لأنهم رأوا كثرة من يفعلها من الذين هم إما مسلمون متسمون وإما غير مسلمين ممن قدم إلى البلاد من غير أهلها فرأوا كثرتهم وادعوا أنهم على صواب، وادعوا أنه لا بأس بذلك وأعرضوا عن سماع العلم، وأعرضوا عن سماع الأحاديث، أو أعرضوا عن تأملها والعمل بها، فكان في ذلك الانهماك في هذا المحرم وما علموا أن هذا معصية وذنب كبير، مع الإصرار عليه يصير من كبائر الذنوب والعياذ بالله، وسبب نشوئه وكثرته الجهل والتقليد الأعمى لمن يفعله عن جهل فأولئك فعلوه عن جهل بالشريعة وهؤلاء فعلوه عن تحسين الظن بمن فعله ولا شك أن هذا أيضاً من المصائب.

وهناك أيضاً معصية أخرى وهي اللعب بالقمار ونحوه، فكثير من الناس ينهمكون طوال ليلهم في هذا اللعب إما بعوض وإما بغير عوض، فالذي بعوض هو الميسر الذي حرمه الله وقرنه بالخمر، والذي بغير عوض هو اللهو، فما الذي حمل أحدهم أن يشتري آلات اللهو ويملأ به بيته أو يسهر مع زملائه ومع أصدقائه من كل ليلة خمس ساعات أو ست ساعات وهو على هذا اللعب وعلى هذا اللهو في ضحك وقهقهة وفي لهو وباطل حتى يمضي نصف الليل أو أكثر وحتى لا يبقى إلا الوقت الفاضل الذي هو وقت نزول الرحمة ثم ينامون ويفوتهم الخير الكثير فلا شك أنهم على جهل ولو كان معهم علم لما استباحوا هذا الذي حرمه الله ونهى عنه وأكد النهي عنه ولكن الجهل داء قاتل وهو الذي أوقعهم في ذلك فإنهم مثلاً قد يفوتهم خيرً، ويقعون في شر، فالذي يفوتهم هو الذكر والقراءة والعبادة ونحوها، والذي يقعون فيه هو سماع المنكر والسهر المحرم وكذلك أخذ العوض المحرم، الذي هو المال الذي يبذلونه من نقود أو أموال ونحو ذلك، كذلك أيضاً ما قد يصحبهم من الملاهي ونحوها، فإن هذا كله بسبب الجهل، وهناك من انهمكوا في آلات اللهو فملؤوا البيوت من الأغاني أو آلات الغناء المحرمة التي يقصدون كما يزعمون بها التسلية والترفيه عن النفس وكما يقول تنشيط البدن والقلب، ولا شك أن هذا ليس بصحيح بل هو باطل فإن الغناء سماعاً أو رؤية أو مشاهدة سواء كان سماعاً من مغنِّ يتغنى به أو أن الإنسان نفسه يغني ويقرأ الشعر بترنم أو يسمعه من أشرطة أو من أفلام أو ما شابه ذلك لا شك أنه محرم ولهو لكن الذي أوقعهم فيه هو الجهل، وذلك لأنهم رأوا كثرة من يفعله وأعرضوا عن سماع النصائح ولم يشتغلوا بقراءة الكتب التي تحذره وتبين حكمه وادعوا أنه حلال فأنت تسأل العشرات فيقولون حلال مباح لا بأس به وكأنهم ما قرأوا شيئاً مع كثرة ما ينشر فيه، ومع كثرة ما يطبع وما ينشر من المؤلفات والكتب المتقدمة والمتأخرة، ولكن هؤلاء الذين وقعوا

فيه وادعوا أنهم معذورون ليسوا بمعذورين وذلك لكثرة من كتب فيه من العلماء المتقدمين والمتأخرين وبينوا الأدلة على تحريمه وعلى آثاره السيئة فبسببه _ والعياذ بالله _ حصل الفجور أوهو من أكبر أسباب الفجور الذي قد انتشر وهو الزنا _ والعياذ بالله _ فكل واحد يعرف أنه حرام ولكن له دوافع وله مسببات وبه مبررات هي: مشاهدة هذه الصور الخليعة، وسماع تلك الأغنيات الفاتنة التي تسمعها المرأة فتشتاق، أو يسمعها الرجل فتثور شهوته، فيكون ذلك من الأسباب الدافعة لكثير منهم إلى فعل الفاحشة مهما استطاع، نقول لا شك أن هذا كله بسبب الإعراض عن ما كتبه العلماء أو عن ما ذكروه وما أشبه ذلك.

ومعلوم أن شريعة الله تعالى كاملة وفيها كل ما تمس إليه الحاجة وكل ما يحتاج إليه الناس ثم قد يسر الله علماء أجلاء خدموا هذه الشريعة وأوضحوا الأحكام منها وبينوا ما فيها من الحلال والحرام وكتبوا ذلك ونشروه ودعوا إلى تعلمه وتفهمه فلا عذر لأحد في أن يبقى معرضاً أو في أن يبقى جاهلاً وبكل حال فإن آثار الجهل كثيرة وإن هذا نموذج من الآثار: نقول ما تركت الصلوات إلا بسبب الجهل أو ادعائه، وما تخلف أناس كثيرون عن الجماعات إلا بسبب الجهل وآثاره السيئة، وما شربت الخمور والدخان إلا بسبب الجهل وبالإعراض عن العلم، وما حلقت اللحى مثلاً وأسبلت الثياب وأطيلت الشوارب وخولفت السنة إلا بسبب الجهل أيضاً، كذلك ما فشت البدع والموالد وإحياء بعض الليالي باللهو واللعب ونحو ذلك إلا بسبب الجهل، وما انتشر الغناء واللهو والطرب والسهر على القمار ونحو ذلك إلا بسبب الجهل وما تبرج النساء واختلطن بالرجال وفشا الزنا والعهر، ونحو ذلك إلا بسبب الجهل، كذلك ما عبدت القبور ونذر لها وذبح لغير الله وعلقت التمائم والحروز، واستعملت الرقى الشركية وأشباهها إلا بسبب الجهل وما عظم السحرة والمشعوذون والكهنة والكذابون ونحوهم إلا بسبب الجهل، الذي خيم على كثير من القلوب وأعرض أهلها بسبب إحسانهم بأنفسهم الظن، وما أشبه ذلك، لا شك أن للجهل آثار سيئة إذا علمنا أن هذه آثار فمعلوم أيضاً أن آثاره الأخروية أشد.

وهذه المعاصي التي ذكرنا منها ما هو كفر وشرك كالسحر والكهانة وإتيان الكهنة وتصديقهم وتعليق التمائم والذبح لغير الله والنذر لغير الله وما أشبه ذلك، ومنها بدع ومحدثات كإحياء الموالد وزيادة عبادات لم يشرعها الله وما أشبه ذلك، ومنها ما هو معاص كسرقة وقطع طريق ونهب مال، وأكل ربا، وأكل أموال اليتامى، وأكل السحت، والرشوة وشرب الخمور، وشرب الدخان وتعاطي المخدرات، والزنا والتبرج ومقدمات ذلك وسماع الأغاني ونحوها، وتسمى هذه الكبائر معاصي ولكنها كبائر لا سيما مع الإصرار عليها فإذا علمنا أن هذه من آثار الجهل فإن لها أيضاً عقوبات وذلك لأن أهلها ولو ادعوا أنهم جهلة وأنهم لا يعرفون نقول لهم: لستم بمعذورين فأنتم مسلمون وأنتم مكلفون وأنتم تعترفون بأن لكم شريعة وبأن الله أنزل عليكم القرآن، والرسول علمكم السنة وأورثكم إياها التي هي بيان للقرآن، فلديكم الأدلة الواضحة وعندكم ما تستنيرون به فلا عذر لأحد في أن يبقى على هذا الجهل إذن فما هي الآثار: ألا تخافون أن يقع بكم ما وقع بغيركم من آثار هذه المخالفات وهذه المعاصي فإن الله تعالى عاقب من قبلنا بعقوبات متباينة شديدة بسبب الكفر والشرك والمعاصي وتكذيب الرسل إما قولياً أو فعلياً فما الذي أخرج آدم من الجنة؟ أخرج الله آدم من الجنة لذنب واحد لما أكل من الشجرة وقد نهي عنها، آدم أخرج من الجنة بذنب واحد، وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها وترجون أن تدخلوا الجنة.

وما الذي أغرق قوم نوح بالطوفان الذي ارتفع على رؤوس الجبال نحو سبعين ذراعاً فوق رأس كل جبل أليس سببه التكذيب؟ أليس سببه هو الشرك والمعاصي وهي قد فشت وانتشرت، وما الذي أهلك قوم عاد؟ أرسل الله عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى، ما الذي سبب ذلك؟ أليس هو تكذيبهم؟ أليس هو معصيتهم وذنبهم؟ وما الذي أهلك قوم صالح حيث أرسل الله عليهم صيحة، صاح بهم ملك فتقطعت قلوبهم في أجوافهم؛ فأصبحوا صرعى كموت رجل واحد لما أنهم عقروا الناقة وقالوا: ((يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين)) . (سورة الأعراف، الآية: 77) ، لا شك أن ذلك من آثار الجهل، وهكذا نتذكر عقوبة الله لقوم لوط لما فعوا الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين وهو كونهم استحلوا نكاح الذكران. قال تعالى: ((أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم)) . (سورة الشعراء، الآيتان: 165، 166) .فعاقبهم الله فأرسل لهم ملكاً اقتلع بلادهم ورفعها حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم قلبها. قال تعالى: ((فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد)) . (سورة هود، الآيتان: 82، 83) . أي المصر على فعلهم يترقب أن ينزل به ما نزل بهم ولهذا ذكر بعض العلماء أن عقوبة فاعل فاحشة اللواط فعل قوم لوط أنه يلقى من أعلى شاهق أو من أعلى بناء في البلد، يلقى على رأسه ثم يتبع الحجارة تشبيهاً بما حصل لقوم لوط من هذه العقوبة، كذلك قوم شعيب أهلكهم الله تعالى بالظلة وذلك أنهم أصابهم حر شديد وغم لما أنهم كذبوا شعيباً فمرت بهم سحابة فاعتقدوا أن بها ظلاً يريحون به أنفسهم ويبردهم فلما اجتمعوا بها نزل عليهم بها نار فأحرقهم فماتوا عقوبة لهم لما كذبوا بنبيهم، وحكى الله تعالى أيضاً ما عاقب الله

به قوم فرعون عندما أغرقهم وقوم موسى ينظرون إليهم حيث دخلوا البحر فلما تكاملوا فيه أمره الله تعالى فانطبق عليهم فذهبت أرواحهم للحرق وأجسادهم للغرق كذلك أيضاً ذكر الله _عز وجل_ ما عاقب به قوم موسى الذين هم أصحاب موسى لما أنهم لم يطيعوه على دخول القرية فعاقبهم الله تعالى بالتيه فتاهوا أربعين سنة يتيهون في الأرض لا يهتدون سبيلاً ولا يدرون أين يتوجهون لما أنهم عصوه في معصية واحدة وهي قولهم: ((فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)) . (سورة المائدة، الآية24) . نتذكر أن هذه العقوبة من آثار عقوبات المعاصي ونحوها تلك المعاصي التي قد يكون سببها الجهل والاعراض عن الشريعةالتي خلق الإنسان لها وأمر بها.

نتذكر أيضاً أن الله _ سبحانه وتعالى _ لما حرم هذه المحرمات جعل لها عقوبتين: العقوبة الدنيوية للزجر فمثلاً لو سرق مقدار ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم عقوبتها أنها تقطع يده، اليد التي فيها نصف الدية تقطع إذا سرق هذا المبلغ اليسير الذي هو مثلاً قيمة الترس لو سرق رجلاً ترساً (الذي يوضع على رأس المجاهد) لقطعت يده وقد سرق رجلً رداء إنسان يعني كرداء المحرم فقطعت يده. (رواه النسائي 8/69) . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم برداءة نفس السارق حيث قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده. (رواه مسلم 3/1314) . (البيضة هي التي توضع على رأس المقاتلين) ، (والحبل حبل السفينة الذي يمسكها) يعني أن هذا شيء زهيد تقطع فيه اليد، لماذا؟ ذلك لتعظيم الذنب الذي يوقع في هذه العقوبة وذلك أن السارق يخيل إليه أن هذه السرقة لا إثم فيها ولا ذنب وأنه بسببها سيحصل على مال وسينجو ولكن لا يتذكر أنه ربما يقبض عليه أو يقطع رأسه أو تقطع يده أو رجله أو ما أشبه ذلك، والله تعالى ذكر حكم قطاع الطريق الذين يجلسون في الطريق فمن مر بهم اغتصبوا ماله وإن قاومهم قاتلوه، قال تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)) . (سورة المائدة، الآية 33) .

يقول ابن عباس: إذا قتلوا أحداً وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا أي صلبوا على خشبة مرتفعة ليكون زجراً عن أفعالهم السيئة وأما إذا قتلوا ولم يأخذوا المال فإنهم يقتلون ولا يصلبون أما إذا أخذوا المال ولم يقتلوا فإنهم يقطع من كل واحد منهم يد من جانب ورجل من جانب وهو معنى قوله: ((تقطع أيدهم وأرجلهم من خلاف)) . وإذا قطعوا يداً تقطع أيدهم مثلها فلو كانوا عشرين واجتمعوا فقطعوا يد إنسان قطعت يد كل من العشرين وإذا فقؤوا عين إنسان وكانوا عشرين أو أكثر فقئت عين كل واحد منهم قصاصاً حتماً حتى لا يكون ذلك دافعاً لغيرهم إلىأن يفعلوا كفعلهم. فما الذي حملهم على ذلك؟ هل كانوا عارفين بأن ذلك سيقع؟ بل هم جاهلون يعتقدون أنهم سيحصلون على مال بطريقة القهر وبطريقة الغلبة ثم يسلمون ولا يحصل بهم شيء ولو علموا أنهم سيعاقبون بهذه العقوبة في الدنيا لانزجروا. فالزاني مثلاً إذا زنى مرة واحدة وكان عنده زوجة أو قد تزوج عقوبته أنه يرجم بالحجارة إلى أن يموت فلو كان مستحضراً لذلك لما فعل ذلك أي لو كان عند فعله الفاحشة يتحقق أنه سيرجم لانزجر، ولما فعل هذه الفعلة الشنيعة، ولكن الجهل حمله على ذلك، والزاني مثلاً إذا لم يكن قد تزوج يشهر أمام طائفة كبيرة من الناس ويجلد جلداً قوياً مئة جلدة ولا يرق له لقوله تعالى: ((ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)) . (سورة النور، الآية: 2) . لو كان مستحضراً ذلك لما أقدم على فعل هذه الفاحشة المحرمة ولكن حمله على ذلك الجهل بالحكم ووقع في هذا الأمر المحرم والعياذ بالله.

كذلك أيضاً بقية المحرمات فمثلاً شارب الخمر يجلد أربعين أو ثمانين جلدة، القاذف الذي يرمي إنساناً ويقول أنت زانيت أو أنت فعلت فاحشة يجلد ثمانين جلدة وترد شهادته ويحكم بفسقه إلا أن يتوب لو كان يستحضر ذلك لما أقدم على فعل هذه الفاحشة المحرمة والعياذ بالله. الساحر قد حكم النبي عليه الصلاة والسلام عليه بأنه يقتل لقوله: ((حد الساحر ضربة بالسيف)) . (رواه الترمذي، 4/32) . ولكن لا يتفكر في ذلك هذا بالنسبة لعذاب الدنيا ومعلوم أيضاً أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. لقد أخبر الله تعالى بعقوبة عظيمة في الآخرة على فعل المحرمات في حديث يخبر فيه نبيه عليه الصلاة والسلام عن بعض الذنوب فيقول: ((اجتنبوا السبع الموبقات (يعني المهلكات) الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) . (البخاري مع الفتح 12/181) .هذه سبع من كبائر الذنوب، وقد تكون من الشرك، أخبر بأنها موبقات كذلك أيضاً قد ذكر الله لها عقوبات في الآخرة فقال تعالى في أكل الربا: ((فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) . (سورة البقرة، الآية:275) .

مع أنه قد يكون متأولاً، جعل الله هذا منه تأولاً ولم يعذره فقال ((فأولئك أصحاب النار)) كذلك الذي يأكل مال اليتيم، يكون عنده مال يتيم فيأكله ويخفيه، توعده الله بوعيد قال تعالى: ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)) . (سورة النساء، الآية: 10) . هذه عقوبة آكل مال اليتيم كذلك الذي يرمي إنساناً فيقول أنت زاني، أنت زانية، وهو كاذب عليه، توعدهم الله بوعيد في قوله تعالى: ((إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق)) . (سورة النور، الآيات: 23، 25) . عقوبة كلمة واحدة هذه الأمور كلها، إذاً لو كان الإنسان يستحضر عندما يتكلم بهذه الكلمة هذه العقوبات ما فعلها ولا أقدم عليها ولكن لا يستحضرها، فما الذي حال بينه وبين ذلك؟ أليس هو الجهل؟! الجهل داءٌ قاتل وحيث عرفنا هذا الجهل وأنه بهذه المثابة وأن له آثاراً سيئة فإننا نحث إخوتنا على أن لا يبقوا على هذا الجهل ويؤسفنا أن في هذه البلاد الرياض المدارس الليلية الكثيرة ولا يدخلها إلا القلة أو الأصاغر أو نحو ذلك يؤسفنا أن فيها حلقات علم كثيرة يقيمها العلماء في بيوتهم أو في مساجدهم ولا يحضرها إلا قلة القليل والكثير لا يحضرونها ويؤسفنا أن الكثير من المحاضرات أو الندوات ونحوها لا يحضرها إلا القلة بالنسبة إلى الأكثر من الذين ينفرون أو يذهبون أو نحو ذلك، يؤسفنا أن في صلاة الجمع مثلاً يمتلئ المسجد وتمتلئ أطرافه وإذا قام بعد الصلاة إنسان ليعظ أو ينصح أو يذكر هربوا ولم يبق عنده إلا قلة قليلة وكأنهم في سجن وفي ضيق أو كأنهم مستغنون عن الفائدة ونحو ذلك وهذا أيضاً اعراض عن العلم واعراض عن أسبابه يؤسفنا أن كثيراً يبقون على جهلهم وهم يعرفون أن هناك علماء وهناك مفتون ومعلمون ونحو ذلك.

فأنا مثلاً أجلس في المكتب لأتقبل الذين يأتون ويسألون ولكن الذين يسألون بواسطة الهاتف أو مشافهة غالب أسئلتهم لا تتعلق بالدين إنما تتعلق بالمعاملات أو بالطلاق ونحو ذلك. إذا وقع أحدهم في طلاق أو في ظهار أو في تحريم أو ما أشبه ذلك. بحث وسأل فطوال عمره _ عشرين سنة أو أكثر _ ما اهتم ولا سأل فلما وقع عليه الأمر أراد أن يسأل، لماذا بقيت على جهلك هذه السنوات حتى وقعت في هذا التحريم أو في هذا الظهار أو في هذا الطلاق أو في هذا الحلف الذي لم تف به فلو كنت عالماً أو متعلماً أو مهتماً بالعلم لما وقعت في هذا الجهل، هؤلاء الذين يأتون ويسألون عن وقائع وقعت بهم يقول أحدهم أنا حلفت بكذا أنا وقع مني كذا أنا أنذرت على أو ما أشبه ذلك إنما يسألون عن شيء ابتلوا به فقط ويحاولون التخلص منه. لماذا لم يسألوا من قبل؟ لماذا لم يتعلموا؟ لقلة الاهتمام. هل عندهم أشغال تقطعهم وتعوقهم، ليس الأمر كذلك بل الكثير منهم عندهم فراغ كثير بحيث إنهم يسألون أسئلة يقول بعضهم نحن عندنا وقت طويل عندنا فراغ ونمل من هذا الفراغ وإذا مللنا لا بد أن نشغل وقتنا هذا بشيء حتى نقطع الوقت عنا فنشتغل باللعب بالورق حتى إذا جاء وقت الصلاة قمنا. سبحان الله أما عندكم شغل غير هذا اللعب! لماذا لا تقرؤون القرآن؟ لماذا لا تتدارسونه بينكم؟ لماذا لا تحفظون كتاب الله هل منكم من حفظ القرآن عن ظهر قلب؟ يقولون لا نعرف. لماذا لا تتعلمون حتى تعرفوا. أليس عندكم أمور تهمكم؟ لماذا لا تتزاوروا في ذات الله وتتبادلوا النصيحة لماذا لا تزوروا العلماء وتبحثوا معهم وتسألوا؟ لماذا لا تقتنون كتب الدين وكتب العلم وتقرؤها، وتقضوا بها أوقاتكم، هذا الوقت الذي هو طويل عندكم كما تقولون سوف تجدون ما تقضونه به فلا عذر لكم بأن تبقوا على هذا الجهل إذن فنحن نقول لا عذر لأحد في البقاء على الجهل، سيما في هذه الأزمنة فقد توفرت والحمد لله الأسباب التي يزول بها الجهل.

فعندنا الكتب قد يسر الله طبعها ونشرها وقد تكون مجاناً وقد تكون بثمن بخس لا يبخل الإنسان أن يشتري أو أن يقتني بعض الكتب التي تهمه في أمور الدين إذا اقتناها يقرأ منها وقت فراغه ويستفيد ويقرأ أو يجتمع مثلاً خمسة أو عشرة ويقرأ أحدهم ويتساءلون فيما بينهم عن معنى هذه الجملة أو عن المراد بهذا الحديث أو ما يراد بهذه الآية أو ما أشبه ذلك. عندنا مثلاً الأشرطة الإسلامية والحمد لله قد تيسرت لم توجد إلا في هذه الأزمنة ولم تكن تدخل في حسبان أو في ظن من قبلنا ولكنها آية من آيات الله أخرجها الله ويسرها، فيها العظات وفيها العلوم وفيها الأحكام وفيها القرآن والأحاديث وما أشبهها وبإمكانك أن تستمع لها ولو كنت في سيارتك ولو كنت على فراشك ولو كنت مع غيرك تفتح على هذا الشريط الديني وتستمع إليه وتستفيد مما فيه من عظات ونحوها حتى يزول ذلك الجهل الذي خيم على القلوب وعندنا مثلاً القرآن الحمد لله الذي قد يسره قال تعالى: ((ولقد يسرنا القرآن للذكر)) . (سورة القمر، الآيات: 17، 22، 32، 40) .

ثم تيسرت المصاحف وامتلأت بها المساجد والدور ونحوها لماذا لا نجعل لنا أوقاتاً نقرأ فيها فلو جعلت لك كل يوم ساعة أو ساعتين تقرأ فيها ما تيسر من القرآن لحصلت على خير كثير إما فائدة علمية وإما أجراً أخروياً، وعندنا مثلاً الكتابات قد تيسرت أيضاً أن تكتب إلى العلماء وتسألهم وتستفيد منهم وعندك مثلاً والحمد لله الهواتف، المكالمات الهاتفية فإن فيها فائدة وفيها تيسير لنيل العلم وأنت في بيتك، ما بينك وبينها إلا أن تحرك أصابعك وأن ترفع السماعة ثم تسأل وتلقى من يجيبك إن شاء الله. هذه وسيلة من الوسائل. وعندنا مثلاً الندوات والحلقات العلمية التي تقام في المساجد والجوامع الأخرى ونحوها لا شك أيضاً أن فيها ما يزيل الجهل وما يبصر الإنسان لما خلق له دون عناية أو كلفة أو نحوها فهي في كل الأماكن بواسطة السيارات تصل إلى أطراف البلاد الذي فيه محاضرة أو مذاكرة أو نحو ذلك. وعندنا مثلاً الخطب التي تخطب علينا في كل جمعة غالباً أنها تشتمل على أحكام؛ وتشتمل على مواعظ ونحوها ولكن يؤسفنا أن الناس يستمعون إلى الخطبة ثم إذا انصرفوا إلى مجالسهم لا يذكرون شيئاً مما استفادوه بينما يتكلمون في أمورهم العادية في أمور دنياهم وفي مباحثهم ونحو ذلك ولا يقولون قال الخطيب كذا وحفظنا منه واستفدنا منه كذا وكذا حتى يتفقدوا أنفسهم هل هم عاملون بها أو ليسوا بعاملين حتى يستفيدوا ولقد اجتهدت حكومتنا أيدها الله _ تعالى _ ببذل الوسائل التي تزيل الجهل وتمحو الأمية عن المسلمين فيبقى المسلمون كلهم إما علماء وإما في مستعدون للعلم ولو لم يكن إلا المدارس النهارية والليلية ولكن للأسف أن الكثير من الكبار أو المتوسطين في التعليم يبقون على جهلهم ولا يسألون ولا يتعلمون ولا يقرؤون وكأن الذي حملهم على ذلك هم الكبر والاستحياء أو نحو ذلك، وقد ورد في بعض الآثار لا يتعلم العلم مستحي ولا متكبر (الأثر عن مجاهد _ رحمه الله _) . فلا يغلبك هذان

الأمران بل تواضع لربك واقرأ وتعلم ولو على ولدك واستفد منه وإن كان ابن عشر سنين ونحو ذلك ولو على ولد صديقك، اقرأ عليه آيات من القرآن وهو يرد عليك ويعلمك، تواضع ولا تستحي ولا تتكبر حتى يزول بذلك الجهل ويحل مكانه العلم وإذا حل العلم إن شاء الله تبعه العمل. هذا تنبيه على بعض هذه المسائل والمسألة أعظم من أن يحيط بها ذلك فعلى المسلمين أن يكونوا منتبهين لذلك وعليهم أن يحتاطوا لهذه الأمور، وعليهم أن يبذلوا الجهد الذي يكونون به عالمين عاملين إن شاء الله. نسأل الله أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً متقبلا ونعوذ به من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن دعاء لا يسمع إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. انتهى الكتاب

حقيقة الالتزام

حقيقة الالتزام لفضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله ورعاه تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه. وبعد: فقد كنت قبل أشهر قمت بجولة في أنحاء من المملكة للدعوة والإرشاد، وإلقاء محاضرات وإجابة على أسئلة، وكان من جملة المحاضرات في مدينة جدة في أول شهر شعبان عام 1413هـ محاضرة بعنوان: حقيقة الالتزام (وقد ألقيتها ارتجالاً، ولم يتيسر لي مراجعة ولا كتابة عناصرها، ومناسبتها أن هناك جمعاً) كبيراً قد منَّ الله عليهم بالاستقامة، والتمسك بالشريعة، وعُرفوا بأهل الالتزام، فناسب أن يتلقوا تعاليم تزيدهم تمسكاً، وتوضح المناهج والطرق السليمة التي يسلكها أهل الالتزام، وتكون سبباً في الاستمرار والدوام على هذه السيرة السوية. وقد تعرضت فيها للحث على الأعمال الصالحة، والإكثار من نوافل العبادة، والبعد عن المعاصي والمحرمات والشرور، وهجر العصاة والحذر من الانخداع بدعاياتهم وتسويلهم، وزخرف القول الذي يموهون به، ونحو ذلك من النصائح على وجه الإشارة والإيجاز. وقد رغب بعض المحبين نشرها في كتيب، فوافقت على ذلك، رجاء أن ينفع الله بها من أراد به خيراً، والله المسؤول أن يمن علينا بالعصمة والحفظ من الغواية، وأن يهدي ضال المسلمين ويرشد غاويهم، ويصلح عامتهم ويصلح أئمتهم وقادتهم، ويهديهم إلى الصراط السوي، ويجنبهم طريق الغواية والهلاك، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. 5/1/1414هـ. المقدمة إن الحمد لله نحمده ونشكره ونثني عليه ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وهو ربنا عليه توكلنا وإليه ننيب، ونحمده سبحانه أن هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أما بعد:

فإننا نشاهد اليوم هذا الإقبال الكبير من شبابنا على دين الله وعلى طاعته وتطبيق شرعه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وعلينا أن نتفاءل بهذا الإقبال، فهناك الإقبال على طلب العلم والإقبال على تطبيق السنة النبوية والإقبال على تطبيق الشريعة في كل شؤون الحياة. ولا شك أن هذا الإقبال يذكرنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه علي بن يزيد عن القاسم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذا الدين إقبالاً وإدبارا. وإن من إقباله أن تفقه القبيلة بأسرها، فلا يبقى فيها إلا الفاسق والفاسقان، فهما ذليلان فيها، إن تكلما قهرا واضطهدا. وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها، فلا يبقى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما ذليلان، إن تكلما قهرا واضطهدا". وعلي بن يزيد ضعيف ولعل الحديث موقوف. لقد كنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة نكاد أن نيأس ونقطع الرجاء لما نراه من الأسباب التي تبعد عن الإسلام وعن الدين، ولما نراه من الجفوة والإدبار والسخرية والاستهزاء حتى في المتعلمين والمتفقهين. ولكن والحمد لله اليوم نرى إقبال الشباب على التمسك وعلى الالتزام بالشرع وعلى الاستقامة عليه. لقد حصل من هذا الالتزام وهذه الاستقامة أثر بليغ؛ ألا وهو هذه الصحوة الإسلامية التي انتشرت في جميع أرجاء المعمورة. فما هذه الصحوة إلا نتيجة من نتائج الإقبال على هذا الدين وتطبيق الشرع والتمسك به والاستقامة عليه. وفي هذه الرسالة الصغيرة نتحدث عن الالتزام وحقيقته وأدلته من الكتاب والسنة، ثم الحديث عن أحوال الملتزم وصفاته.

نسأل الله أن يمن علينا بطاعته وأن يقبل بقلوبنا على محبته وطاعته وعبادته. ونسأله ان يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. وأن يجعلنا من المتمسكين بشريعته والذابين عن دينه والمجاهدين في سبيله، والمبلغين لأمره وشرعه، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين إلى الله على بصيرة، وأن يرزقنا الاتباع لسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فإلى المقصود والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تعريف الإلتزام الالتزام كلمة عامة تَصدُق على الالتزام بالشرع والالتزام بغيره. ولأجل ذلك فإن الفقهاء يعبرون بكلمة الملتزم عن الذي يؤخذ عليه عهد أنه إما أن يعمل بأحكام الشريعة وإما أن يُلْزمَ بها. فيدخل في ذلك الذميون الذين يُلْتَزَمُ معهم أن تطبق عليهم تعاليم الشريعة. لقد اصطلح في هذا الزمان أن تطلق كلمة ملتزم على المستقيم على الشرع والمتمسك بالدين. ولكن الأولى أن نسمي المتدين: (بالمستقيم) ، ونسميه (المتمسك بالشريعة) ، ونسميه: (المطيع لله) ، ونسميه: (عاملاً بالشريعة ومتبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا هو الأولى والأرجح. حقيقة الالتزام ذكرنا أن الملتزم هو ذلك الشاب المستقيم على الشرع والعامل به، والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه هي حقيقة الالتزام. والأعمال التي يقوم بها الملتزم إما ان تكون من الواجبات، وإما أن تكون من السنن، وإما أن تكون من نوافل العبادة ومن نوافل الطاعات، وإما أن تكون من فروض الكفايات. والملتزم الذي كمل التزامه مطلوب منه القيام بهذه الأعمال حتى يصْدُق عليه قول: (ملتزم) . ولتوضيح ذلك نذكر بعض الأعمال على وجه التمثيل حتى نعرف بذلك حقيقة الالتزام، ثم نشير بعد ذلك إلى الحقيقة التي ينبغي أن يكون عليها الناس في اصطلاحهم.

فمثلاً: إذا رأى الناس الشاب وقد ظهرت عليه علامات التدين والصلاح قالوا: هذا شاب ملتزم. فإذا رأوه وقد أعفى لحيته، ورفع ثوبه، وحافظ على الصلاة وسابق إليها، واقترن بأصحاب الخير وصحبهم، وسارع إلى الأعمال الخيرية، وزهد في المعاصي والمحرمات، وأقبل على حلقات العلماء ومحاضراتهم، وأكب على تعلم العلم الصحيح واقتناء كتب السنة ومجالسة الصالحين، فهذا عندهم: (ملتزم) . وهذه بلا شك من صفات الشباب الملتزم الذي قد حافظ على هذه الصفات، لأنه عرف أن الله تعالى أمره بذلك وأحبها منه، ولكن هناك من يخالفه في ذلك -وهم كثير على مر الزمان والعصور- من الشباب المنحرف: فكم دعوه إلى التخلي عن العبادة فخالفهم ونابذهم؟! لأنه عرف انهم على ضلال وعلى باطل! لقد رأينا الكثير منذ ثلاثين أو أربعين سنة قد فشى حلق اللحى في الشباب، وخاصةً في الطلاب الذين يدرسون في المدارس والمعاهد والجامعات. لقد تربى هؤلاء الشباب على حلق اللحى، وسبب ذلك أن الذين ربوهم وعلموهم كانوا على هذه الطريقة فقلدهم من قلدهم، حتى أصبح الأمر مشهوراً لا يُسْتَنْكَر، وأصبح الذين يتكلمون فيه كأنهم يتكلمون في شيء فضولي. ولكن وفق الله بعض عباده فعرفوا الحق كما ينبغي، فقالوا: لماذا هذه المعصية الظاهرة؟! ولماذا هذه المعاندة الظاهرة؟! أليست طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالتقديم والاتباع؟! ثم أليس كبار المعلمين وكبار المفكرين العاقلين، أولى بتطبيق السنة حتى يكونوا قدوة حسنة لغير؟! إنه يجب علينا أن نطبق شرع الله ونعمل بالسنة، ولو لقينا ما لقينا، فنوفر اللحى ولو استهزأ بنا الآخرون ولو سخر منّا فلان وفلان. فما دمنا متبعين وما دمنا متمسكين وكان دليلنا في ذلك الكتاب والسنة فلا يضرنا الاستهزاء ولا السخرية.

فلأجل ذلك قام البعض ممن هداهم الله بتطبيق السنة والحرص عليها؛ غير ناظرين لمن خالفهم من جماهير الناس. وعلينا أن نعلم أن توفير اللحى سنة يجب اتباعها، وهي من صفات الشاب الملتزم، ولكن ليست هي كل الالتزام. ومثال آخر: لقد رأينا وترون أن أثرياء الناس وكبراءهم ومشاهيرهم قد ابتلوا بالإسبال، وهو: جر الثياب؛ بل وجر كل اللباس فخراً وكبراً أو خيلاء ونحوها. إنهم بعملهم هذا قد خالفوا النصوص الصريحة الصحيحة، التي لا خلاف في ثبوتها، والتي تحرّم على الإنسان أن يجر ثوبه خيلاء وأن يسبل في لباسه. إن العمل بهذه السنة؛ وهو: رفع الثوب إلى فوق الكعب لا شك أنه التزام وتمسك وعمل بالشريعة، وتطبيق للسنة النبوية الشريفة، واستقامة على أمر الله عز وجل. ولكن هناك من خالف في الأمر وأطاعوا الشيطان؛ الذي زين لهم سوء أعمالهم فتركوا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. ولكن الشاب الملتزم عليه أن يثبت ولو خالف من خالف، ولو تنقص من تنقص؛ لأن الذي يطيع الله ويطيع رسوله صلى الله عليه وسلم ويعمل بشريعته ويكون دليله قوياً وثابتاً لا يستطيع أحد أن ينتقده أو يرد عليه. وكذلك هناك أمور أخرى لم نذكرها ينبغي أن يلتزم بها من وفقه الله تعالى للاستقامة ويكون دليله في ذلك الكتاب والسنة. الالتزام هو الاعتصام: قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) . الاعتصام: هو لزوم الشيء والتمسك به. وحبل الله تعالى: هو السبب الذي يوصل إلى رضاه، ويوصل إلى ثوابه، ويوصل إلى جنته ودار كرامته. وسماه الله تعالى حبلاً في هذه الآية؛ لأن من تمسك به نجى ومن تركه اختل تمسكه واختل سيرهُ. الالتزام هو التمسك: قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) .

التمسك: هو القبض على الشيء قبضاً محكماً بكل ما يستطيع. وهذا أمر من الله تعالى أن نتمسك بشرعه بكل ما نستطيع، كما قال تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) . ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الاستمساك بالعروة الوثقى لا يكون إلا بأمرين وهما: الكفر بالطاغوت. الإيمان بالله تعالى. أما تفسير الطاغوت وتفسير الإيمان بالله فلا حاجة إلى الخوض فيه؛ لأن هذه الرسالة المختصرة لا تسمح بذلك ويمكن الرجوع إلى المؤلفات في هذا الأمر. الالتزام هو الاستقامة: قال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . وقال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا) . قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة. والاستقامة: هي السير السوي الذي ليس فيه اعوجاج ولا انحراف. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب. حديث: قل آمنت بالله ثم استقم: عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: "قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك -وفي حديث أبي أسامة: "غيرك"- قال: قل آمنت بالله ثم استقم". أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهي أن يسير سيراً سوياً ليس فيه أية انحراف أو مخالفة، وهذا هو حقيقة الالتزام. حديث: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين:

عن العرباض بن سارية قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائلُ: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". وهكذا يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالسنة والعض عليها بالنواجذ، ذلك أن القبضَ باليدين فيه عرضة للتفلت، فلأجل ذلك من شدة حرصه صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالعض عليها بالنواجذ. والنواجذ: هي أقاصي الأسنان وهذا كناية على شدة التمسك بالسنة مخافة أن تتفلت. والرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بالتمسك بالسنة ويشدد في ذلك؛ لأن المعوقات كثيرة، والشبهات متعددة، وهذه المعوقات والشبهات قد تضعف التمسك بالسنة؛ فلأجل ذلك أوصى صلى الله عليه وسلم بشدة التمسك بالسنة. والشاب الملتزم حقاً: هو الذي يتمسك بالسنة ويقبض عليها قبضاً محكماً، فيقبض عليها بيديه وعضديه مخافة أن تتفلت منه، ولو أدى ذلك إلى العض عليها بأقاصي أسنانه. وقفات مع الحديث: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوصى بالتمسك بالسنة بهذه الشدة، إلا لأنه يعرف أن هناك معوقات وأن هناك ضلالات وشبهات ودوافع. وهذه الشبهات والضلالات قد ترخي تمسك الإنسان بهذه السنة، ولكن إذا عرف الشاب الملتزم أن تمسكه بالسنة وسيلةً لنجاته، وأن إخلاله بها وسيلة إلى هلاكه ودمار لحياته، فإنه بلا شك يتمسك بها أشد ما يكون التمسك. أمر آخر: وهو أن الملتزم الذي يعمل بالسنة كما أُمرَ لا شك أنه يلاقي من أعدائه ومن أضداده تسفيهاً وتَضليلاً واستهزاءً وتنفيراً وكيداً وتنقصاً لحالته واستضعافاً لرأيه ورمياً له بالعيون، وهذا ليس بخاف على أحد.

فإننا نسمع ما يُرْمَى به الملتزمون من كلمات التنقص فإذا رأوه وقد أرخى لحيته قالوا هذه لحية كأنها: " ذنب تيس"، أو كأنه: " عاض على جاعد" أو كأنها: " مكنسة بلدية". . أو كأنها.. أو كأنها. وربما قالوا ما فائدة هذا الشعر، فإنه شعر لا فائدة فيه، وربما قالوا: أصلح فؤادك أو أصلح قلبك، فإن الإيمان في القلب! فإذا آمن قلبك فلا فائدة في هذا الشعر! وإذا آمن قلبك لا يضرك ما عملته ولا يضرك ما فعلته! وهذه كلها شبهات وعوائق تعيق الإنسان عن سيره وتمسكه بالسنة الشريفة. ثم أمر آخر: لقد رأينا كثيراً من شبابنا الذين رجعوا إلى الله تعالى، وأقبلوا على الطاعة وصحبوا أهل الخير، ثم بعد فترة قليلة، وبعد زمن قصير ارتدّوا على أعقابهم ورجعوا القهقرى، وغيروا ما كانوا عليه من الالتزام والتمسك، وعادوا إلى لهوهم وسهوهم، وعادوا إلى المعاصي التي كانوا عليها من قبل. لماذا؟!! لأن التزامهم لم يكن محكماً، وتمسكهم لم يكن قوياً، إضافة إلى ضعف إيمانهم مما جعلهم متدينين برهة من الزمان، ثم رجعوا إلى الضلال وإلى الانحراف. إذاً فعلى المسلم أن يكون قابضاً على السنة وسائراً على النهج السوي والمنهج المستقيم، الذي هو صراط الله الذي أمرنا بأن نسلكه وأن نسير عليه، والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه طريق واحد مستقيم ليس فيه أي انحراف أو ميل كما في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) . وقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السُّبل) . والمستقيم الذي ليس فيه اعوجاج. 3- حديث: هذا سبيل الله مستقيماً: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: " خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاًّ بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)

هذه السبل التي كل منها عليه شيطان يدعو إليها ليس بالضرورة أن يكون شيطان جن؛ بل قد يكون من شياطين الإنس، وما أكثرهم في هذا الزمان وكل زمان، فهم يدعون إلى مخالفة صراط الله والابتعاد عنه. إنهم يدعون إلى الطرق المنحرفة وإلى الطرق الملتوية. فهذا يدعو إلى الغناء واللهو! وذاك يدعو إلى الكسل الخمول! وآخر يدعو إلى الزنا والعُهْر والفاحشة! وآخر يدعو إلى التبرج والسفور! ومنهم من يدعو إلى ترك العبادات، كترك الصلاة أو التخلف عن الجماعات! وما أكثر من يستجيب لهم من ضعاف الإيمان!! ولكن المستقيم والملتزم بشرع الله، والمتمسك تمسكاً قوياًّ، يستطيع أن يتفلت من هؤلاء إذا دعوه إلى أهوائهم وشهواتهم وإلى الطرق المنحرفة، وذلك لأن سير المسلم على هذا الصراط سير سريع لا يتمكن دعاة الضلال من إيقافه. إن الشاب المسلم الملتزم بدين الله، والذي سار على صراط الله المستقيم، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق: فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته الشيء الكثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته نحو ربه ونحو صراط الله المستقيم فهنيئاً له الوصول إلى صراط ربه، المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف. فعلى المسلم أن يضبط سيره ويضبط استقامته. فإذا دعاك أهل الضلال إلى ترك الصلاة أو ترك الجماعات أو البخل وقالوا: أمسك عليك مالك حتى ينفعك وتستفيد منه، أو دعوك إلى ترك السنن والعبادات ونوافلها كالتهجد في الليل أو صيام التطوع وغير ذلك، فلا تلتفت واثبت في سيرك. فهذا وصف الملتزم والمستقيم حقاًّ الذي لا يصده شيء عما هو قد هم به من الأعمال الصالحة. أعمال الملتزم والمستقيم ذكرنا فيما سبق أن الالتزام هو الاستقامة على الشرع والعمل به والاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذه هي حقيقة الالتزام.

ولكن الملتزم حقا يجب عليه أن يقوم بأعمال معينة حتى يصدق عليه قول "ملتزم" فمن هذه الأعمال نذكر ما يلي: أولاً: من أعمال الملتزم والمستقيم: التمسك بالسنة: إن الشاب الملتزم هو الذي تمسك بالسنة تمسكاً محكماً، وبذلك يكون من أهل السنة ومن أهل الشريعة، ويكون هو الجماعة وإن قل من يقوم بها. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أهل النجاة وأهل الاستقامة وأهل الصراط المستقيم، هم الذين ساروا على ما كان عليه هو وأصحابه عندما ذكر حديث افتراق الأمة. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية؛ لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة؛ كلهم في النار؛ إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؛ قال: ما أنا عليه وأصحابي". فمن هذا الحديث يتبين أن الفرقة الناجية هي التي سارت على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتمسكت بها واتبعته صلى الله عليه وسلم في كل شئون الحياة. ولا شك أن السنة النبوية مدونة وموجودة وقريبة وسهلة التناول لمن طلبها. فما علينا إلا أن نبحث عنها فإذا عرفنا سنة من السنن عملنا بها حتى يَصْدُق علينا قول (فلان ملتزم) . ولا ننظر إلى من يُخَذّل أو من يحقر أو من يستهزئ ونحو ذلك. والسنن قد تكون من الواجبات، وقد تكون من الكماليات أو من المستحبات، وقد تكون من الآداب والأخلاق. فعلى المسلم أن يعمل بكل سنة يستطيعها، وذلك احتساباً للأجر وطلباً للثواب. فالملتزم هو الذي كلما سمع حديثاً فإنه يسارع في تطبيقه، ويحرص كل الحرص على العمل به ولو كان من المكملات أو من النوافل. فتراه مثلاً يسابق إلى المساجد ويسوؤه إذا سبقه غيره ‍

وتراه يسابق إلى كثرة القراءة وكثرة الذكر أكثر من غيره ‍ وتراه يكثر من أنواع العبادات ويحرص كل الحرص أن تكون جميع أعماله وعباداته متبعاً فيها السنة، وليس فيها شيء من البدع ‍ حتى تكون تلك الأعمال والعبادات مقبولة عند الله؛ لأنه متى قبل العمل فاز المسلم برضوان ربه، نسأل الله أن تكون أعمالنا مقبولة عنده إنه سميع مجيب. ثانياً: من أعمال الملتزم والمستقيم: طلب العلم: إن الشاب الملتزم والمستقيم يجب عليه أن يكون داعية إلى الله تعالى، فيدعو الناس إلى الاستقامة والالتزام وتطبيق شرع الله سبحانه في حياته. وحتى يكون الشاب الملتزم داعية إلى الله على بصيرة يجب عليه أن يطلب العلم الشرعي. كما يجب على الشاب الملتزم والمستقيم أن يطلب العلم حتى يعبد الله على نور وبرهان، وليس على جهل وضلال. ووسائل العلم والحمد لله كثيرة ومتيسرة، فهناك حلقات العلماء في المساجد، وهناك المكتبات الخيرية، وهناك المدارس والجامعات في كل مكان، وهناك كتب العلماء قديماً وحديثاً، وهناك الأشرطة المسجلة لدروس العلماء ومحاضراتهم وغير ذلك. فنوصيك أيها الملتزم بأن تتزود بالعلم النافع، وتحرص على أن تدرك ما تستطيع منه بأي وسيلة وبأي سبب من الأسباب، لتكون بذلك من ورثة الأنبياء الذين ورثوا العلم وأخذوا منه بحظ وافر ثالثاً: من أعمال الملتزم والمستقيم: ترك البدع والمعاصي والملاهي: إن الشاب الملتزم والمستقيم هو ذلك الشاب الذي حرص كل الحرص على تطبيق شرع الله، وتطبيق تعاليم الإسلام. كما أنه حرص كل الحرص على البعد عما يدنس عرضه، وعما يقدح في عدالته، وعما ينقص من قدره ومكانته وذلك بترك البدع والمعاصي والملاهي. أما الكفر والشرك فمعلوم حكمه وننزه الشاب الملتزم أن يصل إلى هذا.

أما هذه الثلاثة: وهي البدع والمعاصي والملاهي؛ فهي التي يحرص الشاب الملتزم على تركها والتمسك بالسنة حتى يكون من أهل النجاة بإذن الله تعالى: إن الدعاة إلى البدع كثيرون، وخاصة في هذا الزمان، فهم يضيفون البدع إلى الشريعة وما عرفوا أن شريعة الله كاملة لا نقص فيها. وموضوع البدع وتنفيذ شبهات أهلها وضرب الأمثلة عليها موضوع طويل، ومن أراد البحث في ذلك رجع المؤلفات في ذلك. أما المعاصي: فما أكثرها اليوم، وما أكثر الدعاة إليها. حتى أصبح من الدعاة إلى المعاصي من يزينون المعصية، ويقولن إنها من الضروريات ‍ أو أنها من مسايرة الزمان أو أن أهل هذا الزان بحاجة إليها‍ ولا يستغنون عنها ‍ وما أشبه ذلك ‍‍ ولنأخذ مثلاً على ذلك: (الأغاني) : فهناك من يقول أنها تنشط الجسد، وأنا تنمي الفكر، وأنها غذاء الروح، وأنها تقوي الذكاء، وأنها تسلي الإنسان، وأنها قضاء للوقت، وأنها ... وأنها ... ثم يضربون صفحاً عن مضارها، وعن الأسباب التي توقع فيها؛ بل ويضربون صفحاً عن النصوص التي تدل على حرمتها. ومثلاً آخر: (الأفلام الخليعة) : فهاك من يدعوك إلى النظر إليها، ويقول فرِّج عن نفسك يا أخي فإنك بحاجة إلى أن تمتع عينيك وتسلي قلبك وانظر إلى هذا الجمال وهذه الصور ومتع نفسك وهكذا ينشرون مثل هذه الشبهات. ثم لا يذكرون شيئاً من الأضرار التي توقع فيها. فلا يذكرون أنها تزرع الفتن في القلوب، وأنها تدعو إلى المعاصي والوقوع في الفواحش، وأنها تشجع النساء على التكشف وعلى السفور وعلى الاختلاط بالرجال، وأنها وسيلة إلى فعل الجرائم الشنيعة. فكل هذا لا يذكرونه أبداً. فيا أخي الملتزم إن ابتعادك عن مثل هذا هو حقيقة من حقائق التزامك، وضرورة من ضروريات استقامتك. وخذ مثلاً على تناول (المشروبات المحرمة) :

فهناك من يقول أنها مشروبات روحية وأنها تنقل الإنسان من عالم إلى عالم آخر وأنها أشربة طيبة وأنها تسلي الإنسان ولا ضرر فيها وغير ذلك من الضلال والانحراف ونسوا بعد ذلك قول الله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) أما الملاهي: فحدث ولا حرج، فهي تلك المجالس المليئة باللغو والباطل والكلام الذي لا فائدة فيه، والقيل والقال، وقد مدح الله المؤمنين بقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون) فجعل من صفات المؤمنين البعد عن اللغو وهي: الصفة الثانية بعد الصلاة. وهذه حقيقة الملتزم وهي: البعد عن الملاهي واللغو والمجالس الخالية من ذكر الله. رابعاً: من أعمال الملتزم والمستقيم: الدعوة إلى الله: وبعد أن يمنَّ الله عليك ويكمل التزامك وتكمل استقامتك، وتكمل نفسك فتطهرها من المعاصي وتهذبها على الطاعة، وتستقيم على السنة وتعمل بها. ماذا يجب عليك بعد ذلك يا أخي؟ ‍‍ يجب عليك أمر مهم وعمل من أهم أعمال الملتزم والمستقيم هذا الأمر هو الدعوة إلى الله. الدعوة إلى الله من خلال دعوة إخوانك الأشقاء، ودعوة إخوانك من الأصدقاء والزملاء، ودعوة جلسائك ومحبيك ونحوهم، ولا شك أن هذا من واجب المسلم نحو إخوانه، وما ذاك إلا أنه إذا لم يدعهم؛ فإنهم سوف يدعونه إلى باطلهم وضلالهم. أخي الشاب المسلم الملتزم والمستقيم ‍‍ ألست تحب أن يكثر أتباعك وأعوانك؟ ألست تحب أن يكثر أنصارك الذي يذبون عنك؟ ألست تحب أن يكثر أهل الخير وتحب أن يكون شبابهم وأولادهم على الدين الحنيف. إذا كنت تحب ذلك؛ فابذل ما تستطيعه من الأسباب، فتأخذ بأيدي إخوانك وتسير بهم معك على الطريق الذي أنت تسير عليه، وتحرضهم على أن يلتزموا ويستقيموا عليه، كما استقمت أنت عليه. أيها الإخوة ‍‍‍

ما أحوجنا إلى كثرة الدعاة، وما أحوجنا إلى كثرة المعلمين والمرشدين ونحوهم؛ فلأجل ذلك عليكم بالدعوة إلى الله بكل ما تستطيعون حتى يكثر الدعاة، ويكثر أهل الخير في كل مكان. وعليكم أيها الإخوة أن لا تيأسوا بسبب كثرة المنكرات؛ بل عليكم أن تبذلوا قصارى جهدكم في دعوة إخوانكم، ولو كانوا بعيدين عن الاستقامة؛ بل ولو لم يستجيبوا من أول مرة، ولكن عليك أن تدعوهم مراراً وتكراراً ولعلك أن تجد بعد زمن أن منهم من يستجيب لدعوتك ويصبح من أهل الاستقامة والصلاح بإذن الله. لقد سرنا والحمد لله ما نراه من كثرة المكاتب التعاونية، وكثرة الدعاة الذين يدعون إلى الله، ولكن وجدنا منهم من يستنكف عن الدعوة إلى الله، ويعلل هذا التقاعس بأن أهل الشر أكثر، وأن المنحرفين أكثر، وأن أهل الاستقامة وأهل الالتزام وأهل الطاعة أقل من غيرهم؛ بل ونجدهم يقتصرون علىأنفسهم ولا يقومون بدعوة غيرهم، ولا شك أن هذا خلل ونقص في حقيقة الالتزام. أيها الأخ الداعية اقرأ قول الله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فقد بين سبحانه أن أهل النجاة هم الذي آمنوا، ثم بعد ذلك عملوا الصالحات، ولم يقتصروا على هذا فقط؛ بل قاموا بدعوة غيرهم، فتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. إنهم لم يقتصروا على أنفسهم؛ بل تعدى الأمر إلى غيرهم. فعلينا أن نتواصى فيما بيننا، فإنا بحاجة إلى ذلك، حتى الملتزم والمستقيم منّا، وكل منّا بحاجة إلى أن يوصي صديقه وزميله وأخاه وقريبه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه كما في الحديث الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه قال: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" والتواصي بالحق: أن تعرض المسألة على أخيك.

فإذا رأيته وقد أخل بسنة فتنصحه بأن يتمسك بها، وتبين له الدليل عليها حتى يعمل بها. وإذا كان واقعاً في معصية، فتقول له: أليس فعلك لهذه الجريمة ولهذه المعصية ذنباً تأثم عليه؟ ثم أليس هذا الذنب أو هذه المعصية تقدح في عدالتك وتقدح في استقامتك، فلماذا تصر عليها؟ ثم أليست هذه المعصية تنقص إيمانك وتنقص طاعاتك وتنقص حسناتك، وتزيد من سيئاتك، فلماذا تصر عليها؟ فإذا أجاب بجواب غير مقنع، فعليك أن تبين له الجواب الصحيح مستند إلى الأدلة في ذلك من الكتاب والسنة، ومن ثم تبين له الطريق المستقيم وتحثه عليه، وتحثه على أن يترك هذه الشبهات والضلالات، وأن يتمسك بالسنة حتى يكون من أهل الخير وأهل النجاة بإذن الله تعالى. مجالات الدعوة إلى الله: أما عن أنواع التعاون مع مكاتب الدعوة فهو مجال واسع، وكل حسب استطاعته وقدرته، ولا شك أن التعاون مع مكاتب الدعوة والهيئات وغيرها مما يقوي كلمة الله، وبه ينتشر الإسلام، وأيضاً مما يقوي أهل الشريعة، وأهل الاستقامة والالتزام. وفي استطاعة كل من قرأ القرآن على المشايخ، وحضر دروس العلماء في المساجد، وتفقه في دين الله، أن يبين ويعلّم ويدعو إلى ما يعلمه، فإنه يصدق عليه أن يُقَالَ هذا طالب علم، أو يُقَالَ هذا عالم، وإن كان علماً نسبياً، فعليه أن يحرص على تعدي هذا العلم إلى غيره بأي وسيلة ممكنة له. فإن استطاع أن ينتظم في سلك الدعاة إلى الله؛ سواء كان رسمياً أو معاوناً، فإن ذلك خير وهو وسيلة من وسائل نشر العلم ونشر الدين. ويؤسفنا اليوم قلة المنتظمين رسمياً في سلك الدعوة إلى الله، وكذلك قلة المتعاونين، فإنا بحاجة إلى زيادة العدد، وخاصة أن البلاد اليوم توسعت، والدعاة إلى الشر اليوم كثيرون، فإنا بحاجة إلى من يواجههم ويوقفهم عند حدهم، ويقلل من شرورهم وفسادهم.

إنني أنصح إخواني بالانضمام إلى إخوانهم الدعاة بأي وسيلة لديهم، ولو لم يحفظ إلا آيةً أو حديثاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " بلغوا عني ولو آية". نعم آية تحفظها أو حديثاً تحفظه، عليك أن تبلغه حتى تكون من العاملين بشريعة الله. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " نضر الله أمرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها" وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " فيبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع" فيا أخي الشاب المستقيم الذي هداك الله لهذا الإسلام، ولهذا الدين؛ عليك أن لا تحقر نفسك بالانضمام إلى إخوانك، فإنهم بحاجة إليك، وحتى تنفع نفسك بأدائك شيئاً من هذا الواجب، وتنفع إخوانك فتخفف من الوطأة التي يتحملونها؛ حيث إنهم يتكلفون في الذهاب إلى الأماكن البعيدة، وقد يشق ذلك عليهم. فإذا وجدوا أن هذا تعاون معهم، وهذا تعاون والثالث والرابع، فإن ذلك: أولاً: يخفف الوطأة عليهم: وثانياً: تعمُّ المنفعة، فلا يقتصر الإنسان على نفسه ويقول: أصلحت نفسي ولا حاجة لي في غيري. بل نقول: هذه وساوس شيطانية، فإن الأمة بحاجة إلى عملك ودعوتك، وأن دعاة الشر كثيرون، وإذا لم يكن هناك من يقاومهم ومن يفند ضلالهم وشبهاتهم؛ فلا شك أنه ستقوى شوكتهم، ويكون الأمر لهم بعد ذلك إلا أن يشاء الله. أما عن مجالات الدعوة إلى الله، فهي كثيرة، وكل إنسان يختلف عن غيره، وكل يعرف قدراته وإمكاناته، ولكن نذكر على سبيل المثال، بعض هذه المجالات، حتى يعرف كل، واحد مكانه منها، فمن ذلك: الخطبة: والخطبة مجال من مجالات الدعوة إلى الله وخاصة أن هناك خطباء ليسوا بأكفاء، ولديهم أخطاء كثيرة، إما بمعتقداتهم أو بوجهات نظرهم أو بمنهجهم.

فعلى الأخ الداعي الذي تعلم العلم الصحيح، واستقام على دين الله، أن ينتهز هذه الفرصة، ويكون خطيباً في مسجد من المساجد، ويوجّه هؤلاء المصلين الذين لا يسمعون موعظة دينية إلا في كل أسبوع مرة واحدة. وعليه أن يختار لهم الخطب النافعة التي تعالج مشاكلهم، وتنبههم على ما هم غافلون عنه، فلعل الله أن يهدي به بعض الحاضرين فيتأثر بما يسمع، فيرجع عن غيِّه، وفي الحديث عنه عليه السلام قال لعلي: " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النّعم" الإمامة: ومجال آخر من مجالات الدعوة إلى الله وهو تولي الإمامة في مسجد من المساجد ليس فيه جمعة. وما أكثر المساجد التي هي بحاجة إلى أئمة صادقين ومجتهدين، وحريصين على نفع غيرهم من إخوانهم المصلين، فإن كثيراً من الأئمة إما جاهل وعلمه بالشريعة قليل جداًّ، وإما لا يبالي بدعوة إخوانه المصلين ونصحهم وتنظيم الدروس العلمية لهم وتوجيههم. والإمام الذي يتولى إمامة مسجد وقصده الصلاح ونفع إخوانه فإنه: أولاً: تكون الصلاة خلفه مقبولة بإذن الله تعالى، وذلك أنه يحرص على إكمال شروط الصلاة وواجباتها وأركانها وسننها. ثانياً: أنه ينفع المصلين فإما أن يقرأ عليهم في كتاب مثلاً، أو يقرأ عليهم نصيحة، أو يفسر لهم آية، أو يشرح لهم حديثاً، أو نحو ذلك. فهو بذلك ينفع نفسه وينفع إخوانه المصلين. إذاً فما الذي يعوقك يا أخي أن تتولى هذا المنصب، فتكون بذلك من الذين نفعوا أنفسهم ونفعوا الأمة، وأسقطوا الواجب عن غيرهم. المساعدة: ثم مجال آخر من مجالات الدعوة إلى الله، وهو مجال المعاونة والمساعدة بشتى أنواعها: المادية والمعنوية. فإن مكاتب الهيئات ومكاتب الدعوة وغيرها بحاجة إلى من يساندهم ويساعدهم كلٌّ حسب قدرته واستطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

أما التعاون مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو واجب كل مسلم، وخاصة الملتزم والمستقيم. وما ذاك إلا أنهم بحاجة إلى من يقف بجانبهم، وليس شرطاً أن يكون كبيراً أو صغيراً، أو عالماً متخصصاً، فما دام أنه عالمٌ أن هذا الأمر من المنكر وهذا الأمر من المعروف، فليس له العذر في أن يسكت على ذلك أو يقبع في منزله أو سوقه، ويترك هذه المنكرات تتمكّن وتفشو. صفات الملتزم والمستقيم إن الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل شاب ملتزم ومستقيم كثيرةٌ جداً. فأنت مثلاً ترى شابّاً قد تحلى ببعض الصفات الظاهرة فتقول: هذا شابٌّ ملتزمٌ. فإذا رأيته مثلاً وقد أعفى لحيته ورفع ثوبه وحافظ على الصلاة في المساجد، ورأيته لا يقنتي الملهيات وغيرها، ورأيته يجالس أهل الخير والاستقامة، ورأيته يغشى مجالس العلماء ويحبهم ويتكلم معهم بما تعلمه منهم. قلت: هذا من الملتزمين ومن المستقيمين. ولكن هذا لا يكفي، فإن هذه صفات ظاهرة، يجب على الملتزم أن يتحلى بها، ولكن هناك صفات أخرى يجب على كل شاب مسلم ملتزم أن يتحلى بها، حتى يكمل التزامه ويكون من المستقيمين حقاً، وعلى سبيل المثال نذكر بعض هذه الصفات المهمة، وذلك للاختصار وعدم الإطالة، والله المستعان. أولاً: من صفات الملتزم والمستقيم: المعاملة الحسنة: قال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) . وفي الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قال لي النبي صلى الله عليه وسلم لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".

فالمعاملة الحسنة صفة من صفات كل مسلم، وكل ملتزم، فلا تكن فظّاً غليظاً، ولا تكن شرساً ولا عبوساً في وجوه من تلقاهم من إخوانك، ولا تكن حاقداً وحاسداً ومبغضاً لهم بدون سبب يذكر. فعليك أن تكون لين الجانب وأن تلقى أخاك بوجه مسفر منطلق مبتسم، إعجاباً به ومحبة له، فهذه كلها من صفات الملتزمين التي جاء الشرع بها وحث عليها. ثانياً: من صفات الملتزم والمستقيم: التأدب مع الغير وحسن الجوار، وأداء الأمانة: وكذلك من الآداب تأدب المسلم الملتزم مع الآخرين، ومثال ذلك تأدبه مع أبويه، وذلك ببرهما وطاعتهما في غير معصية، وهذا أمر واجب. وكذلك يكون واصلاً لأرحامه، ومتأدباً معهم ومؤدياً حقوقهم التي عليه. وكذلك حسن الجوار وتأدبه مع جيرانه وعدم إيذائهم ومعرفة حق الجار، وصدق الحديث معهم ومع غيرهم، وهكذا أداء الأمانة وغيرها من الصفات الحميدة التي يجب عليك أيها المسلم الملتزم أن تتحلى بها. ثالثاً: من صفات الملتزم والمستقيم: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بُدُّ نتحدث فيها. فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ولا شك أن من صفات المسلم الملتزم المستقيم التمسك بهذه الأمور، التي وردت في الحديث، فهي من صفات المسلمين عموماً والملتزمين خصوصاً. وإن التهاون بهذه الأمور يضعف من تمسك الإنسان والتزامه واستقامته! فالذي يمد عينيه وينظر إلى ما نهى الله عنه ويخالف قول الله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) فإن ذلك دليل على ضعف تمسكه والتزامه.

والذي لا يحفظ لسانه عما حرم الله، ولا يفكر في عاقبة كلمته، فإنه قد يقع في مهاوي ومهالك، ويكون ذلك دليلاً على ضعف تمسكه بالأخلاق والآداب الإسلامية. والملتزم هو الذي يحفظ لسانه، فتراه إن تكلم لا يتكلم إلا بخير، وإلا سكت، فلا تسمع منه سباباً ولا قذفاً ولا عيباً ولا غير ذلك. أما إن حذّر من منكر، أو عاب من يستحق العيب، أو شهَّر بإنسان يستحق التشهير، أو ذكر إنساناً بسوء للتحذير منه، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا غبار عليه؛ بل هو من مكملات الالتزام والاستقامة على دين الله. هذه جملة من الآداب والأخلاق التي جاءت مكملات الالتزام والاستقامة، ومن أراد التوسع فيها فليرجع إلى الكتب التي ألّفتَ في الآداب والأخلاق مثل: "الآداب" للبيهقي، "والآداب الكبرى" لابن مفلح، وكذلك: "أدب الدين والدنيا" للماوردي، وكذلك: "روضة العقلاء" لابن حبان، وغيرها من الكتب. وصية وخاتمة وفي الختام فهذه وصية خاصة لإخواني الدعاة إلى الله، وإلى كل مسلم ملتزم ومستقيم على أمر الله، فأقول لهم: إننا في هذه الأزمنة كما تعرفون في غربة في الدين". وإن كان عدد الحضور للمحاضرات وغيرها كثيراً، ولكن إذا خرجنا إلى الأسواق وجدنا الكثير ممن ضعف تمسكهم والتزامهم بشرع الله، وهكذا لو دخلنا النوادي وجدنا الكثير والكثير، وهكذا المدارس الثانوية والجامعات والكليات وغيرها، فإن هناك مجموعات كثيرة ممن ضعف التزامهم وقلت استقامتهم. وهكذا إذا خرجنا في أطراف البلاد رأينا المتنزهين الذي خرجوا للنزهة ونصبوا الخيام، وهكذا أماكن تجمع العمل والشركات والورش وغيرها. وهنا أطرح سؤالاً: أليس لهؤلاء حق علينا؟!! إذا رأينا كثرة هؤلاء الهالكين الذين هم على شفا جرف من الهلاك، ألسنا مسؤولين عنهم؟!!

فما دمنا قد منّ الله علينا بالالتزام والاستقامة، فإن علينا أن لا نتركهم على ضلالهم وعلى غيهم؛ بل نحرص على جذبهم إلى التمسك بدين الله والاستقامة عليه. فإن كانوا ممن يدين بالإسلام، ولكن لا يعرف من دينه إلا مجرد التسمية فإننا ننصحه ونوجهه ونبين له الدين الصحيح والإسلام الحق، لعل الله أن يهديه ويصبح من المستقيمين على دين الله ومن المتمسكين بالسنة والشريعة. وإن كان ممن لا يدين بدين الإسلام، فإننا ندعوه إلى الإسلام، ونبين له محاسنه، فالإسلام هو الدين الواجب اتباعه وأما غيره من الأديان فهي باطلة، وهكذا فلعل الله أن يهديه إلى الإسلام. وهذه دعوة لأخواني الملتزمين فلو أن كل واحد منَّا خصَّص يوماً في الأسبوع، ومشى إلى هذه الورش وأماكن تجمّع العمال وغيرهم، ودعا إلى الله تعالى أو مشى إلى أماكن تجمعهم للصلاة، وألقى عليهم كلمة قصيرة، فإنه سيحصل بذلك خيرٌ كثيرٌ إن شاء الله. ولو ذهب كل واحد أو مجموعة إلى تلك المجالس والمخيمات ونحوها، وألقى نصيحة وكلمة خفيفة، أو وزع منشوراً أو شريطاً من الأشرطة المفيدة النافعة. فماذا تكون النتيجة بعد ذلك؟!! لا شك أن الخير سينتشر بإذن الله تعالى، وينتشر الإسلام انتشاراً كبيراً، ويكثر أهل الخير والمستقيمون والمتمسكون بدين الله، وهذا ما نتمناه ونرجوه إن شاء الله، ونرجو أن يكون من الإخوة الحاضرين وغيرهم من لديهم هذه الرغبة والعزيمة، وأن يضعوا نصب أعينهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب حين بعثه للجهاد، فقال له: " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النّعم"

نسأل الله أن يمن علينا بطاعته، ونسأله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأله أن يجعلنا من المتمسكين بشريعته، والذابين عن دينه، والمجاهدين في سبيله، والمبلغين لأمره وشرعه، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين إلى الله على بصيرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

آداب الصيام وأحكامه

آداب الصيام وأحكامه الفهرس تقديم فضيلة الشيخ ابن جبرين. المقدمة. الفصل الأول: وقفات وفوائد وآداب. أولاً: استقبال شهر رمضان. ثانياً: من فوائد الصيام: حصول التقوى. حفظ الجوارح عن المعاصي. حمية للبدن. تذكر الفقراء والذين يموتون جوعاً. تخفيف حدة الشهوة. ثالثاً: خصوصية الصيام. الفصل الثاني: أحكام الصيام: أولاً: الصيام الواجب وصيام التطوع. ثانياً: مفطرات الصيام: المفطرات الحسية: 1- الأكل والشرب. 2- النكاح. 3- القيء. 4- خروج الدم من جرح أو رعاف. 5- الحجامة. 6- نقل الدم بالإبرة. 7- الضرب بالإبرة. (ب) المفطرات المعنوية. ثالثا: صيام أهل الأعذار: 1- صيام المسافر. 2- صيام المريض. 3- صيام الكبير. 4- صيام المرأة الحامل أو المرضع والحائض والنفساء. الفصل الثالث: قيام الليل. قيام النبي صلى الله عليه وسلم. قيام السلف رضي الله عنهم. الفصل الرابع: الاعتكاف. حقيقة الاعتكاف. الحكمة من الاعتكاف. فضل الزمان وفضل المكان. مدة الاعتكاف. محظورات الاعتكاف. الفصل الخامس: إحياء العشر الأواخر من رمضان. إحياء الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر. أقسام الناس في إحياء العشر الأواخر. القسم الأول: يحيونها بالعبادات. القسم الثاني: يحيونها في التكسب وفي التجارات. القسم الثالث: يحيونها في اللهو واللغو. القسم الرابع: يحيونها في المعاصي كبيرها وصغيرها. استحباب زيادة الاجتهاد في العشر الأواخر. إيقاظ الأهل في العشر الأواخر. إظهار النشاط والقوة في العشر الأواخر. تحري ليلة القدر في العشر الأواخر. فضل ليلة القدر. قيام ليلة القدر. الفصل السادس: القرآن والذكر في رمضان. القرآن في رمضان. الذكر والدعاء في رمضان. الاستغفار في رمضان. في ختام الشهر. الفصل السابع: زكاة الفطر وما يتعلق بها من أحكام. معنى زكاة الفطر وسبب تسميتها بذلك.

تاريخ تشريع زكاة الفطر. حكم زكاة الفطر. الحكمة من تشريع زكاة الفطر. أصناف زكاة الفطر. مقدار زكاة الفطر. إخراج قيمة زكاة الفطر نقداً. على من تجب زكاة الفطر. جهة إخراج زكاة الفطر. نقل زكاة الفطر من بلد الشخص إلى بلد آخر. وقت إخراج زكاة الفطر. الفصل الثامن: أحكام العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى) أعياد المسلمين وحكم الاحتفال والتهنئة بأعياد الكفار. من أحكام العيد: أولاً: حكم صلاة العيد. ثانياً: من سنن ومستحبات صلاة العيد. ثالثا: من آداب العيد. رابعاً: صفة صلاة العيد. خامساً: الفرق بين صلاة عيد الفطر وصلاة عيد الأضحى. سادساً: حكم خروج النساء لصلاة العيد. منكرات تقع يوم العيد: 1- إحياء ليلة العيد. 2- اختلاط الرجال بالنساء في مصلى العيد. 3- الاجتماع على الغناء والرقص وبعض المعاصي لإظهار الفرح. 4- الفرح بالعيد لأنهم تركوا رمضان. الخاتمة: وداعاً يا شهر التوبة. تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين الحمد لله الذي فضل شهر رمضان على بقية الشهور، وجعله موسماً لصالح الأعمال ومضاعفة الأجور، وأنزل فيه القرآن بما أوضح من الهدى والنور. وأحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ الذي بين للأمة الأعمال، وسن لهم من نوافل العبادات ما يحصلون به على المغفرة وجزيل الثواب، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

فهذه مجموعة من محاضرات تتعلق بالصيام والقيام والاعتكاف والأعمال الصالحة التي تسن في شهر رمضان، كنت ألقيتها في مناسبات وأوقات مختلفة فجمعها بعض الإخوان الصالحين، وطلب الإذن في نشرها فوافقت على ذلك لما فيها من المصلحة والمنفعة العامة والخاصة. وحيث إنها ألقيت ارتجالاً بدون تحضير وإعداد فلا يستغرب ضعف التعبير ووجود الاختلال في سبك الكلام وعدم التناسب والتنسيق، ولكن المعنى ظاهر مفهوم، والله المسؤول أن ينفع بها المسلمين وأن يجزل لنا الثواب ولمن سعى في إخراجها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) (البقرة:183) يقول ابن كثير رحمه الله (تفسير القرآن العظيم 1/213) : "يقول الله تعالى مخاطباً المؤمنين من هذه الأمة وآمراً لهم بالصيام؛ وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الردئية والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيهم أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك.. ثم قال: والصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان…" اهـ. لقد جاءكم شهر كريم، أوجب الله صيامه وقيامه، فمن قصر فيه فهو من الخاسرين، ومن اجتهد في صيامه وقيامه كان من الرابحين.

شهر رمضان شهر البركات؛ أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فيا له من شهر عظيم يجب علينا أن نستغل أيامه ولياليه، فالخاسر من يذهب عنه الشهر ولم يغفر له. ولأهمية الصيام وعظم شأنه فقد قمت بجمع هذه الرسالة من محاضرات وفتاوى شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ثم قمت بترتيبها والتنسيق بين موضوعاتها، ثم أضفت إليها بعض المسائل المهمة والتي أجاب عليها فضيلة الشيخ بخط يده. فجاءت رسالة شاملة مبينة لآداب الصيام وأحكامه، إضافة إلى بيان شيء من أحكام الاعتكاف وفضل العشر الأواخر من رمضان، وأحكام زكاة الفطر، وأحكام العيد ثم خاتمة في وداع الشهر الكريم. نسأل الله أن يعيده علينا وعليكم والمسلمون في عز ونصر وتمكين، ونسأله تعالى أن يبلغنا رمضان، وأن يتقبل منّا الصيام والقيام، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه أبو أنس علي بن حسين أبو لوز في: 30/5/1417هـ الموافق: 12/10/1996م الرياض - حي الخالدية الرمز: 11497 - ص. ب:31271 الفصل الأول وقفات وفوائد وآداب أولاً: استقبال شهر رمضان:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهنئ أصحابه بقدوم شهر رمضان، كما في الحديث الذي رواه سلمان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم خطب في آخر يوم من شعبان، فقال: "قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن، من فطّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتقاً لرقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، قال: "يعطي الله هذا الأجر لمن فطر صائماً على مذقة لبن، أو شربة ماء، أو تمرة، ومن أشبع فيه صائماً، أو من سقى فيه صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما. أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما: فتسألونه الجنة، وتستعيذون به من النار" (أخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم 1887) . وروي أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يفرح بقدوم رمضان، فكان إذا دخل رجب يقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلَّغنا رمضان" وهكذا كان السلف -رحمهم الله- يفرحون به، ويدعون الله به، فكانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، فتكون سنتهم كلها اهتماماً برمضان. وفي حديث مرفوع رواه ابن أبي الدنيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو تعلم أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان".

ونشاهد الناس عامة، مطيعهم وعاصيهم، أفرادهم وجماعاتهم، يفرحون بحلول الشهر الكريم، ويظهرون جداً ونشاطاً عندما يأتي أول الشهر؛ فنجدهم يسارعون الخُطا إلى المساجد، ويكثرون من القراءة ومن الأذكار، وكذلك نجدهم يتعبدون بالكثير من العبادات في أوقات متعددة، ولكن يظهر في كثير منهم السأم والتعب بعد مدة وجيزة! فيقصِّرون، أو يخلّون في كثير من الأعمال! نسأل الله العافية. ثانياً: من فوائد الصيام: إن الله سبحانه وتعالى ما شرع هذا الصيام لأجل مس الجوع والظمأ، وما شرع هذا الصيام لأجل أن نعذب أنفسنا، بل لابد من فوائد لهذا الصيام قد تظهر وقد تخفى على الكثير، ومن هذه الفوائد: 1- حصول التقوى: فإن الله لما أمر بالصيام قرنه بالتقوى، كما في قول الله تعالى: ((كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) (البقرة:183) ، فجعل التقوى مترتبة على الصيام. ولكن متى تحصل التقوى للصائم؟ التقوى هي: توقِّي عذاب الله، وتوقي سخطه، وأن يجعل العبد بينه وبين معصية الله حاجزاً، ووقاية، وستراً منيعاً. ولا شك أن الصيام من أسباب حصول التقوى، ذلك أن الإنسان ما دام ممسكاً في نهاره عن هذه المفطرات -التي هي الطعام والشراب والنساء- فإنه متى دعته نفسه في نهاره إلى معصية من المعاصي رجع إلى نفسه فقال: كيف أفعل معصية وأنا متلبس بطاعة الله؟! بل كيف أترك المباحات وأفعل المحرمات؟!! ولهذا ذكر العلماء أنه لا يتم الصيام بترك المباحات إلا بعد أن يتقرب العبد بترك المحرمات في كل زمان؛ والمحرمات مثل: المعاملات الربوية، والغش، والخداع، وكسب المال الحرام، وأخذ المال بغير حق، ونحو ذلك كالسرقة، والنهب، وهذه محرمة في كل وقت، وتزداد حرمتها مع أفضلية الزمان كشهر رمضان.

ومن المحرمات كذلك: محرمات اللسان؛ كالغيبة، والنميمة، والسباب، والشتم، واللعن، والقذف، وما إلى ذلك. فإن هذه كلها محرمات في كل حال، ولا يتم الصيام حقيقة، ويثاب عليه إلا مع تركها. روى الإمام أحمد في مسنده (5/431) عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن امرأتين صامتا فكادتا أن تموتا من العطش، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنهما، ثم ذكرتا له، فأعرض عنهما، ثم دعاهما فأمرهما أن يتقيئا فتقيئتا ملء قدح قيحاً ودماً وصديداً ولحماً عبيطاً! فقال: "إن هاتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس". ولأجل ذلك ورد في الحديث الشريف قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث" (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 4/270) . وقال صلى الله عليه وسلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر". ويقول بعضهم شعراً: إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غض، وفي منطقي صمت فحظي إذن من صومي الجوع والظمأ وإن قلت: إني صمت يومي، فما صمت! فلا بد أن يحفظ الصائم جوارحه. روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الغيبة والنميمة، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء" (ذكره ابن رجب في لطائف المعارف وغيره) . فالذي يفعل الحرام وهو صائم لا شك أنه لم يتأثر بالصوم، فمن يصوم ثم يرتكب الآثام فليس من أهل التقوى، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". 2- حفظ الجوارح عن المعاصي:

ومن حِكَمِ الصيام وفوائده أن الإنسان يحفظ وجدانه، ويحفظ جوارحه عن المعاصي، فلا يقربها، حتى يتم بذلك صيامه، وحتى يتعود بعد ذلك على البعد عن هذه المحرمات دائماً. فالإنسان إذا دعته نفسه إلى أن يتكلم بالزور، أو بالفجور، أو يعمل منكراً: من سب، أو شتم، أو غير ذلك، تذكر أنه في عبادة، فقال: كيف أتقرب بهذه العبادة، وأضيف إليها معصية؟! ليس من الإنصاف أن يكون في وقت واحد وفي حالة واحدة جامعاً بين الأمرين: الطاعة والمعصية! إن معصيته قد تفسد طاعته، وتمحو ثوابها. فالإنسان مأمور أن يكون محافظاً على الطاعة في كل أوقاته، ولكن في وقت الصيام أشد. وكثير من الناس وقوا أنفسهم في شهر رمضان ثلاثين يوماً، أو تسعة عشرين يوماً عن المحرمات، فوقاهم الله بقية أعمارهم منها. وكثير من الناس كانوا يشربون الخمر، أو الدخان، وما أشبه ذلك، ثم قهروا أنفسهم في هذا الشهر، وغلبوها، وفطموها عن شهواتها، وحمتهم معرفتهم لعظم هذه العبادة ألا يجمعوا معها معصية، واستمروا على ذلك الحال، محافظين على أنفسهم، إلى أن انقضت أيام الشهر وكان ذلك سبباً لتوبتهم وإقلاعهم واستمرارهم على ذلك الترك لهذه المحرمات، فكان لهم في هذا الصيام فائدة عظيمة. وهكذا أيضاً إذا حافظ العبد على قيامه، واستمر عليه، حمله ذلك على الإكثار من تلك العبادة فإذا تعبد الإنسان بترك المفطرات، والصيام لله تعالى، دعاه إيمانه، ودعاه يقينه، وقلبه السليم إلى أن يتقرب بغيرهما من العبادات. فتجده طوال نهاره يحاسب نفسه ماذا عملت؟ وماذا تزودت؟ تجده طوال يومه محافظاً على وقته لئلا يضيع بلا فائدة؛ فإذا كان جالساً وحده انشغل بقراءة، أو بذكر، أو بدعاء، أو يتذكر آلاء الله وآياته.

وإذا كان في وقت صلاة، صلى ما كتب له من ليل أو نهار، وإن دخلت الصلاة أقبل عليها بقلبه وقالبه، وأخذ يتأمل ويتفكر ما يقول فيها؛ فيكون الصيام بذلك سبباً في كثرة الأعمال والقربات كما يكون سبباً للمنع من المحرمات. 3- حمية للبدن: ومن حكمة الله تعالى في هذا الصيام أيضاً أن فيه حمية للبدن عن الفضلات. ولا شك أن الحمية من أقوى أنواع الأدوية والعلاجات، فالصيام يُكسب البدن المناعة والقوة، كما يكسبه أيضاً تدرُّباً على الصبر واحتمال الجوع والعطش، حتى إذا ما تعرض له بعد ذلك فإذا هو قد اعتاد عليه، فكان في ذلك منفعة عظيمة. 4- تذكر الفقراء والذين يموتون جوعاً: ومن الحكم الجليلة التي شرع لها الصيام أن يشعر الإنسان بالجوع فترة الصيام فيتذكَّر أهل الجوع دائماً من المساكين والفقراء، ليرأف بهم، ويرحمهم، ويتصدق عليهم. فشُرع الصيام لأجل أن يتضرع الإنسان -إذا ما أحسَّ بالجوع- فيدعو ربه، كما ورد في الحديث: "إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه جبال مكة ذهباً، فقال: لا يا رب بل أرضى بأن أجوع يوماً، وأشبع يوماً، فإذا جُعْتُ تضرعتُ إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك" (أخرجه الترمذي برقم 2347 وقال حديث حسن) . فذكر أن الجوع سببٌ للتضرع والذكر. فالإنسان إذا أحس بالجوع تضرع إلى الله. ومن الحكم في الصيام أن الإنسان يقلل من الطعام حتى يحس بأثر الجوع، فيتضرع ويدعو الله، ويتواضع له، ويكون ذاكراً له، مقبلاً إليه، متواضعاً بين يديه.

ونلاحظ كثيراً من الناس أنهم لا يحسون بأثر هذا الجوع في هذه الأزمنة، وذلك أنهم عند الإفطار يجمعون من المأكولات والمشتهيات ما يملؤون به بطونهم، ويستمرون في الأكل طوال ليلهم، متلذذين بأنواع المأكولات حتى إذا ما أتى النهار وقد مُلئت بطونهم مكثوا طوال نهارهم في راحة، أو في نوم أو ما أشبه ذلك إلى أن يأتي الليل فلا يحس أحدهم بأنه صائم، ولا يظهر عليه أثر الصوم. ومن المعلوم أن هذا الحال لم يكن من الصحابة والسلف الأولين، فإنهم كانوا يقللون من المأكل في إفطارهم وفي سحورهم، ولا يأكلون إلا ما يقتاتون به ويقيم أصلابهم، كما أنهم كانوا طوال نهارهم منشغلين في أعمالهم الدينية والدنيوية، ولذلك لا بد وأن يظهر عليهم أثر الجوع والتعب، ولكنهم يحتسبون ذلك عند الله. فينبغي للمسلم ألا يكون همه المأكل، وأن يعمل حتى يكون للصوم آثاره وفوائده. 5- تخفيف حدة الشهوة: وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصوم للشباب وجَاءً أي: مخففاً من حدة الشهوة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". (متفق عليه) . ذلك أن الصوم يكسر حدة شهوة النكاح. وكثير من الناس الآن يصومون، لكنهم لا يجدون لهذا الصيام أثراً لتخفيف حدة الشهوة، وذلك أنهم لم يذوقوا ألم الجوع والعطش والتعب، بل ظلت نفوسهم متعبة بالشهوات، وأنّى لهم أن يتركوها وقد أضافوا إلى صومهم كل ما تعف النفس عن رؤيته من أفلام خليعة ومسلسلات ماجنة. ثالثاً: خصوصية الصيام:

إن الصيام عبادة بدنية قوامُها ترك المفطرات المعروفة، ولما كان ترك هذه المفطرات سراً بين العبد وبين ربه، فإنه مما لا شك فيه أنه متى تم هذا العمل فيما بين الإنسان وبين الله كان ذلك أعظم لأجره، وأجزل لثوابه. وقد ذكر ذلك كثير من العلماء، فقالوا: إن الصيام سر بين العبد وبين الله. وقالوا: إن ملائكة الحفظة لا تكتبه، لأن الإنسان إذا صام لا يطّلع عليه إلا الله. فإذا صمت فمن الذي يراك في كل حركاتك، وفي كل أوقاتك؟! إن من يغفل عن مراقبة الله له يمكنه أن يفعل ما يريد فيتناول طعامه وشرابه دون ما خوف من الله عز وجل. ولكن العبد المؤمن يعلم أن معه من يراقبه، وأن عليه رقيب عتيد؛ يعلم أن ربه يراه قال تعالى: ((الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين)) (الشعراء:218-219) . فإذا كان العبد يؤمن بأن الله تعالى هو المطّلع عليه وحده، كان ذلك مما يحمله على أن يخلص في عمله، كما يحمله على الإخلاص في كل الحالات، ويبقى معه في كل شهور السنة. فإذا راقبت الله تعالى، وحفظت صيامك، في سرّك وجهرك، في الأسواق وفي البيوت، ولم تتناول ما يفسد صومك، وعرفت أن الله يراقبك فلماذا تعود إلى هذه المعاصي بعد رمضان، وقد حرّمها الله عليك؟! إذا كان الله تعالى قد حرم علينا الكذب، والقذف، وسائر المحرمات من محرمات اللسان، ومحرمات الفرج، ومحرمات اليد، وما سواها. فلماذا نقدم عليها في غير رمضان؟! أليس الذي يراقبنا في رمضان هو الذي يراقبنا في سائر الأوقات؟ فيجب على المسلم أن يستحضر ربه دائماً، فإنه عليه رقيب يعلم ما تكنه نفسه، يقول تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) (ق:16) . الفصل الثاني أحكام الصيام

إن أحكام الصيام بحمد الله واضحة جلية ذلك لأن الصيام يتردد على المسلم كل عام ويصوم الاتقياء -إضافة إلى هذا- في أثناء السنة تطوعاً طمعاً أن يثيبهم الله تعالى عليه، ولكن لا بد أن نذكر شيئاً يسيراً من أحكام الصيام. أولاً: الصيام الواجب وصيام التطوع: إن الصيام الواجب الذي هو فرض من فرائض الإسلام، وركن من أركانه، هو شهر رمضان، وما سواه فإنه تطوع: ((فمن تطوع خيراً فهو خير له)) (البقرة:184) . والدليل على وجوبه وفرضه قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) (البقرة:183) . أي: فرض عليكم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس:… وذكر منها: وصوم رمضان". والصيام فريضة كان أو نافلة: هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. والذي يَلْزَمُهُ هذا الإمساك هو المكلف، أما غير المكلف كالمجنون أو الصغير الذي لم يبلغ سن التكليف فهذا لا صيام عليه، وكذلك الكافر الذي طلب منه شرطه وهو الإسلام. فالصيام إذاً يجب على المسلم المكلف، يعني البالغ العاقل القادر؛ فالمسلم يخرج الكافر، والمكلف يخرج الصغير والمجنون، والقادر يخرج المريض ونحوه من المعذورين، وإن كان يجب عليه القضاء أو الفدية. ثانياً: مفطرات الصيام: (أ) المفطرات الحسية: إن المفطرات الحسية التي تنافي هذا الصيام معروفة وأهمها: الأكل، والشرب، والنكاح، ولكن يعفى في الأكل والشرب عن الناسي، فإذا فعل شيئاً منها ناسياً عُفي عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: "إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه". ونأتي على شيء من التفصيل في هذه المفطرات: 1- الأكل والشرب:

إذا أفطر بهما فليس عليه إلا القضاء إذا أفطر لعذر، أما إذا أفطر لغير عذر فقد وقع في ذنب كبير كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "من أفطر يوماً في رمضان من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر، وإن صامه". فالذي يفطر في شهر رمضان متعمداً دون أن يكون له عذر من مرض أو سفر، أو نحو ذلك، يعتبر قد تهاون بهذا الركن، وأقدم على ما يفسده فهو كمن يترك الصلاة عمداً. ويذهب بعض العلماء إلى كفر من أفطر من غير عذر، ولا حاجة به إلى الإفطار، وإنما هو تهاون، وكذلك من ترك الصلاة بدون عذر فيذهب أيضاً بعض العلماء إلى أنه كافر لكونه تهاون بما فرضه الله دون أن يكون له عذر، ولكن مع ذلك عليه التوبة، وعليه الإنابة، وعدم العودة إلى هذا الفعل، وعليه إكمال شهره، والمحافظة عليه في بقية عمره. 2- النكاح: إذا جامع الرجل أهله في نهار رمضان فإن عليه القضاء مع الكفارة التي هي كفارة الظهار، التي ذكرها الله تعالى في أول سورة المجادلة فقال تعالى: ((والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم)) (المجادلة:3-4) . فكذلك كفارة المُواقع أهله في نهار رمضان. ويقع هذا من كثير من الشباب الذين ينامون مع أزواجهم بعد صلاة الفجر فلا يملك أحدهم نفسه وخاصة إذا كان لا ينام مع أهله في الليل، فإذا نام في النهار لم يأمن أن تثور منه الشهوة. فلذلك يرشد الشاب المسلم أن ينام مع أهله في الليل، حتى يعطي نفسه شهوته المباحة، ويسلم من تناول هذه الشهوة المحرمة في النهار، والتي توقعه في كفارة كبيرة. وهناك مفطرات أخرى غير الأكل والشرب والجماع، ومن هذه المفطرات: 3- القيء:

ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من استقاء عمداً فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه". فمن تعمد إخراج القيء فإن عليه القضاء لكونه تعمد إخراج ما يفطر صومه، ومن غلبه وخرج قهراً، فلا قضاء عليه، لكونه لم يتسبب في ذلك. 4- خروج الدم من جرح أو رعاف: إذا خرج الدم عن غلبة فإنه لا قضاء عليه، وإذا تعمد إخراجه، فالقياس أنه يفطر كالقيء، ولكن إذا خرج بدون اختيار منه، أو كان بحاجة إلى ذلك كخلع ضرس ونحوه، فله أن يتحّفظ عن دخوله مع ريقه، أو ابتلاع شيء، فإن تحفظ فالصحيح أيضاً أنه لا يؤثر على صومه. 5- الحجامة: ذهب الإمام أحمد إلى أن الحجامة تفطر، واستدل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم". وهو حديث متواتر، رواه عدد من الصحابة كما في شرح الزركشي، ولو لم يكن منه شيء في الصحيحين، ولكن منه أحاديث ثابتة عن شداد وثوبان وغيرهما لا طعن فيها على الصحيح. وفطر الحاجم؛ في ذلك الوقت لأنه يمتص الدم ويكرر امتصاصه، فيختلط بريقه فلا يؤمن أن يبتلع منه شيئاً، ولكن في هذه الأزمنة وجدت محاجم ليس فيها امتصاص، إنما هي آلات يضغط عليها فتمسكه، وتمتص الدم، ففي هذه الحال قد يقال لا يفطر الحاجم إلا أن يكون لتسببه في إفطار غيره. وأما المحجوم فإنه يفطر لخروج هذا الدم الكثير منه فيقاس على خروج دم الحائض. 6- نقل الدم بالإبرة: لو أخذ الدم فيما يسمى بالتحليل، أو التبرع لمنحه للمريض، فإذا كان هذا الدم كثيراً فإنه يلحق بالحجامة، وأما الدم القليل بالإبرة، وما يؤخذ للتحليل فالصحيح أنه لا يفطر لكونه ليس حجامة ولا يلحق بها. 7- الضرب بالإبرة: وفيه تفصيل:

فإذا كانت الحقنة مغذية ومقوية فإنها تفطر، وذلك لقيامها مقام الطعام، والشراب. فالمغذي هو الذي يدخل مع العروق ويقوم مقام الطعام والشراب، وعلى هذا فالإبر المغذية والمقوية التي تكسب البدن قوة تفطر؛ لأنها قامت مقام الأكل ونابت عنه. أما الإبر الأخرى التي هي إبر يسيرة للتهدئة أو لتصفية الجسم، أو ما أشبه ذلك، فالأولى والصحيح أنها لا بأس بها للحاجة، ولا تفطر الصائم. (ب) المفطرات المعنوية: وكما أن على الصائم أن يمسك عن المفطرات الحسية كالأكل والشرب وغيره، فإن عليه أيضاً أن يمسك عن المفطرات المعنوية التي تنقص الصيام، كما ورد في الحديث الشريف: "ليس الصيام عن الطعام والشراب إنما الصيام عن اللغو والرفث" (سبق تخريجه) . فعلى الصائم أن يمسك عن الكلام السيئ الذي فيه مضرة على غيره ومشقة، حتى يحوز أجر الصيام كما تقدم. ثالثاً: صيام أهل الأعذار: إذا احتاج المرء إلى الأكل أو الشرب لمرض أو لسفر أو نحو ذلك، فإنه معذور فيأكل بقدر حاجته ويقضي كما أباح الله ذلك للمريض وللمسافر لقوله تعالى: ((فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر)) (البقرة:184) . ولمزيد من الفائدة فإننا نذكر بعض الأحكام الخاصة بصيام أهل الأعذار فمن ذلك: 1- صيام المسافر. 2- صيام المريض. 3- صيام الكبير. 4- صيام المرأة الحامل أو المرضع والحائض والنفساء. الفصل الثالث قيام الليل لا شك أن الصلاة من أفضل القربات، وأنها عبادة دينية لا تصلح إلا لله تعالى، واختصت بأعمال من القربات، مثل: الركوع والسجود، والقيام والقعود، والرفع والخفض، والدعاء والابتهال، والذكر لله، والقراءة، وغير ذلك مما اختصت به فكانت أشرف العبادات البدنية. ولما كانت الصلاة كذلك فقد فرضها الله تعالى على عباده فريضة مستمرة طوال العام والعمر، وكررها في اليوم خمس مرات، لما لها من أكبر الأثر في حياة المسلم.

ولما كانت من أهم الأعمال والقربات لله تعالى، فقد شرع لعباده أيضاً أن يتقربوا بنوافلها. فمدح الذين يكثرون من الصلاة، وخصوصاً في الليل، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً)) (المزمل:1-4) . وقال تعالى: ((ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)) (الإسراء:79) . فأمر نبيه أن يتهجد من الليل بهذا القرآن، والأمر له شريعة لأمته، فإن أمته تبع له، فهو أسوتهم وقدوتهم. قيام النبي صلى الله عليه وسلم: لقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى: ((يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً)) (المزمل:1-2) ، فكان يقوم نصف الليل، أو ثلثه، أو نحو ذلك طوال سنته، وكان يصلي من الليل ما شاء، ويطيل في الصلاة. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يخص شهر رمضان بمزيد من الاهتمام، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه. وقيام رمضان هو قيامه بالتهجد، بالصلاة ذات الخشوع، وذات الدعاء في هذه الليالي الشريفة. وقد حث عليه السلام أمته على هذه الصلاة، فكانوا يتقربون بها، تارة يصلونها وحدهم، وتارة يصلونها معه صلى الله عليه وسلم، فتوفي وهم يصلون أوزاعاً. يصلي في المسجد جماعة، أو ثلاث جماعات، أو أربع، وقد صلّى بهم صلى الله عليه وسلم في حياته ثلاث ليال متوالية جماعة، يصلي بهم نصف الليل أو ثلثه، أو نحو ذلك. لكنه وبعد أن رأى حرص الصحابة على قيام الليل معه ومداومتهم على ذلك وازدحام المسجد بهم خشي أن يُفرض عليهم ذلك القيام والاجتماع، فيعجزون فلا يحافظون ويستمرون عليه، فأمرهم أن يصلوا فرادى في أماكنهم.

ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمعهم على هذه الصلاة التي تسمى صلاة التراويح، فجمعهم عليها لما أمن أنها لن تفرض عليهم؛ لأنه قد انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فأجمع المسلمون أهل السنة على هذا التهجد خلافاً للرافضة، وبقي كذلك إلى هذا الزمان يصلون في مساجدهم جماعة عشرين ركعة، أو ثلاث عشرة، أو ستاً وثلاثين، أو إحدى وأربعين، على حسب اجتهادات العلماء. فرأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة كما أثر ذلك عن مالك وغيره من الأئمة. ورأى آخرون أن يصلي سبعاً وثلاثين في صلاة الوتر، أو تسعاً وثلاثين، وقالوا: إن هذا يخفف على الناس، ويكون فيه قطع لليالي في الصلاة. ورأى آخرون أن يصلي ثلاثاً وعشرين، واختار ذلك أكثر العلماء كما حكاه الترمذي عن أكثر الأئمة. ورأى آخرون أن يصلوا إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة. والكل جائز، ولكن لابد أن تكون الصلاة باطمئنان وخشوع وخضوع وحضور قلب، حتى تحصل الحكمة والفائدة التي لأجلها شرعت الصلاة. وقد أجاز العلماء الزيادة على إحدى عشرة ركعة، واعتبروا ذلك بالزمان، فقالوا: إن من صلى تسعاً وثلاثين ركعة في ساعتين كمن صلى إحدى عشرة في ساعتين، فيكون الأجر على قدر الزمان، لا على قدر العدد، أو كثرة الركعات. قيام السلف رضي الله عنهم:

كانت سُنة السلف رحمهم الله أنهم يصلون هذه الصلاة في نصف الليل، أو في ثلثه؛ أي ثلاث ساعات، كلها في تهجد، فإذا كان الليل طويلاً صلوا أربع ساعات أو أكثر، وإن كان قصيراً صلوا نحو ثلاث ساعات كلها في التراويح. هكذا كانت صلاتهم، فإما أن يقللوا عدد الركعات ويطيلوا القيام والركوع والسجود، وإما أن يزيدوا في عدد الركعات ويخففوا الأركان، ويقللوا القراءة، حتى تكون بمقدار هذه الساعات الثلاث أو الأربع أو نحوها. وقد روى مالك وغيره أنهم أحياناً يحيون الليل فلا ينصرفون إلا قرب الفجر بحيث يستحثون الخدم بإحضار السحور. ولكن في هذه الأزمنة، نشاهد أن الناس قد استولى عليهم الكسل وشغلتهم أمور دنياهم، فصاروا ينظرون لمن يصلي ربع هذه الصلاة أو ثلثها، فيعدونه مكثراً، بل يعدون القراءة المتوسطة، طويلة! وإذا قرأ إمامهم عليهم سورة فأطالها، يقول قائلهم: أطلتَ فخفِّف!! ولا شك أن الذين يملُّون من هذه الصلاة هم الكسالى الذين لا يرغبون في هذه العبادة، ذلك أن من فضل هذه الصلاة أن يجعلها المؤمن سرور قلبه، وراحة بدنه، وينبغي أن يجعلها المؤمن قرة عينه كما كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم.، وينبغي للمسلم أن يجعل جنس الصلاة راحة بدنه، وشفاءه ودواءه، وأن يستعين بها على حاجاته، أليس الله تعالى يقول: ((واستعينوا بالصبر والصلاة)) (البقرة:45) ؟! وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. فإذا دخل في الصلاة نسي همومه وغمومه، وخلي بربه، وسُرّ قلبه بأنسه بالله تعالى.

فهذه هي الحكمة من إطالة الصلاة ومن الركون إليها. فالذين يستثقلون هذه الصلاة إذا صلى أحدهم في ساعة، أو نحوها أو أقل من ذلك عَدُّوا ذلك إطالة وتنفيراً هم الكسالى مع أن هذا نقص للصلاة وعدم طمأنينة، وإخراج لها عن ماهيتها؛ فإنا مأمورون في الصلاة أن نقرأ ونرتل، ومأمورون أن لا ننقص في رمضان عن ختم القرآن مرة أو مرتين. ولقد كان السلف رحمهم الله يقرؤون، ويزيدون في القراءة؛ فكانوا يقرؤون سورة البقرة في ثماني ركعات -وهي جزآن ونصف الجزء تقريباً- ونحن نرى أن بعض أهل زماننا يصلي سورة البقرة في ثمانين ركعة!! فأين الفرق بين أولئك، وهؤلاء؟!! ونرى آخرين يقتصرون على نصف القرآن أو ثلثيه!! ولا شك أن هذا هو الكسل بعينه! ونقول لمن يرغب أن يقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يكون حقاً من أتباعه، عليه أن يأتي بهذه الصلاة بطمأنينة -سواء رغب المصلون أم لم يرغبوا- فيبين لهم أن هذه هي الصلاة التي تجزئ في القيام وهي التي حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون في خشوع واطمئنان، وهي ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين. فالقراءة المعتادة أن يختم القرآن في ليلة سبع وعشرين، أو نحوها. وقد أدركت أئمة يختمون في رمضان ثلاث ختمات، حيث إنهم مع أناس يحبون سماع القرآن، ويحبون الخشوع في الصلاة، وإطالتها بينما هناك أناس لا يقرؤون إلا قدراً قليلاً من القرآن. فإذا كنت إماماً لأناس فعليك أن تصلي بهم الصلاة النبوية، التي تكون بها مدركاً للحكمة من هذه العبادة، محصلاً للثواب والأجر الذي أعده الله عز وجل لمن قام الليل وتهجد، ورتل القرآن ترتيلاً. تنبيه: وهنا أنبه على أمر مهم لمن كان من عادته قيام الليل (أي التهجد) طوال السنة فإنه لا ينبغي له أن يقطع عادته السنوية لأن الصلاة آخر الليل مشهودة، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا صليت أول الليل ما تيسر لك من هذه التراويح فحافظ أيضاً على صلاة آخر الليل بما تستطيعه قلّ أو كثر، وبهذا تكون محافظاً على العبادات. وهكذا أيضاً تحافظ على السنن الرواتب -التي قبل الصلاة وبعدها- فإذا طمعت في الزيادة في هذا الوقت فلا تدخر وسعاً. روي عن بعض السلف: أن الأعمال تضاعف في شهر رمضان، فركعة في رمضان تعدل ألف ركعة فيما سواه، والحسنة فيه بألف حسنة فيما سواه، والفريضة تعدل سبعين فريضة فيما سواه، ومن تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه. كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله في وظائف رمضان. الفصل الرابع الاعتكاف حقيقة الاعتكاف: الأصل في الاعتكاف أنه الإقامة في المكان طويلاً، ولزومه، والاشتغال فيه، وكان المشركون يعكفون عند الأوثان كما في قوله تعالى: ((فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم)) (الأعراف:138) . وقول إبراهيم عليه السلام: ((ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون)) (الأنبياء:52) . وقولهم: ((نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين)) (الشعراء:71) . وجعل الله عكوف المسلم واعتكافه لزوم المسجد، فقال تعالى: ((أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود)) (البقرة:125) . وقال تعالى: ((ولا تقربوهن وأنتم عاكفون في المساجد)) (البقرة:187) . فجعل العكوف لزوم المساجد. فالأصل أن المعتكف يفرّغ نفسه وينفرد في مكان ويشغل نفسه بالعبادة، وينقطع عن الدنيا وينقطع عن أهلها. فالاعتكاف هو لزوم المسجد طاعة لله تعالى، والقصد منه التفرغ للعبادة. وأن لا يخرج من المسجد إلا لضرورة ملحة لا يجد منها بداً، كأن يحضر طعامه وشرابه إذا لم يجد من يحضره له، وكذلك الخروج للخلاء وللوضوء وغير ذلك. قال ابن رجب رحمه الله: معنى الاعتكاف وحقيقته: "قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق". الحكمة من الاعتكاف:

إن الحكمة من الاعتكاف الانقطاعُ عن الدنيا، وعن الانشغال بها وبأهلها، والتفرغ للعبادة، والاستكثار منها. وإنما كان الاعتكاف في المساجد لأجل ألا يترك صلاة الجماعة مع المسلمين التي هي علامة وشعيرة من شعائر الإسلام. فضل الزمان وفضل المكان: فإذا عزم المسلم على الاعتكاف فعليه أن يختار المسجد الذي تصلى فيه الجمعة، حتى لا يخرج إلا عند انتهاء مدة الاعتكاف، والأفضل أن يكون في زمان فاضل تضاعف فيه العبادات حتى يجمع بين فضل الزمان وفضل المكان. فالاعتكاف مثلاً في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى له ميزته، وذلك لفضل العبادة بتلك المساجد، وأما بقية مساجد الدنيا فإنها متساوية إلا أن المسجد الذي يكون قديماً تكون العبادة فيه أفضل لقدم العبادة فيه فيختار المسجد الأقدم. مدة الاعتكاف: إذا أراد المسلم أن يعتكف؛ فأقل الاعتكاف يوم وليلة، يعني أربعاً وعشرين ساعة حتى يصدق عليه أنه معتكف، وما عدا ذلك فيه خلاف؛ فبعضهم يرى أن من اعتكف يوماً أي من طلوع الشمس إلى غروبها، أو ليلة من غروبها إلى طلوعها يكون اعتكافاً، وبعضهم يرى أنه لابد من يوم وليلة حتى يتحقق الحديث. محظورات الاعتكاف: يشتغل المعتكف بكل ما يقربه إلى الله عز وجل من صلاة وتلاوة للقرآن الكريم ومدارسته، كما أنه ينقطع عن العلاقات الدنيوية فينقطع عن الزيارات، فلا يفتح باب الزيارة لمن يزوره إلا قليلاً لحاجته. فقد ثبت أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم كنّ يأتين إليه وهو معتكف ويتحدثن معه قليلاً. أما فتح باب الزيارة للأهل والأولاد والأصدقاء فإنه يجعل المسجد كالبيت، لا فرق بينهما، كما أنه يفتح الباب أمام الكلام الذي لا فائدة منه.

وكذلك على المعتكف ألا ينشغل بالدنيا وبأهلها، فلا يسال من رأى، ولا من سمع عن أمر من أمور الدنيا، ولا عن خبر من أخبارها، ولا يهتم بأمر من أمورها. وبعد ذلك يعكف على العبادة؛ فينتقل من جنس الصلاة سواء التراويح أو غيرها، أو التقرب بالرواتب ونحوها، ينتقل إلى القراءة والذكر، والدعاء والابتهال إلى الله، وما أشبه ذلك مع حضور القلب حتى يجمع بين خشوع القلب وحضوره، وبين التكلم باللسان مع اتصافه أيضاً بالخشوع والخضوع. ولأجل ذلك ذكر ابن رجب أن بعضهم يقول في تعريف الاعتكاف: (أنه قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق) . والعلائق بمعنى العلاقات فتقطع علاقتك بفلان وفلان، وتنقطع منها عن جميع الخلائق، ويتصل قلبك بربك بحيث يكون ذكر الله على قلبك دائماً، نائماً ويقظان، قائماً وقاعداً ومضطجعاً. تذكر الله في كل حالاتك، وتتأمل، وتعقل ما تقول إذا كنت مشتغلاً بذلك. وإن قرأت القرآن قرأته بتدبر. وقد أدركنا قبل أربعين سنة، أو خمسين سنة آباءنا ومشايخنا كانوا يعتكفون، ولا يُخلُّونَ بالاعتكاف، وكانوا يعكفون على القرآن، حيث رزقهم الله حفظ القرآن وسهولته، فكانوا يختمونه كل يوم غالباً، أو كل يومين مع التدبر!! ذلك لأنه شغلهم الشاغل في ليلهم ونهارهم، إلا أنه فقط يؤتى بأكله، بفطوره وسحوره، وأحياناً يقتصر على السحور. فيتناول في الإفطار تمرات قليلة، ولا يتناول عشاءً، ويجعل عشاءه سحوراً. هكذا أدركنا مشايخنا؛ يخرج الواحد منهم لقضاء الحاجة فقط، وللوضوء، لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يعود أهله، ولا يفتح باب زيارة ولا غير ذلك.

هكذا المعتكف الذي يريد أن يكتب له أجر هذا الاعتكاف، ويقتدي في ذلك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم ما ترك الاعتكاف في سنة من السنوات إلا سنة واحدة في رمضان لما دخل معتكفه اعتكف معه بعض نسائه، وضربت كل واحدة منهن قبة، فلما رأى الأقبية في المسجد أنكر ذلك، وعرف أن هذا منافسة. فعند ذلك ترك الاعتكاف تلك السنة واعتكف في شوال، وكان في الغالب يعتكف في العشر الأواخر من رمضان. واعتكف مرة أو مرتين في العشر الأوسط. والاعتكاف -كما سبق- كان للاستكثار من الطاعة، ولطلب أن يحظى العبد بالمغفرة، والمغفرة لها أسباب، ومن أسبابها في رمضان: الصيام إيماناً واحتساباً. وقيام رمضان إيماناً واحتساباً. وكذلك قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً. فيحرص العبد على أن يحظى بسبب من أسباب مغفرة الذنوب التي اقترفها فيما مضى من عمره. الفصل الخامس إحياء العشر الأواخر من رمضان إذا علمنا أن شهر رمضان هو أفضل الشهور، كانت نتيجة ذلك أن نجتهد فيه اغتناماً لفضله، وإذا علمنا أن العشر الأواخر هي أفضل أيامه، وأفضل لياليه، كانت نتيجة ذلك أن نكثر الاجتهاد فيها، وألا نضيع منها وقتاً في غير منفعة. وهذه الأيام العشر يستحب فيها أربعة أشياء: 1- إحياؤها كلها. 2- زيادة الاجتهاد فيها بالأعمال الأخرى. 3- إظهار النشاط فيها والقوة. 4- الاعتكاف واعتزال الشهوات والملذات. إحياء الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر: ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجدّ، وشدّ المئزر". وكذلك روي عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين من رمضان بصلاة ونوم، فإذا كان في العشر لم يذق غمضاً". أي: في الليالي العشر لا يذوق غمضاً، بل يقوم ليله كله دون نوم.

وفي حديث آخر: "إذا دخل العشر طوى فراشه". يعني: فراش النوم ليلاً في آخر ليالي الشهر. وفي حديث آخر تأكيد الإحياء بقولها: "وأحيا ليله كله". أقسام الناس في إحياء العشر الأواخر: ينقسم الناس في إحياء هذه الليالي إلى أربعة أقسام: القسم الأول: يحيونها بالعبادات: هناك من يحيون العشر الأواخر من رمضان بالعبادات، فيحيونها بالصلاة، وطول القيام والركوع والسجود، اقتداءً بفعل نبيهم صلى الله عليه وسلم فقد كان يديم الصلاة في هذه الليالي؛ فإنه صلى ليلة ببعض صحابته حتى خشوا أن يفوتهم السحور، وكذلك صلى مرة ومعه رجل من أصحابه -وهو حذيفة- فقرأ في ركعة واحدة ثلاث سور: سورة البقرة وسورة آل عمران، وسورة النساء، يقرأ بتدبر، ويقف عند آية الرحمة فيسأل، وعند آية العذاب فيتعوذ، يقول: فما صلى ركعتين، أو أربع ركعات حتى جاءه المؤذن للصلاة. وهذا هو الأصل في إحياء هذه الليالي، فتجد المجتهدين قبل سنوات يهتمون بهذه الليالي، ويولونها زيادة نشاط وعبادة، اقتداءً بفعل نبيهم صلى الله عليه وسلم بحيث إنهم يزيدون في قيام هذه الليالي، ويقطعون الليل كله في الصلاة، فيصلون عشر ركعات، ويقرؤون فيها نحو جزء ونصف، ثم يستريحون نحو نصف ساعة ثم يصلون أربع ركعات بسلامين في ساعتين، أو ساعة ونصف على الأقل يقرؤون فيها ثلاثة أجزاء، أو جزئين ونصفاً، ثم يستريحون نحو ساعة أو أقل، ثم يصلون ست ركعات تستغرق ساعتين ونصفاً، أو ثلاث ساعات، يقرؤون فيها أيضاً ثلاثة أجزاء أو ثلاثة ونصفاً، ثم يستريحون قليلاً، ثم يصلون الوتر، فيكون ليلهم كله عامراً بالصلاة، وإنما يتخللها فترات راحة، وذلك اقتداء بما كان عليه السلف والصحابة ومن بعدهم.

وكان الصحابة يصلون في ليالي رمضان ثلاثاً وعشرين ركعة، وربما صلى بعضهم، أو بعض التابعين كما عند الإمام مالك في رواية ستاً وثلاثين، وعند الإمام الشافعي يصلي في ليالي رمضان إحدى وأربعين ركعة في رواية عنه فيصلون أربع ركعات، وتستغرق نصف ساعة، يستريحون بعدها نحو خمس أو عشر دقائق، ثم يصلون أربعاً وهكذا، ولذلك سموا هذا القيام بالتراويح حيث إنهم يرتاحون بعد كل أربع ركعات. فهذه الأفعال هي حقاً إحياء لهذه الليالي في العبادة. ويدخل في إحياء تلك الليالي أيضاً إحياؤها بالقراءة؛ فإن هناك من يسهر ليالي العشر يصلون ما قدر لهم، ثم يجتمعون حلقات، ويقرؤون ما تيسر من القرآن في بيت من بيوت الله في المساجد، أو في بيت أحدهم رجاء أن تُحقَّق الفضائل التي رتبت على ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". فإذا اجتمع جماعة، عشرة أو عشرون، أو نحو ذلك يقرؤون القرآن؛ يقرأ أحدهم، وبقيتهم يستمعون له، ناظرين في مصاحفهم، ثم يقرأ الثاني، حزباً أو نصف حزب، أو ربعه، ثم يقرأ الثالث.. وهكذا، فيصدق عليهم أنهم يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، فيُحيون ليلهم بالطاعات والقربات. كذلك إذا أحيوا الليل بتعلم أو تعليم كان ذلك أيضاً أحياءً لهذه الليالي بطاعة. فإذا أحيينا ليلنا أو جزءاً من ليلنا في تعلُّم علوم دينية، كان ذلك إحياء لهذه الليالي بطاعة تنفعنا إن شاء الله. فهؤلاء هم الذين ربحوا ليلهم، واستفادوا من وقتهم. القسم الثاني: يحيونها في التكسب وفي التجارات:

ويندرج في هذا القسم أولئك الذين يحيون ليلهم في التكسب، في تجاراتهم، وفي صناعاتهم وفي دكاكينهم؛ وهؤلاء قد ربحوا نوعاً من الربح، وهو ربح عابر؛ ربح دنيوي، لكنه قد يكون عند بعضهم أنفس وأغلى ثمناً مما حصل عليه أهل المساجد، وأهل القراءات، وأهل العلم! ولكنهم في الحقيقة قد خسروا أكثر مما ربحوا، فترى أحدهم يبيت ليله كله في مصنعه، أو في متجره أو حرفته، أو نحو ذلك. فهذا قد أسهر نفسه، وأحيى ليله، ولكن في طلب الدنيا الدنيئة! فإذا كان ممن رغب عن الأعمال الأخروية، وزهد فيها، وأقبل على الدنيا بكليته، وانصرف إليها ولم يعمل لآخرته، خيف عليه أن يكون ممن قال الله تعالى في حقهم: ((من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون)) (سورة هود:15-16) . وهذه الآية فيمن جعل دنياه أكبر همه، ونسي أو تناسى الآخرة، ولم يعمل لها، وكان مقصده وديدنه السعي وراء هذا الحطام؛ بل جعلها هي مقصده، لا يعمل ولا يسعى ولا يكدح إلا لها، حتى كأنها معبوده، فيصدق عليه أنه عابد لدنياه، وأنه عابد لدرهمه وديناره، ويتحقق عليه التعس، ويدعى عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة". ولكن بعضهم قد يحصل على جزء من الصلاة والقراءة ولا يكون غافلاً عن ربه ولا متغافلاً عن الذكر، ولا منشغلاً عن القراءة، فيستصحب معه -مثلاً- كتاب الله يقرأ فيه في أوقات فراغه، ويذكر ربه في أوقات فراغه، ويصلي ما قدر له، ويأتي بورد صغير معه. وهذا قد ربح نوعاً من الربح، وإن لم يكن الربح الأكمل، فهذا على طرف، لكن فاته الخير الكثير. القسم الثالث: يحيونها في اللهو واللغو:

ويشمل أغلبية الناس؛ فإننا نراهم يحيون ليلهم، ولكن في لهو، وسهو!! فتراهم يجتمعون في بيوتهم ومجالسهم يتبادلون الفكاهات والضحك، والقيل والقال، وربما تجاوز الأمر بهم إلى الغيبة، وإلى النميمة، وإلى الكلام في أعراض الناس، وما أشبه ذلك، ولا يذكرون الله في مجالسهم إلا قليلاً، ولا يستصحبون شيئاً من القرآن، ولا من كتب الدين والعلم! وينقطع ليل أحدهم، أو ليل جماعتهم ليس لهدف سوى نوم النهار، هكذا قصدوا! فيفوت عليهم الأمران: الأول: أنهم لا يشاركون المصلين في الصلوات، ولا يشاركون القراء في قراءتهم. والثاني: أنهم لا يشاركون أهل الأرباح الدنيوية في أرباحهم، فيفوت عليهم هذا وهذا! ولا يحزنون على خسارتهم، وأي خسارة تلك التي لا يشعرون بها؟! ألا وهي مضي هذه الأيام والليالي الشريفة دون أن يستغلوها، ودون أن يستفيدوا منها. فما أعظم خسارتهم! وما أعظم حسرتهم حينما يرون أهل الأرباح قد تقاسموا الأرباح! وحينما يرون أهل الحسنات قد ضوعفت لهم حسناتهم. فهؤلاء لا خير دين، ولا خير دنيا، بل ربما يكتسبون مآثم بكلام لا فائدة فيه؛ فإن كلام ابن آدم مكتوب عليه، يقول الله تعالى: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) (ق:18) . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ذكر الله ومن والاه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر". ويصدق على ذلك قول الله تعالى: ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)) (النساء:114) . وهؤلاء قد يكتب عليهم ما يُسألون عنه، ويحاسبون عليه: لماذا قلتم كذا؟ ولماذا تكلمتم بكذا؟ ولماذا لم تستخدموا ألسنتكم التي سخرها الله لكم في ذكر الله؟ ولماذا أبعدتم آذانكم عن استماع ما فيه طاعة الله تعالى، وفيما يرضيه؟ فلا يجدون لهذا السؤال جواباً! القسم الرابع: يحيونها في المعاصي كبيرها وصغيرها:

وهؤلاء كثير أيضاً -والعياذ بالله- وهم الذين يحيون هذه الليالي الشريفة في ضد الطاعة! فتراهم يسهرون على آلات اللهو، والمجون: ينصتون إلى الأغاني الفاتنة، وإلى الأشرطة الماجنة، وإلى رؤية الصور والأفلام الخليعة! وربما زادوا على ذلك هذه النظرات التي ينظرونها إلى ما يثير الشهوات المحرمة؛ فإن سماع هذه الأغاني الفاتنة يزرع في القلوب محبة الزنا والفساد؛ فيدفعهم ذلك إلى طلب المحرمات. وكذلك فإن مشاهدتهم لتلك الصور الخليعة تزرع في قلوبهم محبة الشرور فتدفعهم اندفاعاً كلياً إلى أن يأتوا ما لا يحل لهم من زنا، أو شرب خمر، أو ما أشبه ذلك. وكثير منهم لا تحلو مجالسهم ولا تلذّ إلا إذا شنَّفوا أسماعهم بالأغاني الخليعة! ومتّعوا أعينهم بالصور الهابطة! وعطَّروا أفواههم بالكلام القبيح! وملأوا شهواتهم وبطونهم بالأشربة المحرمة من خمر ونحوها! فيجمعون بذلك بين ترك الطاعة، وارتكاب المعصية، أو ما يسبب محبة المعصية. فمثل هؤلاء مع كونهم محرومين، فإنهم آثمون إثماً كبيراً، وهؤلاء موجودون بكثرة، ويشكو منهم كثير من الهيئات ممن يأمرون بالمعروف، أو ينهون عن منكر بكثرة، وغالباً ما يعثرون عليهم حتى في نهار رمضان ويقبض عليهم وهم في سكر!! فلا صيام، ولا ابتعاد عن المحرمات! وسبب ذلك أنهم طوال ليلهم وهم يتفكرون بهذه المحرمات كما زعموا! فيتمادى بهم ذلك إلى محبة هذه المعاصي، والتلذذ بها، فيستعملونها في النهار ويتركون الصيام، الذي هو ركن من أركان الإسلام، ويجمعون بين المعصية وترك الطاعة -والعياذ بالله-. وكثيراً ما يختطفون النساء في الأسواق! ويتابعونهن، ويلمزونهن! وذلك كله من أسباب ضعف الإيمان وقلته في القلوب، وحلول المعاصي ومقدمات الكفر بدلاً منه. فهذه أقسام الذين يحيون هذه الليالي، فليختر المسلم لنفسه ما يناسبه من هذه الأقسام!! استحباب زيادة الاجتهاد في العشر الأواخر:

ورد في حديث عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر، أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجَدَّ". والجدّ هو: بذل الجهد في طلب الطاعات، أو في فعلها، أي: بذل ما يمكنه من الوسع. وذلك يستدعي أن يأتي الطاعة بنشاط، ورغبة، وصدق ومحبة. ويستدعي أن يبعد عن نفسه الكسل، والخمول، والتثاقل، وأسباب ذلك، ففي أي شيء يكون هذا الجدّ؟ * الجد في الصلاة؛ فيصلي في الليل والنهار ما استطاع. * والجد في القراءة؛ أن يقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع وقلب حاضر. * والجد في الذكر؛ أن يذكر الله ولا ينساه، ولا زال لسانه رطباً بذكر الله. * والجد في الدعاء؛ أن يدعو ربه تضرعاً وخفية وأن يكثر من الدعاء. * والجد في الأعمال الخيرية المتعددة من النصائح والعبادات، وما أشبه ذلك. * والجد في العلم والتعلم وما يتصل بذلك، أي الاجتهاد في الأعمال كلها. إيقاظ الأهل في العشر الأواخر: ويدخل في ذلك أمر الأهل -وهم الأولاد والنساء- بالصلاة، فيستحب للمسلم أن يوقظ أهله بهدف الصلاة، وأن يذكرهم بفضلها. وكان السلف رحمهم الله يوقظون أهليهم حتى في غير رمضان. وكان عمر رضي الله عنه إذا كان آخر الليل أيقظ أهله كلهم، وأيقظ كل صغير وكبير يطيق الصلاة، وكان يقرأ قول الله تعالى: ((وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)) (طه:132) . يستشهد بهذه الآية على الحرص على صلاة النافلة، وذلك دليل على محبة الصحابة والسلف رضي الله عنهم للإكثار من أعمال الخير في الليل والنهار. لذلك يتأكد على المسلم أن يوقظ أهله وإخوته، وأولاده ونساءه، ومن يتصل به، ومن له ولاية عليه، يوقظهم لأجل أن يقوموا في هذه الليالي الشريفة. فهي ليال محصورة، إنما هي عشر ليال، أو تسع ليال إذا لم تكتمل ليالي الشهر إلى ثلاثين ليلة بأن كان الشهر ناقصاً يوماً، فلا تفوت على الإنسان الباحث عن الخير أن يغتنمها، ويستغل أوقاتها.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قام الرجل للصلاة وأيقظ أهله فصليا كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات". وقد وردت أحاديث بفضائل كثيرة في إيقاظ الأهل في مثل هذه الليالي وغيرها. إظهار النشاط والقوة في العشر الأواخر: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في ليالي العشر يغتسل كل ليلة بين العشائين أو بعد العشاء، والقصد من هذا الاغتسال أن يأتي الصلاة بنشاط بدن، ومن نشاط البدن يأتي نشاط القلب. ومن احترام هذه الليالي وتعظيمها أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا يتجملون لهذه الليالي فيلبس أحدهم أحسن ثيابه، ليكون ذلك أيضاً أنشط لبدنه، وأنشط لقلبه، حتى إن كثيراً منهم يتجملون في هذه الليالي بثياب لا يلبسونها لغيرها. ومما يفعلونه للنشاط والقوة استعمالهم للطيب في البدن، وفي الثوب، وفي المساجد، فكانوا يستعملون النضوح، والنضوح هي: الأطياب السائلة حتى يكون الإنسان طيب الريح، ويكون بعيداً عن الروائح الكريهة لأن الملائكة تحب الريح الطيب، وتتأذى مما يتأذى منه ابن آدم، وكذلك يطيبون مساجدهم بالنضوح، وبالدخنة التي هي المجامر. فمثل هذه مما تكسب النشاط في البدن، والنشاط في القلب، ومتى كان القلب والبدن نشيطين لم يملّ الإنسان ولم يكل، ومتى كان البدن كسولاً ضعف قلبه، وملّ من العبادة، وكسل عنها. وكثيراً ما يذم الله تعالى أهل الكسل، كما ذكر الله تعالى ذلك في وصفه المنافقين بقوله تعالى: ((وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى)) (النساء:142) . فالمسلم يأتي بالأعمال التي تحبب إليه العبادة وتجعله منشرح القلب، مقبلاً عليها بكليته، غير غافل ولا ساه، بعيداً عن كل ما يلهي القلب ويشغله عن طاعة مولاه عز وجل. الفصل السادس القرآن والذكر في رمضان القرآن في رمضان:

معلوم أن رمضان شهر له خصوصية بالقرآن. قال الله تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)) (البقرة:185) . فقد أنزل الله القرآن في هذا الشهر، وفي ليلة منه هي ليلة القدر، لذا كان لهذا الشهر مزية بهذا القرآن. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن في رمضان على جبريل عليه السلام، فكان يدارسه القرآن. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن". فكونه يخص ليالي رمضان بمدارسته، دليل على أهمية قراءة القرآن في رمضان. ومعلوم أن الكثير من الناس يغفلون عن قراءة القرآن في غير رمضان، فنجدهم طوال السنة لا يكاد أحدهم يختم القرآن إلا ختمة واحدة، أو ختمتين، أو ربما نصف ختمة في أحد عشر شهراً، فإذا جاء رمضان أقبل عليه وأتم تلاوته. ونحن نقول: إنه على أجر، وله خير كبير، ولكن ينبغي ألا يهجر القرآن طوال وقته؛ لأن الله تعالى ذمّ الذين يجهرونه، قال تعالى: ((وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)) (الفرقان:17) . * ومن هجران القرآن ألا يكون الإنسان مهتماً به طوال العام إلا قليلاً. * ومن هجرانه كذلك أنه إذا قرأه لم يتدبره، ولم يتعقله. * ومن هجرانه أن القارئ يقرأه لكنه لا يطبقه، ولا يعمل بتعاليمه. وأما الذين يقرؤون القرآن طوال عامهم، فهم أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته. ويجب على المسلم أن يكون مهتماً بالقرآن، ويكون من الذين يتلونه حق تلاوته، ومن الذين يحللون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويقفون عند عجائبه، ويعتبرون بأمثاله، ويعتبرون بقصصه وما فيه، ويطبقون تعاليمه؛ لأن القرآن أنزل لأجل أن يعمل به ويطبق، وإن كانت تلاوته تعتبر عملاً وفيها أجر.

وفضائل التلاوة كثيرة ومشهورة، ولو لم يكن منها إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرا حرفاً من القرآن فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف". فجعل في قراءة آلم ثلاثين حسنة. وفضائل التلاوة كثيرة لا تخفى على مسلم، وفي ليالي رمضان وأيامه تشتد الهمة له. كان بعض القراء الذين أدركناهم يقرؤون في كل ليلة ثلاثة أجزاء من القرآن على وجه الاجتماع؛ يجتمعون في بيت، أو مسجد، أو أي مكان، فيقرؤونه في كل عشرة أيام مرة. وبعضهم يقرأ القرآن ويختمه وحده. وقد أدركت من يختم القرآن كل يوم مرة أو يختم كل يومين مرة! فقد يسره الله وسهله عليهم، وأشربت به قلوبهم، وصدق الله القائل: ((ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكر)) (القمر:17) . وقال: ((فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)) (الدخان:58) . فمن أحب أن يكون من أهل الذكر فعليه أن يكون من الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، ويقرأه في المسجد، ويقرأه في بيته، ويقرأه في مقر عمله، لا يغفل عن القرآن، ولا يخص شهر رمضان بذلك فقط. فإذا قرأت القرآن فاجتهد فيه؛ كأن تختمه مثلاً كل خمسة أيام، أو في كل ثلاثة أيام، والأفضل للإنسان أن يجعل له حزباً يومياً يقرأه بعد العشاء أو بعد الفجر أو بعد العصر، وهكذا. لابد أن تبقى معك آثار هذا القرآن بقية السنة ويحبب إليك كلام الله، فتجد له لذة، وحلاوة، وطلاوة، وهنا لن تمل من استماعه، كما لن تمل من تلاوته. هذه سمات وصفات المؤمن الذي يجب أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله تعالى وخاصته. أما قراءة القرآن في الصلاة، فقد ذكرنا أن السلف كانوا يقرؤون في الليل فرادى ومجتمعين قراءة كثيرة. فقد ذكروا أن الإمام الشافعي -رحمه الله- كان يختم في الليل ختمة، وفي النهار ختمة، في غير الصلاة؛ لأنه يقرأ في الصلاة زيادة على ذلك.

وقد يستكثر بعض الناس ذلك ويستبعدونه، وأقول: إن هذا ليس ببعيد، فقد أدركت أناساً يقرؤون من أول النهار إلى أذان صلاة الجمعة أربعين جزءاً في مجلس واحد. يقرأ، ثم يعود فيقرأ، يختم القرآن ثم يعود فيختم ثلث القرآن، فليس من المستبعد أن يختم الشافعي في النهار ختمة، وفي الليل ختمة. ولا يستغرب ذلك أيضاً على الذين سهل القرآن في قلوبهم، وعلى ألسنتهم، فلا يستبعده إلا من لم يعرف قدر القرآن، أو لم يذق حلاوته في قلبه. وعلى الإنسان إذا قرأ القرآن أن يتدبَّره ويعقله؛ لأن الله تعالى أمر بذلك في آيات كثيرة، كما قال تعالى: ((أفلا يتدبَّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)) (النساء:82) . فنحن مأمورون أن ننظر في هذا القرآن ونتدبره، والكفار كذلك مأمورون بذلك حتى يعترفوا أنه من عند الله، وأنه لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، ولاضطربت أوامره ونواهيه، فلما كان محكماً متقناً، لم يقع فيه أي مخالفة، ولا أي اضطرابات كان ذلك آية عظيمة، ومعجزة باهرة. فهذا هو القصد من هذه الآية، ولكن لا ينافي ذلك بأننا مأمورون أن نتدبر كل ما قرأنا كما أُمرنا. الذكر والدعاء في رمضان: يجب على المسلم أن يتعلم، وأن يعمل بما تيسر له من الأذكار والأدعية، فالأذكار يضاعف أجرها في هذا الشهر، ويكون الأمل في قبولها أقرب، ويجب على المسلم أن يستصحبها في بقية السنة، ليكون من الذاكرين الله تعالى، وممن يدعون الله تعالى ويرجون ثوابه ورضوانه ورحمته.

وذكر الله بعد الصلوات مشروع، وكذلك عند النوم، وعند الصباح والمساء، وكذلك في سائر الأوقات. وأفضل الذكر التهليل والتسبيح، والتحميد، والاستغفار، والحوقلة، وما أشبه ذلك، ويندب مع ذلك أن يُؤتى بها وقد فَهِمَ معناها حتى يكون لها تأثير، فيتعلم المسلم معاني هذه الكلمات التي هي من الباقيات الصالحات، وقد ورد في الحديث تفسير قول الله تعالى: ((والباقيات الصالحات)) (الكهف:46) . أنها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وورد في حديث آخر: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". أي أفضل الكلام الذي يؤتى به ذكراً. فلتتعلم -أخي المسلم- معنى التهليل، ومعنى الاستغفار، ومعنى الحوقلة، ومعنى التسبيح، والتكبير، والحمد لله، وما أشبه ذلك، تعلم معناها حتى إذا أتيت بها، أتيت بها وأنت موقن بمضمونها، طالب لمستفادها. وشهر رمضان موسم من مواسم الأعمال، ولا شك أن المواسم مظنة إجابة الدعاء، فإذا دعوت الله تعالى بالمغفرة، وبالرحمة، وبسؤال الجنة، وبالنجاة من النار، وبالعصمة من الخطأ، وبتكفير الذنوب، وبرفع الدرجات، وما أشبه ذلك ودعوت دعاءً عاماً بنصر الإسلام، وتمكين المسلمين، وإذلال الشرك والمشركين، وما أشبه ذلك، رُجي بذلك أن تستجاب هذه الدعوة من مسلم مخلص، ناصح في قوله وعمله. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء وبسؤال الجنة، وبالنجاة من النار؛ وذلك لأنها هي المآل. الاستغفار في رمضان: يقول الله تعالى: ((كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون)) (الذاريات:17-18) . وقد تتعجب: من أي شيء يستغفرون؟ أيستغفرون من قيام الليل؟! هل قيام الليل ذنب؟ أيستغفرون من صلاة التهجد؟ هل التهجد ذنب؟

نقول: إنهم عمروا لياليهم بالصلاة، وشعروا بأنهم مقصِّرون فختموها بالاستغفار، كأنهم يقضون ليلهم كله في ذنوب. فهذا حال الخائفين؛ إنهم يستغفرون الله لتقصيرهم. ويقول بعضهم: أستغفر الله من صيامي طول زماني ومن صلاتي صوم يرى كله خروق وصلاة أيما صلاة فيستغفر أحدهم من الأعمال الصالحة، حيث إنها لابد فيها من خلل، ولذلك يندب ختم الأعمال كلها بالاستغفار، بل بالأخص في مثل هذه الليالي. وقد جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان: "فأكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى لكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فلا إله إلا الله، والاستغفار. وأما الخصلتان اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتستعيذون من النار" رواه ابن خزيمة كما سبق. فهذا ونحوه دليل على أنك متى وفقت لعمل فغاية أمنيتك العفو، وتختم عملك بالاستغفار. إذا قمت الليل كاملاً، فاستغفر بالأسحار، كما مدح الله المؤمنين بقوله: ((وبالأسحار هم يستغفرون)) (الذاريات:18) . فإذا وُفِّقت لقيام مثل هذه الليالي، فاطلب العفو، أي: اطلب من ربك أن يعفو عنك، فإنه تعالى عفوّ يحب العفو. والعفُوُّ من أسماء الله تعالى، ومن صفاته، وهو الصفح والتجاوز عن الخطايا وعن المخطئين. في ختام الشهر: وعلينا أن نختم أعمالنا كلها بالتوبة والاستغفار، سواء في قيام هذه الليالي أو غيرها من سائر الأعمال، بل نختم عملنا كله بما يدل على تعظيم الله تعالى، وذكره والثناء عليه. وقد أمر الله عباده بأن يختموا شهرهم بالتكبير في قوله تعالى: ((ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)) (الذاريات:18) . ولكن، ما مناسبة ختم رمضان بالتكبير بعد إكمال العدة؟

أقول: إن الإنسان إذا كبّر الله استحضر عظمته وجلاله، وكبرياءه، وقداسته، فاحتقر نفسه واحتقر أعماله مهما عمل، ولم يذكر شيئاً من أعماله ولم يفتخر بها. وبمثل ذلك يكون محلاً للعفو ولقبول الحسنات، فإذا عرفت بأن ربك أهل لأن يعبد، وأهل للثناء والمجد، وأهل لأن يحمد، وأنك لو عبدت الله تعالى بكل ما تستطيعه لما أديت أقل القليل من حقه عليك، كما يقول بعضهم: سبحان من لو سجدنا بالعيون له على حمى الشوك والمحمى من الإبر لم نبلغ العشر من معاشر مِنّته ولا العشير ولا عشراً من العشر فنحن إذا أنهينا صيامنا وقيامنا. نعرف أن ربنا هو الكبير الأكبر، وأنه أهل لأن يكبّر، ويعظّم، وأنه أهل للعبادة، ولذلك يُروى أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة وقابلوا ربهم. اعترفوا بالتقصير، وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك". أي مهما كانت عبادتك فإنك ستحتقرها، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم إني صمت رمضان كله، وقمته كله"، قال الراوي: فلا أدري، أكره التزكية، أو قال: لا بد من نومه أو رقده؟ أو تقصيره. وكلا الأمرين، حق فإن الإنسان منهي أن يزكي نفسه قال تعالى: ((فلا تزكوا أنفسكم هو أعلمُ بمن اتقى)) (النجم:32) . وقال: ((ألم تر إلى الذين يُزكُّون أنفسهم بل الله يزكِّي من يشاء)) (النساء:49) . فتزكية النفس: مدحُها، ورفع مقام الإنسان لنفسه والإعجاب، وقد يكون الإعجاب سبباً لإحباط العمل! فعليك أن تحتقر نفسك، فإذا نظرت إلى الناس، واحتقرت أعمالهم فارجع إلى نفسك واحتقرها، ولُمْهَا حق اللوم، وحقِّر عملك حتى يحملك ذلك على الاستكثار، ولا تعجب بأي عمل فعلته فلا تقل: أنا الذي صليت! أنا الذي قمت! أنا الذي تهجدت! أنا الذي قرأت.. إلخ، فيكون إعجابك سبباً لرد أعمالك!

فهذا ونحوه من الإرشادات التي ينبغي على المسلمين أن يعملوا بها، وأن يهتدوا إليها، ويحرصوا على استغلالها في مثل هذه الليالي المباركة. الفصل السابع زكاة الفطرو ما يتعلق بها من أحكام معنى زكاة الفطر وسبب تسميتها بذلك: هي الصدقة التي تخرج في آخر رمضان، وفي ليلة عيد الفطر وصباح عيد الفطر، وسميت بزكاة الفطر لأنها شرعت عند إتمام الشهر، وفي الزمن الذي يفطر فيه الصائمون من رمضان، فهي زكاة الإفطار، أو صدقة عيد الفطر الذي بعد إكمال رمضان. تاريخ تشريع زكاة الفطر: الظاهر أنها شرعت وقت فرضية رمضان، أي في السنة الثانية من الهجرة، وذلك لأنها تضاف إلى رمضان وإلى الإفطار منه، فهي تابعة له، ولم يذكر أنهم صاموا الشهر ولم يخرجوا زكاة الفطر. حكم زكاة الفطر: لا شك أنها واجبة، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير…". الحديث. والفرض في الظاهر هو الإيجاب والإلزام، فدل على أنها من الفرائض. ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، لكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية، على قاعدتهم في التفريق بين الفرض والواجب، وقد ثبت أن قوله تعالى: ((قد أفلح من تزكى)) (الأعلى:14) . نزلت في زكاة الفطر كما روى ذلك ابن خزيمة. الحكمة من تشريع زكاة الفطر: روى ابن عباس قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين". رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه. وذلك أن الصائم في الغالب لا يخلو من الخوض واللهو ولغو الكلام، وما لا فائدة فيه من القول والرفث الذي هو الساقط من الكلام، مما يتعلق بالعورات ونحو ذلك، فتكون هذه الصدقة تطهيراً للصائم مما وقع فيه من هذه الألفاظ المحرمة أو المكروهة، التي تنقص ثواب الأعمال وتخرق الصيام.

ثم هي أيضاً طعمة للمساكين، وهم الفقراء المعوزون، ليشاركوا بقية الناس فرحتهم بالعيد، ولهذا ورد في بعض الأحاديث: "أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم". يعني أطعموهم وسدُّوا حاجتهم، حتى يستغنوا عن الطواف والتكفف في يوم العيد، الذي هو يوم فرح وسرور. ثم إن إخراجها عن الأطفال وغير المكلفين والذين لم يصوموا لعذر من مرض أو سفر داخل في الحديث، وتكون طهرة لأولياء غير المكلفين، وطهرة لمن أفطر لعذر، على أنه سوف يصوم إذا زال عذره، فتكون طهرة مقدمة قبل حصول الصوم أو قبل إتمامه. أصناف زكاة الفطر: في حديث أبي سعيد المتفق عليه قال: "كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة، فقال: إني لأرى مدّين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه". وللنسائي عنه قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط". وللدار قطني عنه قال: "ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صاعاً من دقيق، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من سلت، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط". وغير ذلك من الروايات. وقد ذهب الأكثرون إلى أنها لا تخرج إلا من الأصناف الخمسة المذكورة، وهي: الطعام، أي: البر كما ورد مفسراً في بعض الروايات، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط؛ لأنها الأقوات المعتادة لغالب الناس، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية جواز إخراجها من غالب قوت البلد، ومنه الأرز والذرة والدخن إذا غلب أكلها في إحدى الجهات، وهو الأقرب إن شاء الله تعالى. مقدار زكاة الفطر:

ذكر في حديث أبي سعيد أنها صاع من أحد الأصناف المذكورة، وقد اختلف في مقدارها من البر، فرأى معاوية الاكتفاء بنصف صاع منه، لكونه أفضل من الشعير، وأن الفقراء قد لا يأكلون الشعير أحياناً؛ بل يطعمونه الدواب والبهائم، وكذا التمر؛ سيما الرديء منه، فنصف الصاع من البر يعدل الصاع من الشعير في القيمة، ثم هو أنفع من الشعير للفقراء، وقد عمل بذلك كثير من الصحابة، ذكرهم الحافظ في شرح البخاري وغيره. وورد في ذلك حديث حسنه الترمذي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فجاج مكة "ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى، حر أو عبد صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه، صاع من طعام". ولكن حديث أبي سعيد أصح منه، وفيه صاع من طعام، وقد فسّره الخطابي بالبر وهو الأولى، وقد اختار أبو سعيد البقاء على ما كان عليه وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إخراج الصاع كاملاً دون موافقة معاوية على رأيه. ثم إن الصاع معروف، وهو أربعة أمداد، والمد من البر ملء الكفين المتوسطين مجموعتين، وقدر الصاع بأنه خمسة أرطال وثلث بالعراقي، والصاع معروف في هذه البلاد، وهو مع العلاوة يقارب ثلاث كيلو، وبدون علاوة نحو كيلوين ونصف، والاحتياط إكمال الثلاثة. إخراج قيمة زكاة الفطر (نقداً) : ورد في السنة إخراجها من الأطعمة التي ذكرت في الأحاديث، أو من غالب قوت البلد، ليحصل بها الاقتيات والاستغناء عن التكفف والتسول يوم العيد، ويكفى الفقراء عن الشراء والحمل بإيصالها إلى منازلهم غالباً.

وقد ذهب الحنفية إلى جواز إخراج القيمة، وهو إخراجها نقداً من الدراهم أو الدنانير، وزعموا أنه أرفق بالفقير، حتى يتمكن من شراء ما يناسبه من الطعام أو غيره، وهو خلاف النصوص الواردة والأحاديث المتكاثرة، فإن القيمة موجودة في العهد النبوي، ولم يأمر بالإخراج منها؛ ولأن في إخراجها طعاماً إشهار لها وإعلان للعمل بها، بخلاف القيمة فإنها تكون خفية، يعطيها المزكي بخفية، وقد يأخذها من لا يستحقها. على من تجب زكاة الفطر: تجب على المسلم الحر العاقل إذا فضل بشيء عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، فيخرج عن نفسه وعن كل من يمونه ممن تجب عليه نفقته، فإن عجز عن الجميع، بدأ بنفسه، فامرأته، ثم برقيقه، ثم بولده، ثم بأمه، ثم أبيه، ثم الأقرب فالأقرب من عصبته، ففي حديث ابن عمر الذي في الصحيحين قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان.. على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين". وفي حديث ثعلبة بن أبي صُعَيرْ مرفوعاً: "صاع من بر، أو قمح، على كل إثنين، صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى" رواه أبو داود وأحمد وغيرهما. ووقع في بعض طرق حديث ابن عمر: "على كل صغير وكبير، حر وعبد، ممن تمونون"رواه الدارقطني. ولا تلزمه فطرة زوجته إذا نشزت، ولا عبده المكاتب؛ لأنها لا تلزمه نفقتهما، ومن تبرع بنفقة إنسان شهر رمضان لم تجب عليه فطرته التي هي تابعة لوجوب النفقة. واستحبها بعض الصحابة عن الجنين في بطن أمه من غير وجوب، ومن وجبت فطرته على غيره فأخرج عن نفسه كالزوجة والابن والأم أجزأت عنه، لأنه المخاطب بها، وإنما تحملها عنه وليه تبعاً للنفقة أو للحاجة. جهة إخراج زكاة الفطر:

مصرف الفطرة كمصرف الزكاة، فأهلها هم أهل الزكاة المذكورون في قوله تعالى: ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)) (التوبة:6) . وحيث إن وصف الفقر والمسكنة هو الغالب، فإن المقدم فيها هم الفقراء والمساكين، الذين تعوزهم النفقة ويحتاجون إلى تحصيل القوت الضروري لهم ولعوائلهم، ولهذا ورد في الحديث: "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم". ثم عليه أن لا يحابي بها، وأن يقدم من علمه أشد حاجة، فإن كان أقاربه من أهلها فهم أولى من الأباعد مع الاستواء في الحاجة؛ ولأنه ورد في الحديث: "صدقتك على الفقير صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة". ولا يجوز لمن تلزمه مؤنته كزكاة المال. نقل زكاة الفطر من بلد الشخص إلى بلد آخر: لا يجوز ذلك إلا إذا لم يوجد في البلد فقراء، وقد ذكر العلماء أنها تتبع البدن، فيخرجها في البلد الذي تدركه ليلة العيد وهو فيه، ولو كان سكنه وأهله في غيره، كمن يصوم آخر الشهر بمكة، فإنه يخرجها هناك، وأهله يخرجون عن أنفسهم في موضعهم الذي يوجدون فيه ليلة الفطر، فإن لم يوجد في بلده فقراء من أهلها، وعرف فقراء في بلد آخر جاز نقلها إلى أقرب بلدة يعرف فيها من هم من أهل الاستحقاق، وقيل: يجوز إلى أبعد منها إذا كانوا اشد حاجة أولهم رحم وقرابة. وقت إخراج زكاة الفطر: لا شك أنها تجب بغروب الشمس ليلة عيد الفطر، فمن أسلم بعده لم تلزمه الفطرة، ومن ولد بعد الغروب لم تجب على وليه، وإذا تزوج بعد الغروب وتسلم زوجته لم تلزمه فطرتها، وكذا لو اشترى عبداً بعد خروج شهر رمضان ولو بلحظات؛ فإن فطرته على البائع.

والأصل أنها تخرج ليلة العيد، والأفضل إخراجها في يوم العيد قبل الصلاة، فإن عرف الفقير فأوصلها إليه فهو الأفضل، وإلا أودعها له حتى يأخذها بعد الصلاة، ليتحقق إغناء الفقراء في يوم العيد، ووقع في حديث ابن عمر عند البخاري: "وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة". ولمسلم: "أمر بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة". ولابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: "من السنة أن تخرج صدقة الفطر قبل الصلاة". وقال الخرقي: وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه. وفي حديث ابن عمر في الصحيح: "وكانوا يعطون قبل العيد بيوم أو يومين". والصحيح أنها لا تجزئ إن قدمها قبل العيد بثلاث ليال فأكثر، لإضافتها إلى الفطر، ولأن تقديمها بكثير لا يحصل به التوسعة على الفقير في يوم العيد، واغتفر التقديم بيوم أو يومين لأن ما قرب من الشيء أعطي حكمه، ولو قيل بجواز التقديم إذا كان الفقراء قليلاً وأهل الزكاة كثير، بحيث يجتمع عند الفقير ما يقوته نصف العام، كما هو الواقع في كثيراً من البلاد، لجاز ذلك في الظاهر، لحصول الإغناء لهم يوم العيد وزيادة. الفصل الثامن أحكام العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى) أعياد المسلمين وحكم الاحتفال والتهنئة بأعياد الكفار: العيد: اسم لما يعود ويتكرر، إما بعود الأسبوع أو الشهر أو السنة، من الاجتماع العام على وجه مخصوص، وأكثر ما يطلق على أيام الفرح والسرور والأنبساط، ولهذا يقول بعض السلف: "كل يوم يمر بك وأنت في طاعة وعباده فهو لك عيد". وفي ذلك يقول بعضهم شعراً: عيدي مقيم وعيد الناس منصرف والقلب مني عن اللذات منحرف ولي قرينان مالي منهما خلف طول الحنين وعين دمعها يكف فأعياد المسلمين ثلاثة: * عيد يتكرر كل أسبوع وهو يوم الجمعة. * وعيد يحتفلون بعد إكمال صومهم. * وعيد وقت موسم حجهم ونسكهم.

فشرع الله لهم بعد إكمال صلاتهم المكتوبة سبعة أيام أن يكون السابع يوم الجمعة، وهو عيد لهم، ولكنه يوم عبادة يجتمعون فيه ويؤدون فيه صلاة خاصة، تجمع أهل البلد كلهم، وفيه يستمعون إلى الخطب والنصائح والمواعظ، ويلتقي بعضهم ببعض، ويتبادلون التحية والسلام، ويتفقدون أحوال إخوانهم، ويطمئن بعضهم على صحة إخوته، ويتعرفون أحوال المرضى والمعوزين، ويخفف بعضهم عن بعض، ونحو ذلك من المصالح الكبيرة التي تترتب على هذا الاجتماع والتلاقي. كما شرع لهم بعد إكمال صومهم وما معه من العبادات التي يتقربون بها إلى ربهم في شهر رمضان، أن يكون اليوم الذي بعده عيداً لهم، يظهرون فيه الفرح والسرور، ويتبادلون التهنئة والتبريك، بإكمال صومهم، وإدراك يوم عيد الفطر الذي يسمى يوم الجوائز؛ حيث يحصلون على جوائز المغفرة والرحمة والعتق من النار، وليس هو يوم أشر وبطر وسهو ولهو وغناء وزمر وباطل، ولهذا يٌفتتح بصلاة العيد التي فيها المواعظ والنصائح، وفيها إظهار التكبير والتسبيح، امتثالاً لقوله تعالى: ((ولتكبروا الله على ما هداكم)) (البقرة:185) . وشرع العيد الثاني السنوي وقت أداء المناسك الخاصة بالحرم المكي، وبعد إكمال العشر الأول من شهر ذي الحجة التي يشرع فيها التعبد والذكر والدعاء والعمل الصالح، وفي آخرها أيام ذبح الأنساك والقرابين، فناسب أن يكون اليوم العاشر يوم عيد لجميع المسلمين في جميع البلاد، يتقربون فيه بذبح الأضاحي، ويؤدون فيه صلاة العيد وخطبتيه، وينصتون لما فيهما من المواعظ والتعليمات، فهذه أعياد المسلمين.

فأما أعياد الكفار: فهي خاصة بهم، كيوم النيروز، ويوم المهرجان، وعيد المولد، أو رأس السنة الميلاد، ومثلها ما أحدثه بعض المسلمين: كالمولد النبوي ونحوه، فهي أعياد تخصهم، وقد برئ الإسلام منها ومن أهلها، وعلى هذا فلا تجوز مشاركتهم فيها، سواء في عيد الأسبوع كالسبت لليهود والأحد للنصارى، أو أعياد السنة المعروفة عندهم، فيحرم على المسلم الاحتفال بها لكونها مبتدعة أو منسوخة، ولا تجوز تهنئتهم ولا التبريك لهم، ولا إظهار الفرح بتلك الأعياد، ولا الأكل من أطعمتهم أو ما يقدمون لزملائهم من فواكه وحلوى ونحو ذلك، لما فيه من الرضا بتلك الأعياد المبتدعة والإقرار بها. من أحكام العيد: أولاً: حكم صلاة العيد: قد اختلف في حكم صلاة العيد: فذهب بعض العلماء إلى أنها فرض عين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على فعلها وأكدها، وكان يأمر أصحابه بالخروج إليها، ويسقط بفرضها صلاة الجمعة عمن أدركها إذا اجتمع العيد والجمعة. ولأنه أمر أن يخرج لها النساء، حتى العواتق وذوات الخدور، وحتى الحيض من النساء، وذلك مما يدل على فرضيتها على الأفراد المكلفين. وذهب آخرون إلى أنها سنة مؤكدة؛ لأن الفرض قد اختص بالصلوات الخمس، ولقوله لمن قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" فيدخل في التطوع صلاة العيد؛ لأنها زائدة على الخمس. وذهب بعضهم إلى أنها فرض كفاية، ولعله الأرجح فتجب على أهل كل بلد، ولا تلزم جميع الأفراد؛ لأنها من شعائر الإسلام، وتفعل علانية، ويتبعها خطبة وتعليم وأحكام، فإذا قام بها من يكفي حصل المقصود. ثانياً: من سنن ومستحبات صلاة العيد: لصلاة العيد سنن ومستحبات كثيرة: منها: التجمل لها ولبس أحسن الثياب، فقد عرض عمر حلة عطارد على النبي صلى الله عليه وسلم ليتجمل بها للعيد والوفود، إلا أنه ردها؛ لأنها من الحرير فقد كان له حلة يلبسها في العيد والجمعة.

ومنها: شرعية الأكل تمرات وتراً قبل صلاة عيد الفطر، ليتحقق الإفطار، ولا يأكل في عيد النحر حتى يأكل من أضحيته إن ضحى. ومنها: شرعية الخروج إلى الصلاة ماشياً، حتى تكتب له خطواته ذهاباً وإياباً (عن علي رضي الله عنه قال: "من السنة أن تخرج إلى العيد ماشياً، وأن تأكل شيئاً قبل أن تخرج" أخرجه الترمذي برقم 530) . ومنها: مخالفة الطريق بأن يرجع مع غير الطريق الذي ذهب معه، ولعل ذلك لتكثير مواضع العبادة، أو لغير ذلك. ومنها: صلاة العيد في الجبانة خارج البلد، فلا تُصلى في المسجد الجامع إلا لعذر كمطر ونحوه، أو للعجزة والضعفاء. ومنها: شرعية الاغتسال قبل الخروج، كما يشرع للجمعة، وكذا الطيب والتنظف لإزالة الروائح الكريهة. ومنها: شرعية التكبير في موضع الصلاة وفي الطريق إليه، ورفع الصوت به، امتثالاً لقوله تعالى: ((ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم)) (البقرة:185) فيسن للمسلمين إظهار التكبير والجهر به، فهو من شعائر ذلك اليوم، وصفته: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد) . وإن شاء قال: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلا. وتعالى الله جباراً قديراً، وصلى الله على محمد النبي وسلم تسليماً كبيراً) ، أو نحو ذلك من التكبير. ويكبر كل فرد وحده، ولا يجوز التكبير الجماعي الذي هو اجتماع جماعة على التكبير بصوت واحد ووقت واحد، لكن من لا يعرف صيغة التكبير لجهل أو عجمة يجوز له متابعة بعض من يكبر حتى يتعلم. ومنها: شرعية تقديم الصلاة قبل الخطبة، ولو خرج أو انصرف البعض، فإن المحافظة على السنة أولى من جبس الناس لأجل استماع الخطبة، مع المخالفة لما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه الراشدين، ففي اتباع السنة خير كثير والله الموفق. ثالثاً: من آداب العيد:

يوم العيد هو يوم فرح للمسلمين وسرورهم، ففيه يتجملون ويلبسون أحسن الثياب، وفيه يتزاورون ويتبادلون التهاني والتبريك بهذا اليوم المبارك، ويدعون ربهم أن يعيد عليهم من بركاته، وأن يعود عليهم مرات بعد مرات، وهم في غاية النصر والتمكين والهناء، والعيش الرغيد والحياة السعيدة، وفيه يعودون المرضى ويتواصلون الأرحام، ويجتمع الأقارب ويتلاقون بعد طول الغيبة. ويجوز فيه إظهار شيء من الفرح والمرح واللهو المباح، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنيتين، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في يوم عيد. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دعهما يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا". فدل على أنه يباح لمثل عائشة سماع شيء من الشعر الذي فيه ترويح عن النفس وجلب للفرح والانبساط إذا لم يكن فيه شيء من التمطيط والتكسير والتهييج بما يثير الغرائز ويدفع إلى اقتراف الفواحش، ولهذا قالت: "وليستا بمغنيتين" أي ليستا ممن يعرف الغناء الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، كالذي فيه وصف الخدود والقدود والخمر ونحو ذلك.

وفي الصحيح أيضاً عنها قالت: وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب فقال صلى الله عليه وسلم: "تشتهين تنظرين" فقلت: نعم، فأقامني وراءه خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا مللت قال: "حسبك"، قلت: نعم، قال: "فاذهبي" قالت: فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو. رواه سالبخاري في عدة مواضع، وهو دليل على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدرب على الحرب والتنشيط عليه، لما فيه من تمرين الأيدي على آلات الحرب، وفيه أن للعيد خصوصية بمثل هذا التدرب والتمرن على آلات الحرب وتعلم كيفية حملها. رابعاً: صفة صلاة العيد: لا خلاف أنها صلاة معتادة، يشترط لها الطهارة وسائر شروط الصلاة، إلا أنها لا يؤذن لها ولا يقام، بل يكتفى بمعرفة وقتها، وهو بعد خروج وقت النهي، أي بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، ويخرج بزوال الشمس، فإن لم يعلموا بالعيد إلا بعد وقتها صلوها من الغد قضاء. ولا خلاف أن صلاة العيد ركعتان، إلا أنه يفتتح الأولى بسبع تكبيرات، والثانية بخمس تكبيرات غير تكبيرة القيام، ويرفع يديه مع كل تكبيرة، ويقول بين كل تكبيرتين من الزوائد: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً) . وإن أحب قال: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) . ويقرأ بعد التكبيرات بالفاتحة وسورة، والمستحب أن يقرأ بسبح والغاشية، أو يقرأ بقاف واقتربت الساعة، ويجهر بالقراءة. وإذا سلم خطب خطبتين يجلس بينهما كما في الجمعة، يحثهم في الفطر على صدقة الفطر وعلى العمل في ذلك، ويبين لهم في الأضحى أحكام الأضحية وسنتها.

وفي الصحيح عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: "إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سنتنا" وفي حديث أنس: "من ذبح قبل الصلاة فليعد". وفي حديث البراء: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له". والنسك هو: ذبح الأضحية. وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف". ولم يكن يصلي قبل صلاة العيد في موضعها لا قبلها ولا بعدها، لكن إن صليت في المسجد الجامع جاز أن يصلي قبلها ركعتين كتحية للمسجد، لكن السنة الصلاة خارج البلد. ولم يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبراً في مصلى العيد، وإنما كان يخرج بالحربة فتركز قدامه كسترة. ويشرع لمن فاتته أن يقضيها، فقد ذكر البخاري عن أنس أنه أمر مولاه فجمع أهله وبنيه وصلى بهم كصلاة أهل المصر وتكبيرهم، وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين. خامساً: الفرق بين صلاة عيد الفطر وصلاة عيد الأضحى: ليس هنا فرق في نفس الصلاة، فكل منهما تُصلى ركعتين، وفيهما التكبيرات الزوائد وما يقال بينها. لكن يُسن في الفطر أن يأكل قبلها تمرات وتراً، ولا يأكل في الأضحى إن ضحى، حتى يأكل من أضحيته. ويُسن التبكير بصلاة الأضحى لأجل الاشتغال بالأضاحي، وعكسه الفطر فيؤخرها قليلاً ليتمكنوا من الأكل، ومن التأهب للصلاة بالنظافة والتجمل. وأما في الخطبة: فإنه في الفطر يذكرهم بفضل ذلك اليوم، وأنه يوم الجوائز، وفيه ينصرف المقبولون قد غفر لهم، يرشدهم إلى الطاعات ويحثهم على الاستكثار من صالح الأعمال، ويحذرهم من المعاصي ويبين لهم آثارها.

أما في الأضحى: فإنه يذكر لهم حكم الأضحى وأصلها وفضلها، وما يجزئ فيها وما لا يجزئ، ووقت الذبح وكيفية التوزيع للحم، ويرشدهم أيضاً إرشادات عامة بهذه المناسبة. سادساً: حكم خروج النساء لصلاة العيد: في الصحيح عن أم عطية قالت: أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور، ويعتزل الحيض المصلى. وعن جابر رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يُلقي فيه النساء الصدقة.. صدقة يتصدقن حينئذ: تُلقي فتخها ويلقين، قلت: أترى حقاً على الإمام ذلك ويذكرهن؟ قال: إنه لحق عليهم، وما لهم لا يفعلونه؟. وفي الصحيح عن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجَلِّسَ بيده، ثم أقبل يشقُّهم حتى جاء النساء معه بلال، فقال: ((يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك)) (الممتحنة:12) . ثم قال حين فرع منها: "آنتن على ذلك؟ " قالت امرأة منهن: نعم. قال: "فتصدقن" فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلم لكن فداء أبي وأمي، فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. وفي رواية قال: "تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، تكثرن اللعن وتكفرن العشير". وفي حديث أم عطية قالت: يا رسول الله على إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ فقال: "لتلبسها صاحبتها من جلبابها، فليشهدن الخير ودعوة المسلمين". وفي رواية: "ليخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، ويعتزل الحيض المصلى، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين". وهذه الروايات في الصحيحين أو أحدهما، وكلها تفيد استحباب خروج النساء حتى الحيض، ولكن لابد أن تؤمن الفتنة، وأن لا يخرجن بلباس جمال وزينة ظاهرة، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل.

ولعل ذلك ما يلبسنه من الثياب وما يبدو منهن من الزينة والجمال، فقد ورد في الإذن للنساء بالصلاة في المساجد قوله: "وليخرجن تفلات". ولا شك أن الأمر قد تفاقم، وقد تضاعف ما كان في وقت عائشة، وكثر في نساء هذا الوقت المباهاة في الحلي، وإبداء الزينة، وإظهار المحاسن، فالله المستعان. منكرات تقع في يوم العيد: 1- إحياء ليلة العيد: لا شك أن إحياء الليل بالصلاة والقراءة والتعبد والدعاء والتضرع عبادة وقربة، قد ندب الله إليه وحث عليه في آيات كثيرة، وأن قيام ليالي رمضان من أسباب المغفرة وكذا قيام ليلة القدر. فأما ليلة العيد فلم يرد في إحيائها فضل، ولا حث الشرع على تخصيصها بقيام أو قراءة، فمن خصها بالإحياء وحدها دون ما قبلها وما بعدها فقد ابتدع وشرع من الدين ما لم يأذن به الله، لاعتقاده أنه سبق الصحابة وأهل السنة، وتفوق على سلف الأمة، فيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". أي مردود عليه. لكن إذا كان الرجل من عادته قيام الليل طوال السنة أو أكثرها، فإن ليلة العيد تدخل في ذلك. 2- اختلاط النساء بالرجال في مصلى العيد وغيره: وهذا من المنكر الذي يجب السعي في إزالته، لما فيه من إثارة الفتنة والدعوة إلى اقتراف الفاحشة، فإنَّ قُرْبَ المرأة من الرجال مما يلفت أنظارهم نحوها، مهما حاولوا التعفف والصدود، فإنه يقع في الغالب من ينظر إلى النساء أو يحاول القرب منهن والاحتكاك بهن، ثم مخاطبتهن ومبادلتهن الكلام إن تمكن من ذلك، كما يحصل من الاختلاط في الأسواق والمستشفيات وغيرها.

فالواجب الفصل بين الرجال والنساء، وأن يجعل لهن مواضع تخصهن، وأبواب يدخلن ويخرجن معها، سيما في الحرمين الشريفين، وقد تقدم قول عائشة رضي الله عنها: لو شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لو رأى ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل أي من الزينة واللباس والطيب والجمال الذي يفتن الرجال إلا من حفظه الله. 3- الاجتماع على الغناء والرقص وبعض المعاصي لإظهار الفرح: هناك من يجعل يوم العيد والأيام بعده أيام لهو ولعب وغناء وطرب، ويجتمع الخلق الكثير ويعملون ولائم وينفقون الأموال الطائلة في إصلاح الأطعمة، ويسرفون في ما يصرفونه من الأموال في اللحوم والفواكه وأنواع المآكل التي يعدونها للمغنين وأهل الزمر واللهو، ويستعملون الضرب بالطبول وإنشاد الأغاني الملحنة الفاتنة، وما يصحبها من التمايل والطرب، ويستمر بهم هذا الفعل بضعة أيام، حتى إنهم يسهرون أكثر الليل ويفوتون صلاة الصبح في وقتها وجماعتها. ولا شك أن هذه الأفعال تدخل في التحريم، وتجر إلى مفاسد ما أنزل الله بها من سلطان، وتدخل في اللهو الذي عاب الله أهله بقوله تعالى: ((ومن الناس من يشتري لهو الحديث)) (لقمان:6) . وفي الوصف الذي ذم الله به أهل النار بقوله: ((الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا)) (الأعراف:51) . فننصح من يريد نجاة نفسه أن يربأ بها عن هذه الملاهي، وأن يحرص على حفظ وقته فيما ينفعه، وأن يبتعد عن المعاصي والمخالفات، وأن لا يقلد أهل اللهو والباطل ولو كثروا أو كبرت مكانتهم. وقد تقدم إباحة التدرب على السلاح وتعلم الكر والفر وما يعين على الجهاد، كما فعل الحبشة في المسجد في يوم عيد لقصد حسن، وليس معه غناء ولا ضرب طبول ولا قول محرم والله أعلم. 4- الفرح بالعيد لأنهم تركوا رمضان:

يعتقد كثير من الناس أن شرعية العيد بعد رمضان عبارة عن الفرح بخروجه والتخلص منه، لأنه يحول بينهم وبين ملذاتهم ومشتهياتهم، ويفطمهم عن عاداتهم النفسية التي مرنت عليها نفوسهم، واعتادتها أهواؤهم طوال العام، فهم يعتبرونه شهر حبس وحيلولة بينهم وبين ما يشتهون، وقد يستشهد بعضهم بقوله تعالى: ((وحيل بينهم وبين ما يشتهون)) (سبأ:54) . قال ابن رجب في لطائف المعارف في الكلام على النهي عن صوم آخر شعبان قال: ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام، ولهذا يقولون هي أيام توديع للأكل، وتسمى تنحيساً واشتقاقه من الأيام النحسات.. وذكر أن أصل ذلك من النصارى، فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم، وهذا كله خطأ وجهل ممن ظنه، ولربما لم يقتصر كثير منهم على الشهوات المباحة، بل يتعدى إلى المحرمات، وهذا هو الخسران المبين، وأنشدهم لبعضهم: إذ العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار فإن الوقت ضاق على الصغار وقال آخر: جاء شعبان منذراً بالصيام فاسقياني راحاً بماء الغمام ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه، وله نصيب من قوله تعالى: ((ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها)) (الأعراف:170) ، وربما تكره كثير منهم بصيام رمضان، حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه، وكان للرشيد ابن سفيه فقال مرة شعراً: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقدرة على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة، ومات قبل أن يدركه رمضان آخر.

وهؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه، فكثير منهم لا يصلون إلا في رمضان، ولا يجتنب كبائر الذنوب إلا فيه، فيشق على نفسه مفارقتها لمألوفها، فهو يعد الأيام والليالي ليعود إلى المعصية، ومنهم لا يقوى على الصبر عن المعاصي فهو يواقعها في رمضان أ. هـ. هكذا ذكر ابن رجب رحمه الله عن أهل زمانه ومن قبلهم. ولا شك أن الدين يزداد غربة والأمر في شدة، والكثير من هؤلاء الذين يتوقفون ظاهراً عن مألوفاتهم يفرحون بانقضاء الشهر وانصرافه، فالعيد عندهم يوم فرحتهم برجوعهم إلى دنياهم وملاهيهم ومكاسبهم المحرمة أو المكروهة، فأين هؤلاء ممن يحزنون ويستاؤون لاقضاء الشهر؟!، بل من الذين يجعلون السنة كلها صيام وقيام وعبادات وقربات، ويحمون أنفسهم عن جميع الملذات فضلاً عن المحرمات؟!! فالله يرحمهم فما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل الخاتمة وداعاً يا شهر التوبة ورد في الحديث أن صيام رمضان سبب لمغفرة الذنوب، وكذا قيامه، وقيام ليلة القدر، والصحيح أن المغفرة تختص بالصغائر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم والجمهور على أن الكبائر لا بد لها من توبة.

ثم إن العبد بعد فراق رمضان وقد كُفِّرت عنه سيئاته، يجب عليه أن يحافظ على الصالحات، ويحفظ نفسه عن المحرمات، وتظهر عليه آثار هذه العبادات في بقية حياته، فذلك من علامات قبول صيامه وقيامه وقرباته، فإذا كان بعد رمضان يحب الصلوات ويحافظ على الجمع والجماعات، ويكثر من نوافل الصلاة، ويصلي من الليل ما قدر له، ويُعِّود نفسه على الصيام تطوعاً، ويكثر من ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره، وتلاوة القرآن الكريم وتدبره وتعقله، ويتعاهد الصدقة، ويصل أرحامه ويبر أبويه، ويؤدي ما عليه من الحقوق لربه وللعباد، ويحفظ نفسه ويصونها عن الآثام وأنواع الجرائم، وعن جميع المعاصي وتنفر منها نفسه، ويستحضر دائماً عظمة ربه ومراقبته وهيبته في كل حال، إذا كان كذلك بعد رمضان، فإنه دليل قبول صيامه وقيامه، وتأثره بما عمل في رمضان من الصالحات والحسنات. ومع ذلك فإن صفة الصالحين وعباد الله المتقين الحزن والأسى على تصرم الأيام الشريفة، والليالي الفاضلة، كليالي رمضان، وهذه صفة السلف الصالح وصدر هذه الأمة رحمهم الله تعالى، فلقد يحزنون لانصراف رمضان، ومع ذلك يدأبون في ذكره، فيدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، ثم يدعونه ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فتكون سنتهم كلها في ذكر هذا الشهر، فهو دليل على عظم موقعه في نفوسهم، ويقول قائلهم: سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن كل أمان لئن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفان لقد ذهبت أيامه وما أطعتم. وكتبت عليكم فيه آثامه وما أضعتم. وكأنكم بالمشمرين وقد وصلوا وانقطعتم. أترى ما هذا التوبيخ لكم؟! أو ما سمعتم قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن؟! ومن ألم فراقه تئن؟ كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع؟! وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع!

شعر: تذكر أياماً مضت وليالياً خلت فجرت من ذكرهن دموع أين حرق المجتهدين في نهاره؟! أين قلق المتهجدين في أسحاره؟! فكيف حال من خسر في أيامه ولياليه؟! ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجل عزاؤه؟!! كم نصح المسكين فما قبل النصح؟! كم دعى إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح؟! كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد؟! كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد؟! حتى إذا ضاع الوقت وخاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم. وطلب الاستدراك في وقت العدم. دموع المحبين تدفق. قلوبهم من ألم الفراق تشقق. عسى وقفة للوداع تطفي من نار الشوق ما أحرق. عسى توبة ساعة وإقلاع ترفوا من الصيام ما تخرق. عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق. عسى أسير الأوزار يطلق. عسى من استوجب النار يعتق. لا شك أن شهر رمضان أفضل الشهور، فقد رفع الله قدره وشرفه على غيره، وجعله موسماً للخيرات، وجعل صيامه وقيامه سبباً لمغفرة الذنوب وعتق الرقاب من النار. فتح فيه أبوابه للطالبين، ورغب في ثوابه المتقين. فالظافر من اغتنم أوقاته، واستغل ساعاته، والخاسر من فرط في أيامه حتى فاته. جعله الله مطهراً من الذنوب وساتراً للعيوب وعامراً للقلوب. فيه تعمر المساجد بالقرآن والذكر والدعاء والتهجد. وتشرق فيها الأنوار وتستنير القلوب.

السراج الوهاج للمعتمر والحاج

السراج الوهاج للمعتمر والحاج الفهرس تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين المقدمة البيت العتيق واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فاجعل أفئدة من الناس فضل الحج والعمرة في الكتاب والسنة قبل الرحيل تعريف الحج والعمرة حكم الحج والعمرة شروط الحج والعمرة وأركانهما وواجباتهما مواقيت الحج والعمرة: القسم الأول: مواقيت زمانية القسم الثاني: مواقيت مكانية الميقات الأول: ذو الحليفة الميقات الثاني: الجحفة. الميقات الثالث: قرن المنازل (السيل الكبير) . ... الميقات الرابع: يلملم (السعدية) . الميقات الخامس: ذات عرق. تنبيهات: التنبيه الأول: من ركب الباخرة أو الطائرة كيف يحرم؟!. التنبيه الثاني: من كان دون المواقيت كيف يحرم؟!. التنبيه الثالث: من أتى مكة لا يريد النسك هل يلزمه الإحرام؟!. أنواع الإنساك وأفضلها والنسك الذي أهلَّ به النبي صلى الله عليه وسلم. الإحرام: صفته وما يتعلق به. تنبيه مهم: من أراد أن يضحي الاشتراط في الإحرام، صفته ومتى يكون؟ صفة التلبية ومواضعها: محظورات الإحرام: محظورات الإحرام المشتركة بين الرجال والنساء محظورات الإحرام الخاصة بالرجال. محظورات الإحرام الخاصة بالنساء. من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام ما يباح للمحرم فعله. الطواف حول البيت، كيفيته وشروطه. أدعية الطواف تنبيه: حول كتب الأدعية التي تباع عند الحرم. السعي بين الصفا والمروة. أعمال الحج: يوم التروية (اليوم الثامن من ذي الحجة) . يوم عرفة (اليوم التاسع من ذي الحجة) . ليلة مزدلفة (ليلة العاشر من ذي الحجة -ليلة العيد-) . تنبيهات مهمة: أخطاء بعض المطوفين: 1- أخذهم للحجاج من مكة إلى عرفة مباشرة. 2- عدم نزولهم بالحجاج في مزدلفة والمبيت فيها.

3- التقاط الحصى قبل الصلاة. أعمال يوم النحر (يوم العيد: اليوم العاشر من ذي الحجة) أولاً: رمي جمرة العقبة. ثانياً: ذبح الهدي. ثالثاً: الحلق أو التقصير. رابعاً: طواف الإفاضة أيام التشريق وما يفعل بها (اليوم الحادي والثاني والثالث عشر من ذي الحجة) أولاً: المبيت ليالي منى. ثانياً: رمي الجمار أيام التشريق. آخر أعمال الحج طواف الوداع. الزيارة قبل الحج أو بعده وآثارها في الأمة. أدعية جامعة يستحب تكرارها يوم عرفة وغيره من المناسك. خاتمة في التوبة والإقلاع عن المعاصي. ملاحق الحج: 1- بعض الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الحجاج. 2- فضل أيام عشر ذي الحجة والأعمال الواردة فيها. 3- فتاوى الحج: حكم الحج والوعيد الشديد على من تركه مستطيعاً. من حج وهو تارك للصلاة هل يحسب له حج أم لا؟. حكم الاستنابة في الحج. حكم الحج للجنود وهم في لباسهم الرسمي. هل جدة ميقات؟. أدى بعض أعمال العمرة وتركها خوف الزحام؟. حكم الإنابة في رمي الجمار. رمي الجمار قبل الزوال في اليوم الثاني عشر للمتعجل؟ تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين الحمد لله الذي سهل طريق العبادة، وأحكم كل ما فرضه وأراده، وبيَّن شرائع دينه ونفَّذ مراده، أحمده سبحانه وأشكره، وقد تأذن للشاكرين بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وآمل أن يُختم لي بمثل هذه الشهادة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأولاده وأحفاده، وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

فقد كنت ألقيت محاضرة في بعض المساجد بمناسبة موسم الحج، تكلمت فيها على المناسك، ومنافع الإحرام والطواف والسعي، والوقوف والتلبية ونحوها، ثم إن بعض الإخوان قام بتفريغها من الأشرطة التي سُجلت بها، وعرضها علي، فأصلحت فيها الأخطاء التي نتجت عن الارتجال، وكمَّلت ما نقص منها كأعمال يوم النحر، وطواف الوداع، وأضفت إليها مقالاً كنت قد كتبته فيما يتعلق بزيارة المسجد النبوي، وختمتها بخاتمة تتعلق بالتوبة النصوح، وحال من أدى هذه المناسك بعد رجوعه، وعلامات قبول الحج أو رده، وما ينبغي أن يكون عليه بقية حياته، وذلك للحاجة الماسة إلى ذلك. وأذنت بطبع هذه المحاضرة وما أضيف إليها، رجاء أن يعم النفع بها من أراد الله به خيراً، مع علمي بالقصور، وضعف المادة العلمية معي، وأن الكثير من أكابر العلماء قديماً وحديثاً قد كتبوا في المناسك وتوسعوا، أو اختصروا، وقلَّت الحاجة إلى إضافة شيء جديد، ولكن لكل مجتهد نصيب، وقد يكون فيما كتبته أو قلته تنبيه أو توضيح لشيء قد يخفى على البعض. وقد رأينا كثرة الجهل في من يؤدي هذه المناسك، ووقوع المخالفات التي تقع من الجماهير، عن تقليد أو ظن خاطئ ثم بعد الوقوع يستفصل عن الحكم، فيقع في حرج ومشقة، وكان الأولى أن يتأكد من الأعمال قبل مباشرتها، فعلى المسلم أن يكون على بصيرة من دينه، وأن يحرص على براءة ذمته مما أوجب الله عليه، حتى يخرج من العهدة، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقد أرسل الله سبحانه محمداً بالحق بشيراً ونذيراً، وأمره بأن يبين للناس ما نزِّل إليهم، وأن يبين لهم شريعتهم، قال تعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)) (سورة النحر: 44) . فبين لهم صلى الله عليه وسلم هذا الدين الذي بُعث به وأمر بتبليغه، وبين أن لهذا الدين أركان، بقوله صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً". فبدأ بالشهادتين وبيَّن ما يدخل فيهما، ودعى إلى التوحيد أكثر عمره في مكة، أي نحو عشر سنين. ثم بعد مضي العشر بدأ في بيان الركن الثاني وهو الصلاة، حيث فُرضِت عليه فأقامها بمكة ثلاث سنين وبقية عمره أيضاً بالمدينة. وفرضت عليه قرينتها -وهي الزكاة- في المدينة، وهي الركن الثالث من الأركان، وقد بين أحكامها صلى الله عليه وسلم أتم بيان. وفرض عليه الركن الرابع -وهو الصوم- بالمدينة، فبينه بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم. وفرض عليه الركن الخامس وهو الحج إلى بيت الله الحرام، وقيل: إنه فرض في السنة السادسة من الهجرة. وقيل: في السنة التاسعة وهو الصحيح الذي تدل عليه الأدلة. والحج كما هو معلوم كان مأموراً به من قبل، ولكن لم يفرض إلا في السنة التاسعة كما ذكرنا، ولم يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من أدائه وبيانه بالفعل إلا في السنة العاشرة فعند ذلك بيّنه صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله بأدائه كاملاً، وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على أن يحفظوا عنه المناسك، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أراكم بعد عامي هذا". وعاش بعد ذلك نحو إحدى وثمانين أو اثنتين وثمانين ليلة، وختمت بذلك حياته وانتقل إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم.

وقد احتفظ صحابته ببيانه، وبما بلَّغه صلى الله عليه وسلم في هذا الركن العظيم وفي غيره من الأركان. لقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم للناس بأنه سوف يحج في ذلك العام في سنة عشر، فلما أعلنه وأظهره توافد كثير ممن حول المدينة، إلى المدينة، وقصدهم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والسفر معه؛ حتى يؤدوا المناسك مثل ما يؤديها، واجتمع في المدينة خلق كثير، أما الذين لم يتمكنوا من المجيء إلى المدينة، فإنهم توجهوا من بلادهم التي هم فيها إلى مكة مباشرة. وكانت مكة قد طُهِّرَت من الأصنام ومن المشركين ومن العادات الجاهلية، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر وغيره من الصحابة في سنة تسع، وأمرهم بأن ينادوا: "أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان". فنادوا بذلك، فعرف الناس هذا الحكم، فلم يطف بالبيت عريان بعد ذلك العام، ولم يحج أحد من المشركين حيث إن الله أظهر حرمة مكة وقداستها، ونهى المشركين أن يدخلوها. وسوف نتناول هذه الفريضة، فضلها وأحكامها مستعرضين ما قد يقع فيه البعض من قصور أو أخطاء في أداء تلك المناسك، ونحرص أن نذكر شيئاً من الحِكَم التي تعين العبد أن يعلم الحكمة والمصلحة التي شرعت لأجلها هذه العبادة، فإن معرفة العبد للحكمة والمصلحة تشرح قلبه، وتجعله يدرك أن الله تعالى ما شرع شيئاً إلا وفيه مصلحة، وأنه ليس شيء من أحكام الله شُرع عبثاً بل كل نسك من تلك النسائك، وكل عبادة من تلك العبادات فيها مصلحة ظاهرة جليَّة، فيحرص أن يتأثر بها، وأن تبقى آثارها عليه بقية حياته. نسأل الله أن يرزقنا حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً صالحاً مقبولاً، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. البيت العتيق

الحج كما ذكرنا ركنٌ من أركان الإسلام، وقد كان معمولاً به في الشرائع السابقة. فقد ذكر المؤرخون أن الله تعالى أنزل هذا البيت العتيق لآدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض، فأحب أن يكون له موضع يقصده، ويتعبّد فيه، ويطوف به كما تطوف الملائكة بالبيت المعمور. فعند ذلك جعل الله له هذا البيت العتيق ليتعبد فيه. ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الأنبياء، قد قصدوه، فقصده نوح وهود وصالح ونحوه من الأنبياء عليهم السلام، وذكر صلى الله عليه وسلم أنهم توجهوا إليه، يُلبُّون على رواحلهم قاصدين أداء المناسك في تلك المشاعر المفضلة. وهكذا استمروا، ولكن مع توالي السنين انهدم البيت وبقي مكانه مرتفعاً، حتى جدده إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، قال الله تعالى: ((وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت)) (الحج:26) . يعني أخبرناه بموضعه الذي كان موجوداً فيه حتى يعيد بناءه، فأعاده هو وإسماعيل عليهما السلام، قال الله تعالى: ((وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود)) (البقرة:125) . وأخبر بأنه أقامه هو وابنه إسماعيل عليهما السلام في قوله تعالى: ((وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا)) (البقرة:127) . هكذا جدده إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبقي مقصوداً تعترف به العرب؛ بل وتعدُّه فخرها وعزّها وذخرها، ويأتون إليه من أماكن بعيدة، يؤدون فيه المناسك، فيطوفون، ويسعون ويعتمرون، ويحجون ويذهبون إلى المناسك والمشاعر التي حوله، ويرجعون وقد تزودوا بما تزودوا به من الأعمال.

لكن مع توالي الجهل، ومرور السنين أحدثوا فيه أحداثاً، وجعلوا فيه بدعاً ومنكرات ليست من الدين، والذي حملهم على ذلك جهلهم، فكان ولابد أن يكون هناك من يجدد هذه المشاعر، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وحج بالناس في سنة عشر، وأعاد المناسك إلى ما كانت عليه في عهد أبيه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وردّ كل المحدثات التي أقامها المشركون، سواء كانت قولية أم فعلية، وعاد الناس إلى معرفة الأحكام، ومعرفة ما عليهم، وهو الذي بقي -والحمد لله- إلى هذا الزمان. وقد أظهر الله تعالى حرمة مكة وقداستها ونهى المشركين أن يدخلوها، ونهى المؤمنين أن يُمكِّنوا المشركين من دخولها، قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)) (التوبة:28) . وقد امتثل المسلمون لذلك إلى زماننا هذا، فلا يجوز لأيِّ كافر أو مشرك أن يدخل مكة. وهكذا بقيت مكة -والحمد لله- مصونة ومحفوظة من المشركين، لا يدخلها إلا الموحدون المسلمون، وذلك لأنها البقعة المباركة المشرفة التي لها فضلها، وبها المسجد الحرام الذي أخبر الله بفضله، وسماه بهذا الاسم، فقال تعالى: ((لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون)) (الفتح:28) . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقدسية ذلك المسجد وبأهميته، فقال صلى الله عليه وسلم: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مئة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمس مئة صلاة". فأخبر بفضل هذه المساجد الثلاثة، فالصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة، والمسجد النبوي بألف، والمسجد الحرام بمائة ألف. والصلاة الواحدة تعدل هذا الفضل! وما ذاك إلا لشرف المكان وَقِدَمِ العبادة، ولأنه قبلة المسلمين الذين يهوون إليه في كل زمان ومكان.

فلما كانت هذه مكانته، كان مخصوصاً لأن يكون محلاً لأداء المناسك والعبادات، فالحجُّ لا يكون إلا إلى مكة، والعمرة لا تكون إلا إلى مكة، ولا يكون الطواف إلا بالبيت، فلا توجد بقعة أو تربة يجوز أن يُطاف بها إلا البيت العتيق، ومن هنا تستمد أهميته ومكانته. واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى العبادات التي يُتعبد بها في مكة المكرمة لا شك أنها قربات يُتقرب بها إلى الله تعالى، وذلك لأنه هو المعبود وحده، ولأن تلك الأماكن لها فضلها، ولها ميزتها، وتضاعف فيها العبادة، فيقصدها المؤمنون لمضاعفة أجر العبادة فيها، وهم يعرفون أن الله تعالى هو المعبود، بخلاف المشركين الأولين، فإنهم كانوا يعتقدون أن المعبود هو أصنامهم التي كانوا يعظمونها في تلك البقاع، فمحا الإسلام ذلك، وجعل التعظيم لله تعالى وحده. وإن تعظيم تلك المشاعر تعظيمٌ للرب الذي شرع تلك المشاعر وتلك الحرمات، فقول الله تعالى: ((وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تُشرك بي شيئاً)) (الحج:26) . بدأ بالنهي عن الشرك، وذلك حتى لا يتخذ ذلك الموقع معبداً لغير الله، تعبد فيه الأصنام، ثم قال الله تعالى: ((وطهر بيتي للطائفين والقائمين والرُكع السجود)) (الحج:26) . أمر بأن يُطهَّر وليس التطهير بغسله بالماء، ولكن تطهيره من الأقذار والأرجاس والأنجاس والشركيات والبدع والمحدثات، فيطهره من هذه الأشياء، لأنه مكان مقدس، ولأنه موضع العبادة. وأمر بأن يُطهر، لأن هناك من يقصده لأن يطوف به، والطواف عبادة، وهناك من يقصده لأجل الاعتكاف فيه، والاعتكاف عبادة، وهناك من يقصده للصلاة فيه، أي: الصلاة التي هي قيام وقعود، وركوع وسجود، وهي كلها عبادة. فأمر بأن يكون المكان نظيفاً طاهراً من الأرجاس والأنجاس والشركيات والبدعيات ونحوها.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى تلك البقاع بقاعاً آمنة مقدسة، وأبقى فيها الآيات التي هي من آيات الله تعالى الكونية، قال تعالى: ((إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)) (آل عمران:96-97) . ومن هذه الآيات البينات التي لا تزال فيه مقام إبراهيم عليه السلام الذي كان يقوم عليه، فإنه لما كان يبني البيت ظهرت آثار قدمه على الحجر مع طول مقامه ووقوفه عليه، فأصبح ذلك الحجر آية من آيات الله الباقية. يقول أبو طالب: وموطئُ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه غير ناعل هذا المقام جُعل آية من آيات الله، وجُعِلَ في هذا المكان، وأمر المصلون بأن يصلوا خلف المقام، قال الله تعالى: ((واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)) (البقرة:125) . أي: صلُّوا عنده، وصلاتكم تكون لربكم وحده، وإنما يكون ذلك المقام، وذلك البيت قبلة لكم تتوجهون إليه. وهذا البيت الذي أمر الله بتطهيره في قوله تعالى: ((أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين)) (البقرة:125) . له أهميته، وله مكانته، وله منزلته في النفوس، ولأجل ذلك فإن قلوب العباد تتجه إليه، وتتعلق به، في شرق البلاد وغربها، وفي قريبها وبعيدها، حيث إنه قبلتهم التي يتوجهون إليها في صلاتهم، وفي أدعيتهم، قال الله تعالى: ((قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)) (البقرة:144) . فالمسلمون في بقاع الأرض عندما يتوجهون في صلاتهم يستقبلون هذا البيت، وهذا الاستقبال بلا شك يبعث هممهم ويحرك بواعثهم وقلوبهم على الإكثار من زيارته والتردد إليه، حيث إنه البيت المعظم والبيت المحرَّم.

وقد سمى الله هذا البيت محرماً ومباركاً؛ بل وسمى البلد التي وضع بها (البلد الأمين) قال تعالى: ((ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم)) (إبراهيم:37) . وقال تعالى: ((وهذا البلد الأمين)) (التين:3) . وقال تعالى: ((إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين)) (آل عمران:96) . وما دام أن هذه أهميته، وأن هذا قدره في النفوس فإن من حق العباد أن يأتوا إليه ليقدسوا ويعظموا حرمات الله، لذلك قال الله تعالى: ((ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)) (الحج:30) . وقال تعالى: ((ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)) (الحج:32) . فالمشاعر التي حوله هي من شعائر الله، والمناسك التي عنده هي من حرمات الله، وتعظيمها تعظيم لله وعبادة لله، وليس ذلك تقديساً لتلك البقعة بنفسها، وإنما هي لمعرفة أهميتها ومكانتها، وعظم العبادة فيها وشرفها. فاجعل أفئدة من الناس أمر الله نبيه إبراهيم عليه السلام أن ينادي بالحج في قوله تعالى: ((وأذن في الناس بالحج)) (الحج:27) . ثم إنه -كما في بعض الآثار- صعد على جبل أبي قبيس فنادى: "يا أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا"، فسمعه من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، أي: سماع قبول، وإن لم يسمعوا الصوت كما هو، أي: أُلهموه، وقُذِفَ في قلوبهم، وعرفوا حكمه، فإذا جاء الحج، وقرب موسمه، فإن المؤمنين الذين وقرَ الإيمان في قلوبهم تجدهم في أطراف البلاد وأقاصي الأرض تحن قلوبهم، ويتمنون أن يتيسر لهم الحج، فمن تيسر له، أتى إليه -رغم ما يجد من المشقة والصعوبات ومن لم يتيسر له غَبَط الذين أدوا هذا النسك، وعرف فضلهم، وما حازوه من الحسنات.

وقد جعل الله الأفئدة تحنُّ إلى تلك المشاعر استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: ((فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم)) (إبراهيم:37) . ولم يقل: أفئدة الناس: يعني: أفئدتهم كلهم؛ بل قال: ((أفئدة من الناس)) يعني بعضاً منهم، فالذين يحجون كل عام قسم قليل من المؤمنين في أطراف البلاد. فضل الحج والعمرة في الكتاب والسنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه" وفي لفظ لمسلم: "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه". وقال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". والحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولم يخالطه إثم ولا يعقبه معصية، وهو الحج الذي وُفِّيت أحكامه ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، وهو المقبول، ومن علامات القبول أن يرجع خيراً مما كان ولا يعاود المعاصي. والمبرور مأخوذ من البر وهو الطاعة والله أعلم. وقال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ ". وسُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "جهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". وقال صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة". وعند النسائي: ".. ولَكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله، حج البيت حج مبرور".

وقال صلى الله عليه وسلم: "وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر". وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله. دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم". وقال صلى الله عليه وسلم: "جهاد الكبير، والصغير، والضعيف، والمرأة: الحج والعمرة". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ". وقال صلى الله عليه وسلم: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة…". وقال صلى الله عليه وسلم: "… فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي". وقال عبد الله بن عبيد لابن عمر رضي الله عنهما: ما لي أراك لا تستلم إلا هذين الركنين: الحجر الأسود والركن اليماني؟ فقال ابن عمر: إن أفعل فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مسحهما يحط الخطايا" وسمعته يقول: "من طاف (بهذا) البيت سبعاً وصلى ركعتين كان كعتق رقبة" وسمعته يقول: "ما رفع رجل قدماً ولا وضعها إلا كتب له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه. ومن طاف بالبيت العتيق واستلم الحجر الأسود شهد له يوم القيامة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: "والله ليبعثه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق". وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا بني آدم". قبل الرحيل

يجب على الحاج قبل السفر والرحيل إلى تلك الديار المقدسة، أن يأتي بأمور تكون مكملة لحجه وعمرته وحتى تكون سبباً في قبول العمل بإذن الله تعالى ومن ذلك: 1. الاستخارة والاستشارة: فلا خاب من استخار ولا ندم من استشار، فيستخير الله في الوقت والراحلة والرفيق وجهة الطريق إن كثرت الطرق. ثم يستشير أهل الخبرة والصلاح، وصفة الاستخارة: أن يصلي ركعتين، ثم يدعو بالدعاء الوارد، في كتب الأذكار والأدعية. 2. إخلاص النية لله تعالى: فيجب على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة، لتكون أعماله وأقواله ونفقاته مقربة إلى الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". وعلى الحاج أن يحذر كل الحذر من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها، أو الرياء والسمعة والمفاخرة بذلك، لأن ذلك مما يحبط العمل والعياذ بالله قال تعالى: ((من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون)) (هود:15-16) . 3. تعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما: فيجب على الحاج معرفة الأحكام المتعلقة بهذا الركن العظيم، فيتعلم شروطه وواجباته وأركانه وسننه، حتى يعبد الله على بصيرة، وحتى لا يقع في الأخطاء التي قد تفسد عليه حجه. وقد كتب العلماء قديماً وحديثاً في هذا الموضوع فعلى الحاج أن يقرأها، ويسأل العلماء والمشايخ عما أشكل عليه في حجه أو عمرته.

4. توفير المؤونة لأهله، والوصية لهم بالتقوى: فينبغي على كل من عزم على السفر لحج أو لعمرة أو لغيره من الأمور أن يوفر لأهله ومن تجب عليه نفقتهم، ما يحتاجون إليه من المال والطعام والشراب وغير ذلك حتى لا يتركهم عالة على الناس، فقد يحدث لأبنائه أو والديه أو زوجه مكروه وليس عندهم المال فيقعوا في الحرج ويمدوا أيديهم للناس. ثم أمر آخر وهو وصيتهم بالتقوى، والتقوى معناها: فعل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر. والتقوى خير زاد للمسلم في حلِّه وترحاله: ((وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب)) (البقرة:197) . 5. التوبة من جميع الذنوب والمعاصي: قال تعالى: ((وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون)) (النور:31) . وحقيقة التوبة: - الإقلاع عن جميع الذنوب والمعاصي وتركها. - والندم على فعل ما مضى. - والعزيمة على عدم العودة إليها. - وإذا كان عنده مظالم للناس ردّها وتحللهم منها؛ سواء كانت عرضاً أو مالاً أو غير ذلك. 6. اختيار النفقة الحلال: التي تكونت من الكسب الطيب، حتى لا يكون في حجه شيءٌ من الإثم، فإن الذي يحج وكسبُه مشتبه فيه قد لا يُقبل حجُّه، وقد يكون مقبولاً، ولكنه آثم من جهة، ففي الحديث المشهور الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج الحاج حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الحرام الخبيثة، ووضع رجله في الغَرْز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، وراحلتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور". وهكذا -كما ورد في هذا الحديث- يخاف الإنسان أن يكون حجه مأزوراً، فيدعو الله أن يقبل حجّه فيقول: اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً صالحاً مقبولاً.

وإذا كان كذلك فإن عليه أن يأتي بالأسباب التي تجعل حجه مبروراً، وسعيه مشكوراً، وذنبه مغفوراً، وعمله صالحاً مقبولاً، ومن هذه الأسباب: الكسب الحلال، والنفقة الطيبة التي هي من الكسب الطيب، ولا يقبل الله إلا الكسب الطيب. وقد ذهب بعضهم إلى أنه لا يُقْبلُ حجُّ من تزود بمال حرام حتى قال بعضهم: إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور 7. اختيار الصحبة الصالحة: فإنك إذا اخترت رفقة من الصالحين لا شك أنك تستفيد منهم، وتربح ربحاً كبيراً في الدنيا والآخرة، أي: إذا كانت رفقتك وصحبتك الذين ترافقهم -ولو كانت المسافة قصيرة- من الصالحين فإنَّك تستفيد منهم، يذكرونك إذا نسيت، ويعلمونك ما جهلت، ويعاونونك على ما عجزت عنه، وينشطونك على نوافل العبادة، ويساعدونك على ما قد تغفل عنه إذا كنت وحدك، فكثيراً ما يغفل الإنسان عن كثير من السنن ونوافل العبادة، وكثيراً ما يتكاسل عنها. وهكذا إذا كان مع أُناس جهلة، فإنَّه كثيراً ما يقع منهم شيء من المخالفات، ولا يعرفون أنه خالف للسنة، فإذا كانت الرفقة من شباب متحمس من أهل المعرفة، ومن طلبة العلم، الذين معهم علم وزهد وورع ومحبة للعبادة ورغبة في الاستكثار منها، فهؤلاء هم الذين يُستفاد من صحبتهم.

8. أدعية وآداب السفر: للسفر آداب وأدعية خاصة يجب على المسافر للحج وغيره أن يتعلمها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر، كبر ثلاثاً، ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطْوِ عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل" رواه مسلم. ومن آداب السفر: * التكبير إذا صعد المسافر الثنايا، والتسبيح إذا هبط وادياً، ونحوه. * يستحب إذا نزل منزلاً أن يقول: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه". * استحباب السفر في يوم الخميس أول النهار. والآداب كثيرة ونكتفي بهذا حتى لا يطول بنا المقام. تعريف الحج والعمرة أولاً: تعريف الحج: الحج لغة: قصد الشيء وإتيانه. وشرعاً: قصد البيت الحرام، في وقت مخصوص، على وجه مخصوص، وهو الصفة المعلومة من الشرع من الإحرام والتلبية والوقوف بعرفة والطواف بالبيت وغير ذلك من الأفعال المشروعة فيه. ثانياً: تعريف العمرة: العمرة لغة: الزيارة. وشرعاً: زيارة بيت الله الحرام لأداء هذا النسك على وجه مخصوص، من الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير. حكم الحج والعمرة فرض الله سبحانه وتعالى الحجَّ والعمرة على الصحيح، وجعلهما من واجبات المسلم في حياته، فقال تعالى،: ((وأتموا الحج والعمرة لله)) [البقرة:196] . وقال: ((ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)) [آل عمران:97] . وقالت تعالى: ((وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)) [الحج:27] .

تدُل هذه الآيات على فرضية تلك العبادة، وأنها أحدُ أركان الإسلام التي بني وقام عليها، كما ورد في الحديث في تفسيره صلى الله عليه وسلم للإسلام والذي جاء فيه: "أن تشهد أن لا إله إِلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيت إِن استطعتَ إِليه سبيلاً". وقد فرض الحج في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى إنه يجب على التراخي! ولكن الصحيح أنه يجب على الفور بمعنى أن العبد متى تمكن من أدائه، وزالت المحظورات، وقدر عليه وجب عليه أن يأتي به، ولم يجز له تأخيره. ومن حكمة الله أنه ما فرضه إلا مرة واحدة، فقد روى الإمام أ؛ مد في "مسنده"، وأبو دواد، وابن ماده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: الحج في كل سنة، أو مرة واحدة؟ قال: "بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع". فإذا أدَّى العبد هذه العبادة مرة واحدة، خرج من عهدة الوجوب، ومازاده فإن له أجراً في تلك الزيادات التي هي تنفُّل، وعبادات. والحج فضائله كثيرة لو لم يكن منها إلاَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارةً لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنة". وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه"، أي: خرج من ذنوبه، كما في الرواية الأُخرى. وفي هذا حثُّ للعبد على أَن يكون مهتماً بأَداء هذا النسك فرضاً أو تطوعاً، ويحمله على أن يكون مبادراً إلى ذلك قبل أن يعوقه عائق، وقبل أن يشغله شاغل. شروط الحج والعمرة وأركانهما وواجباتهما أولاً: شروط الحج والعمرة: معلوم أن الواجبات لا تلزم أحداً إلا بشروط يلزم وجودها ليصح منه العمل، ومن ذلك فريضة الحج، فإنه لا يجب على أحد إلا بشروط خمسة ذكرها العلماء:

الشرط الأول: الإسلام، فإن الكافر لا يقبل منه حج ولا عمرة، ولا أي عبادة من العبادات، في دين الله إلا إذا أسلم ودخل في دين الله. الشرط الثاني: العقل، فالمجنون لا يجب عليه حج ولا عمرة. الشرط الثالث: البلوغ، وهو ظهور أحد علامته وهي: 1- إنزال المني. 2- نبات شعر العانة. 3- تمام خمس عشرة سنة. 4- وتزيد المرأة بأمر رابع وهو: الحيض. فائدة: لا يجب الحج على الصغير الذي لم يبلغ، ولكن يصح الحج منه، وله أجر ولوالديه، لقوله تعالى: ((أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى)) (آل عمران:195) . الشرط الرابع: الحرية، فلا يجب الحج أو العمرة على المملوك. الشرط الخامس: الاستطاعة، وتكون بالمال والبدن. ومن الاستطاعة وجود المحرم للمرأة، فإن المرأة منهية عن السفر للحج وغيره بدون محرم، ويجب أن يكون هذا المحرم مميزاً عاقلاً بالغاً فإن الطفل لا يصلح أن يكون محرماً. ثانياً: أركان الحج: 1- الإحرام. 2- الطواف حول البيت. 3- السعي بين الصفا والمروة. 4- الوقوف بعرفة. وهناك خلاف بين العلماء في بعضها. ولا يتم الحج إلا بأداء هذه الأركان، فمن ترك ركناً فسد حجّه. ثالثاً: واجبات الحج: ذكر العلماء أن للحج واجبات سبعة هي: 1- الإحرام من الميقات. 2- الوقوف بعرفة إلى الغروب. 3- المبيت بمزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل. 4- رمي الجمار (جمرة العقبة، واليوم الأول والثاني والثالث عشر من أيام التشريق) . 5- الحلق أو التقصير. 6- المبيت بمنى ليالي منى. 7- طواف الوداع. على خلاف بين العلماء في بعضها، ومن ترك واجباً جبره بدم. رابعاً: أركان العمرة: ذكر العلماء أن للعمرة ثلاثة أركان هي: 1- الإحرام. 2- الطواف حول البيت. 3- السعي بين الصفا والمروة. خامساً: واجبات العمرة: ذكر العلماء أن للعمرة واجبين هما: 1- الإحرام من الميقات. 2- الحلق أو التقصير. مواقيت الحج

إذا أقبل الحجاج والمعتمرون إلى مكة قاصدين الحج أو العمرة فإن بينهم وبين مكة أماكن تسمى (المواقيت) . ويجب على الحجاج معرفة هذه المواقيت وأحكامها، والمواقيت تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مواقيت زمانية: قال الله تعالى: ((الحج أشهر معلومات)) (البقرة:197) . ذكر العلماء هذه الأشهر وقالوا::إنها شهر شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من شهر ذي الحجة. وهذه مواقيت الحج وهي التي تسمى بالمواقيت الزمانية أي: التي يصح الإحرام بالحج فيها، وإن كان لا يتم الحج إلا بالوقوف في اليوم التاسع من ذي الحجة بعرفة. فلو أن إنساناً أحرم وعقد إحرامه بالحج في شهر شوال وبقي محرماً بالحج إلى يوم عرفة لصح إحرامه، وأصبح محرماً بالحج في زمانه، لكن لو أحرم بالحج في آخر يوم من رمضان لما صح إحرامه، لكونه وضعه في غير وقته وزمانه، هذا هو ميقات الحج الزماني. أما العمرة فإنها تصح في كل السنة، فيصح أن يُحرم بها في أي يوم من أيام السنة. القسم الثاني: مواقيت مكانية: أما المواقيت المكانية فإنها التي حددها وقدرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فثبت في الصحيح عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذي الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرناً، ولأهل اليمن يلملم، قال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمُهله من حيث أنشأ، حتى أهل مكة يهلون من مكة". هذه هي المواقيت المفروضة والتي تسمى بالمواقيت المكانية.

وسبب شرعيتها وشرعية الإحرام منها، أن هذا المكان المقدس الذي هو البيت العتيق له مكانته وشرفه وفضيلته وحرمته، فإذا أقبل الناس إليه ودفعهم الشوق إلى تلك المشاعر، وقربوا منه، شرع لهم أن يظهروا بصفة يتميزون بها عن غيرهم، فيعرفهم غيرهم بأنهم من الوافدين إلى هذا البيت، فشرع لهم لباس خاص يتميزون به قبل أن يصلوا مكة بمسافة، وشرع لهم شعارٌ خاصٌ وهو التلبية، وكان ذلك دليل إجابتهم. لقد شرع الحج على لسان إبراهيم بقوله: ((وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)) (الحج:27) . كما روى ذلك ابن جرير وابن عباس ومجاهد في تفسير هذه الآية من سورة الحج، فقد أمره الله أن ينادي فقال: "يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" فأسمع الله من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فجاؤوا من كل فج عميق، رافعين أصواتهم يُهِلُّون بالتلبية، لبيك اللهم لبيك، أي: نحن مجيبون لك أيها الداعي، فكان من حكمة الله أن جعل لهذا البيت أماكن نائية بعض الشيء إذا وصل إليها المسلم قاصداً مكة فإنه يعمل عملاً يتسم ويتميز به عن غيره، تدل على إجابته للنداء، وتعظيمه لشعائر الله: ((ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)) (الحج:32) . ولا شك أن تعظيم تلك المشاعر تعظيم لله الذي أمر عباده بالتعبد فيها، لا لأنها أماكن ولا لأنها بنايات أو مقامات، ولكن يعظمونها بأمر الله، وهم يذكرون الله فيها ويقرؤون كلامه ويركعون ويسجدون ويخضعون له ويذلون ويتواضعون وهم منيبون إليه. الميقات الأول: ذو الحليفة (أبيار علي) :

وهو ميقات أهل المدينة ومن أتى على طريقهم، ويسمى الآن (أبيار علي) . وينبغي الانتباه بأن تسميته (أبيار علي) جاءت به الرافضة بزعمهم أن علياً رضي الله عنه قاتل الجن في بئر هناك كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 26/29. فينبغي هجر هذه التسمية، وتسميته بالاسم الشرعي وهو: (ذو الحليفة) . وهذا الميقات هو الذي كان يحرم منه النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرم منه الصحابة، ويحرم منه أهل المدينة إلى يومنا هذا، وقد امتد البناء إليه أو قرب منه، ثم تجاوزه في داخل البنيان. وهو أبعد المواقيت من مكة، فبينه وبين مكة عشر مراحل. والمرحلة هي: مسيرة الراكب على الرواحل القديمة من أول النهار إلى آخره، كانوا يسيرون بين ذي الحليفة ومكة عشرة أيام، أي يسيرون النهار، ويبيتون الليل، هذا معنى قولهم: عشر مراحل. الميقات الثاني: الجحفة: وهو ميقات أهل الشام ومصر والمغرب الذين يقدمون عن طريق البحر وينزلون على السواحل، ثم يركبوا على الرواحل ويسيرون عليها، فأول ما يمرون في طريقهم بالجحفة فيحرمون منها. والجحفة بلدة قديمة بينها وبين مكة ثلاث مراحل، وتسمى قديماً (مهيعة) ، وسميت بالجحفة لأن السيل اجتحفها، وهي الآن خربة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لما قدم المدينة: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمّاها إلى الجحفة" كما رواه البخاري في فضل المدينة برقم 1889، ومسلم في الحج برقم 1376 عن عائشة مطولاً. فأصابها الوباء فخربت فصار الناس يحرمون قبلها بقليل من بلدة قديمة اسمها (رابغ) وهي مشهورة. وقد ذكرها ابن حجر في فتح الباري أنها مشهورة بهذا الاسم، ولكنها لم تكن مشهورة في زمن النبوة ولم يرد لها اسم.

فإحرام أهل الشام ومن كان على تلك الطريق من رابغ، هو إحرام من الميقات، وذلك أنه قبل الجحفة بقليل، ومن أحرم قبل الميقات بقليل أجزأه إحرامه، بخلاف من أخّر الإحرام حتى تجاوز الميقات كما سيأتي. ثم إن الحكومة أيدها الله تعالى عمَّرت مسجداً كبيراً في الجحفة القديمة، وأصلحت له طريقاً معبَّداً يتصل بالمسجد الذي عمر في الجحفة ليحرم منه الناس وإن كان مائلاً عن الطريق قليلاً. أما أهل الشام إذا مروا بالمدينة فإنهم يحرمون من ميقات أهل المدينة، وكذلك من مر بالمدينة من غير أهلها، فلو مر بالمدينة بعض أهل نجد أو أهل العراق، لزمهم أن يحرموا من ميقات أهل المدينة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام في المواقيت: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن". فإذا جاء أهل الشام وأهل مصر بالبواخر وتوجهوا إلى جدة فإنه يلزمهم الإحرام إذا حاذوا رابغ، أو حاذوا الجحفة، وهم في نفس السفن أو البواخر قبل نزولهم بجدة، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام إلى أن يصلوا جدة، كما يفعله كثير من الجهلة، وذلك لأن ميقاتهم هو (الجحفة) أو قبلها برابغ، فإذا حاذوها وهم في نفس السفن أو البواخر تجردوا ولبسوا إحرامهم، ولبوا وعقدوا النية، دون أن يؤخروا إحرامهم إلى جدة، ولو قدِّر أنهم وصلوا إلى جدة وهم بثيابهم غير محرمين، ثم أحرموا من جدة لزمتهم الفدية، وهي فدية تجاوز الميقات بغير إحرام، إلا إذا رجعوا إلى رابغ وأحرموا منه، أي إذا رجعوا قبل أن يحرموا فإنه يسقط عنهم الدم، الذي هو دم الجبران. أما إذا أحرموا من جدة، وعقدوا الإحرام فيها فإنه يلزمهم الدم، ولا ينفعهم الرجوع بعد الإحرام. الميقات الثالث: قرن المنازل (السيل الكبير) :

وهو ميقات أهل نجد ومن كان على طريقهم من أهل المشرق ونحوهم، ويسمى أيضاً قرن الثعالب، وهو عبارة عن جبل صغير مغلق شمالاً وجنوباً من جانبي الوادي الذي يجري معه ماء يُقال له: السيل الكبير، وهذا من أقرب المواقيت إلى مكة، بينه وبين مكة مرحلتان، أي مسيرة يومين. ولمّا فُتح الطريق الذي ينفذ من الطائف إلى مكة الذي يُسمى (بالهدا) (أو بالكرا) ولا يمر بوادي السيل، اجتهد العلماء وحددوا فيه ميقاتاً يحرم منه من أراد الحج أو العمرة، وكان يريد القدوم من ذلك الطريق. وهذا الطريق وهو طريق الهدا يمر بوادٍ يُقال له (وادي محرم) ، ووادي محرم يحاذي أعلى مكان من وادي السيل، ولذلك جعلوا وادي محرم ميقاتاً لمن قدم من ذلك الطريق وأراد الحج أو العمرة. والعلماء نصّوا على أن من دخل مكة من غير هذه المواقيت، لزمه أن يحرم إذا حاذى أقربها، فإذا لم يحاذ بعضاً، ولم يدر بالمحاذاة، لزمه أن يحرم إذا بقي بينه وبين مكة مرحلتان. وهذا الميقات يحرم منه أهل الطائف وأهل البلاد الجنوبية الذين ينزلون من ذلك الطريق. الميقات الرابع: يلملم (السعدية) : وهو ميقات أهل اليمن ومن على جهتهم، أو من يأتي من البلاد الجنوبية الغربية: كبلاد الساحل الجنوبي، ويسمى الآن (بالسعدية) . وهذا الميقات من أوسط المواقيت بينه وبين مكة مرحلتان، أو أكثر من مرحلتين قليلاً. الميقات الخامس: ذات عرق: اختلف في هذا الميقات وهو ميقات أهل العراق، فقيل أن الذي وقَّته النبي صلى الله عليه وسلم كما روي ذلك في أحاديث. والصحيح أن الذي وقَّته عمر رضي الله عنه، لما مُصِّرت الأمصار التي في العراق: الكوفة، والبصرة في زمن عمر، فشكوا إلى عمر بأن السيل الذي هو (قرن المنازل) جور أي: مائل عن طريقهم، فأمرهم أن ينظروا حذوها من طريقهم، وحدد لهم ذات عِرقٍ، وبينها وبين مكة قريباً من مرحلتين وإن كانت لا يمر بها طريق في هذه الأزمنة.

ولزيادة الفائدة أذكر هنا تنبيهات: * التنبيه الأول: من ركب الباخرة أو الطائرة كيف يحرم؟ فإنه يلاحظ على الذين يأتون عن طريق البحر بالبواخر أنهم يؤخرون الإحرام إلى جدة، ويحرمون منها، وكذلك الذين يأتون بالطائرات فإنهم يؤخرون الإحرام ويحرمون من جدة، وهذا كله خطأ، فإن الذي يأتي من طريق يلزمه أن يحرم من الميقات الذي يمر فيه أو إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فالذي يأتي عن طريق الجو يحرم وهو في الجو، إذا بلغ أقرب المواقيت التي يمر بها. فلو سافر شخص من الرياض بالطائرة إلى جدة ويريد الحج أو العمرة فعليه أن يحرم ويلبي ويعقد النية إذا حاذى الميقات الذي يمر به وهو (قرن المنازل أي ما يسمى بالسيل الكبير) أو قرب وادي السيل، ومن لبّى قبل الميقات بقليل للاحتياط فهو الأولى، مخافة أن يتمادى به التساهل إلى أن يتجاوز حدود الميقات. وبالجملة فليس لراكب السيارة، أو الطائرة، أو الباخرة ونحوهم تأخير الإحرام إلى جدة، لما فيه من مجاوزة الميقات، وإذا قُدِّر أنه فعل ونزل بالطائرة في جدة ولم يحرم، فسبيل التخلص من الفدية أن يركب سيارة ويرجع إلى ميقاته الذي قدم منه، ويحرم من هناك، ويدخل مكة محرماً، ولا يحرم من جدة، وإن أحرم من جدة لم ينفعه الرجوع، ولا يسقط عنه دم الفدية، هذا هو الطريق لإسقاط الفدية عمن تجاوز الميقات بدون إحرام. * التنبيه الثاني: من كان دون المواقيت كيف يحرم؟ أما من كان دون المواقيت بأن كان بينها وبين مكة، فإنه لا يُكلف بأن يذهب إلى أحد المواقيت التي ذكرناها، فأهل جدة مثلاً لا يكلفون أن يذهبوا إلى رابغ ليحرموا منه، بل ميقاتهم من بلادهم، فيُحرم أحدهم من بيته. كذلك القرى التي بين مكة وجدة، كبحرة ونحوها، فإن أهلها يحرمون من أماكنهم وبيوتهم.

وكذلك القرى التي بين السيل الكبير ومكة كالشرائع ونحوها فإن أهلها أيضاً يحرمون من أماكنهم، وهكذا أهل مكة يحرمون من مكة على ظاهر هذا الحديث، وهو: "حتى أهل مكة يحرمون من مكة". وذهب بعض العلماء إلى أن أهل مكة يحرمون من مكة بالحج، وأما العمرة فإنهم يذهبون إلى أدنى الحل، فيحرمون منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تعتمر من التنعيم، ولم يرخص لها أن تعتمر من مكة، مع أنها في مكة، وهذا دليل على أن المعتمر يذهب من مكة إلى أدنى الحل، ويدخل فيها، حتى يجمع في العمرة بين وقوفه في الحل والحرم، كالحجاج من أهل مكة فإنهم يجمعون في وقوفهم بين الحل والحرم، فإنهم يقفون بعرفة وهي من الحل، ويقفون في المشاعر الأخرى وهي من الحرم. * التنبيه الثالث: من أتى مكة لا يريد الحج أو العمرة هل يلزمه الإحرام من المواقيت أم لا؟ أما من مر بالمواقيت السابقة قاصداً مكة ولم يكن في نيته أداء حج أو عمرة، فإنه لا يلزمه الإحرام، لكن إذا كان بعيد العهد بمكة فإنه يتأكد في حقه الإحرام، من غير أن يُلْزَمَ به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة". فَشَرَط النبي صلى الله عليه وسلم أنها مواقيت لمن أراد الحج أو العمرة، وهذا دليل على أن من مر بها قاصداً مكة لتجارة أو لزيارة قريب أو صديق أو عابر سبيل فإنه يجوز له أن يتجاوزها، ولا يلزمه الإحرام، والله أعلم. أنواع الأنساك وأفضلها والنسك الذي أهل به النبي صلى الله عليه وسلم إذا وصل الحاج إلى أحد المواقيت التي ذكرناها في أشهر الحج وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة، وكان مريداً للحج من عامه فإنه مخير بين ثلاثة أنساك: الأول: العمرة وحدها: (ويسمى التمتع) : وهو أن يحرم بالعمرة وحدها من الميقات في أشهر الحج.

وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام وعقد النية أن تقول: (لبيك عمرة) . ويستمر في التلبية حتى يصل مكة فإذا شرع في الطواف قطع التلبية، وبدأ بأعمال العمرة، فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر تمت عمرته، وحلَّ له كل شيء حرم عليه بالإحرام. فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة (وهو يوم التروية) أحرم بالحج وحده، وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام وعقد النية أن يقول: (لبيك حجاً) . الثاني: الحج بين العمرة والحج: (ويسمى القران) : وهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً في أشهر الحج، أي: يقرن بينهما، وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام وعقد النية أن يقول: (لبيك عمرة وحجاً) . أو يحرم بالعمرة أولاً: من الميقات فيقول: (لبيك عمرة) وقبل أن يشرع في الطواف يدخل الحج عليها ويلبي، فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم، ثم سعى سعي الحج، وله تأخير هذا السعي بعد طواف الإفاضة. ولا يحلق أو يقصر، بل يبقى على إحرامه حتى يحلّ منه بعد التحلل يوم العيد. الثالث: الحج وحده: (ويسمى الإفراد) : وهو أن يحرم بالحج وحده من الميقات في أشهر الحج، وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام وعقد النية أن يقول: (لبيك حجاً) . وله تأخير السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة. فائدة: * عمل المفرد كعمل القارن سواء بسواء إلا أن المفرد بالحج وحده ليس عليه هدي، أما القارن وهو المحرم بالعمرة والحج معاً فإن عليه هدياً. * الحاج مخير بين هذه الأنساك الثلاثة، والدليل حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنّا من أهلَّ بعمرة، ومنَّا من أهلَّ بحجٍّ وعمرة، ومنَّا من أهلَّ بالحج…" الحديث، وغيره من الأَدلة.

ولكن الأفضل من هذه الأَنساك هو (التمتع) لمن لم يكن معه الهدي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد أن سعى بين الصفا والمروة: "… لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه الهدي فليحل وليجعلها عمرة…" الحديث. * أما من ساق الهدي معه من بلده فإن القران أفضل في حقه لأنه النسك الذي أحرم به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن سوق الهدي في هذا الزمان فيه حرج ومشقة، فلذا كان الأفضل هو التمتع لما فيه من اليسر والسهولة. * أما من كان قارناً وكذا المفرد فالأفضل له إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ولم يسُق الهدي من بلده، أن يجعلها عمرة فيقصر أو يحلق ويكون بهذا متمتعاً، كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمره في حجة الوداع. النسك الذي أهل به النبي صلى الله عليه وسلم: ذكرنا أن النسك الذي أهل به النبي صلى الله عليه وسلم هو (القران) وهو الجمع بين العمرة والحج بتلبية وإحرام واحد دون فصل بينهما، وهو النسك الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لنبيه، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، فإنه صلى الله عليه وسلم ساق الهدي معه، وهذا هو الذي منعه من التحلل بالعمرة، وأن يفعل مثل الذي أمر به أصحابه. الإحرام صفته وما يتعلق به يتجرد المسلم من لباسه المعتاد إذا كان رجلاً، ويرتدي لباساً خاصاً؛ حيث يقتصر على إزار يشدّ به عورته، ورداء يلفه على ظهره، يتذكر بذلك تجرده من الدنيا، ومن زينتها، ويتذكر بذلك أيضاً لباس الموتى، وهو أنهم يكفنون بأكفان كهذه الأكسية، فهو بهذه الأكسية قد دخل في النسك، ودخل في هذه العبادة العملية.

أما المرة فإنها تلبس ما تشاء من الثياب، وليس لها لباس خاص عند الإحرام كالرجال، كما يفعله بعض الجهلة من لبس النساء لثوب أبيض أو أخضر، فإن هذا لم يشرع وأن لبسها الأبيض فيه تشبه بالرجال، ولا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجل لا في اللباس ولا في غيره؛ بل عليها التستر والحشمة حتى لا تكون محل فتنة. والإحرام هو أول أعمال الحج، وهو أول ما يتلبس به الحاج أو المعتمر، وهذا الإحرام هو النية، وليس هو اللبس، بل مجردُ نية الناسك، وعزمه على الدخول في النسك هو الإحرام، ولو لم يتجرد من لباسه، فكثيراً ما يتجرد المحرم من لباسه المعتاد ويلبس ملابس الإحرام ولم ينو النسك، والعكس كذلك، أن ينوي الدخول في النسك ويصبح محرماً وهو باق على لباسه المعتاد لم يخلعه. إذاً فالنية هي الأصل، وهي العزم على الدخول في النسك. فإذا رأينا إنساناً لبس إزاراً على عورته ورداءاً على ظهره، فليس بشرط أنه محرم وأنه دخل في النسك. ولهذا يجوز أن تلبس إزاراً ورداءً وأنت في بلدك ولا تحرم، وذلك لأنه لباس معتاد قبل الإسلام، وجائزٌ لبسه لغير المحرم. وكذلك قد لا يجد المحرم الرداء الذي يجعله على ظهره؛ فيتخذ ثوباً أو بطانية أو عمامة ويلقيها على ظهره، أو يبقى ظهره مكشوفاً، وقد لا يجد إزاراً؛ فيأتزر بثوب أو قميص يغطي به عورته أو ما أشبه ذلك. وهكذا بهذه النية يكون الإنسان محرماً ولو لم يلبس هذا اللباس الخاص. وقد لا يتيسر للبعض التكشف ولبس الإحرام الخاص، كالذين يعملون الأعمال الرسمية، ويريدون أداء المناسك، فيجوز لهم أن يحرموا بأكسيتهم وألبستهم المعتادة، فيجوز للجندي مثلاً أن يحرم ويلبي وهو لابساً قميصه، وعليه برنيطة على رأسه، ويتجنب المحظورات، ولكن يكون عليه فدية عن هذا اللباس، وإحرامه صحيح، فإن الإحرام هو النية والتلبية وما أشبهها.

* وقد اشتهر عند الإحرام أن يقلم المحرم أظفاره، ويقص من شاربه، ويحلق شعر عانته ونحو ذلك. فهل هذه من السنن؟! نقول: ليست هذه من السنن، ولكن شُرِعَت للمحرم مخافة أن يتأذَّى بهذا الشعر، وهذه الأَظفار عند إطالتها، فبعد الإحرام عادة ما يبقى الحجاج في إحرامهم نصف الشهر، أو عشرين يوماً وهم محرمون، ولا شك أن المحرم منهي أن يقلم أظفاره، وأن يقص من شعر شاربه أو شعر عانته أو إبطه أو نحو ذلك. فلسان حاله يقول: بما أني منهي عن ذلك وأنا محرم، فسوف أقلمها وأقصها ما دام ذلك حلالاً، قبل أن تطول وتؤذي وأكون ممنوعاً منها بعد عقد النية بالنسك. أما في هذه الأزمنة فالحاجة إلى أخذ هذه الأشياء قليلة، وذلك لقصر مدة الإحرام لتقارب المسافة، وذلك لوجود الناقلات التي تقرب البعيد. وقد قيل: إن الصحابة رضي الله عنهم بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً وهم محرمون، وبعضهم أحرم في خمس وعشرين من شهر ذي القعدة، ولم يتحلل إلا يوم العيد، فبقوا خمسة عشر يوماً وهم محرمون، وبعضهم تحلل في اليوم الخامس من ذي الحجة، حيث جعلوها عمرة، ثم أحرموا في اليوم الثامن من ذي الحجة، وبقوا على إحرامهم إلى اليوم العاشر، وبكل حال فقد خشوا في هذه المدة الطويلة أن تطول أظافرهم فتعاهدوها قبل الإحرام، وتعاهدوا شعورهم مخافة أن تؤذيهم. أما إن أحرم مثلاً في اليوم الثامن وتحلل في اليوم العاشر، فإن هذه المدة لا يطول فيها الشعر والظفر، فلا أهمية ولا إلزام في أخذ هذا الشعر ولا هذه الأظافر ونحوها؛ سيما إذا كانت قصيرة. * تنبيه مهم:

من أراد أن يضحي، فإنه منهي أن يأخذ من شعره وأظفاره في أيام عشر ذي الحجة حتى يضحي، فإذا دخل عليه العشر، توقَّف عن أخذ شيء من شعره وظفره، وتعاهدَ ذلك في اليوم التاسع والعشرين أو اليوم الثلاثين من شهر ذي القعدة، فيأخذ ما يريد أخذه، حتى لا يحتاج إلى ذلك بعد دخول العشر، لورود النهي عن ذلك. * كذلك إذا أراد المسلم الحج وهو ينوي أن يضحي وقد تعاهد هذا الشعر وهذه الأظفار قبل دخول العشر، ثم أحرم بالحج في اليوم السابع من ذي الحجة، أو في اليوم الثامن فلا يجوز أخذ شيء من شعره وظفره لأنه عازم على الأضحية. والخلاصة أن الأخذ من الشعر والظفر عند الإحرام ليس مشروعاً إلا إذا كانت الأشعار طويلة مثلاً أو الأظافر، وخاف أن يتأذى منها بعد الإحرام. * أما الاغتسال عند الإحرام فليس أيضاً بشرط! ولكن من باب النظافة، فيستحب أن يحرم وهو حديث عهد بنظافة، فلو اغتسل وتنظَّف في اليوم السابع وأحرم في اليوم الثامن أجزأه ذلك، لوجود النظافة المطلوبة عند الإحرام. * وهل يشرع عند الإحرام صلاة ركعتين قبل الإحرام أو بعده؟ استحب ذلك جمع من العلماء، ولكن ليس ذلك بمستحب إلا إذا كان هناك سبب آخر، كأن توضأ أو اغتسل وصلى ركعتين كسنة وضوء، كفاه ذلك، وإن كان في وقت مكتوبة: كصلاة ظهر، أو صلاة عصر، أو صلاة فجر، كفته الصلاة، فأحرم بعدها، وإن كان في وقت نافلة كصلاة الضحى أو نحوها، كفاه ذلك أيضاً. وليس للإحرام سنة خاصة وليس من ذوات الأسباب، فلا يصليها في وقت النهي: كبعد العصر، وبعد الفجر. وبكل حال هذه من السنن المطلقة التي تصلى لمناسبة والله أعلم. *الاشتراط في الإحرام:

إذا كان المحرم خائفاً من عائق في الطريق كمرض أو عدو أو مطر، أو خاف المنع من قبل السلطات بسبب الإجراءات النظامية، أو نحوه، فإنه يستحب له أن يشترط عند إحرامه فيقول: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني". أو يقول: "لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني". أما من لا يخاف وغلب على ظنه أنه لا يعوقه عائق فإنه لا ينبغي له الاشتراط. * صفة التلبية ومواضعها: بعد أن يلبس المسلم لباس الإحرام، ينوي بقلبه فيقول: (لبيك عمرة) ، أو (لبيك حجاً) ، أو (لبيك حجاً وعمرة) ، وينوي بهذه التلبية الدخول في النسك الذي اختاره، كما ينوي أيضاً التقرُّب إلى الله بهذه التلبية التي معناها التزام الطاعة. وبعد أن ينوي الدخول في النسك فإنه يبدأ بالتلبية فيقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال". والإهلال هو: التلبية، والتلبية هي إجابة دعوة الخليل عليه السلام كما قال الله تعالى: ((وأَذِّن في الناس بالحج)) (الحج:27) . فقد روي أن إبراهيم عليه السلام صعد على جبل أبي قبيس فنادى: "أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا". ومعنى قوله: (لبيك) أي: أنَّا مقيمون على طاعتك إقامة بعد إقامة، فالتلبية هي: الملازمة والتمسك بالشيء، فالملبي كأنه يعاهد ربه أنه لا يخرج عن طاعته، وأن يستقيم عليها، وأنه مقيم عليها إقامة مستمرة لا يفارقها قيد شعرة وليس بعدها تحول؛ سواءٌ كان في تلك الحالة التي هي الإحرام، أو فيما بعده. كذلك تشتمل التلبية على العقيدة، والتوحيد، فإن قوله: "لبيك لا شريك لك لبيك" تكرار لهذه التلبية، وشهادة منه بأن ربه تعالى متفرد بالوحدانية، ليس له شريك في استحقاق هذه العبادة، واعتراف منه بأنه المستحق لذلك، والمستحق للحمد والثناء.

وفي قوله: "إن الحمد والنعمة" الحمد هو: ذكر محاسن المحمود، والنعمة هي: إنعامه على الخلق. وهكذا قوله: (لك والملك لا شريك لك) أي: منك وحدك يا رب، ونحن معترفون بذلك، إنه لا شريك لك. وصفة التلبية النبوية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكرر قوله: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، ولكنه صلى الله عليه وسلم سمع من صحابته تلبيات أخرى ولم ينكر عليهم، فكان بعضهم يقول: "لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً". وبعضهم يقول: "لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والشر ليس إليك نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك". وبعضهم يقول: "لبيك والرغباء إليك والعمل". وبعضهم يقول: "لبيك إن العيش عيش الآخرة". والكل جائز، وذلك لأن هذه التلبية إجابة لنداء الله سبحانه وتعالى، والتزام بطاعته، فهي شعار خاص بالمتلبس بنسك حج أو نسك عمرة. ويجوز أن يلبي غير المحرم، ولكن الأصل أنها أصبحت شعاراً للمحرم. ويسن للرجال أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، أما النساء فإنهن يخفضن أصواتهن فلا يسمعها أحد إلا من كان بجانبها من رفيقاتها. وقد ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالتلبية من حين أحرم، ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة في يوم العيد، فعند ذلك قطع التلبية لأنه شرع في أسباب التحلل، وهكذا الذي يحرم بعمرة يلبي إلى أن يبدأ بالطواف، فإنه يقطع التلبية لأنه بدأ بأسباب التحلل. ويندب أن يكثر الحاج من التلبية لأنها ذكر وهي شعار الحجاج، وهي تتأكد في عشرة مواضع: * الموضع الأول: إذا عقد الإحرام ودخل في النسك رفع صوته بالتلبية. * الموضع الثاني: إذا ركب دابته أو سيارته أو نحو ذلك، فإنه يكون قد انتقل من حال إلى حال. * الموضع الثالث: إذا نزل من دابته أو من سيارته على الأرض لسبب أو لغرض، فإنه يجدد هذه التلبية.

* الموضع الرابع: إذا صعد نشزاً أي مكاناً مرتفعاً، كأن ترتفع به دابته أو سيارته فإنه يجدد هذه التلبية. * الموضع الخامس: إذا هبط منخفضاً أو وادياً، أو نحو ذلك، فإنه يلبي. * الموضع السادس: إذا أقبل الليل؛ سواء كان في مكة أو منى، أو ليلة عرفة، أو في غيرها، فإن إقبال الليل يكون تجدد حال فلهذا يجدد هذه التلبية. * الموضع السابع: عند إقبال النهار تجدد هذه التلبية أيضاً. * الموضع الثامن: إذا سمع من يلبي، فإنه يتذكر بذلك هذه التلبية فيلبي. * الموضع التاسع: إذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام ناسياً، أو لحاجة، أو نحو ذلك، فإنه يجدد التلبية. * الموضع العاشر: إذا تلاقت الرفاق تذكروا إحرامهم فلبى كل منهم. وهكذا.. يجدد التلبية أيضاً بعد الصلاة المكتوبة في عرفة، وفي مزدلفة، وفي منى، وغير ذلك، فكلما صلى صلاة مكتوبة جدد هذه التلبية. وقد عرفنا أن هذه التلبية هي معاهدة من العبد لربه، فإذا لبى فليستحضر هذه المعاهدة، وليعقد قلبه عليها، حتى يكون صادقاً، ويكون حجًّه مقبولاً مبروراً. محظورات الإحرام: يجتنب المسلم في إحرامه ما نُهي عنه في قول الله تعالى: ((فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)) (البقرة:197) . فهذه أمور نهى الله تعالى عنها، فمن أحرم سواء بحج أو عمرة فإنه يتجنب الرفث، الذي هو الكلام السيئ، وخصوصاً ما يتعلق بالعورات أو ما يتعلق بالنساء، بصون لسانه، فإذا لم يشغله بذكر الله سبحانه وتعالى، وبتلبيته، فلا يشغله بهذا الكلام الدنيء، وبالرفث في القول ووسخ الكلام! بل عليه أن يستبدل ذلك بما ينفعه، ويتجنب ما يضره.

هذا هو الأصل في سبب شرعية هذا الإحرام، وذلك لأن المحرم يتذكر في ليله ونهاره أنه في هذه العبادة، فتذكُّرُه يحمله على أن يحمي لسانه، فلا يتكلم إلا بخير، فيتجنب السبَّ والقذف، والشتم، واللعن، والغيبة، والنميمة، ويتجنب الجدال الذي نهى الله عنه، والمخاصمة بغير حق، وشدة الاحتكاك بغير موجب. وعليه أيضاً أن يتجنب الفسوق التي هي المعاصي، صغيرها وكبيرها، فكل معصية؛ سواء كانت بالعين كنظرة إلى عورة، أو سماع لكلام سيئ، أو لغناء أو نحوه، أو كانت معصية بيد، أو برجل، أو بقلب، كمن يهم بمعصية بقلبه، كل ذلك من لافسوق الذي نهى الله عنه بقوله: ((فلا رفث والفسوق ولا جدال في الحج)) (البقرة:197) . فإذا تجنب الحاجُّ مثل هذه الأمور في إحرامه، رُجي أن تبقى عليه آثاره بعد تحلله، وذلك لأن للعبادات آثاراً تبقى بقية الحياة، ومن لم تبق عليه تلك الآثار فإنه حري بأن لا ينتفع بأعماله ويرجع إلى عمل السيئات. كذلك إذا عرف العبد أنه في حال إحرامه في هذه العبادة منهيٌّ عن المعاصي ونحوها، عرف أنه مأمور بالطاعات، ومن الطاعات: الإكثار من الدعاء، والإكثار من ذكر الله تعالى، ولهذا يأمر الله بذكره في أيام المواسم كما في قوله تعالى: ((واذكروا الله في أيام معدودات)) (البقرة:203) . يعني أيام التشريق، وكذلك قوله: ((فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً)) (البقرة:200) . بمعنى كما أنكم منهيون عن الغفلة في وقت أداء النسك، فلا تغفلوا بعد الانتهاء من النسك أيضاً؛ بل أكثروا من ذكر الله بعد قضاء المناسك، وأعمال المشاعر، ونحوها. وهكذا أمر سبحانه وتعالى بذكره في مزدلفة فقال: ((فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام)) (البقرة:198) . فهذا ونحوه دليل على أن المحرم يكثر من ذكر الله تعالى في جميع حالاته، وأن يبقى أثر الذكر معه. * محظورات الإحرام المشتركة بين الرجال والنساء:

1- قص الشعر: إذا قصَّ المحرم شيئاً من شعره من أيِّ شعر، من شاربه، أو من رأسه، أو من عانته، أو إبطه، فعليه فدية. 2- قص الأظفار: كذلك إذا قلّم ثلاثة أظفار أو أكثر فعليه الفدية. 3- لبس القفازين (الكفوف) وهما شراب اليدين وما يشبهه مما هو مصنوع لليدين. 4- استعمال الطيب: كذلك عليه عدم استعمال الطيب الذي له رائحة زكية، فإذا تطيب في ثوبه أو في بدنه أو في إحرامه فعليه فدية مثل ما ذكرنا. 5- قتل الصيد البري: وعليه عدم قتل الصيد البري أياً كان نوعه، فمن صاده وقتله فإن عليه الفدية التي ذكرها الله تعالى بقوله: ((ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم)) (المائدة:95) . ومثله أيضاً صيد الحرم. 6- عقد النكاح: فلا يصح أن يعقد المحرم نكاحاً لأبنته أو ابنه، ولا يكون شاهداً، ولا يخطب، ولا يكون زوجاً ولا ولياً، فإن فعل بطل العقد ولا فدية فيه. 7- الجماع: فإنه يبطل النسك بالجماع، وإذا فعله قبل التحلل الأول، فسد نسكه، وعليه إكماله، وعليه فدية، وعليه أن يقضيه من السنة القادمة. 8- المباشرة والتقبيل واللمس بشهوة وما أشبهه: فإذا فعل ذلك، فعليه فدية، ولكنه لا يفسد حجه. * محظورات الإحرام الخاصة بالرجال: 1- لبس المخيط: فإذا احتاج الرجل ولبس ثوباً مخيطاً، أو أحرم به: كالجنود الذين يحرمون بثيابهم، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام، أو الصدقة على ستة مساكين، بثلاثة آصع، لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، له الخيار. 2- تغطية الرأس: يجب عدم تغطية الرأس فلا يغطي المحرم رأسه بملاصق: كعمامة أو قلنسوة أو (برنيطة) أو نحوها، فإذا احتاج إلى ذلك لبرد أو لحاجة: كالجندي الذي يحرم بلباسه، فإن عليه فدية أخرى، أي: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين.. إلخ. * محظورات الإحرام الخاصة بالنساء:

* لبس البرقع والنقاب والقفازين ونحوهما مما هو مفصل على الوجه أو اليدين، ويباح لها من المخيط ما سوى ذلك. * ولها أن تغطي وجهها عند حضور الرجال الأجانب ولا يضرها مماسة الغطاء لوجهها، وكذلك تغطية يديها بثوبها، ولكن لا تلبس القفازين. * من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام: * إذا فعل المحرم محظوراً من محظورات الإحرام ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا إثم عليه، ولا فدية للنصوص الكثيرة في رفع الحرج عن الناسي والجاهل والمكره. * أما من اضطر لفعل محظور من المحظورات، فيجوز له فعل ذلك المحظور وعليه فدية، ولا يلحقه الإثم للعذر. * أما من تعمد فعل محظور من المحظورات، فإنه آثم وعليه الفدية، والفدية على التفصيل: 1- الفدية في إزالة الشعر: والظفر، وتغطية الرأس في حق الرجال، ولبس المخيط، ولبس القفازين في حق النساء، وانتقاب المرأة، واستعمال الطيب، فإن الفدية في كل واحد من هذه المحظورات على التخيير: * إما ذبح شاة وتفريق جميع لحمها على فقراء الحرم. * أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع مما يطعم. * أو صيام ثلاثة أيام. 2- من جامع في الفرج قبل التحلل الأول فَسَدَ حجه، ولزمه بدنة يفرق لحمها على فقراء الحرم، ويجب عليه إكماله، وأن يقضيه بعد ذلك. أما من جامع بعد التحلل الأول فعليه ذبح شاة يفرق لحمها على فقراء الحرم، وحجه صحيح. والمرأة كالرجل في الفدية إذا كانت راضية. 3- جزاء الصيد: من قتل صيد الحرم أو قتل الصيد وهو محرم فإنه يخير بين ثلاثة أشياء: * إما ذبح مثل الصيد المقتول من بهيمة الأنعام إن وجد، وتفريق لحمه على فقراء الحرم. * أو أن يخرج ما يساوي جزاء الصيد المقتول طعاماً يفرَّق على المساكين لكل مسكين نصف صاع. * أو أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً.

4- المباشرة بشهوة دون الفرج، كالقبلة واللمس بشهوة، سواء أنزل أو لم ينزل، من وقع في مثل هذا فحجه صحيح، ولكن عليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، وعليه أن يجبر فعله هذا بذبح شاة للاحتياط، وإن أطعم ستة مساكين أو صام ثلاثة أيام أجزأه. 5- من منع من إتمام النسك بسبب عدو أو حصل عليه حادث أو مرض ونحوه، فعليه أن يبقى على إحرامه حتى يزول العائق، وإذا لم يتمكن ولم يستطع، فإنه يذبح ثم يحلق أو يقصر. هذا بالنسبة لمن لم يشترط عند إحرامه، أما من اشترط وحصل له مانع من أداء الحج فإنه يحلّ من إحرامه وليس عليه شيء. * ما يباح للمحرم فعله: يجوز للمحرم وغير المحرم أن يقتل الفواسق المؤذية في الحل والحرم، كالعقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور، والحية، وما شابهها. ويجوز للمحرم لبس السراويل إذا لم يجد إزاراً، ويجوز له لبس الخفين، إذا لم يجد نعلين. كما أنه يجوز للمحرم لبس الخفاف التي ساقها أسفل من الكعبين إن لم يجد النعلين. ويجوز للمحرم أن يغتسل للتبرد ويغسل رأسه ويحكه برفق وسهولة ولا حرج عليه إذا سقط من شعره شعرة أو شعرتان دون تعمد. ويجوز لبس النظارة الشمسية أو الطبية وربط الساعة على المعصم. ولا بأس بالحجامة إذا احتاج إليها المحرم. ولا بأس بالاستظلال بالمظلة أو سقف السيارة أو الخيمة أو الشمسية ونحوها، مما لا يكون ملاصقاً للرأس. ولا بأس بعقد الإزار أو ربطه بخيط حتى لا يقع. ويباح للمرأة من المخيط ما شاءت من الثياب من كل ما أباحه الله، ولكن لا تلبس النقاب والبرقع ولا القفازين، ولا حرج عليها في لبس الخفين والشراب والسراويل، ولها أن تستر وجهها بإسدال الخمار عليه أمام الرجال الأجانب. ولا بأس للمحرم أن يلبس حزاماً على وسطه ليحفظ ماله ويشد به إزاره.

ولا حرج في أن يخيط المحرم الشقوق في إزاره أو ردائه، أو يرقعها والممنوع هو لبس ما فصّل على هيئة البدن أو العضو. الطواف حول البيت كيفيته وشروطه أول ما يصل المحرم مكة استحب له أن يغتسل قبل دخولها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. ثم يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة فهو الأفضل ويجوز أن يدخل من جميع الجهات. فإن أراد الدخول إلى المسجد الحرام استحب له أن يقدم رجله اليمنى، ويقول: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك". وهذا الذكر يقال عند دخول المسجد، الحرام وسائر المساجد ولم يثبت لدخول المسجد الحرام ذكر خاص. أول ما يبتدئ به المحرم هو الطواف وهو تحية مكة، فإن كان معتمراً أو متمتعاً بالعمرة إلى الحج كان طوافه (طواف عمرة) . وإن كان قارناً أو مفرداً فهو (طواف قدوم) . إذا وصل المحرم بالعمرة الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف لأنه شرع في أسباب التحلل. أما القارن والمفرد فإنهما يستمران في التلبية حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد عندها تقطع التلبية. وقد كان المشركون قبل الإسلام يأتون إلى هذا البيت، وكان من تعظيمهم له أنهم لا يطوفون بالثياب التي عصوا الله فيها، فإما أن يستعيروا ثياباً من أهل مكة الذين هم أهل الحرم، وإما أن يطوف أحدهم في ثيابه القديمة ثم يلقيها ولا ينتفع بها، وإما أن يطوفوا وهم عراة حتى لا يطوفوا بثياب فيها معصية، هكذا زعموا! وهذا من الجهل الذي نهى عنه الإسلام، وأنكره، وأمر بأن يُطاف بالثياب التي تستر الإنسان في صلاته وعند طوافه، قال الله تعالى: ((يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)) (الأعراف:31) . ومن الزينة اللباس.

وقد أمر الله تعالى بالطواف في قوله تعالى: ((ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق)) (الحج:29) . وفي قوله تعالى: ((وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود)) (الحج:26) . والطواف عبادة خاصة بمكة، وهي من أشرف وأفضل القربات التي يتقرب بها المسلم لله وحده، ولا يصح الطواف في غير مكة، بل وليس في الأرض موضع يُطاف به سوى البيت العتيق، فلا يجوز أن يُطاف بأي بقعة في الأرض، فلا يُطاف حول قبر أو مسجد أو صخرة أو غير ذلك. والطائف بالبيت لا يدعو الكعبة، ولكنه يدعو ربها امتثالاً لقول الله تعالى: ((فليعبدوا رب هذا البيت)) (قريش:3) . فلم يقل: فليعبدوا البيت؛ بل جعل العبادة لرب البيت. والطواف بالبيت يجوز في كل حال وفي كل وقت، وهو عبادة مستقلة، كما أن الاعتكاف والصلاة فيه عبادة فاضلة. فلذلك يجوز لك أن تقصد البيت، وأن تقصد الكعبة بدون إحرام، قصدك أن تطوف ولو لم تكن محرماً، فحيث إن الطواف بالبيت عبادة من العبادات، فإنه يصح أن يُقْصَدَ لكي يصلي فيه، بل ويجوز أن تُشدّ إليه الرحال ولو مسيرة ألف أو ألفي كيلو أو عشرة آلاف كيلو متراً، ليس قصدك إلا أن تصلي أو تطوف بهذا البيت كما أنه يقصد لأداء مناسك الحج أو العمرة. والطواف بالبيت كما قلنا عبادة من أشرف وأفضل القربات، يتقرب بها المحرم وغير المحرم، ولكن للمحرم ركن، فالطواف بالبيت ركن من أركان العمرة، وركن من أركان الحج، فالقادم إلى مكة بنية الحج يطوف بالبيت طواف القدوم إذا كان قارناً أو مفرداً، وكذلك يطوف طواف الإفاضة الذي هو من أعمال يوم النحر، والمذكور في قوله تعالى: ((ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق)) (الحج:29) . وكذلك يطوفون طواف الوداع عند مبارحتهم مكة بعد انتهاء أعمال الحج، فيكون طواف الوداع آخر عهدهم بالبيت.

وفي الطواف يستحضر العبد أنه تعظيم لله، ليس بتعظيم للكعبة، ولا لتلك البناية المخلوقة! إنما هو تعظيم لله تعالى، فالكعبة بيتٌ أمر الله ببنائه، فأمر إبراهيم عليه السلام أن يبنيه، وكذلك جدده من بعده، وأضافه الله إلى نفسه في قوله تعالى: ((وطهر بيتي)) جعله بيتاً له، ولحرمة هذا البيت أمر المسلم بأن يطوف به، تعظيماً لربه الذي أمر بذلك. وهذا الطواف يشتمل على ذكر ودعاء وقراءة، ولا يصحُّ فيه غير ذلك، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فلا يتكلم حال الطواف إلا بخير، فقد ورد في الحديث: "الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير". لذلك يشترط في الطواف الطهارة كما تشترط للصلاة، ويشترط له ستر العورة، كاشتراطها للصلاة أو نحو ذلك. ويبدأ الطواف بمحاذاة الحجر الأسود، فإذا قدر المسلم على استلامه فإنه يقبِّله، فيضع شفتيه عليه من غير تصويت، فإن لم يستطع، لمسه بيده اليمنى وقبّلها، وإن لم يستطع لمسه بمحجن أو عصا، وقبّل رأس المحجن أو العصا، وإن لم يستطع ذلك كله اكتفى بالإشارة إليه -ولو من بعيد- وكبّر ومضى. ويُشرع للحاج ألا يزاحم الحجاج من أجل تقبيل الحجر الأسود؛ بل إنْ وجد فرجة واسعة، استلم، وإلا مضى، لأنه قد يُشِقُّ على غيره في هذه المزاحمة، ويكلف نفسه، وقد يزاحم من لا تحل مزاحمته: كالنساء، وما أشبه ذلك. وإذا ابتدأ الطواف فإنه يجعل البيت عن يساره، مبتدءاً من الحجر الأسود -كما قلنا- ويبدأ بالاستدارة حول الكعبة وراء الحِجْر.

والحِجْر هو: البناية كنصف الدائرة التي يمر بها في جهة الشمال ويطوف من ورائها، ويحذر أن يطوف من دونها، كما يفعله بعض الجهلة، وذلك لأن هذا الحِجْر فيه جزء من البيت، لأن قريشاً حين جددوه، قصرت بهم النفقة، فأخرجوا جزءاً من البيت، نحو ستة أو سبعة أذرع من جهة الشمال، فلهذا جعل هذا الحِجْر مكملاً له ليحصل الطواف بالبيت كله، لا ببعضه، فمن طاف في داخل الحِجْر لم يطف بالبيت كله، إنما طاف ببعضه. فإذا وصل إلى الركن اليماني الذي هو الزاوية الغربية الجنوبية، فإن استطاع أن يستلمه بأن يضع يده عليه مجرد وضع، ثم يرفعها فعل ذلك، ولا يقبله ولا يمسح بيده زاويته ولا يقبلها ولا يمسح بها وجهه ولا غير ذلك مما يقصد به التبرك، فإن كل ذلك من البدع، وإنما جاءت السنة بوضع اليد على الركن اليماني وبتقبيل الحجر الأسود فقط، فإن لم يستطع وضع يده كما ذكرنا، فإنه يمضي ولا يشير إليه، وهكذا بقية زاويا الكعبة لا يُسْتَلَمْ شيء منها. ذكرنا أن الطواف عبادة لله وحده وليست تعظيماً للكعبة، ولا أستارها، ولا أركانها، فَيُنْكَرُ على من يفعل في هذا الطواف ما لا يجوز فعله، ومن ذلك أن بعضهم يتمسح بجدار الحِجْر، فكلما مرّ عليه مسحه، ومسح بذلك وجهه وصدره، وهذا بلا شك خطأ، ويجب أن يُنْصَحَ الذين يفعلون مثل هذه الأخطاء. وهكذا الذين يلصقون صدورهم على جدران الكعبة، يتبركون بذلك، أو يمسحون بأيديهم الكسوة ويمسحون بها وجوههم، فهذا كله لا أصل له، فلم يُشرع التبرك بكسوتها، ولا بحجارتها، ولا بالحِجْرِ ولا بغير ذلك. وهكذا أجزاء بقية الكعبة، كمقام إبراهيم، والصفا والمروة، وزمزم وجدرانها، وبقية جدران المسجد الحرام، فلا يجوز التمسح بشيء من ذلك، ولم يُشرع إلا تقبيل الحجر الأسود، ووضع اليد اليمنى على الركن اليماني.

وهكذا الحجرة النبوية بالمدينة المنورة، والمنبر النبوي، وجدران المسجد النبوي، وغير ذلك، فلا يجوز التمسح بشيء من ذلك، فإن التمسح بشيء من ذلك يعتبر تعظيماً له! وهذا التعظيم قد يؤدِّي إلى نقص التوحيد، فإنه نوع من الإشراك. * أدعية الطواف: ليس للطواف دعاء مخصوص، خلافاً لما اعتاده الجهلة، وهم الذين يتقيدون بتلك الأدعية المذكورة في بعض المناسك، فإن التقيد بها ليس بشرط. فإذا شغلت الطواف بذكر الله بالتهليل، والتحميد، والتكبير، والتسبيح، والحوقلة، والاستغفار، ونحوه، كفى ذلك. وإذا شغلته بالقراءة أو بما تيسر من الأدعية، سواء الأدعية القرآنية، أو الأدعية النبوية المأثورة، أو ما تستحسنه من الأدعية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، كفاك. وليس لكل شوط دعاء مخصوص؛ بل يصح أن تدعو بهذه الأدعية في شوط أو في الأشواط كلها بدعاء واحد أو ما أشبه ذلك، هذا كله دليل على أن ما يعتقده بعض الجهلة من أنها لا تصح إلا بتلك الأدعية المخصصة خطأ لا أصل له. * تنبيه: وهنا ننبه على هذه المناسك، أي: الكتب الصغيرة التي تُباع عند الحرم وغيره والتي يذكر فيها: دعاء الشوط الأول، والشوط الثاني، والثالث … وهكذا، ليست ملزمة، وليست شرطاً، وإنما جمعها بعض العلماء ليسهل على العامة الدعاء بها، وإلا فليست شرطاً؛ بل يجوز أن تدعو بدعاء الشوط الأول في الثاني، أو في الثالث، ويجوز أن تدعو بغيرها، ويجوز ألا تدعو بها كلها، وأن تقتصر على الثناء على الله، والتكبير والتهليل والتحميد، وما أشبه ذلك؛ بل يصح الطواف ولو لم تدع بشيء منها، ويصح الطواف ولو لم تردد إلا فاتحة الكتاب، أو تردد لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو ما أشبه ذلك، فإن القصد هو وجود الطواف، أما الذكر فإنه من مكملاته.

ذلك لأن الدعاء إنما هو ذكر لله، وقد ثبت قول عائشة رضي الله عنها: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى". فالطواف شرع لإقامة ذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا أقامه العبد، صحَّ وأتى بما طُلِبَ منه؛ سواء بذلك الدعاء أو بغيره. وبعد إتمام الطواف حول البيت سبعة أشواط، فإنه يشرع صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام إن تيسَّر ذلك، وإلا في أي مكان من المسجد. وبعد أداء الركعتين وقبل الذهاب إلى الصفا والمروة يشرع الرجوع إلى الحجر الأسود وتقبيله إن تيسر أو الإشارة إليه، فإن هذا من السنة. السعي بين الصفا والمروة وبعد أداء ركعتي الطواف يخرج إلى المسعى، فإن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة. وقد ذكر الله تعالى أن الصفا والمروة من شعائر الله، فقال تعالى: ((إن الصفا والمروة من شعائر الله)) (البقرة:158) . وهكذا بقية الأماكن فإنها تسمى شعائر، كما في قوله تعالى: ((ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)) (الحج:32) . والسعي بين الصفا والمروة يسمى طوافاً وهو إحياء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي". * ويشرع الخروج إلى المسعى من جهة الصفا، فإذا دنا من الصفا قرأ: ((إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم)) (البقرة:158) . أبدأ بما بدأ الله به. * ثم يرقى الصفا حتى يرى البيت فيستقبله وإن وقف عند الصفا أجزأه. * ويرفع يديه فيوحد الله ويكبره ويحمده ويقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبرلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".

ثم يدعو بعد ذلك بما تيسر من الدعاء فيدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة ويكرر هذا الذكر وهذا الدعاء ثلاث مرات. فإن هذا من مواضع الدعاء الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المناسك. ولا بأس أن يدعو بغير هذا الدعاء، ولكن الأفضل اتباع السنة وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. * بعد ذلك ينزل من الصفا متوجهاً إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأخضر، ويشرع للرجل أن يسعى سعياً شديداً يعني: يركض ركضاً، حتى يصل إلى العلم الثاني، ويحرص المسلم على عدم إيذاء إخوانه المسلمين. أما المرأة فلم يشرع في حقها إلا المشي فقط فإنها عورة. * فإذا وصل إلى المروة رقى عليها ويستقبل القبلة فإنها من السنة، ويقول ويفعل كما قال وفعل عند الصفا. ثم ينزل من المروة إلى الصفا… وهكذا يمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه. * والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط مبتدئاً بالصفا، ومنتهياً بالمروة، فمن الصفا إلى المروة يعد شوطاً، ومن المروة إلى الصفا يعد شوطاً آخر.. وهكذا حتى يتم سبعة أشواط. ويشرع أن يشغل سعيه بالذكر والدعاء والقراءة بما تيسر، وليس للسعي بين الصفا والمروة دعاء خاص، وإن دعا في السعي فقال: "رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم" فلا بأس لثبوته عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم. * ولا تجب الطهارة للسعي، والطهارة أفضل، وهكذا المرأة لو حاضت أو نفست بعد الطواف أجزأها السعي على غير طهارة. * وليحذر من مزاحمة النساء الأجنبيات ونحوهن، أو تعمد النظر إلى العورات، أو إلى الزينة المنهي عنها، أو ما أشبه ذلك. وهكذا النساء فعليهن أن يتقين الله عز وجل، وألا يزاحمن الرجال، لا في المطاف، ولا في السعي، ولا عند الجمرات، ولا في غيره من المشاعر.

* الحلق أو التقصير: وبعد أداء السعي بين الصفا والمروة فيشرع لمن أحرم بالعمرة أو كان متمتعاً أن يحلق أو يقصر والحلق أفضل، فإنه صلى الله عليه وسلم: "دعا للمحلقين بالرحمة -وفي لفظ: بالمغفرة- ثلاث مرات، وللمقصرين مرة". أما إذا كان وقت الحج قريباً بحيث لا يطول فيها الشعر، فإن الأفضل في حقه التقصير، فإن قصر فلا بد من تعميم التقصير، ولا يكفي تقصير بعضه، كما يفعله بعض الجهلة. * وبالحق أو التقصير من المعتمر أو المتمتع يكون قد تحلل من عمرته وحلَّ له كل شيء حرّم عليه بالإحرام. * أما المفرد أو القارن الذي ساق الهدي فإنهما يبقيان على إحرامهما ولا يقصران أو يحلقان حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد. أعمال الحج يوم التروية (اليوم الثامن من ذي الحجة) إذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، استحب للحجاج الذين أحلّوا إحرامهم بعد العمرة وهم المتمتعون أن يحرموا بالحج من مساكنهم وأماكن إقامتهم. كذلك يُستحب لأهل مكة ومجاوريها، ممن أراد الحج أن يحرموا من بيوتهم. فيعقد الحاج النية بالحج في قلبه ويلبي بالحج فيقول: (لبيك حجاً) ، وإن كان خائفاً اشترط في إحرامه كما ذكرنا سابقاً فيقول: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني". أما القران والمفرد فهم باقون على إحرامهم الأول، حتى يؤدوا باقي مناسكهم. يتوجه جميع الحجاج بعد الإحرام إلى منى قبل الزوال أو بعده، فيصلُّوا فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، يقصرون الرباعية.

ويبيت الحجاج في منى تلك الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة، وهذا المبيت يعتبر سُنة مؤكدة، وإن ذهب بعض العلماء إلى وجوبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه حافظوا عليه، فكانوا يبيتون ليلة تسع في منى، ويتوجهون صباح التاسع بعد طلوع الشمس إلى عرفة، فيكون هذا المبيت مؤكداً، والذين يتركونه يتركون فضلاً كبيراً، وإن غالب الذين يتركونه هم الذين يتعلقون بغيرهم، وغالبهم من الوافدين الذين يحملهم المطوفون، وذلك أن المطوف يشق عليه أن يسكنهم أولاً بمكة ثم بمنى، ثم بعرفة، ثم بمزدلفة، ثم بمنى، ثم بمكة، فهو ينقلهم رأساً من مكة إلى عرفة، ويترك هذه الشعيرة وهذه السُّنة، وهي المبيت بمنى ليلة عرفة، وهذا فيه تقصير وخطأ ونقص في حجهم، ولكن لجهل أولئك الوافدين ولإحسانهم الظن بهذا المطوف واعتقادهم نصحه، لا ينتبهون لما يفوتهم، ولا يسألون غيرهم، ويكتفي المطوف بإطعامهم ونقلهم وإسكانهم، أما التعليم والإرشاد فقلَّ من يهتم به، وكان الأولى بهم أن يتركوا ذلك المطوف، وأن يبيتوا بأنفسهم بمنى، ويذهبوا على أرجلهم في صباح يوم التاسع إلى مخيماتهم في عرفة، ولكن لا يأتيهم من يُوَجِّهُهُم، وأما من هو منفرد فإنَّه يُتأكد في حقه أن لا يترك هذا المبيت في هذا اليوم. وعلى الحجاج المحرمين في ذلك اليوم سواء المتمتع، أو القارن، أو المفرد، أن يشتغلوا في حال إحرامهم بالتلبية، وذلك لأن التلبية شعار للحجاج، وعلامة واضحة على أنه متلبس بهذا النسك، فيرفعون أصواتهم بالتلبية ويكررونها. يوم عرفة (اليوم التاسع من ذي الحجة) فإذا أصبح الحجيج في اليوم التاسع، وطلعت الشمس، توجهوا إلى عرفة فالوقوف بها هو الركن الأعظم للحج، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة".

وعرفة مكان فسيح واسع ليس فيه بنا، وهو متسع من جهة الشمال، ومن جهة الجنوب، أما من جهة الشرق فتحده تلك الجبال التي تعرف (بجبل الرحمة) وما يتصل به من الجبال، وأما من جهة الغرب فيحده وادي عُرنة وما وراءه. وذهب بعض العلماء إلى أن عُرنة داخلة في عرفة، وعلى هذا فتكون نهايته ما وراء الوادي إلى منتهى عُرنة، ويدخل فيه على الصحيح نمرة كما في حديث جابر الطويل وغيره كما اختاره الزركشي في شرح مختصر الخرقي (2373) وذكرنا في التعليق عليه بعض الأدلة من السنة. ويسن للحجاج النزول بنمرة في بطن الوادي إلى الزوال إن تيسَّر ذلك، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا زالت الشمس سن للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبة تناسب الحال، يبين فيها ما شرع للحاج في هذا اليوم وبعده، ويأمرهم فيها بتقوى الله وتوحيده والإخلاص له في كل الأعمال، ويحذرهم من محارمه.. وغير ذلك. بعد ذلك يصلي الحجاج الظهر والعصر قصراً وجمعاً في وقت الأولى بأذان واحد وإقامتين لفعله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر. ثم يقف الحجاج بعرفة، وعرفة كلها موقف، يقفون خاشعين خاضعين، متضرعين، مستكينين لربهم، مظهرين الفقر والفاقة وشدة الحاجة إليه، مقيمين لحرماته، يعلمون أنهم في موقف عظيم يجمعهم كلهم، فالذين يتوافدون إلى البيت، يجتمعون كلهم في ذلك المكان في اليوم التاسع في تلك الصحراء خاضعين لربهم، رافعين إليه أكف الضراعة، داعين له بكرة وعشية، طالبين بحاجتهم الحاضرة والمستقبلية، راجين رحمته، فيباهي بهم ملائكته كما ورد ذلك في بعض الأحاديث: "إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته، فيقول: انظروا إلى هؤلاء، أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق".

يقف الحجاج في ذلك اليوم، وهم على هذه الهيئة، بعد أن أدوا صلاة الظهر والعصر، جمعاً وقصراً، في وقت الظهر، وذلك ليطول زمن الوقوف. ثم يقف الحجاج إن تيسَّر لهم الوقوف عند جبل الرحمة، فذلك أفضل، فإن لم يتيسر لهم، وقفوا في أي مكان من عرفة، في داخل خيامهم أو غيرها، ولكن الأفضل أن يبرزوا ضاحين، لأنه روي عن ابن عباس أنه رأى رجلاً قد استظل بقبة ونحوها فقال: "أضح لمن أحرمت له". يعني: أبرز فلا تستظل ولا تستكن في خيمة. فالأفضل أن يكونوا بارزين ظاهرين من بعد الظهر، إلى غروب الشمس، منشغلين كل ذلك الوقت بالدعاء، والذكر، والتلبية، والقراءة، والأدعية الجامعة، كل ذلك مع حضور القلب وتواطئه مع اللسان، والبكاء، وحزن القلب. فإن ذلك من أسباب قبول العمل، ومن أسباب المغفرة. بخلاف من كان في هذا الموقف قاسياً قلبه، لا يخشع ولا يخضع ولا يدعو، ولا يتضرع، إنما يترقب وينتظر انتهاء الوقت حتى يسارع ويسابق إلى الانصراف! فإن هذا قد فاته خير كثير، وهو مباهاة الله للحجاج بالملائكة، حتى في حالة كونهم خاشعين شعثاً غبرا، يرجون الرحمة، ويخشون من العذاب. ويسن أن يكثر من قول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير". لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيرُ الدعاء دُعاءُ يوم عرفة، وأفضلُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير". وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحب الكلام إلى الله أربع: سُبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبرُ". فينبغي الإكثار من هذا الذكر وتكراره بخشوع وحضور قلب، وينبغي الإكثار أيضاً من الأذكار والأدعية الواردة في الشرع في كل وقت؛ ولا سيما في هذا الموضع، وفي هذا اليوم العظيم، ويختار جوامع الذكر والدعاء.

ويستحب أن يلح في الدعاء، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاء كرر الدعاء ثلاثاً، فينبغي التأسي به في ذلك عليه الصلاة والسلام. ويكون المسلم في هذا الموقف مخبتاً لربه سبحانه متواضعاً له خاضعاً لجنابه منكسراً بين يديه يرجو رحمته ومغفرته، ويخاف عذابه ومقته، ويحاسب نفسه، ويجدد توبة نصوحاً، لأن هذا يوم عظيم، ومجمع كبير، يجود الله فيه على عباده، ويباهي بهم ملائكته، ويكثر فيه العتق من النار، وما رُؤيَ الشيطان في يوم هو فيه أدحر ولا أصغر ولا أحقر منه في يوم عرفة إلا ما رؤي يوم بدر، وذلك لما يرى من جُود الله على عباده وإحسانه إليهم وكثرة إعتاقه ومغفرته. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنَّه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ". فينبغي للمسلمين أن يروا الله من أنفسهم خيراً، وأن يهينوا عدوهم الشيطان، ويحزنوه بكثرة الذكر والدعاء، وملازمة التوبة والاستغفار من جميع الذنوب والخطايا، ولا يزال الحجاج في هذا الموقف مشتغلين بالذكر والدعاء والتضرع إلى أن تغرب الشمس. ليلة مزدلفة (ليلة العاشر من ذي الحجة "ليلة العيد") وبعد غروب الشمس في اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم عرفة، والتحقق من ذلك، على الحجاج الانصراف قبل صلاة المغرب، متوجهين إلى مزدلفة، ويسن أن يسيروا بتؤدة، ويتجنبوا العجلة والمضايقات، والمزاحمات التي قد تؤدي إلى الضرر بالغير، فربما من تسد عليه الطريق ظلماً يدعو عليك، فتردّ أعمالك.

فيسن أن يكون السائر إلى مزدلفة سائراً بتؤدة؛ سواء على الأرجل، أو على الدواب، أو على السيارات، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سيره: "يا أيها الناس، السكينة السكينة". وكان يسير العَتَقْ، يعني: أنه قد جر خطام ناقته حتى التوى عنقها، فإذا وجد فجوة ومتسعاً نصَّ فأسرعت، وإذا أتت كثيباً من الرمال نصَّ حتى تصعده… وهكذا. أما الآن فإنه لا شك أن الطرق قد سُهلت، والكل يسير على هذه السيارات، لكن يحدث مزاحمات من كثير من قائدي السيارات فيضرون غيرهم، ويصطدمون بالآخرين، ويسببون حوادث وأضراراً بالغير. فالأولى أن يسير كل على جهته، دون أن يحصل منهم زحام أو مضايقات. * فإذا وصلوا إلى مزدلفة، فإن المبيت بها واجب من الواجبات، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه، فإنهم لما وصلوا إلى مزدلفة، وكانوا قد وصلوها بعد ساعتين من الليل، أي: قطعوا الطريق في نحو ساعتين، أو ساعتين ونصف، فلما وصلوها بدؤوا بصلاة المغرب والعشاء جمع تأخير فالذي يصل إلى مزدلفة يقيم الصلاة؛ سواء وصلها مبكراً، أو متأخراً، بدأ بصلاة المغرب والعشاء فور وصوله قبل أن يحط رحاله. هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لاهتمامه بهذه الصلاة، وإنما أخرها حتى يواصل سيره، وحتى يريح الدواب التي قد طال وقوفهم عليها، فمن وصلها بعد غروب الشمس بعدة دقائق فله أن يصلي ساعة وصوله، والذي يصلها بعد غروب الشمس بأربع ساعات، أو خمس، كما يحدث لبعض الذين يتأخرون من شدة الزحام، يصلي أيضاً ساعة وصوله، أما الذي يخشى فواتها بأن ينحبس إلى ثلثي أو ثلاثة أرباع الليل فله أن يصلي في الطريق؛ سيما إذا لم يتيسر له مواصلة السير، فإن الكثير قد يقفون ساعة، أو ساعتين في مكان واحد لا يتحركون من شدة الزحام، فلهم أن يُصلّوها في الطريق مخافة فواتها.

* فإذا صلّوا فإنهم يبيتون فيها إلى الصباح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا وصلها، وكان متعباً، صلى المغرب والعشاء، ثم نام فيها حتى قام في آخر الليل وصلى الفجر في ذلك اليوم مبكراً، واشتغل بالدعاء والذكر، حتى أسفر الصباح، قال تعالى: ((ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)) (البقرة:198) . والمشعر الحرام هو: مزدلفة، وتسمى جمعاً، لأنهم يجتمعون فيها تلك الليلة وهي داخل الحرم. * وقبل أن تطلع الشمس توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى وذلك لرمي جمرة العقبة. ورخص للضعفة أن يتوجهوا آخر الليل، ولم يرخص لغيرهم، وأمر الذين ساروا قبل أن تطلع الشمس ألا يرموا الجمرة إلا بعد طلوع الشمس إلا للمعذورين من الضعفة والظعن وغيرهم، فقد أذن لهم أن يرموا آخر الليل، والوقت الذي رخص لهم فيه هو إذا غاب القمر ليلة العاشر، وذلك حين يبقى من الليل ربعه، أو أقل من ثلثه. تنبيهات مهمة: أخطاء بعض المطوفين: 1- أخذهم للحجاج من مكة إلى عرفة مباشرة. 2- عدم نزولهم بالحجاج في مزدلفة والمبيت فيها. 3- التقاط الحصى قبل الصلاة. أعمال يوم النحر يوم العيد (اليوم العاشر من ذي الحجة) يوم النحر هو يوم الحج الأكبر على القول الصحيح، فإن أكثر أعمال الحج تفعل فيه، وهو عيد للمسلمين في جميع بلاد الإسلام، فيستقر فيه الحجاج كلهم في منى، وكذا فيما بعده إلى نهاية أعمال الحج.

فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه من مزدلفة إلى منى لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فذكر الرواة أنه بدأ برمي جمرة العقبة، ثم ذهب إلى بَدَنِهِ فنحرها، ثم دعى الحلاق فحلق رأسه، ثم أفاض إلى مكة لطواف الإفاضة، هكذا رتب هذه الأعمال، ومع ذلك فقد رخَّص في تقديم بعضها على بعض، حيث سأله رجل فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج". وقال آخر: لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: "انحر ولا حرج". فما سُئلَ عن شيء قُدمَ ولا أُخِّر إلا قال: "افعل ولا حرج". ولذلك يستحب ترتيب أعمال يوم النحر، كما رتبها النبي صلى الله عليه وسلم. * فيبدأ برمي الجمرة لأنها تحية منى. * ثم ينحر هديه إن كان قد ساق الهدي. * ثم يحلق رأسه أو يقصره. * ثم يتوجه إلى مكة لطواف الإفاضة. * أولاً: رمي جمرة العقبة: فأما الرمي فيقتصر على رمي جمرة العقبة هذا اليوم، وأول وقته في حق القادرين من طلوع الشمس يوم النحر إلى غروبها، ويُرخَّصُ للضعفة والظعن في الرمي آخر الليل، فينفرون من مزدلفة بعد غروب القمر، ويرمون قبل حطمة الناس، وتختص الرخصة بالنساء العجائز، والمرضى والمسنين من الرجال والصغار ونحوهم. وقد توسع الناس في هذه الرخصة فصار الجمهور ينفرون من أول الليل أو من وسطه، وغالبهم أقوياء أشداء لا عذر لهم، ويتعللون بأن معهم شخص أو شخصان من أهل العذر، وذلك لا يبرر فعلهم، فإن عليهم أن يبقوا إلى الصباح، ويؤخر النساء الرمي إلى آخر النهار، حيث يخف المكان، ويتسع لرميهم، وإن أخروه إلى الليل جاز، فهو أفضل من رميهم ليلة النحر، وتفويت الجميع للمبيت بمزدلفة الذي هو أحد الواجبات، وعند بعض العلماء أنه أحد أركان الحج.

ثم إذا رخص للضعفاء والعجائز فإن بإمكان غيرهم البقاء في مزدلفة، وبعد الصباح يمشون على الأقدام إلى منى، فلا مشقة في ذلك لقرب المكان، وكثيراً ما يصل المشاة قبل أهل السيارات، لشدة الزحام في ذلك اليوم. وبالجملة فإن الرمي يوم النحر يختص بجمرة العقبة، ويكون بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ولا يجوز الزيادة على السبع ولا النقص منها، وإن اقتصر أحياناً على ست أجزأه إن لم يتعمد للعذر، ويحرص على أن تصيب الحصيات الحوض أو الشخص، ولو تدحرجت إلى الأرض أجزأت، وإن وجهها إلى المرمى، وغلب على ظنه إصابتها أجزأت، ولا يشترط رؤيته للإصابة، فقد يشتد الزحام، ولا يتحقق من إصابة كل حصاة، فيجزئه توجيهها إلى الشاخص ولو كان بعيداً، إذا كان الغالب من معرفته وعادته الإصابة بمثل ذلك. ويكون حصى الجمار مثل حصى الحذف، وهو الذي يرمى به بين الأصابع. وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما ركب من مزدلفة: "ناولني سبع حصيات". قال: فالتقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف؛ فقال: "بمثل هذا فارموا يا عباد الله، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" رواه أحمد وأهل السنن. والذي التقط الحصيات هو الفضل بن عباس، لأن عبد الله كان ممن ظعن مع الضعفة آخر الليل، وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".

ومناسبة النهي عن الغلو، مخافة أن يرموا بأكبر منها من باب التشدد، وقد وقع الغلو من كثير من الناس، حيث يرمون بحصى كبار مثل بعر الإبل، وربما أكبر من ذلك، وقد يرمي بعضهم بالأحذية، والحجارة الكبيرة ملء اليد أو نحوها، ويعتقد الكثير من العامة أنهم يرمون الشيطان، وأن الشيطان يتأثر ويتضرر بهذا الرمي، ويسميه الكثيرون بالشيطان، أي: يطلقون اسم الشيطان على الجمرات، بقولهم: الشيطان الكبير، والشيطان الصغير… إلخ، مع أن الحكمة في رمي هذه الجمرات هي إقامة ذكر الله تعالى، مع تذكر عداوة الشيطان الذي عرض لأبينا إبراهيم عليه السلام في هذه الأماكن لما أراد ذبح ولده، كما ورد ذلك في حديث رواه أحمد وغيره عن ابن عباس بسند صحيح، فعند رمي هذه الجمرات يكبر الله تعالى، ويدعوه ويستعيذ من الشيطان بالقول والفعل، ويتقيد بما ورد في السنة من صفة الرمي وزمانه، وتذكر الحكمة فيه حتى يعمل بالسنة ويسلم من البدعة. ثم إن رمى يوم النحر كما ذكرنا يختص بجمرة العقبة، وهي التي في طرف منى مما يلي مكة، والأفضل أن يجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، كما فعل ابن مسعود رضي الله عنه؛ وقال: "هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة" يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كانت هذه الجمرة في أصل عقبة -أي جبل صغير-، ثم إنَّه أزيل في عام 1375هـ لتوسعة الطريق، وحيث إن حوض هذه الجمرة كنصف دائرة، فإن على الحاج الحرص في أن لا يرمي في غير جهة الحوض، حيث إن الجهة الشمالية وهي موضع العقبة ليس بها حوض، وإن كان طرفاه باديان لمن أتى من جهة الشمال، وإن رمى من السطح حرصاً على وقوع الجمرات في فرع الحوض الذي يشبه القعب؛ حيث إنَّها تنحدر منه وتقع في الحوض. * ثانياً: ذبح الهدي:

وأما ذبح الهدي فيُشرع بعد الرمي مباشرة، والمراد بالهدي: ما يُساق من خارج الحرم، ويُهدى إلى مكة تقرباً وتطوعاً، وتعظيماً لحرمات الله تعالى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ساق معه هدياً بلغ مائة بدنة، جاء علي رضي الله عنه ببعضها من اليمن، وكذا كثير من الصحابة، ساقوا معهم هدياً من المدينة ومن غيرها، ولا يدخل في مسماة فدية التمتع والقران، وإنما تسمى هدياً أو فدية لأنها من جنس ما يهدى من الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم. ووقت الذبح من صبح يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق الثلاثة، وكره بعض العلماء الذبح ليلاً، لأن البعض يخفون هديهم وفديتهم في الليل، ليحرموا المساكين، وحيث إن الذبح يكثر في هذه الأيام، فأرى أن لا كراهة في الليل كالنهار، وإذا خاف أن لا يجد من يأكل فديته أو هديه يوم النحر فله التأخير، وهو أفضل، حيث إن الكثير الذين يذبحون في يوم العيد يلقون ما يذبحونه في الأرض، فتحرق تلك اللحوم أو تدفن، وتذهب ضياعاً، بخلاف ما إذا أخَّر الذبح إلى اليوم الحادي عشر أو بعده، فسوف يجد من يتقبله من المساكين وغيرهم. وعلى الحاج الحرص على أن يجد من ينتفع بفديته، ولو دفع أجرة لمن يسلخها ويحملها، ثم يوزعها على الحجاج في الخيام أو في ظل الجسور، أو داخل مكة ونحوها، فسوف يجد من يفرح بذلك ويتقبله، فإن دفع فديته للشركات التي تقوم بالذبح والسلخ وإرسال اللحوم إلى الدول المسلمة الفقيرة فهو أفضل من إضاعتها، ويجزئ ذلك عنه، ولو لم يحضر الذبح معهم. وأما دم الجبران وجزاء الصيد، فيجوز تأخيره بعد أيام التشريق، ويلزم تفريقه على مساكين الحرم، ولا يأكل منه صاحبه، بخلاف دم الهدي والفدية فله الأكل منه، وإطعام رفقته، لقوله تعالى: ((فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)) (الحج:28) . * ثالثاً: الحلق أو التقصير:

وأما الحلق فهو أحد مناسك الحج، ودليله قوله تعالى: ((مُحلقين رؤوسكم ومقصرين)) (الفتح:27) . وقوله تعالى: ((ثم ليقضوا تفثهم)) (الحج:29) . وفسر بالحلق أو التقصير، وإذا كان نكسا فإن في تركه دم كسائر المناسك، لقول ابن عباس رضي الله عنه: "من ترك نسكاً فعليه دم"، وهو من أسباب التحلل. والحلق أفضل من التقصير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين واحدة، وذلك أن الحلق أدل على الامتثال، وهو من جملة العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن الحالق يخضع لله تعالى ويتواضع له حالة الحلق، ويقصد بذلك امتثال أمر الله تعالى. ووقته بعد الذبح، ويجوز قبله، وقبل الرمي، ويجوز تأخيره عن الطواف وغيره، ومن اقتصر على التقصير أجزأه، ولكن لا بد من تعميم الرأس، والأخذ من جميع جوانبه، وإن لم يكن من كل شعرة، بخلاف ما يفعله الكثير من الاقتصار على الأخذ من بعض الجوانب أو أخذ شعرات قليلة والاكتفاء بها، فإن مسمى الرأس في الآية يعم جميع الشعر وإن كان قصيراً. * رابعاً: طواف الإفاضة: وأما الإفاضة إلى مكة، فإن طواف الإفاضة أحد أركان الحج، وهو المذكور في قوله تعالى: ((وليطوفوا بالبيت العتيق)) (الحج:29) . وأول زمنه في النصف الأخير من ليلة النحر، والأفضل الطواف في يوم النحر إن سهل ذلك، ويغلب في الأزمنة المتأخرة صعوبته، لشدة الزحام في ذلك اليوم، فالطائف فيه لا يطمئن ولا يحضر قلبه، ولا يدعو إلا وهو منشغل البال، يهمه الخروج من المضائق، فالأفضل في هذه الحال تأخيره حتى يطوف في سعة وراحة، يعقل ما يقول، ويستفيد من عمله.

ومن المعلوم يقيناً أن الحجاج زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا كلهم في يوم النحر، لكثرة العدد الذي يزيد عن مائة ألف، ولضيق المطاف في ذلك الزمان، ولكثرة أعمالهم التي تشغل الكثير منهم عن الإفاضة في ذلك اليوم، فدل على أن أكثرهم طافوا في أيام التشريق أو بعدها، وأجزأهم ذلك بلا كراهة. وقد سبق ذكر بعض الحِكَم والمصالح في مشروعية الطواف بالبيت، وما يُقال فيه. وبالطواف المذكور وما قبله من أعمال يوم النحر يحصل التحلل الثاني من الإحرام، بحيث يحل للمحرم ما كان محظوراً عليه حال الإحرام، من الطيب واللباس والنكاح وغيره. أما التحلل الأول: فيحصل إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه أو قصره. وكذا لو رمى الجمرة وأفاض إلى مكة للطواف والسعي، وكذا لو طاف وسعى وحلق أو قصر، أي بفعل اثنين من ثلاثة، وهي الرمي والحلق والطواف مع السعي، يحل له كل شيء إلا النساء، وبفعل هذه الثلاثة يحل له كل شيء حتى النساء، وهذا هو التحلل الأول ثم الثاني. أيام التشريق وما يفعل فيها (الحادي والثاني والثالث عشر من ذي الحجة) ويبقى على الحاج المبيت بمنى أيام التشريق، ورمي الجمار في تلك الأيام. أولاً: المبيت ليالي منى:

فأما المبيت فهو من واجبات الحج، والأصل أن الحاج يقيم في منى برَحْلِهِ ومتاعه، ولا يذهب منها ليلاً ولا نهاراً إلا لغرض خاص، كالطواف والسعي، ثم يعود، ولهذا تسمى هذه الأيام بأيام منى، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل". وإن كان نص الفقهاء رحمهم الله على المبيت الذي هو الإقامة بها ليلاً، لكن المعروف أن الحجاج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم كانوا جميعاً مقيمين بمنى تلك الأيام، يعدون ذلك نسكاً يتم به حجهم، لم يذهبوا إلى دورهم مع قربها، وحاجتهم غالباً إلى أهليهم، فلم يرجعوا إلى بيوتهم حتى أكملوا حجهم، حتى كانوا يقصرون الصلاة لطول المدة التي غابوها عن أهليهم. ثانياً: رمي الجمار أيام التشريق: وأما الرمي: فهو أحد الواجبات، وأول وقته بعد زوال الشمس، وآخره غروبها على المختار، ورخص بعض المشايخ في الرمي ليلاً، امتداداً للنهار قبله. والبدء بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، ثم يبتعد عن الزحام ويستقبل القبلة، ويرفع يديه فيدعو طويلاً بما تيسر، ويصح رميها من كل الجهات. ثم بعدها الجمرة الوسطى يرميها بسبع كذلك، ويدعو بعدها. ثم جمرة العقبة، ولا يدعو بعدها. يفعل ذلك في كل يوم من أيام التشريق الثلاثة، إن لم يتعجل، وله أن يتعجَّل في يومين ولا إثم عليه، فإن غربت عليه الشمس في اليوم الثاني وهو في منى لم يرحل، لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث بعد الزوال، وقد روي عن الإمام أحمد جواز الرمي قبل الزوال يوم النفر، كما ذكره في المغني والإنصاف وغيرهما، ولعل ذلك يجوز في هذه الأزمنة لأجل الزحام الشديد الذي قد أودى بحياة بشر كثير.

ثم إن أيام منى هي أيام أكل وشرب، ولهذا لا يجوز صيامها إلا لمن لم يجد الهدي، ولم يتمكن من الصيام قبل يوم النحر، وكذا يسن فيها التكبير بعد الصلوات المكتوبة، والإكثار من ذكر الله تعالى ليلاً ونهاراً، لقوله تعالى: ((واذكروا الله في أيام معدودات)) (البقرة:203) . وذلك عند الذبح والأكل والرمي، وفي كل الحالات والله أعلم. آخر أعمال الحج طواف الوداع هذا الطواف يفعل عند العزم على السفر من مكة، والرجوع إلى الأهل، وسمي طواف الوداع لأن الحاج يودع البيت والمشاعر، ويختم به أعمال الحج، وهو أحد واجبات الحج، من تركه فعليه دم، كسائر المناسك التي تجبر بدم، ولا يسقط هذا الطواف إلا عن الحائض والنفساء، لورود الرخصة في حق صفية أم المؤمنين لأجل الحيض، وفي الحديث: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض"، والمراد بالناس هم الحجاج كلهم. ومن ذهب وشق عليه الرجوع جبره بدم، فإن تمكن من الرجوع فرجع، وطاف للوداع سقط عنه الدم، ولو كان الرجوع بعد قطع مسافة طويلة، أو مدة طويلة، وذلك لسهولة الرجوع في هذه الأزمنة، بخلاف الزمن القديم، فإن من سار يومين صعب عليه الرجوع، وخاف الانقطاع عن الركب، فيفضل دم الجبران على الرجوع، لمشقته ولطول المسافة، وصعوبة السفر منفرداً خوف قطاع الطريق. أما وقد وجدت المراكب المريحة التي تقطع المسافة في وقت قريب، مع تعبيد الطرق، وأمن البلاد، فلا خوف ولا ضرر في الرجوع لإكمال هذا النسك. أما إن لم يرجع وواصل سيره إلى بلاده فإن عليه الدم كما ذكرنا، لكن إن كانت بلاده قريبة كجدة والطائف، وذهب هناك بعد أيام منى خوفاً من شدة الزحام في الطواف، ثم رجع بعد يومين أو نحوها فالأصح أنه يجوز؛ حيث إنه أتى بالواجب كما أمر به.

ثم إن هذا الطواف هو آخر أعمال الحج، فلا يقيم بعده طويلاً، فإن أقام بعده كنصف يوم، أو تعاطى تجارة، ونحوها لزمه إعادته، ليكون آخر عهده بالبيت، ثم بعد فراغه من هذا الطواف، وصلاته ركعتين، يدعو بما ورد، ويسن أن يقف بالملتزم، وهو بين الركن والباب، ويقول: "اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك، حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، وإلا فمن الآن، قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم اصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، وأجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير". ويدعو أن لا يكون هذا آخر العهد، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخرج على حالته، ولا يجوز الخروج القهقري فإنه لا أصل له، والله أعلم. الزيارة قبل الحج أو بعده وآثارها في الأمة تمكن في قلوب الكثير اعتقاد أن زيارة القبر النبوي مع الحج حتم وفرض من الفروض الواجبة، وأن من لم يزره فقد أخل بما يلزمه، فتراهم لذلك يتجشمون المشاق، ويحثون السير إلى المدينة المنورة، وما يقوم بقلوبهم إلا استحضار القبر وتقديسه، واعتقاد أن المسجد ما اكتسب الفضيلة، ولا حاز أجر المضاعفة إلا حيث ضمّ ذلك القبر الشريف. وأنا أقول: إن هذا الاعتقاد خطأ محض، رغم كثرة من وقع فيه من الأوائل والأواخر، منخدعين بشبه أحاديث مشتهرة على الألسن، قد رواها بالسند بعض من لم يلتزم التثبت: كالطيالسي، والدارقطني، محيلين القرَّاء على السند، فعندما نظرها النقاد بعين البصيرة بينوا ضعفها أو وضعها عقلاً ونقلاً.

* وأشهرها عند العامة ما ورد بلفظ: "من حج ولم يزرني فقد جفاني". وقد أجمعت الأمة على عدم وجوب الزيارة مع كل حج، ولو صح هذا اللفظ لكان تركها كفراً، لما فيه من جفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اتفقوا على ترك العمل بظاهر هذا الحديث، مما يبين أنه موضوع. * ومنها حديث: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي". ومعلوم أن زائره في الحياة يحظى بفضيلة الصحبة، ويتلقى عنه العلم والأحكام مباشرة، مما لا يحصل لزائر قبره صلى الله عليه وسلم فبطل ظاهر الحديث أيضاً. *ومنها ما روي بلفظ: "من زار قبري وجبت له شفاعتي". مع أن شفاعته صلى الله عليه وسلم إنَّما ينالها أهل التوحيد الخالص، كما ثبت ذلك بالسنة الصحيحة. وليس منه تعظيم القبر بشد الرحل إليه، وجعله مقصداً ومطلباً؛ بل يكون شركاً خفياً أو جلياً، لما يصحبه من التعظيم الذي يظهر أثره في التذلل والخضوع، وهذا خالص حق الله تعالى، وهذا ما يحصل بكثرة من جُل أولئك الزوار، الذين يقفون أمام القبور بالمسجد وبالشهداء وبالبقيع، فتراهم هناك مهطعين مقنعي رؤوسهم، تغاشهم الذلة والهيبة، وقد وضعوا الأيدي على الصدور أو رفعوها داعين مبتهلين بخشوع وهيبة، واستكانة لا يحصل بعضها في صلاتهم بين يدي ربهم تعالى.

وقد يطيل أحدهم القيام، وربما غاب عن نفسه فلا يحس بضرب ولا تأنيب، وأكثرهم يتوجهون إلى ناحية القبر حالة الجلوس أو الدعاء أو قراءة الأوراد، مفضلين له على القبلة وهم في تلك الحال، متصفون بالسكينة والخشوع والإخبات، والكثير منهم أو من الملقنين لهم يتسترون خوفاً من إنكار البعض عليهم، فعند انفرادهم تظهر مخبآت الصدور، وقد يغلب الكثير منهم بعض ما يجدون، فيبوح بما في ضميره ولو رآه، أو سمعه الجمهور، وكثيراً ما تبدر منهم كلمات تنافي أصل التوحيد أو كماله: كوصف الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعض أهل بيته بما لا يستحقه إلا الله من سعة الملك، والتصرف في الكون، والإعطاء والمنع، والضر والنفع.. إلخ. وأقل ذلك ملك الشفاعة بدون إذن الله ورضاه. وبموجب هذا الاعتقاد يدعونه صلى الله عليه وسلم ويسألونه ما لا يملكه إلا الله، ويعتمدون عليه، وتصدر منهم أفعال كهذه الأقوال، تدل على التعظيم واعتقاد التأثير، فتراهم يبتهلون غفلة الحراس، أو يدفعون لهم نقودا ليتمسحوا بالباب والأستار والحيطان والمنبر ونحوها، وكثيراً ما يطوفون بالحجرة كالطواف بالبيت العتيق، وأضعاف هذه الأفعال والأقوال التي لا تصدر إلا عن اعتقاد في تلك الستور والحيطان. وقد دفعهم إلى هذه الزيارات وما ينتج عنها ما يتناقل بينهم كثيراً من حكايات واهية، وأخبار ضعيفة، أو مكذوبة، ومنامات أشبه بأضغاث الأحلام، ولكن راجت تلك الأمور على السذج وضعفاء البصائر، فتناقلوها وضمنوها مؤلفاتهم، وتداولتها الأيدي، وانتشرت واشتهرت على الألسن، حتى وقعت منهم موقعاً، وتمكنت في النفوس، وتوارثها الأجيال من غير نكير، واعتقدوها الحق وسواها باطل وضلال.

ومن أشهر وأقدم تلك المؤلفات كتاب: "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" للتقي السبكي الذي اشتهر وأقبل عليه الجم الغفير قراءة وعملاً وتطبيقاً، ولم يعلموا أن أحاديثه وأدلته كلها واهية موضوعة، لا تصلح مستنداً، كما بيَّن ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في رده الذي سماه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي". ومن المؤلفات الباطلة أيضاً في هذا الباب كتاب: "الدر المنظم في زيارة القبر المعظم" لابن حجر المكي، حيث ذكر فيه من الحكايات، والمنامات والأباطيل ما تمجه الأسماع، وتنفر منه الطباع، ومع ذلك تجد لها آذاناً صاغية، تتقبلها وتروجها وتحبذ العمل بها، فيعظم الشر والضرر. ولقد تصدى للدفاع عن هذه الأباطيل بعض المتأخرين الزائفين، أمثال النبهاني، والحداد، والزهاوي، ودحلان، وابن جرجيس، وأضرابهم الذين كتبوا وتكلموا بكل جراءة، داعين إلى هذه الزيارة والأفعال الشركية معها، ومتهمين كل من نهى عنها ببغض الرسول صلى الله عليه وسلم وتنقصه.. وما إلى ذلك. وكأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تتجلَّى بدعائه والتوسل بذاته، والخضوع والذل أمام قبره الشريف، وشبه ذلك مما هو خالص حق الله تعالى، ومما قد نهى عنه نبينا عليه الصلاة والسلام، وعما هو دونه، ككونه خير البرية، أو تسميته سيداً، وقول: ما شاء الله وشئت. ولم يعلم هؤلاء الأغبياء أن أشد الناس له محبة وتعظيماً هم صحابته رضي الله عنهم، ولم يكونوا يعاملونه بشيء من ذلك، حتى كانوا لا يقومون له إذا أقبل، لعلمهم بكراهته لذلك.

ولقد أخبر صلى الله عليه وسلم: "أنه لا يؤمن أحد حتى يكون نبيه أحب إليه من ولده ووالده، ونفسه، وماله، والناس أجمعين"، ولكن هذه المحبة تتمثل في طاعته واتباعه، وتقليده في أفعاله، والتقيد بسنته، والتمسك بها، والعض عليها بالنواجذ في كل وقت وحال، لا في الغلو فيه وإطرائه الذي قد نهى عنه، وقال: "إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله". وقال لقوم دعوه بالسيادة والفضل: "قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله" رواه النسائي. بقي أن يُقال: لعل الكثير من هؤلاء الزوار قصدوا المسجد النبوي الذي ورد الإذن في شد الرحل إليه، لمزيته ومضاعفة الصلاة فيه. والجواب: أن هذا القصد مباح، ولعله مراد من ذكر الزيارة من العلماء الأجلاء في مؤلفاتهم، حيث ذكروا أنه يبدأ بالمسجد فيصلي فيه، ثم يزور القبور والبقيع والشهداء، الزيارة الشرعية المدونة أفي دواوين أهل السنة، ولكن مع ذلك فإن المقام بمكة أفضل وأولى لمن هذا قصده، فإنها خير بقاع الأرض، والصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلاة بمسجد المدينة، وكما في قصة الذي نذر أن يصلي في المسجد الأقصى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صلّ هاهنا". وذلك حرصاً منه على مضاعفة العمل. ثم إنَّا لا نمنع السفر إلى المدينة النبوية أو غيرها من البلاد، لا لقصد بقعة معينة لاعتقاد مزية فيها، وإنما لقصد السير في الأرض للاعتبار، والتذكر لأحوال الأمم والأجيال الماضية، فإن ذلك مما يدخل في أمر الله تعالى في قوله: ((قل سيروا في الأرض)) (النحل:69) . ((أفلم يسيروا في الأرض)) (محمد:10) .

وهكذا السفر إلى المدينة أو غيرها أيضاً للتعلم أو التعليم، فذلك مما يجب عيناً، أو كفاية على الأمة، ولا يدخل تحت النهي عن شد الرحال الذي يقصد منه السفر لتعظيم بقعة بعينها، والاعتقاد فيها الذي يؤول إلى تعظيمها بما لا يحل شرعاً. وأخيراً: ننصح إخوتنا المسلمين عن تلك الأفعال، والاعتقادات الخاطئة التي يقعون فيها عن تقليد أو عن حسن ظن، مع أنها تقدح في العقيدة، وتنافي أصل التوحيد أو كماله، ونهيب بهم أن يتعلموا ما يجب عليهم من حق الله، وعبادته وحده، وسيجدون أعذب مورد ينهلون منه عن قناعة ورضى، ألا وهو كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، الحريص على نجاة أمته، حشرنا الله في زمرته، وجعلنا من أتباع ملته، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. أدعية جامعة يستحب تكرارها يوم عرفة وغيره من المناسك هذه مجموعة من الأدعية المأثورة التي يستحب للحاج تكرارها يوم عرفة وعند رمي الجمار وفي الطواف والسعي، وعند المشعر الحرام وغير ذلك من المشاعر والمناسك. (نقلاً من كتاب: مرشد المعتمر والحاج والزائر في ضوء الكتاب والسنة، تأليف سعيد بن علي القحطاني) . أدعية من القرآن الكريم: · ((رنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)) (الأعراف:23) . · ((رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين)) (هود:47) . · ((رب أغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات)) (نوح:28) . · ((ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)) (البقرة:127) . · ((وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)) (البقرة:128) . · ((رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دُعاء)) (إبراهيم:40) . · ((ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)) (إبراهيم:41) .

· ((رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين * وأجعل لي لسان صدق في الآخرين * واجعلني من ورثة جنة النعيم)) (الشعراء:83-85) . · ((ولا تخزني يوم يبعثون)) (الشعراء:87) . · ((رب هب لي من الصالحين)) (الصافات:100) . · ((ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير)) (الممتحنة:4) . · ((ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم)) (الممتحنة:5) . · ((رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين)) (النمل:19) . · ((رب هب لي من لدُنك ذُرّيَّةً طيبة إنك سميع الدعاء)) (آل عمران:38) . · ((رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين)) (الأنبياء:89) . · ((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) (الأنبياء:87) . · ((رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي)) (طه:25-28) . · ((رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)) (القصص:16) . · ((ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين)) (آل عمران:53) . · ((ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجِّنا برحمتك من القوم الكافرين)) (يونس:85-86) . · ((ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)) (آل عمران:147) . · ((ربنا أغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)) (آل عمران: 147) . · ((ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً)) (الكهف:10) . · ((رب زدني علماً)) (طه:114) . · ((رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون)) (المؤمنون:97-98) . · ((رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين)) (المؤمنون:23) . · ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)) (البقرة:201) . · ((سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)) (البقرة:285) .

· ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فأنصرنا على القوم الكافرين)) (البقرة:286) . · ((ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)) (آل عمران:8) . · ((ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار * ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فأمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد)) (آل عمران:191-194) . · ((ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين)) (المؤمنون:109) . · ((ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً * إنها ساءت مستقراً ومقاماً)) (الفرقان:65-66) . · ((ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً)) (الفرقان:74) . · ((رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين)) (الأحقاف:15) . · ((ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)) (الحشر:10) . · ((ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير)) (التحريم:8) . · ((ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار)) (آل عمران:16) . · ((ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)) (المائدة:83) . · ((رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام)) (إبراهيم:35) . · ((رب إنّى لما أنزلت إليّ من خير فقير)) (القصص:24) . · ((رب انصرني على القوم المفسدين)) (العنكبوت:30) . · ((ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)) (الأعراف:47) .

· ((حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)) (التوبة:129) . · ((عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)) (القصص:22) . · ((رب نجني من القوم الظالمين)) (القصص:21) . * أدعية من السنة: · "اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". · "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال. اللهم أغسل قلبي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم إني أعوذ بك من الكسل والمأثم والمغرم". · "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجُبْن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات". · "اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". · "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دُنْيَايَ التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر". · "اللهم إني أسألك الهُدى، والتُقى، والعَفَاف، والغِنَى". · "اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجُبْن، والبخل، والهرم، وعذاب القبر. اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستَجَابُ لها". · "اللهم اهدني وسددني. اللهم إني أسألك الهدى والسداد". · "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءَة نقمتك، وجميع سخطك". · "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل". · "اللهم أكثر مالي، وولدي، وبارك لي فيما أعطيتني [وأطل حياتي على طاعتك وأحسن عملي] واغفر لي".

· "لا إله إلا أنت العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم". · "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت". · "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". · "اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي". · "اللهم مُصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك". · "يا مُقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك". · "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة". · "اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة". · "رب أعني ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدني ويسر الهدي إليَّ، وانصرني على من بغى عليَّ، رب اجعلني لك شكَّاراً، لك ذكَّاراً، لك رهَّاباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً أوّاهاً مُنيباً، رب تقبَّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسْللْ سخيمة قلبي". · "اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله". · "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر مني". · "اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيئ الأسقام". · "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء". · "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني".

· "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي، وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حُبَّك، وحُبَّ من يُحبُّك، وحُبَّ عمل يُقرِّبني إلى حُبِّكَ". · "اللهم إني أسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك. اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً". · "اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً ولا حاسداً. اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك". · "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا". · "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر". · "اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي". · "اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني". · "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".

· "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون". · "اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار". · "اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني، وانقطاع عمري". · "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي". . "اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت". · "اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم، والغرق، والحرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً". · "اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة". · "اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، والقسوة، والغفلة، والعيلة، والذلة، والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر، والكفر، والفسوق، والشقاق، والنفاق، والسُمعة، والرياء، وأعوذ بك من الصمم، والبكم، والجنون، والجذام، والبرص، وسيئ الأسقام". · "اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أَظْلِمَ أو أُظْلَم". · "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول". · "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع". · "اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة". · "اللهم إني أسألك الجنة وأستجير بك من النار". · "اللهم فقهني في الدين". · "اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".

· "الهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً". · "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً". · "اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم". · "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت [وحدك لا شريك لك] المنان [يا] بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك [الجنة وأعوذ بك من النار] ". · "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد". · "رب اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الغفور". · "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسالك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين". · "اللهم ارزقني حُبَّك، وحُبَّ من ينفعني حُبُّهُ عندك. اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب. اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب". · "اللهم طهرني من الذنوب والخطايا. اللهم نقني منها كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد". · "اللهم إني أعوذ بك من البخل، والجبن، وسوء العمر، وفتنة الصدر، وعذاب القبر". · "اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، ورب إسرافيل، أعوذ بك من حر النار ومن عذاب القبر". · "اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي".

· "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علم لا ينفع". · "اللهم رب السموات [السبع] ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوارة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين، واغننا من الفقر". · "اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، قابلين لها وأتممها علينا". · "اللهم إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبتني وثقل موازيني، وحقق إيماني، وارفع درجاتي، وتقبل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة. اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوله، وظاهره، وباطنه، والدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك خير ما آتي، وخير ما أفعل، وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر، والدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري، وتضع وزري، وتصلح أمري، وتطهر قلبي، وتحصن فرجي، وتنور قلبي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك أن تبارك في نفسي، وفي سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خَلْقي، وفي خُلُقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي مماتي، وفي عملي، فتقبل حسناي، وأَسألك الدرجات العلى من الجنة آمين". · "اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأهواء، والأعمال، والأدواء".

· "اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير". · "اللهم حاسبني حساباً يسيراً". · "اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك". · "اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد". · "اللهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري. اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت، وما أخطأت، وما عمدت، وما علمت، وما جهلتُ". · "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء". · "اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني، وأعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة". · "اللهم متَّعني بسمعي، وبصري، واجعلهُما الوارث منِّي، وانصرني على من يظلمُني، وخُذ منه بثأري". · "اللهم إني أسألك عيشةً نقيةً، وميتةً سويةً، ومردّاً غير مخزٍ ولا فاضح". · "اللهم أحسنتَ خَلْقِي فأَحسن خُلُقي". · "اللهم ثبتني واجعلني هادياً مهدياً". · "اللهم آتني الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً". · "اللهم صلَّ على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين". خاتمة في التوبة والإقلاع عن المعاصي لا شك أن كل عامل يحب الأجر والثواب على عمله، ويهتم بقبوله وعدم ردِّه، ولكن القبول له علامات تظهر على العامل، وأهمها أن يرجع إلى بلده متأثراً بما عمله من أعمال المناسك. فقد أحرم لربه، وترك مشتهياته، وشاهد المشاعر المقدسة، وساهم مع الطائفين بالبيت، وبالصفا والمروة، ودعا بالأدعية المأثورة، وأكثر من الذكر والتلبية والتكبير ونحوه، ورأى كثرة الطائفين والقائمين والركَّع السجود، وسمع ابتهالهم وتضرعهم، وشاركهم في البكاء والخشوع والإِخبات، والتذلل لله تعالى، وكل هذه الأعمال إذا كانت خالصة لله تعالى فإِن أثرها يبقى معه مدى حياته، بحيث يشعر بمحبة الطاعة، والتلذذ بالعبادة.

فيرجع إلى أهله وقد تغير عما كان عليه من الإِهمال، والغفلة عن ذكر الله، والتكاسل عن الصلاة، والتخلف عن الجمع والجماعات، وتعاطي المسكرات والدخان والمخدرات، وقد أبغض المعاصي كلها وأهلها ودان لله تعالى بهجر العصاة والمنحرفين، ودعاة الضلال والعلمانيين، ومقت أهل الفحش والخنا، ودعاة العهر والتبرج والاختلاط، وأهل البدع والخرافيين، وأحب أهل الخير والطاعة، والعلم بالله وآياته وشرائعه، وحرص على القرب منهم، والاقتداء بهم، وتقبل نصائحهم وإرشاداتهم، ومجالسة الصالحين، والتخلق بأخلاقهم، وعمارة المجالس بالذكر والفكر والعبادات. وهذا ونحوه أثر هذه الأعمال التي تقرب بها إلى ربه في حجه وعمرته، وأعماله الصالحة، وذلك لأنها تجره إلى الطاعة، وتبعده عن المعصية، وتحبب إليه أن يتوب إلى ربه توبة نصوحا، فيأتي بشروطها التي هي: الإقلاع عن الذنوب، والندم على ما مضى منها، والعزم على أن لا يعود إلى معصية، فالذي يعمل هذه المناسك والعبادات وهو مقيم على التهاون بالصلاة أو فعل شيء من المنكرات، أو تعاطي المسكرات، أو أكل الربا أو غيره من المعاملات المحرمة، فهذا لم يتأثَّر بما تقرب له من هذه المناسك، في هذه المشاعر المقدسة. وكذا من يفتخر بالذنوب والجرائم التي ارتكبها قبل الحج، ويذكرها في مجالسه، وكأنها من أفضل الطاعات، ويتمدح بما اقترفه من قتل ونهب وسرقة، وزنا وقذف ونحوها، ولا يبالي بذلك، فمثل هذا ما نفعته هذه الطاعات والأنساك التي فعلها في حجه وعمرته، حيث إِنَّه لا يزال على ما كان عليه من الاعتزاز والفخر بما حرَّمه الله عليه.

وهكذا من يرجع إلى أهله فيباشر ما كان يفعله قبل سفره، فيدعو الأموات، ويتقرب إلى الضرائح، ويهتف بأسماء الأولياء، ويناديهم في الكربات، ويحلف بغير الله، أو يترك الصلاة، ويتخلَّف عن جماعاتها، ويمنع حق الله في ماله ونحو ذلك، فإِن هذه الأفعال وما أشبهها قد تركها في المواسم المقدسة، فإذا عاد على ما كان عليه، وباشر الشرك والبدع والمعاصي، فما تأثر بأعماله وقرباته، ويوشك أن ترد عليه حجته وعمرته، وأن يعاقب أشد عقوبة مما كان عليه قبل ذلك، حيث جمع بين الطاعة والمعصية. وأغلب من يعود إلى المحرمات من هؤلاء الحجاج والزوار من لا يكون حجهم خالصاً لله، وإنما فعلوه عادة وتقليداً لأهل بلادهم، أو افتخاراً وتمدحاً باسم أنه قد أدى الفريضة، وأتم الأركان، وهو لم يفعل ذلك تديناً ومحبة لله، ولا اعترافاً بفرضيته، وإنما مجاراة ومحاكاة لأهل الوطن، وهؤلاء لا تفيدهم أعمالهم إلاَّ التعب والخسران المبين. فننصح كل حاج ومعتمر وزائر أن يتم في توبته، وأن يستمر في أعماله الصالحة، وأن يكون من الدعاة المخلصين لربهم وللأمة الإسلامية، يدعون إلى الله بأقوالهم وأفعالهم، رجاء أن ينفعهم الله تعالى وينفع بهم، ويهدي على يديهم من أراد الله به خيراً من الأمة الإسلامية، وينقذهم بواسطة دعوتهم من براثن الشياطين، وضلال المضلين، والله يهدي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. بعض الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الحجاج 1- تجاوز الميقات قبل الإحرام فمن لم يحرم، إلاَّ من جدة، وهو من أهل الآفاق، أو أحرم من حدود الحرم؛ فعليه دم. 2- دخول مكة بدون إحرام؛ لمن أتى مريداً الحج والعمرة. 3- الصلاة في المواقيت بعد العصر أو بعد الفجر؛ لأنه وقت نهي، وليست سنة الإحرام من ذوات الأسباب.

4- قص شعر اللحية عند الإحرام، مع أن القص والحلق ممنوعان بكل حال، والعارضان من اللحية. 5- التساهل بالصلاة جماعة، أو تأخيرها عن وقتها، مع أن الحاج يتقرب بعبادة فلا يتهاون بالعبادة المؤكدة في كل حين. 6- صلاة الفرض بالإزار دون الرداء، فيصلي الكثيرون وقد كشفوا ظهورهم وعواتقهم. 7- في الطواف؛ الابتداء قبل محاذاة الحجر الأسود، فلا يجزئ ذلك الشوط الذي بدأه قبل محاذاة الحجر بكل بدنه. 8- الطواف من داخل حجر إسماعيل، مع أنه أو بعضه من البيت، فلابد من الطواف من ورائه كله. 9- شدة المزاحمة عند الحجر الأسود، وإلحاق الضرر بالغير؛ فإن تيسر التقبيل، وإلاَّ اكتفى بلمسه باليد، ثم تقبيلها، فإن شق أشار إليه بيده. 10- تقبيل الركن اليماني، أو التمسح به، أو مسحه باليدين جميعاً، أو الإشارة إليه عند الزحام، وكل ذلك خطأ سوى استلامه باليمين. 11- التمسح بأركان البيت، أو كسوة الكعبة، أو حيطانها، أو مقام إبراهيم، أو حجر إسماعيل، أو أجزاء المسجد، وكل ذلك لا أصل له. 12- اعتقاد التقيد بالأدعية المطبوعة في المناسك لكل شوط، وطلب من يلقنه إياها، مع أنه يكتفى بالذكر والدعاء والقراءة المفهومة ونحوها. 13- التساهل في تقصير شعر الرأس عند التحلل من العمرة أو من الحج، فلابد من تقصير الرأس كله، أو حلقه كله. 14- ترك المبيت بمنى ليلة عرفة، وهو إن كان غير واجب فإنه سنة مؤكدة، وأوجبه بعض العلماء. 15- الوقوف خارج حدود عرفة مع أنها محدودة بأعلام واضحة، والوقوف بها ركن لا يتم الحج إلا به. 16- الانشغال يوم عرفة بالضحك، والمزاح، والكلام الباطل، وترك الذكر والدعاء في ذلك الموقف العظيم. 17- التكلف لصعود جبل الرحمة، والتمسح به، واعتقاد أن له مزية وفضيلة توجب ذلك. 18- مضايقة الغير وقت الانصراف، وما ينتج عنه من سباب وقتال.

19- الاشتغال في مزدلفة بلقط الحصى قبل الصلاة، مع أن الحصى يصح أخذه من منى أو من غيرها. 20- انصراف الكثير من مزدلفة قبل نصف الليل، وتركهم المبيت بها، مع أنه من واجبات الحج. 21- ترخص الأقوياء في الخروج إلى منى قبل الصبح، مع أن الرخصة إنما هي للضعفاء، أما غيرهم فقبيل طلوع الشمس. 22- طواف بعضهم للإفاضة في النصف الأول من الليل، مع أن الرخصة للضعفاء في النصف الثاني بعد الرمي. 23- توكيل بعض الأقوياء في الرمي، مع أن التوكيل إنما ورد عن الأطفال ونحوهم. 24- ذبح الهدايا يوم النحر وتعريضها للإتلاف والإضاعة، مع أنه يمكن نقلها إلى الضعفاء، أو تأخير ذبحها إلى أيام التشريق. 25- رمي الجمار أيام التشريق ضحى، مع أن وقته إنما يبدأ بزوال الشمس في الأيام الثلاثة التي بعد العيد. 26- اعتقاد أن الجمرات هي الشياطين، ورميها بالأحذية أو بالحجارة الكبيرة، وسبها وشتمها، مع أن رميها تعبد، وتذكرة لعداوة الشيطان. 27- توكيل بعضهم بالرمي وسفره مساء الحادي عشر أو صباح الثاني عشر، فيترك بعض المبيت، وبعض الرمي. 28- طواف بعضهم للوداع قبل رمي الجمرات يوم النفر الأول، مع أن الوداع آخر أعمال الحاج. 29- التكلف في زيارة بعض البقاع والأماكن: كجبل الرحمة، وغار حراء، وغار ثور، ومولد الرسول، أو مولد علي، أو بعض المساجد التي لا حقيقة لما يُقال فيها، ولا مزية توجب زيارتها. 30- اعتقاد أن الحج لا يتم إلا بزيارة المدينة والتكلف في الحصول على ذلك. 31- اعتقاد أن السفر إلى المدينة لأجل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن شد الرحال إنما جاز لأجل المسجد النبوي؛ لفضل الصلاة فيه. 32- ما يُفعل عند القبر النبوي من الهتاف باسم الرسول، ودعائه، والطواف بقبره، والتمسح به. 33- التكلف في زيارة مساجد المدينة لا مزية لها: كمسجد أبي بكر، والمساجد السبعة، ومسجد القبلتين، ونحوها.

فعلى الحاج أن يكون حذراً من الوقوع في شيء من هذه الأخطاء ونحوها، ليتم حجه، والله الموفق والمعين. فضل أيام عشر ذي الحجة والأعمال الواردة فيها * فضل عشر ذي الحجة: روى البخاري رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام". بمعنى: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء". وروى الإمام أحمد رحمه الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". وروى ابن حبان رحمه الله في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الأيام يوم عرفة". * أنواع العمل في هذه العشر: الأول: أداء الحج والعمرة، وهو أفضل ما يعمل، ويدل على فضله عدة أحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". وغيره من الأحاديث الصحيحة. الثاني: صيام هذه الأيام، أو ما تيسر منها، وبالأخص يوم عرفة، ولا شك أن جنس الصيام من أفضل الأعمال، وهو ما اصطفاه الله لنفسه، كما في الحديث القدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً". متفق عليه. أي مسيرة سبعين عاماً. وروى مسلم رحمه الله، عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والتي بعده".

الثالث: التكبير والذكر في هذه الأيام، لقوله تعالى: ((ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)) (الحج:28) . وقد فسرت بأنها أيام العشر، واستحب العلماء لذلك كثرة الذكر فيها، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عند أحمد رحمه الله، وفيه: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". وذكر البخاري رحمه الله، عن ابن عمر، وعن أبي هريرة رضي الله عنهم، أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبرون ويكبر الناس بتكبيرهما. وروى إسحاق رحمه الله عن فقهاء التابعين رحمة الله عليهم، أنهما كانوا يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. ويُستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق، والدور، والطرق، والمساجد وغيرها، لقوله تعالى: ((ولتكبروا الله على ما هداكم)) (البقرة:185) . ولا يجوز التكبير الجماعي، وهو الذي يجتمع فيه جماعة على التلفظ بصوت واحد؛ حيث لم ينقل ذلك عن السلف، وإنما السنة أن يكبر كل واحد بمفرده، وهذا في جميع الأذكار والأدعية، إلا أن يكون جاهلاً فله أن يُلقَّن من غيره حتى يتعلم. ويجوز الذكر بما تيسر من أنواع التكبير والتحميد والتسبيح، وسائر الأدعية المشروعة. الرابع: التوبة والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب، حتى يترتب على الأعمال المغفرة والرحمة، فالمعاصي سبب البعد والطرد، والطاعات أسباب القرب والود، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه". متفق عليه.

الخامس: كثرة الأعمال الصالحة من نوافل العبادات: كالصلاة، والصدقة، والجهاد، والقراءة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. فإنها من الأعمال التي تضاعف في هذه الأيام، فالعمل فيها وإن كان مفضولاً فإنه أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيرها، وإن كان فاضلاً حتى الجهاد الذي هو من أفضل الأعمال، إلا من عقر جواده واهريق دمه. السادس: يُشرع في هذه الأيام التكبير المطلق؛ في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد، ويشرع التكبير المقيد: وهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة التي تصلى في جماعة، ويبدأ لغير الحجاج من فجر يوم عرفة، وللحجاج من ظهر يوم النحر، ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق. السابع: تُشرع الأضحية في يوم النحر، وأيام التشريق، وهو سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين فدى الله ولده بذبح عظيم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: "ضحَّى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمَّى وكبَّر، ووضع رجله على صفاحهما". متفق عليه. الثامن: روى مسلم رحمه الله وغيره، عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره". وفي رواية: "فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره، حتى يضحي". ولعل ذلك تشبهاً بمن يسوق الهدي، فقد قال الله تعالى: ((ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله)) (البقرة:196) . وهذا النهي ظاهره أنه يخص صاحب الأضحية، ولا يعم الزوجة ولا الأولاد، إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه، ولا بأس بغسل الرأس ودلكه، ولو سقط منه شيء من الشعر.

التاسع: على المسلم الحرص على أداء صلاة العيد حيث تصلى، وحضور الخطبة والاستفادة، وعليه معرفة الحكمة من شرعية هذا العيد، وأنه يوم شكر وعمل بر، فلا يجعله يوم أشر وبطر، ولا يجعله موسم معصية وتوسع في المحرمات: كالأغاني، والملاهي، والمسكرات ونحوها، مما قد يكون سبباً لحبوط الأعمال الصالحة، التي عملها في أيام العشر. العاشر: بعد ما مر بنا، ينبغي لكل مسلم ومسلمة أن يستغل هذه الأيام بطاعة الله وذكره وشكره، والقيام بالواجبات والابتعاد عن المنهيات، واستغلال هذه المواسم والتعرض لنفحات الله، ليحوز على رضا مولاه. فتاوى الحج حكم الحج والوعيد الشديد على من تركه مستطيعاً وسُئِلَ وفقه الله تعالى للحق: ما حكم الحج إلى بيت الله الحرام، وما الوعيد الشديد المترتب على من تركه وهو قادر عليه ومستطيع له؟ * فأجاب: الحج كما هو معلوم ركن من أركان الإسلام، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام". وفي حديث جبريل المشهور لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". يتبين لنا من هذه الأحاديث أن الحج من جملة الإسلام وهو أحد أركانه العظام. وأركان الإسلام هي دعائمه وأُسسه التي يقوم عليها ويتكون منها، فمن أخلَّ بركن من هذه الأركان فقد اختل إسلامه؛ فالبناء إذا انهدم أحد أركانه يعني أحد جوانبه فإنه لا يُنْتَفَعُ به، بخلاف إذا ما تمت حيطانه وجوانبه وزواياه، فكذلك الإسلام إذا اختل منه ركن من هذه الأركان فإنه يكون غير كامل ويكون دين المسلم فيه نقص. هذا معنى كونه ركناً من أركان الإسلام.

ولكن الحج يجب بشروط، ذكرها العلماء في كتبهم، فمن أراد معرفتها فإنه يُرْجَعُ إليها في مواضعها. أما من ترك الحج وهو قادر عليه ومستطيع لأدائه واكتملت فيه الشروط، فإنه على خطر عظيم، لما ورد من الوعيد الشديد على تركه. وقبل الحديث عن الوعيد في تركه، نذكر ما ورد في الحث على المبادرة إلى الحج. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على المبادرة إلى الحج، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالحج والعمرة فإن الراحلة قد تضل والنفقة قد تذهب والرجل قد يمرض". أو كما قال عليه الصلاة والسلام، انظر شرح الزركشي على مختصر الخرقي: (3/42) والتعليق عليه. ففي هذا الحديث حث منه عليه الصلاة والسلام المبادرة إلى أداء هذا الركن العظيم، والمبادرة معناها: الإسراع، وهذا من أدلة وجوب الحج على الفور. كما أن أوامر الله تعالى يجب الإسراع بها، لما علل به في الحديث السابق من خوف العوائق والعوراض التي تعرض للإنسان، فإنه لا يدري متى تعرض له. فعلى المسلم أن يبادر بأداء الأوامر والطاعات وهو في حال صحته واستطاعته قبل أن يندم، ولات حين مندم. ثم إن الله تعالى إنما أوجبه مرة في العمر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، الحج مرة، فما زاد فهو تطوع". فمن حكمة الله ومن رحمته بعباده أنه ما أوجب الحج إلا مرة واحدة في العمر على الفور، لمن استطاعه، ولا يتم الدين إلا به وما زاد فهو تطوع. ونعود للحديث عن الوعيد المترتب على من تركه، فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لقد هممت أن أبعث إلى بعض البلاد، فمن وجدوه قادراً على الحج فلم يحج أن أضع عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين" أو كما في الأثر.

ورُوي أن علياً قال: "من قدر على الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً". ولعل هذا صدر على سبيل التهديد والوعيد، أو لعلَّه فيمن تركه مع القدرة عليه زُهداً فيه ورغبةً عنه، أو عدم اهتمام بهذا الركن، أو تساهلاً وتهاوناً به، أو انكاراً لشرعيته، أو للحِكَم التي تترتب عليه، أو نحو ذلك، ولا شك أن هذا انتقاص للإسلام. وقد كان الحج إلى بيت الله العتيق قديماً قبل الإسلام، فقد رُوي أن الأنبياء قد حجوا هذا البيت، وقد روي في ذلك آثار وأحاديث، وكذلك رُوي أن الملائكة طافت به قبل أن يُخلق آدم، والله تعالى قد أمر إبراهيم ببناء هذا البيت، وأمره بالنداء إليه بقوله تعالى: ((وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)) (الحج:27) . وظاهر ندائه أنه كما روي في بعض الآثار: "يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" فدلّ هذا على أن الحج واجب، فقوله: "كُتِبَ عليكم" أي: فرض عليكم، كما في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)) (البقرة:183) . أي: فُرِض عليكم الصيام. فإذا عرفنا أن الحج أحد أركان الإسلام، وأن الله تعالى أتم به الدين، وعرفنا أنه لازم وواجب، فعلى كل مسلم إذا تمت فيه الشروط المعروفة أن يأتي لهذا البيت المعظم، ملبياً نداء الله إليه، فإن من تركه تهاوناً فإنه متعرض للوعيد الشديد؛ سيما وقد فرضه النبي عليه الصلاة والسلام وبيَّنه وأتمه، وقال للناس لما وقف بهم في المشاعر: "خذوا عني مناسككم" ولما وقف بعرفة أنزل الله عليه: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)) (المائدة:3) . أي: في ذلك اليوم الذي تمت فيه المناسك والمشاعر وتمت فيه أركان الإسلام، وكان به تمام الدين وكماله، وفيه إتمام لسنة الله عز وجل ورضاه بأن يكون الإسلام دينهم، فهذا كله دليل على أن الحج فرض وواجب.

ومن الأدلة على فرضيته عموم أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله في التأكيد عليه وبيان فضائله وأنه خاتمة الشرائع، وأن من أتى به كان ذلك من تمام إسلامه، ومن لم يأت به كان إسلامه ناقصاً. نسأل الله أن يجعل لنا منه حظاً ونصيباً، وأن يجعلنا من المقبولين والمغفور لهم، إنه على كل شيء قدير. من حج ولم يصل وسُئِل فضيلته: من حج ولم يصلِّ، هل يحسب له حج أم لا؟ * فأجاب: إذا كان قصد السائل أن يحج وهو تارك لصلاة الفريضة، التي فرضها الله في اليوم والليلة خمس صلوات، وهذا يقع كثيراً من بعض المنتمين إلى الإسلام في البلاد الإسلامية، وكثير من الناس يتسمون بأنهم مسلمون، ولكن ما معهم إلا مجرد التسمي، فتجد أحدهم لا يصلي طوال عمره مثلاً، وبعضهم يصلي فقط الجمع والأعياد، وأما بقية أوقاتهم فلا يعرفون الصلوات، لا فروضها ولا نوافلها، وهؤلاء بلا شك متهاونون بهذا الركن العظيم، الذي هو عمود الدين، وهو أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين. وقد ورد في الأحاديث إطلاق الكفر على تارك الصلاة، وقال العلماء: إن المراد به الكفر العملي، لا الاعتقادي، وعلى كل حال فإن الذي يحج وهو مُصرٌّ على ترك الصلاة قبل حجه أو بعده، يعتبر قد أتى بعمل، ولكن أخلَّ بعمل آخر عظيم. وقد اختلف العلماء في تكفير تارك الصلاة وفصلوا ذلك: * فإن من تركها جاحداً لوجوبها، فهو كافرٌ ولا ينفعه حجّه، ولا يصح، ولا يسقط فرضه، وكذلك لا تصح بقية أعماله. * وأما من تركها متكاسلاً ومتثاقلاً عنها فإنه باقٍ على دين الإسلام وينسب إلى المسلمين، ولكنه على خطر كبير، حيث إنه أخلَّ بهذا الركن العظيم، ويعتبر قد أذنب ذنباً كبيراً، ولكن حجه صحيح، وتسقط عنه حجة الإسلام. وذهب كثير من العلماء والمحققين إلى القول بكفره، وبطلان حجه، وسائر أعماله؛ لإطلاق الأحاديث في كفر من ترك الصلاة.

ومعلوم أن الحاج يجب عليه قبل الحج أن يتطهر من الذنوب، وأن يُقبل على ربه بقلب منكسر خاشع ذليل، وأن يصحح نيته فينوي نية صادقةً وأنه تائبٌ إلى الله توبة نصوحاً، فيرد المظالم إن كانت هناك مظالم بينه وبين أحد من الناس، ويقلع عن المعاصي صغيرها وكبيرها، فيحافظ على الصلاة جماعة في مساجد المسلمين، ويعاهد ربه أن لا يعود إلى ما كان عليه من التثاقل والتكاسل، ويتوب عن المعاصي الأُخرى من أكل الربا، أو الزنا، أو شرب الخمر، أو أكل الحرام، أو الاعتداء على المسلمين في الدم أو المال أو ما أشبه ذلك من المحرمات، حتى يُقبل حجه ويكون حجه مبروراً وسعيه مشكوراً. وقد ورد في الأحاديث بأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ولا يكون الحج مبروراً إلا إذا تمت شروطه، وأركانه، وسننه، وقام صاحبه بما لله عليه فيه، وتجنب محظوراته، وتجنب المعاصي المحرمة عليه في كل الأوقات، وتاب لله توبة نصوحاً، وسأل عن كل عمل يعمله هل هو طاعة أم معصية، أم محظور أم محرم، أم مكروه أو ما أشبه ذلك، فإذا عرف الحكم وفعل ما هو طاعة وتجنب ما هو معصية، فإن عمله مقبول إن شاء الله. هذا إذا كان السائل يقصد ترك الصلاة قبل الحج أو بعده أي: تاركاً للفرائض، وهي الصلوات الخمس المفروضة في اليوم والليلة. فأما إن كان يريد ترك الصلاة عند الإحرام، فإذا قصد الحج ولبس الإحرام ولم يصل ركعتي الإحرام، فإنه ليس للإحرام صلاة مخصوصة، وقد ذكر بعض العلماء أن الصلاة عند الإحرام سنة، وبعضهم يقول: إذا وافق ذلك وقت صلاة، وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم عقب فريضة، فإن وافق إحرامك، فهذا هو الأفضل لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ولكن لا يُسن الإتيان بصلاة مخصوصة تسمى سنة الإحرام، كما يفعله كثير من الجهلة، وخاصة في أقوات النهي، فإن أحرمت في وقت نهي، فأحرم بدون صلاة، بل بمجرد النية، وهو لبس الثياب والتأهب للإحرام، والتلبية، ولا حاجة إلى الصلاة لكونه وقت نهي والله أعلم. الاستنابة في الحج وسُئِلَ حفظه الله ورعاه: طَلَب مني أحد أقاربي أن أحج عن والدته المتوفاة، وأعطاني ثلاثة آلاف ريال كنفقة، وأنا أستطيع أن أُكمل الحج بأقل من تلك النفقة، فماذا أفعل بالباقي؟ * فأجاب: هذه مسألة الاستنابة في الحج، أو الحج عن الغير بأُجرة، وقد كثر البحث فيها، وكثر التساهل من الذين يحجون بأُجرة. والعلماء لم يرخصوا للإنسان أن يحج بأجرة، إلا إذا كان عاجزاً عن الحج من مال نفسه، وذلك لأن هذا عمل صالح والأعمال الصالحة لا تباع، ولا تؤخذ عليها مصالح دنيوية، فالحج: طواف، وسعي، وإحرام، وصلاة، ورمي، ووقوف، وهذه كلها أعمال صالحة لا يؤخذ عليها أُجرة، كما أن الإنسان لا يأخذ أجراً على الصلاة، ولا الصيام ولا على الصدقة، ونحو ذلك، فلا يبيعها لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان: "اتخذوا مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً" فدلَّ على أن الأعمال الصالحة لا يجوز بيعها. ولكن هناك حالة خاصة، فمثلاً أن إنساناً عاجز عن الحج بماله وهو قد أدى حجة الفريضة، فيجوز له أن يستعين بمال يتمكن به منه أداء الحج، فيأخذ هذا المال حتى يمكنه الحج فينفق منه بقدر حاجته ويرد باقيه على من أنابه إذا أنفق من سواء أنفق على أهله كأن يترك لأهله نفقته، وأنفق أجرة ركوبه وأجرة أكله وشربه، وقيمة فديته وغير ذلك، فالباقي يرده على أهله إلا إذا سمحوا وعفوا عن ذلك وقالوا: قد وهبنا لك ما بقي.

أما كونه يتخذ الحج حرفة ويجعله كسباً، ويزايد فيه، ويقول: هذا قليل أعطني خمسة أو ستة آلاف ريال، فينفق منها ألفاً أو ألفين، والباقي يتاجر به فهذا بيع للعمل الصالح، ويعتبر عمل لأجل الدنيا، والعمل لأجل الدنيا شرك، كما في قول الله تعالى: ((من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها يبخسون)) (هود:15) . رمي الجمار قبل الزوال في اليوم الثاني عشر وسُئِلَ حفظه الله: نسب إليكم فتوى في جواز رمي الجمار (قبل الزوال) لمن أراد التعجل في اليوم الثاني عشر أي: ثاني أيام التشريق؟ وقد نشرت في جريدة المسلمون؟ فهل هذا صحيح وما هو دليلكم في ذلك؟ * فأجاب: اتصل بنا صاحب الجريدة المذكورة هاتفياً، وذكر ما حصل في الحج الماضي (عام 1414هـ) من الوفيات، وسأل هل من رخصة في تقديم الرمي؟. فذكرت له أن هناك قولاً لأبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد بجواز الرمي قبل الزوال للمتعجِّل، حيث ذكر ذلك صاحب المغني، والزركشي في شرح مختصر الخِرْقي، وصاحب الإنصاف، ولكن صاحب الجريدة تجرأ ونسب الفتوى إليَّ بخط بارز، ومعروف أن أصحاب الصحف يبالغون في نشر مثل هذا، فجعلوا العنوان كبيراً كما قرأتموه، أو قرأه بعضكم، وهم بذلك يريدون لفت الأنظار، مع أني إنما حكيت الرواية التي ذكرها في المغني وغيره، ولم أفصح أنني أختاره، إنَّما أقول أنه جائز للضرورة، عندما يخاف الإنسان على نفسه، وهذا القول لمن أراد التعجل، أما الذي لا يريد التعجل فليس له أن يرمي إلاّ بعد الزوال.

وبكل حال فالأصل أن وقت الرمي في أيام التشريق بعد زوال الشمس، كما ثبت في الحديث عن ابن عمر وجابر وعائشة وغيرهم، وهو قول الأئمة كلهم، ذكره ابن قدامة كما في المغني مع الشرح (3/476) ، لكنه ذكر أن إسحاق بن راهويه، وأصحاب الرأي، وهم الحنفية، رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال، ولا ينفر إلاَّ بعد الزوال، وعن أحمد مثله، ورخص عكرمة في ذلك أيضاً، وقال طاووس: يرمي قبل الزوال، وينفر قبله… الخ. وهكذا ذكر في الشرح الكبير في نفس الصفحة: وقال الزركشي في شرحه على مختصر الخِرَقي (3/279) : والرواية الثانية إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه، ولا ينفر إلاَّ بعد الزوال (والثالثة) كالثانية إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه، قال في رواية ابن منصور: إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم نفر. كأنه لم ير عليه دماً اهـ. وذكر القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: ((فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)) (البقرة:203) (3/9) . عن عطاء أنه سمعه يذكر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل في الزمن الأول، وذكر أنه روي مرفوعاً عند الدارقطني، وغيره، وعلله بأنه أرفق بهم وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل. وقال مالك: إذا تركه نهاراً رماه ليلاً، وعليه دم في رواية ابن القاسم، ولم يذكر في الموطأ أن عليه دماً. وقال الشافعي، وأبو ثور، ويعقوب، ومحمد: إذا نسي الرمي حتى أمسى يرمي ولا دم عليه، وكان الحسن البصري يرخص في رمي الجمار ليلاً، وقال أبو حنيفة: يرمي ولاشيء عليه. ويمكن أن يستدل على تقديم الرمي يوم النفر الأول بظاهر قوله تعالى: ((فمن تعجل في يومين)) حيث إن اليوم يعم أول النهار وآخره. وبعد هذا التفصيل وذكر الأقوال أقول:

أنه في هذا الزمان وخاصة ما حدث في الحج الماضي كما تعرفون من الزحام الشديد، مما أدَّى إلى الوفيات، وقد ذكر بعضهم أن من أسباب هذا الزحام هو: أن كثيراً من المطوفين يؤكدون على الحجاج التابعين لهم بأن يأتوا إليهم في المكان الفلاني في الساعة الثانية بعد الظهر مثلاً، ومن لم يأت فإننا سوف نسير ونتركه، ومن المعلوم أن هؤلاء المطوفين معهم أعداد كبيرة من الحجاج تصل إلىمئات الألوف فيضطر هؤلاء كلهم إلى التجمع عند الجمرة قبل الزوال، حتى إذا كان الزوال رموا جميعاً ليتمكنوا من الوصول إلى مطوفيهم في الموعد المحدد، وهنا يحدث الزحام الشديد عند الرمي وفي طريقهم ذهاباً وإياباً، وبعدها يذهبون لطواف الوداع، ثم يرجعون إلى المكان الذي وعدوا فيه، وقد لا يقدرون على ذلك في ساعتين، فلأجل ذلك يحتشدون بهذه الأعداد الكبيرة في وقت واحد ثم لا تسأل عما يحدث بعدها من الوفيات الكثيرة. وكان الأولى لهؤلاء المطوفين ألا يشددوا هذا التشديد على حجاجهم، وعليهم أن يرفقوا بهم، وينتظروهم ولو تأخروا إلى الساعة الثالثة أو الرابعة، أو الخامسة مثلاً حتى يتكاملوا وحتى لا يتكلفوا ويضطروا بأن يرموا جميعهم في الساعة الثانية عشر والنصف في لحظة واحدة، ويحدث من المشاكل والوفيات مثل ما حدث ويحدث كل عام. ولو ذهبت إلى الجمرات عند الساعة الثانية ونحوها لوجدت المكان خالياً أو خفيفاً من الزحام لأن الكل أو الأغلب قد رموا وخرجوا. ولن يكون لهذه المسألة حل إلاَّ بأحد أمرين: الأول: إما التوسعة والرخصة في الرمي للمضطر قبل الزوال بساعة أو ساعتين ولو لم يخرج إلا بعد الزوال. الثانية: أو يلاحظ على المطوفين أن لا يشددوا على حجاجهم هذا التشديد، ويجب على وزارة الحج أن تأخذ على أيديهم وتعمل لهم برنامجاً ينظمهم حتى يتفادوا الأخطار، والوقوع في الأخطاء، والله أعلم.

خواطر رمضانية

خواطر رمضانية الفهرس تقديم فضيلة الشيخ ابن جبرين المقدمة الخاطرة الأولى: فرضية الصيام الخاطرة الثانية: الصوم يدفع إلى فعل الطاعات الخاطرة الثالثة: الصوم ينهى عن فعل المحرمات الخاطرة الرابعة: الصوم الصحيح الخاطرة الخامسة: من فوائد الصيام الخاطرة السادسة: القرآن في رمضان الخاطرة السابعة: الذكر والدعاء والاستغفار في رمضان الخاطرة الثامنة: الفرح بالعيد لتخلفهم من رمضان الخاطرة التاسعة: يوم العيد الخاطرة العاشرة: وداعاً يا شهر التوبة تنبيهات على أخطاء أو نقائض تقع من بعض الصائمين تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد: فهذه كلمات تتعلق بالصيام وفوائده وآثاره على الصائمين، كنت ألقيتها كمحاضرة ارتجالية في بعض المساجد، وقد سجلها بعض الحاضرين ثم نسخت في هذه الأوراق، وقد صححنا ما فيها من الأخطاء التي أوقع فيها الارتجال، وأدخلنا عليها بعض التعديلات مع تخريج الأحاديث المرفوعة، وترقيم الآيات القرآنية ورغب بعض الإخوان في طبعها رجاء النفع بها. نسأل الله تعالى أن يوفق عموم المسلمين لتطبيق الشريعة الإسلامية، والحرص على تكميلها وتحصيل المصالح وتقليل المفاسد، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) (آل عمران:102) .

((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجال كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)) (النساء:1) . ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)) (الأحزاب:70-71) . أما بعد: (أصل هذه الرسالة محاضرة لفضيلة الشيخ/عبد الله بن جبرين، قمت بنسخها في أوراق، ثم قمت بتهذيبها وتصحيحها، وعزو الآيات، وتخريج الأحاديث قدر الإمكان، ثم عرضتها على فضيلة الشيخ فقام بتصحيحها، والتقديم لها وأذن بطبعها ونشرها، نسأل الله أن ينفع بها وأن يكتبها في موازين أعمال كل من ساهم في إخراجها إنه سميع مجيب "أبو أنس") . لا شك أن الصوم لم يكن من خصائص هذه الأمة بل كان شرعاً قديماً، كلف به العباد والأمم من قبلنا، يقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم.. الآية)) (البقرة:183) . وقد فرض الصوم على هذه الأمة في السنة الثانية من الهجرة، فصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات بالإجماع. وما شرع الله هذا الصوم -وغيره من العبادات- عبثاً، وإنما شرعه لِحِكَمٍ عظيمة، وفوائد جليلة تعود على الفرد والمجتمع والأمة بأسرها. وهذه خواطر رمضانية حول حقيقة الصوم وأحكامه أردنا أن نبينها حتى يتم النفع للمسلم من صيامه وعبادته والله الموفق. الخاطرة الأولى: فرضية الصيام يقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم..الآية)) (البقرة:183) . فأخبر أن الصيام عبادة قديمة كتبت على الأمم قبلنا، وفي ذلك بيان أنه شرع قديم. وقد ذكر أن موسى عليه السلام لما واعده ربه بلقائه، صام ثلاثين يوماً، ثم زاده الله عشراً في قوله تعالى: ((وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)) (الأعراف:142) .

وكذلك فإن لأهل الكتاب صياماً، ولكنهم يزيدون فيه وينقصون. ومن شهد شهر رمضان وهو عاقل مكلف فإنه مأمور بصيامه، يقول تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصُمْه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيام أخّر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر…)) (البقرة:185) . فعذر الله أهل المرض، وأهل السفر أن يفطروا لأجل اليسر، ورفع الحرج، وهذا من خصائص شريعتنا وفضائل ديننا. ولا شك أن الله تعالى حكيم في أمره وفي تشريعه، فما شرع الصوم وغيره من العبادات إلا لحكم عظيمة تعجز العقول عن إدراكها. فالصوم فيه تأديب للنفوس وحرمان لها عن تلبية شهواتها. ولهذا فإن الصائم ينفطم ويترك الطعام والشراب وشهوة النكاح طوال النهار، مدة قد تصل إلى خمس عشرة ساعة أو أكثر أو أقل. ولا شك أنه في هذه الحالة غالباً ما يحسّ بفقد هذه الشهوات، وقد يتألم، ولكن لما كان تألمه عبادة لله وطاعة فإنه يهون على النفوس الطيبة، ويكون سهلاً على النفوس التقية النقية، ذلك أنه جوع وظمأ في مرضاة الله، جوع سببه الامتثال لأمر الله تعالى. ولأجل ذلك ورد في الحديث المشهور أن الله تعالى خصَّ الصوم لنفسه، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" (أخرجه البخاري برقم 1904 في الصوم، باب: "هل يقول: إني صائم إذا شُتم؟ ") . وفي رواية: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل: إلا الصيام… الحديث" (أخرجه مسلم برقم 1151-164 في الصيام، باب: "فضل الصيام") .

يقول العلماء: إن كل عمل ابن آدم له أي يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، إلا الصوم فإنه لا ينحصر في هذه المضاعفة، بل يضاعفه الله أضعافاً كثيرة، فلا يدخل تحت الحصر، وذلك لكونه طاعة خفية بين العبد وبين ربه، ولأن فيه صبراً عن شهوات النفس، ومجاهدة لها وإرغاماً لها على طاعة الله. ولهذا سمي هذا الشهر: "شهر الصبر" (كما في حديث سلمان الطويل الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1887) . وانظر الدر المنثور (1/184) . وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، قال أحمد بن حنبل: ليس بالقوي، وقال ابن معين: ضعيف) ، والصبر ثوابه الجنة، قال الله تعالى: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)) (سورة الزمر:10) . فيضاعف أجرهم إلى غير عدد، إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله. والصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- صبر على طاعة الله. 2- صبر عن معاصي الله. 3- صبر على أقدار الله. وكلها تجتمع في الصوم. أما الصبر على طاعة الله: فالصائم يصبر عن تناول الشهوات، وهذا صبر على أوامر الله، صبر على طاعة الله. أما الصبر عن معاصي الله: فإن المسلم إذا علم أنه إذا اقترف المعصية، فإن هذا سيجلب عليه سخط الله فإنه يتجنبها. أما الصبر على أقدار الله: فإن المسلم يصبر على ما يصيبه، وما يؤلمه من جوع وعطش، وكل ذلك دليل على أنه من الصابرين: و ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)) [الزمر:10] . ولا شك أن هذا إنما يكون في الصوم الحقيقي، في الصوم المفيد، في الصوم الشرعي المبني على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الصوم إنما يكون صوماً إذا ظهرت آثاره على الصائمين، وذلك لأن صاحب هذا الصوم هو الذي يتأثر وينتفع بصيامه.

وكذلك فإن صاحب هذا الصوم الشرعي الحقيقي هو الذي ينتفع بشفاعة الصيام له يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: أيّ ربِّ منعتُه الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشَفَّعَان" (أخرجه أحمد في المسند (2/174) ورواه الحاكم في المستدرك (1/554) . والهيثمي في مجمع الزوائد: (3/181) . قال أحمد شاكر (6627) إسناده صحيح) . الخاطرة الثانية: الصوم يدفع إلى فعل الطاعات يظل الصائم متلبساً بعبادة من أفضل العبادات، متلبساً بعمل من حين يطلع الفجر إلى أن تغرب الشمس، ولا بد أن تبدو عليه حينئذ آثار هذه العبادة، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ترد دعوتهم.. وذكر منهم: الصائم حين يفطر" (أخرجه الترمذي برقم 2526 وقال: هذا حديث إسناده ليس بالقوي. وابن ماجة برقم 1752 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) . فالصائم من حين يبدأ صومه إلى أن يفطر وهو مستجاب الدعوة إذا كان صحيح الصوم. وعبادة الصوم تجر إلى سائر العبادات، لأنك إذا عرفت أنك في عبادة حملك ذلك على أن تأتي بعبادة ثانية، وثالثة، ورابعة، وهلم جراً، فتستكثر من العبادات، وتقول: لماذا لا أرغب في العبادات؟ كيف أقتصر على عبادة واحدة، والعبادات كلها مرغوبة ومحببة؟ ‍ * فتجد الصائم -صحيح الصيام- يحافظ على الصلوات في الجماعة، لأنه يعرف أن الذي كلفه بالصوم كلّفه بالصلوات، وأمره بها، فأكد على هذه كما أكد على تلك، فتجده محافظاً عليها، وتجده في حال صلاته خاشعاً فيها غاية الخشوع، قائماً بجميع أركانها وشرائطها ومكملاتها ومتمماتها وسُننها، لأنه يحاسب نفسه ويقول: كيف أكمل عبادة وأنقص عبادة؟ ‍ هذا لا يليق بي. لا بد أن أحسن في كل عبادة أقوم بها، فتجده محافظاً على صلاته غاية المحافظة.

* وهكذا يدفعه الصوم إلى نوافل العبادات، لأنه عرف أن ربه يحب منه أن يدخل في العبادات كلها، فرضها ونفلها، فإذا حافظ على الفرائض حمله ذلك على الإتيان بالنوافل؛ فتجده يتسابق إلى المساجد، وتجده يصلي الرواتب قبل الصلوات وبعدها، وتجده يذكر الله، فيأتي بالأوراد التي قبل الصلاة وبعدها، ويسبح، ويستغفر، ويهلل، وتجده يتلو كتاب ربه ويتدبره؛ لا سيما في هذا الشهر -شهر رمضان- فإنه يعرف أنه موسم من مواسم قراءة القرآن وتدبره، وتجده مع تدبره يحرص على تطبيقه والعمل به، لأنه يعرف أن هذا القرآن ما أنزل إلا ليطبق ويكون منهاجاً للحياة ودستوراً للبشرية كلها. وهكذا فإن الصيام يحمل صاحبه على أن يستكثر من العبادات، للفوز بجزيل الثواب والنجاة من أليم العقاب. * وهكذا أيضاً يحرص الصائم على عبادات مؤقتة في مثل هذا الشهر؛ فمثلاً من سنن هذا الشهر صلاة الليل التي هي التهجد والتراويح، وهي مأمور بها ويستحب للمسلمين فعلها في المساجد جماعة. وكما جعل الله سبحانه وتعالى النهار محلاً للصيام، فإنه جعل الليل محلاً للقيام والاستكثار من الصلوات. * كما يدفعه صيامه أيضاً إلى النفع العام للمسلمين في هذا الشهر وفي غيره، فينفع نفسه وينفع سائر المسلمين؛ سواء كان في الأمور الدنيوية أو في الأمور الدينية: فمن المنافع الدنيوية: الصدقات التي أمر الله تعالى بها، وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم. قال بعض السلف: "إذا دخل رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله". فالإنسان مأمور بأن يكثر الصدقات في هذا الشهر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة (أخرجه البخاري برقم 6 في بدء الوحي، باب:5) .

ذلك أنه شهر يتفرغ فيه العباد لطاعة الله ويبتعدون عن طرق الغواية والمعصية، ويستحب فيه مواساة الفقراء، وقد ثبت في الحديث أن من فطر صائماً كان له مثل أجره (أخرجه الترمذي برقم 807 في الصوم. باب "ما جاء فيمن فطر صائماً") . ومن المنافع الدينية: فإنك كما ينبغي عليك أن تنفع نفسك، فإن عليك أن تنفع المسلمين، فإذا استقمت على طاعة الله، فإنك تحرص على أن تقيم غيرك على هذه الطاعة، وذلك بأن تأمر إخوانك وأقاربك وجيرانك بأن يعملوا كما تعمل، وترشدهم إلى ما أنت عليه، وتحثهم على العبادات التي أتيت بها، فتحثهم على قراءة القرآن، وعلى المحافظة على الصلوات، وتذكّرهم بذلك، وتقول لهم إن الذي يحب منكم الصيام يحب منكم الصلوات، والذي أمركم بهذا الصوم أمركم بذكره، وفرض عليكم هذه الصلوات، وهذه الزكوات، وربّ رمضان هو ربّ شوال ومحرم وسائر الشهور، فلعلهم ينتفعون بذلك ويكون في ذلك فائدة عظيمة لك ولهم، وتسلم من الإثم إذا لم ترشدهم وإذا استقاموا على يديك كان لك من الأجر مثل أجورهم وذلك خير لك من الدنيا وما فيها (لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" أخرجه مسلم برقم 2674) . كذلك أيضاً فمن النفع المتعدي التعليم والتفقيه، وذلك أنك متى علمت حكماً أو مسألة، وعرفت أن فلاناً أو فلاناً يجهلها، فإن من واجبك أن تعلمه وترشده سواء أكانت حُ: مية أو وعظية أو إرشادية، أو غير ذلك. الخاطرة الثالثة: الصوم ينهي عن فعل المحرمات

فإن الله تعالى قد نهى الصائم عن الأكل والشرب والوقاع في نهار رمضان، وجعل ذلك مفسداً للصوم، فيتأكد على المسلم أيضاً أن يترك المحرمات في نهار صومه وفي ليالي شهره، ويجب عليه أن يتأثر بعد الشهر بما أفاده هذا الصوم، وذلك لأن الله الذي حرّم عليك في نهار رمضان أن تأكل وأن تشرب؛ مع كون الأكل والشرب من الشهوات النفسية التي تتناولها النفس بطبعها والتي تعيش عليها وتموت بفقدها، فإن الله تعالى حرم عليك محرمات أخرى هي أشد إثماً وأشد ضرراً وليست بضرورية كضرورة الطعام والشراب، وقد ورد في ذلك كثير من الآثار نذكر بعضها: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب ولا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني امرؤٌ صائم" (أخرجه البخاري 1904 في الصوم. باب: "هل يقول إني صائم إذا شتم؟ " ومسلم برقم 1151 في الصيام، باب: "فضل الصيام") . والصخب هو: رفع الصوت بالكلام السيئ. والرفث: هو الكلام في العورات، والكلام فيما يتعلق بالنساء ونحو ذلك. أما الفسوق: فهو الكلام السيئ الذي فيه عصيان وفيه استهزاء وسخرية بشيء من الدين أو من الشريعة، ونحو ذلك. فالصوم ينهي صاحبه عن هذه الأشياء. وكأنه يقول إن صيامي ينهاني عن هذا الصخب -فإن الصوم ينهى عن المأثم، ينهى عن الحرام- فيقولك كيف أترك الطعام والشراب -الذي هو حلال- وآتي بما هو محرم في كل الأوقات؟ ‍ 2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (أخرجه البخاري برقم 1903 في الصوم، باب: "من لم يدع قول الزور") .

فالله تعالى ما كلفك أن تترك الطعام والشراب إلا لتستفيد من هذا الترك، فتترك الرفث، وتترك الفسوق، وتترك قول الزور، وتترك المعاصي المتعلقة بالنساء وبالجوارح، فإن لم تفعل ذلك ولم تستفد من صيامك فالله تعالى يرده عليك ولا يجزيك على عملك. 3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر" (أخرجه ابن ماجة برقم 1690، وأحمد في المسند 2/373، 441) . 4- وعن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن امرأتين صامتا فكادتا أن تموتا من العطش، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنهما، ثم ذُكرتا له، فأعرض عنهما، ثم دعاهما فأمرهما أن يتقيئا فتقيّئتا ملء قدح من قيح ودم ولحم عبيط‍ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هاتين صامتا عما أحل الله. وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس" (أخرجه أحمد في المسند 5/431) . فانظر إلى قوله: "صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله". فجعل هذا فطراً، كون الإنسان يأكل أعراض الناس، وكونه يتكلم في فلان وفلان بغير حق، فهذا لم يستفد من صومه، صام عن الحلال، وأفطر على الحرام -والعياذ بالله- فلم ينتفع بصومه. ولا شك أن الصوم الذي هذه آثاره لا ينتفع به صاحبه ولا يفيده؛ فإن الصوم الصحيح يجادل عن صاحبه ويشهد له يوم القيامة ويشفع له عند الله (حديث: أن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة.. سبق تخريجه) .، فإن لم يحفظه لم يستفد منه ولم يؤجر عليه. يقول بعضهم: إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري عضٌّ في منطقي صمتُ فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ وإن قلتُ: إني صمتُ يومي فما صمتُ

فلا بد أن يكون على الصائم آثار الصيام، كما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الغيبة والنميمة، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء". وبالجملة فالصوم الصحيح يدعو صاحبه إلى ترك المحرمات، فإن المعصية إذا سولت للإنسان نفسه أن يقترفها رجع إلى نفسه، وفكّر وقدر ونظر واعتبر، وقال مخاطباً نفسه: كيف أقدم على معصية الله وأنا في قبضته وتحت سلطانه، وخيره عليَّ نازل، وأنا أتقرب إليه بهذه العبادة؟ ‍ ومن الذين لم يستفيدوا من صيامهم: أولئك الذين يسهرون على تعاطي الدخان المحرم الذي هو ضار بكل حالاته ووجوهه، فلا شك أنهم لم يستفيدوا من صيامهم ذلك أن الصوم تبقى آثاره، وهؤلاء لا أثر للصيام عليهم. فالصائم الذي امتنع عن شرب الدخان طوال نهاره، وكذلك عن شرب الخمر المحرمة -والعياذ بالله- ولكنه تناول ذلك في ليله، فهذا الفعل دليل على أنه لم يستفد من صومه، وإنما صومه عليه وبال. الخاطرة الرابعة: الصوم الصحيح كثير من عامة الناس يحافظون على العبادات في أيام رمضان، وكأنهم يستنكرون أن يتركوا العبادتين: الصوم والصلاة، أو يفعلوا عبادة دون عبادة. فتراهم يستنكرون أن يتركوا الصوم والصلاة، ويستنكرون أن يؤدوا الصوم دون الصلاة، أو يفعلوا شيئاً من المحرمات. تجدهم في رمضان يتوبون ولكن توبة مؤقتة، فهم في أنفسهم عازمون على العودة إلى المعاصي. ففي رمضان يحافظون على الصلاة، ويتوبون عن الخمر أو عن الدخان مثلاً، أو عن الاستماع إلى الأغاني والملهيات ونحو ذلك، أو عن بعض الشعارات الباطلة أو عن الصور الخليعة، أو ما أشبه ذلك، ولكن يحدثون أنفسهم أنهم بعد شهر رمضان سيعودون إلى ما كانوا عليه ولهذا يتمنون انقضاء هذه الأيام وإذا أقبل رمضان حثوا أنفسهم، وتناولوا ما قدروا عليه من الخمر ومن غيرها حتى قال بعضهم:

دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر والعياذ بالله… فهؤلاء ربما يفرقون بين رمضان وما بعد رمضان؛ فيستكثرون من تناول الحرام وفعله قبل أن يأتي شهر رمضان؛ لأنهم سيتركونه مدة هذا الشهر فقط، ثم يعودون إليه، حتى قال بعضهم: إذا العشرون من شعبان ولّت فبادر بالشراب إلى النهارِ ولا تشرب بأقداحٍ صغارٍ فإن الوقتَ ضاق على الصغارِ فمثل هؤلاء لم يتأثروا بصومهم، فالإنسان يستعيذ بالله أن يكون من هؤلاء الذين ما نفعهم صومهم ولا زجرهم عن المحرمات، وإذا فعلوا شيئاً من العبادات فعلوها بنية الترك وإذا تركوا شيئاً من المعاصي تركوها بنية الفعل بعد أن ينفصل الشهر‍، كما قال شاعرهم وأميرهم: رمضان ولّى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ فهو ينادي ساقي الخمر بأن يأتي إليه بالشراب مسرعاً؛ لأن رمضان قد انقضى وولَّى وكأن الخمر حرام في رمضان حلال في غيره. فالصوم الصحيح هو الذي يحفظ فيه الصائم صيامه؛ فيحفظ البطن وما حوى، والرأس وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويستعد للآخرة بترك زينة الحياة الدنيا، ويترك الشهوات التي أساسها شهوة البطن والفرج، ويذكر بعد ذلك ما نهاه الله عنه من الشهوات المحرمة في كل وقت. ويذكر أيضاً أن الصوم هو في ترك هذه الشهوات، فما شرع الله الصوم إلا لتقويم النفوس وتأديبها. الخاطرة الخامسة: من فوائد الصيام ذكر الأطباء والعلماء قديماً وحديثاً أن الصوم يهذب النفوس، وأنه يزكيها ويقويها وأنه يكسب الأجسام ملاحة وصحة وقوة، حتى قال بعضهم: (سافروا تغنموا، وصوموا تصحوا) ("صوموا تصحوا". يروى هذا اللفظ ضمن حديث رواه ابن عدي في الكامل: 7/2521 من طريق نهشل بن سعد عن الضحاك عن ابن عباس. ونهشل متروك كان يكذب، والضحاك لم يسمع من ابن عباس) .

فمعنى ذلك أن الصوم حماية للنفس، من الأخلاق المؤذية الضارة التي قد تفسد النفس وتوقعها فيما يضرها. كما أن فيه أيضاً تمرين النفس على الصبر والتحمل والمجاهدة، وأنت تحس بذلك إذا ما فاجأك أمر يحتاج منك إلى شيء من ذلك. * فالإنسان الذي تعوَّد على الجوع، وصبر عليه مدة طويلة وصبر على الظمأ، إذا جاءه أمر مفاجئ، بأن وقع مثلاً في جوع شديد أو إذا ظمئ ولا يوجد ماء وهو في سفر، أو انقطع عنه الشراب كما يكون في الأسفار أحياناً، فإذا كان قد مرّن نفسه على هذا العمل، لم يحس بذلك ولم يتأثر به، بخلاف من عوّد نفسه على تناول الشهوات في كل الأوقات، فإنه إذا افتقدها في وقت من الأوقات حصل عليه تأثر كبير، وأصيب بالأمراض وربما أتى إليه الهلاك بسرعة؛ وذلك لأنه لم يتعود هذا الأمر ولم يمرن نفسه عليه. * كما أن للصيام أيضاً فائدة أخرى وهي: أن الصائم إذا أحس بالجوع تذكر أهل الجوع الدائم؛ تذكر الفقراء، والمساكين، والمستضعفين، الذين يمسهم الجوع في أغلب الأوقات في أكثر البلاد الإسلامية تذكر أن له إخوة يجمعهم وإياه دين واحد، دين الإسلام، يدينون بما يدين به ويعتقدون ما يعتقده، وأنهم في جهد وفي جوع، وفي ضنك من المعيشة، فيحملك هذا الذي أحسست به من هذا النوع على أن ترحمهم وتعطف عليهم وتواسيهم وتعطيهم مما آتاك الله، وتمدهم بما يخفف عنهم آلامهم التي يقاسونها. فإذا قاسيت هذه الآلام في وقت من الأوقات تذكرت من يقاسيها في جميع الأوقات. فهذه من الحكم العظيمة في الصيام أن يتذكر الغني الفقراء، وأن يرحمهم ويعطف عليهم بما أعطاه الله تعالى. الخاطرة السادسة: القرآن في رمضان معلوم أن رمضان شهر له خصوصية بالقرآن. قال الله تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)) (البقرة:185) .

فقد أنزل الله القرآن في هذا الشهر، وفي ليلة منه هي ليلة القدر، لذا كان لهذا الشهر مزية بهذا القرآن. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن في رمضان على جبريل عليه السلام، فكان يدارسه القرآن. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن" (سبق تخريجه) . فكونه يخص ليالي رمضان بمدارسته، دليل على أهمية قراءة القرآن في رمضان. ومعلوم أن الكثير من الناس يغفلون عن قراءة القرآن في غير رمضان، فنجدهم طوال السنة لا يكاد أحدهم يختم القرآن إلا ختمة واحدة، أو ختمتين، أو ربما نصف ختمة في أحد عشر شهراً. فإذا جاء رمضان أقبل عليه وأتم تلاوته. ونحن نقول: إنه على أجر، وله خير كبير، ولكن ينبغي ألا يهجر القرآن طوال وقته؛ لأن الله تعالى ذمّ الذين يهجرونه، قال تعالى: ((وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)) (الفرقان) . * ومن هجران القرآن ألا يكون الإنسان مهتماً به طوال العام إلا قليلاً. * ومن هجرانه كذلك أنه إذا قرأه لم يتدبره، ولم يتعقله. * ومن هجرانه أن القارئ يقرأه لكنه لا يطبقه، ولا يعمل بتعاليمه. وأما الذين يقرؤون القرآن طوال عامهم، فهم أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته. ويجب على المسلم أن يكون مهتماً بالقرآن، ويكون من الذين يتلونه حق تلاوته، ومن الذين يحللون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه ويقفون عند عجائبه، ويعتبرون بأمثاله، ويعتبرون بقصصه وما فيه، ويطبقون تعاليمه؛ لأن القرآن أنزل لأجل أن يعمل به ويطبق، وإن كانت تلاوته تعتبر عملاً وفيها أجر.

وفضائل التلاوة كثيرة ومشهورة، ولو لم يكن منها إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من القرآن فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (أخرجه الترمذي برقم 2910من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً) . فجعل في قراءة آلم ثلاثين حسنة. وفضائل التلاوة كثيرة لا تخفى على مسلم، وفي ليالي رمضان وأيامه تشتد الهمة له. كان بعض القراء الذين أدركناهم يقرؤون في كل ليلة ثلاثة أجزاء من القرآن على وجه الاجتماع؛ يجتمعون في بيت، أو مسجد، أو أي مكان، فيقرؤون في كل عشرة أيام مرة. وبعضهم يقرأ القرآن ويختمه وحده. وقد أدركت من يختم القرآن كل يوم مرة أو يختم كل يومين مرة فقد يسره الله وسهله عليهم، وأشربت به قلوبهم، وصدق الله القائل: ((ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكر)) (سورة القمر:17) . وقال: ((فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)) (الدخان:58) . فمن أحب أن يكون من أهل الذكر فعليه أن يكون من الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، ويقرأه في المسجد، ويقرأه في بيته، ويقرأه في مقر عمله، لا يغفل عن القرآن، ولا يخص شهر رمضان بذلك فقط. فإذا قرأت القرآن فاجتهد فيه؛ كأن تختمه مثلاً كل خمسة أيام، أو في كل ثلاثة أيام، والأفضل للإنسان أن يجعل له حزباً يومياً يقرأه بعد العشاء أو بعد الفجر أو بعد العصر، وهكذا. لابد أن تبقى معك آثار هذا القرآن بقية السنة ويحبب إليك كلام الله، فتجد له لذة، وحلاوة، وطلاوة، وهنا لن تمل من استماعه، كما لن تمل من تلاوته. هذه سمات وصفات المؤمن الذي يجب أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله تعالى وخاصته.

أما قراءة القرآن في الصلاة، فقد ذكرنا أن السلف كانوا يقرؤون في الليل فرادى ومجتمعين قراءة كثيرة. فقد ذكروا أن الإمام الشافعي -رحمه الله- كان يختم في الليل ختمة، وفي النهار ختمة، في غير الصلاة؛ لأنه يقرأ في الصلاة زيادة على ذلك. وقد يستكثر بعض الناس ذلك ويستبعدونه، وأقول: إن هذا ليس ببعيد، فقد أدركت أناساً يقرؤون من أول النهار إلى أذان صلاة الجمعة أربعين جزءاً في مجلس واحد. يقرأ، ثم يعود فيقرأ، يختم القرآن ثم يعود فيختم ثلث القرآن، فليس من المستبعد أن يختم الشافعي في النهار ختمة، وفي الليل ختمة. ولا يستغرب ذلك أيضاً على الذين سهل القرآن في قلوبهم، وعلى ألسنتهم، فلا يستبعده إلا من لم يعرف قدر القرآن، أو لم يذق حلاوته في قلبه. وعلى الإنسان إذا قرأ القرآن أن يتدبَّره، والكفار كذلك مأمورون بذلك حتى يعترفوا أنه من عند الله، وأنه لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، ولاضطربت أوامره ونواهيه، فلما كان محكماً متقناً، لم يقع فيه أي مخالفة، ولا أي اضطرابات كان ذلك آية عظيمة، ومعجزة باهرة. فهذا هو القصد من هذه الآية، ولكن لا ينافي ذلك بأننا مأمورون أن نتدبر كل ما قرأنا كما أمرنا. الخاطرة السابعة الذكر والدعاء والاستغفار في رمضان يجب على المسلم أن يتعلم، وأن يعمل بما تيسر له من الأذكار والأدعية، فالأذكار يضاعف أجرها في هذا الشهر، ويكون الأمل في قبولها أقرب، ويجب على المسلم أن يستصحبها في بقية السنة، ليكون من الذاكرين الله تعالى، وممن يدعون الله تعالى ويرجون ثوابه ورضوانه ورحمته.

وذكر الله بعد الصلوات مشروع، وكذلك عند النوم، وعند الصباح والمساء، وكذلك في سائر الأوقات. وأفضل الذكر التهليل والتسبيح، والتحميد، والاستغفار، والحوقلة، وما أشبه ذلك، ويندب مع ذلك أن يُؤتي بها وقد فَهِمَ معناها حتى يكون لها تأثير، فيتعلم المسلم معاني هذه الكلمات التي هي من الباقيات الصالحات، وقد ورد في الحديث تفسير قول الله تعالى: ((والباقيات الصالحات)) (الكهف:46) . أنها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (أخرجه مالك في الموطأ ص:210. في كتاب القرآن، باب"7": "ما جاء في ذكر الله تبارك وتعالى".) . وورد في حديث آخر: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" (أخرجه مسلم برقم2137 في الآداب، باب: "كراهة التسمية بالأسماء القبيحة..") . أي أفضل الكلام الذي يؤتى به ذكراً. فلتتعلم -أخي المسلم- معنى التهليل، ومعنى الاستغفار، ومعنى الحوقلة، ومعنى التسبيح، والتكبير، والحمد لله، وما أشبه ذلك، تعلم معناها حتى إذا أتيت بها، أتيت بها وأنت موقن بمضمونها، طالب لمستفادها. وشهر رمضان موسم من مواسم الأعمال، ولا شك أن المواسم مظنة إجابة الدعاء، فإذا دعوت الله تعالى بالمغفرة، وبالرحمة، وبسؤال الجنة، والنجاة من النار، وبالعصمة من الخطأ، وبتكفير الذنوب، وبرفع الدرجات، وما أشبه ذلك ودعوت دعاءً عاماً بنصر الإسلام، وتمكين المسلمين، وإذلال الشرك والمشركين، وما أشبه ذلك، رُجي بذلك أن تستجاب هذه الدعوة من مسلم مخلص، ناصح في قوله وعمله. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء وبسؤال الجنة، وبالنجاة من النار؛ وذلك لأنها هي المآل. أما الاستغفار فيقول الله تعالى: ((كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون)) (الذاريات:17-18) .

وقد تتعجب: من أي شيء يستغفرون؟ أيستغفرون من قيام الليل؟ هل قيام الليل ذنب؟ أيستغفرون من صلاة التهجد؟ هل التهجد ذنب؟ نقول: إنهم عمروا لياليهم بالصلاة، وشعروا بأنهم مقصِّرون فختموها بالاستغفار، كأنهم يقضون ليلهم كله في ذنوب. فهذا حال الخائفين؛ إنهم يستغفرون الله لتقصيرهم. ويقول بعضهم: أستغفر الله من صيامي طول زماني ومن صلاتي صوم يرى كله خروق وصلاة أيما صلاة فيستغفر أحدهم من الأعمال الصالحة، حيث إنها لابد فيها من خلل، ولذلك يندب ختم الأعمال كلها بالاستغفار، بل بالأخص في مثل هذه الليالي. وقد جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان: "فأكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى لكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فلا إله إلا الله، والاستغفار. وأما الخصلتان اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتستعيذون من النار" (سبق تخريجه) . رواه ابن خزيمة كما سبق. فهذا ونحوه دليل على أنك متى وفقت لعمل فغاية أمنيتك العفو، وتختم عملك بالاستغفار. إذا قمت الليل كاملاً، فاستغفر بالأسحار، كما مدح الله المؤمنين بقوله: ((وبالأسحار هم يستغفرون)) (الذاريات:18) . فإذا وُفِّقت لقيام مثل هذه الليالي، فاطلب العفو، أي اطلب من ربك أن يعفو عنك، فإنه تعالى عفوّ يحب العفو. والعفُوُّ من أسماء الله تعالى، ومن صفاته وهو الصفح والتجاوز عن الخطايا وعن المخطئين. الخاطرة الثامنة: الفرح بالعيد لتخلصهم من رمضان

يعتقد كثير نم الناس أن شرعية العيد بعد رمضان عبارة عن الفرح بخروجه والتخلص منه، لأنه يحول بينهم وبين ملذاتهم ومشتهياتهم، ويفطمهم عن عاداتهم النفسية التي مرنت عليها نفوسهم، واعتادتها أهواؤهم طوال العام، فهم يعتبرونه شهر جبس وحيلولة بينهم وبين ما يشتهون، وقد يستشهد بعضهم بقوله تعالى: ((وحيل بينهم وبين ما يشتهون)) (سبأ:54) . قال ابن رجب في لطائف المعارف في الكلام على النهي عن صوم آخر شعبان قال: ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام، ولهذا يقولون هي أيام توديع للأكل، وتسمى تنحيساً واشتقاقه من الأيام النحسات.. وذكر أن أصل ذلك من النصارى، فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم، وهذا كله خطأ وجهل ممن ظنه، ولربما لم يقتصر كثير منهم على الشهوات المباحة، بل يتعدى إلى المحرمات، وهذا هو الخسران المبين، وأنشد لبعضهم: إذ العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار فإن الوقت ضاق على الصغار وقال آخر: جاء شعبان منذراً بالصيام فاسقياني راحاً بماء الغمام ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه، وله نصيب من قوله تعالى: ((ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها)) (الأعراف:170) الآية، وربما تكره كثير منهم بصيام رمضان، حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه، وكان للرشيد ابن سفيه فقال مرة شعراً: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقدرة عن الشهر لاستعديت جهدي على الشهر فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة، ومات قبل أن يدركه رمضان آخر.

وهؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه، فكثير منهم لا يصلون إلا في رمضان، ولا يجتنب كبائر الذنوب إلا فيه، فيشق على نفسه مفارقتها لمألوفها، فهو يعد الأيام والليالي ليعود إلى المعصية، ومنهم لا يقوى على الصبر عن المعاصي فهو يواقعها في رمضان أ. هـ. هكذا ذكر ابن رجب رحمه الله عن أهل زمانه ومن قبلهم. ولا شك أن الدين يزداد غربة والأمر في شدة، والكثير من هؤلاء الذين يتوقفون ظاهراً عن مألوفاتهم يفرحون بانقضاء الشهر وانصرافه، فالعيد عندهم يوم فرحتهم برجوعهم إلى دنياهم وملاهيهم ومكاسبهم المحرمة أو المكروهة، فأين هؤلاء ممن يحزنون ويستاؤن لانقضاء الشهر؟، بل من الذين يجعلون السنة كلها صياماً وقياماً وعبادات وقربات، ويحمون أنفسهم عن جميع الملذات فضلاً عن المحرمات؟ فالله يرحمهم فما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل الخاطرة التاسعة: يوم العيد هناك من يجعل يوم العيد والأيام بعده أيام لهو ولعب وغناء وطرب، ويجتمع الخلق الكثير ويعملون ولائم وينفقون الأموال الطائلة في إصلاح الأطعمة، ويسرفون في ما يصرفونه من الأموال في اللحوم والفواكه وأنواع المآكل التي يعدونها للمغنين وأهل الزمر واللهو، ويستعملون الضرب بالطبول وإنشاد الأغاني الملحنة الفاتنة، وما يصحبها من التمايل والطرب، ويستمر بهم هذا الفعل بضعة أيام، حتى إنهم يسهرون أكثر الليل ويفوتون صلاة الصبح في وقتها وجماعتها.

ولا شك أن هذه الأفعال تدخل في التحريم، وتجر إلى مفاسد ما أنزل الله بها من سلطان، وتدخل في اللهو الذي عاب الله أهله بقوله تعالى: ((ومن الناس من يشتري لهو الحديث)) (لقمان:6) . وفي الوصف الذي ذم الله به أهل النار بقوله: ((الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا)) (الأعراف:51) . فننصح من يريد نجاة نفسه أن يربأ بها عن هذه الملاهي، وأن يحرص على حفظ وقته فيما ينفعه، وأن يبتعد عن المعاصي والمخالفات، وأن لا يقلد أهل اللهو والباطل ولو كثروا أو كبرت مكانتهم. وقد تقدم إباحة التدرب على السلاح وتعلم الكر والفر وما يعين على الجهاد، كما فعل الحبشة في المسجد في يوم عيد لقصد حسن، وليس معه غناء ولا ضرب طبول ولا قول محرم، والله أعلم. الخاطرة العاشرة: وداعاً يا شهر التوبة ورد في الحديث أن صيام رمضان سبب لمغفرة الذنوب (سبق تخريجه) ، وكذا قيامه (لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري برقم 37 في الإيمان: باب: "تطوع قيام رمضان من الإيمان") ، وقيام ليلة القدر (لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه البخاري برقم35، ومسلم برقم 760) ، والصحيح أن المغفرة تختص بالصغائر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مفكرات لما بينهن، إذا اجتنب الكبائر"رواه مسلم (أخرجه مسلم برقم 233 14، 15، 16 في الطهارة، باب: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة…" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) والجمهور على أن الكبائر لابد لها من توبة.

ثم إن العبد بعد فراق رمضان وقد كُفِّرت عنه سيئاته، يجب عليه أن يحافظ على الصالحات، ويحفظ نفسه عن المحرمات، وتظهر عليه آثار هذه العبادات في بقية حياته، فذلك من علامات قبول صيامه وقيامه وقرباته، فإذا كان بعد رمضان يحب الصلوات ويحافظ على الجمع والجماعات، ويكثر من نوافل الصلاة، ويصلي من الليل ما قدر له، ويُعوِّد نفسه على الصيام تطوعاً، ويكثر من ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره، وتلاوة القرآن الكريم وتدبره وتعقله، ويتعاهد الصدقة، ويصل أرحامه ويبر أبويه، ويؤدي ما عليه من الحقوق لربه وللعباد، ويحفظ نفسه ويصونها عن الآثام وأنواع الجرائم، وعن جميع المعاصي وتنفر منها نفسه، ويستحضر دائماً عظمة ربه ومراقبته وهيبته في كل حال، إذا كان كذلك بعد رمضان، فإنه دليل قبول صيامه وقيامه، وتأثره بما عمل في رمضان من الصالحات والحسنات. ومع ذلك فإن صفة الصالحين وعباد الله المتقين الحزن والأسى على تصرم الأيام الشريفة، والليالي الفاضلة، كليالي رمضان، وهذه صفة السلف الصالح وصدر هذه الأمة رحمهم الله تعالى، فلقد يحزنون لانصراف رمضان، ومع ذلك يدأبون في ذكره، فيدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، ثم يدعونه ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فتكون سنتهم كلها في ذكر هذا الشهر، فهو دليل على عظم موقعه في نفوسهم، ويقول قائلهم: سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن كل أمان لئن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفان لقد ذهبت أيامه وما أطعتم. وكتبت عليكم فيه آثامه وما أضعتم. وكأنكم بالمشمرين وقد وصلوا وانقطعتم. أترى ما هذا التوبيخ لكم؟ أو ما سمعتم قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن؟ ومن ألم فراقه تئن؟ كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع؟ وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع.

شعر: تذكر أياماً مضت وليالياً خلت فجرت من ذكرهن دموع أين حرق المجتهدين في نهاره؟ أين قلق المتهجدين في أسحاره؟ فكيف حال من خسر في أيامه ولياليه؟ ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجل عزاؤه؟ كم نصح المسكين فما قبل النصح؟ كم دعى إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح؟ كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد؟ كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد؟ حتى إذا ضاع الوقت وخاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم. وطلب الاستدراك في وقت العدم. دموع المحبين تدفق. قلوبهم من ألم الفراق تشقق. عسى وقفة للوداع تطفي من نار الشوق ما أحرق. عسى توبة ساعة وإقلاع ترفوا من الصيام ما تخرق. عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق. عسى أسير الأوزار يطلق. عسى من استوجب النار يعتق. لا شك أن شهر رمضان أفضل الشهور، فقد رفع الله قدره وشرفه على غيره، وجعله موسماً للخيرات، وجعل صيامه وقيامه سبباً لمغفرة الذنوب وعتق الرقاب من النار. فتح فيه أبوابه للطالبين، ورغب في ثوابه المتقين. فالظافر من اغتنم أوقاته، واستغل ساعاته، والخاسر من فرط في أيامه حتى فاته. جعله الله مطهراً من الذنوب وساتراً للعيوب وعامراً للقلوب. فيه تعمر المساجد بالقرآن والذكر والدعاء والتهجد. وتشرق فيها الأنوار وتستنير القلوب. فهو شهر البركات والخيرات. شهر إجابة الدعوات. شهر إغاثة اللهفات. شهر الإفاضات والنفحات. شهر إعتاق الرقاب الموبقات. فيه تكثر الصدقات وتتضاعف النفقات ويجود المسلم بما يمكنه من العطايا والهبات. ترفع فيه الدرجات، وتقال فيه العثرات، وتسكب فيه العبرات، فبعده تنقطع هذه الحسنات. فمن قبله الله فهو من أهل الكرامات وأعالي الدرجات في نعيم الجنات، ومن رُدَّ عليه عمله فهو من أهل الحسرات لما فاته من الخيرات. فلا أوحش الله منك يا شهر الصيام والقيام.

ولا أوحش الله منك يا شهر التجاوز عن الذنوب العظام. ولا أوحش الله منك يا شهر التراويح. ولا أوحش الله منك يا شهر الذكر والتسبيح. ولا أوحش الله منك يا شهر المصابيح. ولا أوحش الله منك يا شهر التجارات المرابيح. ولا أوحش الله منك يا شهراً يترك فيه كل قبيح. فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه، ومن المردود منا فنعزيه. فيا أيها المقبول هنيئاً لك، ويا أيها المردود جبر الله مصيبتك. عباد الله: حافظوا على عبادة ربكم بعد هذا الشهر، وإياكم أن تعودوا لما كنتم فيه من الذنوب والخطايا، فإن رب الشهرين واحد، وهو الذي كلفكم وأمركم ونهاكم، فإياكم أن تعودوا لما مضى من التفريظ والإهمال، حتى يمحوا الله عنكم السيئات ويقبل منكم الحسنات، وأكثروا من دعاء الله تعالى والتضرع بين يديه. تنبيهات على أخطاء أو نقائص تقع من بعض الصائمين الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه. 1- عدم تبييت النية للفرض من الليل أو قبل طلوع الفجر وإن كان قد يكتفى لرمضان بنية واحدة. 2- الأكل أو الشرب مع أذان الصبح أو بعده وإن كان بعض المؤذنين قد يتقدمون احتياطاً. 3- تقديم السحور قبل الفجر بساعة أو ساعتين وقد ورد الترغيب في تعجيل الفطر وتأخير السحور. 4- الإسراف من غالب الناس في المآكل والمشارب وهو خلاف ما شُرع له الصوم من الجوع الذي هو سبب الخشوع. 5- التفريط في أداء الصلاة جماعة كالظهر والعصر لعذر الكسل أو النوم أو الاشتغال بما لا يُجدي. 6- عدم حفظ اللسان في نهار الصيام وليله نم اللغو والرفث وقول الزور والكذب والغيبة والنميمة. 7- إضاعة الأوقات الشريفة في اللهو واللعب ومشاهدة الألعاب والأفلام والألغاز والأحاجي والتسكع في الطرقات. 8- التفريط في الأعمال المضاعفة في رمضان كالأدعية والأذكار والقراءة ونوافل الصلوات المؤكدة.

9- ترك صلاة التروايح جماعة مع ورود الترغيب في فعلها مع الإمام حتى ينصرف ليكتب له قيام ليلة. 10- يلاحظ أول الشهر كثرة المصلين والقُرّاء ثم يقع العجز والنقص في آخر الشهر مع أن العشر الأواخر لها مزية على أول الشهر. 11- ترك القيام الذي خصت به العشر الأواخر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد المئزر. 12- السهر ليلة الصيام ثم النوم عن صلاة الصبح فلا يصليها البعض إلا في الضحى، وذلك تفريض في هذه الفريضة. 13- البخل بالمال ومنع ذوي الحاجة مع كثرتهم في رمضان ورغم مضاعفة أجر الصدقات في تلك الأوقات. 14- عدم الانتباه من الكثير لأداء الزكاة المالية كاملة مع أنها قرينة الصلاة والصيام وإن كانت لا تختص برمضان. 15- الغفلة عن الدعاء وقت الصيام وخصوصاً عند الإفطار بتناول الأكل والشرب مع أنه ورد الحديث بذلك وأن للصائم عند فطره دعوة لا ترد. 16- إضاعة سنة الاعتكاف في رمضان وبالأخص في العشر الأواخر مع ورودها في الكتاب والسنة. 17- خروج الكثير من النساء إلى المساجد بلباس الزينة مع التعطر والتطيب مع ما فيه من أسباب الفتنة. 18- التسهيل للنساء ليخرجن إلى الأسواق في ليالي رمضان ومع سائق أجنبي وبلا محرم بدون حاجة غالباً. 19- ترك سنة التكبير في ليلة العيد ويومه قبل الصلاة وفي أيام عشر ذي الحجة مع الأمر به في القرآن. 20- تأخير زكاة الفطر مع أن السنة توجب إخراجها يوم العيد قبل الصلاة وتجوز قبله بيوم أو يومين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الإسلام بين الإفراط والتفريط

الإسلام بين الإفراط والتفريط بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونشكره ونثني عليه ونستغفره ونشهد أن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه ولا رب لنا سواه ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبعد. أفضلية الدين الإسلامي فإن دين الإسلام تعاليمه وسط بين الإفراط والتفريط، وذلك لأن الإسلام ورد وجاء منتظماً لمصالح العباد وكمله الله تعالى وجعله أتم وأكمل ما يرام وضمنه كل مصلحة يأمر بها وينهى عن كل ما يضر، فلا جرم إن كان هذا الدين هو الدين الذي فطر الله العباد على استحسانه والميل إليه. فالله تعالى اختاره لنا دينا فقال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) ، أي اختاره ورضيه ديناً للعباد يدينون به ويتقربون به إلى ربهم، وأخبر أنه هو الدين الحق لا سواه، فقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) أي هو الدين الصحيح، وما سواه من الأديان فإنها منسوخة، فالأديان السماوية السابقة قد نسخها هذا الدين، وحل محلها وتضمن ما فيها من العبادات والمعاملات الملائمة فقام مقام كل ما سبقه من الأديان. وزاد على ذلك بما هو مناسب وملائم لحال العباد والبلاد. وأخبر الله سبحانه أن من تركه وخالفه فهو خاسر تائه ضائع، فقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) ، وذلك لأن هناك ما يسمي أدياناً يدين بها من يعتنقها ويعتقدها من عباد الله ويزين لهم الدعاة إلى تلك الأديان أنها أديان حقة صحيحة ملائمة مناسبة، ولكن عند التأمل والتعقل يتضح أنها باطلة وأن الذي شرعها ودعا إليها هو الشيطان الرجيم.

فهناك من يدين الآن بدين النصارى، ولا شك أن الدين المسيحي كان ديناً سماوياً، ولكنه مؤقت، حيث إن المسيح بن مريم عليه السلام رسالته مؤقتة بنبوة وبإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي بشر به في قوله: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) . وقد أخذ الله الميثاق عليه، بل وعلى كل الأنبياء أن يتبعوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) . قال ابن عباس: "ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد وهم أحياء أن يتبعوه ويؤمنوا به وينصروه". وثبت أيضاً أن دين النبي موسى الذي يدين به أتباعه من اليهود سابقاً كان ديناً سماوياً اختاره الله وفضله في ذلك الوقت لكنه مؤقت أيضاً بإرسال هذا الرسول النبي الكريم فثبت أن ذلك الدين منسوخ منذ أن بعث محمد، مع أن تلك الأديان التي هو دين اليهودية والنصرانية قد دخلها بعد أنبيائهم الكثير من التحريف والتغيير والتبديل. وما ذاك إلا أن الله تعالى استحفظهم كتبها ومراجعها، وتضمن حفظ شريعتنا بنفسه، فقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) . فتكفل الله بحفظ هذه الشريعة أن يدخلها شيء من الزيادة والتغيير. وأما الشرائع التي قبلها فكان حفظها إلى أولئك الحملة، كما في قوله تعالى: (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) ، فجعلهم وكلاء على حفظه، ولم يتكفل بحفظه، فكان ذلك سبباً في وقوع تلك التحاريف والتغييرات والتبديلات في الشرائع السماوية مما جعلها غير ملائمة ومناسبة. وبعد أن بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكمل الله له هذا الدين وأصبح الدين الباقي، أصبح الدين السماوي الذي لا يلائم العباد سواه.

وهكذا كل ما هناك من الأديان الباطلة المضلة قد نهى عنها دين الإسلام أو حذر منها، فإن الإسلام جاء وهناك دين أهل الوثنية الذين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله ويعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم عند الله، ويصرفون لها خالص حق الله، فلما جاء الإسلام نهاهم عنها نهياً صريحاً، وحذرهم من التعلق بتلك الأوثان وأمرهم أن يعبدوا الله وحده، فجاء بنسخ عبادة ما سوى الله من نبي أو ولي أو صالح أو قبر أو حجر أو مدر أو غار أو صخرة، أو شجر، أو بقعة، أو غير ذلك مما يعظم أو يصرف له شيء من خالص حق الله، فهذا دين باطل، أي دين الوثنية، جاء الإسلام بنسخه والقضاء عليه. وهناك أديان انتشرت في هذه الأزمنة وكثر الذين يعتنقونها مع كونها باطلة. فتجد هناك ديناً يتسمى أهله بـ"البوذيين"، وهم على عقيدة رجل يسمى "بوذا"، زينت له نفسه أنه على حق، فابتدع واخترع أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، في العقائد وفي الأعمال، ومع ذلك استمرت عقيدته وانتشرت منذ عدة قرون، ولا تزال تلك العقيدة الباطلة هناك من يدين بها ويقدسها ويعظم معلوماتها وما تضمنته. وهناك ديانات منتشرة في كثير من البلاد، كالهندوس ونحوهم الذين يعبدون أوثاناً، أو معبودات سوى الله تعالى فهم داخلون في الوثنية. وهناك ديانات منحرفة زين الشيطان لأربابها أنهم على خير فصاروا يدينون بها يُغَرّون بها بأنها مُسَلَّمة لكل عاقل كعقيدة سيئة منتشرة في المشرق يقال لها "القاديانية" ونحوها. هذا من حيث الأديان الباطلة التي تخالف الإسلام كلياً. وهناك من ينتسب إلى الإسلام، ولكن لم يتحقق منه وصف الإسلام، ولا الحقيقة المطلوبة من دين الإسلام. فمثل أولئك أيضاً على ضلال مع كثرتهم، وكثرة من يدين بدياناتهم. والإسلام براء منهم، وهم بعيدون من تعاليم الإسلام.

فمن ذلك عقيدة الباطنية، الذين يجعلون للأعمال باطناً غير ظاهرها. فللعبادات وللعقائد عندهم باطن، ويعتقدون أن الشرع يريد أشياء غير هذه الظواهر. وهذه العقيدة الباطنية من أكفر الكفر وأضل الضلال لأنهم يخالفون الشرع في تعاليمه وفي اعتقاداته. وقد بقي على معتقدهم كثير من الفئات التي لا تزال موجودة إلى اليوم، يدينون بتلك العقيدة السيئة، كعقيدة الدروز الذين يوجدون في كثير من البلاد العربية المجاورة، وعقيدة النصيرية الذين يدينون بهذه العقيدة الباطنية. فمثل هؤلاء ولو تسموا بأنهم مسلمون، فإنهم ليسوا حقاً من المسلمين المطبقين لشعائر الإسلام، ولأجل ذلك نقول إن الإسلام الحقيقي هو الاعتراف بالله إلهاً ورباً وخالقاً، والديانة له بالعبادة، كما فسره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، حيث يقول: "الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك، وأهله". فبين رحمه الله أن المسلم حقاً هو المذعن المنقاد المتذلل الذي متى علم أن هذه الخصلة من الإسلام أذعن لها واتبعها ولم يتخلف عنها. ومتى علم أن الإسلام حرم أو نهى عن هذه الخصلة ابتعد عنها وأذعن لله تعالى بتركها، هذا حقاً هو المسلم. ونحمد الله أن حفظ علينا شعائر ديننا. فجميع المحرمات أدلتها موجودة في الشريعة، في الكتاب والسنة، وجميع الواجبات والعبادات المشروعة أدلتها موجودة أيضاً في الكتاب والسنة، فلسنا بحاجة إلى تحكيم العقول، ولا إلى أن نزن بأهوائنا ما يرفع إلينا وما يسوغه لنا أولئك الأعداء الذين يجعلون أهواءهم هي الميزان الحق فما وافق أهواءهم اتبعوه وشرعوه.

فإذا كان الإسلام قد تضمنته الشريعة، وأدلتها واضحة صحيحة فليس للمسلم أن يدين بأية قربة أو طاعة إلا بعد أن يثبت له دليلها. وليس له أن يحرم أية خصلة إلا بعد أن يتحقق دليلها من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد تكفل الله سبحانه ببيان هذا الدين وجعله كاملاً، فأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته: (اليوم أكملت لكم دينكم) . وكماله احتواؤه علي كل خير، ونهيه عن كل شر. ولقد بين وكمل تعاليمه وتفسيره. وإيضاح معانيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كلفه الله أن يبين للناس هذا الدين، فقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) ، أي لتوضح لهم بالأمثلة والإيضاح التام ما أجملت أحكامه في القرآن، فإذا بينه النبي صلى الله عليه وسلم بأفعاله كان هذا البيان من الله تعالى: لأنه وحي وتشريع. فجاء هذا الإسلام بحمد الله بكل ما فيه خير ومصلحة، ونهى عن كل ما فيه شر ومضرة. كما روي عن بعض العقلاء من الأعراب لما دخل في الإسلام لأول دعوة ولأول ما عرض عليه فقال: "إني تأملت ما جاء به محمد فرأيته ما أمر بشيء وقال العقل: ليته نهى عنه وما نهي عن شيء وقال العقل: ليته أمر به" والمراد هنا العقول السليمة والفطر المستقيمة، فإنها تشهد بحسن هذا الدين، وباحتوائه على كل خير، وبزجره عن كل شر. وتشهد بمطابقته وملاءمته للمصالح، واحتوائه على كل ما ينظم الحياة تنظيما حقاً كاملاً صحيحاً، فكان ذلك هو السبب الذي اختاره الله لهذه الأمة، التي هي خير أمة أخرجت للناس، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل والضلال، إلى نور الحق والإيمان، فكان حقاً على عباد الله الذين هداهم الله وأقبل بقلوبهم إلى طاعة، وصدقوا الرسول الذي جاء به، كان حقاً عليهم أن يطبقوه أتم تطبيق، وأن يعملوا به، وأن يكونوا في العلم به عارفين بأحكامه، ومقاصده، غير زائدين فيه، ولا مضيفين إليه ما ليس منه، وغير

مقصرين في شيء منه، ولا مخلين وناقصين بشيء من تعاليمه. وهذا معنى كون دين الإسلام وسطاً بين الأديان، فإنه وسط بين الأديان السابقة، وعقيدته السلفية وسط بين العقائد، وعبادته وقرباته، وأداؤها الحق وسط بين الإفراط والتفريط. فلما أن علم الله أن من أهل تلك الأديان قد غلوا وزادوا وتجاوزوا الحد، وأن بعضاً منهم قصروا وجفوا جاء بهذا الإسلام في وضع متوسط، لا إفراط ولا تفريط. أمثلة على وسطية الإسلام بين الأديان السابقة ولنأت على ذلك بأمثلة في الأديان، وفي العقائد، وفي الأعمال، حتى يتضح بذلك كون دين الإسلام وسطاً، لا إفراط، ولا تفريط. فمثلاً عقائد أو أديان من قبلنا من الأمم، منهم من غلا، ومنهم من جفا، وجاء الله بالإسلام فجعله بين هؤلاء وهؤلاء.

ففي شريعة اليهود اعتقادهم في عيسى أنه ولد بغي، وأن أمه زانية حيث رموها ببهتان، كما قال الله تعالى: (وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً) . جاءت النصارى فزادوا وغلوا فرفعوه عن طوره، وأعطوه ما لا يستحقه، فحكى الله عنهم أنهم قالوا: (إن الله هو المسيح بن مريم) ، وحكى عنهم أنهم قالوا: (المسيح ابن الله) ، وكذلك كفّر من قال إن الله ثالث ثلاثة، يعني الله وعيسى وأمه، كما في قوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وقال تعالى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) ، جاء الإسلام فتوسط، لا إفراط ولا تفريط، فالإفراط كان من الذين زادوا وقالوا: هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، وأهل التفريط الذين قالوا: إن المسيح ابن بغي، بل شهد الإسلام بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وجعله رسولاً كسائر الرسل، كما في قوله تعالى: (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة، كانا يأكلان الطعام) . فشهد له بأنه رسول، وأقر، أو حكى كلامه في قوله تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل: إني رسول الله إليكم) ، فهو رسول كسائر الرسل. وهذا هو القول الوسط، لا إفراط ولا تفريط. وهكذا أيضاً في الأعمال، دين اليهود ودين النصارى بينهما تفاوت، ففي بعض الأديان الإفراط، وفي بعضها التفريط، فعندنا مثلاً، أن اليهود يرون الطلاق ولا يرون الرجعة، فمن طلق زوجته فلا رجعة له عليها، وأن النصارى يرون أن لا طلاق، فمتى عقد للمرأة على الإنسان فلا طلاق، ولا يحل له الطلاق، وجاء الإسلام فتوسط فجعل للإنسان أن يطلق متى شاء، وأن يراجع بعد التطليقة الأولى وبعد الثانية، وهكذا، وذلك من أجل أن الإنسان قد يستعجل في أمر يبدو له أن يتلافى ذلك بعد حين، ولهذا فالإسلام توسط بين هؤلاء وهؤلاء.

وكذلك في الأعمال نرى أن اليهود كانوا يرون أن القصاص حتم وليس هناك مجال للعفو، وأن النصارى يرون العفو حتما، وجاء الإسلام بالتخيير، تخيير ولي المقتول بين القصاص وبين العفو وأخذ الدية أو العفو مطلقاً، فصار متوسطاً، لا إلزام بالعفو، ولا إلزام بالقصاص، بل متوسط بينهما. وهكذا توسطه في المُجازاة ونحوها. فالله أباح للناس المجازاة على الأعمال بمثلها في قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) . فجعل الإنسان يباح له أن يعاقب من اعتدى عليه، كما في قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ، بالمثل فقط، لا بالزيادة. ولكنه فضل الصبر بقوله: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) ، ولكن دين النصارى يأمر الإنسان بأن يعفو، وأن لا ينتصر، ولا ينتقم لنفسه أبدا. ودين اليهود يحكم عليه بأن يستوفي وأن يقتص، فالإسلام جاء بهذا الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. أمثلة على وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق المختلفة وبعد أن رأينا هذه الأمثلة في الأديان السابقة نأتي إلى أمثلة من العقيدة السنية لهذه الأمة. وذلك لأن الذين دخلوا في الشريعة الإسلامية قد اختلط وامتزج بهم من ليس بمحقق في الاتباع، ودخل في العقيدة وفي الإسلام من ليس منهم وانحرفت بهم الطرق وتفرقت بهم السبل. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وسئل من تلك الواحدة فقال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وإذن فعقيدة أهل السنة والجماعة هي العقيدة السلفية وهي العقيدة السنية، وهي الشريعة المحمدية والملة الإبراهيمية التي هدى الله إليها هذه الأمة. إذا نظرنا في هذه العقيدة وإذا هي وسط، لا إفراط فيها ولا تفريط. وسط في العقائد الكثيرة. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن أهل السنة وسط في فرق هذه الأمة، كما أن الأمة وسط بين الأمم.

فهم وسط في باب القضاء والقدر بين المجبرة وبين القدرية. وذلك لأن هناك فرقتين رائغتين في باب القدر: إحداهما قد غلت وأفرطت وزادت. والأخرى قد فرّطت. ففرقة تقول إن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله، وليس لله قدرة على هداية ولا على إضلال. وهؤلاء قد أشركوا. وفرقة جعلت العبد مقسورا ومجبوراً، وليست له اختيارات أبدا وعذرته بذلك. وجاء أهل السنة فتوسطوا وجعلوا له اختياراً، ولكن اختياره مربوط بمشيئة الله، (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) ، فهذا توسطهم في باب القدر. هناك أيضاً توسطهم في باب أسماء الإيمان والدين. وذلك لأن هناك فرقتين منحرفتين، إحداهما قد فرّطت، والأخرى قد أفرطت. فمنهم المفرطون الذين يجعلون الأعمال ليست من الإيمان، وعندهم من صدّق بقلبه ولو لم يعمل فهو مؤمن كامل الإيمان. وآخرون كفّروا بترك الأعمال. فجاء المسلمون من أهل السنة فتوسطوا، فلا إفراط ولا تفريط. فجعلوا الإنسان يستحق اسم الإيمان واسم الإسلام ولو كان معه شيء من الذنوب، وشيء من المعاصي، فلم يخرجوه من الإسلام بالكلية كالخوارج وكالمعتزلة الذين يكفرون بكل ذنب. فمن أذنب أخرجوه من الإسلام، وخلدوه في النار، والعياذ بالله. ولم يكونوا كطائفة أهل الإرجاء الذين يجعلونه كامل الإيمان ويبيحون له الاستكثار من المعاصي ويعتقدون أنها لا تضر. بل لا إفراط ولا تفريط. نحن نقول: إن المعاصي لا تخرج العبد من الإيمان، ولكن عليه منها ضررا، فإنها قد تجتمع على العبد فتهلكه إلا أن يعفو الله عنه ولا يخلد في النار، ولكن يستحق دخولها ويعذب بقدر سيئاته إذا كان من أهل العقيدة وأهل الإسلام ولكن معه ذنب، فتوسط أهل الإسلام وأهل العقيدة السلفية فلم يكفروا بالذنوب كالخوارج، ولم يجعلوا المذنب كامل الإيمان كأهل الإرجاء. بل جعلوه مؤمنا ناقص الإيمان، وقالوا: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.

وهناك أيضاً توسط في الصحابة، بل وفي غيرهم من أولياء الله. ونبدأ بالتوسط في الصحابة، فنقول: إن هناك طائفتين في الصحابة منحرفتين، إحداهما قد فرطت، والأخرى قد أفرطت. وأهل السنة وسط بينهما، لا إفراط ولا تفريط. ففي الصحابة، بل وفي أهل البيت خاصة فرقتان، فرقة تكفرهم وتستبيح دماءهم، ويقال لهم النواصب الذين نصبوا العداوة للصحابة وأخرجهم من الإسلام. وفرقة تغلوا فيهم وتجعل عليا هو الله، أو هو الرسول أو أحق بالرسالة، وتعبده وتعبد ذريته من بعده من دون الله. وهذه الفرقة هي الرافضة الذين يتسمون بأنهم شيعة علي، يعني أنصاره. وكذبوا فليسوا بشيعته، بل هم أعداؤه وأعداء سيرته وطريقته. وأهل السنة توسطوا لا إفراط ولا تفريط. فقالوا: إن علياً وأولاده وأهل بيته لهم حق الولاية والصحبة والإسلام والأسبقية والقرابة، ولكن لا نفضلهم على الخلفاء الذين قبل علي، ولا نغلوا فيهم أو نمدحهم بما ليس فيهم، بل لهم هذا الشرف والقرابة ولا يستحقون أو يوصفوا بما لا يستحقونه هم ولا غيرهم، سواء من حق الله أو من حق الرسول عليه الصلاة والسلام. فلم يزيدوا ويغلو كغلو الرافضة الذين جعلوا علياً إلهاً، حتى قال بعضهم: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين، وحيدرة يعني علياً، وبعضهم يدعي أنه أولى بالرسالة، ويزعم أن جبريل عليه السلام خان الأمانة، وكان قد أرسل إلى علي فأوصل هذه الرسالة إلى محمد. فهؤلاء قد زادوا وغلوا. وجاء الطائفة الثانية الذين كفروا وسبوا علياً ومن معه وأخرجوهم من الإسلام فجفوا، وجاء أهل السنة فكانوا وسطاً يبن الغلو والجفاء، بين الإفراط والتفريط، فجعلوه صحابياً جليلاً، سابقاً، من السابقين الأولين له قرابته وله صهره، وله أفضليته، ولكن لا نعطيه حقاً من حقوق الله، ولا حقاً من حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نغلو فيه فوق ما يستحقه هو أو غيره من حق الله.

وهكذا أيضاً توسطهم في الأولياء والصالحين، وذلك أن هناك، طائفتين متطرفتين في أمر الأولياء طائفة قد غلت، وطائفة قد جفت. فالطائفة الذين غلوا هم الذين يعبدون الأولياء. فالولي عندهم هو الرجل الصالح الذي قد حصل له من القرب ومن الصلاح ما جعله محبوباً عند الله وأنه ولي من أولياء الله يجري الله على يديه من خوارق العادات ما لم يجره على يدي غيره. فقالوا: هذا الولي يستحق منا أن نقدسه، فصاروا في حياته يغلون فيه، فيتمسحون به وبثيابه ويتبركون بما مسه بالنعل وبغيره، وساروا بعد موته يعكفون عند قبره، ويتمسحون بقبره، ويصلون عنده، ويعتقدون أن للصلاة عنده مزية وفضيلة، وأنه يشفع لهم في تكفير سيئاتهم وفي قبول صلواتهم وفي مضاعفة حسناتهم فيعملون عند قبره من الأعمال ما لا يصلح أن تكون إلا لله وحده. فهؤلاء قد غلوا وتجاوزوا حدهم وطورهم.

والطائفة الثانية هم الذين لا يرون لعباد الله الصالحين قدرا، ولا يقيمون لهم وزنا، فلا يحبونهم، ولا يتبعونهم، ولا يقتدون بهم، ولا يتبعون سيرتهم، ويحقرون شأنهم، ويحتقرونهم في أعمالهم، ويعتقدون أنهم -كما يعبرون- أهل تشدد أو أهل جمود، أو أهل رجعية أو تقهقر، أو ما أشبه ذلك من عباراتهم السيئة، فهؤلاء قد فرطوا، وأولئك قد أفرطوا وزادوا، فجاء أهل السنة فتوسطوا في باب أمر أولياء الله تعالى، فقالوا: نحن نحبهم، لأن الله تعالى يحبهم، بل ونحب كل من يحبه الله من الصالحين والمؤمنين والأتقياء، ولكن محبتنا لهم لا تصل إلى أن نتمسح بتربتهم، ولا تصل المحبة إلى أن نصرف لهم شيئاً من حق الله، أو أن نذبح لهم أو أن نطوف بأضرحتهم، أو ندعوهم مع الله أو دون الله. بل محبتنا لهم تستدعي أن نبحث عن سيرتهم وسنتهم فنعمل بها، حتى نكون مثلهم، فإذا رأينا أنهم يتهجدون بالليل تهجدنا، وإذا ذُكِرَ لنا أنهم يكثرون من القراءة والخشوع أكثرنا من ذلك، وإذا كان من سيرتهم أنهم يدعون الله ويرغبون إليه دعونا الله كذلك، وإذا كانوا يذكرون الله على كل حال ذكرنا الله كذلك، حتى نكون أولياء كما كانوا أولياء، فإنهم بشر كما نحن بشر، فكيف نسمح لأنفسنا أن نكون دونهم، بل نحبهم وتحملنا محبتهم على أن نعمل بعملهم، وأن نصلح من أعمالنا ما أصلحوه، فكلهم نحبهم وتحملنا محبتهم على أن نقتدي بأفعالهم. فإذا كنا كذلك فإننا متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء، لا إفراط ولا تفريط. فهكذا جاء دين الإسلام فالذين غلوا وزادوا وقعوا في الشرك، وذلك لأنهم عظموا هؤلاء المحبوبين، وجعلوا لهم شيئاً من حق الله أو صرفوا لهم ما لا يصلح إلا لله. فإن التعظيم عبادة والعبادة لله وحده، لأن العبادة هي التذلل، فإذا كانوا يتذللون عند تلك الأضرحة ويخضعون ويخشعون، فذلك عبادة. وإذا كانوا يذبحون لها وينذرون فذلك تعظيم وعبادة، وإذا كانوا يدعونهم ويهتفون بأسمائهم فإن الدعاء مخ

العبادة. وإذا كانوا يتمسحون ويطوفون بقبورهم ويطيلون الإقامة فإن ذلك تعظيم وذلك حقيقة العبادة. فهؤلاء: الذين غلوا قد أصبحوا بغلوهم مشركين حيث أشركوهم مع الله، مع أنهم لا يرضون أن يشرك بهم. فالمسيح عليه السلام بريء من شرك من أشرك به، وهكذا كل من عبد من دون الله، وهو لا يرضى بريء من شرك من أشرك به، وفي يوم القيامة لا بد أن يتبرؤوا منهم، ويقولون: نحن برآء من أفعالهم، كما قال تعالى عن الملائكة: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا سبحانك، أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن، أكثرهم بهم مؤمنون) . فأخبروا بأنهم -ولو كانوا عبدوا الملائكة - ما رضوا بذلك منهم ولا أحبوا ذلك. وإنما الشياطين والجن هي التي سولت لهم وزينت لهم أن يعظموهم وأن يعبدوهم وأن يؤمنوا بهم. وإلا فأنبياء الله ورسله وأولياؤه والصالحون من عباده بريئون من شرك من أشركهم مع الله سبحانه وتعالى. وبالجملة فإن المسلمين أهل العقيدة السلفية قد توسطوا في أولياء الله فأحبوهم محبة قلبية، وحملتهم محبتهم على أن تتبعوا أخبارهم ودونوا سيرتهم ونظروا في الأشياء التي كانوا يعملونها، فعرفوا أنهم ما صاروا صالحين إلا بسبب زهدهم في الحرام وبعدهم عنه، وتقربهم إلى الله بأنواع القربات، فقالوا: هذا هو سبب صلاحهم فلماذا لا نفعل كفعلهم حتى نكون مثلهم؟ حتى نصلح كما صلحوا، حتى نكون أولياء الله كما كانوا أولياء الله يحبهم الله تعالى ويوفقهم ويعينهم، فنفعل الأفعال التي أحبهم الله من أجلها حتى يحبنا كما أحبهم، وحتى يعيننا كما أعانهم ويهدينا كما هداهم. هذه عقيدة السنة. أمثلة من الوسط في الأعمال والعبادات

هذا كله فيما يتعلق بالعقيدة وبعد ذلك لا بد أن نذكر أمثلة من الأعمال. وذلك لأن هناك أيضاً أعمالاً من الشريعة الإسلامية جاء الإسلام فيها بطريقة حسنة فأدخل الشيطان على بعض الناس الغلو والإفراط والزيادة، وأدخل على بعضهم التقصير والتفريط والنقصان. وذلك كله وسوسة من الشيطان وتسويل لهم، حتى لا يفعلوا الدين كما جاء. ونبدأ بمبادئ العبادة. فنبدأ مثلاً بالطهارة. فإن الطهارة عبادة شرعية، أمر الله بها ولكن يفعلها عباد الله فعلا متوسطاً، لا إفراط ولا تفريط. وهناك طائفتان في الطهارة متطرفتان، إحداهما قد غلت، والأخرى قد جفت. فالذين غلوا هم الذين زادوا في الطهارة ما ليس منها وتشددوا فيها تشددا زائدا، حتى زهدوا فيما نقل لهم من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن كيفية تطهره ووضوئه واغتساله وغير ذلك، واعتقدوا أن ذلك لا يطهر فزادوا وغلوا. فجاء الإسلام بالأمر الوسط. لا إفراط هؤلاء الذين غلوا في الطهارة، ولا جفاء أولئك الذين لا يبالغون ولا يسبغون الطهارة ولا يتمونها. كلا الطائفتين منحرفتان. الطائفة الذين غلوا ترى أحدهم يتوضأ بصاع أو بصاعين، وترى أحدهم يغسل وجهه خمسا أو عشرا ويرى أنه ما طهر، ويغسل يديه مرارا قد تتجاوز العشر. وكذلك الاغتسال، ربما يغتسل نصف ساعة، وربما ساعة، وربما ساعتين، كما حدثني بعضهم أنه يقيم في مزاولة الاغتسال ساعتين. وكذلك في الوضوء مدة طويلة. وهكذا أيضا في باب النجاسة، في باب إزالة النجاسة، فترى أحدهم إذا وقعت عليه نجاسة لا يكتفي بغسلها مرتين أو ثلاثا مع زوالها، بل ربما غسلها عشرا، أو أكثر من عشر وربما حك جلده حتى يخرج الدم.

وهكذا في باب الاستنجاء الذي هو غسل أثر البول والغائط، وأكثر ما قيل إنه يغسل سبع مرات وفي حديث ضعيف مذكور في شرح الزركشي عن ابن عمر: أمرنا بغسل الأنجاس سبعا. ولكن تجد أحدهم يغسله عشرات المرات، ويصب على فرجه عددا من الغرفات وكل ذلك من الغلو والزيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان. ولا شك أيضاً أنها وسوسة من الشيطان ليمل العبد من العبادة. وذلك لأنه متى دام على هذا التطهر الشديد برهة من الزمان، كسنة أو سنتين، مل وضجر واستثقل العبادة، وربما ترك الصلاة لاستثقال الطهارة، كما حدثني أناس وقع بهم ذلك الفعل أنهم لما كان أحدهم لا يتوضأ إلا في ساعتين قال: كيف أصلي هذه الصلوات، فصار يجمع الصلوات الخمس في وضوء واحد، يتوضأ بعد صلاة العشاء فيصلي الصوات الخمس فيكون قد أفرط حيث ترك الصلوات في مواقيتها، لان الشيطان قد ثقّل عليه هذه الطهارة التي لا تستغرق إلا خمس دقائق، أو نحوها، ثقلها عليه حتى يضيع العبادة عليه. وكذلك في باب إزالة النجاسة، فقد يوسوس إليه الشيطان أنه انتقض وضوؤه في الصلاة حتى يقطع الصلاة، أو أن في ثوبه نجاسة ولو قليلا، حتى يترك الصلاة، وحتى يمل منها. وكثير تركوا الصلاة لأجل هذه الوسوسة، لما أن الشيطان ثقل عليهم الطهارة صارت الصلاة ثقيلة عليهم، وشاقة أيما مشقة، فعند ذلك يتركون الصلاة من أجل هذه المشقة. ولو رجع إلى تعاليم الإسلام وإلى ما شرعه لعلم أن هذا ليس من الدين في شيء وأن الإسلام جاء بالسهولة وباليسر، وبالسماحة، وبالبعد عن كل المشقات وكل الصعوبات.

وأما الذين فرّطوا فإنهم أيضا كثير. وسبب تفريطهم أيضاً وسوسة من الشيطان حتى يبطل بذلك عملهم، فترى أحدهم إذا غسل وجهه لا يبالغ ولا يسبغ الوضوء فيبقى في وجهه أشياء لم يأت عليها ماء، وإذا غسل يديه أو رجليه غسل بسرعة ومسح مسحا، ولا يبالي، فكثيرا ما يبقى في بدنه بقع، في رجليه، وفي عقبيه، لا يسبغ ذلك ولا يتعاهد. فهؤلاء ممن فرطوا وجفوا وقصروا في باب الطهارة، وكثيراً ما ننصح هؤلاء أن يسبغوا الوضوء ويتعاهدوه، حيث إن الشرع قد ورد بالأمر بالإسباغ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لما عدد الخصال التي يرفع الله بها الدرجات ويمحو بها الخطايا قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط" رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة. وهكذا أيضاً حثنا أن نتعاهد ما قد ينبو عنه الماء من الجسد ومن القدمين خاصة، في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار". وفي رواية "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار" متفق عليه. فالذين يغسلون غسلا خفيفا ولا يتعاهدون أقدامهم كثيراً ما يكون في مؤخر أقدامهم بقعة لم يمسها الماء، فتبطل بذلك الطهارة. فهؤلاء مفرطون، حيث إنهم نقصوا في الطهارة. أولئك زادوا وغلوا وتجاوزوا، وهؤلاء نقصو وقصروا. ودين الإسلام جاء بالوسط، وهو أن الإنسان يتوضأ وضوءا مسبغا فيكتفي بغسلة واحدة مسبغة كافية للعضو، وإذا زاد غسلة ثانية فهي أفضل، وإذا زاد غسلة ثالثة فهي أفضل منهما. ولا يجوز الزيادة على الثلاث. بل الزيادة على الثلاث تعتبر إسرافا وإفساداً وغلوا، فكيف بالذين يغسلون العشرات، هذا هو التوسط في هذا الباب.

وهكذا نقول في الغسل فإن الاغتسال أيضاً طهارة شرعية أمر الله الإنسان بعد الجنابة أو نحوها أن يغتسل، كما في قوله تعالى: (ولا جنبا إلا عابري سبيل، حتى تغتسلوا) ، وقوله: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) . فالاغتسال هو تعميم البدن بالماء أي غسل البدن كله بالماء، وفيه أيضاً إفراط وتفريط. وفيه غلو وجفاء على حد ما ذكرنا في الوضوء. فإن هناك من يقيم في الاغتسال ساعة أو أكثر. وربما دلك جسده وبالغ في دلكه، حتى أخبرني بعضهم أنه يدلك جسده ويحكه بأظفاره، ويعتقد أن الماء يزل عليه ولا يتبلغه، حتى يخرج الدم من حكه بأظفاره ومبالغته في حك جسده، وهذا بلا شك غلو وإفراط وزيادة ما أنزل الله بها من سلطان. ولا شك أن الشيطان هدفه وقصده أن يمله من هذه العبادة، حتى يضجر ويتركها. وهكذا الذين يكتفون بالمسح، إذا اغتسل أحدهم لا يدلك جسده، بل يمر الماء عليه، ولا يبالي، وهذا أيضاً عليه خلل. وقد عرفنا أن السبب الموقع في هذا هو الشيطان الرجيم الذي هو عدو الإنسان والحريص على أن يبطل عليه أعماله كما يبطل عقيدته، فالشيطان يرى أو يشم قلب الإنسان، فإن رأى تصلباً، ورأى فيه تشددا جاءه من باب الزيادة، وقال له: أنت لا يكفيك مثل ما يكفي غيرك، بل عليك أن تزيد وتبالغ، فإذا توضأ الناس بالمد، فلا تكتف به، بل توضأ بالصاع، أو الآصع، وإذا غسل الناس أيديهم ثلاثا فلا تكتف بسبع ولا بعشر، بل زد عليهم حتى تكون أكثر، ويزين له أن الأجر على قدر النصب وأنه كلما كثر العمل كان الأجر عليه أضعافا مضاعفة. وهذا وسوسة من الشيطان. فالاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وبسنته هو الواجب علينا، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما زاد على ذلك هو محدث، وشر الأمور محدثاتها.

فالذي لا يقنعه ما قنع به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد يعتقد أن الدين الإسلامي ناقص، وأن الرسول ما بلغ البلاغ المبين، وأنه قصر في التعليم، حيث اقتصر على بعض الشرائع، أو على بعض الطهارة أو نحوها. وإذا اعتقد هذا الاعتقاد السيئ وقع -والعياذ بالله- في الانحراف وفي الضلال، فإن اتهام النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحد من الأنبياء بإخفاء شيء من الرسالة، أو بالنقص والتغيير في شيء من أمر الشريعة اعتقاد باطل وضال ومضل يوقع في الخروج -والعياذ باله- من دائرة الإسلام. وقد أوقع الشيطان أيضاً كثيراً من الناس في الوسوسة في الأعمال الأخرى سواء كانت أفعالاً أو طرقاً، فمن ذلك مثلاً الوسوسة في النية في الصلاة فإن الشيطان يغالي عند بعضهم فيقول إنك ما نويت، أو أنت نيتك ليست سليمة أو صحيحة، أو أنت ما استحضرت النية، فلا يزال يوسوس له بأنه ما أتى بالنية المشترطة للعبادة من طهارة أو من صلاة حتى تفوت عليه الأوقات فتنقص عبادته، أو تفوته الصلاة أو تفوته فضيلة الوقت. وهذا بلا شك زيادة على ما حده الله تعالى. وهناك من لا يبالي فيصلي أو يتوضأ بدون قصد صالح، وبدون نية حسنة، ويعتبر هذا أيضاً مقصرا ومخلا بعمل من الأعمال المطلوبة. والوسط في ذلك هو أن ينوي الإنسان بقلبه الطهارة أو الدخول في الصلاة أو نحو ذلك فإذا فعل ذلك فإنه قد نوى، واعتبرت نيته صالحة كافية.

ومما أوقع الشيطان فيه كثيرا من الناس الغلو في القراءة في الصلاة. وأوقع أخرين في الجفاء، فأفرط في القراءة ناس، وفرط في ذلك أناس أخرون. وكذلك في الأذكار وغيرها. فهناك أنا وسوس لهم الشيطان بأنكم لا تحققون القراءة والحروف إلا إذا نطقتم بها على هذا الكيفية، فإذا لم تفعلوا فقد اختلت قراءتكم واختلت أذكاركم وما إلى ذلك. فقد ذكروا أن بعضا منهم يتكلف في النطق بالقراءة حتى إذا أراد أن ينطق بالضاد ونحوها أخرج بصاقه من شدة تكلفه وتشدده، عندما يقول: ولا الضالين، أو المغضوب، يكلف نفسه حتى يخرج لعابه وبصاقه من شدة تكلفه. ولا شك أن هذا ما أنزل الله به من سلطان. وهكذا أيضاً تكلفهم في النطق بالتكبير ونحو ذلك. حتى ربما يخرج الكلمة عن وضعها وما وضعت عليه، فيكرر الكاف ويشددها. فيقول: (الله أكبّر) ، وما أشبه ذلك. وعند قراءة التشهد والتحيات يشدد التاء فيقول: الت الت التحيات، أو نحو ذلك، حتى تخرج الكلمة من وضعها وماهيتها التي وضعت عليها. ولا شك أن هذا تغيير الكلام عن وضعه وعن ماهيته وعما هو عليه.

ولا شك أن الذين يفْرطون في ذلك أيضاً يقصرون. وذلك أن هناك من لا يأتون بالتكبير كما ينبغي فيأتي أحدهم بالكلمة دون أن يحقق حروفها، وكذلك في القراءة، دون أن يحقق حروفها وتشديدها. أما الدين الوسط فهو التوسط في القراءة والتكبير وفي التشهد، وفي سائر أركان الصلاة، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا تقصير. وهو أن تأتي بالقراءة بحروف بارزة ظاهرة يقرؤها اللسان دون تكلف في التشديد، ودون تكلف في المدّ، ودون تقعر وتشدق في تكلف الفصاحة، ودون تساهل في إتمام كثير من الحروف البارزة أو عجلة أو سرعة يختفي معها كثير من الحروف التي حقها الإبراز. بل لا إفراط ولا تفريط. فإذا قرأها قراءة مفهومة مسموعة حروفها ظاهرُ شَدُّها ومَدُّها على ما ينبغي كان ذلك متوسطا لا إلى الجفاء ولا إلى الغلو الذي قد يمل من العبادة ويوقع في تغيير الكلم وتحريفه عن وضعه.

وهكذا أيضاً في العبادات. فالصلاة مثلا إذا نظرنا إلى بعض الأئمة الذين قد يزيدون في الصلاة ويطيلونها إطالة في الأفعال، قد تكون مملة في الأفعال أو في القراءة أو ما أشبه ذلك. فيملون ويضجرون من معهم من المأمومين، ويستثقلون صلاتهم وينفرون منهم. فهؤلاء في طرف، هؤلاء أهل إفراط وغلو وزيادة. وهناك طرف ثان يقصرون ويخلون، وينقرون الصلاة نقراً، ولا يطمئنون في حركاتهم ولا في أفعالها كما ينبغي، فلا تنعقد صلاتهم ولا تكون مجزئة فيكونون سببا في إبطال صلاة من صلى معهم، ولو كثر الذين يرغبون الصلاة معهم. فهؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف، ودين الله وسط، والصلاة المعتدلة متوسطة بين هؤلاء وهؤلاء. فالإمام يراعي حال المأمومين، فلا يطيل إطالة تملهم وتضجرهم، ولا يخفف تخفيفاً يخل بالعبادة فلا يأتي بأركانها ولا بواجباتها المطلوبة، ولا يطمئن فيها الطمأنينة الشرعية. بل الواجب أن يحرص على الاقتداء بالصلاة النبوية في القراءة وفي الأذكار وغيرها. وبذلك يكون متوسطاً بين الغالي والجافي. فهذا مما انقسم فيه الناس فصار أكثرهم في طرفي نقيض، وتوسط دين الحق بين ذينك الطرفين. وهكذا لو تتبعنا كثيراً من الأعمال لوجدناها كذلك. لوجدنا مثلاً أن كثيراً من الناس قد يشقون على أنفسهم ويضجرونها في تحمل كثير من التطوعات التي بها يحرمون الأنفس لذاتها وراحتها التي أبيحت لها وآخرون يقصرون فلا يأتون بشيء منها أصلاً. ودين الله وسط بين ذلك. مثال واقعي

فنذكر من ذلك قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه التي في الصحيح فإنه كان في أول شبابه كثير العبادة، فشق على نفسه، فكان يصوم الشهر كله، فيصوم الدهر، وكان يصلي الليل كله، ويختم القرآن في كل ليلة، في تهجده، وهذا فيه غلو، ومشقة وفيه تعب، يؤدي إلى أنه يفوت عليه حقوقاً واجبة. فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا غلو، وقال: إن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. وهذا لا شك أنه زيادة تُمِل الإنسان من العبادة وتضجره وهناك آخرون لا يعرفون مثل هذه العبادات ولو كانت نوافل. فلا يصلي أحدهم نافلة أصلا، ولا يصوم إلا ما فرض عليه، ولا يأتي بشيء من النوافل، ولا يتقرب بشيء من القربات، وكأنه غافل أو مستغن عن هذه العبادات ونحوها. فلا شك أن هذا في طرف، وذاك في طرف، فالذي كلف نفسه مشقة متطرف شديد التطرف. والذي تساهل في العبادات ولم يأت بشيء من العبادات المسنونة، ولم يتقرب بشيء من نوافلها، أيضاً متطرف غاية التطرف. ودين الإسلام وسط، وهو أن تتقرب إلى الله بقربات لا تكلف بها نفسك ولا تضرها بها ولا تحرمها من حقها، ومن الحقوق الواجبة عليك، وما أشبه ذلك. ولا تنس عبادة الله، ولا تشتغل بالملذات والشهوات عن حق الله، ولا تعط نفسك كل ما تشتهيه من لذة ونوم وشهوة بطن وشهوة فرج، كمأكل ومشرب وملبس، ونحو ذلك، فهذا أيضاً إفراط وتفريط. التوسط في أمور العادات أولاً:-

لك أن تقيس أيها الأخ ذلك في كل شيء، حتى في الأمور العادية، كأمور المأكل والمشرب والملبس وما أشبه ذلك. فإن الإسلام جاء فيها بالوسط. فمثلاً اللباس الذي هو زينة للناس أنزله الله وامتن به على عباده بقوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشا) . وهذا اللباس انقسم فيه الناس ثلاثة أقسام: طرفان ووسط. فتجد الطرف الأول وهم أهل البذخ والإفساد والإسراف قد يكون لباس أحدهم يتكلف بمئات. أو يبلغ الألف أو الألوف من ذكر أو أنثى، وهذا بلا شك إفساد وإسراف، وتبذير للمال في غير حق، ويعتبر إفراطاً وغلوا وزيادة، ولو أنه اقتصد واستعمل ما يكفيه وتصدق بهذا الزائد أو أنفقه في وجه من وجوه الخير لكان خيرا له. بينما هناك طرف آخر قد أنعم الله عليه ورزقه. ولكنه قَصَّر على نفسه. روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه ثياب وسخة، أي بذلة وهوان، فسأله: أليس قد رزقك الله مالاً؟ فقال: بلى. قال: من أي أنواع المال؟ قال: من كل أنواع المال، من الإبل والبقر والغنم والخيل والرقيق. فقال فإذا آتاك الله مالا فلير نعمة الله عليك وكرامته رواه أحمد والنسائي عن أبي الأحوص عن أبيه وسنده صحيح. فكون الإنسان واجدا، وكون الإنسان غنيا ومع ذلك يقصر على نفسه، فيقتصر على ثياب دنسة وسخة متمزقة، قد تبدو منها عورته، يعتبر ذلك تقصيرا وإخلالا. وخير الأمور أوسطها. وهو أن لا يسرف الإنسان في اللباس وأن لا يقصر في اللباس. بل الوسط بين ذلك، لا إفراط ولا تفريط. ثانياً:-

ونقول مثل ذلك أيضاً في المآكل. فتجد كثيراً من الناس يسرفون في الطعام، فيحشدون عند الطعام أصنافاً وأنواعاً من الأطعمة وكلها تذهب ولا تؤكل أو لا يؤكل منها إلا نزر قليل. وآخرين عندهم أموال، ولكن يدفعهم البخل والشح على أن يقصروا على أنفسهم وعلى أولادهم فيبيتون جياعاً، أو لا يأكلون إلا الدنيء الرخيص من الطعام ويحرم أحدهم أهله التلذذ بما أبيح من المأكول والفواكه والأطعمة المتوفرة بخلا وشحا، والأموال عندهم يكدسونها، والوسط الخيار. الدين وسط بين هذا وذاك لا إسراف ولا تقتير، كما في قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) . ثالثاً:-

وهكذا في الإقبال على الدنيا انقسموا إلى ثلاث طوائف، فقسم أكبوا على الدنيا وعظموا شأنها وركنوا إليها وأحبوها، وجعلوا دنياهم أكبر همهم ومبلغ علمهم وشغلوا بها أوقاتهم كلها وغلوا في حبها والتعلق بها وكأنهم قد نسوا الآخرة، بينما هناك آخرون قد زهدوا فيها وانقطعوا عن الاشتغال بأمر هذه الحياة، ولكن زهادتهم أوقعتهم في أنهم تركوا مصالح أنفسهم وانعزلوا عن الناس وعما الناس فيها وأضاعوا من تحت أيديهم، فلم يكتسبوا ما يغنون به أنفسهم وأضاعوا أولادهم دون أن يعطوهم ويكسوهم أو يرزقوهم، وما أشبه ذلك. فهؤلاء أيضا مخلون مقصرون. والأمر وسط بين ذلك. وهو أن الإنسان يطلب من الدنيا الكفاف والقوت، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا" أي لا إفراط ولا تفريط. فلا ينقطع عن الدنيا انقطاعاً كلياً بحيث يضيع نفسه، ويعرض نفسه للحاجة والتكفف وسؤال الناس، ويعرض أهله للجوع والضنك وضيق المعيشة. ولا يجعل همه كله مكباً على الدنيا صارفا فيها هواه وأوقاته وحياته وناسيا آخرته وناسياً الأعمال التي تقربه إلى الله. لا هذا ولا ذاك. بل يشتغل لدنياه بقدر. ويشتغل لآخرته بقدر. ولا يبالغ في محبة الدنيا، المحبة التي تنسيه الآخرة، ولا يبالغ في التقصير فيها، التقصير الذي ينسيه حظ نفسه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لنفسه حقا. فهذا أيضاً مثلٌ للغلو والجفاء، والإفراط والتفريط. رابعاً:-

ومن الأمثلة من هذا القبيل في كثر من المعاملات أن كثيراً من الناس يتعاملون ويتوسعون في بعض المعاملات لا يبالي أحدهم بأية معاملة، سواء كان غشا، أم ربا، أم زيادة على غيره ما أنزل الله بها من سلطان، فمثل هؤلاء قد زادوا وتوسعوا في بعض المعاملات، فأفرطوا وتوسعوا بحيث يظن أنهم لا يعتقدون أن هناك معاملة حراماً، فعندهم الغش، والزيادة على المسلم وإيقاعه فيما يكتسبون من ورائه مالاً كل ذلك جائز ومباح لهم، يبيحون لأنفسهم ما لم يبح لهم الشرع، بينما هناك من تشدد في باب المعاملات فامتنعوا عن أشياء أباحها الله، فامتنعوا عن البيع الذي أباحه الله، وامتنعوا عن الإجارة التي أباحها الله وامتنعوا عن التكسب والعمل الذي أباحه الله، واعتقدوا أن ذلك ممنوع، فوقعوا في التقصير والنقص، وأولئك وقعوا في الزيادة والغلو، والإفراط، وخير الأمور أوسطها، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. الخاتمة وبالجملة نعرف أن السبب الذي أوقع هؤلاء وأولئك في الإفراط والتفريط كما ذكرنا وكررنا هو الشيطان ووسوسته يخرج هؤلاء وهؤلاء من العبادة، وحتى يملهم ويصرفهم عن كثير من العبادات ويثقلها عليهم، ويثقل عليهم المكاسب ونحوها. ويوقع هؤلاء في المحرمات، أو في المشتبهات التي تجر إلى المحرمات، فيحصل أنه أضل خلقاً كثيراً ليصدق على الناس ظنه، كما قال الله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين) .

نسأل الله تعالى أن يبصرنا بالحق الذي هو دين الحق، والذي اختاره الله للأمة ديناً حقاً. نسأل الله سبحانه أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل. ونسأله أن يعيذنا من نزغات الشيطان وأوهامه ووساوسه، وأن يجعلنا ممن أنار قلوبهم بطاعته وبصرهم بالحق ودلهم عليه ورزقهم الهدى والاستقامة والسلوك إلى الصراط السوي الذي يؤدي بهم إلى النجاة في الآخرة، والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

كتاب الإرشاد

كتاب الإرشاد مقدمة معد الكتاب إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فهذا شرح نفيس ميسر لكتاب لمعة الاعتقاد للإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله ابن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله، شرحه فضيلة شيخنا العلامة الدكتور: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله تعالى وأمد في عمره، أقدمه لطلاب العلم بعد أن تمت مراجعته من قبل شيخنا -حفظه الله تعالى- فصححه ونقحه وأضاف إليه ما يحتاج من زيادات فخرج بهذه الصورة التي آمل أن يجد فيها قارئه ما يفيده، وكان هذا الكتاب في الأصل عبارة عن دروس ألقاها فضيلة الشيخ في الدورة العلمية لعام 1415هـ بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقمت بتفريغ الأشرطة وكتابتها، ومن ثم عرضتها على فضيلته وقرأتها عليه فشجعني على تقديمها لإخواني طلاب العلم للاستفادة منها. أسأل الله أن يوفقني لما فيه الخير والصواب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. عملي في الكتاب: 1- فرغت الأشرطة التي تم تسجيل الدروس عليها وكتبتها بخط اليد وذلك بمساعدة بعض الإخوان فجزاهم الله خيراً. 2- قمت بقراءة جميع الشرح على فضيلة الشيخ بمنزله العامر بالرياض، كما قرأ -وفقه الله- الصورة النهائية التي اعتمدت في الكتاب والتي بين أيدينا نسختها الآن. 3- في الطباعة وضعت المتن بعد كلمة (قوله) والشرح بعد كلمة (شرح) لأسهل على القارئ الكريم التفريق بين المتن والشرح. 4- رقمت الآيات فوضعت بجانب كل آية اسم السورة ورقم الآية.

5- إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإنني أقتصر في التخريج على ذلك، أما إذا لم يكن موجوداً فيهما أو في أحدهما فإنني أبحث عنه في سنن أبي داود والترمذي، ثم بعد ذلك فيما يتيسر من كتب الحديث أو غيرها. 6- وضعت مقدمة للكتاب كما وضعت خاتمة له. 7- قمت بفهرسة الموضوعات فقط ولم أقم بفهرسة الآيات والأحاديث والآثار والأسماء والكنى لعدم الإطالة وتضخيم الكتاب أكثر مما يجب. 8- اعتمدت في الطباعة بالنسبة للمتن (لمعة الاعتقاد) على الطبعات الآتية وهي: أ- طبعة دار الهدى بالرياض بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط. ب- طبعة مكتبة ابن تيمية بالقاهرة ومكتبة العلم بجدة بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط. ج- طبعة دار الصميعي بالرياض (تعليقات على لمعة الاعتقاد) وهي عبارة عن أسئلة وأجوبة على اللمعة لفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن جبرين وفقه الله. وما عملت في هذا الكتاب فهو جهد المقل وعمل العاجز، وما ورد فيه من تمام فمن توفيق الله، وما فيه من تقصير فمن نفسي وأستغفر الله منه. أسأل الله الكريم العظيم أن ينفع بشرح هذا الكتاب كما نفع بأصله وأن يجزي شيخنا الكريم عني خير الجزاء وأن يجعل عملي فيه وفي غيره رفعة في الدرجات في جنات عدن، إنه القدير على ذلك سبحانه وتعالى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. كتبه الشيخ: محمد بن حمد المنيع مقدمة الشرح لفضيلة الشيخ/ د. عبد الله بن جبرين حفظه الله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد ...

لا شك أن أمر العقيدة الإسلامية من أهم الأمور، وأن شأنها عظيم، والاهتمام بأمرها أكيد؛ لأجل ذلك أهتم بها العلماء قديماً وحديثاً، وألفوا المؤلفات التي ضمَّنوها المعتقد المأخوذ من الكتاب والسنة، والذي درج عليه سلف الأمة، وبسطوا في ذلك، واختصروا، وكتبوا، ودرَّسُوا، وقرروا، وكل ذلك نصحاً منهم للأمة حتى تثبت على عقيدة صحيحة ترسخ هذه العقيدة في قلوبها. وفي هذه المقدمة نحب أن نتكلم عن مبدأ العقيدة، وتطوراتها إلى زماننا هذا، مع الإشارة إلى بعض ما كتب في العقيدة، فنقول: العقيدة التي منها هذه الرسالة (لمعة الاعتقاد) ، ومنها (العقيدة الواسطية) وغيرها؛ مشتقة من العقد، وذلك أن العقد هو ربط الشيء بعضه ببعض، تقول: عقدت الحبل ببعضه أي وثقته وربطته، وسميت بذلك لأن القلب يعقد عليها عقداً محكماً مبرماً لا سبيل إلى انفكاكه، وذلك لأن أدلتها جلية صحيحة واضحة لا يعتريها شك ولا تغيّر، وأدلتها نصوص قطعية الثبوت، وقطعية الدلالة؛ فلأجل ذلك يعقد عليها القلب، ولا يمكن أن يتزعزع هذا الاعتقاد من القلب إلا إذا كان العقد غير محكم وغير قوي، فإنه عرضة للتزعزع. ولأجل ذلك كان العلماء، والمسلمون عموماً، يربون أولادهم على العقيدة منذ الطفولة ويلقنونهم كيف عرفوا ربهم، وبأي شيء عرفوه، ولأي شيء خُلقوا، وبأي شيء أُمروا، وأول ما فرض عليهم، وأهم الفرائض، وما إلى ذلك؛ حتى إذا تلقاها الطفل في صغره، وتربى عليها نبت لحمه وعظمه، وعصبه وعقله على هذه العقيدة، فأصبحت راسخة لا تتزعزع، بحيث لو عرضت عليه بعد ذلك شبهات، أو أتى بما يزعزع وبما يفتن، بل لو فتن وحبس وضرب وأوذي فلن يتغير اعتقاده، وذلك للأسباب التالية: أولاً: أنه تربى عليها عند أبويه، وتلقاها وهو طفل. ثانياً: أنه ألفى عليها أبويه، وأبواه أنصح الخلق له، وهما يحبان له أن يتربى على الخير.

ثالثاً: أن الأدلة التي تؤيد هذا الاعتقاد أدلة جلية، واضحة في ظهور معناها، صحيحة قطعية الثبوت لا يمكن أن يعتريها شك، أو تغير، فهذا ونحوه مما يبين أهمية هذه العقيدة. بعد ذلك نقول في تطور أمر هذه العقيدة قبل أن نبدأ في شيء من تفاصيلها: معروف أن الرسل كلهم بدأوا رسالتهم بأمر العقيدة التي هي عبادة الله لقوله تعالى: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (الأعراف:59) تقريراً للإلهية بأن الله تعالى هو الإله، بحيث يعترفون أن لهم رباً، وأن ربهم هو الله، وأنه الذي له الإلهية وحده، ولا تصلح الإلهية إلا له سبحانه وتعالى. وهذا مبدأ العقيدة وأساسها كما سيأتي، فالرسل بدأوا بأمر العقيدة، ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدأ بأمر العقيدة، فبقي عشر سنين بمكة بعد أن أوحي إليه لم يدع إلا إلى العقيدة، وهي معرفة الله وعبادته وأداء حقه، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الأدلة التي تثبت لله وحده العبودية وتنفي عن ما سواه أن يكون معبوداً أو إلهاً. وتطول الأدلة والبراهين على ذلك، ففي كثير من السور المكية يذكر الله عز وجل ما يدل على أنه سبحانه هو الرب، وهو الإله، وهو المعبود وحده، ويقيم على ذلك الأدلة الواضحة التي يراها الإنسان عياناً، ويذكرها ولا يستطيع أن يجحدها أو ينكرها. فنجد مثلاً في سورة الإنسان قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سمعياً بصيراً * إنا هديناه السبيل) (الإنسان:1-3) ، أليس هذا تقريراً للإلهية، وأن الذي خلق الإنسان بعد أن كان معدوماً هو الخالق المنفرد بالخلق؛ تقريراً لأنه هو الخالق وحده، وأنه هو الذي يستحق أن يعبد، ولا يجحده إلا معاند.

ثم السورة التي بعدها فيها أيضاً تقرير ذلك مثل قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياءً وأمواتاً) (المرسلات:25-26) إلى آخر الآيات؛ يذكر الله آيات ودلالات على أنه هو المنفرد بالإلهية، وأنه هو المتصرف بالربوبية وحده؛ لأن هذا تصرفه هو وحده الذي انفرد به، فهو أهل أن يكون معبوداً وحده دون ما سواه. كذلك السورة التي بعدها: (ألم نجعل الأرض مهاداً * والجبال أوتاداً) (النبأ:6-7) إلى آخر الآيات تقرير للألوهية، وعرض المعجزات والبراهين التي من تأملها وتعقلها رسخت العقيدة في قلبه؛ بحيث يعرف أن الذي أوجد هذه الكائنات على هذا الإحكام؛ غاية الأحكام أنه أهل أن يعظم، وأهل أن يعبد وحده، وأن يشكر ويذكر، وأن تكون الطاعة له دون ما سواه، وأهل أن يطاع رسله الذين أرسلهم وحمَّلهم رسالته. وفي السورة التي بعدها يقول تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها) (النازعات:27-28) إلى آخر الآيات، يحتج عليهم بهذا الخلق المحكم العظيم الذي لا يستطيع أي مخلوق أن يغيره عن وضعه. فالذي أوجد هذه المخلوقات هو الإله، وهو الرب، وهو المعبود وحده. وفي السورة التي بعدها يقول تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صباً * ثم شققنا الأرض شقاً) (عبس:24-26) إلى آخر الآيات، وفي هذا يذكر الإنسان بأن الذي فعل هذا هو الله وحده، ولا يستطيع مخلوق مهما كانت قدرته أن يأتي بمثل هذا الأمر الذي يأتي به الله سبحانه. إذن فهذا يبين أن العقيدة هي أول ما بدأ به نبينا صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولما بينه للصحابة اعتقدوا ما اعتقدوه في أمر الإله وحده سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته، ومن براهينه وآياته، ومن نعمه وآلائه على خلقه، واعتقدوا أنه أهل أن يعبد وحده، وأن يشكر، وأن يثنى عليه.

اعتقدوا ذلك ولم ينكروا شيئاً من أمر هذا الاعتقاد، اعتقدوا أن الله ربهم وخالقهم ومدبرهم، اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى فوق عباده، وأنه على عرشه مستو عليه كما يشاء، اعتقدوا أن له الأسماء الحسنى، والصفات العلى إلى آخر أمر العقيدة. ولم يظهر فيما بين الصحابة من ينكر شيئاً من أمر الاعتقاد، ولا ظهر فيما بينهم من يرد شيئاً من دلالة النصوص، وهذا من تزكية الله تعالى لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لما زكاهم الله تعالى وفضلهم على غيرهم ظهر أثر ذلك، فلم يظهر فيهم، والحمد لله مبتدع، ولا خارجي، ولا قدري، ولا رافضي، ولا معتزلي، ولا أشعري، ولا جبري، ولا مرجئي، ولا صوفي؛ لم يظهر فيهم شيء من هذه البدع، بل كلهم على عقيدة واحدة هي عقيدة أهل السنة، هذا هو ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. وبعدما دخل في الإسلام بعض المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم بدأ ظهور البدع، ولما ظهرت اهتم الصحابة بإظهار السنن، وأوضحوها بالأدلة القاطعة. فأول البدع: بدعة الخوارج الذين خرجوا عن الطاعة، وكفروا الصحابة، وكفروا المسلمين، وقتلوا الأبرياء. وقد كثرت الأحاديث التي تبين شأنهم، ومبدأ أمرهم وصفاتهم، وهي أحاديث صحيحة مخرجة في الصحيحين وفي غيرهما. لقد أنكر عليهم الصحابة، وبينوا خطأ طريقتهم، ولما كتب المؤلفون فيما بعد كتبوا في الرد عليهم ما يبيَّن خطأهم، وضمنوا ذلك كتب العقيدة.

وبعد ذلك: خرجت القدرية في آخر عهد الصحابة، وقد أدركهم بعض الصحابة كعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وغيرهم من الذين تأخر موتهم ومن رؤوس القدرية غيلان القدري ومعبد الجهني؛ خرجوا في آخر عهد الصحابة، وأنكروا علم الله السابق للأشياء قبل وجودها، وقالوا إنما يعلم الأشياء عندما تحدث، وهذا هو معنى قولهم: (إن الأمر أُنف) فشنع عليهم الصحابة، واحتجوا عليهم بالأدلة وبالآيات والأحاديث، وحذروا من طرقهم ومن شأنهم، وقد كانوا قلة مغمورين لا يتفطن لهم ولا يؤبه لهم، وإنما الغلبة لأهل السنة والظهور لهم، والكثرة لهم والحمد لله، بينما هم أفراد لا يسمع لهم إلا من هو ضعيف الإدراك، وضعيف العقل. ثم ظهرت المعتزلة في أول القرن الثاني، اعتزلوا مجلس الحسن البصري، وكان رئيسهم الذي يقال له واصل بن عطاء يجلس يقرر مذهبه، وأخذ يشير لهم الحسن ويقول: هؤلاء المعتزلة اعتزلوا مع واصل، فمن ثم اشتهر هذا المذهب الذي هو مذهب الاعتزال بهذا الاسم. ولعله تأتي بعض الإشارات إليه فيما بعد، ومع ذلك فإن أهله قلة، ومنهم عمرو ابن عبيد الذي وجد في وسط القرن الثاني وكان يظهر التنسك، ولكنه مبتدع منحرف في باب الاعتقاد. ثم ظهرت أيضاً: بدعة التعطيل، وما أدراك ما هذه البدعة الشنيعة العظيمة المنكرة؛ إنها بدعة الجهمية الذين أنكروا صفات الله تعالى، وتأولوا نصوصها، وبالغوا في إنكارها، وكان أول من أنكر بعضها (الجعد بن درهم) ، وهو الذي قتله خالد القسري في يوم عيد الأضحى، وقصته مشهورة.

ثم إنه تلقاها عنه -أي بدعة التعطيل- الجهم بن صفوان السمر قندي، وهو الذي نشرها ونسبت إليه، وكثر الذين تلقوها عنه، وإن كانوا قلة في ذلك الزمان، ولكن ظهر لهم بعد ذلك أنصار وأعوان، فمنهم بشر المريسي الذي أعلن هذه البدعة؛ بدعة إنكار الصفات، ومنها صفة العلو لله تعالى، وإنكار أن الله متكلم، وأن القرآن ليس كلامه، ونحو ذلك من التعطيل. ولما كان في آخر القرن الثاني، وأول القرن الثالث، كان وزراء الملوك أغلبهم من اليونان، ومن الترك، وكانوا غالباً من المجوس في عقيدتهم، ومن النصارى، وعندهم من كتب النصارى وكتب الفلاسفة بقايا، فزينوا للخلفاء أن يترجموها إلى اللغة العربية، فترجموا كتباً كثيرة من كتب الفلاسفة والملاحدة، ومن كتب اليونان من نصارى ومجوس ونحوهم. ولما انتشرت تلك الكتب كان في طياتها التشكيك في الخالق، وفي مبدأ الخلق وفي منتهاه، مما كان سبباً في كثرة الزندقة، فظهر في ذلك الوقت مذهب الزندقة، وهو الذي يسمى بمبدأ الشيوعية فتمكنت الشيوعية وظهرت. ولكن فطن لهم الخليفة المهدي رحمه الله، فقتل منهم خلقاً كثيراً، فكل من اتهم بأنه زنديق منكر للخلق والخالق، أو يذهب مذاهب الفلاسفة في إنكار بدء الخلق وإعادته، ويدعي أن الأمر مسند إلى الطبائع ونحو ذلك؛ أخذه وقتله، ولم يكن يستتيبهم لعلمه أنهم منافقون يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وأنهم أظهروا الإسلام وقصدوا من إظهاره إفساد العقائد، حتى يثق الناس بهم ويأخذوا منهم، فإذا أخذوا منهم أعطوهم ما يريدون من التشكيك، ومن الارتباك في أمر العقيدة، حتى يزعزعوا عقيدة الكثير من الناس، هذا هو السبب في فشو هذا المذهب الشيوعي.

ذكر المترجمون للمهدي: أنه أحضر أحدهم لما ثبت عنده أنه زنديق وحكم بقتله، فقال ذلك الزنديق: كيف تفعل بأربعة آلاف حديث كذبتها وبثثتها في المسلمين، فقال المهدي: تعيش لها نقادها، أي أن الله تعالى قد قيض لها علماء ينقحون الأحاديث ويبينون زيفها، ويظهرون ما هو مكذوب ودخيل على السنة، يعني أمثال الأئمة الذين كتبوا في الأحاديث، وبينوا عللها، وبينوا المكذوب منها والموضوع والصحيح والضعيف. وبكل حال فهذا الوقت انتشر فيه هذا المذهب الشيوعي الخبيث بسبب تعريب هذه الكتب، ومن أثر انتشارها كثرة الخوض في علوم جديدة سماها السلف رحمهم الله (علم الكلام) ، هكذا أطلقوا عليه، وقصدوا به العلم الذي يخوض في الأمور الخفية؛ في الجواهر والأعراض والأبعاض، والافتراضات، وما أشبه ذلك. وهذا الكلام هو الذي شغل كثيراً من أهل القرون المتأخرة، بحيث إنهم كرسوا جهودهم في هذا الكلام، وأخذوا يفترضون افتراضات؛ إن كان كذا، فماذا يكون كذا؟، وما هو جوابه، حتى ملؤوا صدور الناس بمالا فائدة فيه، وملؤوا الكتب بما لا أهمية له، فكان ذلك مما حمل العلماء على التحذير من علم الكلام، كقول الشافعي رحمه الله: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك القرآن، وأقبل على الكلام) ، وغيره كثير من الذين حذروا من علم الكلام. ومع الأسف فقد انتشر علم الكلام هذا في كتب الأشاعرة، وفي كتب المعتزلة؛ فحشدوا الكثير منه في كتب التفسير، وفي كتب العقائد، وفي كتب الأصول وما أشبهها، وافترضوا افتراضات لا دليل عليها.

فإذن لا شك أن هذا مما حمل السلف رحمهم الله على أن ينقحوا العقيدة، لما رأوا في القرن الثاني وفي القرن الثالث وما بعده تغير الناس في باب الاعتقاد، لم يكن بدٌ من أن يكتبوا في ذلك، ويقرروا، ويُبدؤا ويعيدوا، ويظهروا المذهب الصحيح والعقيدة السلفية السليمة ويبينوها علناً، حتى لا يقع في خلافها من قصده الحق. فكتُب السلف في العقيدة كثيرة وشهيرة: منها ما سمي بكتاب الإيمان، متقدماً ومتأخراً ومختصراً ومبسوطاً مثل كتاب الإيمان لابن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب الإيمان لابن منده في ثلاثة أجزاء وكلها مطبوعة. ومنها ما سموه بكتب السنة؛ كالسنة للإمام أحمد، والسنة لابنه عبد الله، والسنة للخلال، والسنة لابن أبي عاصم، وغيرها. ومنها ما سموه بالتوحيد ككتاب التوحيد لابن خزيمة، والتوحيد لابن منده. ومنها ما سمي بأسماء أخرى، كالرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن للإمام أحمد، والرد على الجهمية لعثمان ابن سعيد الدارمي، والرد على بشر المريسي للدارمي أيضاً، ومنها ما له أسماء خاصة كالشريعة للآجري، والإبانة لابن بطة (الإبانة الصغرى، والإبانة الكبرى) ، وشرح اعتقاد أهل السنة الذي هو من أوسعها للالكائي. هذه كتب ضمنها مؤلفوها العقيدة، وأرادوا بذلك أن يخلصوا أمر المعتقد حتى لا تضمحل عقيدة أهل السنة.

ومع كثرة هذه الكتب مما ذكرنا، وغيرها كثير، لما انقضى القرن الثالث آخر القرون المفضلة أميتت هذه الكتب مع الأسف، وأصبحت مخزونة لا يعترف بها ولا تُقرأ، ولا تُدرَّس إلا نادراً وبصفة خفية، وتمكن مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة أيما تمكن، وانتشر الإكباب عليه، وكثرت الدروس والكتب التي تؤلف فيما يتعلق بهذه العقائد؛ عقيدة الأشعرية وعقيدة المعتزلة، وكادت السنة وكتبها أن لا يكون لها ذكر، بل كاد مذهب الإمام أحمد أن يضمحل، ولم يبق أحد عليه إلا قلة. وفي آخر القرن الرابع وأول القرن الخامس بدأ يظهر مذهب الإمام بسبب القاضي أبي يعلى رحمه الله، فإنه لما اعتنق هذا المذهب وتولى القضاء، وكان عالما جليلا، وكان من أبرز أهل زمانه، ولم يوجد للقضاء من يتولاه مثله أظهر هذا المذهب. ومع ذلك فإنه هو وأساتذته الذين قرأ عليهم في بعض الكلام قد تأثروا بشبه المتكلمين، ولكن لما كان على مذهب الإمام أحمد لم يرد ما روى عنه، فألف رسالة فيما يتعلق بصفة العلو وأملاها على تلامذته، ولما كتبها وأملاها قامت الدنيا، وأنكر عليه أهل زمانه، وقالوا: القاضي أبو يعلى ممثلٌ، القاضي مشبه، وكادوا يسعون في إبعاده وعزله، فاعتذر أنه إنما نقل كلام غيره، والرد لا يكون عليه بل يكون على غيره، على الذين نقل عنهم؛ وأما هو فإنه ناقل.

ولا شك أن هذا دليل على غربة السنة في تلك القرون؛ القرن الرابع والقرن الخامس وما بعدهما. وبالتتبع لهذه القرون: الرابع والخامس والسادس وأغلب السابع لا تجد فيها من هو على مذهب السنة إلا من هو مستخفٍ، ولو كان حنبلياً، وما ذاك إلا أنهم قرؤوا على مشايخ لهم، وأولئك المشايخ قرؤوا علم الكلام على علمائهم، ولما قرأوه تمكن من نفوسهم، وتمكنت هذه الشبهة التي هي إنكار صفة العلو، وإنكار الصفات الذاتية، وإنكار الكثير من الصفات الفعلية، فتمكنت من النفوس، فصار ذلك سبباً في انحرافهم عن عقيدة أهل السنة، وهم السلف والأئمة الأربعة الذين يقتدى بهم في الفروع فإنهم كلهم والحمد لله على معتقد واحد في الأصول. ومع ذلك يفتخر كثير منهم بانتمائهم إليهم ويخالفونهم في أصل الأصول الذي هو باب العقيدة، فتجدهم يقولون: نحن على مذهب الشافعي، ولكن في باب العقيدة على مذهب الأشعري، ولا يتمسكون بمذهب الأشعري الصحيح، ولا بمذهب غيره من السلف، وإنما بالمذاهب التي تلقوها من مشايخهم المتأخرين، الذين تلقوا هذه العلوم من المتكلمين. ولا شك أن أولئك لما كثر الخوض منهم في علم الكلام، وفي التدقيق في تلك المسائل الخفية كانت لها نتيجة سيئة، وهي أنها أوقعت كثيراً منهم في الحيرة، تحيروا ماذا يعتقدون؟، وما هي العقيدة التي تنجيهم؟ ذكر شيخ الإسلام في أول الحموية، وابن أبي العز في شرح الطحاوية قصصاً لبعض أولئك الحيارى المتهوكين؛ منها قصة الرازي من علماء المتكلمين وهو أبو عبد الله، ويقال له: ابن الخطيب صاحب التفسير الكبير، وصاحب تأسيس التقديس الذي رد عليه شيخ الإسلام بكتابه (نقض التأسيس) ذكر أنه إما أنشأ أبياتاً، وإما استشهد بها، وهي التي يقول فيها: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: (لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) ، (إليه يصعد الكلم الطيب) (فاطر:10) ، واقرأ في النقى (ليس كمثله شيء) ، (ولا يحيطون به علماً) (طه:110) . ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) اهـ. فنحن نقول: ليته بقي على هذا، وليته كتب في هذا، ولكنه أضل بكثير من مؤلفاته مع سعة ما فتح عليه من العلوم. ومنهم الجويني الذي يقال له: إمام الحرمين، له كتاب مطبوع مشهور في علم الكلام اسمه (الإرشاد) وله كتب غيره؛ ذكروا أنه لما حضره الموت تأسف على حياته، وقال: (لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم تدركني رحمة ربي فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور) . تمنى في آخر حياته أنه ما خاض في هذه العلوم أصلاً، وكذلك الشهرستاني صاحب الملل والنحل ذكروا عنه أنه يقول: (أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام) . وغيرهم كثير؛ هذه نهاية أولئك المتكلمين، ونهاية معلوماتهم. ومع ذلك وللأسف فالبعض متمسكون بهذه العقائد، ويؤلفون فيها المؤلفات، ويسمونها بمؤلفات التوحيد نظماً ونثراً، مثل العقائد النسفية على مذهب الأشاعرة، ومثل نظم الجوهرة، ومنظومة الشيباني -وإن كانت أخف- ولكن فيها بعض الانحراف القليل. ومثل بدء الأمالي ... إلخ.

وهذه العقائد -من عقائد الأشاعرة- مطبوعة في مجموع المتون، ولها شروح مشهورة، هذه العقائد اعتقدوها، وألفوا فيها، واشتهرت بينهم وبين تلامذتهم، ومن كان منهم من أهل الحديث ألف في العقيدة، ولكن لا يجرؤ أن يصرح بمذهب السلف، ويفصح بما عليه الأئمة، ومن أقربهم وأحسنهم الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، وكان شافعياً ثم تحول حنفياً وتعصب للمذهب الحنفي، وألف (العقيدة الطحاوية) ، وذكر فهيا بعض العبارات المنكرة التي اشتهرت في زمانه عن المتكلمين، مثل قوله: إن الله منزه عن الحدود والغايات، والأبعاض، والأعراض، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات. والشارح رحمه الله الذي شرحها (ابن أبي العز) كان من أهل السنة، ولكن شرحها كثير من الأشاعرة وسلكوا فيها مسلك المعتزلة أو مسلك الأشاعرة، وحمَّلوها ما لا تطيق، وصرفوا مدلولاتها. وهكذا الرسالة التي كتبت عن الإمام أبي حنيفة، يمكن أنه أملى بعضها، وأخذها بعض تلامذته وتسمى (الفقه الأكبر) ، نقل منها شيخ الإسلام بعض النقول في الحموية، وكذلك ابن أبي العز في شرح الطحاوية. ولكن يظهر أنه قد دخلها التغيير من بعض المتأخرين الذين انحرفوا في بعض الاعتقاد؛ فأدخلوا فيها كثيراً من التأويلات، وشرحها كثير ممن هو على مذهب الأشاعرة أو مذهب منكري الصفات، وأنكروا ما كان عليه السلف رحمهم الله، ولا شك أن سبب ذلك كثرة ما تلقوه عن مشايخهم الذين كانوا على هذا المذهب الذي هو تأويل وتحريف الصفات وما أشبهها.

وهكذا بقيَّةُ هذه العصور، وهذه القرون؛ كان السائد فيها والمنتشر هو المذهب الأشعري، ومعروف أن الأشعري هو أبو الحسن من ذرية أبي موسى؛ عالم مشهور ظهر في القرن الثالث، كان في أول أمره معتزلياً على طريقة أبي هاشم الجبائي وأبي الهذيل العلاف، ونحوهما من المعتزلة، ثم نزل عن هذه العقيدة لما ظهر له تهافتها، وانتحل مذهب الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان ابن كلاب هذا عالماً جدلياً؛ سمي بذلك لأنه إذا احتج كانت حجته قوية بمنزلة كلاب الصناع الحدادين التي تمسك الحديد، أي إنه في قوة جدله واحتجاجه منزلة هذا الكلاب. ومع ذلك فإنه قد تأول كثيراً من الصفات ولم يثبت إلا بعضها، فانتحل أبو الحسن الأشعري عقيدته في الإقرار بسبع صفات، وإنكار ما سواها، وألف كتباً كثيرة على هذا المذهب، وقضى عليها أكثر عمره، أي نحو أربعين سنة، وهو يؤلف على هذا المذهب، حتى اشتهرت كتبه وتلقاها الجم الكثير والجمع الغفير. وفي آخر حياة أبي الحسن مَنّ الله عليه، وقرأ بعض كتب السلف، فرجع عما كان يعتقده إلى مذهب السلف، وألف رسالته المطبوعة التي سماها (الإبانة في أصول الديانة) رسالة مختصرة ألفها على مذهب السلف، وألف أيضاً كتابه (مقالات الإسلاميين) الذي جعله في الفرق. ولما أتى على مذهب أهل السنة ذكره صريحاً، وذكر عقيدتهم التي يمكن القول أنه نقلها عن كتب الإمام أحمد أو غيره، مما يدل على أنه انتحل عقيدة أهل السنة أخبرا فمقالته عن أهل السنة تدل على أنه منهم بدرجة أنه صرح بقوله: وبما قاله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل نضر الله وجهه وجملة مقالنا أنا نقول كذا وكذا، وقد نقله أيضاً ابن القيم في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي بعض كتبه. وبكل حال؛ هذا المذهب الذي عليه الآن الأشاعرة ليس هو حقاً مذهب الأشعري؛ لأن الأشعري قد رجع عنه، إنما هو مذهب الكلابية.

هذا بعض ما كان عليه هذا المعتقد في هذه الأزمنة، والحنابلة طوال هذه الأزمنة الغالب أنهم يتتلمذون على أشاعرة، ومنهم الإمام ابن قدامة حيث نجد أن تلامذته ومشايخه وزملاءه في العقيدة من شافعية، ومن حنفية، ومن مالكية على المذهب الأشعري. ولكن لأبد أنه وصلت إليه كتب الإمام أحمد، وكذلك كتب السلف، فلم يوافق أهل زمانه بل وافق شيخه، ووافق مذهبه الذي هو مذهب الإمام أحمد، فألف كتباً كثرة فيما يتعلق بالعقيدة، منها رسالته التي في إثبات صفة العلو؛ صريحة في أنه يرى إثبات هذه الصفة لله تعالى، ولو أنكرها من أنكرها. ومنها رسالة في ذم التأويل الذي ابتلي به زملاؤه وأساتذته من الأشاعرة ونحوهم. ومنها هذه الرسالة التي نحن بصددها: (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) سماها لمعة لأنها ذات أدلة صحيحة صريحة مضيئة تلمع لمعاناً كلمعان السرج القوية، وكلمعان النجوم في الليلة المظلمة، يعني أنها ذات أدلة واضحة وذات دلالة لا خفاء فيها في الاعتقاد. (لمعة الاعتقاد) أي أدلة الاعتقاد التي هي صحيحة ذات لمعان وضياء لا يحتمل الخفاء، ولا يجوز أن يخفي أو تخفى دلالته إلا على عُمي البصائر. فهذا هو قصده، ولكن إذا قرأتها تجد أنه رحمه الله لم يجرؤ أن يفصح بموجب الأدلة وبدلالتها بل هو يذكر الأدلة، ويورد بعض المعاني، حيث إن أهل زمانه لا يحتملون الإفصاح، وإلا فهو قد أفصح في كتابه (العلو) بإثبات صفة العلو ونحو ذلك، ولكن يخشى أن يشنع عليه أهل زمانه بأنه مشبه، وبأنه ممثل، فألفها واقتصر على ذكر الأدلة، ولكنه مع ذلك ذكر أدلة صريحة واضحة الدلالة لا تحتمل تأويلاً، وقد أبطل التأويل في رسالته الأخرى، وكذلك أيضاً تتبع عقيدة أهل السنة في الصفات، والإيمان، والقدر، والصحابة، وفي إثبات الرؤية. وغير ذلك مما هو من أصل العقيدة، مما يدل على أنه رحمه الله استوفى عقيدة أهل السنة.

وقد شُرحت هذه العقيدة من بعض المشايخ المتأخرين، وقد كَتْبتُ عليها شرحاً مختصراً، وهو التعليقات التي كتبناها عليها، وكنت أمليتها في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف على طلاب معهد إمام الدعوة لما قمت بتدريسها في تلك السنة وفي السنة التي قبلها، وكانوا من طلاب المتوسطة، والغالب أنهم لا يتحملون الإطالة، فأمليتها عليهم كمرجع لهم ليكون موضحاً لدلالتها ونحو ذلك، ثم لم يقدر لي أن أراجعها طوال هذه السنين، وأخذها بعض الأخوة وطبعها ووقع فيها بعض الأخطاء، وبعض ما يحتاج إلى تنبيه. وقد صححنا بعض المسائل في بعض النسخ، وعلى الذين أخذوها من المكتبات أن يصححوا النقص الذي فيها، أما بقية العلماء، فما أذكر أنها شرحت إلا شرح الشيخ ابن عثيمين متأخراً، وما أذكر أن أحداً اعتنى بها ولا شرحها، ولعل السبب أن علماء الحنابلة رحمهم الله كان جل عملهم واشتغالهم بالمسائل الفقهية. وما اشتغل بالعقائد إلا القلة منهم، ثم في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لمَّا أن الله وهبه علماً وقوة وجراءة وحفظاً وذكاءً وقوة أسلوب، ووهبه أيضاً شهرة بين الناس، ومحبةً اشتهر بها في القاصي والداني بما معه من المعلومات - لم يبال بأهل زمانه ولا بمن خالفه بل أفصح بما يعتقده، وجدد عقيدة السلف، وكتب فيها المؤلفات التي لا يستطيع أحد أن يعارضه فيها، وبين فيها ما هو أجلى من الشمس، كما هو مبسوط أو مختصر في مؤلفاته الكبيرة المبسوطة مثل: (منهاج السنة النبوية) . فإن نحو ثلثه الأول مناقشة في العقيدة، وفي الأسماء والصفات؛ لأن الرافضي الذي رد عليه بدأها بالرد على أهل السنة أنهم مجسمة، وأنهم مشبهة. كذلك كتابه (العقل والنقل) الذي طبع في نحو أحد عشر مجلداً، وهو أوضحها وأدلها. كذلك (نقص التأسيس) والذي طبع بعضه ولعله أن تُطبع بقيته.

كذلك رسائله الكثيرة في المجموع نحو أربعة مجلدات، كلها في الأسماء والصفات، من الثالث إلى السادس، وهكذا غيرها؛ لا شك أنه ما أفصح بذلك إلا لأن الله تعالى وهبه علماً وقدرة على البيان، فلم يستطع أهل زمانه أن يقاوموه، فهو الذي جدد مذهب أهل السنة، فرحمه الله وأكرم مثواه. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير (فا طر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) ، له الأسماء الحسنى والصفات العلى (الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه:5-7) . شرح: نبدأ في شرح هذه المقدمة ثم ما بعدها، فقد ذكرنا في مقدمة الشرح سبب تأليفه لها، وهو أنه فقيه أشغل وقته في الفقه، ويظهر ذلك في مؤلفاته، ولكن لم يمنعه أشتغاله بالفقه أن يكتب في العقيدة، فألف فيها عدة مؤلفات، ولكنها نبذ صغيرة، وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله، صاحب المؤلفات في الفقه؛ كالمغني، والكافي، والمقنع، والعمدة، والروضة، وغيرها من المؤلفات. يقول في هذه المقدمة: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن) .

أولاً: ابتدأ كغيره بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، حيث بدأ بالبسملة، وبدأ بالحمد لله وعملاً بالحديث المشهور: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله) ، وفي رواية: (بالحمد لله) (فهو أبتر) ، أو (أقطع) ، أو (أجذم) ، والمعنى أنه ناقص البركة. يذكر المؤلفون هذا الحديث في مقدمات شروحهم كما ذكره البهوتي في مقدمة شرحه على زاد المستقنع، وشرحه على الإقناع، وشرحه على المنتهى، وغيره. ثم بعد ذلك ابتدأ بالحمد لله. والحمد في اللغة: الثناء على الإنسان، كالثناء عليه بخصاله الحميدة، وبعقله، وبديانته، وبأمانته، وبكرمه، وبجوده، وبحلمه، وبصفحه، وبصدقه، يعني بالخصال التي يحمد عليها، التي يبالغ في الثناء عليه لأجلها، فهذا الثناء يسمى حمداً. فإذا أثنى عليه بأشياء لا صنع له فيها كما لو أثنى عليه بأنه جميل، أو طويل، أو قصير، أو لجمال صورته، وطول قامته، وفصاحته، وذكائه ونحو ذلك، فهذا الثناء يسمى مدحاً. والفرق بين المدح والحمد: الحمد: الثناء بالصفات التي تخلق بها، كالصدق، والأمانة، والعلم، والحلم، وما أشبهها. وأما المدح: فهو الثناء عليه بالصفات التي جبل عليها، ولا صنع له فيها كالجمال، والطول، والخلقة، وما أشبه ذلك. فالله تعالى يثنى عليه بكل الصفات، فيثنى عليه بصفات الكمال، وبصفات الجمال، وبصفات الأفعال. فيستحق أن يثنى عليه بكل الصفات، فهو أهل للحمد، وهو المستحق له، ولأجل ذلك حمد نفسه في كثير من السور كالفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وسورة فاطر، ابتدأها الله بالحمد لله رب العالمين.

وكذلك أخبر بأنه المستحق للحمد، وبأنه يُثنى عليه بالحمد في قوله تعالى: (وقيل الحمد لله رب العالمين) (الزمر:75) ، (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) (يونس:10) ، وغير ذلك، وكثرة ذكر الحمد دليل على أنه ذكرٌ يذكر به الله، ويمدح به، ويثنى عليه به، وأنه يحبه ويحب من يحمده، ويحب من يثني عليه ويثيبهم على ذلك، وأنه أهل للحمد وأهل للثناء. أما تعريف الحمد في الاصطلاح: فذُكر له تعريفان: التعريف الأول: إن الحمد فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد وغيره، وهذا كأنه يختص بحمد المنعم يعني لا يحمد إلا بسبب كونه منعماً، وأن الحمد فعلٌ ينبئ عن تعظيمه. ولا شك أنه مستحق للتعظيم، ولا شك أن الحمد تعظيم، ولكن الصحيح أن الله تعالى يحمد على كل حال، يحمد على الخير، ويحمد على الضرر، وذلك أنه إنما يسلط الضرر والشر أو البلاء لحِكَمٍ هو أعلم بها، فلأجل ذلك يحمد على الخير، ويحمد على الشر. ولا يحمد على الشر سواه، وذلك أنه لا يبتلي بالشر كالمصائب والآفات والفقر والأذى والأمراض ونحوها، إلا لحكم ومصالح، فلأجل ذلك تحمده إذا أصابك مرض وألم، وإن أصابك فقر أو أذى فإنك تحمده على ذلك، وإن أصابك سجن أو جلدٌ أو أذى من خلق يسلطهم الله عليك فإنك تحمد الله على ذلك. وإن كان ذلك لا يستدعي الفرح بذلك، ولا الرضا به، وبكل حال فهذا يبين أن في هذا التعريف شيء من الخلل وهو قولهم: إنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد، وغيره، فالله تعالى يعظَّم لكونه منعماً، ولكونه مبتلياً. التعريف الثاني للحمد: أن الحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله.

ولعل هذا التعريف أسلم، ولكن الحمد لا يستلزم أن تذكر المحاسن كلها، ولكن إنما يحمد حمداً مطلقاً، فتقول: الحمد لله، ولو لم تذكر محاسنه التي حمدته عليها، فقولهم: ذكر محاسن المحمود، كأنهم يقولون: إن ذلك على وجه الإجمال، نحمده أي نذكر محاسنه سواء بالقلب أو باللسان، فمثلاً في أول سورة الفاتحة ابتدأها الله بقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) (الفاتحة:1) هذا من محاسنه (الرحمن الرحيم) (الفاتحة:2) هذا من محاسنه (مالك يوم الدين) (الفاتحة:3) هذا من محاسنه، وكذلك في سورة الأنعام: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض) (الأنعام:1) ، هذا من محاسنه، وفي أول سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) (الكهف:1) هذا من محاسنه، (ولم يجعل له عوجاً) (الكهف:1) هذا من محاسنه، وأشباه ذلك. والحمد هو ذكر محاسن المحمود وذكر فضائله، وذكر صفاته الحميدة مع حبه وتعظيمه وإجلاله، أي إن الحمد يستدعي من الحامد هذه الثلاثة: الحب، والتعظيم، والإجلال. فهذان التعريفان اصطلاحيان للحمد، ولا شك أنه سبحانه أهل الحمد كما شرع ذلك في الصلاة، فالمصلي إذا رفع من الركوع يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، والمأمومون والإمام كلهم يحمدون الله، ويقولون: (ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) كل ذلك في صفة الحمد.

ولا شك أن العبد إذا حمد الله، كان قد عبده بهذه الكلمة (الحمد لله) ، واجتمع كونه معظماً له، ومحباً، ومجلاً له بهذه الكلمة، فقد أدى عبادة، وأي عبادة، وإن كان للحمد أيضاً أسباب إذا تجددت نعمة فإنك تحمده عليها ونعم الله تجدد بالغدو والآصال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمده عليها) . وأينا يستغني عن الأكل والشرب في اليوم عدة مرات، إذن فإذا تجددت هذه النعمة، فإنك تحمده عليها. كذلك أيضاً تقول بعد الفراغ من التخلي: (الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عني أذاه) ، أو بعد الخروج من الخلاء فتقول: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) ، فلا يستغني الإنسان أن يحمد الله في كل الحالات، إذاً فالله تعالى محمود دائماً إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال. وقوله: الحمد لله المحمود بكل لسان، قد تقول: كيف يكون ذلك مع أن كثيراً من الألسن لا يعرفون الله، أولا يعترفون بفضله فضلاً عن أن يحمدوه؟ والجواب: أن الألسن ناطقة بحمده إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال، فألسنة الكفرة ولو كانت لا تذكر الله، ولو كانوا ينسبون النعم إلى غير الله، ولو كانوا يكفرون به وبنعمه، ولو كانوا يصرفون العبادة لغيره، ولكن لسان حال أحدهم متعرف بأنه محتاج إلى رب، وأنه لا يستغني عنه طرفة عين، لسان حال أحدهم معترف بأنه مخلوق مفتقر إلى الخلاق، وذلك الخالق له الفضل عليه، فلا بد أن يكون صاحب الفضل أهلاً أن يثنى عليه، وأهلاً أن يحمد إذاً، فهو حامد بلسان حاله شاء أم أبى.

فهذا دليل على أن الله تعالى: محمود بكل لسان، من لسان حال، أو لسان مقال، وقد ذكر الله تعالى أن جميع المخلوقات ذليلة له كما في قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) (الجمعة:1) ، (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة) (النحل:49) ، (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض) (الحج:18) ، إلى آخر آيات السجود. والتسبيح لا شك أنه عبادة، وأنها قطعية الحصول، ولو كرهاً، ولهذا قال تعالى في آية الرعد (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم) (الرعد:15) يعني وإن لم يسجدوا فإنه يسجد ظلالهم، إذا فهم يعترفون شاءوا أم أبوا بأنهم خاضعون وذليلون لله تعالى. قوله: الحمد لله بكل لسان، المعبود في كل زمان. شرح: لا شك أنه سبحانه مستحق أن يعبد في كل زمان، وما ذاك إلا أنه رب العباد في كل الأزمنة، والرب هو المعبود، ولأجل ذلك أمر عباده بأن يعبدوه لكونه رباً، يقول الله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) (البقرة:21) بدأ بكونه رباً، وما دام أن الخلق كلهم مربوبون فإن عليهم أن يعبدوا ربهم، فالرب تعالى معبود في كل زمان. وإن كان هناك من لا يعبد الله عبادة حقيقية كالكفار والمنافقين ونحوهم، ولكنهم في الأصل عبيد لله لا يستغنون عن التعبد له. وأيضاً فمعلوم أن كل زمان من الأزمنة لا تخلو فيها الأرض عن أن يوجد فيه عباد عابدون، ولو خليت بلاد لم تخل البلاد الأخرى، ولو خلي يوم لم يخل اليوم الثاني، فلابد في زمان وساعة، ومن وجود من يعبد الله، فالله تعالى معبود في كل زمان. قوله: الذي لا يخلو من علمه مكان ولا يشغله شأن عن شأن. شرح:

فهذا مبدأ الدخول في الصفات، بدأ في صفات الله تعالى بهذه الجملة: (لا يخلو من علمه مكان) معلوم لكل مؤمن أن ربنا سبحانه وتعالى مطلع علينا وعالم بأحوالنا ويعلم أسرارنا وعلانيتنا فلأجل ذلك يذكر دائماً هذا الأمر مثل قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق:16) يعلم الله خطرات النفس ووساوس الصدر، وهواجس القلب بل يعلم أخفى من ذلك. فسر بعض العلماء قوله تعالى: (يعلم السر وأخفى) (طه:7) أن السر: ما أضمره العبد في قلبه ولم يحرك به شفتيه فضلاً عن أن يتكلم به عند أحد، وأخفى من السر هو ما سوف يخطر له فيما بعد، قبل أن يحدث به نفسه، ولكن الله يعلم أنه سيفعله فيما يُستقبل أو سيخطر بباله. إذاً فالله تعالى، لا يخلو من علمه مكان أية مكان صغير أو كبير يعلم ما يكون فيه، يعلم من يكون في هذا المكان، وعددهم، ونياتهم وأسرارهم، وعلانيتهم، ولا يشغله هذا عن المكان الثاني وعن البلاد الثانية، وعن أهل السماوات وعن أهل الأرض، فإنه كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن، يعلم كل مكان وما يحدث فيه. قلت: إن هذا أول ما بدأ في الصفات حيث ذكر علم الله تعالى، وأنه واسع ومحيط بالأشياء، وعليم بها، ويفسر ابن قدامة رحمه الله بهذه الكلمة (الآيات التي فيها المعية) يشير إلى أنها محمولة على العلم كقوله: (وهو معكم أين ما كنتم) (الحديد:4) . ذلك معية العلم والاطلاع والقرب والهيمنة، والقدرة، والنظر، والرؤية، وهو معكم أين ما كنتم يراقب ويطلع عليكم، ويعلم أسراركم، ويعلم أعمالكم، وكذلك قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) (المجادلة:7) يعلم ما يسرونه وما يتناجون به.

ولعل ابن قدامة رحمه الله يرد بهذه الجملة على المعتزلة والحلولية والفلاسفة والكثير من الصوفية والجهمية، فهؤلاء عقيدتهم -والعياذ بالله- إنكار صفة العلو، وادعاء أن الله بذاته في كل مكان، فلذلك قال: (لا يخلو من علمه مكان) رداً على من يقول: إنه بذاته في كل مكان، وهذا قول الحلولية الذين يدعون أنه حال بذاته في المخلوقات كلها، وهذا عين الكفر وعين الجحود، فإن الرب تعالى بائن من خلقه مع كونه مستوياً على عرشه. قوله: ولا يشغله شأن عن شأن. شرح: يقول بعض الخطباء في الثناء على الله تعالى: لا تشتبه عليه اللغات، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات، وتفنن المسؤولات. هذا معنى لا يشغله شأن عن شأن، لا يشتغل بسماع هذا عن هذا، بل يدعوه مئات الألوف وألوف الألوف في لحظة واحدة، ويسمع دعاءهم، ويعرف حاجاتهم، ويعرف مطالبهم، ويجيب من يجيبه منهم، ويعطيه سؤله، ولا شك أن هذا يستلزم أنهم يعظمونه إذا عرفوا أنه المستحق لهذا التعظيم، وأنه بهذه الصفة بحيث لا يشغله شأن عن شأن، فإن ذلك يحملهم على أن يطيعوه وأن يعظموه، ويجلوه، ويعتقدوا أنه ربهم ومالكهم، وأنه هو المعبود وحده. قوله: جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد. شرح: هذه الجملة يؤخذ منها صفات السلب وصفات النفي، فإن صفات الله صفات سلبية، أو صفات ثبوتية، ولكن إذا أتت الصفات السلبية استلزمت الصفات الثبوتية، وإلا فالسلب المحض لا يمدح الله به نفسه حتى يتضمن صفة ثبوت يمتدح بها.

فإن المدح إنما هو بالصفات المثبتة لا بالصفات المنفية، فإذا قال مثلاً: جلَّ عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، فهذا نفي، وقد نفى الله ذلك عن نفسه في عدة آيات، كقوله تعالى: (ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً) (الجن:3 () ، وكقوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحدا) (الإخلاص:4) ، وكقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً) (البقرة:22) ، وكقوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال) (النحل:74) ، وكقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) ، وكقوله تعالى: (هل تعلم له سمياً) (مريم:65) . هذه كلها نفي وسلب، ولكن يمدح نفسه بهذا السلب لأنه يتضمن ثبوت أضداد هذه الصفات، وكذلك قوله تعالى (ما اتخذ صاحبة ولا ولداًَ) (الجن:3) ، وكقوله تعالى: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل) (الإسراء:111) . كل ذلك يستدعي صفة ثبوتية هي التفرد والوحدانية التي تستلزم الكمال فإنه إذا كان واحداً فرداً صمداً تصمد إليه القلوب، وتتوجه إليه الرغبات، ومع ذلك هو محيط بالمخلوقات، وعالم بها، ومع ذلك هو خالقها، ومدبرها وحده، أليس ذلك دليل العظمة؟ أليس ذلك دليل الكبرياء؟ لا شك أنه إذا تنزه عن أن يحتاج إلى صاحبة -يعني زوجة- لا يحتاج إلى ولد، لم يلد ولم يولد، وقد نزه الله نفسه عن الولد، وأخبر بأن هذه فرية قالها المشركون، وأنها أعظم فرية وأكبرها، قال تعالى: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً) (مريم:90-92) . يعني أن مقالتهم هذه تكاد أن تتفطر لها السماوات، وتنشق لها الأرض، وتخر لها الجبال، وتتفطر لها المخلوقات العظيمة لعظم شناعتها، حيث جعلوا لله تعالى ولداً مع أنه مستغن عن الولد والوالد والشريك والنظير والمثيل والند والكفؤ؛ لماذا؟

لأن هذه الأشياء تستلزم الحاجة، أو تستلزم المثلية، تستلزم أنه بحاجة إلى الولد كالإنسان الذي بحاجة إلى ولده يسانده ويساعده ويقوم مقامه، ويعينه عند عجزه، ويخلفه بعد موته. والرب تعالى ليس كذلك، وليس بحاجة إلى الولد ولا إلى الزوجة، ولا إلى شريك، فهو له الكمال المطلق، إذاً فنفي الصاحبة يستلزم عدم الحاجة ويثبت الغني، وكذلك نفي الولد يلزم منه إثبات الكمال، وكذلك نفي الشريك، ونفي الند، ونفي المثيل، وما أشبه ذلك. وردّ أيضاً على من أثبت ذلك من المشركين ونحوهم كقوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) (التوبة:30) ، وقوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم) (الزخرف:19) . وقوله تعالى: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * اصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون* (الصافات:149-154) ، وكقوله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) (الصافات:158) . زعم بعض جهلة العرب: أن الملائكة بنات الله، وأن بينه وبين الجنة نسباً، تعالى الله عن قولهم ذلك كله؛ فردّ عليهم، وأثبت وحدانيته، فبذلك نعرف أن كل نفي فإنه يستدعي ثبوتاً، وإلا فالنفي المحض ليس بمدح. رد شيخ الإسلام رحمه الله في رسالته (التدمرية) في قاعدة من القواعد على من يصف الله تعالى بالصفات السلبية التي هي عدم محض، وكذلك في كثير من كتبه، وأخبر في (الحموية) أن الله بعث رسله بنفي مجمل، وإثبات مفصل، وأن الإثبات يقصد بذاته والصفات الثبوتية مقصودة لذاتها.

وأما الصفات السلبية فمقصودة لغيرها، والله تعالى نزه نفسه بقوله تعالى: (ما اتخذ صاحبة ولا ولداً) (الجن:3) ، (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء) (الأنعام:101) ، فإذا نزه نفسه عن مثل هذا دل على صفة الكمال، وتنزه عن الشركاء والأمثال، وذلك يثبت وحدانيته حتى لا يعبد غيره. وفي الآية التي في سورة سبأ يقول ابن القيم رحمه الله: إنها قطعت جذور الشرك يعني عروقه، وهي قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (سبأ:22-23) . فنفى أربع حالات: الملك ملك استقلال، فأما ما تملكه أنت من متاعك أو منزلك فليس ملك استقلال؛ لأنك أنت وهو ملك لربك وخالقك، أي لا يملكون ولو مثقال ذرة، فكيف يُعبدون؟. وقد يقول قائل: نسلم أنهم لا يملكون، وأن الملك لله، قال تعالى: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) (غافر:16) لكن يمكن أن يكون لهم شركة أي يمكن أن يكونوا شركاء الله فنفى ذلك بقوله تعالى: (وما لهم فيهما من شرك) (سبأ:22) ، ولو شراكة في مثل الذرة. وقد يقول قائل: نسلم أنهم لا يملكون وليسوا شركاء، ولكن يمكن أنهم أعوان لله، أي أنهم أعانوا لله في إيجاد الموجودات، فنفى ذلك بقوله تعالى: (وما له منهم من ظهير) (سبأ:22) ، أي من معين ليس لله تعالى مظاهر ولا مساعد، ولا معين في إيجاد الموجودات بل هو المنفرد بذلك وحده؛ وإذا كان كذلك فإنه المستحق لأن يعبد وحده. ثم نفى الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، حتى لا يقولوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

فإذا انتفى الشريك وانتفى الولد، وانتفى المعين، ونفيت الصاحبة، ونفي الند والنظير والكفؤ؛ أثبتت صفات الوحدانية والتفرد، فهذا مقتضى هذه الصفة، وهي أننا ننفي هذه النقائص حتى نثبت الوحدانية التي هي صفة كمال لا يشاركه في هذا الكمال ولا في هذه الوحدانية أحد، ولأجل ذلك من أسماء الله (وإلهكم إله واحد) (البقرة:163) ، إثبات للوحدانية، وقوله تعالى: (قل هو الله أحد) (سورة الإخلاص:1) إثبات الأحدية، والأحد مبالغة في الوحدانية يعني هي أبلغ من أن يقول: (قل هو الله واحد) أحد: أي منفرد بالأحدية لا يشاركه في هذه الصفة غيره. فإذا اعتقد المسلم ذلك عرف أنه المستحق لأن يعبد؛ جل وتنزه عن الشريك، وعن الصاحبة، وعن الند، والنظير، والمثيل. قوله: نفذ حكمه في جميع العباد. شرح: هذه صفة ثبوتية، فبعد ما ذكر الصفات السلبية ذكر الصفة الثبوتية، وهي أن حكمه ذاهب في جميع العباد، قال تعالى: (إن الحكم إلا لله) (يوسف:40) : حكمه: أمره وتدبيره وتصرفه، لا راد لحكمه، ولا معقب لحكمه، ولا لقضائه، نفذ حكمه في جميع البلاد، وفي جميع العباد، وله الحجة في ذلك، ولله الحجة البالغة (قل فلله الحجة البالغة) (الأنعام:149) ، فكونه يحكم فيهم بما يشاء معناه أنه يتصرف في ملكه لأنهم خلقه، ولأنهم ملكه، ولأنه المتصرف بهم وحده. فإذا كانوا ملكه فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وحكمه نافذ فيهم شاءوا أم أبوا، هذا هو الأصل في أن حكم الله تعالى نافذ في الخلق كلهم أولهم وآخرهم، هذه كما قلنا صفة ثبوتية تثبت أن الحكم لله، ويعرف الفقهاء والأصوليون الحكم بأنه: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.

أما حكم الله تعالى فهو تقديره وتنفيذ قدره، فإذا قدر أمراً نفذ قدره أياً كان تقديره وتدبيره، وتصرفه هذا هو حكمه، ويمكن أن يكون حكمه أمره ونهيه، وإن كان قد يأمر من لا يفعل، فقد أمر الكفار بالإيمان، فما آمنوا، وأمر العصاة بالطاعة فعصوا، فهل يسمى هذا حكماً؟ نسميه حكماً شرعياً لا حكماً قدرياً بمعنى أن الحكم النافذ الذي لابد من وجوده هو الحكم القدري، هو الحكم الذي قضاه وقدره في الأزل، وحكم بوجوده، فلا راد له، وأما الحكم الشرعي وهو أنه شرع هذه الأحكام، وشرع الأوامر والنواهي وشرع الطاعات وحرم المحرمات، فهذا حكم شرعي ينفذ فيمن قدر الله إيمانهم لا فيمن قدر الله عصيانهم. قوله: لا تمثله العقول بالتفكير. شرح: من هنا أخذ أيضاً يبدأ في الصفات السلبية. نعرف قبل ذلك أن قاعدة أهل السنة، أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: وذلك لأنه أعلم بنفسه وأعلم بخلقه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بمن أرسله، فيقتصر في بعض الصفات ثبوتية أو سلبية على ما ورد، فقوله: (لا تمثله العقول بالتفكير) معناه أن القلوب تعجز عن أن تصل إلى مثل تمثيله، ولعل الدليل على ذلك قوله تعالى: (ولا يحيطون به علماً) (طه:110) أي مهما فكروا، ومهما سألوا لا يحيطون به علماً، يعجزون عن أن يمثلوا بعقولهم ذاته سبحانه. كذلك لا تحيط به الظنون ولا العقول بالتفكير، ومن أدلة ذلك قوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) (البقرة:255) ، أي لا يصلون إلى علم من صفته إلا بما أوصله إليهم، فإذا لم يشأ لن يستطيعوا أن يصلوا إليه وكيف يعلمون صفة ذاته سبحانه مع أنه قد احتجب عن أن تصل إليه العلوم، أو الأوهام، أو التفكيرات، أو نحوها، وأخبر بعدم مماثلته لمخلوقاته بقوله: (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) .

وقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثلين في التدمرية يبين فيهما عجز الإنسان عن أن يصل تفكيره إلى تكييف الذات الربانية. المثال الأول: مخلوقات الجنة، مع أنها مخلوقات، ولكن لا ندري ما كيفيتها، قصرت عنها أفهامنا، فقد ذكر الله أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا لا تدركه أفهامنا ولا تخيلاتنا، كيف يجري الماء على وجه الأرض، ولا يسيح ولا ينبسط في الأرض، أمر الله أعظم، وقدرة الله أعظم، وكذلك جميع ما ذكر في الجنة. المثال الثاني: الروح التي بها حياة البدن عجزت الظنون عند تفكيرهم فيها، وعجزت العقول عن إدراك ماهيتها، فردوا عقولهم ووقفوا عند قوله تعالى: (قل الروح من أمر ربي) (الإسراء:58) ، نحن نعرف أن الإنسان مركب من جسد وروح، فإذا خرجت الروح بقي الجسد جثة ليس فيه روح، وما هي هذه الروح؟ لا ندري عن ماهيتها، ولا ندري ما كيفيتها، عجزنا عن إدراكها، فكذلك بطريق الأولى عجزت عقولنا عن إدراك كيفية ذات الرب سبحانه، فهذا معنى كونه لا تمثله العقول، ولا القلوب بالتفكير، ولا تتوهمه، ولا تتخيله، ولا تصل إلى كيفية ذاته، بل كل ما خطر من صفةٍ للرب في بالك فإنه على خلاف ذلك. ومهما خطر في بالك أن استواءه كذا، وأن كيفية نزوله كذا، وأن كيفية ذاته كذا وكذا، فإن الرب بخلاف ذلك، ليكون ذلك دليلاً على عجز هذه المخلوقات عن إدراك كنه ذاته، وعن معرفة ماهية ذاته فضلاً عن تحققها.

ومعلوم أن جميع الذين يدينون بالإسلام، أو يدينون بالعبودية لله تعالى؛ مسلم وكتابي وغيرهم، يعتقدون أن هذا الوجود لابد له من موجد، وأن الموجد الذي أوجده واجب الوجود، وقد اطلعنا على ذلك، ولكن باصطلاحات وبعبارات فلسفية منطقية، ويكفي أن نستدل على ذلك بقوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) (الطور:35) ، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير شيء، ولم يكونوا هم الخالقين تعين أن لهم خالقاً، والخالق لابد أن يكون غنياً عما سواه وما سواه فقير إليه. وإذا كان كذلك فإن الخالق سبحانه لا يمكن أن يشابه المخلوق الذي تعتريه الآفات والتغيرات والنواقص التي تنزه عنها الخالق سبحانه، نزه نفسه عن الموت كما في قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) (الفرقان:58) ، ونزه نفسه عن النوم، وعن النعاس، قال تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) (البقرة:255) ، السنة هي النعاس، وهو مقدمة النوم وما أشبه ذلك. فهذه صفات تبين تنزهه عن مشابهة المخلوقات، وتنزهه عن أن تدركه عقول المخلوقين، أن يعرفوا كيفية صفة من صفاته فضلاً عن كيفية ذاته. ثم استدل بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) ، فهذه الآية رد الله فيها على الطائفتين الممثلة والمعطلة. أولها رد على الممثلة: (ليس كمثله شيء) وآخرها (وهو السميع البصير) رد على المعطلة، ولأجل ذلك كان آخرها ثقيلاً على هؤلاء المعطلة حتى روي عن رئيس من رؤسائهم وهو ابن أبي دؤاد أنه قال للخليفة المأمون: أحب أن تكتب على الكعبة، أو على كسوة الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، أراد أن يحرف القرآن؛ لأن كلمة وهو السميع البصير، تطعن في معتقد ابن أبي دؤاد الذي ينكر السمع والبصر، بل ينكر كل الصفات الذاتية، والصفات الفعلية، فلذلك ذكر ابن قدامة في مقدمة كتابه هذه الآية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) .

والممثلة هم الذين يقولون: إن صفات الله كصفات المخلوقين، فيجعلون لله يداً كيدنا، ولله وجهاً كوجهنا، ولله قدماً كقدمنا، ولله كذا وكذا؛ تعالى الله عن ذلك، فرد الله عليهم بهذه الآية، وبآيات أخرى كقوله تعالى: (هل تعلم له سمياً) (مريم:65) يعني شبيهاً ومثيلاً، وكقوله تعالى: (فلا تضربوا لله الأمثال) (النحل:74) ، وينزه الله تعالى نفسه عن أن يكون له مثل. وقد تكلم العلماء على هذه الآية، وقالوا في (كاف) (ليس كمثله) : إن الكاف صلة لتأكيد النفي، وأن المراد بالمثل الذات كما يقولون لمن يمدحونه: مثلك لا يغضب، ومثلك يحكم، ومثلك يعطي، يريدون أنت، فالمعنى: ليس كهو شيء، ليس شيء كهو أي مماثلاً له. وعبر بعضهم بالزيادة في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أن الكاف زائدة حتى لا يفهم أن لله مثلاً، يعني أنه قد يخاف أن لله تعالى مثلاً، فيقال: ليس مثل مثل الله شيء، والصحيح أنه لا يقال في القرآن زائد، ولا لغو، فالقرآن كله حق، وكل حرف منه فيه فائدة، فإذاً نقول: إن الكاف صلة لتأكيد النفي، نفي المثلية، وسمعت من بعض المشايخ في التعبير عن الزيادة يقال: وسم ما يزاد لغواً أو صله أو قل مؤكدا وكل قيل له لكن زائداً ولغواً يجتنب إطلاقه في منزل فذا وجب يعني أنه يعبر عنها بأربع عبارات: زائد، أو لغو، أو صلة، أو مؤكد، ولكن لا يطلق في القرآن كلمة زائد تنزيهاً للقرآن أن يكون فيه شيء زائد يمكن الاستغناء عنه، ومع ذلك تجدون كثيراً من المفسرين يطلقون فيه الزيادة، ومنهم صاحب تفسير الجلالين جلال الدين المحلي عندما أتى على هذه الآية، قال: الكاف زائدة لأن الله تعالى لا مثل له، فلو قال مؤكدة، أو قال صلة لتقوية النفي لكان أبلغ.

وبكل حال؛ فالآية أفصحت عن نفي المثل لله تعالى، ولكن أفصحت أيضاً عن إثبات صفة السمع وصفة البصر، وتجدون في كتب النفاة تكرار هذه الآية (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) ، لأنه ليس كمثله شيء، ولا يأتون بأخرها لأنه حجة عليهم، وبكل حال، الأصل أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ونثبت لله صفات الكمال، وننزهه عن صفات النقص. قوله: له الأسماء الحسنى والصفات العلى (الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه:5-7) . شرح: هذا من جملة العقيدة ندين بأن له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ونعتقد أن أسماء الله تعالى كلها حسنى، وأن صفاته كلها عُلى أي رفيعة المعنى، ورفيعة المدلول، ذكر الله تعالى: أن له الأسماء الحسنى في ثلاثة مواضع: في سورة الأعراف: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (الأعراف:180) ، وفي سورة طه: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) (طه:8) ، وفي سورة الحشر: (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى) (الحشر:24) . يعتقد أهل السنة أن الله تعالى سمَّى نفسه بأسماء وسماه بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وأنها كلها حسنى، والحسنى مبالغة في الحسن أي أنها حسنة رفيعة المعنى جليلة القدر. وقد ورد في الحديث المشهور الذي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين أسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة) ، ثم في رواية الترمذي وغيره سرد الأسماء إلى أن وصلت إلى تسعة وتسعين، ابتداء بالأسماء التي في آخر سورة الحشر: الرحمن الرحيم الملك القدوس إلى آخرها.

ورجح العلماء أن سردها ليس مرفوعاً، وإنما هو من بعض الرواة جمعوها من القرآن، ومن الأحاديث، وقد تتبعها كثيرٌ من العلماء من الأدلة والنصوص، وجمعوا ما فيها من الأسماء كما فعل ذلك ابن القيم في (الصواعق المرسلة) ، وقبله البيهقي في الأسماء والصفات وتبعهما الحافظ الحكمي في (معارج القبول شرح سلم الأصول) وجمعها أيضاً: ابن حزم في (المحلي) ، ولكنه اقتصر على ما صح عنده، وأدخل فيها بعض الأسماء التي لم تثبت أنها أسماء؛ أخذ من قوله: (وأنا الدهر) أن الله يسمى بالدهر، وهذا خطأ. وبكل حال؛ يعتقد المسلمون أن الأسماء كلها حسنى، وأنه يدعى بها، ويعتقد المسلمون أن أسماء الله كثيرة لا تنحصر لأن الله تعالى أجملها في هذه الآيات، ولم يذكر لها عدداَ. وأما الحديث: فليس فيه أنها محصورة في تسعة وتسعين اسماً، وإنما أخبر بأن من أسمائه ومما تسمى به تسعة وتسعين اسماً، اختصت بأن إحصاءها سبب لدخول الجنة، وإلا فلله أسماء كثيرة كما في الحديث الذي في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم: علم أصحابه دعاءً يدعون به، وأوله: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) . فأخبر بأن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب، فدل على أن أسماء الله ليست محصورة بل هي كثيرة. ثم المراد بإحصائها في قوله: (من أحصاها دخل الجنة) ليس هو مجرد حفظها لكنه اعتقاد صحتها والعمل بها، واعتقاد مدلولها، فإن كل اسم دال على صفة.

ذكر العلماء أن كل اسم من أسماء الله له ثلاث دلالات: دلالة على الذات، ودلالة على الصفة المشتقة منه، ودلالة على بقية الصفات، وتسمى دلالته على الذات (دلالة مطابقة) ، ودلالته على الصفة المستنبطة منه (دلالة تضمن) ، والدلالة على بقية الصفات (دلالة التزام) . فمثال ذلك من أسماء الله (الرحمن) كما سمَّي نفسه به في عدة مواضع، هذا الاسم لا ينطبق إلا على الله إذا قيل الرحمن انصرفت الأفهام إلى الرب تعالى، فهو دال على ذات الرب بالمطابقة أي إنه اسم للذات الربانية لا يدل إلا على الله ولا يصح إلا لله تعالى كما إذا قلنا: (محمد) على الإطلاق فإنه ينصرف إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فدلالته دلالة مطابقة. كما أن دلالة الرحمن، والرب، والعزيز على الله تعالى دلالة مطابقة، فالنظر في الرحمن أليس دالاً على صفة؟ إنه مشتق من الرحمة، فدلالته على الرحمة التي هو مشتق منها نسميها دلالة تضمن، أي في ضمن هذا الاسم (الرحمة) كما أن العزيز فيه صفة العزة، والغفور فيه صفة المغفرة، والحكيم فيه صفة الحكمة، والوهاب، والرزاق، والحكم، والعدل كل اسم منها دال على صفة اشتقت منه فهذه دلالة تضمن، أي هذه الصفة في ضمن هذا الاسم. أما دلالته على بقية الصفات، وعلى بقية الأسماء، فإنك تقول مثلاً: إذا سمي الله تعالى بالعليم فإن ذلك يستلزم الغِنَى والغفران والسمع والبصر، وهكذا يلزم من اتصافه مثلاً بالسميع أن يكون بصيراً، ويلزم من اتصافه بالسميع أن يكون غنياً، وأن يكون رحيماً، وأن يكون حكيماً، لأنه إذا لم يتصف بذلك كان ذلك نقصاً في صفة الرحمة. أي كيف يكون رحيماً وليس بغني، وكيف يكون رحيماً وليس بعزيز، وكيف يكون رحيماً وليس بسميع بصير، وكيف يكون رحيماً وليس بمتكلم، وكيف يكون رحيماً وليس بحكيم، وهكذا.

فهذه دلالة التزام، إذا آمن المسلم بهذه الأسماء الحسنى، فمعناه أنه يعتقد دلالتها يعتقد أن الله مسمى بالرحمن، وأنه متصف بالرحمة، وتسمى بالعزيز واتصف بالعزة، وتسمى بالحكيم واتصف بالحكمة، وتسمى بالسميع البصير، فيعتقد ذلك كله. إذا فعل ذلك فقد أحصى هذه الأسماء، وإذا أحصاها واعتقد معناها، لزم من ذلك أن يدين بمقتضاها لأنه إذا دان أن الله سميع وسع سمعه الأصوات، ماذا تكون حالته؟ أليس يخاف الله ويرجوه، وإذا دان أن الله بصير لا يستر بصره حجاب ماذا تكون حالته؟ أليس يراقبه ويعبده؟ ويرجوه ويخافه؟ ويطيعه ويبتعد عن معصيته، إذا فعل ذلك، فإنه تقي نقي يكون ممن يرجى له الجنة والنجاة من عذاب الله، فعرف بذلك أن إحصاءها التزام جميع الطاعات والبعد عن جميع المعاصي. قوله: والصفات العلى. شرح: إن صفات الله تعالى تليق به، وقد وصف نفسه بصفات كلها عُلى، ولكن معلوم أن هذه الصفات تختص بالموصوف بها، فلا يجوز أن تكون كصفات الخلق التي هي ناقصة ويعتريها التغير، ويعتريها الفقد، فكم من إنسان قوي عاقل ذكي، ولكن ينقصه صفات أخرى كالغني أو الجود أو الحكمة، والقوة أي هو ضعيف وفقير وضرير وأصم وأبكم ... ، فقد تعتري الإنسان صفات النقص، ولكن صفات الله تعالى لا يعتريها نقص ولا تغير بل هي غاية الكمال. فإذا وصفنا الله تعالى بالسمع والبصر، فإنا نقول: إن سمعه ليس كسمع خلقه، وبصره ليس كبصر الخلق، فالإنسان لا يبصر ما وراء الحجب، ولا ما وراء الحيطان ونحوها، فإنه يستر بصره أدنى ساتر، والرب تعالى: لا يستر بصره حجب، والإنسان سمعه مقصور على ما قرب منه، ولا يسمع ما بعُد، وتشتبه عليه اللغات، وتشتبه عليه الكلمات، والرب تعالى ليس كذلك.

وإذا وصفنا الله تعالى بالصفات الفعلية فإنها كلها صفات رفيعة، إذا وصفناه بأنه هو العلي، فقلنا له العلو بجميع أنواعه: علو ذات، وعلو قدر، وعلو قهر؛ إذا وصفناه بالفوقية. فكذلك إذا وصفناه مثلاً بالغنى وبالعطاء، وبالجود وبالكرم، وبالحلم وبالمغفرة فكلها في غاية الرفعة والمنعة، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة. وقد خالف في ذلك الأشاعرة مع شيوع مذهبهم وشهرته فهم يقرون بسبع صفات، وهي: السمع، والبصر، والكلام، والقدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، وينكرون بقيتها، فلا يقولون: إن الله موصوف بالصفات العلى جميعاً التي وصف بها نفسه، وهذا تنقص لله لأنهم أنكروا صفات أثبتها الله لنفسه، ولكنهم يقرون بالأسماء جميعاً، وإن كانوا ينكرون دلالة بعضها. أما المعتزلة، فإنهم ينكرون الأسماء ويتأولونها أو ينكرون دلالتها فيقولون: إنها مجرد أعلام، كما لو أن إنساناً سمي بعدة أسماء، وتلك الأسماء مجرد أعلام يعرف بها شخص ذلك الرجل، يعني قد يسمى الإنسان بأسماء ولا تنطبق عليه صفاتها، أي ليس كل من سمي سعداً من أهل السعادة، وليس كل من سمي صادقاً يكون من أهل الصدق، وليس كل من سمي طاهراً يكون مطهراً، وليس كل من سمي مباركاً تكون فيه البركة، وقد يسمى الإنسان بسعد، وخالد، وزيد، ويسمى بعدة أسماء ولا تكون معانيها منطبقة أو مجتمعة فيه، وإنما سمي بها حتى يتميز عن غيره كما يوصف بلقب أو بنسب إلى قبيلة، ونسبة إلى بلد، ونحو ذلك فيقال مثلاً سعيد بن زيد بن درهم العبسي الكوفي اسم لشخص واحد سمي به حتى تعرف ذاته. والمعتزلة يقولون: هذه الأسماء إنما هي لأجل معرفة الذات لا أنها دالة على صفات، ويصرح كثير منهم بنفي الصفات، ويقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة، رحيم بلا رحمة، تعالى الله عن قولهم.

وإذا قرأت القرآن تجد أن الله تعالى يختم آية الرحمة باسم الرحيم، ويختم آية النقمة باسم العزيز، أو ما أشبه ذلك؛ مما يدل على أن معانيها مقصودة، هذا ما يدين به المسلمون. قوله: (الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه:5-7) . شرح: هذه الآيات من سورة طه دالة على صفات: الأولى على اسم الرحمن، وأنه على العرش استوى استواء يليق به، (ونؤجل الكلام على الاستواء حتى تأتينا الآيات التي فيها ذكر الصفات ومن جملتها هذه الآية) . (له ما في السموات وما في الأرض) (طه:6) هذه أيضاً من صفات الكمال (له ما في السموات) (طه:6) ملكاً وخلقاً وعبيداً إذا قلت: لماذا عبر بـ (ما) التي لغير العاقل (له ما في السموات) مع أنه ورد في آيات (له من في السموات) (الحج:18) . فالجواب أن (ما) قد تأتي للعاقل كقوله تعالى: (والسماء وما بناها) (الشمس:5) ، أو أنه عبر بـ (ما) نظراً للكثرة، فإن ما في السماوات وما في الأرض يدخل فيه الدواب والحيوانات، ودواب البحر، ودواب البر، والطيور والوحوش، وجميع المخلوقات، ويدخل فيه النباتات مع اختلافها، ويدخل فيه الجمادات: الجبال والأودية، والدور والقصور والأشجار، وما أشبه ذلك؛ فلذلك قال تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما) (طه:6) أي ما بين السماء والأرض من المخلوقات وما بين السماوات من المخلوقات كل ذلك له. ومعنى كونها له، أي ملك له، وهو الذي خلقها وأوجدها، وهو الذي يفنيها إذا شاء، ويغيرها ويبدل فيها ما يشاء؛ ويتصرف فيها كما يشاء، يمنع ويعطي، يريش ويبري، يميت ويحيى، يخفض ويرفع، يصل ويقطع، يتصرف فيها فهي إذاً له؛ أي ملكه.

(له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) (طه:6) ، قيل: الثرى هو التراب الذي فيه النداوة والرطوبة، ففسر ما تحت الثرى تحت التراب، أو ما تحت التراب الندي -بالمياه في جوف الأرض، ولا يعلم ما تحته إلا الله، أو ما تحت الأراضين مع سعتها له كل ذلك. (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه:7) هذا أيضاً من الصفات، يعني أنه سبحانه يعلم سر الأمر وخفيه. السر: ما يضمره الإنسان ويكنه في نفسه، أخفى من السر: ما لم يخطر في باله، ولكن علم الله أنه سيخطر في باله فيما بعد، وسيحدث به نفسه، أو سيفعله، وإن لم يكن قد نواه يعلم ذلك كأنه قال: إن تجهروا أو تخفوا لا يخفي عليه أمركم، والجهر: هو رفع الصوت، وإن تجهر بالقول يعني وإن جهرت بالقول، أو أسررت به فالجميع مسموع لله تعالى ومعلوم له. ثم وحد نفسه (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) (طه:8) كلمة لا إله إلا الله لها شروط، ولها أركان، ولها دلالات يطول بنا أن نفصلها، وشروحها -والحمد لله- واضحة، ومعناها لا معبود بحق إلا الله. وقد ذكرنا أن الأسماء الحسنى عامة فيما سمى الله به نفسه من الأسماء، أو ورد في الأحاديث الصحيحة مسألة: في صفات الإحاطة والعلم والقهر قوله: أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً) (طه:110) . شرح: الصفة الأولى: الإحاطة، هذه أيضاً من صفات الكمال، وهي من الدلالة على صفة العلم ونحوه، يقول الله تعالى في آخر سورة الطلاق: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) (الطلاق:12) .

والإحاطة في الأصل: هي الاستيلاء على الشيء من كل جهاته، كأنه أُحيط من كل جهاته بحيطان منيعة فاستُولي عليه، ولكن تستعمل بمعنى الإتيان على الشيء من كل جهاته؛ أحطت بهذا يعني وصلت إلى نهايته، أي أتيت عليه حتى استوليت عليه وعرفته وصارت تفاصيله ظاهرة عندي. فالله تعالى وصف نفسه بصفة الإحاطة، فقال: (والله من ورائهم محيط) (البروج:20) يعني محيط بالخلق أي مستولٍ عليهم، وكذلك محيط بعلومهم، ومحيط بجميع المخلوقات، وما يحصل منها، وأما المخلوقون فعاجزون عن ذلك إلا بما فتحه الله عليهم، قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) (البقرة:255) أي لا يقدرون على أن يحيطوا بشيء من العلوم التي يعلمها، أو التي يمكن تعلمها إلا بما يشاؤه؛ فلا يعلمون المغيبات الخفية بل ولا يعلمون، البعث وما بعده، والحشر وتفاصيله إلا بما علمهم، وبما فتح عليهم. والحاصل أن الله تعالى موصوف بأنه بكل شيء محيط؛ كما أخبر بذلك في عدة آيات؛ في سورة البروج وفي سورة فصلت، وفي آخر سورة الطلاق ونحوها. هذا معنى الإحاطة، ويدخل في ذلك علوم الخلق أي أنه عالم بهم وبمعلوماتهم، وكذلك أيضا: أنه مع علمه بها فإنه قد أثبتها. وهذان يإتيان إن شاء الله في الكلام على القدر؛ أن الله علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ حيث (قال الله تعالى للقلم: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة) ، ومعلوم أنه لا يكتب إلا ما أمره الله به، فكل شيء كائن قد سطر في اللوح المحفوظ، فالله قد أحاط بكل شيء علماً؛ هذه صفة كمال.

الصفة الثانية: العلم، وقوله: (وسع كل شيء رحمة وحلماً) ، وسع كل شيء رحمة، ووسع كل شيء حلماً؛ معلوم أن السعة والاتساع والتفسح بمعنى واحد. وسع يعني امدَّ إلى ما لا نهاية له، فالله تعالى وسع سمعه الأصوات، ووسع علمه المعلومات والمخلوقات كلها، ووسعت رحمته المخلوقات يعني اتسعت رحمته، فرحم الخلق كلهم أولهم وآخرهم، وكذلك اتسع حلمه للخلق كلهم فحلم عنهم كما يشاء. ومعروف أن هذه الصفات الفعلية كصفة الرحمة، وصفة الحلم مما يثبتها أهل السنة، أما الأشاعرة ونحوهم فينكرون الصفات الفعلية كالرحمة والحلم ونحو ذلك. فمن أسماء الله تعالى: (الحليم) وقد ورد في عدة آيات، منها قوله تعالى: (إنه كان حليماً غفوراً) (الإسراء:44) ، والحليم هو الذي لا يعجل، الحليم الذي يحلُم عن الخلق بمعنى أنه لا يعاقبهم؛ أي يعفو عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة. والحليم من الناس هو المتأني؛ يقال: فلان معه حِلْم، يعني تأن في الأمور، وتثبت، وعدم تسرع، وعدم معاجلة بالعقوبة على أية ذنب صغير أو كبير، بل يحلُم عن هذا. حَلُمت عن فلان لما ظلمني، ولما أساء إليَّ، أنا أحلُم عمن ظلمني؛ لا أستعجل العقوبة لمن أساء إليًّ فالحلم صفة شريفة، وإذا كانت من أفضل الصفات، فالله تعالى متصف بكل الصفات التي هي صفات الكمال هذا هو معنى الحلم. الصفة الثالثة: القهر. وقوله: (وقهر كل مخلوق عزة وحكماً) . انظر كيف فرق؛ هناك (رحمة وحلماً) لما ذكر السعة، وهنا (عزة وحكماً) لما ذكر القهر. القهر هو القوة والغلبة؛ قهرها يعني غلبها وقوي عليها، واستولى عليها، وصارت تحت سلطانه وتحت سيطرته، وتحت تصرفه لا تملك لنفسها أي نوع من أنواع التصرف إلا بإذن الله تعالى؛ فهي مخلوقة وذليلة ومهينة، فالله تعالى هو الذي يتصرف فيها كما يشاء ولا يخرج أحد عن قهر الله.

وإذا قلت: إن هناك من طغى وبغى، وهناك من تجبر وعتا، وهناك من كفر ونفر، وهناك من تعدى طوره؛ فأين هؤلاء من قهر الله؟ أليسوا مقهورين؟ أليسوا يلينون لعزة الله ويذلون لها؟ أليسوا مهانين؟ أليسوا مملوكين تحت ملك الله تعالى؟ فما هذا الطغيان؟ وما هذا العسف؟ وما هذا التجبر؟ وما هذا الظلم الذي صدر منهم؟ وما هذا العتو والعدوان على عباد الله الذي نشاهده من الكفرة ونحوهم؟ أين قهر الخالق تعالى لهم؟ أين إذلاله لهم؟ أين السيطرة عليهم؟ . الجواب: أن هذا لا ينافي كونه سبحانه قاهراً لكل مخلوق قهراً قوياً، وله سبحانه الغلبة والسيطرة على المخلوقات، ولكن تأمل كلامنا السابق عن صفة الحلم، وأنه سبحانه وتعالى يحلُم ولا يعجل، يمهل ولا يهمل، يسمع ويَعلم أفعالهم وتعديهم، ولكنه يمهلهم إلى أجل وإلى حين، فعند ذلك ينتقم منهم، وهو العزيز ذو الانتقام، فلا يغتر الظالم بجبروته، وبقوته وسيطرته، وبما أعطي من القوة؛ فإنه مقهور ومستولى عليه، ولا بد أن يؤخذ الحق منه. أيحسب الظالم في ظلمه ... أهمله القادر أم أمهلا ما أهملهم بل لهم موعد ... لن يجدوا من دونه موئلا فلا يحسب أنه مهمّل، بل إن الله تعالى يمهل ولا يهمل، يمهلهم إلى أجل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) . ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) (هود:102) . وقال في حديث آخر: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) (الأنعام،:44) . وقال تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين) (القلم:44-45) .

فالله تعالى يملي لهم ويمهلهم سنوات وعشرات السنين، ولكن إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فإما أن يبطش بهم، وإما أن يسلط عليهم من هو أقوى منهم؛ إذاً فهذه الصفة صفة صحيحة ثابتة لله تعالى ندين بها، ولا نقول: إن هناك من خرج عن قهر الله، أو خرج عن غلبة الله، ولا أن هناك من اغتر بنفسه وليس لله قدرة عليه، فلله تعالى قدرة على الجميع. فالله تعالى قادر على كل شيء، وكل الخلق تحت تصرفه، وفي قبضته، وينتقم منهم إذا شاء، ويسلط عليهم من ينتقم منهم، أو يعمهم بالعقوبة؛ إذاً فلا يغتروا بالإمهال، يا أيها الظالم في فعله يا من تماديت واعتقدت أنك من الناجين لا تغتر بذلك، فالظلم مردود على من ظلم، والله تعالى ينتقم من الظالم ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، هذا معنى قوله: (قهر كل مخلوق عزة وحكماً) . قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً) (طه:110) هذه الآية مشتملة أيضاً على صفة من الصفات الفعلية الذاتية، فإن العلم صفة ذاتية فعلية بمعنى أن الله لا يمكن أن يتصف بفقد العلم، فالعلم صفة ذاتية لله تعالى. قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) (الحديد: 22) ، معرفة ذلك سهلة يسيرة على الله تعالى، كذلك قال تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) في عدة آيات. وقد فسر قوله: (ما بين أيديهم) بأنه ما قد ملكوه (وما خلفهم) ما سوف يحصلون عليه ويتملكون عليه. وفسر (ما بين أيديهم) يعني الخلق الذين قد مضوا، (وما خلفهم) الذين سوف يخلقون فيما بعد، وفسر (ما بين أيديهم) يعني ما أمامهم مما يشاهدونه (وما خلفهم) أي ما وراء ظهورهم مما لا يشاهدونه. والأقرب أن الآية عامة، وأما الأصل، فإن الله يعلم ما قبلهم وما بعدهم، ويعلم ما أحاطوا به الآن، وما سوف يعلمونه فيما بعد، يعلم ذلك كله.

قوله: (ولا يحيطون به علماً) أي لا يعلمون علماً يقينيا ً بذات الله تعالى أي لا يعلمون علم الرب، وإنما يعلمون من صفاته ما أطلعهم عليه، هذا هو الأصل. مسألة: طريقة أهل السنة في إثبات الصفات قوله: موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم. شرح: تتكرر هذه العبارة في كتب العقائد، ويدين بها أهل السنة؛ يقولون: إن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإذا قلنا ذلك فإننا نعترف بهذه الصفات التي وصف بها نفسه، ونصفه بها، ولا نتحاشى، بل نجسر عليها ونتكلم بها حيث أنه أخبر بها عن نفسه، ولو كان في ذلك ما يكون، ولو استنكرها من يستنكرها، ولا عبرة بمن يستوحش عندما تذكر صفات الله تعالى كصفة العلو، وصفة الاستواء، وصفة النزول كما يشاء، وصفة اليد، وصفة الوجه، وصفة الرحمة، وصفة المحبة، وما أشبه ذلك. فالله تعالى قد أثبت هذه الصفات، وكذلك أثبتها نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كانت ثابتة أفلا يثبتها المسلم لا شك أن إثباتها من دين الإسلام، وذلك لأن الدليل عليها قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة؛ وهو ما أثبت في القرآن، فهل هناك شيء أصح من القرآن، ثم يليه الكتب الصحيحة كالصحيحين وغيرهما من الكتب التي تعتني بالصحيح. وهذه الكتب مشتملة على صفات ثابتة قطعية الثبوت، ثم هي أيضاً قطعية الدلالة، دلالتها صريحة يعرفها كل عربي فاهم للغة يعرف ما تدل عليه، فمن الذي يشك في أن العرش سرير الملك؟ ‍ أثبت الله لنفسه العرش فنثبت أن لله عرشاً، وكذلك من الذي يشك أن العلو هو الارتفاع لغة؟ فنثبت لله العلو، ومن الذي يشك في أن السمع هو إدراك الأصوات، وأن البصر هو إدراك المرئيات؟ معروف أن هذه الصفات لفظها واضح من اللغة.

فإذا سمعنا هذه الصفات تجرأنا على أن نثبتها لله ولا نتحاشى، بل نجسر على إثباتها ولو شنّع علينا من شنع، ولو أنكر علينا من أنكر؛ وما ذاك إلا لأن دلالتها واضحة لا تحتمل خفاء، وليس فيها غموض. فطريقة أهل السنة أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه رسوله وجميع الأنبياء في كتبهم المنزلة وفي شرائعهم وسننهم، وذلك لأنه تعالى أعلم بنفسه، ورسله أعلم بمن أرسلهم، فإذا وصف نفسه بصفة، وأثبتها لنفسه، فكيف ننفيها، وكيف ننكرها؟ ما الدليل على ذلك، وما السبب في ردها؟ لا شك أنها إذا كانت قطعية ورددناها، وقلنا: إن العقل ينكرها ويستبعدها؛ كنا قد حكّمنا العقول في شرع الله، وهذا لا شك أنه جرأة على الله تعالى، وتحكيم للعقل الضعيف الذي يعتريه التغير في ذات الرب تعالى الذي أثبت لنفسه كل كمال، ونفى عن نفسه كل نقص. وبكل حال؛ فمعنى هذه الجملة: أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وأن كل ما ثبت فإننا نقول به. وأما ما روي من الأدلة التي لم تثبت فلا نقول به لضعف المتمسك، فإذا كان هناك أحاديث ضعيفة مشتملة على بعض الصفات، فلا تثبت بها الصفات، وإنما تثبت الصفات بالأحاديث الصحيحة، ولو لم تبلغ حد التواتر ما دام أنها متلقاة بالقبول، وثابتة بالأسانيد الصحيحة، فإنا نثبت ما دلت عليه. فمثلاً صفة النزول: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ... إلخ) الحديث. ذكر بعض العلماء أنه مروي عن نحو عشرة من الصحابة من طرق بعضها في الصحيحين، فكيف نردها بمجرد العقول؟ إن كثيراً ممن ينكر الصفات من أشاعرة ونحوهم إذا سمعوا هذا الحديث نفروا منه.

حتى إنه حدثني بعض التلاميذ من الذين اعتقدوا العقيدة الصحيحة أنه تكلم مرة بعد صلاة الجمعة وأخذ يرغب في قيام الليل، وأورد هذا الحديث: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) البخاري ومسلم، فقال: إن هذا فيه حث على قيام الليل، فلما سمع الإمام -وكان أشعرياً- هذا الحديث هرب وخرج استنكاراً له حيث إنهم يقولون: إنه لا يدل على صفة، وإنه لا يستدل به لكونه ليس بمتواتر، ونحو ذلك. واصطلح هؤلاء الأشاعرة ونحوهم -الذين سموا علمهم بعلم الكلام- على أن الصفات لا تثبت بالأحاديث إلا إذا كانت متواترة، وأما أحاديث الآحاد فلا تقبل في الصفات، لأنهم اصطلحوا على أن المتواتر يفيد اليقين، وأن الآحاد يفيد الظن، وقالوا: لا يمكن أن تكون صفات الله دلالتها دلالة ظن، فلا نثبتها بالأحاديث التي لم تبلغ درجة التواتر، بل نرد كل حديث في الصفات إذا لم يبلغ حد التواتر. ونحن إذا نظرنا لم نجد الأحاديث المتواترة إلا قليلة، مثل أحاديث الشفاعة، مع أن المعتزلة ردوا أحاديث الشفاعة، وقد بلغت حد التواتر، فلم يعملوا باصطلاحهم، وأحاديث النزول ردوها لأنها في نظرهم آحاد، وكذلك بقية الصفات مثل حديث العجب، وحديث الضحك، وحديث النداء، وحديث الكلام، وحديث الصوت؛ كلها ردوها، وقالوا: إنها ظنية لأنها آحاد، فلا نقبل إلا ما هو متواتر، سبحان الله ألستم قبلتموها في الأحكام وفي الأوامر والنواهي، وفي الحلال والحرام فلماذا تقبلونها هنا وتردونها هناك؟ ألستم في هذا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ ألستم كمن يقول: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً) (النساء:150) .

هذه طريقتهم أما طريقتك -أيها المسلم- فإنك تأخذ كل ما ثبت، وأنك تقبله وتتقبله وتؤمن به إيماناً كاملاً حتى لا يعتريك في ثبوته شك، وأنها صفات ثابتة لله تعالى، أثبتها الله الذي هو أعلم بنفسه، وأثبتها له رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم بمرسله. مسألة: التسليم والقبول لآيات وأحاديث الصفات قوله: وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفة الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل. شرح: هذا الكلام -أيضاً- توضيح لما قبله، يعني: كل ما جاء في القرآن فإنه ثابت قطعي الدلالة من صفات الرب تعالى، وجب قبوله ووجب الإيمان به، وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة الثابتة، التي تلقتها الأمة بالقبول وجب الإيمان به أيضاً، ووجب اعتقاد مدلوله، ووجب اعتقاد صحته، وأنه صحيح ثابت ليس في شك ولا توقف. ومعلوم أن القرآن لا خلاف في دلالته من حيث الثبوت، ولكن كيف يرده هؤلاء الذين اعتمدوا العقول؟؛ يقولون: إنه قطعي الثبوت، ولكن ليس قطعي الدلالة، فدلالته ظنية لأنها محتملة للتأويل، وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال، هكذا يعبرون، ونحن نقول: إن احتمالكم الذي تقولونه؛ احتمال ضعيف، احتمال بعيد لا يؤبه له. مسألة: الكلام في المشكل من النصوص قوله: وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران: 7) . شرح:

قد تأتي بعض الصفات مشكلة على بعض الناس فيفهم منها التشبيه، أو يفهم شيئاً لا يليق بالله تعالى، ففي هذه الحال نقبلها لفظاً ونعرف أن لها معنى، ولكن نتوقف في الكيفية، ونتوقف عن التقعر في السؤال عن كيفيتها، وننزهها عن أن تكون مماثلة لصفات المخلوق، أو أن يفهم منها نقص في حق الخالق. وأكثر من يحتج به النفاة من الأشاعرة ونحوهم في نفي الصفات، إذا أثبتناها لهم وقلنا: دل عليها القرآن فما دليلكم في النفي؟، فأكثر ما يحتجون به: أنها تحدث، وأنها تتجدد فيقولون: إن الله منزه عن حلول الحوادث فلا تحل به الحوادث. وهذه أكبر شبهة عندهم، وهذه الجملة لا دليل عليها، فكلمة حلول الحوادث إنما هي اصطلاح اصطلح عليه هؤلاء النفاة فجعلوه دليلاً قاطعاً في نفي الصفات. فنقول: ما الذي حملكم على أن تقولوا: "ليس محلاً للحوادث أو هو محل للحوادث"؛ أثبتوا الصفات واتركوا "محل الحوادث، أو ليس محل حوادث" وكلُوا أمرها إلى الله تعالى. وقد يوجد بعض الصفات التي يُشكل ظاهرها فيتوقف بعض أهل السنة فيها، ولكنهم يثبتونها حقيقة، وإذا أُوردت عليهم الإشكالات قالوا: ليس لنا تدخل في ذلك. فمثلاً إذا قال النفاة: لو كان على العرش لكان أصغر من العرش، أو أكبر، أو مساوياً؛ وكل ذلك محال -هذا من افتراضاتهم- فنقول: ليس لنا أن نخوض في هذا بل نقول إنه على العرش كما أخبر، ولكن لا نخوض في إشكالاتكم هذه ونحوها، الله تعالى أخبر عن نفسه بهذا وهو أعلم بنفسه. ومثلاً إذا ذكر النزول وذكر حديث: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ... الحديث) يوردون -أيضاً- إشكالاً؛ ويقولون: معلوم أن العرش فوق المخلوقات وهو سقفها، فعند نزوله؛ هل يخلو منه العرش؟ هل تحصره السماء الدنيا التي ينزل فيها؟ وإلى متى يستمر هذا النزول؟ وهل ينزل العرش معه؟

هذا الافتراضات لا حاجة إليها، ولا نتدخل فيها، هذه إشكالات أوردتموها أنتم ولا حاجة لنا في البحث عنها، نحن نثبت النزول، ولكن كيفيته الله أعلم بها -كما سيأتينا الكلام على النزول إن شاء الله. كذلك من الصفات التي أدلتها صحيحة، ولكنها مشكلة؛ ومع هذا يجب أن تُثبت، وتفوض كيفيتها إلى الله؛ مثل حديث الصورة (خلق الله آدم على صورته ... الحديث) ، فقد كثر الكلام حوله حتى ألفت فيه مؤلفات مفردة، وأثبته الذين كتبوا فيه، فإذا أثبتنا أن الحديث صحيح، وأنه من أحاديث الصفات، قلنا: نثبته، ولكن نتوقف في كيفيته. ونقول: إن الله ليس كمثله شيء، وأنه سبحانه قد أخبر بهذا، وأخبر به رسوله، وليس لنا أن نتقعر في نفي ذلك. وبكل حال ما أشكل من ذلك -كما قال ابن قدامة: (وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه) يعني كيفيته، هذا هو الصحيح، أما معانيه اللغوية فإنها ظاهرة، ونجعل عهدته على ناقليه ونثق بهم ونقول: العهدة والمسؤولية عليهم، وذلك لأنهم هم الذين نقلوا لنا السنة والشريعة، بل هم الذين نقلوا القرآن كله والأحاديث كلها؛ فكيف نرد هذا الحديث وحده، أو هذه السنة وحدها، فالذي نقلها هو الذي نقل غيرها من الأحكام. فنجعل عهدته على ناقله أي المسؤولية عليه إن كان خطأ، ونكل علمه -يعني الكيفية والماهية- إلى قائله؛ أي إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا في الشيء الذي يشكل علينا في الكيفيات ونحوها. هذه طريقة الراسخين في العلم؛ والرسوخ هو التمكن، يقال: رسخ في كذا يعني تمكن فيه، فالراسخ العالم الذي تمكن العلم منه وتمكن من العلم، والمراد بالعلم هنا العلم الصحيح الذي هو ميراث الأنبياء، فهو العلم الذي من علمه وفهمه وأحاط به سمي راسخاً في العلم. والله تعالى مدح الراسخين في العلم، فقال تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران:7) .

قسم الله تعالى الآيات في أول سورة آل عمران إلى محكمات ومتشابهات، فأخبر بأن أهل الزيغ يتبعون المتشابه، وأن الراسخين يقبلون الجميع: يقبلون المتشابه ويقبلون المحكم، ويقولون: آمنا بالجميع، كل من عند ربنا، ويدعون الله فيقولون: (ربنا لا تزغ قلوبنا) (آل عمران:8) أي لا تجعلنا مثل الذين في قلوبهم زيغ -يعني ميل وانحراف- فنضل عن سبيلك. دعوا الله دعوة صادقة وهم على صواب وعلى حق. فطريقتهم أنهم يقولون: نؤمن بالمحكم ونعمل به، ونؤمن بالمتشابه ونقبله، ولكن لا نتقعر في معناه ولا نرده ولا نتأوله، ولا نحمله على ما نفهمه من صفات المخلوقين فنكون ممثلين، ولا نتكلف في رده وإبطاله فنلحق بالمعطلين. مسألة: التأويل المذموم قوله: وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) (آل عمران:7) . شرح: هذا ذم لهذه الطائفة الذين هم الزائغون؛ والزيغ هو الميل والانحراف، ويكون في القلب وهو أشده، قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (الصف:5) يعني أنهم فعلوا أفعالاً صاروا بها زائغين، يعني مائلين عن الحق؛ فعاقبهم الله تعالى بان أزاغ قلوبهم، والجزاء من جنس العمل. فهؤلاء الزائغون الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الحق وانحراف عنه؛ ذمهم الله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) (آل عمران:7) يتبعون المتشابه معناه: أنهم إذا وجدوا المتشابه إما أن يطعنوا به في الشريعة ويقولوا: هذه الشريعة تجمع بين الحق والباطل، فيأخذون المتشابه ويجعلونه طعناً في الدين، وإما أنهم يجعلونه عقيدة لهم ولو كان دالاً على التعطيل، أو دالاً على التمثيل، وهذه طريقة زائغة منحرفة.

فالتأويل الذي ذمهم الله به: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) (آل عمران:7) يعني: تحريفه وتصريفه عن دلالته، والفتنة هي الشبهة، أو التشبيه الذي يوقع في الضلال، أو التحريف أو نحو ذلك، والحاصل أنهم يتبعون المتشابه. روي في سبب النزول أن بعض النصارى تمسكوا بالآيات التي فيها ضمائر الجمع فقالوا: هذه دالة على أن الخالق متعدد، مثل قوله: (نحن قسمنا) (الزخرف:32) ، (إنا أنزلناه) (القدر:1) ، (إنا أعطيناك) (الكوثر:1) ، (إنا فتحنا) (الفتح:1) ، فقالوا: هذا دليل على أن هناك آلهة كثيرة فيكون عيسى، وأمه، والله؛ هم الذين خلقوا هذا الخلق، فجعلوه من المتشابه، أي أنهم استدلوا بضمائر الجمع على تعدد الآلهة، وهذا خطأ واضح؛ وذلك لأن الله تعالى يذكر نفسه بضمير الجمع للدلالة على التعظيم، فإن الأمير يعظم نفسه فيذكر نفسه بلفظ الجمع: نحن فعلنا، ونحن غزونا، ونحن أمرنا، مع أنه واحد، فالله تعالى أحق بأن يعظم نفسه. ولكن كيف يتخذون هذا دليلاً على تعدد الآلهة؟ هذا من زيغ في قلوبهم، وهذا ابتغاء للفتنة؛ أن يفتنوا الجهال، وهذا طلب للتشبيه، يعني أنهم يشبهون صفات الخالق بصفات المخلوق أو أنهم يريدون الوقوف على تأويل الكلمات، وبكل حال فهذا من الزيغ، والله تعالى ذم الذين في قلوبهم زيغ بهذه الجملة؛ أنهم يتبعون ما تشابه منه من الآيات. ويدخل في اتباع المتشابه ما قد يفهمه بعض المعتزلة من الجمل التي في ظاهرها تأييد لمذهبهم، وهو إنكار قدرة الله تعالى، فيتمسكون بالآيات التي فيها تفويض القدرة إلى العباد، ويجعلونها هي المحكم. بينما الأشاعرة والجبرية ونحوهم يتمسكون بالآيات التي فيها تفويض الأمر إلى الله، وأنه هو الذي فعل ما يشاء، ويجعلونها هي المحكم، ويجعلون المتشابه ما سواها.

والصحيح أن آيات الصفات من المحكم وليست من المتشابه، وذلك بالنسبة إلى مدلولها، أي إنها دالة على صفات، وأن تلك الصفات مفهومة المعنى إلا أن الكيفية التي هي عليها من المتشابه، فالذين يأخذون تلك الآيات ويجعلونها دالة على التشبيه؛ هؤلاء يبتغون الفتنة، ويبتغون تأويله، وكذلك غيرهم، وبكل حال: هذا مقصد سيئ (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) (آل عمران:7) . قوله: فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه بقوله سبحانه: (وما يعلم تأويله إلا الله) (آل عمران:7) . شرح: جعل علامة زيغهم أنهم يبتغون تأويله، وكذلك أيضاً: يبتغون الفتنة، وقرن ابتغاء الفتنة بابتغاء التأويل، والفتنة هي فتنة الناس عن دينهم، يريدون أن يفتنوا أهل السنة حتى يضلوهم، يريدون أن يفتنوا الجهلة حتى يخدعوهم عن ما هم عليه، ويصرفوهم إلى معتقدات سيئة، فهذه الفتنة كم افتتن بها من الجهال؟ ولا يزالون إلى هذا اليوم، لا يزال دعاة الضلال يشبهون ويموهون على الجهال حتى يحرفوهم ويصرفوهم عن معتقد أهل السنة، كثير من دعاة الضلال لا يزالون في كل مكان إذا جاءتهم الآيات جعلوها في جانبهم، وأخذوا يفسرون مدلولها على ما يذهبون إليه، وقالوا: هذه دالة على مذهبنا ونحن على حق، أو صواب. وهم في الحقيقة بعيدون عن الصواب، وقصدهم دعوة الناس إلى المعتقد الذي هم عليه؛ وذلك لأن كل من اعتقد عقيدة زين له أنها هي الصواب، فإن كان صوفياً دعا إلى تصوفه، وإن كان قبورياً دعا إلى تعظيم القبور ونحوها، وإن كان معتزلياً أو قدرياً أو جبرياً أو مرجئاً أو رافضياً أو مبتدعاً أي بدعة، فإنه يخيل إليه أن غيره على خطأ، وأنه هو المصيب، فلأجل ذلك: يحرص على أن يجد أدلة يستظهر منها الدلالة على ما هو عليه حتى يفتن الناس.

فمثلاً القبوريون: قد يستدلون بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (المائدة:35) ويقولون: المراد: التوسل بالأموات إلى الله ودعاؤهم ليكونوا وسائط، وهذا من اتباع المتشابه، قال تعالى: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) (آل عمران:7) . كذلك قد يستدلون بقوله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) (الإسراء:57) ، فيقولون: إن هؤلاء ممدوحون أنهم يتوسلون بأيهم أقرب إلى الله تعالى فيبتغون إليه الوسيلة، ولا شك أن هذا صرف للمعنى عن المتبادر منه، فهذا من اتباع المتشابه، وهو أيضاً مما يوقع في الفتنة فالوسيلة هي القربة أي يتوسلون إلى رضاه بالقربات وأنواع الطاعات. ونجد مثلاً أن المعتزلة قد يستدلون على نفي الرؤية بقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) (الأنعام:103) وبقوله تعالى لموسى (لن تراني) (الأعراف:143) وهذا المتشابه، وسيأتينا الإجابة عنه عند الكلام على الرؤية، فمثل هؤلاء يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وقد ذكرنا أن أكثر النفاة يعتمدون قوله تعالى في آية الشورى: (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) ويجعلونها عمدتهم في نفي الصفات، ويقولون: إذا أثبتنا لله تعالى سمعاً، فقد شبهنا، والله سبحانه ليس كمثله شيء، وكذا إذا أثبتنا له صفة البصر، وغيرها، فيعتقدون أن إثبات الصفات تشبيه، وهذا من ابتغاء الفتنة، وابتغاء التأويل، وهو طريق الذين في قلوبهم زيغ. فالله تعالى حجبهم عن ما أمّلوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه في هذه الآية، يقول تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) (آل عمران:7) قطع لأطماعهم. والكلام في تفسير هذه الآية معروف في كثير من أصول التفسير، وأصول الفقه ونحوها، وكذا الخلاف: هل الراسخون يعلمون تأويله؟

فقد ذكر ذلك العلماء كثيراً، وتعرض له شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، وذكر أن التأويل صار في اصطلاح الناس يطلق على ثلاثة أنواع: النوع الأول: التفسير. وهو اصطلاح بعض العلماء كابن جرير، فلا فرق عنده بين التفسير والتأويل، فهو يقول: القول في تأويل قوله تعالى. ثم يقول: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، أو يقول: وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ومراده التفسير، وكأنه اصطلح على أن إيضاح المعنى والمراد من الآيات آل إلى كذا وكذا، فسماه تأويلاً بالنسبة إلى ما آل إليه وشرح عليه. النوع الثاني: أن التأويل معناه حقيقة الشيء وماهيته، وما تؤول إليه ماهية الشيء التي هو عليها هو التأويل، أي ما يؤول إليه وما يرجع إليه كتمثيله وتطبيقه، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر حياته: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) يتأوله يعني يمثله أو يمتثل الأمر الذي أمر به في قوله: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) (النصر:3) . والله تعالى يخبر عن مآل الأشياء ويسميها تأويلاً: (ذلك خير وأحسن تأويلاً) (الإسراء:35) ، أي مالاً، ومنه قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله) (الأعراف:53) المراد حقيقته، تأويل البعث: حصول النشور، والبعث من القبور، وتأويل الجزاء: إعطاء كل ثواب حسناته، أو جزاء سيئاته. يقال هذا تأويل قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه) (الحاقة:19) ، (وأما من أوتي كتابه) (الحاقة:25) ، (فمن ثقلت موازينه) (الأعراف:8) ، (ومن خفت موازينه) (الأعراف:9) هذا تأويله يعني تحققه، وكذلك تأويل دخول الجنة: كون أهل الجنة يرون ما فيها ويقولون: هذا تأويل ما أخبرنا الله به؛ فتأويل الأشياء: حقائقها وما تؤول إليه. فهذان معنيان صحيحان؛ أن التأويل يأتي بمعنى التفسير، وأن التأويل يأتي بمعنى حقائق الأشياء وماهيتها.

فإذا قيل إن الراسخين يعلمون التأويل؛ فالمراد بالتأويل: التفسير الذي تفسر به الكلمة ويشرح به معناها، وإذا قيل: إن التأويل لا يعلمه إلا الله؛ فالمراد: حقائق الأشياء وماهيتها وما هي عليه، يعني كيفية البعث، وكيفية الحشر، وكيفية نصب الموازين وكيفية نشر الصحف، وماهية تلك الصحف، وما مقدار المسافة، وكم في كل كتاب من صفحة ومن سطر، أو من كلمة. فكيفية ذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهكذا أيضاً: ما أخبر الله به عن الجنة وأنهارها وأشجارها وثمارها وقصورها، كل ذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، يعني ماهيته وكيفيته وحقيقته التي هو عليها. النوع الثالث: اصطلح المتأخرون من الأصوليين وأهل الكلام على أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، إذا قالوا: هذه الآية تحتاج إلى التأويل أو لابد من التأويل أو نخوض في التأويل؛ فمرادهم بالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره، فإذا قالوا: (استوى على العرش) ، يعني استولى؛ هذا تأويل حملنا عليه الفرار من التجسيم -كما يقولون- أو (استوى على العرش) استوى على الملك؛ هذا تأويل حملنا عليه الفرار من التشبيه. وهذا اصطلاح جديد حادث في القرون المتأخرة؛ فما كان السلف يعرفون في الاصطلاح أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، بل التأويل عندهم هو المعنيان الأولان، أنه بمعنى التفسير أو أنه بمعنى الحقائق التي يؤول إليها الأمر.. مسألة: قول الإمام أحمد رضي الله عنه في الصفات قوله:

قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) أو (إن الله يرى في القيامة) وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف، ولا معنى ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) . شرح: نقل ابن قدامة رحمه الله بعض الآثار عن الأئمة، وقصده بذلك الاستئناس بها وليس اعتمادها، فقد قالها أئمة مقتدى بهم، معروفة مكانتهم، معترف بفضلهم، مشهور علمهم وكتبهم، يترحم عليم ويدعى لهم في كل زمان، فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبه نطقوا، وبهم نطق، هؤلاء سرج الأرض، وأئمة الدنيا في زمانهم وبعد زمانهم، فإذا جاءت الآثار عنهم فإنها تكون محل قبول. هذا الأثر عن الإمام أحمد قد يكون فيه بعض الإشكالات، وهو أثر ثابت عنه، رواه عنه بالإسناد القاضي أبو يعلى الفراء المشهور الحنبلي في كتاب له مطبوع اسمه (إبطال التأويل) . لما سئل الإمام أحمد عن أحاديث الصفات؛ كأحاديث النزول، أو أحاديث الرؤية، وكذلك آيات الصفات -جاء فيها بالصواب، وإن كان لفظاً مجملاً، وقد أفصح فيها رحمه الله بما هو الصواب في كثير من كتبه، وأثبت بأن الله تعالى يُرى حقيقة بالأبصار، وأنه ينزل كما يشاء إلى سماء الدنيا، وأنه على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه يسمع كل شيء، ولا يستر سمعه شيء، وأنه يرى ولا يستر بصره شيء، ونحو ذلك من الصفات، أثبتها إثباتا حقيقياً.

قد يتوقف في بعض الكلمات، ولكن قصده في ذلك الرد على الممثلة الذين يبالغون في الإثبات حتى يخرج بهم هذا الإثبات إلى نوع من التشبيه، فذكر أنا نؤمن بهذه الصفات، ونؤمن بهذه الآيات؛ يعني نصدق بها ونعتقد صحتها، وصحة معناها، ودلالتها، وذلك لأنها كلام الله، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ صحت عنه، وثبتت عنه، وقد أمرنا باتباعه، وأمرنا بطاعته، وقد عرف نصحه لأمته، وعرف بفصاحته وبيانه وبلاغته. وإذا اجتمعت فيه هذه الصفات؛ كونه ناصحاً للأمة، حريصاً على نجاتها، وكونه فصيحاً بليغاً يعبر بالكلمات المفهومة التي لا لبس فيها أو خفاء، وكونه قد بلغ كل شيء، وعلم الأمة كل ما يهمهم، وما يحتاجون إليه، وأن هذه البيانات التي رويت عنه ثابتة قطعية الثبوت لا راد لها ولا طعن في أسانيدها؛ فكيف مع ذلك نردها؟. بل الواجب أن نقبلها، ونجعلها في ضمن معتقدنا، ولكن لا نكيَّفها كما ثبت ذلك عن السلف أنهم قالوا: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. أي لا تسألوا: عن الكيفية. والكلمة التي تشكل في هذا الأثر قوله: (لا كيف ولا معنى) ونحن نعتقد أن للصفات معنى، ونعتقد أن المعاني مفهومة، ولذلك فمراده بالمعنى هنا هو الماهية، وقصده أن ماهية تلك الصفة لا نخوض فيها، فلا نقول مثلاً: إن الله تعالى يبصر بعين مركبة من طبقات، ويحيط بها مشافر -مثلاً- وأهداب، ويسمع مثلاً بآذان وبأصمخة، وبكذا وبكذا، ويتكلم مثلاً بقصبة هوائية، وبلسان وشفتين لا نقول مثل هذا، ولكنا إذا أثبتنا الصفات أثبتناها حقيقة دون أن نبحث عن هذا، فلعل هذا هو مراد الإمام أحمد بقوله (لا كيف ولا معنى) ، فالكيف مجهول يعني كيفية الصفة، وأما المعنى فهو مفهوم بدلالته اللغوية، وخفي بكيفيته وكنهه، وأما الكلام فهو الكلام المسموع الذي يفهمه من سمعه.

فقوله: (لا كيف) على ظاهره، يعني لا نخوض في الكيفية، وقوله: (ولا معنى) يراد به الكنه، أي ولا نتدخل في كنه الصفة وماهيتها، وما هي عليه، وأما المعنى الظاهر الذي تفسر به الكلمة فإنه معلوم للأمة، ولو لم يكن معلوماً لكان يخاطبهم بكلام لا يفهم كأنه أعجمي وهم عرب، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك، فقال تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي) (فصلت:44) ، وأخبر بأنه بلسان عربي مبين، ولما قال المشركون (إنما يعلمه بشر) (النحل:103) رد عليهم بقوله تعالى: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل:103) . فلا يليق أن يكون الرسول وهو عربي ويخاطب العرب، ثم يخبرهم بشيء لا يدرون معناه، فلا بد أنا نعرف المعنى، ولكن نتوقف عن الكيفية، وعن الماهية، ونتقبل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: فلا نكون من الذين يقولون: (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) (النساء:150) ، وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى: (أولئك هم الكافرون حقاً) (النساء:151) فالواجب ألا نرد شيئاً من المقالات التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم مع ثبوتها، بل نثبتها، ولا نرد شيئاً ولا نزيد من عند أنفسنا شيئاً لا دليل عليه. هذه هي طريقة أهل السنة، فطريقتهم نفي التشبيه، وإثبات الصفات بلا تشبيه، عملاً ببعض الآية التي ردت على الطائفتين المتطرفتين؛ طائفة مشبهة رد الله عليهم بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) (الشورى:11) ، وطائفة معطلة رد الله عليهم بقوله تعالى: (وهو السميع البصير) (الشورى:11) فكل طائفة منحرفة يوجد ما يبطل قولها في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (بلا حد ولا غاية) . شرح:

الحد فيه خلاف؛ فأثبته كثير من العلماء، ونفاه بعضهم، والمراد بالحد: النهاية. فالصحيح أنا نقول: إن الله تعالى: بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته. والذين نفوا الحد فقالوا: ليس لله حدٌ، يعني ليس له نهاية. آل بهم القول إلى أن اعتقدوا معتقد أهل الوحدة الذين قالوا: إن الوجود واحد، وأن وجود هذا هو عين وجود المخلوقات. وهذا قول شنيع تستوحش منه عندما تسمعه. فإذا وردت الأدلة قلنا بها، وتجرأنا عليها وجسرنا على الكلام بها، ولو أنكر ذلك من أنكر، فلا نرد شيئاً من أجل إنكار هؤلاء، ولا نتأولها تأويلاً يبطل من معناها ما هو صحيح ثابت، ولو شنع من شنع، ولو عابنا، والتشنيع هو الإنكار والعيب كما في البيت الذي قاله الزمخشري -والله حسيبه- عندما يسمع قول أهل السنة: (إن الله استوى بلا كيف، وإن الله ينزل بلا كيف، وإن الله يرى بلا كيف) .، قال: قد شبهوه بخلقه فتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة سماها (البلكفة) لقولهم (بلا كيف) هكذا قال، ورد عليه علماء أهل السنة بل وعلماء الأشاعرة أيضاً نظماً ونثراً، وذلك لأنه على مذهب المعتزلة، وهو صاحب (الكشاف) التفسير المشهور. وما دمنا متبعين للدليل فإننا نختص به ويفوت غيرنا، وأما ما أنكره علينا أضدادنا أو عابونا به فإنا لا نبالي بعيبهم وثلبهم، بل نقول: الحق معنا ولو كنتم جميعاً ضدنا وخلافنا؛ فنحن نثبت ما أثبته القرآن الذي دلالته واضحة، وأنتم تتكلفون في نفيه، وفي تحريفه، وتركبون الصعوبات في تأويله وفي صرفه عن ظاهره فتقولون: إن قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (ص:75) أي بنعمتي، أو تقولون في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (المائدة:64) أي قدرته أو ما أشبه ذلك، هذا من التأويل الذي فيه تكلف، وكذلك بقية الصفات.

وهذا الأثر عن الإمام أحمد معمول به، والكلمات التي تنكر مثل قوله: (لا حد ولا غاية) و (لا كيف ولا معنى) محمول محملاً يناسب المقام، أن المراد بالمعنى الكنه، وأن المراد بالحد والغاية المنتهى، لا أنه يريد بذلك التفسير؛ فإنا نفسرها ونفهم مدلولها. وقوله: ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنّعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن. شرح: هذا تكميل الأثر الذي روي عن الإمام أحمد رحمه الله؛ في أنه يثبت أن التمسك يكون بالقرآن، وأن القرآن هو المعتمد، وكذلك الصحيح من السنة، وأن طريقتنا أن نتقبل كل ما جاء به القرآن والسنة، ولا نرد شيئاً من ذلك، وأنا لا نأتي بشيء من قبل أنفسنا، فنكون زدنا في الصفات ما ليس منها، وإنما نقتصر على ما ورد، نصف الله بما ورد، وبما أثبته لنفسه، أو أثبته له من أرسله. مسألة: قول الإمام الشافعي رضي الله عنه في الصفات قوله: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله. شرح: الإمام الشافعي مُعترَف بإمامته، وله مكانة عند الأمة، وهو عالم قريش، فتح الله عليه، ورزقه فهماً وإدراكاً ومكانة وشهرة في الأمة، واعتنق مذهبه الفئام من الناس الذين تمذهبوا بمذهبه، وساروا على طريقته في الفروع، ولكن مع الأسف أن كثيراً منهم خالفوه في الأصول فرجحوا عليه (أبا الحسن الأشعري) ، وإن كان الأشعري أيضاً قد رجع عما قاله.

فيقال لهم: إن الشافعي رحمه الله في العقيدة على مذهب السنة وعلى مذهب سلف الأمة، فإذا كنتم تقتدون به فعليكم باتباعه، وبما جاء عنه سواء من المجملات، أو المفصلات. وهو في هذا القول يصرح بما يعتقده، وإن كان مجملاً قال: (آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) وكلنا نقول ذلك، لكن هل يفهم من قوله (على مراد رسول الله) و (على مراد الله) أنه غير مفهوم، أو أنه لا معنى له، أو أنا لا ندري ما معناه؟ لا يفهم ذلك؛ بل الأصل أن الشافعي وغيره يعرفون أن تلك النصوص لها معان مفهومة، حيث إنها ألفاظ عربية فصيحة ظاهرة لا خفاء فيها، فيعتقدون مدلولها، لكن قولهم (على مراد الله) (على مراد رسول الله) يريدون بذلك الكيفية التي أرادها الله، وخاطبنا رسوله ليفيدنا لا ليضلنا. أما على طريقة المعتزلة ونحوهم فإنه قد يقال: إن هذا القرآن وهذه السنة ما زادت الأمة إلا حيرة، تعالى الله عن قولهم؛ لأنها أوقعتهم في الشكوك، وحملتهم على أن يتكلفوا في الصرف عن الظاهر، وأن يتأولوها تأويلات بعيدة، ولا شك أنه لم يكن مقصوداً للرسول أن يوقع الناس في الحيرة، ولا أن يكلفهم بالتكليفات التي سلكوها بالتأويلات التي أرادوا بها صرفها عن ظاهرها فإن ذلك غير مقصود. وبكل حال: لا يفهم من قوله رحمه الله: (على مراد الله) (وعلى مراد رسول الله) . أنه من المفوضة بل هو يعلم معانيها، ويؤمن بها ويتحقق دلالتها، ولكن إنما يتوقف عن كيفية تلك الصفات، الكيفية التي هي عليها، فيقول: مراد الله محجوب عنا ومراد رسوله، يعني بماهيتها وكنهها، وما هي عليه. قوله: وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله.. شرح:

درجوا عليه يعني ساروا على هذا، والمراد أنهم على طريقة السلف التي هي تقبل النصوص، والعمل بها، واعتقادها، والإقرار بها، وإمرارها كما جاءت بقولهم: (أمروها كما جاءت) ، وإثبات دلالتها، وإثبات معانيها دون أن يصرفوا شيئاً من مدلولها عن ظاهره، ودون أن يحرفوا شيئاً منها، أو يشتغلوا بتحريفه أو بتأويله، أو يردوه (هكذا طريقتهم) ومراده بسلف الأمة أهل القرون الثلاثة المفضلة؛ الصحابة والتابعون وتابعوهم، هؤلاء هم سلف الأمة درجوا على ذلك، والآثار عنهم في ذلك كثيرة. وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية كثيراً من الآثار عنهم، ولكنها قليلة بالنسبة إلى ما نقله غيره، ومن أراد أن يعرف أقوالهم فليقرأ كتب أهل السنة ككتاب (الشريعة) للآجري، وكتاب (السنة) للخلاّل، وكتاب (السنة) لابن أبي عاصم، و (شرح أصول أهل السنة) للالكائي، وكذلك كتب المتقدمين كالسنة لعبد الله بن الإمام أحمد، ففيها كثير من أقوال هؤلاء الذين أجملهم ابن قدامة. يقول: (درجوا) يعني ساروا، ونهجو على طريقة هذين الإمامين الإمام أحمد، والإمام الشافعي - واقتصر عليهما، لكن الإمام مالكاً أيضاً مشهور أنه سئل عن آية الاستواء فقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول.. إلى آخره) ، والإمام أبو حنيفة مشهور ما ذكره في كتابه الذي هو (الفقه الأكبر) الذي جُمع من كلامه، وقد نقل عنه شيخ الإسلام في الحموية، ومع أنه موجود لكن مع الأسف فالذين تولوا شرحه أضافوا إليه إضافة أفسدوا بها مقصده. فهؤلاء هم الأئمة الأربعة المقتدى بهم، وغيرهم من الأئمة الذين في زمانهم هم أيضاً على طريقتهم، فطريقة أهل السنة متفقة مع أئمتهم، وليس للأئمة قول يخرجون به عن قول أهل السنة.

ذكر شيخ الإسلام في المناظرة التي حصلت بينه وبين أهل بلده في دمشق لما ناظروه على عقيدته أن السلطان في ذلك الوقت كان هو الذي عقد هذه المناظرة، ولما كان لشيخ الإسلام مكانته وشهرته عند الناس، وشعبيته، أراد السلطان أن يهدئ الوضع فقال لهم: إن هذا على مذهب الإمام أحمد، ومذهب الحنابلة معتبر ومعترف به فاتركوه على مذهبه، اتركوه يقول ما يقول في الأسماء والصفات ما دام أنه مذهب معترف به من المذاهب الأربعة. ماذا قال شيخ الإسلام؟ قال: لا والله ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا القول بل إنه مذهب الأئمة كلهم، وذلك لأن الأصول والعقائد لا يجوز الخلاف فيها، أما الخلاف الذي بين الأئمة الأربعة فإنما هو في الفروع في مسائل العبادات ومسائل الحلال والحرام، ومسائل الأحكام، هذا الذي اختلفوا فيه، فأما الأصول التي هي العقائد والأسماء والصفات فالأئمة الأربعة، والأئمة الذين في زمانهم كالليث في مصر، والأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في العراق، وسفيان ابن عيينة في مكة، وابن أبي ذئب في المدينة، وعبد الرزاق في اليمن، وأشباههم كلهم على المذهب الحق الذي هو العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات لا خلاف بينهم في ذلك. مسألة: الترغيب في السنة والتحذير من البدعة وقوله: وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) . شرح:

الضمائر في (آثارهم ومنارهم) للأئمة المهتدين أئمة الأمة واحدهم إمام، يعني قدوة في الدين كما حكى الله تعالى عنهم: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) (الفرقان:74) أي قدوة وأسوة، وقد أجاب الله دعوتهم - يعني صالحي الأمة- فصاروا أئمة يقتدى بهم. (وآثارهم) ليس المراد مواطئ الأقدام، وإنما المراد ما نقل عنهم، أي ما أثر عنهم، الآثار في الأصل هي بقايا الأقدام، أو مواطئ الأقدام، وتطلق على بقايا العلم كما في قوله تعالى: (أو أثارة من علم) (الأحقاف:4) يعني بقية، ويقول الشاعر: تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار يريد بالآثار المعلومات التي حفظت عنهم، ونقلت عنهم، فأمرنا بتقفي آثارهم يعني باتباعها لأنهم اقتفوا أثر نبيهم صلى الله عليه وسلم. وأمرنا بأن نستنير بمنارهم، وأصل المنار العلم الكبير، أو النور الظاهر، ولكن هنا يطلق على علومهم التي هي نيرة مضيئة ساطعة يظهر لمن تأملها وضوحها، أمرنا بأن نسير على ذلك المنار، وأن ننهج ذلك المنهج حتى نكون بذلك معهم نسير كما يسيرون ونقف كما يقفون. الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم -في الحديث الذي مر بنا، وهو الحديث المشهور الذي رواه العرباض بن سارية، وفيه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تسمكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) .

وقد شرح هذا الحديث ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، وذكر جملة من المواعظ التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أجمل الصحابي رضي الله عنه في هذا الحديث تلك الموعظة، فكأنهم استشعروا أنها توصية أو أنها توديع، فلذلك قالوا: (موعظة مودع) كأنك تودعنا، ويكون ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، ولا نطيل فيما يتعلق بالحديث. ولكن يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) هذا حث على التمسك بها، فإن كلمة عليكم أمر كقوله تعالى: (عليكم أنفسكم) (المائدة:105) فمعناه الزموا سنتي وسيروا عليها، وتمسكوا بها، وانهجوا نهجها، واعملوا بها حسب استطاعتكم، هكذا ذكروا أن هذه اللفظة: (عليكم بكذا) تقتضي الأمر، أو الالزام أن التأكيد فأنت إذا قلت مثلاً: عليك بقراءة القرآن فإنك تحث عليها، أو تنهى عن شيء تقول مثلاً: عليك بالبعد عن الفواحش، فكلمة (عليك بكذا) تقتضي الأمر. وكلمة (إياك وكذا) تقتضي الزجر. واقتصر على (إياكم ومحدثات الأمور) دون أن ينهى عنها، فلم يقل: اتركوها، ابتعدوا عنها؛ لأن كلمة (إياكم ومحدثات الأمور) أبلغ من اتركوها، وإذا قلت مثلاً: إياك وأصحاب السوء إياك وقرين السوء إياك وجلساء السوء معناه: احذرهم وابتعد عنهم، فإياكم ومحدثات الأمور أي ابتعدوا عنها.

وهنا أيضاً من التأكيد على السنة قوله: (عضوا عليها بالنواجذ) بعد قوله: (تمسكوا بها) ، وهذا كله حث على العمل بها، فإن التمسك في الأصل الإمساك باليدين، وقد ينفلت منك الشيء الذي أمسكته بيديك، فتحتاج إلى زيادة توثق، وليس عندك إلا أسنانك بل أقاصي أسنانك، وهي النواجذ (عضوا عليها بالنواجذ) أي مع تمسسككم بها باليدين زيدوا على ذلك العض عليها بأقاصي الأسنان، ليكون ذلك أقرب إلى الثبات عليها، وكأنه استشعر أن هناك من يزعزعك عن هذه السنة، ويسعى في تفلتك منها، ويخذلك لكي تتركها وتتخلى عنها؛ من دعاة السوء والباطل وأهل الشبهات والتشكيكات ونحوهم، فكأنه لما علم كثرة الفتن التي توهن التمسك بالسنة أمر بشدها بقوة، وأمر بإمساكها إمساكاً قوياً. والسنة في الأصل: هي الطريقة التي يسار عليها، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هي الشريعة التي بلغها، وتطلق على أقواله وأفعاله وتقريراته، وتطلق على الشريعة التي جاء بها على أنها من دينه الذي أُرسل به، وتطلق على الأحاديث التي هي موضحة للقرآن، فيقال: القرآن هو كتاب الله، والسنة هي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن الأصل أن السنة هنا هي الشريعة التي كان عليها (عليكم بسنتي) يعني ما أنا عليه وما أعمله، وما أقوله، وما بلغتكم به من هذه الشريعة، سواء في الاعتقادات أو في الأعمال كل ذلك من السنة فسيروا على نهجه، واعملوا بما يعمل به، وبذلك تصلون إلى سبيل النجاة. والخلفاء الراشدون معروفون، وسموا بذلك لأنهم خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خلفوه في الولاية، وفي التبليغ، وفي الأعمال، فبلغوا ما بلغ -رضي الله عنهم- وساروا على نهجه وألزموا أنفسهم أن لا يتركوا شيئاً مما كان يعمل به النبي صلى الله عليه وسلم إلا عملوه.

التزم بذلك أولهم الذي أطلق عليه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق الصحابة على تلقيبه بهذا (خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وقد وافقوا على ذلك، ولم يخالف في زمنه أحد يقول: إنه لا يستحق هذا الاسم، بل المسلمون على وجه الأرض اتفقوا على أن يخلف النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه إما بالصراحة، وإما بالإشارة. والخلفاء الراشدون خلافتهم ثلاثون سنة، ورد في حديث سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وفي حديث آخر (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة) ولعله إشارة إلى (مقتل عثمان رضي الله عنه) ، وما حصل بعده من الفتن. فنعرف من هذا الحديث أن الخلفاء الراشدين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: خلفاء ووصفهم بثلاث صفات: الصفة الأولى: (الخلافة) ، أي أنهم خلف عنه. الصفة الثانية: (الراشد) . الصفة الثالثة: (الهداية) . وكفى بها تزكية لهم، وحثاً على السير على نهجهم، وشهادة بأنهم أهل حق وصواب، وأن الذين يطعنون فيهم قد خالفوا العقل والنقل، وعاندوا في ترك ما هو أشهر من نار على علم، من السنة التي جاءت في مدحهم وتزكيتهم، مع هذه التزكية من النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم خلفاء. فتجدون الرافضة يسبّونهم ويقذعون في سبّهم، وبالأخص الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان، ويشتمونهم، ويدعون أنهم مغتصبون للخلافة، وعلى هذا لا يكون لهذا الحديث -عندهم- فائدة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وهذا الحديث -أيضاً- إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك محدثات، والمحدثات هي المبتدعات، فحذر منها، وأخبر بأن كل محدثة بدعة، ويراد بها ما يضاف إلى الشريعة من الأقوال والأفعال والعقائد، وأنه حادث بعد أن لم يكن، وأنه ضلال (كل بدعة ضلالة) ، والضلال هو الضياع، الضال هو التائه الضائع الذي ليس على هدى وليس على بيان. وتلك البدع والمحدثات كثيرة، ولكن المهم منها ما يتعلق بالعقيدة فإن من عقيدة المسلمين -مثلاً- أن الرب سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم حدثت بدعة من فئة تنكر ذلك، وسموا معطلة، فهذه بدعة ضالة. ومن عقيدة المسلمين؛ أن الإنسان ينسب إليه عمله وليس بمجبور، ثم حدثت بدعة فيها؛ أن الله لا يقدر على أفعال العباد، وهذه بدعة ضلال، ومن عقيدة المسلمين أن الإنسان ينسب إليه عمله ثم حدثت بدعة فيها؛ أن الإنسان ليس له اختيار، وأنه مجبور على فعله، وهذا بدعة ضلال. وهكذا بقية البدع كبدعة الخوارج، وبدعة المعتزلة، وبدعة التكفير والتفسيق، وما أشبه ذلك، كلها من البدع التي أخبر بها في هذا الحديث (إياكم ومحدثات الأمور) ، وليس المقام مقام الكلام على تفنيد البدع، فهي مشهورة في كتب العلماء رحمهم الله. مسألة: قول ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الباب وقوله: وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم) . شرح: وهذا أيضاً من الآثار التي يستأنس بها، فابن مسعود رضي الله عنه من أجلاء الصحابة، أسلم قديماً، وهاجر، ونفع الله بعلمه، وزكاه عمر رضي الله عنه، وقال: (كنيف مُلئ علماً) ، وأرسله إلى العراق، وكان له تلامذة في الكوفة يأخذون برأيه، وحفظوا عنه علماً جماً، توفي سنة (32هـ) في خلافة عثمان.

قوله: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) اتبعوا من قبلكم؛ يخاطب تلامذته، وتلامذته لم يكونوا من الصحابة ولم يدركوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإما أنهم من مسلمة العراق الذين ما أسلموا إلا في خلافة عمر، أو في خلافة عثمان، أو من المهاجرين من أهل اليمن، ونحوهم، فهو يوصي أولئك، فيقول: اتبعوا صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم، واقتدوا بهم، ولا تحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله، ولا تشرعوا ما لم يكن في الشريعة ولا تكونوا من الذين قال الله فيهم (شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (الشورى:21) فإن الله تعالى أكمل الدين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا حاجة إلى بدع تضاف إلى هذه الشريعة، فقد كفيتم، يعني كفاكم من قبلكم حيث حملوا الشريعة، وبينوها وبينوا لكم ما تقولونه بألسنتكم وما تعتقدونه بقلوبكم، وما تعملونه بأبدانكم فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بالأخبار والنقول، وفي ذلك كفاية. وفي الأثر الآخر أنه قال: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولحمل دينه؛ فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) تزكية منه رضي الله عنه للصحابة، وأمر لمن بعدهم أن يقتدي بهم، وأن لا يبتدع من قبل نفسه، وكأنه استشعر أن هناك من سوف يقوم ببدع، وقد نقل هو أيضاً تحذيراً عن بعض البدع كبدعة الخوارج، فإنه روى بعض الأحاديث التي فيهم مع كونه مات قبل أن يخرجوا.

ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه بكثرة البدع وبكثرة الاختلافات، ففي حديث العرباض الذي ذكرنا يقول صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً) يعني من طالت حياته فسيرى اختلافاً كثيراً، وقد وقع هذا الاختلاف، أوله: خلافهم على عثمان حتى قتلوه، ثم خلافهم فيما بينهم حتى حصلت المعارك، ثم خروج الخوارج، وقتالهم من لقوه من المسلمين، ثم بعد ذلك خروج القدرية وخروج الرافضة، وهكذا البدع التي خرجت. فابن مسعود رضي الله عنه يقول: اتبعوا من قبلكم ولا تبتدعوا من قبل أنفسكم يعني في الشريعة، وتتعبدوا بالبدع، فقد كفيتم أي قد وضحت الشريعة لكم فاقتصروا عليها. مسألة: قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في هذا الباب قوله: وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاماً معناه: (قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفُّوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل -لو كان فيها- أحرى، لئن قلتم: حدث بعدهم. فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم مُحَسِّر، وما دونهم مُقَصِّر، لقد قصَّر عنهم قوم فجفَوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم) . شرح: عمر بن عبد العزيز خليفة راشد، ألحقه علماء الأمة بالخلفاء الراشدين مع قصر مدة خلافته (سنتان وبضعة اشهر) كخلافة أبي بكر، ولكن أعاد فيها الحق إلى نصابه، وأبطل البدع والمحدثات، ونصر السنة، وقمع المبتدعة، ورد المظالم، وعدل في الناس، وسار سيرة حسنة حمده عليها جميع المسلمين، ولم ينقم عليه لا من قريب، ولا من بعيد.

وكفى أنه يستشهد بقوله، وذلك لأنه جمع مع الولاية علماً، أي أنه مع قصر عمره من علماء الأمة، وكذلك من مفكريها ومن ذوي الرأي فيها، وكثيراً ما يستشهدون بمقاله، ويروون عنه حكماً وفوائد تدل على حنكة وفضل، ومعرفة بالشريعة وبأهدافها. يقول في هذا الأثر (قف حيث وقف القوم) يريد بالقوم العلماء الذين قبلهم، يخاطب أهل زمانه إما في خلافته، وإما في إمارته، فقد كان أميراً على المدينة قبل أن يستخلف، أي في زمن الوليد بن عبد الملك، ولاه إمارة المدينة فسار فيهم سيراً حسناً محموداً، فهو يقول: (قف حيث وقف القوم) أي الصحابة، وتلامذة الصحابة؛ العلماء الذين هم علماء الأمة؛ ورثة النبي صلى الله عليه وسلم. كأنه يقول: لا تتجاوزوهم وتخوضوا في ما لم يخوضوا فيه، ولا تتقعروا وتبحثوا عن أشياء ما أذن الله بها، وليس لكم إلى معرفتها سبيل، فلا تبحثوا في الأمور الغيبية التي حُجبت عنكم، ولا تكثروا من السؤال عن الأشياء التي لا حاجة لكم بها، فقد وقف عنها من قبلكم فما بحثوا في جوهر، ولا عرض، ولا حد، ولا تعاريف، ولا حيز، ولا جهات، ولا أبعاض، ولا مركبات، ولا محدثات وما أشبه ذلك من الأمور التي أحدثتموها. فإنهم -يعني الصحابة، وتابعيهم- عن علم وقفوا؛ يعني سكتوا عن هذه الأشياء عن علم، عرفوا أن فيها خطراً، فلم يتكلموا فيها، فما وقفوا إلا عن علم قلبي وقر في قلوبهم، (وببصر نافذ كفوا) كف البصر هنا ليس هو بصر العين، ولكنه بصر القلب يعني البصيرة، أي أن ذلك البصر نافذ لهذه العلوم، وقد تخيل ما وراءها من المفاسد. فكر -رضي الله عنه- فعرف أن الصحابة وتلامذتهم كفوا عن الخوض في هذه العلوم -مع قدرتهم عليها- عن علم، لا أنها لم تحدث عندهم بل عرفوا أنها ستكون، ولكنهم وقفوا عنها.

فقد ورد أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه؛ لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة) وفي رواية أنه قال: (ذاك صريح الإيمان) يعني الذي لا يتكلم بهذه الأشياء التي تخطر في باله، بل يزيلها عن قلبه؛ هذا صريح الإيمان، فإذا جاءتك هذه الخطرات، وهذه الأوهام، والتخيلات، وأبعدتها عن نفسك فإنك متبع لهم (عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا) . ولهم على تجليتها وإظهارها أقدر، لو كان فيها فائدة لتكلموا بها فإنهم علماء وفصحاء، فهم على إظهار الخير الذي فيها أقدر، وهم أولى وأحرى أن يبينوا ما فيها لو كان فيها مصلحة، ولكن علموا أنه لا مصلحة فيها فكفوا عنها. وإذا قيل: حدثت بعدهم، لو كانوا أدركوها لتكلموا فيها؛ يعني ما أحد تكلم في طبقات السماء مثلاً، ولا في مكونات الأرض، ولا في خلق الروح مثلاً وتكوينها ومن أي شيء خلقت، ولا في تقسيم الموجودات إلى جواهر وأعراض، ولا في الجسم وما يتركب منه وتعاريفه وما أشبه ذلك، ولا تكلم في زمن الصحابة أيضاً في الأعراض، ولا في الأبعاض، ولا في الطبقات وما أشبه ذلك، فما حدثت هذه العلوم إلا بعدهم. ما الجواب؟ أجاب رضي الله عنه: (بأن الذين أحدثوها أنقص منهم علماً) ما أحدثها إلا أناس لا علم عندهم كما عند الصحابة، وإلا فإن الصحابة يقدرون أن يخوضوا، وما أحدثها بعدهم إلا من هو دونهم في العلم، وفي المواهب.

ثم أخبر بأن الذين بعدهم انقسموا إلى قسمين: قسم قصروا، وقسم غلوا، الذين قصروا كأنهم الذين اقتصروا على ذكر الأحكام فقط، ولم يخوضوا في العلوم الغيبية، ولم يتكلموا فيها معرضين عنها بألسنتهم وبقلوبهم، فهؤلاء مقصرون، والذين غلوا هم الذين توسعوا فيها وتكلموا فيها كلاماً طويلاً، وولدوا فيها توليدات، ووقعوا في آخر أمرهم في حيرة وفي شك، وفي بعد عن الحق، فأدى بهم ذلك إلى أن يموتوا وهم شكاك لا يدرون ما يعتقدونه، فصاروا في طرفي نقيض؛ قوم قصروا، وقوم غلوا.. وتوسط الصحابة، وتوسط الأئمة، فلم يتركوا هذه العلوم جانباً بل تكلموا فيها بما يكفي، وقالوا فيها ما يشفي، وأوضحوا منها ما هو الحق، فأوضحوا للأمة عقيدتهم، أوضحوا للأمة أن تعتقد الأسماء والصفات التي نقلت وثبتت بالأدلة، وأوضحها الله تعالى في الكتاب والسنة، وأن ينزه الله تعالى عن صفات النقص، وأن يُعتقد البعث النشور والجزاء على الأعمال، وأن يدينوا بالعبادات ويتركوا المحرمات، وكفى بذلك بياناً، والذين لم يتكلموا فيها مقصرون. روي أن بعض التلامذة سألوا ابن المبارك، وقالوا: إنا نكره أن نتكلم في هذه الصفات؛ يعني في إثبات العلو والاستواء، والنزول، وما أشبه ذلك -فقال: أنا أكره منكم لها، ولكن لما جاءت بها النصوص واشتملت عليها الأدلة تجرأنا على الكلام بها، وجسرنا على أن نقولها اعتماداً على الدليل، وكفى بالآيات دليلاً، أو كما قال. فأخبر بأنا قد نتوقف عندما تذكر لنا بعض الصفات التي لا دليل عليها، فإذا وجدنا لها دليلاً تكلمنا عليها بجراءة ولم نخف.

فهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، وكان تلامذتهم يتكلمون بالدليل ولا يبالون، وهكذا نقل عنهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنهم كانوا وسطاً؛ ليسوا من الذين يعرضون عن هذه الأشياء ولا يذكرونها في عقائدهم، ويستوحشون إذا ذكرت؛ كما نقل أن رجلاً انتفض لما سمع حديثاً في الصفات استنكاراً لذلك، فقال علي: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه) كأنهم لا يجرؤون على أن يتكلموا بشيء من الآيات والأحاديث التي تشتمل على ذكر صفة من الصفات، والحق أن نتجرأ ونتكلم بها ولا نتردد في إثباتها هذا هو الصواب، ولكن لا نتقعر ونغلو فنتكلم في أشياء لا دليل عليها. (فما فوقهم محسر) أي الذين يتجاوزونهم، و (ما دونهم مقصر) وهم بين ذلك على هدى مستقيم؛ أي وسط بين طرفين، وهكذا أهل السنة متوسطون بين طرفي نقيض بين ممثلة وبين معطلة. مسألة: قول الإمام الأوزاعي رضي الله عنه في هذا الباب قوله: وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي رضي الله عنه: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول. شرح: الأوزاعي إمام أهل الشام من كبار تابع التابعين، أدرك كثيراً من علماء التابعين، وكان قدوة وأسوة في علمه رضي الله عنه ورحمه، وكان أيضاً من جهابذة الأمة ومن علمائها الذين حفظ الله بهم السنة في تلك البلاد. يحثنا -رحمه الله تعالى- في هذا الأثر على أن نتبع آثار من سبق، وإن هجرَنا من هجرَنا؛ (وإن رفضك الناس) ، كأنه استشعر أن هناك من يهجر الحق ويهجر أهله الذين يروون أحاديث السنة، وأحاديث الصفات، ويمقتهم ويرميهم بأنهم مشبهة، وبأنهم ممثلة، فيقول: عليك بآثار من سبق، يعني الآثار التي يروونها، والتي يقولونها ويذهبون إليها، ويريد بمن سبق الصحابة، والتابعون من علماء الأمة، عليك بآثارهم؛ اتبع آثارهم وسر على نهجهم.

(وإن رفضك الناس) ، ولو لقيت هجراناً وإهانة ما دمت على الحق، وما دمت متبعاً لمن هم على الحق، فلا تبال بمن هجرك، أو حقرك، أو مقتك. (وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول) يعني احذر الآراء، (الآراء) هنا جمع رأي، والقول الذين لا دليل عليه يسمى رأياً، وجمعه أراء، وهي الأقوال التي يقولها بعض الناس بمجرد فكره، وبمجرد نظر يراه لا دليل عليه، فهؤلاء يجب أن نحذرهم ونبتعد عنهم. وهذا الأثر فيه أن الحق أحق أن يتبع، وأن هناك من يشجع على الباطل ويدعو إليه ويزخرف، ويأتي له بعبارات مشوقة، وما أكثرهم في زماننا، يأتون بكلمات وعبارات مبهرجة يمدحون بها طرقهم، كطرق التصوف مثلا أو التشيع، أو النفي، أو التعطيل ونحو ذلك، ويزعمون أن هذه الطريقة المثلى، وأن سلوكها هو الطريق الأقوم، وأن الذين عليها هم أهل النجاة، وأن من خالفها فهو من أهل الهلاك أو التردي، وما أكثرهم في كل زمان. مسألة: قول الإمام الأدرمي رضي الله عنه في هذا الباب قوله: وقال محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها. قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء علمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها. قال: أفوسعهم أن لا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم. قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل. فقال الخليفة -وكان حاضراً-: لا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم. وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت فلا وسع الله عليه. شرح:

هذه القصة مشهورة في كتب السنة: توجد فيها بطرق كثيرة، وبألفاظ كثيرة كما في كتاب الشريعة (للآجري) وغيره، وفي ترجمة الإمام أحمد (لابن الجوزي) ، وفي غيره من كتب أهل السنة. هذا الإمام سماه بعضهم محمد بن عبد الرحمن، وبعضهم سماه عبد الله بن محمد، عالم من علماء الأمة. ذكروا أنه لما أحضر إلى الخليفة، والخليفة في زمنهم هو الواثق، قال له: ناظر أبا عبد الله يريد المبتدع الخبيث الذي يقال له: أحمد بن أبي دؤاد، وكان هو الذي زين للخلفاء أن يفتنوا العلماء، وأن يلزموهم بهذه البدعة التي هي القول بخلق القرآن، فقال هذا العالم -رحمه الله-: إنه ليس أهلاً أن يناظرني ولا أن أناظره؛ فغضب الخليفة، وقال: أبو عبد الله ليس كفؤاً وليس أهلاً؟ فطمأنه، وقال: مهلاً سوف يظهر الحق ويتبين عند المناظرة، أناظره تمشياً على رغبتك. وقد رويت القصة بألفاظ مطولة، كما في كتاب الشريعة. وذكروا أنه جيء به موثقاً إلا أنه أصرَّ أن يعلن أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما أحضر عند الخليفة وبدأ في المناظرة، أتى بما ملخصه أن قال له: هذه البدعة، أو هذه المقالة التي تقول بها أنت، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ خلفاء الأمة، الخلفاء الراشدون، خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، الذين زكاهم وشهد لهم بالهداية؛ هل علموها أو لم يعلموها؟ فقال أولاً: ما علموها. فتعجب وقال: كيف تعلمها أنت؟ ولم يعلمها الصحابة والخلفاء الراشدون؟، ولم يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمتها أنت؟ هل نزل عليك وحي؟ هل أنت رسول من الله تعالى؟ ما الدليل على رسالتك؟ ما هو الوحي الذي نزل عليك حتى تكون أنت أعلم من الرسول، وأعلم من الخلفاء؟ فتحير ابن أبي دؤاد، ولم يجد بداً من أن يقول: بل علموها.

فانتقل محمد بن عبالرحمن -رحمه الله- إلى أن يقول له: ما دام أنهم علموها، فهل دعوا إليها، وفتنوا الناس وألزموهم بما ألزمتهم به، وعذبوا من أنكرها وحبسوهم، وأنكروا على من خالفهم، أو لم يدعوا إليها؟ من المعلوم أنهم ما دعوا إليها، بل ولم يشتهر أنهم قالوا: إن القرآن مخلوق، ولم يقل ذلك أحد من الأمة، فقال: لم يدعوا إليها. لابد أن يعترف لأن التواريخ في القصص المشهورة؛ أنهم ما دعوا إليها، ولا فتنوا أحداً، ولا ألزموه أن يقول هذه المقالة الشنيعة التي هي الإلزام بأن القرآن مخلوق، فلما لم يجد بداً التزم واعترف بأنهم ما دعوا إلهيا. فعند ذلك قال له: فهلا وسعك ما وسعهم ما دام أنهم علموها وسكتوا، وتركوا الناس على معتقداتهم ولم يفتنوا أحداً، ولم يلزموا أحداً، ولم يعذبوا أحداً، ولم يقولوا لهم هذه المقالة باطلة، أو هذه المقالة حق أو نحو ذلك. فاسكت كما سكتوا، ويسعك ما وسعهم، فإن كنت على صواب فصوابك لنفسك، ولا تغير عقائد غيرك، وإن كنت على خطأ فخطؤك على نفسك، أما غيرك فلا تغير عليهم ما دام الرسول وصحابته لم يغيروا عليهم ولم يفتنوهم، فانقطعت حجته عند ذلك. والخليفة الذي كان قد سبب الفتنة، والذي كان أول من اتصل به ابن أبي دؤاد وبشر المريسي من الخلفاء -هو الخليفة المأمون، وهو ابن هارون الرشيد، هذا الخليفة هو الذي أظهر قوله بخلق القرآن، ودعا إليه، وفتن كثيراً من الأئمة، وجيء بالإمام أحمد إليه، فدعا الله أن لا يريه وجهه، فاستجاب الله دعوته، فمات المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد.

ولكن تولى الخلافة بعد المأمون أخوه المعتصم، وكلاهما من أولاد الرشيد رحمه الله، وهو رشيد كاسمه؛ كان يغزو سنة ويحج سنة، وكان ينصر السنة كأبيه وجده، ولكن ولداه المأمون والمعتصم اتصل بهما هؤلاء المبتدعة، وزينوا لهما البدعة التي هي إنكار الصفات وإنكار كلام الله تعالى، وإنكار أن يكون القرآن كلامه، والقول بأنه مخلوق، حتى جيء بالإمام أحمد وبقي سجيناً عند المعتصم، وجلد في زمنه عدة مرات، وأطيل تعذيبه، وعذّب عذاباً شديداً، ولكنه تحمل ذلك وصبر. ثم بعد ثماني سنين مات المعتصم، وتولى بعده ولده الواثق الذي جرت عنده قصة الأدرمي، والواثق ولد المعتصم، والصحيح أنه رجع عن هذه المقالة بسبب هذه الحجة التي احتج بها الأدرمي رحمه الله. وتولى بعده ولده المتوكل بن الواثق وهو الذي نصر السنة، وأكرم الإمام أحمد، وأعزه ومكنه من أن يظهر السنة، واستدل على أن أباه الواثق قد رجع عن هذه المقالة بقصة الأدرمي معه؛ حيث إنه قال: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً. ما دام أنه وسعهم السكوت، فكيف لا يسعنا؟ الأولى بنا أن نسكت كما سكتوا، وأن نكل الناس إلى ما يعتقدونه من الأدلة. ومع أن الإمام أحمد -رحمه الله- قد بالغ في ذكر الأدلة التي استدل بها عندهم. وذكر لهم أحاديث وآيات إلا أنهم لم يقتنعوا واستمروا على مقالتهم الباطلة إلى أن ظهر الحق وأعز الله أهله والحمد لله. مسألة: بعض آيات الصفات قوله: فمما جاء من آيات الصفات قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) (الرحمن:27) ، وقوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (المائدة:64) . شرح:

قد عرفنا أن صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: صفات ذات، وصفات فعل، وأن الصفات الذاتية هي التي تلزم الذات، وتكون ملازمة للموصوف بها دائماً لا تنفك ولا تنفصل في وقت من الأوقات، فهي جزء من ذات الشيء التي هي ماهيته وما يتكون منه. فمثلاً إذا قلنا إن هذا الإنسان الماثل أمامنا يوصف بصفات ذاتية، وبصفات فعلية؛ فسمعه، وبصره، ولسانه، ويده، ورجله، وبطنه، وظهره أجزاء منه، وكذا أجزاؤه الباطنة كقلبه، ورئتيه، وكبده، وأمعائه هي أجزاء منه، فنحن نقول: إن الصفات الملازمة للموصوف هي صفات ذاتية. فالله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، وقد أخبر عن نفسه بأنه متصف بصفات ملازمة له لا يمكن أن تنفك عنه، فمن ذلك هاتان الآيتان، فصفة الوجه صفة ذاتية؛ لا يمكن أن يكون بلا وجه في وقت من الأوقات، وقد ذكر الله تعالى صفة الوجه في عدة آيات منها هذه الآية: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن:27) ، ومنها قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) (القصص:88) . وترد في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) (الليل:20) ، وكقوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) (الإنسان:9) ، وكقوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (الكهف:28) . وهذه الآيات كلها دالة على صفة الوجه، فإذا أثبته أهل السنة؛ فإنهم يقولون: نثبته كما ورد، ولكن لا نخوض في أكثر من ذلك، ولا نقول: إن وجه الله يشتمل على كذا وكذا، حيث إن ذلك يحتاج إلى دليل. وهذا هو القول الصحيح.

وأما الأحاديث فقد ورد -أيضاَ- فيها كثيراً إثباتُ صفة الوجه كقوله صلى الله عليه وسلم: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلى رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ، وفي الحديث المشهور في الدعاء: (أسألك لذة النظر إلى وجهك) وفي حديث الحجاب يقول صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) . وغير ذلك، وهي أحاديث صحيحة مشهورة تلقاها، وتقبلها أهل السنة، وآمنوا بهذه الصفة كما ذكرها الله وأثبتها لنفسه، وقالوا: هذه صفة كمال. وأما قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة:115) فهذه تكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: ليست من آيات الصفات، فإن المراد هنا (فثم وجه الله) أي فثم وجهة الله التي وجهكم إليها لتصلُّوا إليها، فلا يصح استدلال أهل الحلول بها على أن وجه الله في كل مكان -تعالى الله عن قولهم- بل نقول: وجه الله في هذه الآية: الجهة التي يوجه العبد إليها؛ أي فثم الوجهة التي وجهكم إليها، وأمركم بأن تتوجهوا إليها؛ لقول الله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة: 148) ، ولا يقال: إن هذا تكلف، وإن هذا تأويل، لأن هذا تقتضيه اللغة. وأما من أنكر صفة الوجه وهم جميع المبتدعة كالمعتزلة، ومن انضم إليهم كالرافضة على عقيدة الاعتزال، وكذلك الخوارج، ومنهم الإباضية - ينفون صفة الوجه لله تعالى، ويفسرونه بالذات، إذا جاءتهم الآيات التي فيها إثبات الوجه قالوا: المراد الذات، قال تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن:27) أي ذاته (كل شيء هالك إلا وجهه) (القصص:88) أي ذاته.

الجواب: إن هذا وإن كان صحيحاً في اللغة؛ أنه يطلق الجزء على الكل - لكن لا شك أنها دالة على إثبات صفة الوجه، وأنه جزء من الذات، فإن النص على الوجه يدل على ثبوته، والذات تابعة للوجه، ويرد عليهم أيضاً بالأحاديث التي فيها التصريح بالوجه كقوله صلى الله عليه وسلم: (لأحرقت سبحات وجهه) ، (إلا رداء الكبرياء على وجهه) فإنها دالة عليه صراحة، ونحن نؤمن بإثبات هذه الصفة ولا نكيفها، ومعلوم أيضاً أنها من صفات الكمال. وتأولها بعض المتأولين، وقالوا: المراد بالوجه عند العرب الجانب أو ما يعبر عنه بالبعض، أو نحو ذلك، ويقولون مثلاً: وجه هذه المسألة كذا وكذا، أو وجه هذا الجواب كذا وكذا، فيحملونه على أنه: ما يفهم منه، أو ما يفسر به؛ ولكن هذا يصعب عليهم تأويله في الأدلة الكثيرة. ثم الآية الثانية قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (المائدة:64) فيها إثبات صفة اليدين، وهي أيضاً صفة ذاتية، ذكرها الله تعالى بالتثنية في هذا الموضع، وذكرها بالتثنية في موضع آخر في قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) (ص:75) وذكرها بصفة الجمع، ولكن مع ضمير الجمع في قوله تعالى: (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً) (يس:71) ، وبصفة الإفراد في قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك) (تبارك:1) ، (بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (آل عمران: 26) ، وذكرها بلفظ يمين في قوله تعالى: (والسموات مطويات بيمينه) (الزمر:76) هذا في القرآن. والسنة المتواترة التي فيها ذكر اليد أو اليدين، أو نحو ذلك كثيرة، وكثيراً ما يحلف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (والذي نفسي بيده) في عشرات الأحاديث وفي الحديث صلى الله عليه وسلم قوله: (ناصيتي بيدك) كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) .

وهكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: (يمين الرحمن ملأى سحاء -إلى أن قال-: وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع) وذكر قبضه للمخلوقات فقال صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: (أنا الملك أين ملوك الأرض؟) ، وفي رواية: (ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟. أين المتكبرون؟، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) . والأحاديث كثيرة في ذلك، وأورد كثيراً منها ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوما القيامة) (الزمر:76) مما يدل على ثبوت هذه الصفة، والطريق فيها أيضاً الطريق في سائر الصفات؛ وهو أن نثبت لله تعالى يداً كما أثبت لنفسه ولكن لا نبالغ فنقول: إنها كأيدي المخلوقين. وورد في بعض الأحاديث ذكر الأصابع: (إن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على أصبع، فيقول ... الحديث) . فنقتصر أيضاً على ذلك، ولا نقول: إن هذا مشابه لصفات المخلوقين، ولا نقول: إن هذا ضرب مثل؛ كما يقوله النفاة الذين ينكرون هذه الصفات، ويجعلونها أمثلة لهيبة المقام، ويقولون: ذكر اليمين، وذكر القبضة، وذكر هز السماوات، وهز الأرض إنما هو لتهويل المكان ولتهويل الأمر، ولجلب الفزع والخوف في القلوب، ولاهتمام الناس بهول ذلك اليوم، وإلا فليس هناك قبض وليس هناك هز، وليس هناك يمين ولا غيرها. هكذا رأيت في تفسير كثير من الأشاعرة ونحوهم الذين ينكرون هذه الصفات.

ولا شك أن هذا رد للأدلة الواضحة، وتكلف في ردها، ومعلوم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم فصيح، يقدر على أن يوضح للناس ما يهمهم وما يعتقدونه، فلو كان المراد أن يهول الأمر لأفصح لهم بذلك، فكونه يقول:) إن الله يقبض السماوات والأرضين، ثم يهزهن) لا شك أن هذا إخبار بشيء واقع ولابد؛ وما ذاك إلا ليبين أن الرب سبحانه وتعالى ذو العظمة، وذو الجلال والكبرياء الذي تصغر عنده المخلوقات والأجرام العلوية، والأجرام السفلية والمخلوقات كلها مع تباعدها وتنائيها -حقيرة وفقيرة وذليلة ومهينة أمام عظمة الباري وجلاله وكبريائه. إذا تصور الإنسان عظمة هذه المخلوقات، ثم حقارتها أمام عظمة الرب سبحانه وتعالى عظم ربه في قلبه وهاب أن يعصيه، وهاب أن يخالف أمره، واستحضر أنه على كل شيء قدير، وأنه لا يتعاظمه شيء، وأن جميع المخلوقات هي ملكه وخلقه وتدبيره، فيكون هذا سبباً في ذكر الأدلة على عظمة الله سبحانه وتعالى، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) الخردلة التي هي أصغر من حبة الدخن كما هو معروف، فالله تعالى ذكر أنه يقبض السماوات والأرض، وروى ابن عباس ذكر مقدارها في قبضة الرب سبحانه وتعالى، والحاصل أن الكلام على إثبات اليدين. ونقول لماذا ذكر الله اليد بلفظ مفرد كقوله: (تبارك الذي بيده الملك) (الملك:1) ؟

الجواب: أن المراد جنس اليد، فإن الملك الحقيقي بيده سبحانه وتعالى، ولماذا ذكرها بلفظ جمع: (مما عملت أيدينا) (يس:71) ؟ فالجواب أن المراد هنا التعظيم، فإنه ذكر نفسه بلفظ الجمع الذي يدل على العظمة، فإنه واحد سبحانه، ولم يقل (أيديه) بل قال: (أيدينا) بضمير الجمع مثل قوله: (إنا خلقنا الإنسان) (الإنسان:2) (إنا) ضمير للجمع، والجمع هنا للتعظيم، فكذلك يقال (أيدينا) للجمع، فالجمع للتعظيم؛ جمع الأيدي وجمع الضمير، فهذا وجه الإفراد ووجه الجمع. يبقى التثنية في هذه الآية ونحوها، فذكرها بالتثنية دليل على أنها مقصودة، وأن لله تعالى يدين كما وصف نفسه، ودليله في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يديه يمين) ، فدل على أن العدد مقصود، وأن لله يدين كما وصف نفسه، هذا هو قول أهل السنة. أما النفاة فماذا يقولون؟ تجدون في تفاسير الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم -لهذه الآيات عجائب من أمرهم، وقد حكى ابن جرير رحمه الله عند تفسيره هذه الآية في سورة المائدة أقوالاً عنهم، وسماهم: (أهل الجدل) ، في قوله: اختلف أهل الجدل في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) (المائدة:64) . فذكروا أن المراد باليد النعمة، أو أن المراد باليد القدرة، أو أن المراد بذكر اليدين هنا تمثيل للكرم (يداه مبسوطتان) أي هو كريم وجواد يعطي ويكثر العطاء، وأن العرب تذكر اليدين وبسطهما وليس المراد حقيقة البسط، وإنما المراد كثرة العطاء، واستدلوا بقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) (الإسراء:29) أي مغلولة عن النفقة (ولا تبسطها كل البسط) (الإسراء:29) ، أي تنفق نفقة طائلة. ثم في النهاية قال رحمه الله: والقول الأخير أن اليد صفة من صفات الله. ثم أخذ ينصر هذا القول، ويؤيده، وأنها صفة من صفات الله تعالى أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.

وذكر أن الله خلق آدم بيده في قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (ص:75) وأن تخصيص آدم بيده دليل على أنها اليد التي هي صفة من صفات الله تعالى. وأنه لو كان المراد خلقت بقدرتي لم يكن لآدم خصوصية، فإن إبليس خلق بقدرة الله، وكذلك الشياطين والجن، والمخلوقات كلها، والملائكة والسماوات والأرض كلها خلقت بقدرة الله، فلا يكون لآدم ميزة على هذه المخلوقات؛ على قولهم هذا. والصواب أن قوله تعالى: (خلقت بيدي) دلَّ على فضيلة اختص بها، ومن ثم فإن اليد هنا على الحقيقة، وهذا القول هو الأرجح، وأنها صفة من صفات الله أثبتها لنفسه، فلا نخوض في أكثر من ذلك، وننزه الله عن أن يكون مشابهاً للمخلوقات. مسألة: بعض آيات صفة النفس والمجيء والإتيان وقوله: وقوله تعالى إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال: (تعلم ما في نفس ولا أعلم ما في نفسك) (المائدة:116) ، وقوله تعالى: (وجاء ربك) (الفجر:22) ، وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) (البقرة:210) . شرح: قوله: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فيها إثبات النفس لله تعالى، والنفس حقاً تطلق على الذات، قال الله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) (الأنعام:54) على نفسه يعني على ذاته، وتقول: جاءني فلان نفسه يعني تأكيداً حتى لا يُتوهم أنه جاءك رسوله أو ابنه، فإثبات النفس على أنها الذات معروف، ويمكن القول بأن قصد عيسى عليه السلام في قوله: (تعلم ما في نفسي) ما في ضميري؛ ما أُسره في نفسي وما أخفيه في قلبي، ومالا أتكلم به بل أحدث به نفسي خفية في قلبي، (ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) . وبكل حال؛ هذا دليل على إثبات هذه الصفة، وإذا أطلقت النفس على الذات، أو أطلقت على ما في النفس يعني ما هو خفي، وما يضمره الإنسان، أو يخفيه الرب تعالى كان هذا سائغاً، وكان دليلاً واضحاً على إثبات هذه الصفة.

وقد تأولها كثير من المنكرين، وأنكروا إطلاق النفس على الله تعالى، مع أنها أطلقت في القرآن في هذه الآيات وما أشبهها، وكذلك في بعض الأحاديث، ولكن لا عبرة بهم ولا بتأويلاتهم، فنحن نتقبلها، ونكل كيفيتها إلى خالقها، هذا إثبات صفة النفس. أما الآية التي بعدها: إثبات صفة المجيء (وجاء ربك) (الفجر:22) ، وكذلك قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) (البقرة:210) ، ومثلها قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك) (الأنعام: 158) . هذه الآيات مما حصل فيها اختلاف كثير وإنكار كبير للمتأخرين من المتكلمين وبالغوا في تأويلها وحرفها عن ظاهرها وتجدهم ينكرون صفتي المجيء والإتيان ونحو ذلك، بل قرأت في تفسير بعض المعتزلة أو الأشاعرة - لمَّا أتى على الآية من سورة البقرة: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) قال: وأما إتيان الله؛ فقد أجمع المسلمون على أن الله منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثان والمركبات هذا علك منزه عن المجيء والذهاب. وسمعت من حكى مناظرة جرت بين سني وبين مبتدع؛ فقال المبتدع: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقال السني: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء، فجعلوا المجيء والذهاب من صفات المحدثات والمركبات -كما يقولون- ونزهوا الرب عن أمثال هذا. وجعلوا النزول والمجيء والإتيان الذي ذكره الله تعالى أنه زوال عن مكانه وحركة، وجعلوا هذا تشبيهاً لمجيء المخلوق وانتقاله وما أشبه ذلك، ولكن لا إنكار في شيء من ذلك؛ فالأحاديث والآيات صريحة واضحة وليس لنا أن نتدخل في تأويلها، ونسعى في تحريفها. ثم إن المتأخرين من المتكلمين يقولون في آيات المجيء والإتيان إن فيها قولين:

القول الأول: ينسبونه للسلف، وهو أنهم يعتقدون أن السلف يسكتون ولا يعتقدون فيها مجيئاً حقيقياً بل يسكتون عنها، ويتركون الكلام فيها، ويمرونها دون أن يتكلموا فيها أو يفسروها بأي نوع من أنواع التفسير، وإنما يسكتون عنها دون الخوض فيها، ويقولون: لا تأويل لها ولا تفسير لها ولا نخوض فيها، ولا نتكلم فيها، ولا ندري ما معناها، ولا نبحث في دلالتها. هكذا يزعمون أن السلف على هذه الطريقة. والقول الثاني: تأويلهم لها بأنواع من التأويلات المتكلفة، وأكثرهم على أن فيها مقدراً تقديره: جاء أمر ربك، أو يأتيهم الله أي أمر الله (أو يأتي ربك) (الأنعام:158) أي أمر ربك. وكان من جملتهم زاهد الكوثري الذي حقق كثيراً من الكتب وأفسدها، فمن جملة ما حققه كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي، فإنه أفسده بتعليقاته عليه، ولما أتى على هذه الآية قال: إن الله يقول في سورة النحل: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) (النحل:33) ، قال: ما دام في سورة النحل (أو يأتي أمر ربك) فإنا نقول كذلك في سورة البقرة (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) (البقرة:210) أي أمر الله، وكذلك آية الأنعام (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك) أي أمره؛ وكذلك في سورة الفجر (وجاء ربك) (الفجر:22) ، أي جاء أمره فجعل هذا محمولاً على الآية التي في سورة النحل، وقال: إن القرآن يفسر بعضه بعضاً. ونحن نقول: لا يلزم من إتيان أمر الله في آية سورة النحل عدم إتيانه تعالى في آية أخرى، وإذا أثبتنا لله الإتيان قلنا يجيء كما يشاء، والأحاديث التي في الشفاعة فيها؛ أن بني آدم يطلبون الشفاعة ليأتي الله لفصل القضاء بين عباده، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: بأنه إذا طلبت منه الشفاعة جاء، فإذا رأى ربه سجد، وأطال السجود، فيقول الله تعالى له: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع.. الحديث) .

وذلك دليل على أن الله تعالى يجيء لفصل القضاء مجيئاً يليق بجلاله، ولا يلزم من ذلك تشبيه بالمحدثات والمركبات، فنعتقد هذه الصفة ولا نقيسها على إتيان مخلوقاته بل يأتي الله تعالى ويجيء كما يشاء، ويفصل بين عباده، ولا ينافي ذلك عظمته وجلاله وكبرياءه وصغر المخلوقات بالنسبة إليه، وما ذاك إلا أنا لا نحيط به علماً، ولا نكيفه، ولا نكيف أية صفة هو عليها، هذا هو القول الحق. وأما الآيات التي فيها إتيان أمر الله كقوله تعالى: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) (الحشر:2) ، فالمراد أتاهم الله بعذابه، وذلك لأنه معروف أن الله أرسل إليهم عذاباً؛ وهو الرعب الذي قذفه في قلوبهم، قال تعالى: (وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم) (الحشر:2) . مسألة: بعض أيآت صفة الرضا والمحبة والغضب والسخط والكراهية والمكر قوله: وقوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) (البينة:8) ، وقوله تعالى: (يحبهم ويحبونه) (المائدة:54) ، وقوله تعالى: (وغضب الله عليهم) (الفتح:6) ، وقوله تعالى: (اتبعوا ما أسخط الله) (محمد:28) ، وقوله تعالى: (كره الله انبعاثهم) (التوبة:46) . شرح: ذكرنا أن صفات الله تعالى: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وهذه الآيات اشتملت على الصفات الفعلية، وهي التي يتصف بها إذا شاء، ولا تكون ملازمة للذات دائماً بل يتصف بها إذا شاء، ويتصف بضدها أو بغيرها؛ لأنهما ضدان، فعندنا في هذه الآيات الرضا والغضب؛ وفي آيات كثيرة. مثال الرضا (رضي الله عنهم ورضوا عنه) في عدة سور، وكذا قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين) (الفتح:18) . ودائماً عندما نذكر الصحابة نقول: رضي الله عنهم، عملاً بقوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) (التوبة:100) ، فرضا الله تعالى صفة من صفاته، ولكنها صفة فعل، يرضى إذا شاء ويغضب إذا شاء.

وقد ذكر الله الغضب في عدة آيات كقوله تعالى: (والخامسة أن غضب الله عليها) (النور:9) ، وكقوله تعالى: (وغضب الله عليه ولعنه (النساء:93) ، وكقوله تعالى: (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً) (الفتح:6) ، وفي حديث الشفاعة (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فأثبت أن هذا غضب متجدد، وأنه لا يكون بعد هذا اليوم مثله، ودل على أن الغضب صفة فعل يغضب على من يشاء، ويرضى عمن يشاء. فعلى هذا، فالصفتان، لا يمكن أن يرضى ويغضب في حالة واحدة على شخص واحد، ولا يقال هذا رضي الله عنه وغضب عليه في حالة واحدة، بل رضي عن هذا وغضب على هذا. فالرضا والغضب صفتا فعل، وهذه الصفات التي ذكرت في هذه الآيات كلها من صفات الفعل كقوله تعالى: (كره الله انبعاثهم) (التوبة:46) ، (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه) (محمد:28) حيث أثبت لنفسه صفة السخط وصفة الكراهة، وكقوله تعالى: (باء بسخط من الله) (آل عمران: 162) . والآيات التي فيها صفات الفعل كثيرة مثل قوله تعالى: (يخادعون الله وهو خادعهم)) النساء:142) ، فيها صفة المخادعة، قال تعالى: (الله يستهزئ بهم) (البقرة:15) ، فيها صفة الاستهزاء، قال تعالى: (فلما آسفونا) (الزخرف:55) ، فيها صفة الأسف، قال تعالى: (ومكروا ومكر الله) (آل عمران:54) ، (إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً) (الطارق:15-16) صفتا المكر والكيد، وأشباهها، كل هذه صفات فعل نثبتها لله كما يشاء، ونقول: إنه يسخط على من يشاء، ويرضى عمن يشاء. ومثلها أيضاً صفات المحبة، قال تعالى: (يحبهم ويحبونه) (المائدة:54) ، وصفات الرحمة في آيات كثيرة، ومنها اشتق اسم الرحمن، ووصف نفسه بالرحمة، قال تعالى: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) (غافر:7) ، (ورحمتي وسعت كل شيء) (الأعراف:156) ، (إن رحمت الله قريب من المحسنين) (الأعراف:56) .

فطريقة أهل السنة في هذه الصفات إثباتها ونفي النقص عنها، وذلك لأن الله أخبر بها، والله لا يخبر إلا بما هو حق، ولو كانت قد تستنكر أو تذم في حق الآدمي، كما في الصحيح عن أبي هريرة قال: إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: (لا تغضب) فردد مراراً قال: (لا تغضب) ، نهاه عن الغضب، والله تعالى يغضب، ولكنه يغضب على من يستحق الغضب، وكذلك مثله السخط، والكراهية مذمومة، ولكن إذا كانت على من يستحق ذلك فهي صفة حق، وهي صفة ثبوتية أثبتها الله لنفسه. وقد كثرت التأويلات من المبتدعة لهذه الصفات، فيقول بعضهم: كيف يستهزئ الله مع أن الاستهزاء جهل. واستدلوا بقوله تعالى -عن موسى-: (قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) (البقرة:67) ، فإذا كان موسى يقول: إن الاستهزاء، أو الهزؤ أو: الهزء، جهل، فكيف يقول الله تعالى: (الله يستهزئ بهم) (البقرة:15) . وكذلك المكر والكيد، والمخادعة، والمقت، والأسف، وما أشبهها - هذه مذمومة للإنسان إذا صدرت منه؛ فإن الله تعالى نهانا بقوله تعالى: (لكيلاً تأسوا على ما فاتكم) (الحديد:23) ، فكيف يتصف الله تعالى بها، ولما قال عنهم: (يكيدون كيداً) (الطارق:15) ، قال: (وأكيد كيداً) (الطارق:16) ، ولما قال: (ومكروا مكراً) (النمل:50) ، قال: (ومكرنا مكراً) (النمل:50) . فالجواب: إن هذا من باب المقابلة لفعلهم بمثله، ولكن لا يكون فعل الله مساوياً لفعل العبد، بل صفات الله المذكورة صفات أثبتها لنفسه، وهي لا تكون إلا على من هو أهل لها، ولها آثارها، فإذا قلت: ما هو أثر الغضب؟ الجواب: أنه إذا غضب فإنه يعذب من يغضب عليه، وقد ورد أثر الرضا في أن الله إذا رضي؛ فإنه ينعم على من رضي عنه ويثيبه - في حديث قدسي وإن كان ضعيفاً؛ لكنه يكثر الاستشهاد به للاستئناس بلفظه: (إذا عُصيتُ غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد) .

على تقدير أن هذا يُستشهد به، فيه إثبات أثر الغضب، وأثر الرضى، ولو لم يأت في هذا الحديث، ولكن ذلك من مقتضياته، فأنت تقول للإنسان الذي تنصحه: لا تفعل ما يغضب الله، هذا الفعل يغضب الله، فهو يعرف أن الله إذا غضب يعاقب، اتبع ما يرضي الله عليك أو بما يرضى به عنك ربك، فهو يعرف أنه إذا رضي الله عنه أثابه، فهو يحرص على الفعل الذي به يكون ربه راضياً عنه، ويبتعد عن الفعل الذي يكون به الرب عليه غضبان، لأنه يعرف أن في هذا الغضب عذاباً، وفي الرضا ثواباً. إذاً فلهما آثار في الدنيا وفي الآخرة. ويقال كذلك أيضاً في الصفات الأخرى؛ كصفة السخط، وصفة الكراهية، وصفة المقت، وصفة الأسف، وصفة الكيد، ويقال: إن الله يمكر بهؤلاء، يعني يعطيهم ثم يعطيهم، ثم يأخذهم على حين غفلة، فكأنه مكر بهم. ورد في بعض الآثار؛ لما ذكر تمادي بعض الكفار والعصاة، قال: (مُكر بالقوم ورب الكعبة) يعني خُدعوا بما وسع عليهم، وما توسعوا فيه، مما أوقعهم في الذنوب، إلى أن حصل لهم ما حصل من نزول العذاب بهم بغتة وهم لا يشعرون. فنستفيد أن هذه الآيات دالة على صفات فعلية، وأنها غير مكيفة، وأن الذين أنكروها وبالغوا في إنكارها ليس معهم إلا أدلة عقلية أجاب عنها شيخ الإسلام؛ كما في أول التدمرية لما قال لهم: أنتم تعترفون بالإرادة، والإرادة هي ميل النفس إلى المراد، وتنكرون الغضب وتقولون: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فلماذا فرقتم بينهما قالوا لا نفسر الأراء بأنها ميل القلب إلى المراد، فإن هذه إرادة المخلوق. قال: فكيف تفسرون الغضب بأنه غليان دم القلب لطلب الانتقام، فإن هذا غضب المخلوق، فقد فرقتم بين متماثلين؛ أثبتم الإرادة ونفيتم الغضب، وكلاهما يفسر عندكم بهذا التفسير الذي هو من خصائص المخلوقين، فانقطعت بذلك حجتهم. مسألة: بعض أحاديث الصفات قوله:

ومن السنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) ، وقوله: (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة) ، وقوله: (يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة) . شرح: هذه من أحاديث الصفات الفعلية، فأحاديث النزول ذكر ابن كثير وغيره أنها متواترة، وأكثرها مذكور في كتاب ابن القيم المسمى (الصواعق المرسلة) ، وكذلك في كتاب حافظ الحكمي (معارج القبول) ، وفي أمهات الكتب - بلفظ (نزل) أو (ينزل) ، أو بلفظ (هبط) ، أو (يهبط) أو نحو ذلك. ومعلوم أن النزول لا يكون إلا من أعلى، فهي دالة على أن الرب تعالى موصوف بصفة العلو بجميع أنواعه، وأنها صفة ذاتية -كما سيأتي- وأما النزول فإنه صفة فعلية، ينزل إذا شاء، وفي الحديث: أنه ينزل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، وأنه يقول: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) ، يتودد إلى عباده وهو عنهم غني. وإذا آمنا بهذه الصفة فإننا نكل كيفيتها إلى الله الذي أثبتها لنفسه، ولا نتقعر في ذلك، ولا نبالغ في الإنكار. نقول: ينزل كما يشاء، فإذا قالوا: إن النزول يستدعي الحركة، أو أن يخلو منه العرش، أو أن يكون بعض المخلوقات فوقه، أو أن يكون محصوراً. قلنا: سبحان الله وبحمده، تعالى الله عن أن تدركه الظنون، وأن تتخيله الأفهام، وأن تمثّله الأوهام، تعالى الله عن ذلك. بل الرب سبحانه وتعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) ونزوله يليق به، ولا يماثل أحداً من خلقه في هذه الصفة.

وقد تكلم على هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رسالة مستقلة بعنوان (شرح حديث النزول) وهي رسالة قد تقر ب من ستين صفحة أو أكثر في بعض الطبعات، كلها على هذا الحديث، وما ذاك إلا لكثرة الخوض فيه، حيث رفع إليه هذا السؤال، وكان من جملة ما أشكل على السائل الذي أنكره - قال: إن الليل يختلف باختلاف البلاد، فقد يكون ثلث الليل في هذا البلد ضحى ونهاراً في بلد آخر، فيلزم من ذلك أن يكون النزول مستمراً عند كل أهل جهة في ثلث ليلهم؟ أجاب شيخ الإسلام: أنه لا مانع؛ فإن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، ولا مانع أن ينزل عند هؤلاء وهؤلاء كما يشاء، وأيضاً يمكن أن يختص النزول ببلاد المسلمين. وبكل حال؛ نثبت هذه الصفة ولا نردها -لماذا؟ - لأن الله تعالى على كل شيء قدير، ولأن الذين نقلوها هم الذين نقلوا جميع الأحكام، فإذا رددناها لزم أن نطعن فيهم وفيما نقلوه، ونخطئهم، ولهذا يقول أبو الخطاب الكلوذاني في عقيدته: قالوا: النزول؟ فقلت: ناقله لنا قوم هم نقلوا شريعة أحمد قالوا: فكيف نزوله؟ فأجبتهم: لم يُنْقلِ التكييف لي في مسند يقول: ناقلوه لنا هم الذين نقلوا الشريعة، فيكف نرد هذا النقل ونقبل أمثاله وعشرات الأمثال له؛ لمجرد أن العقل أنكر هذا في زعمكم؛ مع أنه زعم خاطئ؟، وإذا أثبتناه فلا نخوض فيما وراء ذلك -كما تقدم- مع أننا لا نقول: إن نزوله يشبه نزول الإنسان من كذا وكذا؟ فإن هذا خطأ.

وخطَّأ العلماء النقل الذي ذكره ابن بطوطة في رحلته، حيث إنه ذكر أنه وصل إلى دمشق - يقول: فوجدت فيها ابن تيمية، وإذا هو على المنبر يتكلم على النزول، فقال: إن الله ينزل كنزولي هذا - يعني من المنبر- قالوا: هذا كذب على ابن تيمية من ابن بطوطة، فابن تيمية قد تكلم على النزول في هذا الحديث ولم يقل إنه كنزولي من على المنبر، أو نزولي من السطح، أو نحو ذلك، بل قال: ينزل كما يشاء. ثم خطؤوه أيضاً، وقالوا: إن ابن بطوطة لما أتى إلى دمشق كان ابن تيمية قد سجن في القلعة، فكيف رآه؟ مما يدل على أنه كذب هذه الكذبة، أو تلقاها من بعض الكاذبين، فلا يقال: إن ابن تيمية يمثل النزول بنزول الإنسان، وحاشاه من ذلك. الحديث الثاني: حديث العجب. (يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة) هذا الحديث مروي في المسند وفي بعض السنن، وهو مما يستشهد به، وإسناده حسن، ومعناه أن الشاب الذي في سن الشباب عادة يكون له ميل إلى اللهو، وميل إلى اللعب، فإذا منّ الله على بعض الشباب وأقبلوا على العلم وعلى الدين وعلى العبادة، وصدوا عن اللهو وعن اللعب وعن ما يوجبه الصبا، فإن ذلك غاية العجب، وذلك فضل الله عليهم. الشاهد من الحديث أن الله يعجب، وهي صفة فعلية، لا نكيفها، بل نقول: هي كما يشاء الله تعالى، وقد قرأ بعض القراء السبعة قوله تعالى في سورة الصافات (بل عجبت ويسخرون) (الصافات:12) بضم التاء؛ لإسناد العجب إلى الله، وهي قراءة سبعية. ولما ذكرها ابن جرير في التفسير مع قراءة (بل عجبت) قال: هما قراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، ولو قال قائل: بأيتهما نزل القرآن؟، قلنا: نزل بهما جميعاً. ففي هذه القراءة أن الله يعجب، وكذلك في قوله تعالى: (وإن تعجب فعجب قولهم) (الرعد:5) أخبر الله أنه عجب؛ يعني إن الله يعجب منهم.

وينكر كثير من الأشاعرة ونحوهم صفة العجب، ويقولون: إن العليم الخبير لا يعجب، ولا يجوز أن يوصف الله بالعجب، فإن العجب إنما هو انتباه شيء في الإنسان وفي القلب يورث دهشة أو نحوها، هذا قولهم، لكن نحن نثبت لله عجباً لا يشبه عجب المخلوقين، وهذه من الصفات الفعلية. ومثلها أيضاً حديث آخر في السنن؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب) فإن في هذا الحديث إثبات صفة العجب، كما إن فيه إثبات صفة الضحك، وفي الحديث الآخر: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة) ، قالوا: كيف ذلك؟ قال: يقاتل أهدهما في سبيل الله فيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، ثم يُستشهد) ، فكلاهما يدخلان الجنة؛ القاتل والمقتول؛ هذا مما يورث العجب. فنحن نثبت هذه الصفة، وننفي عنها التشبيه، فالتشبيه يختص بالمخلوقين، ونقول: إن الله تعالى أثبتها لنفسه، ونحن نثبتها دون أن نبالغ في التمثيل، أو نقول عنها ما ليس بحق، ومعلوم أن صفة المخلوق تناسبه؛ فالضحك للمخلوق هو قهقهةٌ وصوت يكون عن شيء يعجبه أو يفرحه أو يسره، ولكن الرب يضحك كما يشاء، بصفة لا نعلمها ولا نعلم كيفيتها. وفي الحديث الطويل الذي ذكره ابن القيم في (زاد المعاد) وأشار إلى أن علامة الصحة عليه، وهو حديث أبي رزين العقيلي، لما قال في أثناء الحديث: (فيضحك الله من قوله) ، فقال أبو رزين: أو يضحك الرب؟ قال نعم قال لن نعدم من رب يضحك خيرا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بكل حال هذه من الصفات الفعلية صفة الضحك لله كما يشاء.

فإذا عرفنا هذه الصفات التي وردت في هذه الأحاديث وفي هذه الآيات وهي كثيرة؛ فموقف أهل السنة منها أنهم يقولون: آمنا بها كما جاءت، نقرها ونمرها، ونثبت حقيقتها ولا نرد شيئاً منها، ولا نتكلف فيها، ولا نقول فيها: إنها صفة نقص، والرب ينزه عنها؛ ولا نقول: إنها تستلزم أنه يتجدد لله شيء، أو ما أشبه ذلك كما يقول هذا الكثير من النفاة وأهل الاعتزال ونحوهم الذين إذا ذكرت لهم هذه الصفات يقولون: إن هذا يستلزم حلول الحوادث بذات الله، وحلول الحوادث ممتنع -تعالى الله أن تحل به الحوادث- وليس في هذا شيء من الحوادث بل الله يفعل ما يشاء، ويضحك إذا شاء، ويرضى إذا شاء، ويغضب إذا شاء، دون أن يكون في شيء من ذلك نقص، أو نسبة نقص إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدِّلت رواته، نؤمن به، ولا نرده ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) ، وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال؛ فإن الله تعالى بخلافه. شرح: لما ذكر الأحاديث التي في الصفات والآيات، أخبر بأن هذا ونحوه دلت عليه النصوص التي هي ثابتة يقيناً من الأحاديث الصحيحة -كحديث النزول ونحوه- ومن الآيات، فهذه النصوص نؤمن بها ونتقبلها، ونشهد بصحتها، ونثبتها صفات لله تعالى يقينية حقيقية، ولكن لا نكيفها، ولا نمثلها بصفات المخلوقين، بل ننزه الرب تعالى عن سمات المخلوقين وعن صفات المحدثين. والصفات والسمات متقاربة. فالصفة هي ما يمكن أن ينعت به المنعوت، ولذلك يقولون في النعت إنه صفة. وأما السمة فهي العلامة -اشتقاقاً من الوسم في الدابة-، ويقال: وسمت الدابة سمة، فالسمات هي العلامات، فالله ينزه عن صفات المخلوقين وعن سمات المحدثين.

ومعلوم أن المخلوقين محدثون، فالمخلوق حادث بعد أن كان معدوماً، ويأتي عليه العدم كما كان معدوماً ثم وجد، ثم يموت ثم يوجد، قال تعالى: (وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (البقرة: 28) . فإذا أتى عليه العدم دل على نقصه، فلا يشبه به الخالق الذي لا يأتي عليه العدم، قال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) (الفرقان:58) ، فهذه الصفات نتقبلها، ولا ننكر شيئاً منها ولا نرده، نتوقف عندها ولا نقول من قبل أنفسنا شيئاً وإذا اثبتناها لم نشبهها بصفات المخلوق فنستحضر هذه الآية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11) ، وقد تكررت هذه الآية في الشرح لأن فيها رداً على النفاة، ورداً على المشبهة. ثم ذكر أن كل ما خطر بالبال، وكل ما دار في الخيال، فإن الرب بخلافه، كل ما تصوره المتصور أو تخيله في ذهنه، أو خطر بباله من الهيئات والكيفيات أو الصفات فإن الله تعالى بخلاف ذلك، ولعل الدليل على ذلك قوله تعالى: (ولا يحيطون به علماً) (طه:110) ، فإذا كانوا لا يحيطون به علماً فإنهم لو فكروا، وقدروا، ونظروا، وظنوا، وحدسوا، وتخيلوا أن الله تعالى على هذه الهيئة، أو على هذه الصفة فإن كل ذلك ليس بصواب، والله بخلاف ذلك، ولا يحيطون به علماً مسألة أحاديث صفة الاستواء قوله: ومن ذلك قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) ، وقوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) (الملك:16) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) ، وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة. شرح:

هذا ابتداء كلام المصنف في صفة العلو، وهي من الصفات الذاتية التي كثر فيها النزاع، وكثر فيها المخالف، وطال فيها الكلام والجدال بين أهل السنة والمبتدعة، وأنكرها أغلب الأشاعرة، والمعتزلة، وغالب الفرق الضالة، وما ذاك إلا أن إثبات صفة العلو في زعمهم يستلزم التحديد، أو التجسيم، ويستلزم التحيز، وهم يستعظمون أن يكون الله في حيز، أو في جهة، أو أن يكون الرب موصوفاً، بأنه في هذه الجهة، يخيل إليهم أنه إذا وصف بذلك فهو محصور، وأن الجهة تحويه، أو نحو ذلك. ونحن نقول: إنه أثبت لنفسه هذه الصفة، ولا يلزم من ذلك ما تخيلوه، بل هو فوق العباد كلهم، ومع ذلك لا تحويه الجهة التي يشار إليها، وليس هناك محذور من إثبات هذه الجهة، أو هذه الصفة. الدليل الأول: قوله: (الرحمن على العرش استوى) ذكر العلماء أن صفة العلو دل عليها العقل، وصفة الاستواء دل عليها السمع. فالعقل والفطرة يضطران كل عاقل أن يطلب ربه من فوقه، إذا دعا الله تعالى فإنه يجد من قلبه ارتفاعاً ونظراً إلى العلو ولا يلتفت يمنة ويسرة، ولا يطلب عن يمينه ولا عن يساره، ولا تحت ولا أمام ولا خلف، بل فطرته وعقله تضطره إلى أن يرفع يديه، ويرفع نظره، ويرفع قلبه، ويستحضر أن ربه فوقه. فهذه الفطرة فطرة عقلية لا يستطيع أحد أن يجحدها، بل ذكروا أنها -أيضاً- في البهائم؛ إذا أجدبت الأرض فإنها ترفع رؤوسها إلى السماء تستقي -كما قاله بعضهم- بل إنها فطرة كذلك في الجاهليين -كما ذكر ذلك ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية- قال: إنها مقالة معروفة حتى عند الجاهلية في قول بعضهم: (إذا كان ربي في السماء قضاها) .

وبكل حال فصفة العلو صفة ذاتية، ثم هي أيضاً صفة ثابتة أدلتها متواترة لا مجال لإنكارها إلا مع المكابرة والمعاندة، وقد ذكر العلماء أن الأدلة عليها أنواع كثيرة، وبعض الأنواع أفراده قد تصل إلى عشرين دليلاً أو أكثر، وقد يصل مجموع الأفراد إلى ألف دليل مما يكون سبباً في الاضطرار إلى الإقرار بهذه الصفة، وقد حصرها ابن القيم في واحد وعشرين نوعاً في منظومته النونية الكافية الشافية، ولما قسمها إلى واحد وعشرين نوعاً بدأ بآيات الاستواء. وآيات الاستواء وردت في سبعة مواضع: في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والسجدة، والفرقان، وفي سورة الحديد، كلها ذكر فيها الاستواء، وخص الاستواء بالعرش. وقد ذكر ابن القيم أن هذا إجماع من العلماء من أهل السنة -قال في النونية في الدليل السادس عشر: هذا وسادس عشرها إجماع أهل العلم، أعني حجة الأزمان من كل صاحب سنة شهدت له أهل الحديث وشيعة الرحمن لا عبرةً بمخالف لهم ولو كانوا عديد الشاء والبعران ثم ذكر تفسيرهم لآيات الاستواء بقوله: ولهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر، وقد علا، وكذلك ارتفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان

فذكر أنهم فسروا الاستواء، ثم المشهور عندهم، والكثير منهم يقولون: استوى استواءً يليق بجلاله، ولكن لما كان الاستواء له معان فإنهم فسروه وسيأتي قول الإمام مالك الاستواء معلوم - وإذا كان معلوماً فإنه فصيح وبلغة فصيحة، ولابد أنه مفسر، ولابد أنه مترجم من لغة إلى أخرى، ولابد أن يكون له معنى، فلذلك فسروه بأربع تفسيرات: التفسير الأول: استوى: استقر، وذلك مشهور عنهم، ومع ذلك فالنفاة قد أخذوا يوردون عليه إيرادات وحشية فرضية؛ أوردها ابن خطيب الري الذي هو الرازي صاحب التفسير الكبير، عندما أتى على هذه الآية (ثم استوى على العرش) (الأعراف:54) قال: إن هناك من فسره بالاستقرار وزيّفه بوجوه. ثم أطال في ذكرها، وكذلك صاحب الكشاف الذي هو الزمخشري، ونحوهما من المعتزلة والأشاعرة، ولكن لا عبرة في تزييفهم، فإن تلك التزييفات التي زيفوه بها، والتي طعنوا فيه بها، كلها تخيلات وعقليات لا يلتفت إليها مع وجود النص، ومع الذي تؤيده اللغة الفصحى، وإذا قلنا: استوى، واستقر فلا محذور في ذلك، فالله تعالى مستقر على عرشه، ولكن لا يلزم من ذلك محذور. والتفسير الثاني: هو الذي يذكره ابن جرير، وابن كثير أيضاً عند تفسير الاستواء، يقول: (ثم استوى على العرش) أي علا. هكذا يقول، وهو صريح في العلو الذي هو العلو الحقيقي. التفسير الثالث: الارتفاع؛ (استوى على العرش) أي ارتفع. التفسير الرابع: الصُعود؛ (ثم استوى على العرش) أي صعد، وذكر ابن القيم أن أبا عبيدة يختار هذا القول، وأبو عبيدة هو معمر بن المثنى الشيباني، وهو من علماء اللغة، فسر (استوى) بمعنى صعد، وذكروا عنه أنه نقل عن بعض فصحاء العرب أنه طرق عليه الباب بعض أصحابه، وكان في علية مرتفعاً فقال لهم: استووا. يعني ارتفعوا، فكأنه يقول: إن الاستواء بمعنى الصعود، ومعلوم أيضاً أن الكلمة وردت بعدة عبارات.

فوردت في القرآن غير مقيدة بحرف، قال تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى) (القصص:14) لم يكن بعدها حرف، فتفسر هنا بمعنى الكمال يعني كمل. كما وردت مقيدة بإلى، ومقيدة بعلى؛ قال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) (فصلت:11) ، (ثم استوى إلى السماء فسواهن) (البقرة:29) هنا قيدت بإلى، وتفسر أيضاً بمعنى ارتفع إليها. وأما إذا قيدت بعلى فلا خلاف أنها بمعنى العلو، ومنه قوله تعالى: (واستوت على الجودي) (هود:44) يعني ارتفعت عليه واستقرت، وهو جبل رفيع لما نضب الماء استوت السفينة على ذلك الجبل، فهاهنا استقرت وصارت مرتفعة فوقه، وكذلك قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره) (الزخرف:13) ، وكذلك قوله تعالى: (فاستوى على سوقه) (الفتح:29) يعني ارتفع السنبل على سوقه، فعرفنا أن هذا دليل واضح على أنها إذا قيدت بعلى؛ فهي دالة على الارتفاع، إذاً فهي دليل واضح على أن الله فوق العرش كما وصف نفسه. أما المعتزلة ونحوهم من النفاة فكبرت عليهم هذه الآية فأولوها بعدة تأويلات: التأويل الأول: يُقال أن الجهم الذي هو رئيسهم لما قرأ هذه الآية وعنده بعض أصحابه قال: لو تمكنت لمحوت هذه الآية من المصاحف، ولما كانت صريحة في الرد عليهم لم يجدوا بداً من الخوض في تأويلها، وأكثرهم فسر استوى باستولى، واستدلوا ببيت يقول فيه الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق ولا يدري من الذي قال هذا البيت، وبعضهم يقول: إنه للأخطل، والأخطل نصراني لم يدخل في الإسلام، ولو كان عربياً من بني تغلب، ولعل ذلك هو الذي أراده ابن القيم بقوله في النونية: ودليلهم في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني وفي لامية شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيها: قبحٌ لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل

ثم نقول: هذا البيت على تقدير صحته، فالاستواء فيه بمعنى العلو، استوى على العراق، يعني استقر على سريرها، فهو دال على العلو، فلا يكون دليلاً على الاستيلاء، ثم نقول: إن الاستيلاء ليس خاصاً بالعرش، وهذا هو الذي ذكره ابن القيم عن الأشعري: والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان الأشعري هو أبو الحسن الذي تنتسب الأشاعرة إلى مذهبه الأوسط، وقد رجع عنه في كتابه (الإبانة) . فيقول فيها: إنهم فسروا الاستواء بالاستيلاء، ولو كان الأمر كما يقولون: لم يكن للعرش ميزة؛ فإن الله تعالى مستولٍ على كل شيء، ولا يجوز أن يوصف بأنه استولى على غير العرش، فلا يجوز أن تقول: إن الله استوى على الجبال، إن الله استوى على الأرض، إن الله استوى على الحشوش، إن الله استوى على الأشجار وعلى القصور؛ وحيث إنه خص الاستواء بالعرش فإنه يختص به. فلو كان الاستواء بمعنى الاستيلاء فلماذا يخص العرش وحده؟ الله مستولٍ على الجميع. هذا من جهة، ومن جهة ثانية: فإن الاستيلاء لا يكون إلا بعد منازعة. سمعت حكاية أن بعض المبتدعة قام في أحد المساجد وأخذ يتكلم عن الاستواء، وأخذ يقرر أن استوى بمعنى استولى، والله هو المستولي واستولى على العرش ... ثم إن بعض الحاضرين أمر غلاماً له أن يخرج ويطل من النافذة، ويقول له: قبل أن يستولي على العرش من العرش له؟ ‍ فبهت ذلك الذي يتكلم، فقالوا له: صحيح هذا السؤال واضح. نحن نقول وغيرنا: لمن كان العرش قبل أن يستولي الله عليه؟ وبهذا نعرف بطلان هذا التفسير.

التأويل الثاني: إن العرش بمعنى الملك، قال تعالى: (ثم استوى على العرش) (يونس:3) أي استوى على الملك، وتفسيرهم العرش بأنه الملك كله إبطال الذي ذكره الله تعالى ووصفه بصفات خاصة، والله تعالى وصف هذا العرش بقوله تعالى: (رب العرش الكريم) (المؤمنون:116) ، (رب العرش العظيم) (النمل:26) ، (ذو العرش المجيد) (البروج:15) ، وذكر أن العرش محمول قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله) (غافر:7) ، (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) (الحاقة:17) ، (وترى الملائكة حافين من حول العرش) (الزمر:75) ، (رفيع الدرجات ذو العرش) (غافر:15) في آيات كثيرة أفتبطل هذه كلها؟ ويقال: العرش هو الملك. هذا من الخطأ. زيادة على النصوص الكثيرة التي فيها إثبات حملة العرش، وكيف حملوه وعددهم، وبأي شيء حملوه، وما أشبه ذلك، كل ذلك يدل على أن العرش مخلوق كبير لا يعلم قدره إلا الله تعالى، ورد في بعض الأحاديث أن (الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة) الحلقة هي الحديدة المتلاقية الطرفين، ماذا تشغل من أرض واسعة؟ فكذلك نسبته، مع أن الكرسي قد وسع السماوات والأرض كما نص الله على ذلك. وروي في حديث مرفوع: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) الترس هو المجن الذي يوضع على الرأس في القتال، ماذا تشغل السبعة فيه؟ فإذا كانت هذه نسبة المخلوقات العلوية والسفلية العظيمة إلى الكرسي، وهذه نسبة الكرسي إلى العرش، فما تكون نسبة العرش وما هو مقداره؟ لا يقدر قدره إلا الله تعالى. إذاً فهذان تأويلان باطلان، والأول منهما هو الأشهر (استوى) بمعنى استولى، فإنهم زادوا فيها (لاماً) ويسمى هذا تحريفاً لفظياً، وزيادة هذه اللام شبيهة بالنون التي زادها اليهود لما قيل لهم قولوا: (حطة) فقالوا: (حنطة) هكذا شبهها ابن القيم بقوله: نونُ اليهود ولامُ جهمي هما في وحي ربَّ العرشِ زائدتان

شبهها بنون اليهود، إذاً فنحن نعرف أن هذا النص من الأدلة الواضحة على صفة العلو لله تعالى، ولا نخوض في أكثر من ذلك. الدليل الثاني: قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) (الملك:16) ، (أم أمنتم من في السماء) (الملك:17) الله تعالى قطع الكلام عما بعده في قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء) هذا وقف مطلق. (أم أمنتم من في السماء) هذا وقف جائز (أن يرسل عليكم حاصباً) (الملك:17) ولا شك أن هذا دليل واضح على إثبات العلو، و (في السماء) يفسرونها بتفسيرين: التفسير الأول: أن تكون (في) بمعنى على، وهذا مشهور في اللغة كما في قوله تعالى: (أربعين سنة يتيهون في الأرض) (المائدة:26) يعني على الأرض، (أفلم يسيروا في الأرض) (غافر:82) ، (قل سيروا في الأرض) (النمل:69) ، ليس المراد في جوفها بل المراد عليها، وكذلك قوله عن فرعون (ولأصلبنكم في جذوع النخل) (طه:71) ، ليس المراد أنه ينحت لهم ويدخلهم في الجذوع، بل المراد أنه يصلبهم على جذوع النخل، فدل على أن في تأتي بمعنى على: (في السماء) (المالك:17) يعني على السماء. التفسير الثاني: أن السماء بمعنى العلو، وأن كل ما ارتفع فإنه سماء. يقولون: سما فلان يعني ارتفع، سما هذا البناء ارتفع، هذا بناء سامٍ أي مرتفع، هذا جبل سامٍ أي مرتفع، فالسمو بمعنى الارتفاع. فإذا قيل: (من في السماء) أي في جهة العلو التي لا يعلم نهايتها وقدرها إلا هو سبحانه -فإن قيل فيها دليل على الحصر؟ -فالجواب ليس معنى (في السماء) أن السماء تحصره، أو تحويه -تعالى الله- بل هو فوقها كما يشاء.

وإذا استدلوا بقوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (الزخرف:84) . وقالوا: هذا دليل على أنه في الأرض كما أنه في المساء. فالجواب عن هذه الآية، وعن الآية التي في سورة الأنعام (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) (الأنعام:3) أن المراد: الإله في السماوات والإله في الأرض؛ بمعنى المألوه الذي تألهه القلوب، والذي يستحق أن يكون إلهاً معبوداً وحده، وذلك لأنه لم يقف عند (السماء) ، بل وصلها، ولم يقل وهو الله في السماء. وهو الذي في السماء وفي الأرض بل قال (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (الزخرف:84) يعني: إله في السماء، وإله في الأرض. ويمثل بعضهم ذلك بما إذا قلت مثلاً: فلان أمير في العراق، وأمير في الشام، مع أنه بأحدهما، والمعنى أن إمارته عامة لهذه البلاد، فالله تعالى ألوهيته عامة لأهل السماوات والأرض ولما شاء الله، هذا دليلُ إثبات أنه في السماء. كما ورد أيضاً في الأحاديث مثل حديث رقية المريض، وهو حديث مشهور رواه أبو داود وغيره، وإن كان في سنده مقال، ولكن شيخ الإسلام يكثر الاستدلال به مما يدل على أن المقال لا يقدح فيه، وفيه (إذا مرض أحدكم، أو مرض أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء؛ فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع) . والشاهد قوله: (ربنا الله الذي في السماء) ، ولم يقل في السماء والأرض، ولم يقل: (ملكك) كما يعبرون عنه، أو (في السماء سلطانك) كما تقوله النفاة، أو (في السماء أمره) كما يقولونه، والأحاديث في هذا كثيرة.

ومثله قصة الجارية (جاء رجل وقال يا رسول الله: إن علي عتق رقبة، وإن عندي جارية أفأعتقها؟ فقال: ائت بها.. الحديث) فلما جاء بها امتحنها النبي صلى الله عليه وسلم؛ هل هي مؤمنة؟ لأن من شرط العتق أن يكون العتيق مؤمناً لقوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة) (النساء:92) ، فأول شيء بدأها بقوله: (أين الله) ؟ فقالت: في السماء. إما أن ذلك فطرة، وإما أن ذلك عن علم تلقته وتعلمته، قال (من أنا) ؟ قالت: أنت رسول الله. فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة) . زكاها وشهد لها بالإيمان لما اعترفت بأن الله في السماء، فدل على أنه لا يكمل الإيمان إلا بهذا الشرط؛ وهو الاعتقاد أن الله في السماء، ويفيد أن من اعتقد غير ذلك فإنه ناقص الإيمان. ومثل هذا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) أي ربكم الذي في السماء، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً) ، والأحاديث كثيرة. والحاصل أن هذا دليل على إثبات العلو، ومحمله كما قلنا. وقوله: وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة؛ ستةً في الأرض، وواحداً في السماء. قال: من لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين. فأسلم، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) . شرح:

هذا حديث مروي في سنن الترمذي في قصة حصين والد عمران بن حصين الأسدي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، ولكنه لم يسأله عن الرغبة في الإسلام، فسأله كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة -ثم فصل- فقال: ستةً في الأرض، وواحداً في السماء. فقال: من لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء. فدعاه إلى الإسلام، وقال له: إذا أسلمت فإني سوف أعلمك كلمتين نافعتين. فأسلم، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) ، وهذه دعوة عظيمة. قوله: (من لرغبتك ولرهبتك) يعني من تعده إذا كانت رغبتك ملحة وشديدة، ورهبتك يعني خوفك؛ فالرهبة: الخوف، والرغبة: الرجاء، يعني من الذي ترجوه عندما تحل بك الأزمات أن يفرج عنك، ومن الذي تخافه عندما تفعل المعاصي والمحرمات أن يبطش بك، من الذي تعد للرغبة والرهبة؟ فقال: الذي في السماء. أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو كان هذا غير جائز لأنكر عليه، ولقال له: هذا تجسيم، أو تشبيه أو إثبات جهة، أو نحو ذلك. فإن المبتدعة يسمون أهل السنة بألقاب ابتدعوها يسمونهم: نوابت، ويسمونهم غثاءً، ومجسمة، وحشوية، ومشبهة، وممثلة وما أشبه ذلك، وهم أولى بتلك الأسماء التي ابتدعوها ونبزوا بها أهل السنة، وعلى كل حال فإن هذا دليل واضح على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن يعتقد أن الله في السماء. وقوله: وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: (أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء) . شرح:

هذا الأثر في صفة هذه الأمة من الآثار التي تنقل عن الكتب المتقدمة وهي من الأخبار التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل ... الآية) ولكنه مطابق للواقع، مطابق لوصف هذه الأمة بأنهم يسجدون في الأرض وإلههم في السماء، ومعلوم أنهم على الأرض وأنهم يسجدون عليها، وأنهم يضعون جباههم عليها تواضعاً لربهم، وأنهم يعتقدون أن ربهم فوقهم. مسألة: حديث الأوعال قوله: وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا..) وذكر الخبر إلى قوله ( ... وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك) فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف -رحمهم الله- على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله، ولا تشبيهه، ولا تمثيله. سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقيل: يا أبا عبد الله، (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالرجل فأخرج. شرح: هذا الحديث يسمى حديث الأوعال، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية، ولما حصلت المناظرة بينه وبين الأشاعرة في دمشق، وأرادوا أن ينكروا عليه، وكان مما استدل به هذا الحديث الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم: خلق المخلوقات، ثم قال في آخره: (والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) . لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم السماوات، وذكر البحار التي فوقها، وذكر الأوعال التي هي الملائكة الذين يحملون العرش، قال بعد ذلك: (والعرش فوق ذلك) يعني فوق ظهور الأوعال، مع ذكره لعظم خلقهم، و (والله فوق العرش) دليل صريح بذكر الفوقية.

قالوا: إن الحديث في إسناده عبد الله بن عميرة، وأنه لا يعرف إلا به، ولكن شيخ الإسلام يقول: إن هذا الحديث قد رواه كثير من الأئمة مؤيدين له. ومن جملة من رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتابه (التوحيد) المطبوع المشهور المحقق؛ ذكر في أول الكتاب أنه لا يروي إلا الأحاديث التي صحت وليس في أسانيدها طعن ولا انقطاع، فهو روى هذا الحديث وسكت عنه، وذلك دليل على ثبوته، وفيه إثبات الفوقية أن الله تعالى فوق العرش الذي هو فوق المخلوقات، ولا دلالة أصرح من هذا الدليل. (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) يعني أنه مع علوه، فهو سبحانه يطلع عليكم، ولا يخفى عليه منكم خافية، يعلم القريب والبعيد. وآيات المعية، وآيات القرب كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام أن ما ذكر في القرآن من علو الله تعالى وفوقيته لا ينافي ما ذكر من قربه ومعيته؛ فإنه سبحانه لا يقاس بخلقه، وليس كمثله شيء، وهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه، نَصفه بأنه هو الأعلى وهو معنا، ومطلع علينا، يرى عباده ويعلم أحوالهم، كما في قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق:16) ، وفي قوله تعالى: (وما كنا غائبين) (الأعراف:7) . هذه الأدلة ونحوها أدلة صريحة في إثبات العلو، والأدلة كثيرة وقد مر بنا آيات الاستواء، وآيات ذكر السماء، وهذان نوعان من الدليل. والدليل الثالث: آيات العلو كقوله تعالى: (وهو العلي العظيم) (البقرة:255) ، (سبح اسم ربك الأعلى) (الأعلى:1) ، (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) (الليل:20) ، (إن الله كان علياً كبيراً) (النساء:34) ، (إنه علي حكيم) (الشورى:51) ونحو ذلك، فالعلو ثابت لله تعالى بجميع أنواعه وأنواع العلو ثلاثة: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات. ومثله آيات الفوقية، مثل قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (الأنعام:18) ، (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل:50) .

فإذا قال النفاة: إن قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) إن الفوقية هنا فوقية الغلبة، يعني الغالب فوق عباده، يعني غالباً لهم وقاهراً لهم، وشبهوا ذلك بقول فرعون: (وإنا فوقهم قاهرون) (الأعراف:127) وكذلك قالوا: إن العلو هنا علو الغلبة، وعلو القهر، وقالوا: إن هذه شبيهة بقول فرعون: (أنا ربكم الأعلى) (النازعات:24) . الجواب أولاً: هذا لا يتأتى في آية: (يخافون ربهم من فوقهم) فإنه صريح في أن الفوقية ثابتة من فوقهم، ويمكن أن يصح في قوله: (وهو القاهر فوق عباده) أنها فوقية القهر وفوقية الغلبة وفوقية القدر، ومع ذلك يلزم من فوقية القهر فوقية الذات، فالله تعالى فوق عباده بذاته، والعلي بقدره، والعلي بقهره، يعني القاهر لهم، والذي هو فوقهم كما يشاء سبحانه وتعالى. ومثل ذلك آيات الرفع؛ كقوله تعالى: (والعمل الصالح يرفعه) (فاطر:10) ، (إني متوفيك ورافعك إلي) (آل عمران:55) ونحوها، وآيات العروج قال تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) (المعارج:4) ، (ثم يعرج إليه) (السجدة:5) ، وآيات الصعود قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) (فاطر:10) . ومثلها ما ذكر الله عن فرعون أنه أراد الصعود إلى السماء قال تعالى في قصته: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى) (غافر:36-37) لابد أن موسى أخبره بأن الله في السماء، ولو كان موسى أخبره بأن الله في كل مكان لما تكلف أن يبني الصرح، فهذا دليل على أن الله تعالى أمر موسى بأن يبين له ويعلمه أن الرب تعالى في السماء، فلذلك بنى الصرح محاولا أن يطلع على إله موسى. ومن الأدلة على ذلك إقرار الأشاعرة بالرؤية؛ رؤية المؤمنين لربهم، ولذلك أنكرها المعتزلة، وقالوا: إنها تستلزم أن الله تعالى في جهة، ونحن نقول: نعم إن الله في جهة العلو.

وبكل حال هذا هو القول الواضح، ومع ذلك فإنهم أنكروا صفة العلو مع كثرة ما عليها من الأدلة ووضوحها، حتى إن بعض الأشاعرة رد على ابن القيم في النونية ومنهم السبكي، ثم إن زاهداً اكلوثري حقق هذا الرد الذي على ابن القيم، وقدم له مقدمة بشعة أخذ يسبه فيهان ويصفه بصفات تصل إلى الكفر -والعياذ بالله- كفّره وفسّقه، وشتمه، ولعنه، ودعا عليه، وشنع به، وما ذاك إلا لأنه يعجز الكوثري وأمثاله أن يتأولوا هذه الأدلة، وأن يردوها، فلما رآها صريحة، ورأى أن الذين ردوا عليه تكلفوا في ذلك، لم يكن بدٌ من أن يحمل عليه. أما هذا الأثر عن مالك، فهو مشهور عنه أنه جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله: أرأيت قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (طه:5) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء -يعني العرق- ثم رفع رأسه فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً) ثم أمر به فأخرج، هكذا رُوي عن مالك رحمه الله واشتهر عنه، وانتشر. وهكذا أيضاً روي عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ من علماء المدينة، وهو من مشاهير العلماء أنه قال في الاستواء: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) . مقالة يا لها من مقالة حكيم، وعلوم لا تصدر إلى عن علم راسخ. وقد رُوي هذا عن أم سلمة إحدى أمهات المؤمنين أنها قالت، (الاستواء معلوم، والكيف مجهول.. إلى آخره) ، ورواه بعضهم عن أم سلمة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحته إنما هي عن مالك وعن شيخه، ولا شك أن هذا قول الأئمة كلهم؛ يقرون بأن الله تعالى على العرش استوى، وأن الاستواء معلوم غير مجهول، ومعلوم يعني مفهوم له معنى مدرك، معناه واضح يفسر ويبين، ويفهم، ويترجم من لغة إلى لغة.

فله معنى، بخلاف من يقول: إنه لا يعلم معناه، وإنما هو كالألفاظ الأعجمية التي نتكلم بها ولا ندري ما مفادها، أو كالألفاظ ما سمعنا لها أصلاً، ولا يدري معناها فهذا افتراء على مالك، ما دام أنه قال: (معلوم غير مجهول) أي لا أجهله أنا ولا تجهله أنت؛ لأن اللغة الفصيحة، لغة واضحة، إلا أن له كيفية، والكيف مجهول، الكيف غير معقول، الكيفية التي عليها الاستواء هي المجهول. فلأجل ذلك في اصطلاح أهل السنة يقولون في آيات الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف، اجتنبوا التكييف، ويقولون: نؤمن بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل. التكييف له أحد معنيين: الأول: هو السؤال بكيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف علمه؟ كيف يغضب؟ فنقول: لا يجوز التكييف. الثاني: أن التكييف هو الإخبار بالكيفية؛ أن يقال: كيفية النزول كذا وكذا، كيفية الاستواء كذا وكذا، وهذا أيضاً لا يجوز اعتماده، ولا يجوز العمل به، ولا القول به، بل الله سبحانه وتعالى كما وصف نفسه في صفاته، دون أن يكون له كيفية مفهومة لنا. وأما قوله: (والإيمان به واجب) لأن الله أخبر به في عدة آيات، وكل ما أخبر به وجب التصديق به، ووجب اعتقاده، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه من العلم الذي حجبه الله عنا، والسؤال عن الكيفيات بدعة، ولهذا في منظومة أبي الخطاب: قالوا: فتزعم أن على العرش استوى قلت: الصواب؛ كذاك أخبر سيدي قالوا: فما معنى استواه أبن لنا فأجبتهم: هذا سؤال المعتدي فالسؤال عن الكيفية بدعة، ولأجل ذلك أمر بإخراج هذا المبتدع فنعرف من هذا طريقة السلف رحمهم الله في إثبات الصفات، وفي الرد على المبتدعة. مسألة: إثبات صفة الكلام لله تعالى قوله:

ومن صفات الله تعالى؛ أنه متكلم بكلام قديم، يُسمِعُه من شاء من خلقه، سَمِعه موسى عليه السلام، من غير واسطة وسمعه جبريل عليه السلام ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يُكلِّم المؤمنين في الآخرة ويكلِّمونه، ويأذن لهم فيزورونه. قال الله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) (النساء:164) ، وقال سبحانه: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف: 144) ، وقال سبحانه: (منهم من كلم الله) (سورة البقرة:253) وقال سبحانه: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب) (الشورى:51) . شرح: هذه من الأدلة على أن الله تعالى متكلم ويتكلم إذا شاء، والدليل قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) واضح في أن الله كلم موسى وأنه أسمعه كلامَه، وكذلك قوله تعالى: (مِنْهم من كلم الله) يعني موسى أو يعني من الرسل من كلمه الله، وكذلك قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) (الأعراف:143) إلى قوله تعالى: (وإني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف:144) واضح في أن الله كلَّمه، وأنه اصطفاه، واختصه برسالته، وبتكليمه له، وأن الله أسمعه الكلام. وقد ذُكر أن أحد الجهمية جاء إلى أبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة في العراق- وقال: أريد منك أن تقرأ هذه الآية: (وكلم الله موسى تكليماً) (النساء:164) بنصب (الله) ، وقصده أن يكون موسى هو الذي كلم ربه، لا أن الله هو الذي كلم موسى، يريد بذلك نفي كلام الله لموسى، ولكن أبا عمرو رحمه الله قال له: هب أني قرأت أنا أو أنت هذه الآية هكذا؟ فكيف تفعل بقول الله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) هل تستطيع أن تغيرها؟ هل تستطيع أن تقدم فيها أو تؤخر؟ فتحير ذلك الجهمي، وعرف أنه لا حيلة له في تغيير هذه الكلمة.

أراد أن يحرفها تحريفاً لفظياً، ويجعل الكلام من موسى لا من الله؛ في قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) ، فجاءت هذه الآية التي تبطل تحريفه (وكلمه ربه) فقدم الضمير المفعول به، والرب هو المكلم - فلم يكن له فيها حيلة. ثم ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة والجهمية تأولوا هذه الكلمة فحرفوها تحريفاً عجيباً؛ فقالوا: التكليم التجريح قال تعالى: (وكلمه ربه) ، (منهم من كلم الله) (البقرة:253) يعني جرحه بأظافر الحكمة، وقالوا: إن الجُرح هو الكَلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلمِ؛ لونه لون دم وريحه مسك) . فذهبوا مذهباً بعيداً، وفسروا التكليم بأنه التجريح -سبحان الله- وهل التجريح شرف؟ وهل فيه ميزة لموسى؟ ولماذا اختصه بقوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) بعد ما ذكر أنه أوحى إلى النبيين بقوله تعالى (إن أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) (النساء:163) ، لو كان ذلك هو التجريح ما كان فيه فضيلة، كيف يكون جرحه بأظافير الحكمة؟ فإن التجريح عذاب سواءً كان حسياً أو معنوياً، ثم يبطله أيضاً قوله تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف:144) ولم يقل بتكليمي، والكلام واضح في أنه أراد ما سمعه من كلام الله له، فبطل بذلك تأويلهم. كذلك أيضاً قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله وحياً) (الشورى:51) ليس المراد أن يجرحه إلا وحياً، وهل الوحي تجريح بأظافير الحكمة؟ فعرف بذلك أن التكليم هو الكلام، ولهذا قال تعالى: (أو من وراء حجاب) (الشورى:51) يعني أو يْكلِّمه من وراء حجاب كما حصل لموسى. وقوله: وقال تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك) (طه:11-12) ، وقال تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) (طه:24) ، وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله. شرح:

من الأدلة أيضاً: آيات النداء، فالنداء لا يعرف إلا بالكلام، وقد ذكر الله النداء في عدة آيات، ففي سورة القصص ذكره في ثلاث آيات؛ قال تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) (القصص:62) ، (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) (القصص:62) فالنداء لا يكون إلا بصوت، وبكلام مسموع: قال الله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين) (الشعراء:10) ، وقال تعالى: (هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى) (النازعات:15-16) ، وفي هذه الآية (فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك) إلى قوله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) (طه:11-14) ، وكذلك قوله تعالى: (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً) (مريم:52) . فلا شك أن النداء كلام مسموع، فلابد أن يكون كلام الله الذي تكلم به من الكلام المسموع الذي فهمه موسى، ولهذا لما سمع كلام الله سأل النظر إليه، وقال: (رب أرني أنظر إليك) (الأعراف:143) الآية، فدل على أنه سمع كلام الله، ولا شك أن موسى سمع قول الله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) (طه:14) ، من الذي قال هذا لموسى؟ قالته الشجرة؟ ولما رأى النار فقال: (إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) (القصص:29) (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها) (النمل:8) يعني سمع نداء الله (أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك) (القصص:30-31) . هل تقول الشجرة هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى: (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) (طه:12-14) ، (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم * وألق عصاك) (النمل:9-10) ؟ هذا كلام لا يقوله إلا الرب سبحانه الذي ناداه.

مسألة: إثبات أن القرآن كلام الله حقيقة وقوله: ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، مُنزَّلٌ غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. شرح: ولما تكلم على أن الله متكلم ويتكلم، كان ولابد من أن يذكر أمثلة من كلامه الذي وصل إلى البشر، وبلا شك أن من أقرب ذلك هذا القرآن الذي بين أيدينا، الذي هو أعظم وأشرف الكتب المنزلة على الأنبياء، ولا شك أنه كلام الله. ومعلوم أن الله أنزل على الأنبياء كتباً، أنزل على موسى التوراة، وأنزل على عيسى الإنجيل، وأنزل على داود الزبور، وأنزل على إبراهيم صحفاً كما في قوله: (صحف إبراهيم وموسى) (الأعلى:19) ، ولا شك أن ذلك كله من كلام الله الذي تكلم به وضمّنه شريعته، وأمره، ونهيه. وكان من آخر الكتب هذا الكتاب المبين، وهذا الذكر الحكيم الذي وصفه الله بذلك، وصفه بأنه الذكر الحكيم يعني المحكم، وبأنه القرآن المبين يعني البيّن، ووصفه بالهدى، وبالبيان، وبالشفاء، وبالموعظة، وبصفات تدل على عظمته، وعلى عظم مكانته. وأخبر بأنه منزل من الله بقوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) (الشعراء:192-195) أنزله الله بلسان عربي حتى يفهمه المُرسل إليهم، قال الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (إبراهيم:4) . فجعل هذا القرآن بلسان النبي صلى الله عليه وسلم: أي بلسان العرب كما أن الكتب المنزلة قبله أنزلها -سبحانه- بألسنة الذين نزلت عليهم، بالسريانية وبها نزل الإنجيل، وبالعبرانية التي هي لسان اليهود، وأما القرآن فإنه بهذه اللغة الفصيحة بلسان العرب، هذا هو قول أهل السنة: أن القرآن منزل غير مخلوق؛ رداً على الذين يقولون إنه مخلوق.

(منه بدأ) : يعني تكلم به الرب سبحانه وتعالى، (وإليه يعود) وذلك إذا لم يُعمل به في آخر الزمان يُرفع من الصدور، ويُرفع من الأسطر ومن الكتب، ولا يبقى منه شيء، وهذا معنى قوله: (وإليه يعود) ، كما فسر ذلك شيخ الإسلام في بعض كتبه. فعند أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه كلام مسموع، أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن الكلام معنى قائم بالنفس؛ قالوا: إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعِبرية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسُريانية فهو إنجيل؛ هكذا يقولون، وأنكروا أن يكون هذا الكلام الذي بهذه الحروف هو نفس كلام الله، وقالوا: إن كلام الله هو المعنى ليس هو اللفظ، وهذه الحروف التي في هذه المصاحف ليست هي كلام الله، وأرادوا بذلك التستر حتى لا يقولوا: إن القرآن مخلوق، وإلا فقولهم قريب من قول المعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق، وهؤلاء قالوا: إنه كلام الله، ولكن كلام الله المعنى دون اللفظ. وكثيراً ما يستدلون بالبيت المشهور في كتبهم؛ يقولون: إن الشاعر العربي يقول: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً فيقولون: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وإن الكلام في الحقيقة إنما هو ما يقوم بالنفس، وأما ما يسمع بالأذان فلا يسمى كلاماً، وإنما يسمى عبارة أو حكاية، فيقولون: إن القرآن عبارة، أو حكاية عن كلام الله، وليس هو عين كلام الله، هذه عقيدتهم، فكيف نرد عليهم؟ العرب لا ينسبون للساكت كلاماً، ولو كان يزور في نفسه، إنما يُسمى كلاماً بعد ما يُنطق به، فأما قبل أن يُنطق به فلا يسمى كلاماً. وأما البيت الذي استدلوا به فينسبونه إلى الأخطل وليس بصحيح؛ فلم يوجد في ديوانه، وأكثر الشعراء وعلماء الأدب ينكرون هذا البيت ويقولون: إنه مختلق لا أصل له. ثم رواه بعضهم قائلاً:

إن البيان لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسانُ على الفؤاد دليلاً ثم لو قدّرنا أنه صحيح، وأنه من قول الأخطل لم نقبله، وذلك لأن الأخطل نصراني، مشهور بتمسكه بالنصرانية، ويفتخر بها، ويمتنع أن يفعل ما يفعله المسلمون، وقد أشتُهر من شعره قوله: ولستُ بقائم كالعير يدعو قُبيل الصبح حيَّ على الفلاح ولستُ بقائدٍ عيساً بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بصائم رمضان طوعاً ولست بآكل لحم الأضاحي ولكني سأشريها شمولاً وأسجدُ عند منبلج الصباح لا شك أن هذا يدل على كفر صريح، وإذا كان يفتخر بأنه نصراني فكيف يُستشهد بكلامه في أمر يتعلق بالعقيدة؟ ثم -أيضاً- هو يسمى (الأخطل) والخطل هو عيب في الكلام، ثم -أيضاً- هو نصراني؛ والنصارى قد ضلوا في مسمى (الكلام) حيث جعلوا (عيسى) نفس (الكلمة) فإذا كان كذلك فكيف يستشهد بكلام هذا الأخطل النصراني، على أمر من أمور العقيدة. وقد قال ابن القيم رحمه الله في نونيته: ودليلهم في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني وكذلك البيت المنسوب إلى شيخ الإسلام -رحمه الله- في العقيدة اللامية التي أولها: يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل اسمع كلام محقق في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسل ولكلهم قدر وفضل ساطعُ لكنما الصديق منهم أفضل إلى قوله: قبح لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول: قال الأخطل

قبح له كيف ينبذُ الكتاب ويستدل بقول الأخطل، فعلى هذا كيف يكون كلام الأخطل دليلاً على مسألة الكلام، وأن الكلام هو المعنى دون اللفظ، فالعرب لا تنسب للساكت كلاماً، ولو كان يحدث نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها؛ ما لم يتكلموا أو يعملوا به) ، ولما قال له بعض الصحابة: (إن أحدنا ليجد في نفسه لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) . مسألة: عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم وقوله: وهو سورٌ محكمات، وآيات بيناتٌ، وحروفٌ وكلمات، (من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات) له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض. شرح: هذا الوصف مشاهد في مصاحف المسلمين، أنه مائة وأربع عشرة سورة، وأن كل سورة فيها عدة آيات، وأطولها سورة البقرة مائتان وست وثمانون آية، وأقصرها سورة الكوثر ثلاث آيات، وسورة العصر ثلاث آيات، وسورة النصر ثلاث آيات، ومنها ما هو فوق المائتين كالأعراف والشعراء. الحاصل أنه سور وآيات، وأن الصحابة جزَّءوه إلى ثلاثين جزءاً؛ يعني قسموه تقاسيم متقاربة، وجعلوه ثلاثين جزءاً، وجعلوه أحزاباً؛ كل جزء جعلوه حزبين، ومعروف أيضاً أن بعض العلماء اشتغلوا بعدّ آياته، فذكروا أن آيات القرآن أكثر من ستة آلاف آية، واشتغل بعضهم بعدّ كلماته، والكلمة هي القول المفرد، واشتغل بعضهم بعدّ حروفه؛ أن هذه السورة كذا وكذا حرفاً، وهذه الآية كذا وكذا حرفاً، وهذا دليل على أنه سور، وبكل سورة آيات وأجزاءٌ، وحروف، وكلمات.

(له أول وآخر) بمعنى أن الصحابة اتفقوا على أن أوله سورة الفاتحة، وسموها (فاتحة الكتاب) وهي السبع المثاني، وكذلك كل سورة جعل لها اسم مما اشتملت عليه. كذلك أيضاً له آخر، فآخره سورة الناس، وترتيبه هذا الذي في المصاحف ترتيب من الصحابة، والأكثر من العلماء قال أنه توقيف وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوقفهم على هذا الترتيب، وقال: (اجعلوا هذه السورة بعد هذه السورة) أو نحو ذلك. ومن العلماء من يقول: ترتيب السور باجتهاد من الصحابة، قدموا السبع الطوال، ثم أتبعوها المئين، ثم أتبعوها بالمثاني، ثم أتبعوها بالحواميم، ثم ختموها بالمفصل، وذلك اجتهاد منهم، وقالوا: إن مصاحف الصحابة اختلف فيها الترتيب، ولكن قد عرف أنه كان يُقرأ على زمن النبي صلى الله عليه وسلم: مرتباً، فيدل على أنه كان يقرأ كله، وهذا لا ينافي كونه كلام الله. وقوله: متلوٌ بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكيم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكم حميد) (فصلت:42) وقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (الإسراء:88) . شرح:

هذا وصف للقرآن (متلو بالألسن) أي نقرؤه بألسنتنا، ونسمعه بآذاننا قال الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) (الأعراف:204) ، (مكتوب في المصاحف) أي نكتبه بأيدينا في المصاحف، ويسطر فيها أسطراً متتابعة، فهو بهذه الصفات لا يخرج عن كونه كلام الله، إذا قرأه القارئ فإنه كلام الله، يقال: هذا يتكلم بكلام الله، ولو كان بعضه حكاية لغيره، فإذا قلنا مثلاً قوله تعالى: (فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى) (النازعات:23-24) قلنا: هذا كلام الله عن فرعون، وإذا قرأنا قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (الأعراف:17) قلنا: هذا كلام الله عن إبليس، فالحاصل أنه إذا كتب لم يخرج عن كونه كلام الله، وإذا قرئ، وإذا نسخ -بمعنى كُتب ونُقل- من مصحف في مصحف، فكله كلام الله. وقد اشتمل القرآن على محكم ومتشابه في قوله تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (آل عمران:7) ، وقد فسر المحكم بأنه الذي ليس فيه نسخ ولا تغيير، وبأنه الذي يفهمه من يسمعه؛ هذا هو المحكم، فآيات الأحكام محكمة ظاهرة الإحكام، وأما المتشابه فهو الذي يشتبه على بعض الناس، وقد تقدم في أول الرسالة ذكر الذين يتبعون ما تشابه منه، وهم أهل الزيغ، وذكرنا أمثلة مما يتشبثون به. وفيه -أي القرآن- (أمر ونهي) ؛ الأمر مثل قوله تعالى: (اعبدوا ربكم) (البقرة:21) ، والنهي مثل قوله تعالى: (ولا تشركوا به شيئاً) (النساء:36) ، وفيه (ناسخ ومنسوخ) يعني آيات منسوخ لفظها، أو منسوخ معناها، وكذلك أيضاً فيه مطلق ومقيد؛ المطلق الذي يحتاج إلى تقييد مثل قوله تعالى: (فتحرير رقبة) (النساء:92) .

يعني فيه هذه الكلمات التي تشتمل عليها، وكله لا يخرج عن كونه كلام الله، وصفه الله بقوله تعالى: (وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (فصلت:41-42) العزيز؛ يعني الجليل، عزيز يعني ذو عزة، وذو قوة، وذو بلاغة، وذو أسلوب قوي، (لا يأتيه الباطل) معناه: لا يتطرق إليه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه، من أية جهة لأنه كلام الله، قال تعالى: (تنزيل من حكيم حميد) . وكذلك قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (الإسراء:88) لو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يعارضوه ويأتوا بقرآن مثله لعجزوا عن ذلك. فهذا تحد من الله وإخبار بأنهم عاجزون، وقد وقع كما أخبر، فدل ذلك على أنه كلام الله. وقوله: وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الله تعالى على لسان الذين كفروا: (لن نؤمن بهذا القرآن) (سبأ:31) ، وقال بعضهم: (إن هذا إلا قول البشر) (المدثر:25) فقال الله سبحانه: (سأصليه سقر) (المدثر:26) ، وقال بعضهم: هو شعر. فقال الله تعالى: (وما علَّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) (يس:69) ، فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآناً لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات، وحروف، وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر. شرح: يشير إلى أن القرآن الذي هو كلام الله، هو هذا الموجود الذي في المصاحف، فإنه كلام عربي قال الله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي) (فصلت: 44) ، كيف يرسل إلى قوم عرب، ويكون قرآناً أعجمياً؟ وقال تعالى: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل:103) . وصفه بأنه لسان عربي.

ثم حكى الله عن المشركين الذين عارضوه هذه الحكايات فحكى عنهم قولهم أنه أساطير الأولين، لما سمعوا فيه هذه القصص قالوا: إنه أكاذيب الأولين قال تعالى: (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً) (الفرقان:5) كيف تملى عليه وهو أمي لا يكتب ولا يقرآ؟ يقول تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) (العنكبوت:48) . كذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: إنه شعر، إنه كهانة، والشعر معروف أنه له أوزان، وله قواف، والقرآن ليس كذلك، ومعلوم أن الكهنة يستعملون في كلماتهم سجعات متتالية، وليس كذلك القرآن، ولهذا رد الله عليهم بقوله تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) (الحاقة:41-42) . ولما أوردوا هذه الإيرادات على بعض كفار قريش -وهو الوليد بن المغيرة- لم يقنع بها فقالوا: فماذا نقول؟ قال: نقول إنه سحر يؤثر. يعني يُنقل ممن قبله، فقال الله تعالى حاكياً عنه: (فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر) (المدثر:24-26) كيف يكون سحراً يؤثر؟ من أين أثر، ومن أين جاء؟ فتبين أن هذا دليل على أنهم يشيرون إلى القرآن الذي يتلى عليهم؛ لأنه لو كان معنوياً لم يوصف بأنه شعر، ولا أنه سحر، ولا أنه كهانة، ولا أنه أساطير الأولين، ولا أنه افتراه كما في قولهم: (افتراه) يعني كذبه واختلقه، فدل على أنهم يشيرون إلى هذا القرآن. وقوله: وقال تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله) (البقرة:23) ، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدري ما هو، ولا يعقل. شرح:

يشير إلى أن المثل لابد أن يكون معروفاً مشهوراً مشاهداً فقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) في سورة البقرة، وفي سورة يونس (فأتوا بسورة مثله) (يونس:38) لو كان المراد المعنى الذي تزعم الأشاعرة أنه (معنى) لم يُعرف المثل لأنهم يقولون: أن القرآن إنما هو (المعنى) ، وأما اللفظ فهو تعبير من محمد أو تعبير من جبريل، وهذا خطأ، وإلا لما قال الله تعالى: (فأتوا بسورة مثله) . وقوله: وقال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) (يونس:15) ، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم وقال تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) (العنكبوت:49) ، وقال تعالى: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون) (الواقعة:77-79) ، بعد أن أقسم على ذلك، وقال تعالى: (كَهيعص) (مريم:1) (حم * عسق) (الشورى:1-2) ، وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة. شرح: هذا دليل على أنه هو هذا القرآن فإن قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) (يونس:15) إشارة إلى هذا الذي يسمعونه قال تعالى: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) (يونس:15) أخبر بأنهم يشيرون إلى شيء (بقرآن غير هذا أو بدله) (يونس:15) فدل على أن هذا هو الذي سمعوه، وهو الذي قرأه عليهم. وكذلك آية سورة العنكبوت (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) (العنكبوت:49) يعني: محفوظ في الصدور، في صدور الذين أتوا العلم، فدل على أنهم يسمعون ويفهمون هذه الآيات التي اشتملت عليها هذه السور، فدل على أنه كلام مسموع له أول وآخر، وأنه كلمات وحروف.

وكذلك لما أقسم الله بقوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون) (الواقعة:75-78) يعني مكتوب أصله في اللوح المحفوظ (لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين) (الواقعة:79-80) ، هذه الصفات صفات القرآن؛ قرآن كريم، في كتاب مكنون، تنزيل من رب العالمين، لا يمسه إلا المطهرون -لا شك أن هذه كلها صفة للقرآن الذي بين أيدينا، فكيف تكون للمعنى؟ لا شك أنه أراد هذا الكلام المحفوظ المسموع. وأما قوله: (افتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة) يعني مثل (ألم) (البقرة:) ، وفي آل عمران، والعنكبوت، والسور التي بعدها، وكذلك (الر) في يونس والسور التي بعدها، و (المص) (الأعراف:1) ، وكذلك في السور المتفرقة مثل (طه) (طه:1) ، (كهيعص) (مريم:1) ، ومجموعها تسع وعشرون سورة افتتحها بالحروف المقطعة. هذه الحروف لا شك أنها حروف، لأنها تنطق بنفس الكلمة، يعني هو يكتب حرفاً ولكنه ينطق بكلمة، فإن قولك: (ك) - لا يكتب في (ألف) و (فاء) بل يكتب: (ك) ، وكذلك (ع) - لا تكتب الياء والنون وإنما تكتب (ع) ، فهكذا رويت ونطق بها النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه؛ فله بكل حرف حسنة) حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام (أقرءوا القرآن قبل أن يأتي قوم يُقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم؛ يتعجلون أجره، ولا يتأجلونه) وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من كفر بحرف منه فقد كفر به كله) . واتفق المسلمون على عد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه -أنه كافر، وفي هذا حجةٌ قاطعةٌ على أنه حروفٌ. شرح: هذه الأدلة أدلة واضحة على أن القرآن فيه كلمات، وحروف، وآيات، ونحوها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) رواه الترمذي أخبر بأنه يثاب على هذه الحروف، فدل على أن القرآن هو هذه الحروف، وكذلك (من قرأ القرآن فأعربه) ، (من قرأ القرآن ولحن فيه) ، (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها) ، ويحث صلى الله عليه وسلم على تعلمه وتعليمه بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، ويخبر صلى الله عليه وسلم عن فضل من يحمله (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب، وريحها طيب) يعني أنه يقرأ القرآن، وأن القرآن قد امتلأ به قلبه وضميره. وكذلك ذكر كلام الصحابة في تفضيل إعراب القرآن؛ يعني تجويده، وتحقيق كلماته على كثرة التلاوة، كل ذلك دليل على أنهم فهموا أن القرآن هو هذا المكتوب في المصاحف الذي هو كلمات وحروف. وكذلك اتفق أهل السنة، واتفق أئمة الأمة على أنه يجوز أن تُعدَّ كلماته، وأن تُعدَّ حروفه، وأن تُعدَّ آياته، وفي ذلك دليل على أن كلام الله هو هذا القرآن الذي فيه حروف، فالإمام الموفق رحمه الله في ذلك يشير إلى أن قول المعتزلة أنه مخلوق قول باطل.

وكذلك قول الأشاعرة؛ أن الله لا يتكلم بحرف وصوت قول باطل، فإنهم يريدون بذلك إبطال كون القرآن كلام الله؛ حروفه ومعانيه، فإن كلام الله هو القرآن؛ حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف. ولما اشتهر عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه يثبت أن الله يتكلم بكلام مسموع، أنكر عليه الأشاعرة، ولما أحضروه في مصر لمجادلته انتصب له أحد علماء الشافعية ووقف خصماً له إذ رئيس القضاة في ذلك الوقت من الحنفية فقال له: أدعي على هذا الفقيه أنه يقول: إن الله يتكلم بحرف وصوت. هكذا نقموا عليه قوله: (إن الله يتكلم بحرف وصوت) كأن هذه كبيرة عندهم، وكأن هذا أكبر الذنوب، وأكبر الكبائر، وأنه كفر، فلم يكن من شيخ الإسلام إلا أنه ذكر لهم الأدلة، وطلب منهم أن يفسروها، فعجزوا عن ذلك. فلبيان بطلان قول الأشاعرة اجتهد الشيخ في هذا الباب في أن يورد كثرة الأدلة التي تثبت أن كلام الله هو هذا القرآن حروفه ومعانيه. مسألة: رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة قوله: والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويُكلمهم، ويُكلمونه، قال الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) (القيامة:22-23) ، وقال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) (المطففين:15) فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى، وإلا لم يكن بينهما فرق. شرح: هذا ابتداء في مسألة النظر إلى وجه الله، ورؤية الله تعالى، وهي أيضا من المسائل المهمة التي تكلم فيها أهل السنة، وأثبتوها بالأدلة، وخالف فيها المعتزلة خلافاً صريحاً، وخالف فيها الأشاعرة خلافاً معنوياً، وهدى الله أهل السنة لقبولها، ولم يلزمهم محذور من إثباتها، والحمد لله. أولاً: قد اختلفوا: هل يمكن النظر إلى الله تعالى في الدنيا، وهل رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟

والصحيح أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يرى ربه في الدنيا، ولأجل ذلك لم يتمكن موسى من النظر إلى ربه بعد أن سأل النظر، وأخبره الله بعدم التمكن من ذلك، والدليل قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) (الأعراف:143. فهذا دليل على أن البشر لضعف خلقتهم في الدنيا لا يتمكنون من رؤية الله تعالى، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يره رؤية بصرية في الدنيا، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: هل رأيت ربك؟: (نورٌ أنى أراه) يعني كيف أراه ودونه ذلك النور، وكذلك في رواية (رأيت نوراً) وذلك لأن الله تعالى احتجب عن عباده بالنور. وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فالصحيح أنه رآه رؤية قلبية لا رؤية بصرية، والذين أثبتوا الرؤية له استدلوا بقوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى) (النجم:13-14) ، والصحيح أن الضمير يعود إلى جبريل؛ أي ولقد رأى جبريل نزلة أخرى، وكذلك قوله (ولقد رآه بالأفق المبين) (التكوير:23) الضمير أيضاً يعود إلى جبريل عليه السلام، فإنه الرسول المذكور في قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين) (التكوير:19-21) هذه صفات الملك، فالضمير يعود إليه. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها مرتين له ستمائة جناح، قد سد ما بين الأفق، أو قد سد الأفق، وكان ينزل عليه كثيراً، ولكنه يتمثل بصورة دحية الكلبي أو نحوه.

وعلى كل حال؛ فإن الرؤية في الدنيا لا دليل عليها، وقد خالف في ذلك المتصوفة، وادعوا أن الأولياء يرون الله عياناً، وأنه يعرج بأرواحهم، وأن أرواحهم تتمكن من النظر إلى ربها، ولأجل ذلك فضَّلوا أولياءهم وسادتهم على الأنبياء بل وعلى الرسل، وعلى الملائكة، وهذا من شطحاتهم. هذا بالنسبة إلى الرؤية في الدنيا. وأما الرؤية في الآخرة؛ فأثبتها أهل السنة، وأنها رؤية صحيحة، وأن المؤمنين في الجنة يرون الله تعالى، ويزورونه، ويُكلمهم ويُكلمونه، بل ثبت في السنة وفي الأحاديث أن رؤية الله تعالى في الجنة للمؤمنين هي أعظم لذة لهم، وأعظم نعيم، وأعظم سرور يصل إليهم يبهج نفوسهم، وتستنير وتضيء به وجوههم، ويكتسبون أعظم لذة بحيث أنهم لا يلتفتون إلى شيء ما داموا ينظرون إلى ربهم، ويغفلون عن كل نعيم كانوا فيه، فلا ينظرون إلا إلى ربهم حتى يحتجب عنهم، هذا من أعظم لذة لهم، يقول بعض العلماء ولو كان مثالاً دنيوياً: فلو أني استطعتُ غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا وقد تقدمت الآية التي أوردها الموفق رحمه الله، وهي قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم) (المطففين: 14-16) وصفهم بهذه الصفة؛ أنهم محجوبون عن ربهم، والحجب هو الحيلولة بينهم وبين ربهم، فلا ينظرون إليه ولا يرونه، ولا يتمتعون برؤيته، ويا لها من عقوبة تصل إليهم، أنهم محجوبون عن ربهم، وذلك أشد العذاب.

فكل من حُجب عن رؤية ربه فإنه معذب، فحجبه عن ربه عذاب له وأي عذاب، وقد استدل بهذه الآية الشافعي رحمه الله، وهو أشهر من استنبط منها رؤية المؤمنين لربهم وحيث ثبت أن الكفار محجوبون عن ربهم فأنه يدل على أن المؤمنين من أهل الجنة غير محجوبين عن ربهم بل يرونه فلو كان لا يراه أحد لم يكن هناك فرق بين المؤمنينوالكفار، ولكان الجميع كلهم محجوبين عن ربهم، فالحجاب هو أن يكون بينهم وبينه حاجب، وحاجز لا يرونه، فإذا كان هؤلاء يرونه كانوا غير محجوبين، وهؤلاء لا يرونه فهم المحجوبون، وهذا دليل واضح. وأما الآية الأولى فهي أصرح الآيات التي استدل بها أهل السنة، وهي قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة) (القيامة:20-21) يخاطب الكفار: تحبون العاجلة؛ وهي الدنيا، وتذرون الآخرة ولا تتنافسون فيها، ثم ذكر أقسام الناس في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) (القيامة: 22-25) ، الوجوه الأولى وصفها بأنها ناضرة؛ أي ذات نضرة وبهاء وسرور، وجوههم مسفرة مستنيرة؛ لأنهم يرون ربهم، (إلى ربها ناظرة) أي تنظر إلى ربها نظر عيان، ففي هذه الآية نسبة الرؤية إلى الوجوه، وذلك لأن الوجوه هي محل النظر، ولما أن نظرت الوجوه إلى ربها أشرقت وأسفرت. وكثيراً ما يصف الله وجوه أهل الجنة بصفات تظهر عليها، وذلك لأن الوجه هو محل التأثر، وإذا كان مسروراً رأيت وجهه مستنيراً، وإذا كان حزيناً رأيت وجهه مكتئباً، فوصف الله أهل النار بقوله: (وجوه يومئذ خاشعة) (الغاشية:2) يعني ذليلة، ثم قال تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة) (الغاشية:8) ، يعني منعمة، هكذا وصفهم الله بهذه الآية.

وفي آية أخرى قال تعالى: (وجوه يومئذ مسفرة) (عبس:38) أي أضاءت واستنارات، والإسفار هو الضياء، مسفرة يعني عليها آثار هذه الإضاءة، أما الوجوه الأخرى فإنها قال الله تعالى عنها: (عليها غبرة * ترهقها قترة) (عبس: 40-41) . فإذن هذه وجوههم التي وصفها الله أنها ناظرة، والكلمتان في الآيتين لفظهما واحد، ولكن خطهما مختلف (وجوه يومئذ ناضرة) (القيامة:22) مكتوبة بالضاد؛ أي ذات نضرة، مثل قوله تعالى: (ولقاهم نضرة وسروراً) (الإنسان:11) أي ذات نضرة وبهاء وسرور، (إلى ربها ناظرة) (القيامة:23) هذه كتبت بالظاء المشالة؛ من النظر الذي هو المعاينة. قال بعض العلماء: نظروا إلى ربهم فنضرت وجوههم، يعني استنارت وأسفرت وابتهجت بهذا النعيم. فهذا هو دليلهم، أورد المؤلف رحمه الله هذين الدليلين من القرآن وذكر أن الرؤية تكون في الآخرة. وقد ورد أيضاً في الأحاديث ما يدل على أن الجميع يرون ربهم يوم القيامة عندما ينزل لفصل القضاء، ويقول: (من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم) وفي هذا أنهم يرونه جميعاً؛ المنافقون والمؤمنون -كما يشاء. قال تعالى: (يوم يُكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) (القلم:42) قيل: إنهم يسألونه علامة، فيكشف عن ساق، فعند ذلك يعرفون أنه ربهم فيسجدون. فهذا قد استدل به على أنهم يرونه في القيامة، ولكن هي رؤية ابتلاء وامتحان، أما الرؤية التي هي رؤية لذة، وبهجة، ونعيم فإنها في الجنة، وقد ذكر العلماء أن المقربين يرون الله بكرة وعشيا، وأن الأبرار يرونه كل جمعة؛ أي في كل أسبوع. قوله:

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته) . حديث صحيح متفق عليه. وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير. شرح: ثم ذكر من أدلة الرؤية حديث جرير بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون -أو لا تضاهون- في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (طه:130) فأفعلوا ثم قرأ أو (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) . فحديث جرير هذا دليل على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، ويريد بالصلاتين صلاتي العصر والفجر، أي حافظوا على هاتين الصلاتين لأن المقربين يرون الله بكرة وعشياً، وقد فُسر بذلك أيضاً قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) (مريك:62) . وبكل حال فرؤية المؤمنين لربهم من أجل ما أنعم وتفضل به عليهم، هذا هو قول أهل السنة. وقد استوفى الأئمة الكلام على الرؤية كما في كتاب ابن القيم (حادي الأرواح) الذي كتبه عن أهل الجنة وصفة نعيم الجنة، وفي آخر أبوابه؛ باب في رؤية المؤمنين لربهم، ذكر فيه سبعة أدلة من القرآن وهي: الدليل الأول: وهو سؤال موسى النظر في قوله تعالى: (رب أرني أنظر إليك) (الأعراف:143) فهو أعلم بما يجوز على ربه من علماء المعتزلة. الدليل الثاني: قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) (يونس:26) ، الزيادة ورد في الحديث أنها (النظر إلى وجه الله) ، ولهذا قال تعالى: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) (يونس:26) ، الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله، فإذا نظروا إلى وجهه فلا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة.

الدليل الثالث: قوله تعالى: (ولدينا مزيد) (ق:35) ، فُسر المزيد بأنه النظر إلى وجه الله تعالى. الدليل الرابع: آيات اللقاء، وهي كثيرة كقوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه) (الكهف:110) ، اللقاء لا تعرفه العرب إلا أنه المقابلة والنظر، فهو دليل واضح على إثبات الرؤية. الدليل الخامس: قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (الأنعام:103) ، فهو دليل على إثبات الرؤية -كما سيأتي- مع أن المعتزلة يجعلونه دليلاً على نفي الرؤية. الدليل السادس والسابع: الآيتان اللتان ذكرهما ابن قدامة رحمه الله، فهذه سبعة أدلة. وقد أوضح دلالتها، ثم شرع في الأدلة من السنة، وذكر نحو ستين حديثاً أو أكثر ذكرها بأسانيدها وبطرقها، فيها الأحاديث الصحيحة وفيها الأحاديث الحسنة وفيها الأحاديث الضعيفة؛ أي ضعفاً شديداً، ولكنه أوردها للتقوية، وتبعه على ذلك حافظ الحكمي في كتابه المشهور (معارج القبول في شرح سلم الوصول) وهذا الشرح من أنفس الشروح، لما أتى إلى ذكر الجنة، وذكر الرؤية سرد أيضاً الأحاديث، وأسقط منها ما هو شديد الضعف، وفيما ذكره خير كثير، فهذا وجه إثبات هذه الصفة التي هي صفة رؤية المؤمنين لربهم. وقد جعلها ابن القيم في النونية من أدلة إثبات العلو، قال: من كان يقر بالرؤية لزمه أن يقر بالعلو، فإن المؤمنين عندما يرون ربهم يرونه من فوقهم كما في قوله تعال: (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل:50) ، ففي الأحاديث أنه يتجلى لهم من فوقهم فيراهم ويرونه، فهو دليل واضح على أنها رؤية حقيقية ينظرون إليه كما يشاء.

فعرفنا بذلك مذهب أهل السنة أنه لا شك أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم، وأنهم يرونه رؤية حقيقة، ورؤية مقابلة كما يشاء، وأن الأدلة واضحة، ومن أصحها حديث جرير لقوله صلى الله عليه وسلم: (كما ترون هذا القمر) ، والتشبيه هنا للرؤية، شبه الرؤية بالرؤية، وليس المراد تشبيه الرب تعالى بالقمر، وإنما تشبيه رؤيتهم -لأنها رؤية حقيقة- كرؤيتهم القمر ليلة البدر، ولهذا قال: (لا تضامون في رؤيته) أي لا يلحقكم في رؤيته ضيم؛ وهو الضرر. ثم مع هذه الأدلة التي ذكرنا قد خالف في ذلك المعتزلة فأنكروها صراحة، وخالفوا فيها خلاف عناد؛ لأنها عندهم تستلزم إثبات الجهة أو تستلزم المقابلة، فلم يكن بدُ من أن يردوا الأدلة رداً شنيعاً، ويخالفوها مخالفة واضحة، ولا يزالون على ذلك. طبع قبل عشر سنوات أو خمسة عشر سنة كتاب اسمه (متشابه القرآن) في مجلدين للقاضي عبد الجبار، وهو من رءوس المعتزلة، وحققه رجل يقال له: (عدنان محمد زرزور) ، وذهب إلى ما ذهب إليه القاضي، فإذا أتى إلى آيات العلو، وآيات الاستواء، وآيات الرؤية حرفها، وجعلها من المتشابه وحملها محامل بعيدة، وإذا أتى إلى الآيات التي فيها شبْهُ استدلال لهم يقول: لنا قوله تعالى مثل هذه الآية: (لا تدركه الأبصار) (الأنعام:103) . وورد كتاب -لأحد الإباضية يقال له: أحمد الخليلي، في عُمان- اسمه (الحق الدامغ) انتشر ووزع بكميات لأنه في زعمه وصل إلى الحقيقة، وسقط على المراد، تكلم فيه على مذهبهم في العقيدة في ثلاث مسائل؛ في مسألة الرؤية؛ فينكرها إنكاراً صريحاً، وفي مسألة خلق القرآن؛ فيدعي أنه مخلوق، وفي مسألة إثبات خلق الله لأفعال العباد؛ فينكر قدرة الله على أفعال العباد، ويبالغ في هذه المسائل الثلاث.

والذي يهمنا تأويلهم لآيات الرؤية، وكثيراً ما يورد قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) (الأنعام:103) ، ويقال: (الإدراك: اللحاق، لا تلحقه أي لا تراه، فهي دليل على أنها لا تراه، والأبصار معلوم أنها هي الأعين، فإذا كانت لا تدركه أي لا تلحقه؛ فكيف يقال: إنه يرى؟) ويكررون ذلك دائماً. وإذا نظرنا إلى تفسير أهل السنة رأيناهم يفرقون بين الإدراك وبين الرؤية، وذلك لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من كل جهاته، وأما الرؤية فإنها رؤيته مع المقابلة حقيقة، والله تعالى ما نفى الرؤية إنما نفى الإدراك، والإدراك شيء زائد على الرؤية. روي أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال للسائل: ألست ترى القمر؟ قال: بلى، قال: أكله؟ قال: لا. قال: فذلك الإدراك. أي لا ترى القمر كله، إنما ترى ما يقابلك، وأيضاً إنما تراه من بعيد، ولا تتحقق ماهيته، فإذا كان كذلك هل أنت تدري مما هذا القمر؟ ومن أي شيء صنعته؟ ومن أي شيء تركيبه وهل ترابي؟، فإذا كنت لا تراه فإنك لا تدرك ذلك، فنحن نرى القمر ويصل إلينا ضوؤه، ولكن لا ندركه كله، ففرق بين الرؤية والإدراك. يدل على ذلك قول الله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) (طه:77) لا تخاف دركاً، فالدرك هو الإحاطة أي، لا تخاف ضرراً من الكفار ونحوهم. ولما أسرى ببني إسرائيل وخرج بهم من مصر، وانفصلوا، تبعهم فرعون بجنوده، قال تعالى: (فأتبعوهم مشرقين) (الشعراء:60) (فلما تراءى الجمعان) (الشعراء:61) هؤلاء يرون هؤلاء (قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا) (الشعراء:61-62) ، ما المراد بمدركون؟ هل المراد بالإدراك النظر؟ فالنظر حاصل لقوله: (تراءى الجمعان:61) ، إذن المراد بالإدراك الإحاطة يعني: إنهم سيحيطون بنا، ويمسكوننا، ولا يتركوننا، ولا ننجوا منهم، فقال: (كلا إن معي ربي سيهدين) (الشعراء:62) .

فعرف أن هناك فرقاً بين الرؤية وبين الإدراك، فبطل استدلالهم بهذه الآية على نفي الرؤية، واستدل بها أهل السنة على إثبات الرؤية. يقول ابن القيم: إنها جاءت تمدحاً، فالله تعالى يمدح بها نفسه، ومعلوم أن الله إنما يمدح نفسه بالأمور الثبوتية، وهي الأمور التي فيها إثبات شيء يمدح به، وأما العدم فإنه لا يمدح به، فالنفي المحض لا مدح فيه، فإذا قلنا مثلاً: إن العدم لا يرى. هل هذا مدح له؟ ليس فيه مدح؛ لأن المعدوم ليس بشيء. فإذا كان المعدوم لا يرى، فإن نفي الرؤية ليس فيه مدح، فعرف بذلك أن الآية وردت للتمدح، أثبت الله أن الأبصار لا تحيط به، يعني: متى رأته الأبصار لا تحيط به، أي لا تدرك ماهيته، ولا تدرك كنهه، ولا تدرك كيفية ذاته، وذلك لعظمته التي لا يحيط بها علماً أحدٌ من الخلق (ولا يحيطون به علماً) (طه:110) . إذا فصارت الآية دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنهم قوم يجهلون، فلو تأملوا في سياق الآية قول الله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (الأنعام:102-103) كل هذا تمدح، فكيف يتمدح بشيء لا فائدة فيه، فنفي الرؤية ليس بمدح؛ لأنه ينطبق على المعدوم، فدل على أنها للتمدح، وأنها تدل على أن الأبصار تنظر إليه، ولكن تعجز عن الإحاطة به لعظمته ولكبريائه ولجلاله، فصارت الآية تدل على إثبات الرؤية لا على نفيها.

وأما الآية الثانية: وهي قصة موسى -عليه السلام-، قال تعالى: (قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) (الأعراف:143) ، أولاً: موسى عليه السلام نبي الله، كلمه الله، وحمله رسالته، واصطفاه، قال تعالى: (واصطنعتك لنفسي) (طه:41) ، وقال تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الأعراف:144) ، فهل موسى عليه السلام -وهو نبي الله- يجهل ما يجب على الله، وما يجوز على الله؟ هل يكون المعتزلة أعلم من موسى بربه؟ حاشا وكلا، لا يمكن لموسى أن يجهل وهم يعلمون، إن موسى صلى الله عليه وسلم الذي هو من أولي العزم، ومن أشرف الأنبياء ومن أفضلهم لا يجهل هذا الحكم، فهل يأتي المعتزلة ونحوهم ويعلمون مالا يعلمه موسى؟ هذا من أمحل المحال. ثانياً: قول موسى (رب أرني أنظر إليك) (الأعراف:143) هذا في الدنيا، يعني أراد أن يتمكن من النظر إلى ربه رجاء أن يزيد بذلك يقينه، أو أن يتنعم ويتلذذ بهذا النظر، قال الله له: (لن تراني) (الأعراف:143) ، وليس في هذا عتاب. فالله تعالى قد عاتب نوحاً عليه السلام لما قال: (رب إن ابني من أهلي) (هود:45) ، قال الله سبحانه وتعالى: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (هود:46) أنكر على نوح لما سأل: ربي نج ابني الذي غرق في البحر، غرق في الطوفان، ربي إنك قد وعدتني أن تنجيني وأهلي، وإن ابني من أهلي، والله تعالى يقول: (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) (المؤمنون:27) . فأنكر عليه ذلك ولم ينكر على موسى لما قال: (رب أرني أنظر إليك) (الأعراف:143) بل قال تعالى: (لن تراني) (الأعراف:143) يعني لا تراني في هذه الدنيا، لأن بنية الإنسان في الدنيا ضعيفة لا تتمكن من التمثل أمام عظمة الله تعالى، فخلقنا في هذه الدنيا لا يمكن أن تثبت لجلال الله تعالى.

وقوله تعالى: (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) (الأعراف:143) علق الله تعالى رؤيته على ثبوت الجبل، فيمكن أن يثبت الجبل مكانه، والله تعالى يقول؛ إذا ثبت الجبل فإنك ستراني، فإذا كان الثبوت ممكناً فالرؤية ممكنة، والله تعالى يقدر أن يثبت الجبل لبروزه سبحانه ولتجليه، وقد علّق عليه رؤية موسى، فدل على إمكانها. كما أن إمكان الثبوت متحقق، فقوله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) (الأعراف:143) تجلى الله تعالى كما يشاء للجبل، فإذا تجلى للجبل أفليس يمكن أن يتجلى لعباده يوم القيامة. الجبل جماد تجلى الله له، ومع ذلك فإن الجبل لما تجلى له آنذاك ذهب حتى قيل: إنه انخسف في الأرض، وذلك لهيبة الله ولجلاله، لما أنه تجلى للجبل جعله دكاء، فالآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها، وإلا لم يكن موسى عليه السلام سأل الرؤية، وهو من أعلم الخلق بربهم. ثم إن الخليلي -الذي ذكرناه- في كتابه (الحق الدامغ) تسلط على هذه الآيات التي استدل بها أهل السنة، وحرفها تحريفاً بعيداً حتى إنه هو وغيره في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) (القيامة:22-23) قالوا: إن الله لم يذكر العيون إنما ذكر الوجوه، وقال بعضهم: النظر ليس هو المعاينة، وإنما هو انتظار الثواب؛ ناظرة للثواب، وتمحل بعضهم، وحرف كلمة (إلى) وقال: الإلي واحد الآلاء يعني النعم، (إلى) أي نعمة ربها ناظرة!! فمن أين لهم هذا الاستنباط الذي ما تفطن له أحد نم العلماء ولا من السلف؟ إن قولهم: (إلى) أي نعمة ربها ناظرة، تمحل وتكلف وصرف للقرآن عن مدلوله. هذا قوله المعتزلة.

أما الأشاعرة فيتظاهرون بأنهم من أهل السنة، وبأنهم من أتباع الأئمة الأربعة، فمنهم شافعية، ومالكية، وحنفية، وحنابلة، ولا يقدرون أن يصرحوا بالإنكار؛ لأن الشافعية قد اشتهر عن إمامهم أنه أثبت الرؤية وصرح بها، فلا يقدرون على إنكارها، فيثبتون الرؤية، ولكن ليس الرؤية التي هي رؤية الأبصار، إنما يفسرونها بالتجليات التي تتجلى للقلوب، وبالمكاشفات التي تنكشف في الجنة لهم، فيظهر لهم منها يقين وعلم بما كانوا جاهلين، به، وهذا بلا شك قول باطل وإنكار للحقائق، فتجدهم يثبتون الرؤية، ويقررونها في تفاسيرهم على هذا التأويل الباطل. حتى أكابر الأشاعرة كالرازي، وأبي السعود، والبيضاوي، ونحوهم، عندما تكلموا على هذه الآية: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) (القيامة:23) ، قالوا: يرى لا في جهة؛ لأننا ننفي الجهة، يرى بلا مقابلة، أو الرؤية بالتجليات أو المكاشفات. فأثبتوا الاسم ولكن لم يثبتوا الحقيقة التي هي رؤية أهل الجنة لربهم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته) ، فإن ظاهر الأحاديث أنها رؤية بالأبصار، ونظر إلى وجه ربهم تعالى كما يشاء، فلا يُلتفت إلى إنكار المنكرين مع ورود مثل هذه الأدلة التي لا يجوز ردها ولا التكلف في تأويلها. مسألة: الإيمان بالقدر وقوله: ومن صفات الله تعالى أنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره. ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يُتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يُطيعوه جميعاً لأطاعوه. خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرز اقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويُضل من يشاء بحكمته. شرح:

(أراد ما العالم فاعلوه) يعني جميع ما في الكون وما يحصل من الكائنات، فإنه مراد لله تعالى، ولكن هذه الإرادة تسمى إرادة كونية قدرية؛ لأنها يدخل فيها جميع الكائنات -فهي مرادة لله، فجميع الأفعال التي تحصل والتي تحدث كلها مرادة لله؛ الطاعات، والمعاصي، والمصائب، والحوادث، والأرزاق، والآجال كلها مرادة لله تعالى، داخلة في إرادته، ولا تخرج عن كونها مرادة لله، فطاعات العباد مرادة، ومعاصيهم مرادة، ولكن إرادة المعاصي الموجودة إرادة كونية قدرية. وبهذا نعرف أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية. فالإرادة الكونية يلزم وقوع مرادها، فكل ما أراده الله كوناً وقدراً فإنه لابد حاصل وواقع، فالمعاصي الموجودة قد أرادها الله كوناً وقدراً، والمصائب الحاصلة قد أرادها الله كوناً وقدراً، والأرزاق الموجودة -ولو كانت حراماً- قد أرادها الله كوناً وقدراً، وكذلك الأولاد ذكوراً وإناثاً، والأرزاق والمكاسب والحرف، والصناعات، والدراسات والعلوم، وكل ما يجري في هذا الكون كله قد أراده الله كوناً وقدراً؛ لأنه فعال لما يريد، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد. ولو عصمهم لما عصوه ولما خالفوه، فهو الذي يهدي من يشاء فضلاً منه ورحمة، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، فمن علم الله فيه خيراً وعلم من قلبه إقبالاً وتقبلاً للخير هداه الله وأنار قلبه. ومن علم الله أنه شريرٌ وعلم أنه من أهل الشر، وأنه لا خير فيه حَرمَه الهداية، وحال بينه وبين الإيمان وقسّى قلبه وصده عن الخير (ولا يظلم ربك أحداً) (الكهف:49) .

فمن هداه الله فهو فضل منه، ومن أضله فهو عدل منه، ولا أحد يقدر أن يغير ما وقع؛ لقوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل) (الزمر:36-37) ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خطبة الحاجة: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) رواه مسلم فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ولكنه سبحانه خلق الخلق، وقسمهم إلى أهل طاعة، وأهل معصية، وعلم أهل الخير من أهل الشر، وعلم من يكون قابلاً للخير أهلاً له، ومن يكون قابلاً للشر أهلاً له، فجعل هؤلاء أشقياء وهؤلاء سعداء، ولله الحجة البالغة يقول الله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) (الأنعام:149) ، (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) (الشعراء:4) ؛ يعني لو شاء الله لأنزل عليهم آية فاهتدوا بها كلهم، ولكن علم الله من هو أهل للهدي ومن هو أهل للشقاوة يقول الله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام * ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً) (الأنعام:125) . فإذا هدى الله تعالى هؤلاء، فلابد أن نعتقد أن ذلك فضل منه، وإذا أضل هؤلاء فذلك عدل منه، وأنه لو شاء لهدى الناس كلهم، فلا محيد لأحد عن القضاء الذي قضاه، ولا مخرج له عما حتمه عليه. وفي حديث القدر يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) . أي أن ما تكره من الأمور المقدرة فإنها عن حكمة حصلت، وأن الذي قدرها حكيم يفعل ما يشاء قضاءً وقدراً، وحكمة وشرعاً، لا محيد لأحد عن القضاء المحتوم الذي قدره.

وهذا كله لا ينافي العمل ولا ينافي فعل الأسباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر صحابته بأنه: ما منكم من أحد إلا قد كُتب مقعده من الجنة أو كُتب من النار) ، قال رجل: يا رسول الله؛ أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟، فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر) فأمر بأن يعمل، وأخبر بأن الإنسان يصير إلى ما قدره الله، فلابد وأن يسير إليه فمن كتبه الله سعيداً فلابد أن يعمل بعمل أهل السعادة ولو في آخر لحظة في حياته، وكذلك من كتبه شقياً. ففي حديث القدر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) . فالأعمال بالخواتيم، والله تعالى يوفق كل إنسان بأن يختم له من العمل بما هو أهله وما كتبه له؛ ولهذا كان كثير من السلف ومن العلماء يكثرون من الدعاء بحسن الخاتمة؛ لأن الأعمال بخواتيمها. وقوله: قال الله تعالى: (لا يسأل عمال يفعل وهم يسألون) (الأنبياء:23) ، وقال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (القمر:49) ، وقال تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) (الفرقان:2) ، وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) (الحديد:22) ، وقال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً) (الأنعام:125) . شرح: بعض هذه الآيات في القدر الذي هو العلم السابق، وبعضها في القدر الذي هو قدرة الله على كل شيء.

فقوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) هذه في العلم السابق، ومعناه أن كل شيء له زمان، وله وقت لا يتجاوزه ولا يتعداه ولا يتغير عن ما هو عليه، فإذا قدر الله تعالى أن هذا الإنسان يولد له كذا فلابد أن يتحقق ذلك الذي قدره الله وأراده؛ ولو حصل ما حصل من العوائق، وكذلك إذا قدر الله أن هذا لا يولد له فإنه لا يولد له ولو فعل ما فعل، وإذا قدر الله أن هذا لا يولد له حتى يفعل السبب الفلاني فإنه يتوقف أن يولد له على فعله ذلك السبب، وقد علم الله أنه يفعله في آخر الأمر أو نحو ذلك. وهكذا إذا قدر الله مثلاً أن هذه الأرض تنبت كذا وكذا شجرة فلابد أن تنبته في الزمن الذي حدد، وأن هذه الشجرة أو هذه النبتة تنبت في اليوم الفلاني وتفنى باليوم الفلاني، وتثمر كذا وكذا، وعلم عدد أوراقها كما في قوله تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) (الأنعام:59) ، فعلم ذلك وحدوده داخل في هذه الآية: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (القمر:49) ؛ أي بمقدار وزمان، محدد أوله وآخره. كذلك قوله تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) (الفرقان:2) ، أي قدر زمان الذي خلقه، خلق الذراري وقدر أعمالهم وآجالهم، فإذا حملت المرأة أرسل الله الملك فيكتب أجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ورزقه حلال أو حرام، وهو في بطن أمه، ولكن هذه كتابة خاصة. وكذلك أيضاً جميع ما يحدث داخلٌ في هذه الآية (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) أي حدده وحدد قدرته، وقوته ومبدأه ومنتهاه وما يصير إليه. وأما قوله تعالى: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) (الأنبياء:23) ، فهذا القضاء الذي هو العلم السابق، وكذلك القدرة على الأفعال؛ لأنه يفعل الأشياء ولا يسأل عن الحكمة فيها.

فمن عقيدة أهل السنة أنهم يسلمون لأمر الله ولو لم يظهر لهم فيه حكمة، فلا يجوز أن تقول: ما فائدة خلق هذه الأشياء؟ أو هذه الأشياء فيها ضرر؛ ليتها لم تخلق، كل هذا لا يجوز؛ لأن في هذا اعتراض على تصرف الخالق، فهو الذي خلق الأقدار حتى إنه أراد التعرف إلى خلقه بإيجاد الضدين؛ فخلق الخير والشر، وخلق الحياة والموت، وخلق المسلم والكافر، وكذلك بقية الأضداد، فلا يجوز أن تقول: لماذا خلق الله البرد والحر؟ لماذا خلق الله السموم القاتلة؟ لماذا خلق الله السباع؟ لماذا خلق الله ذوات السموم كالحيات والعقارب؟، فخلق كل الأشياء لابد أن تكون فيها حكمة ولو لم تكن معلومة لنا، فلا يجوز أن يُعترض على الله تعالى في خلقه فإنه يفعل ما يشاء قال تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) (الأنبياء:23) ، يدخل في هذه الآية جميع ما أوجده، سواءً من المخلوقات ذوات الأرواح أو من النباتات أو من الأفعال، ولا يقال: لماذا أمر الله بكذا؟، ولماذا حرم كذا؟ ولماذا أوجب كذا؟ كل هذا لا يجوز: (لا يسال عما يفعل وهم يسألون) . أما قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً) (الأنعام:125) فهذه الآية في الإرادة الكونية فإن الإرادة كما ذكرنا نوعان: إرادة كونية وإرادة شرعية، فالمعنى أن من أراد الله كوناً وقدراً أن يهديه فإنه يشرح صدره للإسلام، ويكون قلبه منبسطاً إليه، راغباً فيه، محباً له، مقبلاً عليه، متقبلاً له، يرغب فيه ويحبه ويألفه، ويستحسن أفعاله وشرائعه، ويرى كل ما فيه حقاً ومطابقاً وصدقاً ليس فيه شيء لا فائدة فيه ولا أهمية له، فيقبل على الإسلام ويتقبله، فهذا الذي أراد الله به خيراً.

قال الله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) (الزمر:22) ، أخبر بذلك عن نبيه (ألم نشرح لك صدرك) (الشرح:1) ، والشرح هنا ليس هو الشق، ولكنه شرح الانبساط، بمعنى أن قلبه يصير مقبلا على الإسلام، ويصير صدره متسعا لتعاليم الإسلام، كأن صدره واسعٌ غاية السعة لأجل ما منّ الله عليه بهذه الهداية. ثم قال تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) (الأنعام:125) ، أي من أراد الله إضلاله وحال بينه وبين الهداية فإنه يجعل صدره ضيقاً، وليس المراد الضيق الحسي، فإنك إذا رأيت اثنين أحدهما أراد الله أن يشرح صدره، والآخر لم يرد به خيراً بل أراد الله أن يضله، لا تفرق بينهما ظاهراً، فضيق الصدر هنا ضيق معنوي، بمعنى أنه لا يتسع صدره للتعاليم الدينية ولا يحبها ولا يتقبلها ولا يركن إليها؛ إذا أخبر بها ضاق بها ذرعاً وأبغضها ومقتها واحتقرها، وابتعد عنها واستثقلها كأنها جبال تحمل عليه؛ هذا من قضاء الله الذي قدر عليه، كذا جعل صدره ضيقاً حرجاً، والحرج هو الشدة والألم. (كأنما يصعد في السماء) كأن قلبه يصعد أي يطار به، ويحال بينه وبين أسباب الفرح، لا شك أن هذا أمر الله تعالى؛ فهو الذي هدى هذا وأضل هذا. وقد ذكرنا أن هدايته لمن يهديه فضل منه، وإضلاله لمن يضله عدل منه: ما للعباد عليه حقٌ واجبُ كلا ولا سعيٌ لديه ضائع إن عذبوا فبعدله، أو نُعِّموا فبفضله، وهو الكريم الواسع

هذه الآيات ونحوها فيما يتعلق بالقضاء والقدر، وقد ذكرنا أن الإرادة نوعان: إرادة كونية، وإرادة دينية شرعية، فالإرادة الكونية يلزم وقوع مرادها، والإرادة الشرعية لا يلزم وقوع مرادها؛ فوجود هذه المخلوقات مراد إرادة كونية، نقول مثلاً: إن الله أراد كوناً وقدراً وجود هذا الاجتماع وخلق هؤلاء الأشخاص ونحو ذلك، كل هذا مراد كوناً وقدراً. كذلك أراد كونا وقدراً وجود المبتدعة والكفرة والفجرة والعصاة ونحوهم -ولو شاء ما وجدوا- فهذه إرادة كونية قدرية أزلية سابقة معلومة لله قبل وجودها، ولابد من تحقيق مراد الله الذي أراده في الكون والقدر. أما الإرادة الشرعية فإنه لا يلزم وجود مرادها، ولكن مرادها محبوب لله تعالى، فالله تعالى أراد من العباد كلهم أن يؤمنوا به ديناً وشرعاً، وأن يعملوا الصالحات وأن يصدقوا الرسل، وأراد منهم أن يتركوا المحرمات ولكن هل وجه هذا المراد كله أو وجد بعضه أراد منهم أن يؤمنوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فالذين آمنوا اجتمعت فيهم الإرادتان: إيمانهم الذي حصل مراد كوناً وقدراً لأنه مكتوب، ومراد شرعاً وديناً لأنه محبوب. كذلك أعمالهم الصالحة التي عملوها كالصلاة والصدقة والجهاد والأذكار والتلاوة مرادة دينا وشرعاً، كما أنها مرادة كوناً وقدراً؛ لأن الله قدر أن هؤلاء يؤمنون ويعملون الصالحات في الأزل، ويكثرون من العبادات، ويتعلمون العلوم النافعة، ويعتقدون العقائد الصالحة؛ أراد ذلك كوناً وقدراً فوجد، وأراده دينا وشرعاً فوجد فيهم.

والإرادة الشرعية مذكورة في قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة:185) ، وفي قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) (النساء:26) ، (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) (النساء:27) ، (يريد الله أن يخفف عنكم) (النساء:28) . كل هذه إرادة شرعية، يعني يريد شرعاً وديناً أن يخفف عنكم، يريد شرعاً وديناً أن يتوب عليكم، فمن تاب الله عليه ووفقه كان هذا مراداً شرعاً وديناً، وكوناً وقدراً، ومن لم يتب لم يوافق الإرادة الشرعية حيث إنه أريد منه التوبة فلم يتب، فتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمنين لأنهم حققوا الإرادة الشرعية، وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافرين لأن الله أراد منهم شرعاً وديناً أن يؤمنوا فلم يؤمنوا، وأراد منهم كوناً وقدراً أن يكفروا فكفروا. وهذا معتقد أهل السنة أن الله تعالى أراد جميع الكائنات، فلا تخرج عن إرادته ولا عن تكوينه، وأن جميع الكائنات حاصلة بقضائه وقدره، وأنه عالم بها. وأما قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) (الحديد:22) ، هذه الآية تتعلق بنوع من القدر؛ هذا النوع هو علم الله السابق؛ أنه بكل شيء عليم، وأنه عالم بالأشياء قبل وجودها، وبهذا نعرف أن القدر أربع مراتب: المرتبة الأولى: العلم، وهو العلم السابق قبل وجود الموجودات، علمها قبل وجودها، فكل شيء يوجد فإنه معلوم لله. المرتبة الثانية: الكتابة؛ كتبها في اللوح المحفوظ، فكل شيء يحدث فإنه مكتوب. المرتبة الثالثة: الإرادة؛ فإن الله أرادها وشاءها ولابد من وقوع ما شاءه الله. المرتبة الرابعة: أن الله أوجدها وخلقها وحقق وجودها.

إذا آمن العبد بذلك كله صدق عليه أنه آمن بالقدر، والمرتبة الأولى وهي العلم؛ ذكروا أنها أربعة أقسام: الأول: التقدير العام؛ الذي هو العلم بالموجودات كلها من أول ما خلقت إلى ما لا نهاية له. التقدير الثاني: التقدير العمري؛ وهو ما يكتب للإنسان وهو في بطن أمه. التقدير الثالث: التقدير السنوي؛ وهو أنه في ليلة القدر يقدر الله ما يكون في تلك السنة إلى مثلها مما يكون على وجه الأرض، يكتب في تلك الليلة ما سوف يوجد، وما سوف يحصل؛ يقول الله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم * أمراً من عندنا) (الدخان:4-5) ، يعني في ليلة القدر، وذلك بعد قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم) (الدخان:3-4) . أما التقدير الرابع: فهو التقدير اليومي؛ وهو وقوع ما يحصل في كل يوم، وهو المذكور في قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) (الرحمن:29) . وقوله: وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحُلوه ومره) . ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت) . شرح:

هذه أدلة على الإيمان بالقدر، فحديث ابن عمر في صحيح مسلم هو أول حديث في كتاب الإيمان، وهو حديث عمر المشهور، وأوله عن يحي بن يعمر قال: (كان أول من قال بالقدر في العراق معبد الجهني، فانطلقت أنا وحُميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنفُ، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي نفسي بيده؛ لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ... ) . ثم أنشأ يحدث بهذا الحديث، حديث عمر المشهور إلى قوله: قال: أخبرني عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت ... الحديث) . فهذا دليل على نوع من أنواع القدر، وهو العلم السابق الذي ذكرنا أنه العلم الذي علمه الله قبل وجود المخلوقات، وهو الذين أنكره معبد الجهني وادعى أن الأمر (أُنف) يعني مستأنف، بمعنى أن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث؛ لا يعلم ما سوف يولد لهذا، ولا من سوف يسكن هذه البلدة، ولا متى تعمر هذه البقعة، ولا متى تنبت هذه الشجرة، ولا متى تثمر حتى تخرج ثمارها، وهذا بلا شك تنقص لعلم الله الذي وصف به نفسه بأنه بكل شيء عليم.

ولكن الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالقدر خيره وشره) يدخل فيه أيضاً القدر الذي هو الحوادث، وهو أن تؤمن بأنها مقدرة وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وورد من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام وجفت الصحف. أما دلالة حديث القنوت الذي أوله: (اللهم أهدني فيمن هديت) إلى قوله: (وقني برحمتك شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك) فقد دل على أن الله يقيه من الشر، والدعاء ليس يغير القدر، ولكن الدعاء من القدر، والدعاء نفسه مقدر، وقد جعله الله سبباً لوقوع هذا القدر، فدعاؤنا بقولنا: (وقني شر ما قضيت) أي شر ما تقدره؛ أي ما قد كتب، ومما قدره الله تعالى وكتبه أن العبد سيدعو بهذا الدعاء ويكون سبباً في كشف الشر عنه. فدل على أن المكتوب لابد من وقوعه، ولابد من حصوله، فما قدر الله فلن يخطئ العبد، لا راد لقضاء الله، ولا معقب لحكمه. مسألة: جمع أهل السنة بين الشرع والقدر وقوله: ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثه الرسل. قال الله تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجةُ بعد الرسل) (النساء:165) ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (البقرة:289) .

وقال الله تعالى: (فاتقوا الله ما استقطعتم) (التغابن:16) ، وقال تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم) (غافر:17) . فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يُجزى على حسنه بالثواب وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره. شرح: مسألة القدر انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: قسم أنكروا قدرة الله، وقسم احتجوا بالقدر، وقسم توسطوا، ولم يجعلوا القدر حجة لهم على المعاصي، ولكنهم يحتجون به على المصائب بعد حدوثها. القسم الأول: الذين أنكروا قدرة الله هم المعتزلة، وأصول المعتزلة خمسة، ولهم كتاب مطبوع اسمه (الأصول الخمسة) للقاضي عبد الجبار، وأصولهم الخمسة أسماؤها حسنة، ولكن يدخل تحت تلك الأسماء بدع: الأصل الأول: التوحيد، ويريدون به نفي الصفات. والأصل الثاني: العدل، ويريدون به نفي قدرة الله على العباد كما سيأتي. والأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين، ويريدون به إخراج العاصي من الإيمان وعدم إدخاله في الكفر. والأصل الرابع: إنفاذ الوعيد، ويريدون به تخليد العصاة في النار. والأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على الأئمة العصاة في زعمهم. فالذي يهمنا هو الأصل الثاني، وهو العدل، فالاسم حسن، قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل) (النحل:90) ، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (النساء:58) ، ومعروف أن العدل هو التسوية بين الخصمين، والحكم بينهما بحكم وسط لا ظلم فيه ولا جور، ولا ميل مع أحدهما على الآخر كما في قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة:8) .

ولكن يريدون بالعدل أن الله تعالى لا يقدِّر المعصية على العاصي، ثم يعذبه عليها فإن ذلك يكون ظلماً، ويقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعله، وهو الذي يستقل بأفعاله، ولا قدرة لله على فعله، ولا يقدر على أن يهدي أو يضل، ولا يُقبل بقلب هذا، ولا يصد قلب هذا، فالله -عندهم- عاجز عن هذا -تعالى الله عما يقولون- بل العباد أنفسهم هم الذين يستقلون بأفعالهم. فجعلوا العبد خالقاً مع الله، ولهذا يسمون مجوس هذه الأمة؛ لأنهم جعلوا مع الله من يخلق؛ لأن المجوس جعلوا الكون صادراً عن خالقين: النور والظلمة، وأما المعتزلة فجعلوا العباد كلهم يخلقون؛ الطائع يخلق طاعته، والعاصي يخلق معصيته. وقالوا: إن الله ليس له قدرة عليه بل العاصي يعصي الله، ولو شاء الله أن يرده ما قدر على أن يرده، إذا أراد العبد أن يفعل معصية، وأراد الله أن لا يفعلها غلبت قدرة العبد على قدرة الله، وإذا أراد الله أن تُفعل طاعة من العبد، والعبد أراد أن يفعلها غلبت قدرة العبد على قدرة الله، فهذا في زعمهم سموه عدلاً، حتى لا يعذب الخلق على الأمر الذي خلقه فيهم، هذا قول القدرية وهم المعتزلة. القسم الثاني: يسمون الجبرية وهم طائفة من الأشاعرة غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته وإرادته، وقالوا: ليس للعبد أية اختيار، بل العبد مجبور على فعله مقسور عليه، ليس لديه أي نظر ولا همة ولا إرادة، ويتمثل بعضهم بقوله: ألقاه في أليمّ مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء يقولون: إن الله هو الذي أوقعه في المعصية وخلقها فيه، وقدرها عليه، وألزمه بها، ومع ذلك يقول له: لا تعص، لا تقرب المعصية، لا تفعلها، فهو كمن كُتفت يداه، وألقي في البحر، وقيل له: لا تبل ثيابك بالماء، هذا غير ممكن.

وذكروا أن يهودياً لعله قدري أو من هؤلاء الجبرية جاء إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، ورفع إليه أبياتاً يقول في أولها: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلّوه بأوضح حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه مني فما وجه حيلتي دعاني وسدّ الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتي فيقول: هو بمنزلة من دعاني وسد الباب دوني ولا مني على ذلك. فأجاب شيخ الإسلام نظماً وارتجالاً وجعل يكتب وهو جالس، ويعتقدون أنه يكتب نثراً وإذا هو يكتب نظماً في المنظومة التائية الموجودة في المجلد الثامن من مجموع الفتاوى والتي أولها: سؤالك يا هذا سؤال معاندٍ مخاصم رب العرش باري البرية ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طُراً معشر القدرية سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به في الخليقة وقد زادت المنظومة على مائة وثلاثين بيتاً، أو نحوها، وبين له: إنك مخصوم، وإنك تقر على نفسك بأنك مخصوم، وإن الذين يحتجون بالقدر متناقضون، فهم يقولون هذه المقالات حتى يحتجوا على فعل المعاصي بوجودها، وأنشد ابن القيم في بعض كتبه قول بعضهم: وضعوا اللحم للبزا ة على ذروتي عدن ثم لاموا البزاة إذ أطلقوا لهنّ الرسن لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن يقول: إنهم يحتجون بالقدر كما يحتج الزاني مثلاً بأنهم دفعوه إلى الزنا، حيث إن النساء تكشفت أمامه فلم يملك نفسه أن اندفع؛ يقول: "لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن) هكذا يحتجون، ولكن لا حجة لهم في ذلك لأنهم متناقضون.

ذكروا أن سارقاً جيء به إلى عمر رضي الله عنه فأراد أن يقطع يده، فقال ذلك السارق: سرقت بقدر الله فقال عمر: وأنا أقطع يدك بقدر الله؛ يعني هذا قدر وهذا قدر. ولما توجه عمر رضي الله عنه إلى الشام وأقبل عليهم، وذكروا له أن الطاعون وقع في الشام عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. يعني أن فعلنا هذا مقدر ولو فعلنا هذا لكان مقدوراً، فالقدر هو ما نفعله، القدر هو ما يهدينا الله له. وفي الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟، فقال: (هي من قدر الله) يعني قدَّر الله هذا المرض، وقدَّر أن العبد يتداوى فيشفى، وهذه الأدوية مكتوب أنها سوف تحصل وهي من قدر الله، جعلها الله تعالى سبباً. وعلى هذا فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، وذلك لأن القدر إنما هو موافقة الأمر والنهي، فالإنسان مأمور بأن يفعل، فإذا فعل فقد وافق القدر، وليس له أن يحتج بالقدر على ترك الفعل أو على فعل المحرم (قل فلله الحجة البالغة) (الأنعام:149) . فكما أن الله تعالى أمرنا بفعل الأسباب الحسية وجعلها من القدر، فكذلك أمرنا بالأفعال المعنوية وجعلها من القدر، فنحن مأمورون مثلا بأن نتكسب ونطلب الرزق، ويكون هذا بقدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فكما أن الطير لا تجلس في وكناتها، ولا في أوكارها، بل تغدو وتذهب وتتطلب الرزق حتى تجده، فالإنسان يسعى ويفعل الأسباب ويكسب، ويطلب الرزق، ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويحترف، وفعل هذا من قدر الله تعالى ومن قضائه المكتوب عليه.

وكذلك أيضاً لا يقول: سأسكت فلا أتكلم فإن هذا قدر، نقول له: انطق وتكلم وذلك أيضاً من القدر. ولا يقول: سوف أمسك عن الأكل فإن الله قدر أن أعيش عشت، وإلا فلا، نقول: لا بل أطعم الطعام، وغذ بدنك فإن هذا مما أمرت به، وهو من الأسباب في حياتك، وهو أيضاً من القدر. ولا يقول: لا أتزوج فإن كان الله قدر لي أولاداً حصلوا بدون زواج، نقول: لا، بل تزوج حتى يحصل ما قُدّر لك. وهكذا التعلم وما أشبهه، كلها بقضاء وقدر، ولابد أن يفعل العبد هذه الأسباب حتى يوافق ما قدر الله وما كتبه. نقول بعد ذلك: إن أهل السنة توسطوا في ذلك فجعلوا للعبد قدرة، وجعلوا لله تعالى قدرة، وقدرة الله تعالى غالبة على قدرة العبد، وبقدرة العبد التي أعطاه الله إياها والتي مكنه بها يحصل الثواب والعقاب على هذه القدرة. فلا شك أن الإنسان معه قدرة، ومعه تمكن، وأنه لولا هذه القدرة ما كُلف، وفي الآيات التي تقدمت ذكر الأدلة على ذلك: (لا يكُلف الله نفساً إلى وسعها) (البقرة:286) فلو لم يكن للإنسان قدرة لما كلف، ولهذا لا يكلف المجنون، ولا العاجز، ولا المقعد، ولا المريض، ولا فاقد القدرة. وقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن:16) يعني أن للعباد استطاعة وقدرة يزاولون بها أعمالهم، وهكذا الآيات التي فيها الأوامر والنواهي التي يوجهها الله إلى العباد: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (المزمل:20) ، (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) (الإنعام:151) ، ونحو ذلك.

ولو لم يكن للعباد قدرة ما وجهت إليهم هذه الأوامر، فدل على أن الله أعطاهم قدرة يزالون بها الأعمال، ويصح بها أن يكونوا مكلفين، ويصح أن تنسب إليهم أفعالهم فيقال: هذا هو القاتل فاقتلوه، هذا هو الزاني فارجموه، هذا هو السارق فاقطعوه، ويقال: هذا هو المصلي يستحق الثواب، هذا هو الصائم له أجر صيامه، هذا هو المتصدق يضاعف الله أجره، فتنسب إليه أفعاله لأنها صدرت منه، وإن كانت مقدرة ومقضية ومخلوقة لله أزلاً، ولكن لما باشرها نسبت إليه فهي أفعاله. فلا يجوز أن يقال: ليس للعبد أية قدرة أصلاً، فهذا قول الجبرية، ولا يقال: ليس لله قدرة أصلاً فهذا قول المعتزلة، بل لله قدرة عامة وللعبد قدرة خاصة، وقدرة الرب غالبة على قدرة العبد، ودليل ذلك في القرآن قوله تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (التكوير:28-29) ، (فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله) (المدثر:55-56) ، (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (الإنسان:29-30) ، ونحو ذلك من الآيات. فالاحتجاج بالقدر هو قول المشركين الذين يقولون: (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) (الزخرف:20) ، (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) (يس:47) ، فهؤلاء الجبرية الذين يحتجون بالقدر قولهم موافق لقول المشركين، والغالب أنهم لا يحتجون به إلا عند أهوائهم؛ ولهذا يقول ابن القيم في الميمية. وعند مراد الله تفنى كميِّت وعند مراد النفس تُسدي وتُلحِمُ وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم يعني تزعم أنك مجبور، فحصل في ذلك تقسيم الطوائف إلى ثلاث: الذين يقولون: إن العبد هو المستقل بفعله، وهؤلاء هم القدرية، وكذلك ينكرون قدرة الله ويدعون أن الله يعصى قهراً.

وطائفة مجبرة؛ الذين ينكرون قدرة العبد أصلاً، ويقولون: ليس له شيء من الفعل، فحركته كحركة المرتعش الذي لا يقدر على إمساك يده، أو حركته كحركة الشجرة التي تحركها الرياح بدون اختيارها فليس له أية قدرة. وقول أهل السنة: أن له قدرة وإرادة، وأنه بحسبها يثاب ويعاقب، وإن كانت خاضعة لقدرة الله تعالى. الإيمان قول وعمل وقوله: والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (البينة:5) . فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، كله من الدين. شرح: هذا الموضوع يقال له: أسماء الإيمان والدين، ويتعلق به التكفير والتفسيق ونحوه، وهو الذي عند المعتزلة يسمى المنزلة بين المنزلتين؛ وذلك لأن الأمة اختلفوا في مسمى الإيمان فتباينت فيه أقوالهم. والإيمان في اللغة هو التصديق، ولكن الشرع أضاف إليه إضافات وأدخل فيه الأعمال، وأدخل فيه الأقوال، فأصبح الإيمان شاملاً للعقائد والأقوال والأعمال، أصبح مسمىً شرعياً، وما ذاك إلا أن المسميات الشرعية نقلت من مسماها اللغوي إلى مسمى خاص كسائر المسميات الشرعية. فالعرب لا تعرف اسم الإيمان إلا أنه التصديق، ولا تعرف اسم الكفر إلا أنه التغطية، تغطية الشيء وستره يسمى عندهم كفراً لقول شاعرهم: (في ليلة كَفَر النجُومَ ظلامها) ، ولا تعرف الفسق إلا أنه الخروج، فسقت الرطبة: خرجت من قشرتها، ولا تعرف النفاق إلا أنه الاستخفاء، ولا تعرف الشرك في التجارة أو نحوها، ولا تعرف التوحيد إلا أنه الواحد المفرد. فجاء الشرع وجعل لهذه الأشياء مسميات شرعية، ونقلها من المسمى اللغوي إلى المسمى الشرعي.

فالإيمان: قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، هذا مسمى الإيمان في الشرع أدخل فيه الأعمال وسماه إيماناً كما ستأتي عليه الأدلة إن شاء الله. أما الكفر: فإنه الخروج من الدين، فجحد الرسالة، وجحد النبوة، وجحد التوحيد وإنكار العبادة يسمى كفراً شرعياً. أما الفسوق: فهو المعصية؛ لأنها خروج عن الطاعة. أما النفاق: فهو مسمى شرعي يطلق على إظهار الإيمان وإبطان الكفر. أما التوحيد: فنقل من مسماه اللغوي إلى مسمى شرعي، وهو إفراد الله بالعبادة. أما الشرك: فنقل من مسماه اللغوي إلى مسمى شرعي، وجعل اسماً لدعوة الله ودعوة غيره معه، فإشراك غير الله معه في نوع من أنواع العبادة يسمى شركاً. فهذه مسميات نقلها الشرع وجعلها لمسميات خاصة، والكلام الآن عن الإيمان، وذلك لقدم وقوة الخلاف فيه: فذهب بعضهم إلى أن الإيمان هو المعرفة، فمن عرف فهو مؤمن عندهم. فهل هذا صحيح؟ الله تعالى رتب على الإيمان الجزاء، رتب عليه الثواب، فكثيراً ما يذكر الله الإيمان ويذكر ثوابه، فهل كل عارف يستحق الثواب؟ معروف أن فرعون عارف قال الله تعالى عن موسى (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات) (الإسراء:102) . فهل فرعون مؤمن؟ وكذلك إبليس عارف بالله، وعارف بأن الله ربه هو الخالق، فهل يقال: إنه مؤمن مستحق للثواب؟ ‍، وكذلك أيضاً المنافقون؛ كثير منهم عارفون ولكنهم جحدوا عناداً، والمشركون عارفون أيضاً، يقول الله تعالى: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) (الأنعام:33) فهل يقال: إنهم مؤمنون يستحقون ثواب الإيمان؟

إذن عرفنا أن هذا القول باطل، وهناك من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق. وهذا القول مشهور عند الحنفية، وقالوا: إنه مسمى الإيمان في اللغة، ولهم كلام طويل، ولكن نحن نقول: إن الله تعالى قد وصف المؤمنين بصفات زائدة على التصديق، مما يدل على أنه لابد مع التصديق من الأعمال، فلا يكون المؤمن مؤمناً إلا بتلك الأعمال. الدليل الأول: قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) (الأنفال:2-3) ، فجعل المؤمنين حقاً هم المتصفون بهذه الصفات الخمس، ومنها ما هو عمل بدني كالصلاة، أو عمل مالي كالنفقة، أو عمل قولي كالذكر، أو عمل قلبي كالوجل، فدل على أن الإيمان يعم هذه الأشياء. الدليل الثاني: قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) (السجدة:15) نفى الإيمان عن غير هؤلاء، فأصبح من الإيمان الخرور سجوداً لله (إذا ذكروا بها خروا سجداً) (السجدة:15) ، والتسبيح بحمد الله وعدم الاستكبار والتجافي (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) (السجدة:16) ، والدعاء (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) (السجدة:16) إلى آخرها، فهذا كله من الإيمان. الدليل الثالث: قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) (الحجرات:15) فجعل من الإيمان الجهاد وترك الريب والعمل، فلا شك أن هذا كله دليل على أن الإيمان شيء زائد على التصديق. إذن فيكون الإيمان مثلما عرفه الموفَّق رحمه الله؛ وهو قول أهل السنة، وقد ذكروا أن البخاري رحمه الله يقول: رويت في هذا الكتاب عن نحو ثلاثمائة من العلماء كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل، ويريد بذلك أن مشايخه الذين أخذ عنهم كلهم على هذا القول: (الإيمان قول وعمل) .

وقد بدأ صحيحه -بعد المقدمة التي هي في الوحي- بكتاب الإيمان، ثم قال: (وهو قول وفعل، يزيد وينقص) ولم يذكر الاعتقاد؛ لأنه لا خلاف في الاعتقاد، ولما لم يكن لا خلاف في الاعتقاد خلاف أغفله، وذكر ما فيه الخلاف؛ وهو القول والفعل، أي أن الإيمان تدخل فيه الأقوال والأفعال، ثم يترتب على ذلك كمال الإيمان ونقصانه وزيادته. وكثير من الحنفية والأشاعرة ونحوهم يعتقدون أن الإيمان واحد، وأنه لا يتفاوت، وأن الناس فيه مستوون وذلك لأنهم متفاوتون في العقيدة وقوة اليقين، ومتفاوتون في أثر تلك العقيدة على العباد، وإذا كانوا متفاوتين دل على أن الإيمان يتفاوت. فنحن نعرف أنه قد يكون هناك إنسان رزقه الله علماً وقراءة وتدبراً، أقبل على السنة، وعلى الحديث، وعلى القرآن، وأخذ يتأمل وقامت عنده الأدلة، ورسخت في قلبه أدلة الوحدانية وأدلة الربوبية، وأدلة البعث والنشور، وأدلة الأعمال والأحكام، وأدلة الرسل والإيمان بهم، والملائكة ونحوهم؛ رسخت في قلبه، وكان من آثار رسوخها أن انبعثت جواحه بالعمل فلا ينطق إلا بالذكر ولا يسمع إلا الخير ولا يبصر إلا ما فيه خير، وكان سكوته ذكراً ونطقه ذكراً وعمله خيراً، كل ذلك من آثار ما رسخ في قلبه من تلك الأدلة. وهناك آخر ما سمع إلا القليل، ولا اهتم إلا بالقليل من السنة، ولم يتعلم إلا أطراف المعلومات، ومع ذلك امتلأ قلبه باللهو والسهو وزينة الدنيا وزخرفها والميل إليها، وامتلأ قلبه بمحبة الشهوات، فإذا رأيته لا ستمعه يذكر الله إلا قليلاً ولا ترى جوارحه تنطلق إلا قليلاً بالأعمال الصالحة، بل وضد ذلك لا يذكر إلا ما يشتهيه وما يميل إليه، ولا ينطلق إلا إلى هوى نفسه، وأعماله الصالحة قليلة، فهل يقال: إن أعمال هذا وأعمال هذا مستويات؟ الذي يقول ذلك ليس له فكر.

نعود إلى كلام الموفق رحمه الله، قوله: (إن الإيمان قول باللسان) يدخل في ذلك الأذكار، فهي من الإيمان، فإذا قلت مثلاً: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله، وأعوذ بالله، وبسم الله، والله ربنا، فهذا كله من الإيمان وهو قول اللسان. وكذلك إذا دعوت إلى الله، أو دعوت إلى الخير، وعلّمت الناس، ودعوت إلى كتاب الله والعمل به، فكل نطق تنطق به وهو يدل على الخير فإنه من الإيمان، يقال: هذه الكلمة إيمان، وهذه التهليلة إيمان، وهذه التسبيحة إيمان، و (اعتقاد بالجنان) أي بالقلب، والاعتقاد: ما عقد عليه القلب وتمسك به، فالعقد أصله انعقاد القلب على الشيء، وعدم التردد في ثبوته، فإذا اعتقد قلبك ثبوت البعث فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت عذاب القبر فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الوحي فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الحشر والنشر والجزاء على الأعمال وتفاصيل ذلك فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الملائكة وكثرتهم فهذا من الإيمان، وإذا اعتقد قلبك ثبوت الرسالة وكثرة الرسل فهذا من الإيمان، إلى آخر ذلك؛ كل ما يعقد عليه القلب فإنه من الإيمان. كذلك أيضاً عمل الجوارح، فالصلاة والصدقات والصيام والطواف والحج والوقوف ورمي الجمرات والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والدعوة إلى الله، كل هذه من الإيمان. والبخاري يبوب على ذلك في صحيحه فيقول: (باب الصلاة من الإيمان، (باب أداء الخمس من الإيمان) ، (باب أداء الزكاة من الإيمان) ، (باب الصبر من الإيمان) ، وهكذا يعدد خصال الخير ويجعلها من الإيمان؛ لأنها من الأعمال بالجوارح، والأعمال بالجوارح من الإيمان.

أما الأدلة على ذلك فمنها قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (البينة:5) الدين هو الإيمان، فجعل هذه الخمس من الإيمان: العبادة: يدخل فيها أنواع الطاعة وأنواع القربات كلها من الإيمان. الإخلاص: إرادة وجه الله تعالى بالعمل وعدم إرادة غيره؛ هذا أيضاً من الإيمان. الحنيف: هو المقبل على الله المعرض عما سواه، هذا من الإيمان. الصلاة: من الإيمان. الزكاة: من الإيمان. وكلها من الدين. كذلك الإيمان: ذكر أنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد تقدم ذكر من ينكر زيادته، وتبين لنا خطؤهم وبعدهم عن الصواب، والأدلة واضحة على ذلك، قال الله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران:173) . وفي سورة الأنفال يقول تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً) (الأنفال:2) . وفي سورة الفتح يقول تعالى: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) (الفتح:4) وفي سورة التوبة يقول الله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون) (التوبة:124) . والحاصل أن هذا دليل واضح على أن الإيمان يزيد وينقص، وكل شيء قَبِل الزيادة فإنه يقبل النقصان.

والدين يشمل الإسلام والإيمان، كما في حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه عن الإسلام، ففسره بالأعمال الظاهرة، ثم سأل عن الإيمان وفسره بالأعمال الباطنة، يعني لما قرن مع الإسلام الإيمان فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بأعمال القلب، ثم سأل عن الإحسان، ففسره بالمراقبة والمشاهدة، ثم أخبر بأن هذا كله من الدين قال ((يعلمكم دينكم)) وصار الإسلام والإيمان والإحسان كله من الدين. وإذا قلت: هل هناك فرق بين الإسلام والإيمان؟ فيقال: إذا قُرنا جميعاً؛ فإن الإسلام: الأعمال الظاهرة، والإيمان: أعمال القلب، وأما إذا اقتصر على واحد منها، فإنه يعم الجميع. لكن قد يشكل على الإنسان بعض الأدلة مثل قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات:14) ، وقد كثر الكلام حول هذه الآية، ولا إشكال فيها والحمد لله؛ وذلك لأن هؤلاء الأعراب أسلموا، يعني استسلموا ظاهراً، والإيمان لابد أن يصير نابعاً من القلب، وهؤلاء لم يصل الإيمان الحقيقي إلى قلوبهم؛ فلأجل ذلك قال: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) ، فجعلهم مرتابين، أي في قلوبهم ريب، فأثبت لهم الإسلام، ونفى عنهم الإيمان (قل لم تؤمنوا) وذلك لأنهم استسلموا ظاهراً وقلوبهم مترددة، يعبدون الله على حرف، فإن أصابهم خيرٌ اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، فهؤلاء نفى عنهم الإيمان؛ لأن الإيمان منبعه من القلب، ويؤثر على الأبدان، يؤثر على السمع وعلى البصر، وعلى اليد وعلى الرجل وعلى اللسان، وهؤلاء إنما أعمالهم ظاهرها أنهم مسلمون، ولكن ليس معهم دافع الإيمان.

أما قوله تعالى (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (الذاريات:35-36) هم لوط وأهله، فلا شك أن لوطا وأهل بيته ما عدا امرأته جمعوا بين الوصفين أي الإيمان والإسلام، الإيمان الباطن والإسلام الظاهر وإن كان أحدهما يكفي عن الآخر. والحاصل إنا إذا رأينا ذكر الإسلام مطلقاً، فسرناه بالإيمان وبالأعمال كلها، وإذا ذُكر الإيمان وحده، فسرناه بالإسلام وبالأعمال كلها، وإذا ذكرا معاً فأحدهما أخص من الآخر، والأعم هو الإسلام، وأخص منه الإيمان، وأخص من الإيمان الإحسان. وقوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شُعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال تعالى: (فزادتهم إيماناً) (التوبة:124) ، وقال: (ليزدادوا إيماناً) (الفتح:4) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) ، فجعله متفاضلاً. شرح: هذه أدلة واضحة الدلالة يستدل بها على أن الأعمال من مسمى الإيمان، وعلى أن الإيمان يزيد وينقص، وعلى أن أهل الإيمان يتفاوتون. فالدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) . والشعبة هي القطعة من الشيء إذا رأيته متشعباً؛ في هذا شعبة، وفي هذا شعبة؛ يعني قطع، فإذا اجتمع وتواصل صار كله إيماناً.

من هذا الحديث انطلقت أفكار العلماء في ذكر شعب الإيمان، وأخذوا يعددونها ويذكرون ما وصلوا إليه، وأوسع من كتب في ذلك البيهقي، له كتاب مطبوع في نحو سبعة مجلدات، اسمه (شعب الإيمان) استوفى فيه ما وصل إليه من الأحاديث التي تتعلق بالإيمان، وكتب في ذلك أيضاً بعض العلماء رسالة مختصر في شعب الإيمان، أوصلها إلى سبع وسبعين خصلة، بدأها بالتوحيد أخذاً من هذا الحديث (أعلاها قول لا إله إلا الله) وختمها بالأعمال التي فيها نفع للغير ومنها (إماطة الأذى) . وفيما بين ذلك ذكر الصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والتطوعات من الإيمان، والنهي عن المنكر، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الخلق، ورد السلام وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإكرام الضيف، وإحسان الجوار، والرفق بالمملوك، وأخذ يعدد حتى وصل إلى سبع وسبعين خصلة، أراد بذلك أن يطبق هذا الحديث. وهذا بلا شك ردٌ صريح على فقهاء الحنفية الذين يجعلون الإيمان هو التصديق فقط، ويجعلون الأعمال خارجة عن مسماه، ويجعلون الإيمان اسماً لعمل القلب فقط، أو يقين القلب فقط، ويقولون: إن الأعمال ثمرة من ثمراته، والصحيح أن الأعمال داخلة في مسمّى الإيمان، وأنها من جملة الإيمان كما سماها في هذا الحديث، وقسّم خصال الإيمان وشعب الإيمان. وبكل حال متى استوفى المسلم هذه الخصال وعمل بها؛ سميناه: مؤمناً كامل الإيمان، وإذا نقص منها قلنا: مؤمن ناقص الإيمان، والخلاف هنا مع المعتزلة والخوارج: فالمعتزلة بمجرد ما يترك خصلة من خصال الإيمان أو يفعل معصية يخرجونه من الإيمان، ولا يدخلونه في الكفر، بل يجعلونه في منزلة بين المنزلتين؛ هذا في الدنيا، ويقولون: لا نحكم عليه بالكفر في الدنيا، بحيث يقتل أو يسبى، بل نقول: لا مؤمن ولا كافر، بل بينهما.

أما الخوارج فيقولون: بمجرد ما يرتكب ذنباً أو يترك طاعة خرج من الإيمان وحل دمه وماله. وأما أهل السنة فيقولون: إنه مؤمن، ولكن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمونه مؤمناً، ولكن مع الإيمان يتصف بالفسق، فلا مانع من أن تقول: مؤمن فاسق، أو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. لكن هنا دليل استدل به المعتزلة ونحوهم، وهو الحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبه يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) الحديث أخرجاه في الصحيحين. فإنه نفى عنه الإيمان، والجواب: إن المراد نفي الإيمان الكامل، فهو معه إيمان ناقص، أو (لا يزني الزاني وهو مؤمن) يعني أنه ليس معه الإيمان الذي يحجزه عن المعاصي بل إيمانه مضطرب، ومختل، وبعض الشراح يقولون: إن الإيمان يخرج منه ويصير عليه كالظلة ما دام متلبساً بمعصيته، ولكن لا يرجع إليه سالماً، بل يرجع إليه مختلاً وناقصاً. وبكل حال هذا دليل واضح على أن أهل الإيمان يتفاوتون. وأما أدلة زيادته: فذكر منها ابن قدامة ثلاثة أدلة، وذلك لأن القلب تتوارد عليه الأدلة فيزيد الإيمان فيه، وقد يذهب بعضها فينقص، وقد تأتيه شبهة فتنقص اليقين الذين فيه ويبقى ناقصا.

ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي لقلبه وزن ذرة من إيمان) أليس هذا دليلاً على التفاوت، فبعضهم إيمانه مثقال دينار وهو قطعة من الذهب، وبعضهم مثقال خردلة؛ حبة صغير، وهذا دليل على أنهم متفاوتون، هذا أنقص من هذا، وهذا أزيد من هذا، فدل على أنهم يتفاوتون. واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ مخاطباً للنساء في خطبته يوم العيد: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قلن: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين، قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعد شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين) ، فجعل تركها الصلاة -وإن كانت معذورة- نقصاً في دينها، فالرجل يزيد عليها في صلاته في تلك المدة، فدل على أن الإيمان يزيد بالطاعة من الصلاة والصدقة والصيام ونحوها، وينقص بترك الصلاة أو بترك الصيام وما أشبهه. وأهل السنة قالوا: إن المؤمنين يتفاوتون في الإيمان، ولا يكفّرون بالذنوب، بل يعذرون العاصي، ويقولون: إنه مؤمن، ولكنه فاسق، أو عاص، ولو عمل أي عمل ما لم يكن ذلك العمل مخرجاً من الملة. والأحاديث التي أطلق فيها الكفر على بعض الأعمال يقال: إنه كفر عملي، مثله قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) . معلوم أن هذه لا تصل إلى الكفر الذي هو الكفر بالله، والذي يبيح الدم والمال، ولكنها كفر عملي فيه شيء من التكذيب في بعض الشريعة.

والأحاديث التي فيها الوعيد على بعض الخصال تسمى أحاديث الوعيد تُجرى على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، مع العلم بأنها لا تخرج من الملة، ولو كان ظاهرها فيه إخراج من الملة، فإذا سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية) ، هل نقول: هذا ليس من المسلمين، مع إنه ما عمل إلا هذا العمل، هل خرج بذلك من الإيمان؟ هذا من أحاديث الوعيد، ونعتقد أنها لا تخرج من الملة، ولكن نمرّه على ظاهره ليكون أبلغ في الزجر. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً بريء منه) ، هل يكون معناه أنه خرج من الدين؟. وهذه الأحاديث كثيرة. ولذلك فإن الإمام مسلماً رحمه الله بدأ صحيحه بكتاب الإيمان، وأورد فيه مثل هذه الأحاديث التي فيها إشكال على بعض الناس، وفيها شك -للدلالة على أن الإيمان يتفاوت مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) أخرجه مسلم، أليس فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت وأن هناك إيماناً ضعيفاً. كل هذا رد على الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد، وأن نقصانه ذهاب له. وممن كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان) ، وهو مطبوع في المجلد السابع من مجموع الفتاوى، ومطبوع أيضاً مفرداً، وكذلك في كتاب الإيمان في صحيح البخاري، وفي أكثر كتب المحدثين، وكذلك الكتب المستقلة؛ ككتاب (الإيمان) لابن أبي شيبة صاحب المصنف، وكتاب (الإيمان) لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب (الإيمان) لابن منده، وكلها مطبوعة ميسرة ولله الحمد مسألة: الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:

ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا؛ نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه. شرح: هذا مما يتعلق بالعقيدة؛ وهو الإيمان بالغيب، وأول وَصْفٍ وَصَفَ الله به المتقين: الإيمان بالغيب قال تعالى: (هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب) (البقرة:2-3) ، والغيب كل ما غاب عنا وأخبرنا عنه، وكان الخبر يقيناً؛ أخبر الله به في القرآن أو أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث. لا شك أن الأخبار الغيبية إخبار عن أمر ما شاهدناه ولا رأيناه، فما هي طريقتنا في ذلك وماذا نفعل؟ علينا أن نصدق به وإن لم تدركه عقولنا أو حواسنا، وكل شيء غاب عنا وأخبرنا عنه بخبر قد يكون غريباً وقد يكون مستبعداً، فإذا كان الخبر من الله أو رسوله وجب التصديق به مهما كان، والأمثلة لذلك كثيرة. فأولاً: الخبر عن الله تعالى: هذا من الإيمان بالغيب، والخبر عنه بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، متصف بصفات كذا، منزه عن صفات كذا وكذا، هذا من الإيمان. ثانياً: الخبر عن الرسل: أخبرنا الله، وأخبرنا الرسول عن الرسل بأخبار منها مثلاً: أن آدم خلق من تراب، وأن الله أسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وأن إبليس احتال عليه حتى أخرجه؛ هذا من الإيمان بالغيب، لأننا ما شاهدناه لكن جاءنا الخبر اليقين، فنصدق به ونؤمن به. ثالثاً: الإخبار عن الملائكة؛ عن كثرتهم، وعن عبادتهم، وعن أعمالهم، وعن أماكنهم، هذا أيضاً من الإيمان بالغيب، نقبله ولو استبعده من استبعده، فإن الأمور الغيبية لا تدرك بالعقول وإنما تدرك بالأخبار، فإذا كان المخبر ممن يجب تصديقه، فالتصديق به داخل في خصال الإيمان فلا يجوز رد شيء من خبره.

ويقال هكذا في بقية الأخبار، وبالأخص ما يكون في الدنيا، فإن الإنسان قد يعجز عن إدراكه، ولكن إذا كان خبراً صحيحاً ثابتاً فلا يجوز رده، ولو كذب بذلك من كذب. ذكر ابن القيم في كتابه (الروح) عن الفلاسفة أنهم أنكروا عذاب القبر؛ وأن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأنه يفسح للميت في قبره مد بصره، أو أنه يضيق عليه حتى تختلف أضلاعه. وأنه يأتيه الملكان فيجلسانه، وأنهما يسألانه، وأنه إذا لم يعرف يضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق، وأنه يفتح له باب إلى الجنة أو باب إلى النار، وأنه يأتيه من روحها وريحانها، فهم ينكرون ذلك ويقولون: هذا لا نحس به، فإننا كشفنا عن الميت فوجدناه على هيئته لم يتحرك ولم يتغير، فأين هذه الأشياء التي تزعمونها؟ الجواب: أنكم في دار وهُم في دار، أنتم في دار الدنيا وهم في دار البرزخ، ومن مات فقد قامت قيامته، وليس لكم أن تنكروا الشيء الذي لا تدركونه، فإن إدراك هذه الأشياء إنما هو خاص بمن قد مات، وأما الأحياء فقد حجبت عنهم؟ ولأجل ذلك أخبرنا أن الإنسان لا يسمع هذه الأصوات، وذلك أنه لو سمعها لتكدرت عليه حياته، ولما اطمأن في الدنيا، ولما ركن إلى ملذاته، بل لا يعيش عيشة هنيئة، فلأجل ذلك حجب الله عنا هذه الأشياء فلم نرها. والأحكام في الآخرة على الأرواح والأبدان، وأما البرزخ فالأحكام على الأرواح، والأبدان تبع لها، ونحن نعلم أن البدن جثة بعد الموت يصير إلى الفناء والعدم، وأما الروح فإنها هي التي تتألم وتتعذب، ونعلم أن الروح لا تدركها أبصارنا كما أننا لا ندرك الجن ولا الشياطين ولا الملائكة ولا نراهم، فإذن كيف تكذبون بشيء لا تحيط به أبصاركم ولا تقدرون على تصوره؟!

فعرفنا بذلك أن واجب الإنسان أن يصدق بالغيب مما أخبر الله به، أو أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان يقينا، وسواء أدركته العقول أم قصرت ويدخل في هذا: الإيمان بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الوقائع التي قد يستبعدها بعض الناس، وكذلك أيضا ما وقع للأنبياء عليهم السلام قبله، وكذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وما أخبر به من عذاب البرزخ وأموره، وما أخبر الله به من البعث والنشور، والجزاء على الأعمال، والجنة والنار، وما يكون في يوم القيامة. كل ذلك داخل في الإيمان بالغيب؛ وما ذلك إلا لأنه غائب عن الأنظار، وإنما يُعتمد فيه على الخبر. والخبر إذا جاء عن الصادق المصدوق وجب قبوله وتقبله، ولو استبعدته العقول وأحاله من أحاله، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بل والمسلمين عامة؛ فإن المسلمين الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم يلزمهم أن يصدقوه بما أخبر به، ولو لم تدركه عقولهم، أما الذين لا يصدقونه مطلقاً، أو يقبلون بعض ما جاء به فهؤلاء ليسوا حقاً من أتباعه. فمثلاً الفلاسفة الإلهيون، يكذبون بما أخبر الله به من بدء الخلق، وينكرون أن يكون لهذا الخلق أول، أو يكون له آخر، فينكرون أن آدم خلق من تراب، بل يعتقدون أن هذا الجنس من الناس قديم لم يبدأ، ولم يكن له أول، ولم يزل هكذا دائماً وأبداً، ليس له مبتدأ وليس له نهاية، وينكرون قيام الساعة، وينكرون بعث الأجساد، وينكرون انقطاع هذا الجنس من الناس ويقولون: هكذا تبقى هذه الدنيا دائمة؛ أرحام تدفع، وأرض تبلع من غير نهاية، هكذا معتقدهم. فكذبوا بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله، وما ذاك إلا أنهم لم تصل معرفتهم إلى الإيمان الصحيح، فوقعوا فيما وقعوا فيه من هذا الشك، وهم مثل من قال الله تعالى فيهم أنهم: (في ريبهم يترددون) (التوبة:45) .

هذا الفرق بين المسلمين وبين الفلاسفة، وهم يقرون بالإلة، ويقرون بأن هذا الخلق مخلوق وله خالق مدبر، وإن كان اعترافهم بذلك عن طريق العقل لا عن طريق النقل اعترف بذلك كبيرهم الذي يرجعون إليه والذي يقال له: أرسطو، ويسمى عندهم (المعلم الأول) ، وله مؤلفات موجودة مطبوعة تباع بأغلى الأثمان مشتملة على هذه العقائد السخيفة، وتبعه من المسلمين أكابر الفلاسفة كابن سينا، ومع الأسف لا يزال مقدساً عند كثير من المنتمين إلى الإسلام، وكذلك الفارابي، وسمي عندهم (المعلم الثاني) ، وكلهم من غلاة الفلاسفة الذين ينكرون الغيب. وهناك طائفة (السمنية) ذكروا أنهم ينكرون ما لا يدركون بإحدى الحواس، لا يقرون إلا بما أدركوه بحاسة من الحواس الخمس وهم الذين ناظروا جهماً في ربه، حيث لقي طائفة من السمنية، فسألوه: هل لك رب؟ قال: نعم. فقالوا له: هل رأيت ربك؟ قال: لا. قالوا: هل سمعت صوته وكلامه؟ قال: لا. قالوا: مسسته بيديك؟ قال: لا. قالوا: هل شممت رائحته؟ قال: لا. قالوا: إذن هو معدوم. فبقي متحيراً، ثم إنه تذكر وقال لأحدهم -وهو رئيسهم-: هل لك روح؟ أو هل لك عقل؟ فقال: نعم. قال: هل رأيت عقلك أو روحك؟ قال: لا. قال: هل شممته؟ هل مسسته، أو ذقته؟ هل سمعته؟ قال: لا. فقال: إذاً ليس لك عقل أو ليس لك روح. فعند ذلك رجعوا إلى أن يقولوا هذا القول المبتدع، فاعترفوا بالرب ولكنهم وصفوه بصفات لا يثبت معها إله معبود، أو رب معبود. هذه الطائفة ينكرون ما سوى المحسوسات، لكن طائفة الفلاسفة أخص من هؤلاء؛ فالفلاسفة قسمان: أ- فلاسفة طبيعيون؛ وهم الذي ينكرون الخلق والخالق ويقولون: إن هذه طبيعة، وإن هذا الوجود طبيعة، هكذا وجدت ولا يتغير عن الطبيعة وقد أنشد الشيخ الحكمي رحمه الله في قصيدته الجوهرة الفريدة قوله: ولا نُصيخ لعصري يفوه بما يُناقض الشرع أو إياه يعتقد

يرى الطبيعة في الأشيا مؤثرة أين الطبيعة يا مخذول إذ وجدوا يقول: أين الطبيعة قبل أن يوجدوا، فهذا من عقائد الفلاسفة الطبائعيين الذي لا يقرون بإله. ب- فلاسفة إسلاميون كابن سينا، وابن رشد، والفارابي ونحوهم فهؤلاء يقرون بأن هناك إلهاً، ولهذا يسمون الفلاسفة الإلهيون، ولكن معتقدهم أنهم لا يؤمنون بالغيب. فالمسلمون والحمد لله يعرفون ما يعتقدونه، ويدينون بأن الخلق له خالق، وأن الخالق أمرهم بالأعمال، وأنه يجازيهم على الأعمال، وإذا لم يجازوا في الدنيا فإنهم سوف يلقون جزاءهم في الآخرة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقوله: مثل حديث الإسراء والمعراج، وكان يقظةً لا مناماً. فإن قريشاً أنكرته ولم تنكر المنامات. ومن ذلك (أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فردَّ عليه عينه) . شرح: هذا من الإيمان بالغيب، وهو قصة الإسراء والمعراج، ذكر الإسراء في قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) (الإسراء:1) في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، مسجد إيليا قال تعالى: (لنريه من آياتنا) (الإسراء:1) . أجمل الإسراء في هذه الآية، وكلمة (بعبده) تدل على أنه أسري بجسده وروحه، فهي تصدق على الجسد والروح، وتدل على أنه يقظة لا مناماً، وذلك لأن قريشاً أنكروا الإسراء؛ لما قال لهم: إنه أسري بي إلى بيت المقدس ثم رجعت، استعظموا ذلك حتى جاءوا إلى أبي بكر وقالوا: إن صاحبك يزعم كذا، وكذا؟ فقال: قد صدق. قالوا: كيف تصدقه؟ قال أصدقه بما هو أبلغ من ذلك في خبر السماء؛ ومن ثم سمي بالصدّيق. أما الذين إيمانهم ضعيف فقد أرتد بعضهم عندما سمعوا بقصة الإسراء واستبعدوا ذلك، فقريش تقول: كنا نشد الرحال شهراً ذهاباً وشهراً إياباً، فكيف قطعته أنت في ليلة واحدة؟!.

وهذا ليس ببعيد، فقد ذكر في الحديث؟ أنه أسري به على دابة يقال لها: (البراق) وأنها تضع حافرها عند منتهى طرفها -يعني من سرعة سيرها، فلا يستبعد ذلك، وقد وجد في هذه الأزمنة الطائرات التي تقطع هذه المسافة في زمن قليل، فلا يستبعد أن الله تعالى سخر له هذا البراق الذي قطع هذه المسافة في زمن يسير. فالحديث معروف، وقصة الإسراء التي في الصحيحين وفي غيرهما مشتهرة، وأنه صلى الله عليه وسلم أتاه الملك، وأنه أركبه على البراق، وخرج من المسجد الحرام، ووصل إلى مسجد إيليا -المسجد الأقصى- وأنه وجد الأنبياء وأنه أمهم ثم بعد ذلك عرج به إلى السماء. والمعراج أشير إليه بأول سورة النجم، فإن الله تعالى ذكر فيها الإشارة إلى المعراج في قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى) (النجم:13-15) ، أنه عرج به إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وأنه رأى من آيات ربه الكبرى، وأن الله أراه وأطلعه على تلك الآيات، وهذا ما أشير إليه في الأحاديث. وبكل حال نصدق بالإسراء ولو استبعده من استبعده، فإنه ليس ببعيد، وليس بمستغرب على قدرة الله، فالله على كل شيء قدير، وكما قال أبو بكر: (إني أصدقه في أعجب من ذلك في خبر السماء) ، إذا كان الملك ينزل إليه في لحظات، ويقطع هذه المسافة فلا غرابة أن يعرج به وينزل في جزء من اليلة، لا غرابة في ذلك، فعلى كل حال هذا مما يؤمن به أهل السنة والجماعة، ونعتقد كذلك أنه كان يقظة لا مناماً؛ لأن الإنسان يرى في نومه أنه قطع المسافات، وأنه ذهب إلى كذا، وأنه رجع إلى كذا، وهو لم يزل على فراشه، ولا يستغرب ذلك، فلو كان مناماً لما أنكرته قريش وأكبرته، ولما صار فيه معجزة أو غرابة.

ومن ذلك: لما جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه ولطه ففقأ عينه، فرجع ملك الموت إلى ربه تعالى فرد عليه عينه، هذا حديث صحيح فلا طعن فيه، وقد استبعده من استبعده كبعض الفلاسفة وبعض المعتزلة، وقالوا: هذا خبر آحاد ولو كان صحيحاً فلا نقبله، وقالوا: أولاً: إن الملك ليس من جنس البشر، فكيف مع ذلك تُفقأ عينه؟. ثانياً: إن الملائكة أرواح فكيف يُتصور أنهم مثل الآدمي؟. وأيضاً: فإن موسى نبي من أشرف الأنبياء ومن أولي العزم، فكيف يجرؤ على ملك الموت ويلطمه بهذه اللطمة إلى أن يفقأ عينه؟، إلى آخر ذلك من الاعتراضات. قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند وغيره: إن موسى رآه داخلاً بيته بدون إذنه في صورة إنسان، فعند ذلك لطمه ظناً منه أنه متلصص، أو أنه داخل لينظر ويتطلع على داخل بيته، وهذا جائز في شرعنا، قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن رجلاً اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤا عينه) وثبت أن رجلاً اطلع في جُحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك.. الحديث) . فيقول: إن هذا الملك تصور بصورة إنسان، ودخل على موسى فظنه موسى من المتلصصين، فعند ذلك فقأ عينه، ولا غرابة في أن موسى غضب لما أخبره بأنه جاء ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه، فرد الله تعالى عين ملك الموت عليه.. إلى تمام الحديث.

وفي بعض الروايات أنه قال صلى الله عليه وسلم: (قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة.. قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن) يعني ما دام الموت لابد منه ولو بعد مئات السنين فالآن قال: (فسال الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر) . فبكل حال نصدق بهذا ولا غرابة في ذلك. مسألة: في أشراط الساعة وقوله: ومن ذلك: أشراط الساعة، مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل. شرح: وهذه أيضاً من الأمور الغيبية، وهي أشراط الساعة، والأشراط هي العلامات، كأنها شرط في وجودها، والشرط في اللغة: ما يترتب عليه وجود المشروط وما لا يتم المشروط إلا به، وقد أخبر الله تعالى أن للساعة أشراطاً: قال تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها) (محمد:18) . ومن أعظم أشراطها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فهو آخر الأنبياء إذ ليس بعده نبي؛ فهو نبي الساعة وثبت عنه أنه قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى. يعني أنه قريب من قيام الساعة، ومع ذلك فقد أخبر بأن بين يدي الساعة علامات؛ منها علامات صغيرة، ومنها علامات كبيرة. وقد كتب فيها العلماء قديماً وحديثاً، وتوسعوا في علامات الساعة وأشراطها التي أخبر الله تعالى بها أو أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينوا أنها ثابتة وحقيقية، ولو أنكرها من أنكرها واستبعدها بعض من قصرت أفهامهم وعلومهم.

وممن كتب في أشراط الساعة: ابن كثير رحمه الله في آخر كتابه التاريخ، لما انتهى من البداية أتى بالنهاية، وذكر أشراط الساعة وتكلم عليها، ومع الأسف نسخت طبعة من الطبعات حققها بعض المغرضين من أهل الشام ويقال له (أبو عبية) ثم إنه حرفها، وعلق عليها تعليقات بعيدة، وذلك لأن عقله لم يكن متسعاً لتلك الأمور الغيبية، ولما كثرت عليه تلك الأدلة وتنوعت أخذ يتنوع في بعضها، فبعضها يرده بأن يضعفه ولو كان صحيحاً، وبعضها يرده بأن يحمله محملاً بعيداً، وما أشبه ذلك. فمن أشهر علامات الساعة، أو أشراطها: خروج المسيح الدجال، وقد تكاثرت فيه الأدلة، والأخبار فيه متواترة حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ في الصلاة من فتنة المسيح الدجال، وأخبر بأنواع من فتنته؛ فأخبر بأنه أعور، وأن الله ليس بأعور، وأخبر بأنه يعيث يميناً وشمالاً، وأخبر بمدته التي يمكثها في الأرض، وأخبر بأنه يسير فيها سيراً حثيثاً، وأخبر بأنه يأتي أهل القرية والمدينة فيطيعونه، فإذا أطاعوه وصدقوه أصبحوا وقد نزلت عليهم البركات، والذين يعصونه تنزل عليهم النقمات - وهذه فتنة من الله، وأنه لا يدخل مكة ولا يدخل المدينة ... إلى آخر ذلك، والأحاديث كثيرة. ثم إن (أبا عبية) حمل الدجال وتأوّله على أنه الشر؛ قال: (الدجال هو الشر أو الشرور، أو المعاصي، أو المخالفات) ، وكذب؛ إنه شخص إنسان حي متحرك، فجعله معنوياً، وأخذ يتكلف في رد هذه الأحاديث ويصرفها مصارف بعيدة، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه.

وقد رد على بعض كلماته الشيخ حمود التويجري -رحمه الله- في كتابه المصنف المعروف بـ (إتحاف الجماعة في أشراط الساعة) ، المجلد الأول في العلامات الصغيرة، والمجلد الثاني في العلامات الكبيرة، ناقش أبا عبية في بعض ما تأوله واعتذر بأنه ما وقف إلا على أحد المجلدين؛ على مجلد واحد لأن (أبا عبية) طبع النهاية في مجلدين كبيرين وكلاهما علق عليه بما يفسده. وهذا دليل على أن هناك من قصرت علومهم عن إدراك الأشياء التي لم تتصورها نفوسهم فيتأولونها بهذا التأويل. وأما أحاديث المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فهي أيضاً متواترة ومتكاثرة، وقد أنكرها كثير من هؤلاء المتهوكين وقالوا: إن القرآن دل على أن عيسى قد مات؛ قال الله تعالى: (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) (آل عمران:55) وقال تعالى حكاية عن عيسى: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) (المائدة:117) . فإذا كان عيسى عليه السلام قد توفي فكيف يرجع؟ أليس قد مات، وقد انقطع عمره؟ وأجاب العلماء: بأن التوفي هنا هو النوم، يعني أنامه، ثم رفعه؛ قال الله تعالى: (وما قتلوه يقيناً * بل رفعه الله إليه) (النساء:157-158) فالقرآن صريح بأنه رفع إليه، أي رفع حياً إلى السماء عندما جاء اليهود ليقتلوه، فشبه لهم؛ نزل شبهه على بعض أصحابه كما في قوله تعالى: (ولكن شبه لهم) (النساء:157) وفُتح له طاق في البيت ورفع إلى السماء. وبقي في السماء حتى ينزل في آخر هذه الدنيا، ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وورد في الأحاديث أنه ينزل على المنارة البيضاء التي في المسجد الأموي شرقي دمشق، وأنه يقتل المسيح الدجال فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، ويقتله في باب لد - باب هناك في دمشق- هذه الأحاديث فيه متواترة مذكورة في كتب الصحيح، نصدق بها ولا عبرة بمن أنكرها أو استبعدها.

أما خروج يأجوج ومأجوج فقد ذكر في القرآن في قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) (الأنبياء:96) ذكر في الحديث أنهم خلق لا يحصيهم إلا الله، وأنهم يخرجون إلى الدنيا، وأنهم يستولون على الأرض ويشربون المياه التي يمرون بها، حتى إنهم يمرون ببحيرة طبرية ويشربونها، ويأتي آخرهم ويقول: لقد كان هنا ماء. وذكر في الحديث: أن عيسى عليه السلام يرغب إلى الله تعالى في أن الله ينجيه منهم، فيموتون فيصبحون فرسى، فيرسل الله عليهم ريحاً فتقذفهم في البحار، وينزل ماء من السماء فيغسل الأرض بعدهم حتى تكون كالزَّلَفَة (أي المرآة) -، ويبارك الله في الرسل، حتى إن الجماعة يشربون من لبن اللقحة فيروون منه، وحتى إن الجماعة يأكلون ويشبعون من الرمانة ويستظلون بقحفها، إلى آخر الحديث الطويل الذي في آخر صحيح مسلم، نصدق بذلك كله ولو استغربه من استغربه. وأما خروج الدابة: فذكر أيضاً في القرآن قال الله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) (النمل:82) هذه الدابة ورد فيها صفات، ولكن ليست كلها بصحيحة، وإنما الثابت أنها دابة في الأرض مستغربة، وأن هذه الدابة تكلمهم كما أخبر الله تعالى، ولا يدري ماذا تكلم به. وأما طلوع الشمس من مغربها: ففسر به قول الله تبارك وتعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) (الأنعام:158) وفسر هذا البعض بأنه طلوع الشمس من مغربها، وإذا طلعت آمن الناس كلهم، وذلك يوم لا ينفع نفساً أيمنها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

لا شك أن الأحاديث قد ثبتت في ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) هذه من أكبر العلامات التي ذكرت في الأحاديث. وذكر أيضاً في بعض الأحاديث أنه يكون هناك خسف بالمشرق، وخسف في المغرب، وخسف في جزيرة العرب وأنه يكون آخر الآيات نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا. وذكر أيضا من أشراط الساعة، أو من العلامات (نارٌ تخرج من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى) ، وهذه الآية قد خرجت في القرن السابع، وذكروا أنها ترتفع نحو عشرين ذراعاً أو ثلاثين ذراعاً في السماء، وأنها تشتعل بالحجارة، وإذا ألقي فيها السعف لا تحرقه، دامت أياماً في شرق المدينة، وذكرها المؤرخون كابن كثير وأطال في الكتابة عنها، وأنها من الأشراط التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم. هذه من العلامات الكبيرة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وآخر ذلك إخباره بأن الله يرسل ريحاً لينة طيبة وأنها تقبض روح كل مؤمن، وأنه لا يبقى بعد هذه الريح الطيبة إلا شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة. مسألة: في البرزخ والبعث قوله: وعذاب القبر ونعيمه حقٌّ، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به في كل صلاة، وفتنة القبر حق، وسؤال مُنكر ونكير حق، والبعث بعد الموت حق، وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) (يس:51) . شرح: من الإيمان بالغيب: الإيمان بعذاب القبر، مع أن القبر مشاهد نشاهده ونراه، ولكننا لا نشاهد عذابه ولا نعيمه، ولكن لما وردت به الأدلة الصحيحة في السنن وفي الصحاح آمنا به وأيقنا وصدقنا بما جاء في الأحاديث واعتقدنا أن ذلك من الأمور الغيبية.

وقد أطال العلماء في ذكر هذا الركن الذي هو من الإيمان بالغيب، وأوردوا فيه الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقروها وتكلم عليها العلماء المتقدمون والمتأخرون. وممن اشتهر بتتبع الأخبار في ذلك من المتقدمين: ابن أبي الدنيا، وله كتب كثيرة مطبوعة في هذا، لكن أكبر كتبه كتاب (القبور) ، وكتاب (من عاش بعد الموت) ، ثم كتب بعد ذلك ابن القيم كتاب (الروح) وتكلم فيه عن عذاب القبر، وأطال فيه إلى أن ذكر قصصاً وذكر أحكاماً وأحاديث، وذكر فصولاً منوعة، وتكلم عليه أيضاً تلميذه ابن رجب في كتابه الذي سماه (أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور) وغيرهم، وهكذا في كتب الزهد وكتب المواعظ؛ يذكرون عذاب القبر ونعيمه. والخلاصة أنه ورد في الأحاديث أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأنه يضيق على صاحبه -إن كان شقياً- حتى تختلف فيه أضلاعه، أو يوسع عليه -إن كان سعيداً- حتى يكون مد بصره، وأنه يأتيه الملكان فيه، فإن كان سعيداً بشراه بخير، ويسألانه: من ربك، ومن نبيك، وما دينك؟ فيجيبهم، وإن كان شقياً لا يجيبهم بل يقول: هاه هاه، لا أدري. وأنهما يضربان الشقي ضربة بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبلٌ لصار تراباً، وأنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلان، ولو سمعها الإنسان لصعق. وأنه يأتيه رجل -إن كان سعيداً- طيب الريح طيب الثياب فيقول: أبشر باليوم الذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، وأنه يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وريحانها، ونحو ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبلغ حد التواتر.

وقد ذكرنا فيما سبق أن الفلاسفة ونحوهم استبعدوا عذاب القبر، قالوا: أولاً: إنه لم يذكر في القرآن، وقالوا: ثانياً: إن العقول تنكره. وذكروا أنهم وضعوا الإنسان في قبره، وحفروا بعد ثلاثة أيام فوجدوه على حاله، ووضعوا الزئبق على صدره فوجدوه كما هو لم يتغير، والزئبق أخف وأسرع حركة، ومع ذلك لم يتغير من مكانه، فكيف يكون مع من يجلس، ويسأل، ويضرب، وينعم وأشباه ذلك؟ فأجابهم العلماء: إن هذا من أمر الغيب وعلينا أن نؤمن به، وإن ما بعد الموت فهو من الآخرة، ونحن من أهل الدنيا، ولسنا بمطلعين ولا مطلعنا الله على أمر الآخرة ونحن في الدنيا، وإن الأحكام بعد الموت تتعلق بالأرواح؛ فإن الأرواح هي التي تتنعم، وهي التي تتألم، وهي التي تصعد وتنزل، وهي التي تسأل وتجيب، وهي التي تنعم أو تعذب، وتجري هذه الأحكام عليها. وقد ذكر ابن القيم أن الروح لها بالبدن خمس اتصالات: الاتصال الأول: عندما كان جنيناً في بطن أمه. فاتصالها به قليل، ولكن يتحرك الجنين في بطن أمه قليلاً. الاتصال الثاني: بعدما يخرج إلى الدنيا، فهو اتصال كامل وإن كان يعتريه نقص. الاتصال الثالث: عندما يكون الإنسان نائماً؛ فإن روحه تفارق بدنه، ولكنها لا تكون مفارقة كاملة. الاتصال الرابع: في البرزخ الذي هو في القبر فهو اتصال ضعيف ولكن ليس بمستحيل. الاتصال الخامس والأكمل: الاتصال في الآخرة بعدما تعاد الأرواح إلى أجسادها، وتتصل بها اتصالاً كلياً كاملاً. والأحكام في الدنيا على الأجساد وتتبعها الأرواح، والأحكام في البرزخ على الأرواح وتتبعها الأجساد، والأحكام يوم القيامة على الأرواح وعلى الأجساد.

وأما قولهم: لم يذكر في القرآن عذاب القبر. فأجاب عنه ابن القيم وغيره، وقالوا: إنه قد ذكر في السنة، ونحن نؤمن بالسنة وبما جاء بالقرآن، وأيضاً فقد ورد في القرآن إشارات ودلالات وفسرت بعذاب القبر؛ فذكر الله أن آل فرعون يغدا بهم ويراح على النار في قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (غافر:46) والغدو والعشي في هذه الدنيا، يعني أنهم يعرضون أي أرواحهم تعذب في النار. كما ذكر الله أنهم سيعذبون مرتين في قوله تعالى: (سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (التوبة:101) المرتان قيل: إنه مرة في الدنيا ومرة في البرزخ، (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، هذا في النار بعد البعث، وفسر بذلك أيضاً قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك) (الطور:47) يعني عذاب القبر؛ هذه إشارات إلى أن عذاب القبر قد ثبت، وأن الإنسان عليه أن يكثر الاستعاذة من عذاب القبر، وعليه أن يصدق به، وإن لم يدركه إحساسه. ولكن قد تقول: إنه قد يبقى غير مقبور مدة طويلة. فنقول: الذي يبقى هو الجثة، والعذاب والنعيم على الأرواح. مسألة: في الحساب وقوله: ويُحشر الناس يوم القيامة حفاة عُراةً غرلاً، فيقفون في موقف القيامة حتى يشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فيحاسبهم الله تعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل (فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً * وينقلب إلى أهله مسروراً * وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيراً) (الانشقاق:7-12) . شرح: قال بعض العلماء: إن الله تعالى أكثر في ذكر البعث، وأدلته، ومن القرائن التي تدل عليه والمعجزات والآيات والبراهين، وكذلك ما بعده من الجزاء على الأعمال ومن الحشر، والنشر وما إلى ذلك.

ولعل الحكمة من المبالغة في ذلك إقناع المشركين، وذلك لأن المشركين من العرب كانوا ينكرون أشد الإنكار بعث الأجساد، فضلاً عن حساب عليها أو عذاب، فهم يقولون -مثل ما حكى الله عنهم هم والأولون أيضاً بقوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) (الأنعام:29) ، وكذلك حكى الله عنهم قوله تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون) (الصافات:69-70) ، فلما وجدوا آباءهم على هذا الأمر الذي هو إنكار البعث، تبعوهم في ذلك، وحكى الله تعالى عنهم قولهم: (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون * قل نعم وأنتم داخرون) (الصافات:16-18) ، أي تبعثون وأنتم ذليلون مهينون. ورد الله على ذلك الكافر الذي جاء ومعه عظم ميت يفتته وقد صار رميماً فقال: أتزعم يا محمد؛ أن هذا يبعث بعد أن صار رميماً تراباً؟ قال: (نعم، يميتك الله، ثم يحييك ثم يحشرك إلى النار) فأنزل الله تعالى قوله: (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) (يس:77) ، ذكره بخلقه من نطفة، ومع ذلك أصبح خصيماً مبيناً، ثم قال تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه) (يس:78) ، نسي بدء خلقه الذي كان معدوماً، ثم خلق، ثم أوجد، إلى آخر الآيات التي فيها تذكيره بالبعث وبالآيات الدالة عليه بعد البعث. وكثيراً ما يذكر الله الآيات التي في الحشر، ويذكر يوم القيامة، ويسميه بعدة أسماء، فيسميه يوم القيامة، ويسميه بالساعة، ويسميه بيوم الحشر؛ لأن الناس يحشرون فيه، ويسميه بالآزفة، والطامة، والحاقة، والواقعة، والصاخة، وكلها أسماء ليوم القيامة وآثارها.

وهذا اليوم ذكر الله عظم شأنه فقال تعالى: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) (المطففين:6) ، ذكر في الأحاديث أنهم يقومون ويطول قيامهم وأنه يكون طويلاً، قدر في آية أنه ألف سنة مما يقدرون، وفي آية أخرى خمسين ألف سنة في سورة المعارج: (في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة) (المعارج:4) ، ثم أخبر بأنه قريب بقوله تعالى: (إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً * يوم تكون المساء كالمهل) (المعارج:6-8) ، أي تذوب كما يذوب المهل، (وتكون الجبال كالعهن) (المعارج:9) ، أي تكون كالعهن المنفوش إلى آخر الآيات. فنؤمن بهذا، ونؤمن بأنه بعد البعث يحشر الناس، وأن الأرض تسوى فتزول عنها الجبال التي عليها، وتصبح الجبال كثيباً مهيلاً، ثم بعد ذلك تصبح كأنها العهن؛ وهو القطن المنفوش تطير به الرياح، قال تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) (النمل:88) . وهي تنتقل فلا يبقى لها أثر ولا يبقى لها مكان فينسفها الله تعالى: ثم تسوى بالأرض، يقول الله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذروها قاعاً صفصفاً) (طه:105-106) ، أي الأرض تكون قاعاً صفصفاً مستوياً (لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً) (طه:107) ، يمدها الله تعالى يقول: (وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت) (الانشقاق:3-4) ، تمد كما يمد الأديم العكاظي، وتسوى بحيث لا يكون لها مرتفع ولا منخفض. وبعد ذلك تبقى هكذا، فيجتمع عليها الخلق من أولهم إلى آخرهم؛ يجتمعون كلهم لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، يحشرون على هذه الأرض، ثم تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بهم، وكذا ملائكة السماء الثانية والثالثة، إلى أن تنزل الملائكة كلهم فيحيطون بهم.

ونؤمن بما ذكره الله من الآيات والأعمال التي فيها، وأنها تنصب الموازين، قال تعالى: (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) (الأعراف:8-9) ذكر الله الوزن في عدة آيات. وكذلك تنشر الدواوين -الصحائف التي فيها الأعمال- قال تعالى: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك) (الإسراء:13-14) ، (ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) (الكهف:49) فيقرءون كتبهم ويجدون فيها أعمالهم التي عملوها كلها، وتتطاير الكتب إلى الأيمان أو الشمائل، قال تعالى: (فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) (الإسراء:71-72) . أما الكتاب الذي يعطى باليمين؛ فمكتون فيه: هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية، وأنه يشرق وجهه، ومن فرحه يقول: (هاؤم اقرءوا كتابيه) (الحاقة:19) . وأما الآخر فيقول: (يا ليتني لم أوت كتابية) (الحاقة:25) ، نصدق بهذا كله ولو استبعده من استبعده. ووقوف الناس وحشرهم في ذلك اليوم ذكره الله في القرآن ذكراً متكرراً متواتراً، وأن الناس بعدما يبعثون يحشرون على أقدامهم؛ يحشرون وهم عراة، وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، ويحشرون وهم حفاة ليس في أرجلهم نعال، وكذلك غرلاً أي غير مختونين كما فسره بذلك ابن كثير. وكذلك يبعثون بهماً أي سود الأبدان من الشمس، وقيل: إنهم لا يتكلمون أي لا يستطيعون أن يتكلموا، وذلك من الفزع قال تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر) (الأنبياء:103) ، وقد ذكر الله أنهم لا يتكلمون كما في قوله تعالى: (فلا تسمع إلا همساً) (طه:108) ، قيل: الهمس: وطء الأقدام، وقيل: الكلام الخفي، وهذه إشارات إلى ما ذكره الله في القرآن وأوضحه عن البعث والحساب. مسألة: في الميزان

قوله: والميزان له كفتان ولسان، يوزن به أعمال العباد (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) (المؤمنون:102-103) . شرح: مما نؤمن به الميزان، وقد ذكره الله تعالى في عدة سور، فذكره في سورة الأنبياء، قال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (الأنبياء:47) ، هذا دليل على أنه ميزان حقيقي توزن به الأعمال، فيظهر فيه خفتها أو ثقلها، ولو كان العمل خفيفاً كحبة الخردل. وقد ذكر الله أيضاً الذرة في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (الزلزلة:7-8) ، والذرة هي: النملة الصغيرة، وماذا تزن؟ وذكر الله الميزان في قوله تعالى: (الوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) (الأعراف:8-9) ، وكذلك ذكره في سورة المؤمنون وفي سورة القارعة، وكذلك وردت الأحاديث في وزن الأعمال. وختم البخاري صحيحه: ما جاء في الميزان، باب: قول الله تعالى: ((ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)) (الأنبياء:47) ، وأورد بعض الآيات وذكر حديث أبي هريرة: (كلمات خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن؛ سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده) فاستشهد بقوله: ثقيلتان في الميزان. وهذه الآيات دليل واضح على إثبات الميزان، وورد في الأحاديث أنه ميزان حقيقي له كفتان، وأنه توزن فيه الأعمال أو غيرها، وأن له لساناً يظهر ميله خفة أو ثقلاً في لسانه، والكفتان اللتان توضع فيهما الأعمال.

ثم اشتهر عن المعتزلة أنهم أنكروا الميزان الحقيقي، وادعوا أن الميزان هو العدل في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (الأنبياء:47) ، أي العدل وقالوا: لا يحتاج إلى الوزن إلا البقالون ونحوهم، فأما الرب تعالى فليس بحاجة إلى أن ينصب ميزاناً، لأنه يعدل بين عباده، قال تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً) (الكهف:49) ، فأبطلوا دلالة هذه النصوص الصريحة التي فيها ذكر الميزان كقوله صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان) ونحو ذلك من الأحاديث. وأهل السنة أقروا بأنه ميزان حقيقي، وأن الله تعالى ينصبه لكل أحد، وأن كل إنسان له ميزان توزن فيه أعماله، سواءً كان ميزاناً واحداً توزن فيه أعمال العباد، أو موازين متعددة ليكون ذلك أدل على العدل وعلى عدم الظلم، وأنه لا يعذب إلا من استحق العذاب. وقد اختلف في الموزون ما هو؟، ويمكن أن يعم الوزن جميع ما ورد: القول الأول: أن الأعمال توزن ولو كانت أعراضاً، فإن الله قادرٌ على أن يقلبها أجساماً، فإن الصلاة ليس لها جرم ولكن الله تعالى يقلبها جسماً فتخف أو تثقل. كما ورد في بعض الأحاديث: (أن الرجل إذا صلى الصلاة وأساء فيها صعدت إلى السماء ولها ظلمة، وتغلق دونها أبواب السماء، وتلعن صاحبها فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها، وأما إذا صلى الصلاة فأحسن فيها صعدت إلى السماء ولها نور فتفتح لها أبواب السماء وتقول: حفظك الله كما حفظتني) .

فالصلاة عرض ومع ذلك يكون لها هذا الجرم، وكذلك الصيام يكون له جرم يوزن، وكذلك بقية الأعمال يجعلها الله تعالى أجراماً، وهكذا أيضاً الذي له جرم مثل الصدقات، ورد أن الله تعالى يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، يربي الصدقة ولو كانت يسيرة قليلة حتى تكون مثل الجبل، ثم بعد ذلك توزن وتثقل أو تخف بحسب نية صاحبها. القول الثاني: أن الذي يوزن هو الصحف؛ أي صحف الأعمال التي كتبها الكتبة فهي التي توزن، ولكنها تخف وتثقل بحسب ما فيها من الأعمال صلاحاً أو فساداً. واستدل على ذلك بحيث صاحب البطاقة وفيه (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر شيئاً من هذا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ يقول: لا يارب. يقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يارب. فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة وتوضع البطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) . فهذا دليل على أن الأعمال التي تكتب في الصحف توزن؛ أي توزن تلك الصحف، وأن الثقل والخفة بحسب صحة العمل وبحسب الإخلاص فيه. وكما في الحديث الذي فيه قول الله تعالى لموسى: (لو أن السموات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله) وهذا في حق من أخلص توحيده، ونطق بهذه الكلمة عن إخلاص وصدق ويقين.

القول الثالث: أن الذي يوزن هو نفس العامل. وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) (الكهف:105) ، أي لا يكون لهم وزن معتبر، أو إذا وزنوا فإنهم يخفون ولا يكون لهم ثقل في الميزان. وفي حديث في سيرة عبد الله بن مسعود؛ أنه صعد مرة على شجرة أراك يقطع منها سواكاً، فعجب الصحابة من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد) فأفاد بأن الإنسان يوزن، وأنه يثقل بحسب إيمانه. وورد قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) يعني أنه لما لم يكن له قدر ولم يكن له عمل صالح خف ميزانه فلم يساو وزن جناح البعوضة. وبكل حال: لا مانع من أن يوزن العامل، وتوزن الصحف، وتجسد الأعمال فتوزن، ويكون الجميع مما يوزن، ليظهر عدل الله تعالى بين عباده (ولا يظلم ربك أحداً) (الكهف:49) . مسألة: في الحوض قوله: ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: حوض في القيامة (ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً) . شرح: الإيمان بالحوض داخل في الإيمان باليوم الآخر، وما ذلك إلا لأننا نؤمن بكل ما أخبرنا به بعد الموت، وفي يوم القيامة أخبرنا بأنه يكون في الحشر أحوال ومن جملتها الحوض المورود. ومعروف أن الحوض أصله ما يصنعه أهل البوادي من جلود الإبل ويجعلون له أعواداً يعتمد عليها. ثم يصبون فيه الماء لتشرب فيه الإبل أو الأغنام أو نحوها، ويحملونه معهم لكونه خفيفاً.

ويطلق الحوض على كل ما يجمع الماء، والعادة أنه يجتمع في الأحواض وفي المستنقعات وهي الأماكن المنخفضة التي يجتمع فيها ماء المطر ونحوه، وقد تسمى الخزانات التي تستعمل الآن أحواضاً، وهي ما يعرف بالجوابي في قوله تعالى: (وجفان كالجواب) (سبأ:13) ، فالجابية هي: مجمع الماء الذي يصلح بآجر أو بجص أو نحوه أو بحجارة حتى لا يُسرب الماء، ويجتمع فيه ماء النواضح الذي ينضح من الآبار، فيكون واسعاً أو ضيقاً على حسب ما يريده أهل الماء، فيسمى هذا حوضاً، فالمجتمع الذي يجتمع فيه الماء هو الحوض. وقد ورد في حوض النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسيرة شهر في شهر؛ يعني طوله مسيرة شهر وكذا عرضه أو طوله، من عدن إلى أيلة الشام يعني من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، وهذا مقارب أنه مسيرة شهر أو أكثر من شهر، هذه مسافته. وماؤه ورد أنه أحلى من العسل وأشد بياضاً من اللبن، وآنيته عدد نجوم السماء -أي كيزانه التي فيه- يصب فيه ميزابان من الجنة، وقد فسر بالكوثر الذي في قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) (الكوثر:1) ، وقيل: إن الكوثر نهر في الجنة، وأن هذا الحوض يُمد من ذلك النهر، يصب في هذا الحوض ميزابان من ذلك النهر الذي هو الكوثر. ويَرِدُ عليه الناس تارة أفراداً ليتمكنوا من الورود ويشربون، ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، وتارة تذودهم الملائكة إذا كانوا قد غيروا أو بدلوا أو ابتدعوا، ولم يكونوا حقاً من الأمة المحمدية المحققين للاتباع. والأحاديث في الحوض تزيد على أربعين حديثاً، كما في بعض الكتب التي كتبت في أشراط الساعة، وقد استوفاها ابن كثير في النهاية في آخر التاريخ وغيره، مما يدل على تنوعها وعلى ثبوتها، ويؤخذ من مجموعها ما ذكر من صفة الحوض. مسألة: في الشفاعة قوله:

والصراط حق يجوزه الأبرار ويزلُّ عنه الفجار، ويشفع نبينا صلى الله عليه وسلم: فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحما وحمماً، فيدخلون الجنة بشفاعته. ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات؛ قال الله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) (الأنبياء:28) ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين. شرح: ذكر الصراط وذكر الشفاعة؛ أما الصراط فورد ذكره في الأحاديث، وكثرت الأحاديث التي تصفه وإن كان في بعضها غرابة أو ضعف، وكثير من الوعاظ يوردون هذه الأحاديث في القصص وفي المواعظ ويتساهلون في روايتها للتخويف بها، والغالب أن ما ورد فيه من المبالغات لا يثبت؛ كالذي روي أن صعوده مسيرة ألف سنة، وأن استواءه مسيرة ألف، وأن الهبوط منه مسيرة ألف عام. هكذا ورد ولكن لم يثبت. وما ورد أيضاً من أنه أحد من السيف وأدق من الشعرة وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب وهكذا.. فإنه قد دخل في هذا كثير من المبالغات، ووصفه بأنه أحد من السيف وأدق من الشعرة ورد في حديث يمكن اعتباره. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العبور على الصراط، وأن الناس يسيرون عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر عليه كالريح ومنهم من يمر عليه كأحاور الخيل والركاب ومنهم من يعدو عدواً ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السّعدان تخطف من أمرت بخطفه، والأنبياء عليهم السلام على الصراط، ودعواهم: اللهم سلِّمم سلِّم، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل.

هذه الصفات وردت فيه حتى استغرب بعضهم المرور كالبرق، يعني سرعة الذي يمر عليه كأنه البرق، وكالريح التي هي السير الحثيث، وكأجاود الخيل؛ الجواد هو الذي يسير سيراً سريعاً، والحاصل أنه ذكر أنهم يسيرون عليه هكذا؟ أي على قدر أعمالهم وآخرهم الذي يزحف زحفاً. ورد أيضاً تقسيم الأنوار في قوله تعالى: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نو ر كم) (الحديد:13) وذلك أنهم يعطون أنواراً يمشون بها، وفي أثناء سيرهم ينطفئ نور المنافقين فيطلبون من المؤمنين أن يعطوهم قبساً يسيرون به، فيقال لهم: ارجعوا وراءكم حيث قسمت الأنوار فالتمسوا نوراً، فإذا رجعوا ضُرب بينهم بسُور له باب كما ذكر في القرآن في قوله تعالى: (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسورٍ له باب) (الحديد:13) . وذكر في الحديث أن هذا المرور على متن جهنم، وأنه هو الذي ذكره الله تعالى، وسماه وروداً في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) (مريم:71) يعني وارد جهنم، وأنهم إذا مروا عليها فإن من يحس بها هم الفسقة والكفار ونحوهم، وكثير منهم يزل من الصراط ويسقط في النار أو تخطفه تلك الكلاليب وتسقطه في النار، وأما الذين مروا عليها سراعاً فلا يحسون بها بل روي أنها تقول: (جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي) . وإذا دخلوا الجنة قالوا: قد وعدنا ربنا أنا نَرِد النار -كما في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) أين هي؟ ما ذكرنا أننا وردناها فيقال لهم: إنكم قد مررتم بها وهي منطفئة، أطفأ لهبها أنواركم فلم تشعروا بها.

الصراط على هذا هو على متْنِ جهنم يمر الناس عليه بأعمالهم، وقال بعض العلماء: إن سيرهم على الصراط الحسي الذي في الآخرة على قدر سيرهم على الصراط المعنوي الذي في الدنيا المذكور في قوله تعالى: (وهديناهما الصراط المستقيم) (الصافات:118) ، (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه) (الأنعام:153) ، (صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) (الشورى:53) . بعد ذلك ذكر الشفاعة، والناس في الشفاعة ثلاثة أقسام: المشركون، والمعتزلة، وأهل السنة. القسم الأول: المشركون القبوريون. يقولون: إن الأولياء وإن السادة يشفعون لأقاربهم، ولمن دعاهم، ولمن والاهم، ولمن أحبهم، ولأجل ذلك يطلبون منهم الشفاعة، فالمشركون الأولون حكى الله عنهم أنهم قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) (يونس:18) ، يعنون معبوداتهم من الملائكة، ومن الصالحين، ونحوهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله أي يشفعون لنا. وكذلك يقول القبوريون المعاصرون الآن؛ يقولون: إن الأولياء يشفعون لنا، وإننا لا نجرؤ أن نطلب من الله بل نطلب منهم وهم يطلبون من الله، ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين أعطاهم الله الشفاعة، ونحن ندعوهم ونقول: اشفعوا لنا كما أعطاكم الله الشفاعة. ويضربون مثلاً بملوك الدنيا فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفاعة إذا أردت حاجة فإنك تتوسل بأوليائهم ومقربيهم من وزير وبواب وخادم وولد ونحوهم يشفعون لك حتى يقضي ذلك الملك حاجتك، فهكذا نحن مع الله تعالى نتوسل ونستشفع بأوليائه وبالسادة المقربين عنده، هذا قول المشركين، يبتون شفاعة كل ولي من الأولياء لكل من طلبها منه، وقد وقعوا بهذا في شرك الأولين، وقاسوا الخالق بالمخلوق.

والله تعالى ذكر عن مؤمن يس قوله تعالى: (أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً) (يس:23) ، وذكر الله تعالى أن الكفار اعترفوا على أنفسهم بقولهم: (قالوا لم نك من المصلين) ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين) وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين) (المدثر:43-48) . القسم الثاني: المعتزلة والخوارج. أنكروا الشفاعة لأنهم يعتقدون أن العصاة وأهل الكبائر مخلدون في النار لا يخرجون منها، وأن كل من عمل كبيرة ومات مصراً عليها فهو مخلدٌ لا تغني عنه الشفاعة ولا تنفعه، ويستدلون بالآيات التي فيها نفي الشفاعة مثل قوله تعالى: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) (البقرة:123) ، ومثل قوله تعالى: (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) (البقرة:254) ، ويقولون: هذه الآيات تنفي الشفاعة، فليس هناك شفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لغيره. هذا ما قاله المعتزلة والخوارج بناءً على تخليدهم أهل الكبائر في النار. القسم الثالث: أهل السنة. يثبتون الشفاعة ولكن بشرطين: الشرط الأول: الإذن للشافع. الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع. جمع الله الشرطين في قوله تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) (النجم:26) وذكر الإذن في قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (البقرة:255) ، وفي قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن) (سبأ:23) ، (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً) (طه:109) ، وقد تكون هذه الآية جمعت الشرطين، وذكر الرضا في قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (الأنبياء:28) .

فهذان شرطان للشفاعة، وهي الشفاعة المثبتة: الإذن للشافع، والرضا عن المشفوع له. والإذن يكون للأنبياء، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الناس إذا طلبوا منه الشفاعة لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد حتى يقال له: (ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع قال: فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب.. الحديث) . هذا دليل على أنه لا يشفع إلا من بعد أن يأذن الله له. وأما الرضا فإن الله لا يرضى عن الكفار كما في قوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر) (الزمر:7) ، فإذا كان لا يرضى لعباده الكفر، ولا يرضى الشرك، فلا يأذن في الشفاعة للكفار، ولا يأذن في الشفاعة للمشركين؛ فالشفاعة خاصة بالموحدين، وحقيقتها أن الله تعالى يكرم أولياءه وأنبياءه لينالوا المقام المحمود ويقول سبحانه وتعالى: (اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه.. الحديث) . فيحصل منها تكريم الشافع ورفع منزلته، وأنه يؤتى المقام المحمود الذي وعده الله بقوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) (الإسراء:79) فمن يشفع تعرف منزلتهم وفضيلتهم، كذلك يحصل منها رحمة المشفوع لهم، وإخراجهم من العذاب، تلك فائدة هذه الشفاعة. وذكر في الأحاديث عدد من الشفاعات، منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو عام، وأشهر الشفاعات هي الشفاعة العظمى يتأخر عنها أولو العزم، حيث إن الناس يأتون لآدم فيعتذر ثم يطلبون الشفاعة من نوح فيعتذر، ثم من إبراهيم، ثم من موسى، ثم من عيسى، وكلهم يعتذر ويذكر له ذنباً حتى يأتوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول:) أنا لها، أنا لها) .

يشفع في أن يأتي الله تعالى لفصل القضاء، أن يفصل بين الناس بعدما طال المقام، وبعدما يملون من المكان، وبعدما تطول إقامتهم ومكثهم، فيقولون: من يشفع لنا إلى ربنا حتى يفصل بين العباد، يتمنون التحول من هذا المكان، فهذه الشفاعة العظمى، وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وله شفاعة ثانية: شفاعته في أن تفتح أبواب الجنّة، فهو أول من يقرع باب الجنّة، وتقول الخزنة،: بك أمرنا أن لا نفتح لأحد قبلك. يشفع في أن يدخل أهل الجنة الجنة. وله شفاعة ثالثة: في رفع درجات بعض أهل الجنة، يشفع في أن ترفع درجاتهم أو يرفع مقامهم ومكانتهم حتى تكون رفيعة. وله شفاعة رابعة: الشفاعة في إخراج بعض العصاة من النار. وشفاعة خاصة لعمه أبي طالب بالتخفيف عنه، بعدما كان في الدرك الأسفل من النار فيكون في ضحضاح من النار. أما الشفاعة التي ليست خاصة له؛ فهي الشفاعة في العصاة الذين دخلوا النار بمعاصيهم؛ في أن يخرجوا منها؛ فإنها تشفع الملائكة والرسل والأنبياء والصالحون (فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا -قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) (النساء:40) ، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة؛ يقال له نهر الحياة، فينبتون في حافته كما تنبت الحبة في حميل السيل.. الحديث) .

والحاصل أنا نؤمن بهذه الشفاعة ونجعلها مرتبطة بهذين الشرطين، فلا نطلقها كما يطلقها المشركون الذين يطلبون الشفاعة من غير الله، فالشفاعة لا تطلب من المخلوقين، حتى ولا من النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل: يا محمد اشفع لنا، ولا يا يوسف، ولا يا عبد القادر اشفع لنا، ولا يا عيدروس اشفع لنا، ولا يا يوسف، بل نقول: اللهم شفع فينا أنبياءك، اللهم تقبل شفاعة الشافعين فينا، اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة الشافعين، فنطلبها من الله وحده ولا نطلبها من سواه. مسألة: في الجنة والنار والموت قوله: والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) (الزخرف: 74-75) (ويؤتي بالموت في صُورة كبش أملح، ويُذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة؛ خلود ولا موت، ويا أهل النار؛ خلود ولا موت) . شرح: الجنة أو النار هي النهاية التي يستقرون فيها الاستقرار الباقي الدائم؛ الذي ليس بعده ظعن ولا ارتحال ولا تحول أبداً، هذه هي النهاية، عندما يفصل بينهم يبقى أهل الجنة في دورهم وفي نعيمهم، ويبقى أهل النار في عذابهم وفي حميمهم وفي آلامهم. ومذهب أهل السنة؛ أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وأنهما في مكان لا يعلمه إلا الله، وذهب بعض المعتزلة إلى أنهما ليستا موجودتين، وقالوا: إن الله ينشؤهما يوم القيامة، وقالوا: لا حاجة لبقائهما الآن ووجودهما معطلتين ألوف السنين لا ينتفع بهما مغلقة أبوابهما، وما الفائدة من خلقهما ومن إيجادهما؟

ولكن حيث إن الأدلة وردت بوجودهما، فإننا نعتقد أنهما موجودتان، فالله تعالى ذكر إعدادها في قوله تعالى: (أعدت للمتقين) (آل عمران:133) أعدت يعني هيئت، فهي معدة الآن، وذكرها في قوله تعالى: (عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى) (النجم:14-15) فدل على أنها موجودة عند سدرة المنتهى. وهكذا أيضاً كثيراً ما يذكر النار أعدت لأهلها وهيئت لمن عصى الله تعالى فدل على أنها موجودة، وأيضاً ورد في الحديث أنه (أوقد على النار ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت) يدل على أنها موجودة. وهكذا ما ورد أيضاً من صفاتها في القرآن. والحاصل أن عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن، وقد تكلم عن ذلك ابن القيم في كتاب "حادي الأرواح" ورجح القول بوجودهما، وتكلم عن جنة آدم التي أسكنها؛ هل هي جنة الخلد أم أنها جنة أخرى؟ وذكر حجج القولين في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي أول كتابه (مفتاح دار السعادة) وكأنه يميل إلى أنها جنة دنيوية، وإن لم يصرح بذلك. وأما الجنة الأخروية؛ فإن الله تعالى: وصفها بأوصاف تكون عندما يدخلها أهلها، فذكر أنهارها وأشجارها وغرفها والثمار الدانية التي تكون في متناول كل أحد، واللحوم ومما يشتهون، وما أشبه ذلك مما تلتذ به الأعين وما تشتهيه الأنفس، فيذكر الله تعالى هذا حتى يشوِّق العباد إلى طلبها. ولما سمع ذلك المشركون أخذوا ينكرون، حتى إن عمرو بن عبد ود لما قابل بعض الصحابة قال: أين جنتكم التي تدعون أن من قتل منكم فيها؟ فقالوا: هي عند الله أو حيث لا يعلمها إلا الله. وقال بعض الصحابة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أن يقولوا: (قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) . فلما ذكر الله أن المؤمنين عند ربهم في الجنة وذكر أن آل فرعون في النار دل على وجود الجنة وعلى وجود النار.

ونؤمن أن لكل منهما أهلاً، وأن الله وعد كلاً منهما بملئها، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما الجنة فيبقى فيها فضل فينشئ الله لها خلقاً، وأما النار فتأبى حكمته أن يسكنها من لم يكن مستحقاً لها، ومع ذلك يبقى فيها أماكن، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه فيها، فتقول: قط قط، وعزتك. ويزوى بعضها إلى بعض) . فهذا دليل على أنها يكون لها صوت، وأنها لا يعلم قدرها إلا الله مع عظم من يدخلها. وقد تكلم العلماء في هاتين الدارين؛ الجنة والنار وأطالوا فيهما، ففي الجنة كتب ابن القيم (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) ضمنه أبواباً تتضمن كل ما ورد في ذكر الجنة، ومع ذلك فقد ذكر أيضاً في آخر النونية أكثر من ألف بيت فيما يتعلق بالجنة. وأما النار: فكتب فيها كثير من العلماء، ومن أشهر من كتب فيها ابن رجب في كتابه المطبوع (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) ضمنه أبواباً في ذكر عذابها وحميمها وزقومها وأنهارها، وما يجري فيها ودركاتها، وما أشبه ذلك. مسألة: في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قوله: ومحمد صلى الله عليه وسلم: خاتم النبيين وسيد المرسلين، لا يصح إيمان أحد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا يدخل الجنّة أمة إلا بعد دخول أمته، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والحوض المورود، وهو إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم. شرح:

بعدما ذكر ما يتعلق بحق الرب سبحانه وتعالى، ذكر أيضا ً حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن له حقاً على أمته، حقاً نعتقده فيه، وحقاً نعامله به. ولكنه حق يناسبه صلى الله عليه وسلم، فحق الله تعالى يليق به، فلله حق وللنبي صلى الله عليه وسلم حق. يقول ابن القيم: للربّ حقٌ ليس يُشبه غيره ولعبده حقٌ هما حقان لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً، أي لا تخلطوا بين الحقين، فحق الله تعالى منه أن نعرفه ونعبده وندعوه ونعظمه ونعتقد صفات كماله ونعوت جلاله. أما حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو تصديقه؛ فنشهد بأنه مرسل من ربه، ومن كذب برسالته لم يصح إيمانه؛ وذلك لأن معرفة الله، ومعرفة حقوقه، ومعرفة العبادة ومعرفة الإيمان باليوم الآخر، ومعرفة العبادات كلها، إنما جاءت بواسطته، فهو الذي جاءنا بالقرآن، وهو الذي شرح لنا القرآن، وهو الذي علمنا هذه السنة، وعلمنا كيفية الأعمال؛ إذاً فله حق على أمته أن يشهدوا له بأنه مرسل من ربه، ثم يشهدوا أيضاً بفضله وبمزيته، وبما أعطاه الله من الفضل وفضّله على الأنبياء قبله، والناس بالنسبة إلى حق النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام: طرفان ووسط: الأول: الذين جفوا في حقه. لا يأخذون من سنته إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون من شريعته إلا بما يناسبهم، إذا جاءتهم السنة التي سنها نظروا؛ فإن ناسبتهم أو وافقت ميلهم صدقوها وقبلوها وعملوا بها وإلا نبذوها وطرحوها، فهؤلاء ما صدقوه حق التصديق، حيث إنهم قبلوا بعض الشريعة دن بعض، فأخذوا منها ما يناسب أهواءهم.

وهذا حال من يسمون في هذه الأزمنة بالعلمانيين، فإنهم ولو تسموا بأنهم مسلمون وأتوا بالشهادتين ولكنهم لما طرحوا كثيراً من السنة وتركوا العمل بها أصبحوا غير مصدقين حقاً. فعندما نجادل أحدهم نرى أنه شبه مكذب وإن كان مصدقاً بلسانه، ونقول له: إنك ما اتبعته حق الاتباع. فإذا رأيناه مثلا يحلق لحيته قلنا له: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فيقول ما معناه: إنا نجاري الناس ونأخذ بما عليه أهل زماننا. أليس هذا عصياناً لله ورسوله؟ إذا عصيت الرسول فقد عصيت الله، والله تعالى يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء:80) يعني ومن يعص الرسول فقد عصى الله. كذلك الذين يبيحون للنساء التبرج وخلع جلباب الحياء، ويخالفون السنة، وما أمر الله به المؤمنات بقوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن) (الأحزاب:59) هؤلاء أيضاً ما صدقوا الرسول حقاً، فكأنهم لم يعملوا بالشريعة حق العمل بل أخذوا منها ما يناسب أهواءهم. زيادةً على بقية الأعمال التي يعملونها كإباحة الربا، وأكل المال بغير الحق، والتخلف عن صلوات الجماعة ونحوها، والتنقص للأعمال الشرعية كالجهاد والحج والعمرة والتعبد والصيام والصلاة وغير ذلك. فالحاصل أن هذا الطرف يعتبر جافياً في حق النبي صلى الله عليه وسلم الثاني: هم الغلاة: الذين غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعلوه إلهاً أو وصفوه بما لا يتصف به إلا الله تعالى، وما أكثر الكتب التي ألفت في مثال هذا، ومع ذلك انتشرت وتمكنت، وكثر الذين ينشرونها ويذيعونها، وفيها خرافات وأكاذيب، ومع ذلك راجت على ضعفاء البصائر، حتى وقع في ذلك كثير من العلماء المشاهير.

فمنها: (الخصائص الكبرى) للسيوطي؛ ذكر فيها حكايات غريبة وقصصاً لا أصل لها كلها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها بعيدة عن الثبوت لا يصدق بمثلها عاقل، وقد اشتهر أن السيوطي ينقل عن غيره من غير تمحيص، فهو كحاطب الليل يأخذ ما وجده -وإن كان من مشاهير العلماء-، وهكذا الشعراني القديم له كتب في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وفيها مبالغة وغلو كبير. وكذلك رسالة مشتهرة عند الخرافين واسمها "روض الرياحين" وفيها زيادة في الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم واطرائه بما لا يليق أن يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى. وتبعهم كثير من المتأخرين كالنبهاني، وزيني دحلان، وجميل صدقي الزهاوي، وهكذا جدد هذا ابن علوي في كتابه الذي سماه (الذخائر) فإنه حشد فيه من هذه الحكايات، وإن كان قد عزاها إلى إصولها التي نقلها عنها، ولكن لم يميز بين الصحيح والضعيف، ولم يبين ضعفها، فدعا ذلك إلى تقبل الجهلة والعوام لها، مما يحمل العامة على الغلو والزيادة في الإطراء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. لا شك في أن هذا لا يجوز، وقد وردت الأدلة في النهي عن مثل هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) ، والإطراء معناه المبالغة في المدح. ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (بل ما شاء الله وحده) . ولما جاءه وفد بني عامر وقالوا له: يا سيدنا، قال لهم: (السيد هو الله) قالوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. قال: (أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم؛ أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) .

ولما جاءه بعض الأعراب وقالوا: هذا رسول الله. ارتعد الأعرابي فزعاً؛ يعتقد أن له شأناً، فأجلسه إلى جنبه وقال: (هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد) ، يريد بذلك تواضعه عليه الصلاة والسلام، وجلس مرة على التراب وقال: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد) . ونحو ذلك من الأدلة التي يحث فيها على التواضع، لأنه لا يجوز أن يصفوه بما لم يصفه به ربه. فهذان طرفان؛ الذين جفوا كالعلمانيين، والذين غلوا كالمشركين الذين رفعوه فوق قدره وأوردوا في ذلك الأكاذيب التي يمجها السمع. مثل الحديث الموضوع الذي يقول: (لو لاك ما خلقت الأفلاك) يعني لو لاك ما خلقت الكون. يرددون مثل هذه الأحاديث، كالحديث الذي فيه: (أن آدم رأى على قائمة العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنه قال: يا رب، أسألك بحق محمد فقال: وما محمد؟ قال: رأيت اسمه مكتوباً معك على العرش، فسألتك به وعرفت أنه لا يكتب إلا من له قدر، فقال: صدقت يا آدم، لولا محمد ما خلقتك) . حشد ابن علوي وغيره في مؤلفاتهم ما يزعمون به أنهم يقدسون النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك دليل على محبته. فنقول لهم: إن كنتم تحبونه فاتبعوه، فالمحبة إنما هي في اتباعه لا في تعظيمه وإعطائه شيئاً لا يستحقه إلا الله. القسم الثالث -الذي هو القول الوسط-: هو قول أهل السنة؛ وهو أن تعطيه حقه الذي هو: أولا ً: الإيمان به. قال الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) (التغابن:8) الإيمان به يعني: تصديق رسالته والجزم بصحة ما أرسل به. ثانياً: محبته. يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) . ومعلوم أن محبته تقتضي السير على نهجه وطريقته.

ثالثاً: الاتباع له. يقول الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) (الأعراف:158) ، ويقول تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (آل عمران:31) . فاتباعه هو السير على هديه ونهجه. رابعاً: طاعته من طاعة الله. يقول تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء:80) ، (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها) (النساء:14) ، وطاعته تتمثل في تقبل ما جاء به والعمل به، والابتعاد عما نهى عنه، وقد أمر الله بمثل ذلك كثيراً؛ قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب:21) ، وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر:7) ، وحذر من مخالفته أشد التحذير في قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (النور:63) يخالفون عن أمره يعني: يرون أمره صريحاً فيخالفون عنه ويتركونه، فهؤلاء توعدهم الله بالفتنة والعذاب. فهذه حقوقه صلى الله عليه وسلم. أما فضائله التي لا شك في صحتها فمنها: أنه أشرف المرسلين، وأنه خاتم النبيين، وأنه صاحب لواء الحمد؛ اللواء هو الراية التي تكون مرتفعة ويتبعها من يتبعه، فيوم القيامة يعطى لواءً ويتبعه الحامدون، وأنه صاحب المقام المحمود وفسر المقام المحمود بأنه قبول شفاعته عندما يشفع، فيقبل الله شفاعته. فذلك هو الذي يحمده فيه الأولون والآخرون. وأنه سيد الناس يوم القيامة، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) ، يعني لا أقول ذلك افتخاراً ولكن من باب التحديث بنعمة الله (وأما بنعمة ربك فحدث) (الضحى:11) .

والله تعالى قد ذكّره نعمه فقال: (ألم نشرح لك صدرك) (الشرح:1) ، (ألم يجدك يتيماً فآوى) (الضحى:6) ، (ولسوف يعطيك ربك فترضى) (الضحى:5) ، ونحو ذلك من الآيات التي يٌذكره فيها نعمته عليه. فأهل السنة يذكرون مزاياه الصحيحة وفضائله، ولكن يعلمون أنه لا يصح له بموجبها شيء من حق الله، بل الله تعالى له حق، والنبي صلى الله عليه وسلم له حق؛ فحقه علينا أن نحبه ونتبعه ونتأسى به ونطيعه ونصدق رسالته ونثق بما وعدنا به. وقد فسرت شهادة أنه رسول الله بأنها طاعته بما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فهذا هو حق محمد النبي صلى الله عليه وسلم. مسألة: في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قوله: أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المُرتضى؛ رضي الله عنهم أجمعين. لما روى عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) . وصحت الرواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت سميت الثالث) . وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين غلى أفضل من أبي بكر) ، وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة. شرح:

تقدم معرفة حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من فضله أنه أول من يستفتح باب الجنة، ثم من فضله فضل أمته، فأمته خير الأمم، وورد في الحديث: (إنكم توفون -أي تكملون- سبعين أمة أنتم خيرها وأفضلها عند الله) . وقد ذكر ابن كثير رحمه الله أحاديث فضل هذه الأمة في تفسيره عند قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران:110) فإن هذه الآية نص على أن هذه الأمة خير الأمم؛ لأن نبيها خير الأنبياء، ومن فضلها أنهم يسبقون إلى الخيرات وإلى الجنة، فأول من يدخل الجنة هذه الأمة، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) الآخرون وجوداً والسابقون حقيقة إلى دار الكرامة، وذلك لشرف نبيهم، يكون من فضلهم أنهم يدخلون الجنة قبل الأمم السابقة. ووردت الأدلة الكثيرة في ذلك ومنها ما ورد في الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً عظيماً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، هكذا وهكذا فرأيت سواداً عظيماً، فقيل لي: هؤلاء أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب) . وغيرها من الأحاديث التي فيها فضل هذه الأمة وكثرتها. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) . يعني أن آيته ومعجزته هذا القرآن، وذلك لأن الأنبياء الذين قبله إنما كان أتباعهم الذين صدقوهم أتباعاً؛ وذلك لأن الأنبياء الذين قبله إنما كان أتباعهم الذين صدقوهم قلة قليلة.

ولو كنا في هذه الأزمنة نجد أن النصارى أكثر من المسلمين وجوداً، ولكن ليسوا حقيقة من أتباع المسيح عليه السلام، بل من الذين يعبدون المسيح ويقولون هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، فالحاصل أن هذه الأمة خير الأمم وأفضلها. ثم لا شك أيضاً أن الأمة بعضها أفضل من بعض، ولا شك أن أفضل هذه الأمة هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. أصحابه لهم الميزة ولهم الفضل على من بعدهم. وقد وردت الأدلة تشهد بفضل الصحابة؛ منها قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) (التوبة:100) ، ومنها قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) (الأنفال:72) إلى قوله تعالى: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم) (الأنفال:74) ، نص في فضل المهاجرين والأنصار، فالذين آووا ونصروا هم الأنصار، والذين هاجروا وجاهدوا هم المهاجرون. وذكرهم الله تعالى بقوله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) (التوبة:117) ، وكذلك قسمهم إلى ثلاثة أقسام في سورة الحشر في قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين) (الحشر:8) ، وقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم) (الحشر:9) ، ثم قال تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم) (الحشر:10) . فهذه آيات استوفت الصحابة رضي الله عنهم وكلها شاهدة بفضلهم، ولو لم يكن من فضلهم إلا أنهم الذين سبقوا إلى الإيمان، وصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم فازوا بصحبته وحملوا شريعته، وتعلموا منه الأحكام ونقلوا إلى الأمة ما تحملوه، ولهم فضل على من بعدهم حيث إنهم حفظوا هذه الشريعة. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية: لا يدرك فضلهم فيها، وما بذلوه من الأموال والأنفس؛ حيث بذلوا أموالهم في سبيل الله تعالى، ورخصت عندهم بلادهم وأولادهم وأحفادهم وأقاربهم، وكل ما يملكونه أنفقوه كله في سبيل الله تعالى. ثم قاموا بالجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك بعده في عهد الخلفاء الراشدين، فتح الله بهم القلوب، وفتح بهم البلاد، وامتدت بهم رقعة الإسلام، وفتحوا أقاصي البلاد وأدانيها، ودعوا إلى الله تعالى، ودخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب دعوتهم وإعانة الله تعالى لهم وتوفيقهم، لا شك أن هذا لا يدركهم فيه من بعدهم، وهذا يعمهم جميعاً. ومعلوم أن هذا الذي أثنى الله به عليهم ثابت لهم، ووعد من الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد. ولكن الرافضة يدعون أنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يبايعوا علياً، وجحدوا الوصية المزعومة؛ حيث يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن علياً هو الخليفة بعده. وقد ذكر الله فضل السابقين الأولين، وأن فضل أحدهم لا يدركه من بعدهم، ولهذا سماهم الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأثنى عليهم، فلا شك أن هذا دليل على تفاضلهم، وأن الذين هاجروا وصبروا على الذل والقلة والفقر، وصبروا على الشدة ولقوا الأذى من المشركين، وتحملوا ذلك كله، وتحملوا مفارقة أبناء بلادهم وأولادهم، أليس هؤلاء أفضل؟ لا شك أنهم امتازوا على غيرهم بميزة لا يدركهم فيها غيرهم.

ثم أيضاً تفاوتهم أفراداً؛ فأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه خليفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لو تكلمنا عن فضله وميزته وخصائصه لطال بنا المقام. وكذلك خليفته عمر رضي الله عنه، له أيضاً فضل كثير، قد ذكر ابن كثير رحمه الله أنه كتب كتاباً بلغ ثلاثة مجلدات كبار في فضل الشيخين رضي الله عنهما. وابن كثير من المحدثين ومن أهل المعرفة، فلا يذكر إلا ما هو صحيح دون الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ وما ذاك إلا لأن الرافضة كتبوا في فضائل علي مجلدات، ولكنها خرافات مكذوبة لا أصل لها. رأيت عند بعض الأخوة كتاباً استحضره من إيران، من كتب السير الرافضية بلغ خمسة وثلاثين مجلداً، في سيرة أئمتهم الاثنى عشر، يذكر في فضل كل واحد منهم مجلدين أو ثلاثة، ولكن يعتمدون على أسانيد أينما هي أكاذيب يتصورها ثم يسردها، ويوهم أتباعه أنه ورد في فضلهم هذه القصص وهذه الوقائع، وحصل لهم ما حصل وأنهم تعبدوا بتلك العبادات، وأنهم فتحوا وجاهدوا وعلموا من العلوم كذا وكذا!! إذا قرأها الجاهل خيل له أنهم أولياء وأصفياء وصفوة أهل الأرض، وأنه ما كان ولا يكون مثلهم. نحن نقول: الأئمة نعترف بفضلهم، ولكن هذه الأكاذيب ليسوا بحاجة إلهيا. فأهل السنة -والحمد لله- لم يرووا في فضل أئمتهم ولا خلفائهم شيئاً من تلك الأكاذيب والموضوعات، ولا يروون إلا بأسانيد موثقة، وإذا كان هناك أسانيد ضعيفة نبهوا على ضعفها.

فعقيدتنا أن أفضل الأمة أبو بكر، وذلك لأنه صدِّيق الأمة كما نزل فيه قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (الزمر:33) الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق به أبو بكر رضي الله عنه، فلذلك سمي بالصديق لمبالغته في التصديق، وقيل: إن سبب تسميته؛ أنه لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحادثة الإسراء التي استغربها الكفار، قالوا لأبي بكر: إن صاحبك يزعم أنه أُسري به إلى بيت المقدس ورجع في ليلة. فقال: صدق إني أصدقه بأعظم من ذلك، في خبر السماء؛ فمن ثم سمي بالصديق. وفضائله مشهورة، ولو لم يكن إلا أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد صرح الله تعالى بصحبته في قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (التوبة:40) وأي فضيلة أعظم من هذه، (إن الله معناه) المعية الخاصة معية الحفظ والتوفيق، والكلاءة والرعاية، والهداية والإلهام لا يدركها غيره. وهذه الصحبة لا شك أنه امتاز بها، وكذلك الرفقة؛ كونه اختار أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاه إحدى راحلتيه ولكنه بذل الثمن، ثم مشى معه وصار يحرسه في طريقه، ويحرص على أن لا يراه أحد إلى أن وصل إلى المدينة وهو ثاني اثنين إذ هما في الغار. ثم ما عرف أنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ولا في سرية أبداً، بل دائماً هو في صحبته، وكذلك أيضاً: أنابه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج في سنة تسع من الهجرة، وأمّره على الحجيج وأرسل علياً ليبلغ أول سورة براءة. والرافضة يقولون: إنه عزله في هذه الغزوة وأمّر علياً، ومن أجل ذلك يعلنون البراءة في اليوم السابع من شهر ذي الحجة وفي المشاعر - يقولون: نحن نبلغ مثل ما بلغ علي هذه البراءة التي يعلنونها قبل يوم التربوية بيوم، وكذبوا على علي رضي الله عنه، فإنه ما بلغها إلا في تلك السنة هو وغيره ممن بلغوها.

ومن فضله أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعوا على بيعتته ورضوا به خليفة وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه في الصلاة لما مرض وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فألزمه بأن يصلي بالناس، وصلى بهم عدة أيام واستمر على الصلاة بهم. ولما توفي صلى الله عليه وسلم لديننا. إذ اختاره لديننا إماماً في الصلاة، فإننا نرضاه أن يكون خليفة لدنيانا وأميراً لشؤوننا. والأدلة على خلافته كثيرة، والسيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء استوفى كثيراً من الأدلة التي فيها إشارات أو فيها دلالات واضحة على أنه هو الخليفة، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولا شك أنه أولهم، وكذلك ثبت قوله عليه السلام: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) . ثم بعده بالفضل: عمر رضي الله عنه، وسمي الفاروق؛ فاروق الأمة الذي فرق الله بإسلامه بين الحق والباطل، وأظهر الله بإسلامه الإسلام، وقوي المسلمون بعد أن أسلم، وكان صارماً بطلاً شجاعاً قوياً في أمر الله تعالى. أسلم رضي الله عنه بمكة، ولما أسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألسنا على حق؟ قال: (بلى) ، قال: فلماذا نستخفي؟ فشجعهم وخرجوا، وقد كانوا يتعبدون ويصلون في دار ابن أبي الأرقم، فقال: سوف نصلي في المسجد الحرام رغم من أنكر علينا. فخرجوا في صفين، في أحدهما حمزة وفي الآخر عمر، فلما رآهم المشركون أصابهم اليأس والحزن حيث عرفوا أن الإسلام قوي بإسلام عمر رضي الله عنه. هاجر رضي الله عنه مع جملة من المهاجرين، وصبر ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وسافر معه، وصار معه دائماً، وصار قرينه لا يفارقه، وبقي كذلك إلى أن استخلفه أبو بكر لما حضره الموت فقام بالأمر من بعده خير القيام كما هو معروف، ولما توفي دفن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم بعده في الفضل: عثمان رضي الله عنه، ولا شك أيضاً أنه من المهاجرين الأولين ومن المسلمين القدامى، ويسمى: (ذو النورين) لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه أولاً ابنته رقية، وتخلف عن غزوة بدر لتمريضها ثم توفيت، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم زوجة أختها أم كلثوم، وبقيت أيضاً حتى توفيت عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان عندنا بنت ثالثة لزوجناها عثمان) ، فلم يحظ أحد بمثل ما حظي به، فلذلك سمي: (ذو النورين) . ثم بعده في الفضل: علي رضي الله عنه، ولا شك في صحة خلافته، لما قتل عثمان رضي الله عنه لم يكن هناك أحد أحق بالخلافة من علي، فتمت له البيعة، إلا إنه خرج عليه من خرج للمطالبة بدم عثمان؛ كأهل الشام وأهل العراق ونحوهم، ثم اختلفت الأمة عليه إلى أن قتل. وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الأربعة، وقد ورد تحديد مدتهم في حديث سفينة في قوله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك) . والأدلة على ترتيبهم هذه الآثار مثل حديث ابن عمر يقول: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان -يعني في الفضل- فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) يعني نرتبهم نقول: أبو بكر أفضل، ويليه عمر، ويليه عثمان، ولا ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. والآثار عن علي فيها أنه خطب على المنبر في الكوفة فقال: (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث) قالوا: إنه يريد نفسه أو يريد عثمان. الله أعلم. ولكن مشهور عنه فيما يشبه المتواتر، ومروي عنه من نحو عشرين طريقاً أنه صرح بأن أفضل الأمة أبو بكر، ثم عمر.

فأين الرافضة من هذا؟ لا شك أنهم لو كانوا ذوي عقول لقبلوا ما قاله علي؛ الذي هو عندهم الإمام، وهو الخليفة المعتبر بزعمهم، ومع ذلك تأتيهم كلماته الصحيحة الصادقة الثابتة فلا يقبلونها، ويقبلون الأكاذيب التي يبتدعها بعض غلاتهم ويصدقونها، فأين هؤلاء وأين عقولهم؟ لا شك أنا إذا تأملنا ما جاء عنه، وما جاء عن الصحابة، وما جاء في هذه الأحاديث التي فيها فضائل الصحابة رضي الله عنهم وميزتهم وما حباهم الله وما لهم من الفضائل؛ نجد أنها كلها تبطل غلو هؤلاء الرافضة في أهل البيت -كما يقولون- وسبهم وتنقصهم لخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين زكاهم وشهد بفضلهم. وهذه الأحاديث أيضاً منها ما هو مرفوع كما سمعنا في حديث أبي الدرداء؛ فهو صريح في فضل الشيخين أبي بكر وعمر، وفيه أن الشمس لم تغرب على مثل هذين الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. لا شك أن فضائلهم كثيرة، والمسلم عندما يسمع هذه الفضائل يعرف أن لهم من الفضل ما يحملهم على أن يكونوا أسوة وقدوة، وأنهم تصدق أقوالهم ويقتدى بهم لأنا نزكيهم ونشهد بأنهم حملة العلم وحملة الشريعة والسابقون من هذه الأمة، فلا يجوز أن نسمع لمن يطعن فيهم أو ينتقصهم، ولا أن نرد شيئاً من أقوالهم إلا الأقوال التي يجتهدون فيها ويكونون مخطئين مخالفين لنص صريح لم يبلغهم، فنعتذر عنهم ونقبل الحق ممن جاء به. قوله: ثم من بعده عمر رضي الله عنه؛ لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه. وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) فكان آخرها خلافة علي رضي الله عنه. شرح:

تقدم ذكر ترتيب الخلفاء رضي الله عنهم، أولاً: ترتيبهم في الفضل، وثانياً: ترتيبهم في الخلافة، والصحيح أن ترتيبهم في الفضل وترتيبهم في الخلافة على حد سواء. فالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وأفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر فصار أبو بكر هو الأفضل وهو الخليفة. وأفضل الأمة بعد أبي بكر: عمر؛ فقد حاز الفضل بعد أبي بكر -الفضل بمعنى الرتبة والميزة والفضيلة والشرف والأجر على قدر عمله، ولو كان هناك من أسلم قبله. فإن عثمان أسلم قبل عمر وكذلك علي أسلم قبل عمر، والزبير وسعد وغيرهم أسلموا قبله، ولكن إسلامه كان فتحاً ونصراً، وخلافته كانت عزاً للإسلام وتمكيناً له. والأحاديث التي وردت في فضله لم ترد في غيره، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً الأسلك فجا غير فجك) يعني أن الشيطان يهرب منه، وفضائله أيضاً كثيرة. فأفضل الأمة بعد أبي بكر عمر، وهو أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر، أو الخلافة الصحيحة بعد أبي بكر خلافة عمر. واقتنع به المسلمون وبايعوه، وتمت البيعة ولم يشذ أحدٌ عن طاعته أو ينكر عليه أو يخرج عن طاعته، وسيرته تدل على أهليته وصلاحه رضي الله عنه. ثم الخليفة بعد عمر عثمان -كما هو الواقع- وذلك لأن عمر رضي الله عنه جعله من أهل الشورى، وأهل الشورى اتفقوا على تقديمه، وتمت البيعة له، وبايعه علي، وبايعه عبد الرحمن، وسعد، والزبير، وسائر الصحابة وسائر المسلمين، وتمت الخلافة له. إذاً فالخليفة بعد عمر عثمان- رضي الله عنه. وهل الأفضل بعد عمر -عثمان أو علي؟ فيه خلاف بين العلماء، وسبب الخلاف أن هناك من فضل عثمان على علي؛ واستدل بحديث ابن عمر الذي يقول فيه: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) وجاء الحديث أنه يلي عمر في الأفضلية.

ومنهم من فضل علياً على عثمان؛ واستدل بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أفضل هذه الأمة بعد نبيها، أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث) . قالوا: يعني نفسه. وسأله مرةً ابنه الحسن وقال: (يا أبت؛ من أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر. قال: فخشيت أن يقول عثمان؛ فقلت: ثم أنت؟ فقال: ما أبوك إلا رجل من المسلمين) . قال ذلك على وجه التواضع منه رضي الله عنه. فلا شك في فضل الشيخين، ثم اختلف في الثالث؛ فمنهم من ثلث بعلي، ومنهم من ثلث بعثمان، وأما في الخلافة فإنهم مرتبون: أبو بكر الخليفة، ثم يليه عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم جميعاً. وأما حديث سفينة فقد ذكرنا أنه يشير فيه إلى أن الخلافة ثلاثون سنة ولكن إذا عرفنا أن خلافة أبي بكر سنتين ونصفاً، وخلافة وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة فهذه خمس وعشرون سنة إلا أشهر أو خلافة عمر عشر سنوات، وخلافة علي خمس سنوات، فيبقى منها نحو نصف سنة يكملها خلافة الحسن بن علي ستة أشهر، فتكون ثلاثين سنة، وينطبق عليها الحديث (الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً ... ) . مسألة: في العشرة المبشرين بالجنة قوله: ونشهد للعشرة بالجنة، كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) . وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ، وقوله لثابت بن قيس: (إنه من أهل الجنة) رواه البخاري في المناقب. شرح:

في هذه الفقرة من المتن تزكية لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، ورد بليغ على من طعن فيهم أو ضللهم -كما ذكرنا عن الرافضة- وقد ذكر شارح الطحاوية أن الرافضة يكرهون اسم العشرة ولا يحبونه، وذلك لأن هؤلاء العشرة عندهم كفار أو ضلال باستثناء علي رضي الله عنه؛ فلأجل ذلك لا يحبون لفظ العشرة، مما يدل على أنهم كفروا جُلَّ الصحابة وما استثنوا منهم إلا أفراداً قليلين. ولكن رد عليهم شارح الطحاوية مبيناً تناقضهم؛ فذكر أنهم لا يكفرون العشرة إنما يكفرون تسعة منهم، فهم لا يكرهون لفظ التسعة وإنما يكرهون لفظ العشرة، ومع ذلك يُخرجون علياً من هؤلاء العشرة فلا يبقى عندهم إلا التسعة الباقون. هؤلاء العشرة ثبت فيهم الحديث الذي ساقه ابن قدامة رحمه الله، ورواه الإمام أحمد وغيره عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو أحد العشرة وهو ابن عم عمر بن الخطاب، فعمر هو: عمر بن الخطاب بن نفيل ابن عم زيد بن عمرو بن نفيل- أبو سعيد هذا. فهؤلاء العشرة من المهاجرين، ومن أشراف قريش ومن مشاهيرهم، وليسوا كلهم من أهل البيت الذين اصطلح الرافضة على أنهم أهل البيت، إذ للرافضة اصطلاح خاص بأهل البيت غير ما هو مقرر عند أهل السنة، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- عندهم لسن من أهل البيت، وعمه العباس وذريته عندهم ليسوا من أهل البيت، مع أن العباس أقرب من علي. وكذلك جعفر وذريته ليسوا من أهل البيت، فأهل البيت عندهم فقط علي والحسن والحسين وذريتهما. والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهؤلاء العشرة بالجنّة؛ الأربعة الخلفاء والستة الباقون منهم، وقد نظمهم ابن أبي داود في قصيدته المشهورة في قوله: سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةٌ وعامرُ فهر والزبير الممدَّحُ يعني الستة: فسعيد: هو ابن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو راوي الحديث.

وسعد: هو ابن أبي وقاص الزهري، من بني زهرة، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم. وعبد الرحمن بن عوف: وهو أيضاً من بني زهرة من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم. وطلحة: هو ابن عبيد الله، من بني تيم الذين منهم أبو بكر رضي الله عنه. والزبير: هو ابن العوام، من بني أسد بن عبد العزى بن عبد مناف. وأما عامر: فهو أبو عبيدة بن الجراح من بني فهر. وهؤلاء من المهاجرين، ومن أشراف قريش، ومن المسلمين قديماً، شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في الجنّة، ومعلوم أنه لا يشهد لهم إلا وقد أطلعه الله بأنهم يموتون على الإسلام وعلى السنة، وأنهم يدخلون الجنّة. ولو كانوا ارتدوا -كما تقول الرافضة - لم يشهد لهم بالجنّة، فالرافضة تدعي أنهم ارتدوا بردهم علياً -كما يقولون- عن حقه الذي هو الولاية، وتدعي أنهم أعداء ألدَّاء لعلي، ثم بعد ذلك تحكم على كل من والاهم بأنه كافر؛ لأنه بزعمهم لا يمكن أن يحب علياً. وعند الرافضة أنه: لا ولاء إلا ببراء، يقولون: لا يمكن أن نتولى علياً إلا بعد أن نتبرأ من أبي بكر وعمر وعثمان وسعد وسعيد وسائر الصحابة، فإذا توليت هؤلاء فقد آذيت علياً، فأبو بكر عندهم طلب الخلافة واستبدّ بها، وأخذها من صاحبها فلذلك ضللوه وكفروه، وعمر كذلك أيضاً أخذ الخلافة بعد أبي بكر وهي ليست له، وعثمان أخذ الخلافة وهي ليست له، حتى إني قرأت لبعض المتأخرين أنه يمتدح بأن شيعتنا وأنصارنا هم الذين ثاروا على عثمان وقتلوه، وردوا الأمر إلى أهله يعني إلى علي وهو أحق بالخلافة. أما عبدا لرحمن - فيقولون: إنه الذي أخذ البيعة لعثمان، فيحكمون بأنه مرتد، أما طلحة والزبير؛ فيدعون أنهما قاتلا علياً في وقعة الجمل. والحق أنه عندما قُتل عثمان كان هؤلاء بمكة، فذهبوا إلى العراق ليدركوا قتلة عثمان، ولكن أدركهم علي فحصلت وقعة الجمل، فقتل فيها طلحة والزبير.

فكل واحد من هؤلاء يطعنون فيه طعناً، ويدعون فيه دعوى، وأهل السنة يشهدون لهم بالجنّة بسابقتهم وفضلهم، وكذلك بموجب هجرتهم، وبموجب شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بها شهادة، ولا يعتبرون بكلام من أخل بحقهم أو طعن فيهم. وهكذا أيضاً نشهد لكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنّة كقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة) ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانا طفلين صغيرين، توفي وهما دون العاشرة، ولكن يبعثون يوم القيامة مع سائر الأمة في سن الشباب، وشهد لهما بأنهما سيدا شباب أهل الجنّة، وشهد لأمهما فاطمة أنها سيدة نساء أهل الجنّة، فنشهد لهما بذلك، ونشهد لأمهما بأنها من أهل الجنّة. أما قصة ثابت بن قيس: فإنه كان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعلن أمراً من الأمور أو يتكلم بأمر من الأمور أمره بأن يخطب ويضمن خطبته ذلك المعنى، وكان جهوري الصوت، فلما نزل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (الحجرات:2) خاف أن تكون هذه الآية تنطبق عليه لأنه كان يرفع صوته؛ كان جهورياً. فجلس يبكي في بيته يومين أو ثلاثة، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه، فذكروا له مقالته أنه يقول: إني أرفع صوتي وإني خشيت أن يكون حبط عملي وإني من أهل النار، فرد النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليقول له: إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنّة) ، وكانت خاتمته أنه قتل شهيداً في وقعة اليمامة في قتال مسيلمة، فصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنّة. أما غيره ممن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنّة فكثير، فمنهم بلال الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني سمعت دف نعليك في الجنّة) ، وسأله عن أرجى عمله، فهذه أيضاً شهادة لبلال بأنه من أهل الجنة.

وكذلك عكاشة بن محصن، لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سبعين الألف الذين يدخلون الجنّة بغير حساب، فقال عكاشة: ادع الله يا رسول الله أن أكون منهم. فقال: (اللهم اجعله منهم) . وقتل عكاشة في قتال بني أسد الذين ارتدوا، وكان هو من بني أسد، قتل شهيداً فانطبق عليه أنه من الذين قتلوا في سبيل الله. وغيرهم كثير، ومن أشهرهم عبد الله بن سلام الذي كان من اليهود فأسلم في أول الهجرة، وفي حديث سعد بن أبي وقاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يطلع رجل يأكل من هذه القصعة من أهل الجنّة ... فجاء عبد الله ابن سلام) ، ثم إن كل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنّة فإنا نشهد له بذلك. قوله: ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنا نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء. ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل. شرح: هذا من جملة العقيدة، يدخلون هذا في أسماء الإيمان والدين، وقد تقدم الكلام على الإيمان، وأن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وأن المؤمنين الذين يدينون بهذا الإيمان نشهد لهم بالإيمان ولو عملوا ما عملوا من المعاصي، فلا نخرجهم من الإيمان، ولكن لا نشهد لهم بالجنّة لا نشهد لأحد معين بالجنّة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أو ثبت ذلك منه، فقد تقدم ذكر من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم كثير.

ذكر الشيخ ابن سلمان في شرح الواسطية (الكواشف الجلية) أكثر من خمسين ممن وردت فيهم أحاديث تبشرهم بالجنة -وإن كان بعضها فيه ضعف، فنحن لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن نرجو للمحسنين، فإذا رأينا أهل الإحسان، وأهل الإيمان والتقى، وأهل الخير والصلاح، وأهل الاستقامة، وأهل العقيدة السلفية السليمة، وأهل الأعمال الصاحلة قلنا: نرجوا أن هؤلاء من أهل الجنّة وأن الله لا يشقيهم ولا يحرمهم أجر ثوابهم. فالله تعالى قد وعد - وهو لا يخلف الميعاد بأنه يدخل الجنة أهل الأعمال الصالحة في عدة آيات، كما في قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) (البقرة:82) ، وفي قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) (الحديد:21) . وقد مر بنا بعض من تلك الأدلة، كحديث ابن مسعود المشهور وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ، وذكر مثل ذلك في عمل أهل النار، وأنه يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فالأعمال بالخواتيم، وهذا هو الذي يحملنا على أننا لا نجزم لمعيّن، ولكن من عرفنا أنه ما ت على الإسلام، وأنه ممن ختم الله له خاتمة حسنة فإننا نرجو له. وكذلك أيضاً الصحابة الذين مدحهم الله تعالى؛ نثني عليهم ونمدحهم كما مدحهم الله؛ قال الله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (الفتح:18) ، فهذا فيه أنه رضي عنهم، وهو سبحانه لا يرضى عن القوم الفاسقين، لابد أنه رضي أقوالهم وعلم ما في قلوبهم وأنهم قد فازوا بهذه الميزة.

وكذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، فهذه أيضاً شهادة لأهل بدر، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وأهل بيعة الرضوان ألف وأربعمائة وزيادة. كل هؤلاء زكاهم الله تعالى، وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك أيضاً التزكية العامة في قوله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان زيادة رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) (التوبة:100) ، فهذه الآية دخل فيها ثلاثة أقسام من الصحابة: المهاجرون، والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم واتبعوهم بإحسان -دخلوا في هذا الوعد، والله تعالى لا يخلف وعده. هذا فيما يتعلق بالشهادة بالجنّة لمن شهد له الله، أو شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. أما الشهادة بالنار لمعين؛ فلا تجوز أيضاً إلا لمن ورد فيه النص، فقد ورد النص مثلاً في أبي لهب (سيصلى ناراً ذات لهب) (المسد:3) ، وكذلك في أبي جهل لما قتل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يوبخه هو ومن معه ويقول: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب أنه (في ضحضاح من نار) والحاصل أن من ورد النص بأنه من أهل النار يُشهد له بذلك. وأما الذين معهم معاص وذنوب، ولكن تلك الذنوب لا تصل إلى حد الكفر، فإننا لا نكفرهم بهذه الذنوب -كما تقدم- ولا نخرجهم من الإسلام بذنوبهم، بل نخاف على المذنب - ونقول: هؤلاء يخاف عليهم من الذنوب- ولو كانت من الصغائر، ونرجو للمحسنين - ولو كان معهم سيئات، ونخاف على المذنبين- ولو كان لهم حسنات. وخوفنا ورجاؤنا لا نحققه؛ فلا نجزم بأن هذا من أهل النار لأنه عمل هذه السيئات، ولا نجزم بأن هذا من أهل الجنّة لأنه عمل هذه الصالحات، بل الحسنات والسيئات من أسباب دخول الجنّة أو دخول النار.

مسألة: في وجوب الجهاد مع كل إمام براً كان أو فاجراً قوله: ونرى الحج والجهاد ماضياً مع طاعة كل إمام براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل. والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال -لا يبطله جَوْر جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار) رواه أبو داود. شرح: قوله: (ولا نكفر أحداً بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل) . ذكرنا أن الذنوب يُخاف على أصحابها، فنخاف على أصحاب هذه الذنوب ولكن خوفنا لا يصل إلى الجزم. كذلك أيضاً؛ فإنه لا يخرج من الإسلام بذنب، لا نخرجه من الإسلام بهذا الذنب. وإذا قيل: ما المراد بأهل القبلة؟ فنقول: هم كل من يستقبلون القبلة التي هي البيت الحرام، سواءً يستقبلونها في صلاتهم أو في أدعيتهم أو يستقبلونها بقلوبهم كما في قوله تعالى: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) (إبراهيم:37) ؛ يسمون أهل القبلة لأنهم يهوون إليه، وكذلك سفرهم إليها لأداء المناسك، فهؤلاء أهل القبلة ما دام أنهم يصلون صلاتنا، ويستقبلون قبلتنا، ويأكلون ذبائحنا، ويشهدون بشهادتنا. لكن إذا حدث عندهم شيء من النقص وشيء من الخلل فلا نخرجهم بهذا النقص ولا بهذا الخلل عن دائرة الإسلام، ولا نشهد لهم بالإيمان بل نقول: هم مسلمون. وإيمانهم الذي معهم قد يكون إيماناً ظاهراً، قد لا يكون محققاً في كل فرد منهم لقوله تعالى في الأعراب: (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات:14) . نشهد لهم بأنهم من جملة المسلمين ومن الأمة الإسلامية، ونمتنع عن التكفير أو التنسيق، وكذلك نحث على الأعمال الصالحة وعلى التوبة من الأعمال السيئة.

أما الجهاد والحج مع الأئمة؛ فإن هذا أيضاً من جملة عقيدة المسلمين، ويستدل على ذلك بهذا الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الجهاد ما ضٍ مع كل بر وفاجر حتى يقاتل آخرٌ الأمة الدجال، وأنه لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. يعني أن الأمة عليهم أن يجاهدوا من كفر بالله ومن خرج عن الإسلام -ولو كان ذلك القائد أو الأمير أو الوالي عاصياً أو فاسقاً أو مخلاً بشيء من العبادات والطاعات، فإن الجهاد معه فيه نصرٌ للإسلام والمسلمين. وكذلك الحج؛ فكثيراً ما يكون تحت ولاية بعض الأمراء والعصاة، فيصح الحج مع كل أمير براً كان أو فاجراً، وسبب ذلك أنهم في القرون الماضية كانوا لا يحجون إلا مع أمير يكون على الحجاج ويجتمعون حوله ليأمنوا من قطاع الطريق، ففي الطريق أعراب يقطعون الطريق إذا كان الحجاج متفرقين ليس معهم من يجتمعون معه. فيخرج الحجاج مثلاً من العراق والبحرين والأحساء وما حولها كلهم يجتمعون ويصير عليهم أمير، ويتوجهون إلى الحجاز، ففي أثناء الطريق إذا كانوا متفرقين تقوم عليهم الأعراب وتقاتلهم وتسلبهم رواحلهم وأمتعتهم، فإذا كان معهم أمير يجتمعون عليه هابه الأعراب ولم يقدروا على قتاله، فمن أجل ذلك نقول: إن الحج معه ولو كان عاصياً فيه خير. فقد يوجد من أمراء الجيوش وأمراء الحجاج من يشرب الخمر، أو يسمع الأغاني ونحوها، أو يؤخر الصلاة عن وقتها كصلاة العصر مثلاً، وما أشبهها، فيقول بعضهم: كيف نحج مع هذا الذي يشرب الخمر؟ نقول: ما دام أن فيه مصلحة وأن فيه نفعاً للمسلمين، حيث يأمنون معه على أنفسهم وعلى مناسكهم، وعبادتهم؛ فإن هذا خير، ووجوده خير من عدمه. مع أن الغالب أن أمير الحاج يكون من المتمسكين والعابدين وأهل الخير والصلاح، أو من العلماء العباد.

وهكذا يقال في الجهاد: الأمير الذي يكون على المجاهدين غالباً يكون من أهل الخير والصلاح، ولا شك أن فيه منفعة ومصلحة للمسلمين، وذلك لأن الجهاد فيه إعلاء لكلمة الله تعالى، وفيه رفع للإسلام وإعزاز له. والغالب أنه إذا كان أميره حازماً شديد البأس قوي التفكير؛ أنه يكون أحزم للجيش وأضبط له، فإنه يحيطهم برعايته ويراقبهم، ويعرف لهم الأماكن التي يسكنون فيها وينزلون فيها، ويدبرهم أحسن تدبير، فينتصرون على عدوهم ويظفرون على من قاتلهم، ويكون ذلك الحازم سبباً في انتصار الإسلام والمسلمين، فإذاً نقاتل معه، ولو حصل منه بعض الخلل ولو ارتكب بعض الذنوب، فإن وجوده خير من عدمه وخير من أن يتفلتوا ويتفرقوا فيظفر بهم الأعداء. إذاً فالجهاد ما ض خلف كل أمير ومع كل أمير، والحج ماض خلف كل أمير ومع كل أمير؛ براً كان أو فاجراً للمصلحة العامة. ويستثنى من ذلك إذا كان كافراً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) ، فلا يجوز أن يمكن الكافر الذي أعلن كفره من الغزو مع المسلمين ولو كان قد يقاتل حمية مع المسلمين أو عصبية أو نحو ذلك، لأن الكافر لا يجوز اقراره أو اقرار ولا يته على المسلمين، لأنه لا يُؤمن أن يكون كيده على المسلمين، أما إذا كان عاصياً -مجرد معصية- فالمعاصي والكبائر ونحوها لا يخرج بها صاحبها من الإسلام، بل هو باق على دينه. وحيث إننا في هذه الأزمنة قد اختلفت الأحوال بالنسبة إلى الحج، فأمنت الطرق -والحمد لله- فصار كل يحج من جهته، ولا يحتاجون إلى أن يكون هناك أمير يجمع الجويش أهل الجنوب من جهتهم، وأهل الشمال من جهتهم، وأهل الشرق، وأهل الغرب، يأتون من طرق مختلفة في البواخر وفي الطائرات وفي السيارات من كل جهة ولا يحتاجون إلى وال.

وكذلك أيضاً في نفس المناسك لا حاجة بأن يكون لهم أميرٌ يتبعونه أو يسيرون معه كما كانوا سابقاً؛ ففي حديث ابن عمر أنه سأله سائل وقال: (متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك) . وهذا يدل على أنهم كانوا يتقيدون بالأمير فلا يرمون إلا إذا رمى، ولا يدفعون إلا إذا دفع، وأما الآن فالأمر فيه سعة ما دام أنهم قد عرفوا المناسك. أما في الجهاد وسفره فالأمر مختلف، ومعلوم أن هناك جهاداً في كثير من البلاد الإسلامية، وأنهم بحاجة إلى أن يكون عليهم أمير على كل سرية أو على كل جيش يقاتلون به، ولو كان هذا الأمير غير مولى من جهة الأمير العام أو من جهة الملك أو الخليفة إنما هو مولىمن جهته في ولاية خاصة، فإن طاعته في تدبير الجيوش وعدم التفرق تعتبر من طاعة الله، لما في ذلك من المصلحة المحققة التي يتحقق بسببها نصر الإسلام والمسلمين بإذن الله. مسألة: عقيدة السلف في الصحابة رضي الله عنهم وما حدث بينهم قوله: ومن السُّنَّة تولِّي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم. واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم. قال تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) (الحشر:10) . وقال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح:29) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه) . شرح: واجب الصحابة: أولاً: محبتهم محبة قلبية لسبقهم وإيمانهم وفضلهم على الأمة بعدهم. ثانياً: الترضي عنهم كما رضي الله عنهم في قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (الفتح:18) ، وفي قوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه (التوبة:100) .

فإذا ذكرت الصحابة تأتي بعدهم بالترضي فتقول: قال أنس رضي الله عنه، قال جابر رضي الله عنه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك دعاء لهما بالرضى، يعني عنه وعن أبيه أن يتجدد الرضى عنهما وعن الصحابة أجمعين في كل حين، ولك أجر على هذا الترضي. ثالثاً: ذكر محاسنهم، يعني إفشاءها ونشرها، وذكر فضائلهم، وقد اعتنى العلماء بذلك لما رأوا أن الرافضة يكذبون عليهم ويطعنون فيهم قالوا: لابد أن نهتم بفضائل الصحابة. فالبخاري في صحيحه جعل كتاباً في الفضائل، وابتدأه بفضائل أبي بكر، ثم بفضائل عمر ثم بفضائل عثمان، ثم بفضائل علي، واستمر في ذكر فضائل الصحابة الذين وردت لهم فضائل على شرطه. وهكذا الإمام مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم سرد الفضائل التي على شرطه، وبدأ بفضائل الخلفاء الراشدين مبتدئاً بأبي بكر رضي الله عنه ومن بعده، واستمر في ذكر فضائل الصحابة رجالاً ونساءً، أفراداً وجماعات. وهكذا الإمام الترمذي في سننه، ذكر فيه فضائل الصحابة وأطال في ذكر فضائلهم ومحاسنهم، وأفردها أيضاً كثير من العلماء، منهم الإمام أحمد له كتاب مطبوع في مجلدين عنوانه (فضائل الصحابة) رضي الله عنهم) . ثم إن فضائلهم التي تذكر جاء كثير منها في القرآن الذي نص على فضلهم. فمن معتقد أهل السنة والجماعة أن ينشروا فضائل الصحابة، وأن يكثروا من ذكرها، وأن يتبادلوها في المجالس، وأن يتكلموا بها في المحافل وفي المجتمعات، حتى يعرفهم الخاص والعام وحتى تنتشر لهم الذكرى الحسنة، وحتى يكون ذلك رداً وإبطالاً لما يفتريه عليهم أعداؤهم. أما مساوئهم فإننا نكف عنها ولا نتكلم فيها.

وقد يقول بعض الأعداء كالرافضة: إنهم فعلوا وإنهم فعلوا؛ ويعدونها مثالب ومعايب يقدحون بها فيهم، ومن قرأ كتب هؤلاء الرافضة رآها ممتلئة بمثل هذه المثالب. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية القول في هذا المساوئ، وذكر أن منها ما هو كذب مفترى لا أصل له فلا يلتفت إليه، ومنها ما هو مغير قد زيد فيه ونقص منه، وغير عن وضعه حتى توهمه من يسمعه أنه مثلبة ومنقصة، وهو في الحقيقة مدح وثناء، ولكن الأعداء يصوغونه بصياغة يؤخذ منها العيب وهو في الحقيقة مدح، والأمثلة على ذلك كثيرة أيضاً. رأيت لبعض المتأخرين كتاباً في مجلدين ينشره الرافضة ويوزعونه عنوانه (ثم اهتديت) أو (رجال آمنوا) ، والعجب من أمره أنه يجعل كثيراً من المحاسن مساوئ، ويدعي أنها مثالب ويبالغ في القدح فيها، فمنها اعتراض عمر رضي الله عنه على صلح الحديبية، فهل هذا يعتبر طعناً فيه؟ إنه تحمس لما رأى الصلح قد تم على تلك الشروط، وكان يحب أن يقتحم المسلمون البلاد وأن يقاتلوا ولو قتلوا، وكان مما ساءه ذلك الشرط الذي فيه؛ أن من جاء مسلماً فإنه يرد. فأخذ الكاتب المذكور يكيل لعمر من السب في اعتراضه على هذا الحكم. ويقال أيضاً أن علياً رضي الله عنه من جملة الذين اعترضوا في ذلك حتى إنه لما قيل له: (امح "رسول الله") . امتنع عن ذلك وقال: (لا والله لا أمحوك أبداً) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره، ولكن لم يجعلوا هذا الامتناع عيباً. فلا شك أن فعل عمر رضي الله عنه مدحٌ له، لأنه دليل على حماسته ودليل على غيرته، ثم إنه بعد ذلك وافق رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي به وقال: (فعملت لذلك أعمالاً) .

كذلك أيضاً من جملة ما يطعنون به في عمر رضي الله عنه؛ اعتراضه على الكتاب الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (ائتوني بكتاب أكتبه لكم لا تضلون بعده أبداً) وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرهقه المرض، فرفق عمر رضي الله عنه به، وقال: إنه قد بلغ به ما ترون، وعندنا كتاب الله حسبنا. فالرافضة حملوا على عمر حملة شنعاء، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يكتب الولاية لعلي، ولكن عمر خاف أن تكتب لعلي؛ فنهى عن كتابتها، فصده عن أن يكتب هذا الكتاب هكذا حملوه هذا المحمل؛ مع إنه ما فعل ذلك إلا رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهل يكون هذا قدحاً في عدالته؟ حاشى وكلا، ولكنهم يغيّرون، وبذلك نعرف أن ما يوردونه من المثالب ومن المساوئ مصوغ صياغة فيها قدح مع أنها في الحقيقة مدح. فنحن نحب الصحابة ونترحم عليهم، ونكف عما شجر بينهم من الاختلاف، والاختلاف الذي حدث بينهم؛ إما اختلاف في المسائل الفقهية، وهذا يحدث كثيراً بين أهل الاجتهاد، ومع ذلك هم متآخون متحابون ولو حصل بينهم شيء من الاختلاف. فقد اختلفوا مثلاً في الحاج: هل يفضل له أن يحرم مفرداً، أو يحرم قارناً، أو يحرم متمتعاً؟ ومع ذلك فهذا الاختلاف ما أدى بهم إلى بغضاء؛ ولا إلى احتقار بعضهم لبعض، ولا إلى مقاطعة، ولكنه من باب الاجتهاد.

وهناك مسائل كثيرة وقع فيها اختلاف من جنس هذا، ومثل هذا لا يعد قدحاً فيهم إنما هو اختلاف في مسائل فقهية اختلف فيها أيضاً من بعدهم، وكان سبب الاختلاف كثرة الأدلة وتنوعها، أو النظر فيها. يقول شيخ الإسلام: إنهم في هذه المسائل التي اختلفوا فيها معذورون، فهم إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، فإن كانوا مصيبين فلهم أجران، وإن كانوا مخطئين فلهم أجرٌ على الاجتهاد، وخطؤهم مغفور. فإذا كان أحدهم قد صدر منه ذنب حقيقي فيقول شيخ الإسلام: لعله قد تاب منه، والتوبة تجب ما قبلها، أو لعله غفر له بفضل سوابقه، فلهم سوابق لا يدركها من بعدهم، أو لعله غفر له بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والصحبة أيضاً عمل يختص بهم، أو لعله يغفر لهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم فإنهم أحق بها من غيرهم؛ وذلك لتميزهم بالصحبة له. وبكل حال فهذا الذي يقال عما صدر منهم. أما الذي شجر بينهم من القتال -كالذي حصل بين علي ومن خالفه في وقعة الجمل، فنكف عن هذا ونعذرهم. فإن علياً رضي الله عنه قاتلهم لجمع الكلمة، وهم ما قصدوا قتال علي؛ فالزبير، وطلحة، وعائشة ومن معهم قصدوا قتال البغاة، أو الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، هؤلاء يطالبون بقتلة عثمان، وهو يطالب بجمع الكلمة. وكوقعة صفين التي كانت بين أهل الشام وأهل العراق، والتي قتل فيها خلقُ كثير، هذه أيضاً فتنة من الفتن التي حدثت بينهم، نكف عنها ونقول: إن كلاً منهم مجتهد. وملخصها أن معاوية ومعه عمرو بن العاص، ومعه من معه من الصحابة في جانب يطالبون بدم عثمان ويقولون لعلي: سلّم لنا قتلة عثمان وعليٌّ في جانب يقول لهم: بايعوني حتى تجتمع الكلمة، وحتى تقوى الشوكة، ومن ثم أنا وأنتم نأخذ قتلة عثمان واحداً واحداً.

ولكن اختلفوا على ذلك فحصلت هذه الواقعة، وموقفنا الذي نعتقده أن نكل أمرهم إلى الله فلا نسبهم، بل نعذرهم بهذا الاجتهاد، ولا نعيب واحداً منهم، هذا هو القول الصحيح. والآيات التي وردت في فضلهم -كالآيات التي ساقها المؤلف- تدل على مميزات لهم: الآية الأولى: قوله تعالى في سورة الحشر: (ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنا) (الحشر:10) ، فالغل هو الحقد، فكل من جاء بعد الصحابة يمدحهم، ويقول هذه المقالة فإنه من جملة الذين يغفر لهم -إن شاء الله- ويستجاب فيه دعاؤهم. أما الآية الثانية: في قوله تعالى: (محمدُ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح:29) ، هذا الوصف ميزة لهم وفضيلة: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح:29) . وقد مدحهم بعض الشعراء بقوله: في الليل رهبانٌ وعند قتالهم لعدوهم من أشجع الأبطال ففي الليل رهبان يصلون يتهجدون، وعند لقائهم العدو أبطال وشجعان، فهم فيما بينهم متآخون ومتحابون كما وصفهم الله تعالى بقوله: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (المائدة:54) . وهذه الآية اشتملت على ستة من فضائلهم الكثيرة.

أما الحديث؛ فقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما وقعت خصومة بين بعض المتقدمين من الصحابة، وبعض المتأخرين، بين خالد بن الوليد وهو من مسلمة الفتح وبين عبد الرحمن بن عوف وهو من المهاجرين الأولين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه: (لا تسبوا أصحابي -يعني المتقدمين-، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد -وهو الجبل المعروف في المدينة- ذهبا -لم يقل طعاماً- ما بلغ مد أحدهم -سواء مداً من ذهب، أو مداً من طعام- ولا نصيفه) يعني نصيف المد الذي هو ربع الصاع، والمد ملء الكفين المتوسطتين، ونصفه قد يكون ملء الكف الواحدة أو نحوها، فمتى يدرك أحدٌ فضلهم، ومتى يلحقهم غيرهم؟ رضي الله عنهم. مسألة: عقيدة السلف في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ومن السنة: الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصد يقة بنت الصديق التي برّأها الله في كتابه -زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فمن قذفها بما برّأها الله منه فقد كفر بالله العظيم. ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين. شرح: ذكر أيضاً أن من السنة الترضي عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد زكاهن الله تعالى وطهرهن، وخيَّرهن، ونزل فيهن ما يدل على فضلهن وعلى سبقهن، وعلى ميزات كثيرة، فمن السنة الترضي عنهن وذكر محاسنهن وفضلهن وميزاتهن. ومن ذلك أن الله تعالى خيرهن بين الدنيا والآخرة فاخترن الآخرة، وذلك لما نزل قول الله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكنَّ أجراً عظيماً) (الأجزاء:28-29) .

لو قالت إحداهن: أريد الدنيا وأريد زينتها لسرحها سراحاً جميلاً ولفارقها، ولكن كلهن رضين بالخصلة الثانية، أردن الله ورسوله والدار الآخرة، من أجل ذلك صبرن على العيشة الضيقة حتى كان يأتي عليهن شهرٌ أو شهران لا يوقد في بيوتهن نارٌ، إنما هو الأسودان التمر والماء، صبرن على ذلك لأنهن قلن: نريد الله ورسوله والدار الآخرة ولا نريد زينة الدنيا ولا نريد زهرة الدنيا. وقال تعالى مميزاً لهن: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن) (الأحزاب:32) ، فهذا فضل لهن (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) (الأحزاب:30) ، (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين) (الأحزاب:31) ، ولا شك أنهن حفظن أنفسهن، وأحسن بالأعمال الصالحة، فصار أجرهن مضاعفاً على غيرهن. كما أدبهن الله بآداب حسنة منها قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية) (الأحزاب:33) ، (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) (الأحزاب:32) ، (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) (الأحزاب:34) ، وهذه الآيات من سورة الأحزاب يخاطب الله بها زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله تعالى في أثناء هذه الآيات: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) (الأحزاب:33) . فهذه الجملة من الآية في سياق الكلام على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً* وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) (الأحزاب:32-33) كل هذا خطاب لهن، وقوله تعالى: (وأطعن الله ورسوله) (الأحزاب:33) خطاب لهن، أيضاً. ثم قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) .

نقرر هذا لأن الرافضة يقولون: هذه الجملة لعلي وذريته، وأما الذي قبله والذي بعده فليس هو لهم، فأخرجوا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخطاب، ويقولون: لأن الضمير جاء فيها بالمذكر في قوله: (عنكم) ، (ويطهركم) ، ما قال: عنكن، ولا قال: ويطهركن. والجواب أن نقول: هذه الآية أولى بها زوجاته صلى الله عليه وسلم، ولكن إنما ذكر الضمير في قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم) لأنه أدخل معهن النبي صلى الله عليه وسلم فهو صاحب البيت، (عنكم) يعني عنك يا محمد، وعن زوجاتك، وعن أهل بيتك. فأهل البيت هم محمد وزوجاته، وكذلك أيضاً بناته وأولاده، فكلهم من أهل البيت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) . فالرافضة يرددون (أهل البيت) ، ويخصون أهل البيت بعلي وذريته، ونحن نقول: صحيح أن علياً وذريته من أهل البيت، ولكن ليس هم وحدهم أهل البيت بل هناك غيرهم، فزوجته من أهل البيت، وزوجات عثمان من أهل البيت، وزوجة أبي العاص بن الربيع من أهل البيت، كلهن بناته صلى الله عليه وسلم. فلماذا تختص فاطمة وزوجها بأنهم أهل البيت؟. نعم علي ابن عمه وهو من أهل البيت، وأقرب منه عمه العباس وهو من أهل البيت، وأولاد العباس وأفضلهم عبد الله الذي قال له صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين) ، كيف لا يكون هؤلاء من أهل البيت؟ وكيف يختص أهل البيت بعلي وبذريته؟!. نقول: إن هذا تقصير في الفهم فقوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته وبناته وأعمامه وأولاد أعمامه، ومن جملتهم علي وذريته؛ فهم منهم لا أنهم وحدهم أهل البيت.

وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم كلهن لهن فضل، ولكن أفضلهن خديجة وعائشة. واختلف العلماء: أيتهما أفضل؟ فالرافضة يفضلون خديجة لأنها أم فاطمة، ويغالون بمدحها. ولكن أهل السنة يقولون: إن خديجة وعائشة متساويتان في الفضل، فخديجة لها ميزة وهي أنها هي السابقة، وهي التي أيدت النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من آمن من النساء، وكانت تشجعه على الدعوة، وكانت تهدّئه وتسكن روعة، وتَعده بالخير، وآسته بنفسها ومالها، ورزق منها أولاداً ولم يتزوج عليها في حياتها، ففضلت بهذه المميزات. وعائشة أيضاً لها ميزات كثيرة، فلو لم يكن من ميزاتها إلا أن الله تعالى أنزل عذرها في القرآن، وطهرها مما رماها به أهل الإفك في قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم) (النور:11) ، ثماني عشرة آية نزلت في عائشة برأتها مما قيل فيها. أما فضائلها الأخرى فلا تحصى فقد كان النبي صلى الله يحبها، جاء إليه عمرو بن العاص فقال: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) ، وقال صلى الله عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) وحملت عنه علماً جماً، فهي أكثر نسائه حديثاً. وكان يخبر بأن الوحي لا ينزل عليه في حجر امرأة إلا في حجرها، وكان يحب وهو في مرض موته أن يمرض في بيتها، ولما رأى زوجاته أنه سأل: (أين أنا؟) قلن له: لك أن تسكن حيث شئت. واستقر في بيت عائشة، وتوفي وهو في حجرها. تقول: (مات بين حاقنتي وذاقنتي) والحاقنة: الترقوة، يعني أنها كانت مسندة له، ودفن في بيتها، وتميزت بأنها بنت الصديق الذي هو أول من آمن من الرجال، والذي استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. فلها هذه الميزات، ومع ما لها من فضائل فإن الرافضة يسبونها سباً شنيعاً!!

ثم ذكر فضل معاوية وسبب ذلك أن الرافضة والزيدية يطعنون فيه. وقد أثنى العلماء عليه وذكروا له منزلة رفيعة، فمنها أنه لما أسلم اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً للوحي بطلب من أبيه، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وائتمنه على ذلك حتى توفي وهو كاتب له، لم ينتقد عليه شيئاً، فهذه من ميزاته أنه من كتّاب الوحي. وهو خال المؤمنين لأنه أخ لإحدى أمهات المؤمنين وهي أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مات زوجها في الحبشة، وكانت من المسلمات الأوائل، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة، أسلمت وأبوها مع ذلك قائد من قوات المشركين. ثم إن الله تعالى هدى أبا سفيان فأسلم وصار يقاتل في سبيل الله، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعلني أميراً أقاتل المشركين كما كنت أقاتل المسلمين. فالتزم بذلك وبدأ يقاتل المشركين في الشام، وفقئت عينه وهو يقاتل في سبيل الله، ثم فقئت عينه الأخرى وهو في سبيل الله فحاز بذلك هذه الفضيلة. ومعاوية أيضاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كاتباً له، وبعد ذلك كان أميراً على جيش من الجيوش في الشام في عهد عمر هو وأخوه يزيد بن أبي سفيان، وبعد أن مات أخوه يزيد ولاه عمر قيادة الجيوش بالشام، وأحبه أهل الشام لما رأوا له سيرة حسنة. فلما جاءهم خبر قتل عثمان استاؤوا وكثيراً، وحزنوا على عثمان حزناً شديداً وأخذوا على أنفسهم أن يبذلوا في نصره وفي قتال من قتله المهج والأرواح، فأوفوا بذلك كما هو معروف، وأطاعوا معاوية طاعة تامة حتى نصروه إلى أن أصبح خليفة وأميراً للمؤمنين كما هو الواقع. مسألة حق ولاة الأمر على رعاياهم قوله: ومن السنة: السَّمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله.

ومن وَلِيَ الخلافة واجتمع عليه الناس ورضُوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة وسُمِّي أمير المؤمنين -وجبت طاعته، وحَرُمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين. شرح: هذا الكلام يتعلق بطاعة ولاة الأمر؛ وهم الأمراء والخلفاء وقادة المسلمين الذين بولايتهم تأمن البلاد ويسود فيها الأمن، وينتصف المظلوم من الظالم، ويؤخذ على يد الظالم، بخلاف ما إذا كان الأمر فوضى. لا يَصلحُ فوضى لا سراة لهم ولا صلاح إِذا جُهالُهم سَادُوا تهدى الأمورُ بأهل الرأي إِن صلحت وإن فسدت فبالأشرارِ تَنقادُ معلوم أن في الفوضى يستبد كل برأيه وينفذ ما يقول، فإن من طبع الناس محبة العتو والعدوان والسلب والنهب والأخذ بغير حق، فيكثر القتل ويكثر النهب ولا يحصل الأمن، وهذا بسبب الفوضى وعدم الولاية. فمن أجل ذلك لم يكن بدٌ من ولاية قوية، معها من السلطة ما تقوى به على قهر الظلم وعلى قهر الاعتداء، فيحصل بهذه الولاية إقامة الحدود، وردع الظالم، وتنفيذ الأوامر، وزجر العصاة، وتنفيذ الجيوش، وضبط الحدود التي هي أطراف البلاد، وملازمة الثغور، والمرابطة عليها وحفظها عن العدو ونحو ذلك، لا يكون هذا كله إلا بتدبير ولاة الأمر. ولما كان الأمر كذلك؛ وجب السمع والطاعة لولاة الأمور، وجاءت الأدلة الكثيرة في الأمر بالسمع والطاعة، فمر بنا في حديث العرباض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوصيكم بالسمع والطاعة وإِن تأمر عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله" يعني أنه أسود من أصل الخلقة، والمراد لا تحتقروه لسواده ما دام أنه يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا ولو كان عبداً.

ومعروف أيضاً أن العبد مشغول بطاعة سيده الذي يملكه، ولكن قد يكون في بعض الإحيان أن بعض الملوك يولي بعض المماليك على بعض الولايات، ويفوض إليه الأوامر فيكتب إلى تلك الجهة أن يسمعوا له ويطيعوا، ولو كان عبداً مملوكاً ولو كان حقيراً حبشياً أسود. فالجواب أن نسمع ونطيع لكل وال لكن بشرط؛ وهو أن تكون الطاعة في المعروف فإذا كان كذلك فإنا نسمع له ونطيع، وقد ورد في حديث حذيفة بن اليمان أنه قال صلى الله عليه وسلم: "تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع"؛ وذلك لأن في السمع والطاعة تمشية لأمور المسلمين، وتسوية للخلاف فيما بينهم، وجمعاً للكلمة وبعداً عن التضاد والفوضى ونحو ذلك، وفي الخروج عليهم، وفي قتلهم أو قتالهم وعدم الطاعة لهم تحصل المفاسد الكثيرة. وفي حديث عبد الله بن حذافة لما أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية وأمَرهم بأن يطيعوه، وفي أثناء الطريق غضب فأمرهم أن يوقدوا ناراً، وأمرهم أن يدخلوها -من شدة غضبه، فقالوا: ما هربنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا هرباً من النار فكيف ندخلها؟! فلم يزل بعضهم يحجز بعضاً حتى خمدت النار وسكن غضبه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها. إنما الطاعة في المعروف". يعني أن الذي يطاع فيه هو الذي يكون من المعروف، وأما مثل هذا فإنه منكر. ولذلك ورد في حديث آخر "فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" إذا أمر أحد الولاة بما هو معصية كقتل بريء مثلاً أو سلب بريء أو اختطاف أو سرقة أو أخذ شيء ونحوه مما يكون الوالي مخطئاً فيه، فلا تجوز طاعته في ذلك. كما أنه لا تجوز أيضاً طاعته إذا أمر بترك الطاعة، كما لو أمر بهدم المساجد أو بناء المشاهد أو إباحة فعل الفواحش والمنكرات وما أشبهها، فلا يجوز أن يطاع في ذلك لأن هذا يصادم الأوامر الشرعية، هذا معنى كونه إنما يطاع في المعروف.

فإذا كان هذا الوالي والياً على المسلمين، وهو مستقيم السيرة والسريرة فيما يظهر، وهو يقصد الحق، فإننا نسمع له ونطيع، ولا يجوز أن نفارقه أو نخرج عليه لما في الخروج عليه من المفاسد. وإنّ ما حصل في القرون الأولى من المفاسد إنما كان بسبب الذين خرجوا على الأئمة، ففي القرن الأول الذي هو أفضل القرون لما أمّر بنو أمية بعض الأمراء الذين في ولايتهم شيء من الظلم والشدة -ثار عليهم كثير من الأمراء والقواد- كما في فتنة ابن الأشعث، وفتنة ابن المهلب، وفتنة الباهلي ونحوهم، وحصل فيها قتل وقتال وتشريد وظلم وأضرار أضرت بالمسلمين، فالواجب أن نصبر على ما نراه من الضرر ونتحمل ذلك حتى لا تكون فتنة، وحتى ندفع الشر بما هو أسهل منه فيأمن الناس ويحصل لهم الخير والطمأنينة. مسألة: المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم وقوله: ومن السنة: هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم. وكل محدثة في الدين بدعة، وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة والكرامية، والكلابية ونظائرهم، فهذه فرق الضلال وطوائف البدع، أعاذنا الله منها. شرح: شرع الموفق رحمه الله في هذه الفقرة يتحدث عن البدع، وهي تارة تكون في العقائد وتارة تكون في الأعمال، ولا شك أن البدع التي في العقائد أشد خطراً من البدع التي في الأعمال، وذلك لأن البدع التي في الأعمال قد يقال: إنها محرمة ولكنها ليست مُكفِّرة؛ لأنها مجال للاجتهاد. ومع ذلك فإنها منكرة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .

ونحن مأمورون باجتناب البدع كلها وبالابتعاد عنها ولو كانت حقيرة، فإنها منكر. وكان السلف رحمهم الله ينكرون على من أحدث ما لم يسبق إليه، ولو كان يسيراً من الأمور المعتادة، أنكروا على مروان لما قدم الخطبة على الصلاة في صلاة العيد، فإن صلاة العيد تقدم على خطبتيه بخلاف الجمعة، فعدوا هذه بدعة وأنكروها ولكنها بدعة عملية ليست بدعة اعتقادية. كذلك أنكر العلماء بدعة إحياء المولد؛ وهي إحياء ليلة الثاني عشر من ربيع الأول وقالوا: إنها بدعة مع أنها بدعة عملية، وإن كان للاعتقاد فيها مجالٌ ولكنها تلحق بالأعمال لا بالعقائد، وسبب ذلك أنها محدثة لم يكن لها أصل في الشرع. وكذلك إحياء أول ليلة جمعة من رجب بصلاة -تسمى صلاة الرغائب- لا أصل لها مع أنها صلاة، والذين يفعلونها يقولون: أتنكرون علينا الصلاة وطول القيام وقراءة القرآن وقراءة الأحاديث واستماع الأدعية؟ فنقول لهم: لا ننكر ذلك، ولكن ننكر عليكم تخصيص هذه الليلة دون غيرها، فإن هذا لم يرد به الشرع، فتعبدوا في السنة كلها ولا تخصوا ليلة من الليالي بعبادة ليست مشروعة فيها ولا محددة. وهكذا البدع كثيرة، وقد استوفاها العلماء في مؤلفاتهم كالشاطبي رحمه الله في (الاعتصام) ، وكأبي شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث، وقبلهما ابن وضاح في نبذة مطبوعة اسمها (البدع والنهي عنها) وغيرهم كثير، والكلام على هذه البدع العملية أهون من الكلام على البدع العقدية.

إذ لا شك أن البدع الاعتقادية أشد نكارة وما ذاك إلا أنها تعتمد القدح في الشرع؛ إما قدحاً في كماله، وإما قدحاً في صلاحيته، وإما اطراحاً لبعض تعاليمه. فلأجل ذلك يحذر العلماء من هؤلاء المبتدعة، وينكرون عليهم ويحذرون من قراءة كتبهم، ومن مجالستهم، ومن الانخداع بشبهاتهم، ومن قراءة نشراتهم التي ينشرون فيها ضلالاتهم وبدعهم -حتى لا يقع في شيء من شبهاتهم فيصعب بعد ذلك التخلص مما علق بالقلوب. وكان السلف رحمهم الله يعرضون عن هؤلاء المبتدعة ويقولون: السكوت عنهم إذلال وإهانة لهم. فإن العالم يحتقر المبتدع ويسكت عنه، ويتركه يهذر ولا يتلفت إليه ولا يستمع له، ولو كان العامة يستجيبون لعلماء أهل السنة إذا حذروهم وقالوا: هذا مبتدع فاحذروه ولا تجالسوه؛ لبقي معزولاً لا أحد يجالسه ولا أحد يستمع منه ولا يناظره. فالعلماء يقولون: نصون علمنا عن أن نجادله أو أن نناظره أو أن نناقشه أو أن نتكلم معه، كما ننصح ونحذّر إخواننا عن أن يجالسوه، حتى يبقى المبتدع معزولاً، وهكذا كان الناس طوال القرون المفضلة؛ كانوا كلما وُجد مبتدع وحاول أن يضل الناس، حذر العلماء منه، وابتعد عنه الناس وتركوه، وتمسكوا بما كان عليه سلف الأمة وجهابذتها. ولكن مع طول الزمان ومع غربته تمكن هؤلاء المبتدعة، وصار لهم كلمة وأتباع، وقوة ونفوذ، ومقلدون ومذاهب متبعة معترف بها -في زعمهم- لها مكانتها ولها قوتها، فحصل بذلك انخداع الكثير من الجهلة والعوام حتى راجت مؤلفاتهم، فعند ذلك لم ير العلماء بداً من مناقشتهم؛ إما مناقشة علنية حتى ينقطعوا، وإما مناقشة كتابية. ومثال ذلك مخاصمة محمد بن عبد الرحمن الأدرمي يرحمه الله لذلك المبتدع وهو ابن أبي دؤاد، فقد ناقشه وقطع حجته بكلمات مختصرة، وإن كان المؤلف أوجزها، وقد توسع فيها العلماء الذين يروون بالأسانيد كالآجري في الشريعة ونحوه.

كذلك أيضاً؛ لما اشتهر بشر المريسي بقوله: إن القرآن مخلوق -رأى بعض العلماء أن يخاصموه كما في رسالة (الحيدة) لعبد العزيز الكناني، الذي أعلن مخاصمته له؛ وذلك لأنه أراد أن يظهر نفسه حتى يجتمع مع ذلك المبتدع، فجمعهما الخليفة، وتخاصما بقوة وبجدل، وكان الظهور للكناني رحمه الله، وانقطع بشر ولم يكن معه جواب كاف لإقناع هذا العالم، ثم كتب الكناني تلك المناظرة التي حدثت بينه وبين بشر في هذه الرسالة التي اسمها (الحيدة) وهي رسالة مطبوعة الآن. ثم تتلمذ على المريسي رجل حنفي ولكنه مبتدع، وهو محمد ابن شجاع الثلجي، ولكنه يخفي ابتداعه، كتب رسالة في عقيدة (بشر) ولم يذكر اسمه، ولكنه معروف، تولى الرد عليها ومناقشتها عالم جليل من علماء أهل السنة وهو عثمان بن سعيد الدارمي في رده المشهور المطبوع باسم (رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد) . ومع الأسف فقد كتب زاهد الكوثري رسالة في ترجمة الثلجي، وأثنى عليه وبالغ في الثناء عليه لأنه حنفي، ولم يتعرض لشيء من القدح فيه مع أنه معتزلي جهمي! فهؤلاء العلماء رأوا أن المجادلة أفضل، لكن هناك من يرى تركها أصلاً، فقد ذكر ابن بطة في كتابه (الإبانة الكبرى) آثاراً كثيرة في النهي عن مجادلة ومخاصمة المبتدعة، والتحذير من مجالستهم ومخاصمتهم ومناظرتهم، وأن في ذلك السلامة، وأن في تركهم والبعد عنهم إهانتهم، وإماتة أقوالهم، ولكن رأى الكثير من العلماء أنه لابد من مناقشتهم حتى يظهر الحق ويستبين. ووقع لشيخ الإسلام ابن تيمية مناظرات مع الأشاعرة -في زمانه-ومع الصوفية في مصر، ومع كثير من المبتدعة كالبطائحية، لأنه رأى أن ذلك من الضروري حتى يقطع شبههم، لأنهم يشبهون على الناس.

ويمكن مراجعة مناظرة العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية المطبوعة في المجلد الثالث من مجموع الفتاوى بعد ذكر العقيدة. وكذلك مناظراته لما قدم إلى مصر وجادله من جداله في أمور العقيدة، ومناظراته أيضاً في الشام بينه وبين الصوفية الذين يدعون أنهم يدخلون النار ولا تضرهم، فقطعهم وخاصمهم في ذلك وكذّبهم، وهذه المناظرات كلها وقعت وجهاً لوجه. ولكن هناك ردود احتوتها مؤلفاته، ناقش فيها المبتدعة، مثل كتابه (منهاج السنة) رداً على الرافضة وفيه قمع لهم ودحض لشبهاتهم وإبطال لترهاتهم وأكاذيبهم، يقرأه القارئ فيرى الحق واضحاً جلياً. وكتابه (درء تعارض النقل والعقل) ، أو (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) رداًَ على كثير من الأشاعرة في شبهاتهم، وله كتب كثيرة (كالرد على الاخنائي) ، و (الجواب الباهر في الرد على عباد المقابر) ، و (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ، وغيرها. فالحاصل أن أهل البدع العقدية خطرهم شديد، والإنسان عليه أن يعرف بدعهم ويحذرها، ويعرف أن ما عداها هو السنة والصواب فيتمسك به ويعض عليه بالنواجذ حتى يسلم من هذه الأخطار. ثم مثّل الموفق رحمه الله لهؤلاء المبتدعة، وذكر منهم مشاهيرهم وبدأ بالرافضة الذين يسمون أنفسهم (شيعة) وسبب تسميتهم (رافضة) أنهم في حدود سنة ثمان وعشرين ومائة خرج زيد بن علي بن الحسين ودعا إلى مبايعته، فجاء إليه الرافضة في العراق وقالوا: نبايعك على أن تتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر، فقال: هما صاحبا جدي. فقالوا: إذاً نرفضك. فسموا بالرافضة.

ومعروف أن مذهبهم مبني على الغلو في أهل البيت الذين هم -عندهم- علي وذريته وزوجته فقط وأم زوجته التي هي خديجة، وبالغ بعضهم إلى أن ادعى الولاية لأبيه الذي هو أبو طالب. وقد كتب بعض علماء الرافضة كتاباً نشر قبل أربعين سنة سماه (أبو طالب مؤمن قريش) فتجرأ إلى هذا الحد وأدعى بأنه مؤمن وأنه تقي وأنه مسلم؛ لأجل أنه أبو علي وقد نوقش هذا الكتاب ووجد أنه ليس له مرجع فيما قال، وأن مرجعه الوحيد من كتب الرافضة التي لا أساس ولا صحة لها، فهذا معتقدهم. ومن بدعهم أنهم لما غلوا في علي كان من لوازم ذلك أن يطعنوا في الخلفاء قبله الذين يدعون أنهم قهروه وقسروه وألزموه بأن يبايع لهم وأن يتنازل عن الخلافة وأنه لا حق له فيها، فادعوا أن أبا بكر وعمر وعثمان ظلموه. فتبرأوا منهم وتبرأوا ممن بايعهم من الصحابة ولم يوالوا من الصحابة إلا عدداً يسيراً، أما بقية الصحابة عندهم فإنهم كفار، لأجل ذلك لا يقبلون أحاديثهم ولو كانت في الصحيحين، هذا مذهب الرافضة. ثم زادوا على ذلك أنهم طعنوا في القرآن، وادعوا أن الصحابة الذين كتبوه خانوا فيه، وأنهم حذفوا منه ما يتعلق بالولاية وما يتعلق بأهل البيت، وادعوا أن هناك سورة تسمى سورة (الولاية) وهي مصورة في كتاب (الخطوط العريضة) لمحب الين الخطيب رحمه الله، وادعوا أن الصحابة حذفوها، وحذفوا أيضاً أشياء كثيرة من القرآن، حتى ذكروا أنهم حذفوا آية من سورة (ألم نشرح) وقالوا: إنها نزلت (ألم نشرح لك صدرك وجعلنا علياً صهرك) !!!! والحاصل أنهم يطعنون في الخلفاء، وأكثر الصحابة، ويسبونهم ويردّون أحاديثهم ويطعنون في القرآن، ويغلون في حق علي غلواً زائداً حتى عبدوه من دون الله، فجمعوا بين الشرك بعبادة أهل البيت وتعظيمهم التعظيم الزائد، والطعن في القرآن، والطعن في السنة أو ردّها، والطعن في الصحابة وتكفيرهم.

أما بقية الطوائف؛ فهم طوائف مختلفة في المعتقد، نذكر تعريفهم باختصار على ترتيب وجودهم. فأول من وجد: (الخوارج) الذي خرجوا على علي، وكان من عقيدتهم التكفير بالذنب، فيجعلون الذنب كفراً والعفو ذنباً، ولذلك يستحلون دماء المسلمين، ويقولون: من فعل الكبيرة حل دمه وماله وسبي نسائه وأولاده ونحو ذلك، وقد قاتلهم علي رضي الله عنه، واستمروا موجودين في مدة خلافة بني أمية وهم يقاتلون يقوون تارة ويضعفون تارة إلى أن تفرقوا. ولكن بعد ذلك هدأت حدتهم فلم يقاتلوا، ودخلت فيهم أيضاً بدع أخرى، ويوجد منهم الآن في البلاد الأفريقية الألوف ولكنهم متسترون، ويوجد منهم أيضاً الطائفة الإباضية التي في عمان، ولكنها في الحقيقة معتزلة ولا يطبقون مذهبهم تماماً. وبعدهم خرجت (القدرية) الذين ينكرون من القدر العلم السابق، وأول من خرج منهم معبد الجهني، ثم غيلان القدري، ينكرون علم الله بالأشياء قبل وجودها يقولون: لا يعلم الأشياء حتى تحدث. وهؤلاء الذين قال فيهم الشافعي: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خُصموا وإن جحدوه كفروا. ثم حدثت فيهم بدعة أشد من هذه وهي إنكار قدرة الله على الهداية والإضلال، وأن الله ليس على كل شيء قدير، وأنه لا يهدي ولا يضل من يشاء، وهؤلاء هم القدرية الذين أنكروا القدرة. وقال فيهم الإمام أحمد: القدر قدرة الله -يعني من اعترف بأن الله على كل شيء قدير فقد خصم القدرية، خاصموهم بهذه الكلمة قولوا لهم: أليس الله على كل شيء قدير؟ إذاً فكيف يخرج عن قدرته كونه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك.

ثم خرج بعدهم (المعتزلة) في آخر حياة الحسن البصري، وأولهم واصل بن عطاء الذي ادعى أن العاصي ليس بكافر ولا مسلم بل في منزلة بينهما، واعتزل مجلس الحسن وصار يقرر مذهبه بزاوية من المسجد، وصار الحسن إذا جاءه من يستشيره، أو رأى من أحد بدعة أشار إليه وقال: عند أولئك المعتزلة، اعتزلنا واصل، فمن ثم سُمّوا بالمعتزلة. وانتشر مذهبهم إلى الآن، وطبعت لهم مؤلفات، وممن اعتنق مذهبهم القاضي عبد الجبار صاحب الكتاب المشهور: (المغني) الذي هو من أشهر كتبهم، مطبوع في نحو أربعة عشر مجلداً، وله مؤلفات أخرى في تقرير مذهبهم. وقد ذكرنا أن مذهبهم يدور على خمسة أشياء: - التوحيد: الذي هو نفي الصفات. - والعدل: الذي هو نفي قدرة الله لأفعال العباد. - والمنزلة بين المنزلتين: التي هي أن العاصي ليس بمؤمن ولا كافر. - وإنفاذ الوعيد: الذي هو تخليد العصاة في النار. - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الذي هو الخروج على الأئمة. هذا مذهبهم الباطل. وممن اعتنق مذهبهم من مشاهير اللغويين (الزمخشري) صاحب التفسير المشهور بالكشاف، فإنه معتزلي مبالغ في الاعتزال، ضمّن تفسيره عقيدة الاعتزال. ثم خرجت بعدهم (الجهمية) : ولكن مذهبهم تفرق في عدة فرق، فمن مذهبهم تعطيل الله تعالى عن صفات الكمال، فإنهم نفوا الصفات كلها، بل بالغوا في النفي حتى جعلوها كلها مجازاً، وهم الذين يحذر السلف رحمهم الله -كثيرا- من الانخداع بهم. ثم إن الجهم الذي تنسب إليه هذه الطائفة اجتمعت فيه ثلاث بدع عقدية هي: - التعطيل: وهو نفي الصفات. - والإرجاء، فهو رأس المرجئة، وهو أولهم إذ يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب. إذا كنت مؤمناً فاعمل ما شئت من الذنوب. ويقول قائلهم: فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم

فعندهم أن المعاصي لا تضر التوحيد، ومن كان مذنباً -ولو كثرت ذنوبه- فإنه لا يخرج عن كونه مؤمناً كامل الإيمان. - والجبر وهو نوع من البدع في القدر؛ وهو ادعاؤه أن الإنسان مجبور على الذنوب وعلى المعاصي وعلى الكفر، وليس له اختيار أبداً وهم الذين يقول قائلهم: دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل، بينوا لي حجتي فهؤلاء رؤوس المبتدعة والفرق: الجهمية المعطلة، والمرجئة، والقدرية، والجبرية، والمعتزلة الذين جمعوا هذه المذاهب ونحوهم. أما (الكرامية) فهم اتباع محمد بن كرام عالم مشهور إلا أنه مبالغ في الإثبات حتى اتهم بنوع من التمثيل، ولكنه أقرب إلى الحق وأقرب إلى الصواب، وإنما انتقدوه لمبالغته في إثبات الصفات حتى وقع في نوع من التشبيه، ومن مذهبهم أن الإيمان مجرد المعرفة. أما (الكُلابية) فهم أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلاب، وهم الذين يقرون بسبع صفات فقط وهي: السمع والبصر والكلام والحياة والقدرة والإرادة والعلم وينكرون ما عداها، وهو الذي سلك طريقته أبو الحسن الأشعري في وسط عمره، وإلى أبي الحسن هذا ينتسب المذهب المنتشر؛ مذهب الأشاعرة، فالأشاعرة على مذهب ابن كلاب. وأما فرقة (السالمة) فهي تتبع ابن سالم، ومذهبهم قريب من مذهب الكرّامية أو أشد؛ فهم يقولون بالتشبيه، وأن الله له يدٌ كأيدينا ونحو ذلك.

وبقيت فرقة موجودة بكثرة وهم (الصوفية) ، فالصوفية لا شك أنهم كانوا في أول الأمر زهاداً يلبسون الصوف، ولكن حدثت فيهم بدعٌ وأشدها بدعة القول (بوحدة الوجود) وهو أن وجود الخالق عين وجود المخلوق، فهذه البدعة هي التي ضلوا بها عن الطريق، وهي بدعة يعتنقها كثير منهم. وعندهم بدع أخرى ولكنها خفيفة بالنسبة إلى هذه، كبدعة الغناء والسماع والرقص والتمايل والنشيد الموحَّد مثلاً، والذكر المقطوع كذكرهم بكلمة (هو، هو) ، وما أشبه ذلك وهم موجودون بكثرة والردود عليهم متوفرة. وبكل حال هؤلاء هم رؤوس المبتدعة، ينبغي للمسلم أن يجتنبهم حتى يسلم في دينه وعرضه. مسألة: الكلام على الاختلاف في الفروع وقوله: وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين؛ كالطوائف الأربع فليس بمذموم، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة. نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات، برحمته وفضله - آمين. وهذا آخر المعتقد، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.. شرح:

هذا آخر العقيدة، ختمها بهذه الجملة، وهي حكم الانتساب إلى المذاهب الأربعة الفرعية. وقد ذكرت قريباً أن هذا يعتبر من الفروع لا من الأصول، أو يلحق بأصول الفقه، ولكن هناك من يجعله من أصول العقائد، ويتشدد في النهي عن الانتساب إلى المذهب. فهناك فرق في الهند وفي الباكستان يسمون أنفسهم (أهل الحديث) يشددون على المنتسبين إلى المذاهب، ولكن لا نلومهم؛ لأن هناك من يتعصب عندهم للمذاهب تعصباً زائداً، فآل بهم الأمر إلى أن جعلوا الانتساب إلى المذهب كالانتساب إلى المعتقد. فقالوا: لا يجوز أن تكون جهمياً ولا أن تكون أشعرياً، ولا أن تكون كرّامياً، ولا كٌلابياً، ولا سالمياً، ولا واصلياً، ولا نظامياً، ولا جاحظياً، وما أشبه ذلك، ولا يجوز أن تكون شافعياً، ولا حنبلياً، ولا مالكياً، ولاحنفياً، ولا ثورياً، ولا ليثياً.. وجعلوا الانتساب إلى المذاهب كالانتساب إلى المعتقدات، وهذا خطأ وما ذاك إلا أن أهل المذاهب أولاً كلهم من علماء السنة، وكلهم من أهل الحديث، فتح الله تعالى عليهم ورزقهم فقهاً وفهماً، فجمعوا بين الحفظ والفهم، فأدى بهم اجتهادهم إلى أقوال دونوها في مؤلفاتهم. فأولهم (أبو حنيفة) رحمه الله، كان ذكياً، عنده قوة إدراك، وعنده قوة فهم، فكان يفتي بهذه الفتاوى ويعللها، ويسر الله له تلميذين وهما أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، سجلا فتاواه وأقواله في مؤلفات كثيرة، فانتشر مذهبه، وبسبب كتب هذين العالمين تمكن وصار له مذهب متبع، وهو لم يكتب هذه الفتاوى بنفسه، إنما تارة يمليها على التلاميذ، وتارة يكتبونها هم؛ إذا استفادوا منه فائدة كتبوها ثم جمعوها في مؤلف، ثم انتشر هذا المذهب واعتنقه من اعتنقه.

ثم جاء بعده (الإمام مالك) ، وألف كتابه (الموطأ) واختار فيه ما اختار، ولما انتشر اعتنقه من اعتنقه، ورأى كثير من العلماء أنه عالم المدينة، وأنه محدث جليل كبير، حتى إن المنصور العباسي في زمانه قال: نريد أن نحمل الناس على العمل بالموطأ كما أن عثمان حملهم على المصحف. فامتنع مالك رحمه الله، وقال: إن الصحابة تفرقوا، وإن عندهم من العلوم ما فاتنا، وليس كل العلم قد حويته، أجل ولا العشر ولو أحصيته. ثم تتلمذ عليه أيضاً تلميذ جمع من فتاواه شيئاً كثيراً في الكتاب الذي اسمه (المدونة) المطبوع في خمسة مجلدات كبار، انتشر مذهبه بسببها في أكثر البلاد المغربية والأفريقية بسب أنهم ذهبوا بكتبه هناك. ثم جاء بعده (الشافعي) رحمه الله، وألف كتاب (الأم) ، و (الرسالة) والرسائل الكثيرة المطبوعة معهما، وهو الذي أملاها أو كتبها، واختصرها بعض تلامذته، فكان ذلك سبباً أيضاً في أن تتلمذ عليه تلامذة كثيرون في الشام وفي مصر، وفي العراق، وفي الحجاز، وفي اليمن وفي كثير من البلاد، وكثر اتباعه الذين على مذهبه بسبب اعتمادهم على هذه المؤلفات. ثم جاء بعده -أو في زمنه- الإمام (أحمد بن حنبل) ، وكان رحمه الله لا يحب أن تكتب فتاواه، فلم يكتب في الفقه وإنما كتاباته فيما يتعلق بالحديث أو فيما يتعلق بالعقيدة، ولكن تتلمذ عليه تلامذة محبون له فكانوا يكتبون فتاواه، هذا يكتب مجلداً، وهذا يكتب ورقتين، وهذا يكتب عشرين ورقة، وهذا كتب وهذا كتب، وحتى ذكروا أنه جمع من فتاواه أكثر من ثلاثين مجلداً، ثم جمعها أحد تلاميذهم وهو أبو بكر الخلال صاحب كتاب (السنة) في عشرين مجلداً أخذها من تلامذته.

وجاء أيضاً بعده تلميذ له وهو محمد بن حامد وجمعه أيضاً في مجموع آخر، وكاد مذهب الإمام أحمد أن يضمحل ولا يكون له أتباع إلى أن جاء عهد القاضي أبي يعلى، فاعتنق هذا المذهب، ولما تولى القضاء أظهر هذا المذهب ودعا إليه، وألف فيه المؤلفات، وانتشر المذهب وصار له أتباع من ذلك اليوم وحتى يومنا هذا. هذه هي المذاهب الأربعة، ولكن هل كان بعضُهم يضلل بعضاً؟، حاشى وكلا، كلهم متآخون ومتحابون ومجتمعون على الحق. سئل الإمام الشافعي فقيل له: هل نصلي خلف من يقلّد مالكاً؟ فارتعد وقال: ألست أصلي خلف مالك! فمالك شيخ الشافعي الذي أفاده فوائد كثيرة جمة، فأنكر على هذا الذي قال إننا نتورع أن نصلي خلف المالكية لأنهم يخالفوننا في أشياء، والخلافات التي بينهم في الصلاة مثلاً في الجهر بالبسملة أو التلفظ بالنية، أو في بعض الأشياء اليسيرة القليلة، وكذلك بينه وبين الحنفية خلافات لا تبطل بها الصلاة. مع ذلك كله فإن هؤلاء الأئمة ليسوا هم العلماء كلهم، بل في زمانهم من هو أهلٌ للاتباع وأهلٌ للعلم؛ فالإمام الليث بن سعد عالم مصر كان أيضاً عالماً جليلاً كبيراً، وله أيضاً أتباع، وإن لم يكن له مؤلفات ولا مذهب متبع. وكذلك الإمام الأوزاعي أبو عبد الرحمن عالم الشام في زمانه، وله أيضاً أتباع، وله تلاميذ كثيرون. ولكن المجمع واحد، فكلهم يتبع الآخر إذا ظهر له الحق مع أحدهم، فإنهم يتبرؤن من الخطأ ويقولون لتلامذتهم: إذا اتضح لكم الخطأ في قولنا فلا تتبعوه، اتبعوا الحق وخذوا به. ذكروا أن الإمام أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين، فنحن رجال وهم رجال؛ وذلك لأنه من التابعين.

واشتهر عن مالك رحمه الله أنه يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. يعترف على نفسه بأن أقواله عرضة للخطأ وعرضة للترك، وإذا اتضح فيها خطأ فلتُترك. وجاء رجل إلى الشافعي رحمه الله، وسأله عن مسألة فقال: هذه المسألة أفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا. فقال السائل: فما تقول أنت يا أبا عبد الله؛ فغضب الشافعي غضباً شديداً وقال: ويحك أتراني في بيعة؟ أتراني في صومعة؟ أتراني على وسطي زنار؟ أقول لك أفتى فيها رسول الله صلى عليه وسلم وتقول ماذا تقول أنت، أترى أني أخالف فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم! هكذا غيرتهم وحماستهم على السنة النبوية. كذلك الإمام أحمد رحمه الله اشتهرت مقالته التي يقول فيها: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأى سفيان، والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (النور:63) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. هذه مقالتهم التي يحثون فيها على الرجوع إلى السنة، ومع ذلك وللأسف؛ فإن كثيراً من أتباعهم المقلدة صاروا يرون الحق والصواب معهم فقط، ويتعصبون للمذاهب هذا التعصب الذي سبّب الفرقة. فقد نتج عن التعصب لمذهب هذا على هذا؛ أنه حصل بينهم منافسات ومجادلات سواءً في الكتب أو في الأعمال أو نحوها، حتى ذكروا أن المسجد الأموي الذي في دمشق كانت تقام الصلاة فيه أربع مرات يصلي الإمام الحنفي بمن معه، ثم يصلي الشافعي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، وهذه تفرقه بين المسلمين.

وهكذا أيضاً قبل مائة وخمسين سنة في الحرم المكي، كان فيه أربع مقامات، فالمقام الحنفي في الجانب الشمالي يصلى فيه الإمام الحنفي والمقام المالكي في الجانب الغربي يصلي فيه الإمام المالكي، والمقام الشافعي في الجانب الجنوبي يصلي فيه الإمام الشافعي، والمقام الحنبلي بالجانب الشرقي في مقام إبراهيم يصلي فيه الإمام الحنبلي، فتقام الصلاة في المسجد الحرام أربع مرات أو يصلي فيه أربعة أئمة! هذا لا شك أنه تعصب مذموم. ومع الأسف ذكر لنا أن كثيراً من المبتدعة يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف إمام الحرم الموجود الآن؛ يقولون: هذا وهابي مبتدع ضال. ولكن هؤلاء ما ضللوه لأجل أنه حنبلي، وإنما من أجل أنه وهابي كما يزعمون. نحن نقول: الأئمة رحمهم الله مجتهدون ومذاهبهم معترف بها واتفاقهم حجة قاطعة وإجماعهم دليل قوي، واختلافهم رحمة وفيه سعة. ذكر أن رجلاً جاء إلى الإمام أحمد وقد كتب كتاباً سماه (الاختلاف) قال فيه مثلاً: اختلفوا في المسألة الفلانية فقال الشافعي: كذا، وقال الثوري: كذا، وقال الليث: كذا، وقال مالك: كذا. فسماه (الاختلاف) فأنكر عليه أحمد وقال: لا تسمه بالاختلاف بل سمه بالسعة. يعني إن هذا الاختلاف توسعة على المسلمين حتى إذا عمل أحدهم بهذا القول، وعمل الثاني بهذا القول كان كل منهم على خير. فهذا ما يتعلق بهذه المذاهب، وهي المذاهب المتبعة، ومن ظهر له الحق في غير مذهبه، فلا ضير عليه أن يتبع الحق ولو خالف مذهب إمامه.. والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الخاتمة أحمد ربي وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأعترف بفضله ولا أكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ خلق كل شيء فأحكمه ودبره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ ما أوحي إليه وفسره صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ومن اقتفى أثره: أما بعد:

فبنعمة من الله وفضل تم إعداد وتخريج أحاديث شرح لمعة الاعتقاد، وذلك الشرح المبارك النفيس العظيم لفضيلة شيخنا الشيخ الدكتور/ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين حفظه الله تعالى وأمد في عمره ونفع به المسلمين. وفي نهاية عملي هذا المتواضع أعتذر عما ورد فيه من الخطأ والتقصير؛ حيث إن هذا من طبيعة البشر، فما حصل من صواب فمن الله، وما حصل من خطأ أو تقصير فمن نفسي والشيطان -أعاذنا الله منه- كما أني أشكر كل من أعانني على تخريج وإعداد هذا الكتاب، وعلى رأسهم والدي الكريمان أمد الله في عمريهما -رب ارحمهما كما ربياني صغيراً- وفضيلة شيخنا الكريم الذي تفضل علي بالموافقة لإعداد هذا الشرح النفيس وتخريج أحاديثه، ومن ثم التوجيه والمساندة حتى انتهى الكتاب إلى ما هو عليه الآن، وعائلتي كانت لها اليد الطولي في تهيئة الجو المناسب لي للبحث والمطالعة، كما أني لا أنسى فضل من ساعدني في تفريغ الأشرطة وكتابتها لا حرمه الله الأجر، وكذا إخواني الكرام الذين كانوا دائماً نعم العون -بعد الله- لي في جميع ما احتاجه منهم. أسأل الله الكريم العظيم رب العرش العظيم أن يجزي كل من أعانني في إخراج الكتاب خير الجزاء، وأن ينفع به، وأن يجعل عملي فيه وفي غيره خالصاً لوجهه الكريم وأن يجعله ذخراً لي يوم لا ينفع مال ولا بنون. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

الكنز الثمين

الكنز الثمين (1) النية وإخلاص العمل وسئل وفقه الله: * ما الوسيلة لإخلاص العمل أو إصلاح النية؟ أرشدونا وفقكم الله؟ فأجاب: من المعروف أن الإخلاص من شروط التوحيد، ومعناه أن يعتقد المسلم أن عمله لله، وأن لا يريد به حظاً عاجلاً، ولا مدحاً، ولا ثناءً من أحد، وإنما النية والدافع الذي في قلبه هو إرادة وجه الله. وقد وردت الأدلة في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في الجهاد: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". يعني أن الذي يقاتل حمية، أو عصبية، لا تكون نيته صحيحة. كذلك نية التوحيد، ففي الحديث: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نَفْسه" بأن تكون نيته الطاعة والقربة إلى الله. وبين ما يضاد ذلك، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "من سمّع سمّع الله به، ومن يرآئي يرآئي الله به". يعني: من حسّن صوته بالقراءة ونحوها ليمدح، فإن الله لا يمدحه. كذلك من صلّى صلاةً بخشوع وخضوع، أو تصدق بصدقة، أو ما أشبه ذلك، أو أنفق في سبيل الله رئاءَ الناس فإن الله تعالى يفضحه؛ لأن هذا من الرياء الذي يحبط الأعمال. وبالجملة فالإخلاص هو أن تريد بعملك وجه الله، وأن لا تقصد به مدحاً ولا ثناءً ولا حظاً دنيوياً. (2) تقسيم التوحيد ثابت عن علماء الأمة وسئل يحفظه الله: * يقول أحد الدعاة - وهو ينتمي لجماعة من الجماعات الإسلامية؛ في معرض حديثه في محاضرة ألقيت في إمارة الشارقة بالإمارات المتحدة، يقول-: "التوحيد من ناحية تقسيمه إلى ثلاثة أنواع لم يثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يثبت عن الصحابة، وعليه فهذا التقسيم بمسماه بدعة" انتهى كلامه. ثم سألت أحد طلبة العلم فقال: يمكن أن يقسم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة وهكذا. نرجو توضيح هذه المسألة؟ فأجاب:

إن تقسيم التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة جاء عن علماء الأمة، وأخذوه استنباطاً من الأدلة؛ حيث إن النصوص الصريحة تفيد وجوب توحيد الرب تعالى، باعتقاد أنه واحد، قال تعالى: ((وإلهكم إله واحد)) (البقرة:163) . وقال تعالى: ((وما من إله إلا إله واحد)) (المائدة:73) . وفي الحديث: "ولا نعبد إلا إياه". وفي الدعاء: "ولا إله غيرك".وغير ذلك من الأدلة. * فإذا قلنا: إن الله تعالى واحد في إلهيته، وأحقّيته للعبادة؛ فهذا توحيد العبادة؛ دليله الآيات المذكورة. * وإذا قيل: إن الله تعالى واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، بدليل قوله تعالى: ((هل تعلم له سمياً)) (مريم:65) . وقوله: ((ولم يكن له كفُواً أحد)) (الإخلاص:4) . وقوله: ((ليس كمثله شيء)) (الشورى:11) . كان هذا توحيد الربوبية، والأسماء والصفات، والمعرفة والإثبات، وهو التوحيد الخبري الاعتقادي؛ فهذا صحيح؛ ودليله الآيات المذكورة. فكيف يقال: إن هذا بدعة؟! مع أنه مأخوذ من هذه الآيات والأحاديث والنصوص الصريحة، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (3) الألوهية الشهادتان من توحيد الألوهية وسئل فضيلته: * قول "أشهد أن لا إله إلا الله" من أي أنواع التوحيد؟ وأي توحيد يعصم الدم والمال؟ فأجاب: الشهادتان من توحيد الألوهية، فشهادة أن لا إله إلا الله هي توحيد الألوهية الذي هو الاعتقاد والعمل، وشهادة أن محمداً رسول الله هي مكمّلة لها، وفيها الاتباع، فهي من توحيد الألوهية، وهو توحيد العبادة، يعني النطق بالشهادتين بلفظ الألوهية، من تكميل توحيد العبادة. وهذا التوحيد هو الذي يعصم الدم والمال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". متفق عليه من حديث ابن عمر.

وذلك أن توحيد الربوبية قد أقر به المشركون ولم يعصم دماءهم وأموالهم حيث عبدوا مع الله غيره، فلذلك أمر الله بقتالهم، بقوله تعالى: ((فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)) (التوبة:5) . فإذا تابوا من هذا الشرك وعبدوا الله وحده وجب الكف عنهم. والله أعلم. دلالة التضمن في توحيد الألوهية وسئل حفظه الله: * يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية. هلاّ بيّنتهم لنا دلالة التضمن؟ فأجاب: كون الشيء في ضمن غيره يسمى تضمناً، نقول: إنه لا يمكن أن يعبد الله بتوحيد الألوهية؛ إلا بعد ما يعترف بأن الرب هو الخالق المتصرف وهذا هو توحيد الربوبية. فتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية كأنه الدافع إلى توحيد الألوهية؛ فالتضمن معناه: الاشتمال عليه، وكونه في ضمنه. فالأصل في التكليف، أن الله أمرنا بتوحيد الألوهية، ولكن جعل توحيد الربوبية دليلاً عليه. كيف نرد على أهل النظر وسئل يحفظه الله: * كيف نرد على أهل النظر "أن للعالم صانعين" عن طريق العقل والنقل؟ . فأجاب: أما عن طريق العقل: فبدلالة التمانع، وهي أنه لو كان للعالم إلهان خالقان؛ فأراد أحدهما تحريك شيء، وأراد الآخر تسكينه. * فإما أن يحصل مرادهما وهو ممتنع عقلاً. * وإما ألا يحصل مراد أحدهما وهو مستحيل، ويستلزم عجزهما. * وإما أن يحصل مراد واحد منهما!! فالذي لا يحصل مراده عاجز؛ لا يصلح أن يكون إلهاً، ولا أن يكون خالقاً، فدل ذلك على أن الخالق واحد ليس له من يزاحمه في التصرف، وهذه هي الدلالة العقلية. وأما الدلالة السمعية (أي الأدلة النقلية وهي الكتاب والسنة) : فالآية الكريمة: ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) (الأنبياء:22) . ونحوها من الآيات. الفرق بين التكلم والخبر وسئل وفقه الله تعالى:

* يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": "فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع.. وذكر منها: 1- مرتبة التكلّم والخبر. 2- ومرتبة الإعلام والإخبار. فما الفرق بين مرتبة التكلم والخبر، وبين مرتبة الإعلام والإخبار؟ فأجاب: التكلم معناه لغة: أن يتكلم حتى يَسْمَعَهُ غيره، بعد ما يعلن بقلبه؛ يتكلم حتى يسمعه من حوله. وأما الإعلام فمعناه: أن يُعْلِمَ غيره، فيقول مثلاً: اعلموا أن الأمر كذا، وكذا، وهذا أمر زائد على التكلم. قد يتكلم الإنسان ولا يقول: اعلموا، فهذه مرتبة تكلّم فقط؛ فإذا ما أعْلَمَ غيره فإنه يتعدى بعد ذلك إلى مرتبة أشمل وأوسع وهي مرتبة الإعلام والإخبار. فهنا تكلّم للتذكر أو للحفظ، وهنا إخبار للناس وإعلام لهم. معنى "شهد الله" وسئل حفظه الله: * يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": (وعبارات السلف في: "شهد" تدور على الحكم) فما معنى الحكم؟ فأجاب: فسّر كثير من الصحابة "شهد الله" في قوله تعالى: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)) (آل عمران:18) . فسّرها الكثير: "بِحَكَمَ الله"، وفسّرها بعضهم: "بِأخْبَرَ الله"، وفسرها بعضهم: "بِأعْلَمَ الله"، كما فسّرها بعضهم "بِأمَرَ الله"… فيكون المعنى: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "أمر الله أنه لا إله إلا هو"… و ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "حكم الله أنه لا إله إلا هو".. و ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) أي: "أخبر الله أنه لا إله إلا هو".. والمعنى أن الآية تشهد بذلك كله، والله أعلم. ما معنى الأبيات التالية؟ وسئل غفر الله له ولوالديه: * نرجو شرح هذه الأبيات التي ذكرها شارح العقيدة الطحاوية (انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص97) . وهي من شعر أبي إسماعيل الأنصاري يقول:

1- ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد 2- توحيد من ينطق عن نعته عارية.. أبطلها الواحد 3- توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد فأجاب: فإن ظاهره أن ليس أحد وحد الله وإنما هو وحد نفسه، وننصحك أن لا تتقعر في معنى هذه الأبيات، ولكن على كل حال هي فيها شيء من الدخول في علم التصوف أو الغلو فيه. فالبيت الأول: الذي ذكر أنه ما وحّد الواحد من واحد؛ ظاهره أن الناس ليس فيهم موحّد. والبيت الثاني: ظاهره أن كل من ينطق بتوحيده فإنه جاحد أو لا حد كما في بعض النسخ. والبيت الثالث معناه: أن ليس أحد وحّد الله تعالى إنّما الله هو الذي وحّد نفسه. لكن يمكن حمله على أن المخلوقين تلقوا ذلك عن الله تعالى؛ فصار توحيدهم مأخوذاً عن توحيده. هذا أحسن ما حمل عليه. (4) الربوبية الرزق تكفل الله به ولكن… وسئل عفا الله عنه: * لقد سمعت من الذين يتلبسون ويتخفون برداء الإسلام؛ دعوة تنادي بأن الرزق تكفل به الله سبحانه وتعالى، وأن من يتقي ويسير في طريق الإسلام الصحيح يأكل من فوقه، ومن تحته، ويأتيه الرزق من حيث لا يحتسب؛ ولكن لماذا يموت الإنسان من جراء الجوع والجفاف في بعض المناطق؟ أليس هناك تكفل من قبل مشروط بالطاعة؟ فأجاب: لا شك أن الله تعالى تكفل بالأرزاق لكل المخلوقات، وهيأ لهم أسبابها، لكنه قد يبتلي العباد -ولو كانوا مؤمنين- للاختبار، وإظهار العبر وضده، وهو سبحانه قد سهل أسباب الرزق، وأعطى الإنسان قوة وقدرة على الاحتراف والتكسب، وطلب الرزق، فإذا لم يستعمل تلك القوة والملكة، فقد فرّط، فلا يأمن أن يسلط عليه الجوع والفقر والألم. وهكذا قد يسلط الله على البلد بما فيها من الدواب وغيرها، فيعذبهم بسبب الذنوب والكفر، وترك الواجبات. لماذا يعبد الله؟ وسئل فضيلة الشيخ: * لماذا يعبد الله سبحانه وتعالى؟ فأجاب:

ورد في بعض الآثار أن الله تعالى يحضر رجلاً في الآخرة؛ عند الحساب فيقول: لماذا عبدتني؟ فيقول العبد: سمعت بخلق الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، فأسهرت ليلي، وأتعبت نهاري، وأظمأت نفسي طلباً لدخول الجنة، وشوقاً إليها لأحظى بهذا النعيم، والثواب العظيم، فيقول الله تعالى: هذه الجنة فادخلها فلك ما طلبت، وما تمنيت. ثم يحضر رجلاً ثانياً فيسأله: لماذا عبدتني؟ فيقول: سمعت بخلق النار وما فيها من العذاب والنكال والوبال والأغلال والآلام، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وأتعبت نفسي خوفاً من النار، وهرباً من ألمها وعذابها، فيقول الله تعالى: قد أجِرْتَ من النار فادخل الجنة، ولك ما تتمنى نفسك. ثم يحضر الله رجلاً ثالثاً، فيقول: لماذا عبدتني؟ فيقول: عرفت صفاتك وجلالك وكبرياءك ونعمك وآلاءك فتعبدت شوقاً إليك ومحبة لك، فأنت المستحق للعبادة والتعظيم، لفضلك وإنعامك على الخلق، ولكمال صفاتك، وعظيم جلالك، فيقول الله تعالى: أنا ذا فانظر إليّ، وقد أبحتك ثوابي، وأعطيتك ما تتمناه. وبالجملة: فالذي يعبد الله لمعرفته بأنه أهل للعبادة، ولأداء حقوقه، ولأنه أهل التقوى، وأهل المغفرة، وخالق العبد والمنعم عليه، وله المن والفضل والثناء الحسن، هو أكثر أجراً وثواباً، والله واسع عليم. (5) الأسماء والصفات هل يجوز إطلاق كلمة الصانع على الخالق وسئل فضيلته: * نجد أن شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": يطلق كلمة الصانع على الخالق فمثلاً يقول: "فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع ودلائل صدق الرسول"، فهل يجوز إطلاق كلمة الصانع في حق الله سبحانه وتعالى؟. فأجاب:

هذه تجوز على وجه الصفة، فنعتقد أن الله الصانع، بمعنى أنه المبدع للكون، وهو الذي صنع الكون بذاته، وأبدعه، فلذلك يُكْثَرُ من إطلاقها في الكتب؛ كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: ((اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)) (البقرة:21) . وأطلق ذلك شيخ الإسلام في عدة مواضع في الجزء الثاني من مجموع الفتاوى، ونحو ذلك. فإطلاق الصانع معناه: بأنه وصف لله أنه مبدع للكون. النظر دليل اليقين وسئل الشيخ: * يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": "استدلاله بالآيات الكونية والنفسية، استدلال بأفعاله ومخلوقاته، ومن أسمائه تعالى "المؤمن" وهو على أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم.." نرجو توضيح هذه العبارة؟ وكذلك يقول في موضع آخر: "واستدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.." نرجو توضيح ذلك؟ فأجاب: معلوم أن الاستدلال بالآيات مما يثبّت الدليل، والله تعالى قد نصب الآيات ليستدل بها العباد على معرفة ربهم، والآيات هنا يراد بها الآيات الكونية، والآيات النفسية. أما الآيات الكونية فهي: الآيات التي في الكون، يقول الله تعالى: انظروا في هذه الآيات لتعتبروا، انظروا في خلق السماء وارتفاعها، وانظروا في تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وانظروا في هذه الأرض وما فيها من النبات وما فيها من الحيوانات، وانظروا في هذه البحار وما احتوت عليه، وما أشبه ذلك. فالنظر يعني الاعتبار، وهو يكون دليلاً إلى اليقين، أي يقوي الإيمان.

كذلك الآيات النفسية: يقول تعالى: ((وفي أنفسكم أفلا تبصرون)) (الذاريات:21) . يعني في أنفسكم آيات، فلو فكر الإنسان في نفسه لزالت عنه الشكوك والتوهمات. ففي نفس الإنسان أعظم عبرة، وأعظم آية، كيف كان في أول أمره نطفة، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن أصبح رجلاً سوياً؟! ثم ينظر إلى أن حواسه كاملة، وحاجاته كاملة؛ فإن ذلك بلا شك مما يلفت نظره، ويوضح له أمره أنه مخلوق وأن له خالقاً؛ قال تعالى: ((أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)) (الطور:35) . وأما الاستدلال بأنه سبحانه وتعالى من أسمائه المؤمن الذي يصدق عباده، فهذا التصديق في يوم القيامة؛ أما في الدنيا فيصدق عباده المرسلين بما يقيم على أيديهم من الآيات والمعجزات، ويصدق عباده المؤمنين في الآخرة بأن يثيبهم، ويظهر بذلك صدقهم ونصحهم لأممهم. تسمية المخلوق بصفة الخالق وسئل حفظه الله: * إذا اتفق اسم أو صفة للخالق مع المخلوق فهل يعني ذلك أنها متفقة في المسمى، ومختلفة في المعنى والمدلول؟ فأجاب: إذا اتفقا فقد اتفقا في الاسم، واتفقا في المعنى العام، واختلفا في الكيفية، فالمدلول واحد.. فإذا قلنا مثلاً: إن الله يسمع، وأن المخلوق يسمع، فالسمع هو إدراك الأصوات، هذا متفق فيه، وإذا قلنا: إن الله تعالى له سمع، وللمخلوق سمع، فمعلوم أن سمع الله ليس كسمع المخلوق، بل بينهما تفاوت، فهي متفقة في الاسم، ومتفقة في المعنى العام، وأما الكيفية والصفة فبينهما تفاوت. لفظ التشبيه لفظ مجمل وسئل الشيخ: * يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية" (انظر شرح العقيدة الطحاوية) : "ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح".. نرجو توضيح هذه العبارة؟ فأجاب: كلمة التشبيه: أهل السنة يريدون بها المعنى الصحيح، والمعتزلة يريدون بها نفي الصفات.

فأهل السنة يريدون بكلمة: "ليس لله شبيه" أي نحن ندفع عن الله التشبيه، صحيح أن قصدهم أن يقولوا: إن الله لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا تشبهه المخلوقات، وهذا معنى صحيح. ولكن تارة يراد به المعنى الباطل، وهو نفي الصفات! فإن المعتزلة يقولون: ليس لله سمع، ومن أثبته فهو مشبه، وليس لله علم، ومن أثبته فهو مشبه، فإثبات السمع عندهم تشبيه، وإثبات القدرة عندهم تشبيه، وإثبات الحياة عندهم تشبيه، وإثبات الكلام عندهم تشبيه، فصار لفظ التشبيه لفظاً مجملاً. تارة يراد به المعنى الصحيح، وتارة يراد به المعنى الباطل. (6) احترام كلام الله وأسمائه وصفاته حكم الأكل على ورق الجرائد وسئل فضيلته: * ما حكم استعمال أوراق الجرائد "كفرش" لموائد الطعام؟ فأجاب: هذه الصحف والأوراق غالباً لا تخلو من أسماء الله تعالى، أو بعض آيات القرآن أو الأحاديث الشريفة، فلا تجوز الاستهانة بها، ولا الجلوس عليها، أو جعلها خواناً لموائد الطعام؛ بل تحرق وتتلف بعد الانتهاء من قراءتها. حكم سماع القرآن ونحن في أماكن الخلاء وسئل فضيلته: * استمع في أغلب أوقاتي وأنا في المنزل إلى برنامج "القرآن الكريم" في المذياع، فيصادف أحياناً أن أدخل بيت الخلاء ويكون المذياع مشتغلاً، فما حكم سماع التلاوة وغيرها وإنا داخل بيت الخلاء؟ فأجاب: لا مانع أن تسمع تلاوة القرآن الكريم إن كنت في بيت الخلاء، وذلك لأن السماع ليس مثل الإدخال، والممنوع هو إدخالها مكتوبة في المراحيض، وأماكن التخلي، وأما سماعها وأنت داخل بيت الخلاء فلا مانع. هل يجوز إدخال ما فيه اسم الله إلى بيت الخلاء؟ وسئل فضيلته: * هل يجوز دخول بيت الخلاء ومعي ورقة مكتوب عليها كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"؟ علماً بأن الورقة مهمة جداً ولا يمكن تركها خارج بيت الخلاء؟ فأجاب:

ورد ما يدل على النهي عن دخول الأماكن القذرة بشيء فيه ذكر الله، ولكن قد تعم البلوى، وقد يضطر الإنسان إلى استصحاب شيء من ذلك، فحينئذ قد يُرفع عنه إذا كان خفيّاً، مختبئاً غير واضح. وضربوا مثلاً بالخاتم إذا كان فيه اسم الله، كعبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك، فإن استطاع أن يخلعه ولا يدخل به فهو أولى، وإن لم يستطع؛ جعل فصه في داخل كفه وقبض عليه حتى يكون خفياً فذلك مما يُستأنس به. لذا فعليك أن تخبئ الورقة التي فيها كلمة الشهادة، أو اسم من أسماء الله في جيبك، فإن ذلك أخف، فإن تيسّر إخراجها وعدم الدخول بها فهو أولى. احترام أسماء الله وصفاته وسئل حفظه الله: * ما حكم وضع الأوراق التي فيها أسماء الله أو صفة من صفاته في سلة المهملات أو في برميل الزبالة؟ علماً بأن أكثر من وقع في هذا العاملين في الإدارات والمؤسسات الحكومية (المكاتب) ؟ فأجاب: يجب احترام أسماء الله تعالى وصفاته، ومن احترامها رفعها عن الامتهان إذا وجدت في الصحف والأوراق العادية والمعاملات، فلا يجوز إلقاؤها على الأرض تحت الأحذية، ولا إلقاؤها مع الزبالات في سلة المهملات، حيث إنها تلقى في القمامات ويستهان بها؛ بل يلزم إتلافها وإحراقها، وعلى الكُتّاب أن يحضروا عندهم آلات الإتلاف التي تمزقها قطعاً صغيرة، كما هو معتاد، والله أعلم. (7) الشرك وما يتعلق به ليس للكواكب طبائع تلائمها وسئل فضيلته: * يقول شارح كتاب "العقيدة الطحاوية": ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب، واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها.. ما المقصود: "بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها"؟ فأجاب:

يقولون أن هناك من يعبد الكواكب، والذي يعبدونها يبنون لها الهياكل، والهيكل هو الصورة التي يظنونها على صورة نجم، أو نوء من الأنواء، ثم ينظرون إلى حركة ذلك النجم، فيسندون إليه بعض التأثير، فيقولون: إن من طبيعة هذا النجم الحرارة، أو من طبيعته البرودة، أو من طبيعته الرطوبة، أو من طبيعته الجفاف واليبس، أو ما أشبه ذلك… فإذا مطروا مطراً قالوا: هذا صدق نجم أو نوء كذا وكذا! فيجعلون المطر من طبيعته! وإذا أصابتهم رياح قالوا: أثارها النجم الفلاني، أو النوء الفلاني! وإذا ثارت سحب نسبوها إلى الأنواء. فالطبائع هي إما شدة البرد، أو شدة الحر، أو الجفاف، أو اليبس، أو قلة الأمطار، أو كثرة الأمطار، أو هبوب الرياح، أو إثارة السحب، أو ما أشبه ذلك، يزعمون أنها هي التي تثيرها، ونسوا أن الله تعالى هو الذي يتصرف في الكون، وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وهو الذي سخرها، كما في قوله تعالى: ((وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره)) (النحل:12) . فإذا كانت كلها مسخرات؛ فكيف يكون لها تأثير؟! وكيف يكون لها طبائع تلاءمها؟ (8) الرقى والتمائم الاضطرابات النفسية لا تعالج بالتمائم وسئل وفقه الله: * هل يجوز لي أن أعلق تميمة، حيث إنني أعاني من اضطرابات نفسية؟ فأجاب: لا يجوز تعليق التمائم، لورود النهي عن ذلك وتجوز الرقية بالقرآن، والأدعية، والأوردة المأثورة وكثرة الذكر، والأعمال الصالحة، والاستعاذة من الشيطان، والبعد عن المعاصي وأهلها، فكل ذلك يجلب الراحة والطمأنينة والحياة السعيدة. حديث السبعين المشهور وسئل فضيلته:

* قرأنا في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب في حديث السبعين إنهم (لا يرقون) ، وقرأنا في زاد المعاد لابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى بعض أصحابه، وقال في ذلك بعض الأدعية؛ فهل فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم نَسْخٌ لما ورد في الحديث، أم أنها من الأفعال الخَاصة به؟ فأجاب: أنا قرأت كتاب التوحيد، ولم أجد فيه هذه الكلمة وهي كلمة "لا يرقون"، وهذا السائل إذا كان قد وجدها فيمكن أنها بنسخة غير معتمدة، والرواية التي قرأناها في كتاب التوحيد فيها: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون". فإذا كان في بعض النسخ، "لا يرقون" فيمكن أنها أخذت من رواية ضعيفة، وذلك لأن الحديث موجود في الصحيحين في بعض رواياته: "لا يرقون ولا يسترقون". ولكن صحح العلماء أن كلمة: "لا يرقون" خطأ من بعض الرواة، وأن الصواب: "لا يسترقون". فكونك ترقي غيرك وتنفعه مما تثاب عليه، ولا ضرر عليك في ذلك، فقد نفعت غيرك كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". وأما كونك تطلب غيرك فإن ذلك دليل على ضعف التوحيد،/ ودليل على أنك ما وثقت بالتوكل على الله. فالراقي يجوز أن يرقي غيره، ولكن يكره له أن يطلب من يرقيه. على الجنب المبادرة بالاغتسال أما الحائض والنفساء فلا بأس وسئل وفقه الله: * ما حكم الشرب أو الاستحمام بالماء المقرئ عليه بالقرآن؟ وما حكم الرقية الشرعية على المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء، وعلى الرجل إذا كان جنباً؟ فأجاب: على الجنب أن يبادر بالاغتسال قبل استعمال القراءة ليكون أقرب إلى التأثير، ولو كان ذلك شرباً للماء المقروء فيه، أو غسلاً به. فأمّا الحائض والنفساء فلها استعمال الماء المقروء فيه زمن العادة، حيث إنها قد تتضرر بتأخير الاستعمال. الأكمل للمريض أن يكون طاهراً

وسئل حفظه الله: * هل تجوز القراءة والرقية الشرعية على المرأة المريضة بالمس والعين وغيره، وهي حائض، وعلى الرجل المريض وهو جنب؟ فأجاب: يشترط لقارئ القرآن الطهارة من الحدث الأكبر، الذي يوجب الغسل، كالجنابة والحيض، وأما المريض فالأكمل أن يكون طاهراً أيضاً، لكن إذا مرضت الحائض وتضررت جازت القراءة عليها زمن الحيض للحاجة، سواء كان المرض بالمس أو السحر أو العين. (9) الاضطرابات النفسية والخواطر الشيطانية والطب الشعبي والرؤى والأحلام وساوس الشيطان في الأمور الغيبية وسئل فضيلة الشيخ: * في بعض الأحيان يأتي الشيطان للإنسان، ويوسوس في نفسه في ذات الله، وفي آياته الكونية، فما الذي ينبغي على الإنسان فعله حيال ذلك؟ فأجاب: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا: ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: "جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به!، قال: وقد وجدتموه؟! قالوا: نعم! قال: ذاك صريح الإيمان". وفيه أيضاً عن عبد الله بن مسعود قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: تلك محض الإيمان". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟! فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله". وعنه أيضاً؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟! فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته". وعنه أيضاً؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الخلق؟ فإذا أحس أحدكم بشيء من ذلك، فليقل: آمنت بالله ورُسُلِهِ".

وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء، لأن يكون حممةً أحبَّ إليه من أن يتكلم به، فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". ففي هذه الأحاديث وغيرها بيان أن هذه الأفكار التي قد تطرأ على الإنسان في الأمور الغيبية، أنها وسوسة من الشيطان ليوقعه في الشك والحيرة والعياذ بالله. ثم إن الإنسان إذا وقع في مثل ذلك فعليه أمور؛ كما أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: 1- الاستعاذة بالله. 2- الانتهاء عن ذلك، والانتهاء معناه قطع هذه الوسوسة. 3- أن يقول: آمنت بالله وفي رواية: آمنت بالله ورسله. فإذا خطرت لك وسوسة في ذات الله، أو في قدم العالم، أو في عدم نهايته، أو في أمور البعث، واستحالة ذلك، أو في بيان الثواب والعقاب أو ما أشبه ذلك.. فعليك أن تؤمن أإيماناً مجملاً، فالنصوص تقول: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، وعلى مراد الله.. آمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله. وعلى مراد رسول الله، وما علمت منه أقول به، وما جهلت أتوقف فيه وأكل علمه إلى الله. ولا شك أن هذه الوساوس متى تمادى فيها العبد جرّت إلى الحيرة، أو إلى الشك، وهذا مقصد الشيطان. أما الذي يتمادى مع هذه الوسوسة يقع في الشك، ثم في الحيرة، ثم يتخلى في النهاية عن أمور العبادة، وأما إذا قطعها منذ المرة الأولى، فإنها تنقطع إن شاء الله.. مع كثرة الاستعاذة من الشيطان، وكثرة دحر الشيطان، لأن هذا من كيْده ليوسوس به الإنسان حتى يشككه في إيمانه ودينه. تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق وسئل حفظه الله تعالى: * هل الأحلام والوساوس الشيطانية -في ذات الله ونحو ذلك- التي تأتي للإنسان في النوم أو الصلاة ونحوها تؤثر في الإيمان؟ أم هو دليل على قوة الإيمان؟ فأجاب:

لا شك أن الأحلام تكثر وتقع في النوم في غالب الأحوال، ولكن لا ينبغي الاهتمام بها، فقد ورد في الحديث: "الرؤيا على رِجْلِ طائر حتى تُعْبَر فإذا عُبِرَتْ وقعت". وورد أيضاً: "فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وشر الشيطان، وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره". فإذا كانت أحلاماً غريبة، فهي من الأضغاث، ففي الحديث: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان". ولا يجعلها المسلم أكبر ما يهمه، بل عليه أن يتغافل عنها ويحدث نفسه بما يهمه من أمر دينه أو دنياه، ويعلم أن الله تعالى قد عفى عن التخيلات وحديث النفس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم". وقد وقعت الأوهام لكثير من الصحابة، حتى قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يَخِرَّ من السماء أحبُّ إليه من أن يتكلم به". وفي رواية: "قالوا إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: "وقد وجدتموه؟! ". قالوا: نعم! قال: "ذاك صريح الإيمان". وفي رواية: أنه سئل عن الوسوسة، قال: "تلك محض الإيمان". ونحو ذلك من الأحاديث، التي في صحيح مسلم وغيره. وحيث إنها لا تضر الإيمان، فإن على المؤمن أن يجعل فكره وحديثه فيما بين يديه، فقد ورد في الأثر: تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق. وعلى المسلم أن يكثر من الدعاء بالصلاح والثبات والاستقامة، وأن يكثر من ذكر الله وعبادته وتلاوة كتابه، ويبتعد عن الآثام والسيئات التي يتسلَّط بها الشيطان على المسلم، والله أعلم. علاج الخواطر الشيطانية وسئل فضيلته: * ترد على خاطري أحياناً هواجس وخواطر، أخاف أن تخرجني عن ديني، فماذا أفعل تجاهها؟ وهل علي إثم في ذلك؟ فأجاب:

هذه الخواطر والأفكار من الشيطان فهو الذي يوسوس في صدور الناس، ليوقع المسلم في الحيرة، فإذا أحسست بشيء من ذلك فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، من نفثه وهمزه ولمزه، وعليك بالانتهاء عن التفكير في الأمور الغيبية، وأمور الصفات والكون، حتى لا يضعف اليقين. رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وسئل فضيلته: * يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي". فهل تتحقق رؤية أحد من الأنبياء غير الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب: فيما يظهر لي أن هذا الحديث خاص بالصحابة الذين رأوا شخصه، وعرفوه ورأوا وجهه، وعاشروه وعرفوه، فإذا رأوه في المنام عرفوه، وقالوا: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم. أما من بعدهم الذين لم يروه، فإن الشيطان قد يتمثل بصورة إنسان، أي إنسان، ويقول: أنا محمد‍ فما يدريك أن هذا محمد! صلى الله عليه وسلم؟ فهل رأيته حتى تحكم أن هذه هي صورته وشخصه؟ فما دامت أنك لم تره فليس هناك يقين بأن هذا محمد صلى الله عليه وسلم. وبهذا تبطل كثير من المرائي التي يحتج بها الخرافيون. يقول أحدهم: رأيت الرسول في المنام، فإذا هو يقول لي: زر القبر الفلاني، وافعل كذا، وكذا‍ فيتمسك هؤلاء بتلك الرؤيا، ويقولون: الرسول لا يتمثل به شيطان! نقول: ومن أدراكم أن هذا غير شيطان؟ قد تكون هذه صورة شخص عادي يتمثل به الشيطان ويتسمى بأنه محمد، وليس هو. أما الأنبياء السابقون قبله، فلا أذكر فيهم شيئاً من هذا، ولكن يقرب أنهم مثل النبي صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان لا يتمثل بصورهم. أما إذا كان أحد أصحابهم يعرفون شخص ذلك النبي، بأن هذا هو عيسى، وأن هذا هو أيوب، رؤية عين في اليقظة، ثم رأوا في المنام من يشبههم، مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأوه في الحياة، فنعم أي قد رآه حقاً. لم يجد الطب معي.. فهل يعالجني الشيخ؟

وسئل فضيلته: * توجد امرأة أصيبت بمرض لا تعلم ما هو، ولم يجد الطب لها علاجاً، فأتت بشيخ يقرأ عليها، فلما رآها قال: إن الخادمة التي في المنزل وضعت لها إبرة في الفراش، وطلب هذا الشيخ الدخول إلى الغرفة، وتبخيرها وبإذن الله تشفى. فهل قوله هذا صحيح؟ وكيف علم بهذا؟ وهل له اتصال بالعالم الآخر؟ وهل تأذن له بالدخول إلى الغرفة؟ فأجاب: هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لكن ينظر في حال هذا الشيخ، فإذا كانت أحواله مستقيمة، يعني محافظاً على العبادات، ومن حملة كتاب الله، ومن العاملين به، ومن أهل العلم الصحيح، وأهل العقيدة السلفية السليمة، فقد يكون من باب خوارق العادات، أو من المكاشفات، أو يمكن أنه رأى لذلك علامات، فلا مانع والحال هذه من تمكينه مما طلب. أما إذا كان قليل العبادة، ومتهماً في ديانته، أو في عقيدته، أو مبتدعاً، أو من أهل المعاصي، أو منحرفاً أو ما أشبه ذلك، أو من أهل الشعوذة والكهانة والسحر، وتعاطي الأمور السحرية ونحوها.. فلا يجوز والحال هذه.. لا سؤاله، ولا تمكينه. ولا مانع من فعل العلاجات ومن جملتها التبخير، فإن التبخير بالبخور العادي قد يكون له تأثير، إما تأثيراً في الجن ومردة الشياطين ونحوهم، وإما تأثيراً في الجو، فيحدث بإذن الله شيئاً من الصحوة ومن النشاط. موقف الإسلام من الأطباء الشعبيين وسئل فضيلته: *ما موقف الإسلام من الأطباء الشعبيين؟ فأجاب:

ورد في الحديث: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء عَلِمَه من عَلِمَه، وجهله من جهله". فهؤلاء الأطباء الشعبيون قد عملوا بالتجربة على هذه الأدوية، ورجعوا فيها إلى كتب الطب التي جمعها علماء عارفون بذلك، وهذا فن من فنون العلم الكثيرة، قد تخصص فيه أقوام من عهد النبوة، وقبلها وبعدها، وعرفوا تراكيب الأدوية وخواص كل دواء، وكيفية استعماله، مع اعتقادهم أنها أسباب للشفاء، وأن الله تعالى هو مسبب الأسباب، فعلى هذا لا بأس بتعلم ذلك والعلاج به، وعلى السائل أن يقرأ كتاب: (الطب النبوي) لابن القيم، وللذهبي، و (الآداب الشرعية) لابن مفلح، وكتاب (تسهيل المنافع) ، وغيرها. العلاج هو: ذكر الله والصبر وغيره وسئل فضيلته: * عن رجل أصيب بداء، فذهب إلى الأطباء ولم يستفد شيئاً، ثم ذهب إلى المشايخ والقراء فإذا قرأوا عليه هدأت نفسه، وبعد فترة تعود حالته إلى ما كانت عليه، ثم هو يقول: ما العلاج في ذلك؟ فأجاب: العلاج يكون بأمور: أولاً: الطمأنينة إلى الخير، ومحبته. ثانياً: الصبر على ما تلاقيه نفسك من القلق، واحتساب أن هذا من المصائب التي يبتلي الله بها العباد، ويختبرهم، هل يصبر العبد أم لا؟ فإذا صبر فإن الله تعالى يثبته، قال تعالى: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)) (الزمر:10) . هذا من حيث العموم. أما من حيث الخصوص: فنوصيه بأمور: أولاً: كثرة الأعمال الخيرة والصالحة، كالصلوات والعبادات والأذكار وقراءة القرآن ونحوها. ثانياً: ونوصيه أيضاً بحضور مجالس الذكر، ومجالس العلم، فإن فيها ما يطمأن نفسه، وبها يشغل نفسه عن تلك الأفكار. ثالثاً: ثم نوصيه بأن يشغل نفسه بأي شيء مفيد، فمثلاً يشتري الأشرطة والكتب المفيدة والتي فيها المواعظ والإرشادات والعلم النافع والأحكام والقصص والعبر، التي يشغل بها وقته، وتطمئن بها نفسه.

فإذا اشتغل بذلك كله، ووطن نفسه على ذلك، وَأكْثَرَ من ذكر الله، ومن قراءة القرآن، وعلاج نفسه بالأدعية الواردة في الكتاب والسنة، بعد ذلك نرجو من الله أن يخفف عنه ما يجده. الوساوس الشيطانية وسئل أثابه الله: * ما الأسباب والوسائل التي تعصم الإنسان وتحصنه من الوساوس والأوهام الشيطانية، وتجعله سليماً مستقيماً في عقيدته وسلوكه؟ فأجاب: عليه أولاً: أن يكثر من الاستعاذة بالله من شر الشياطين وأوهامها ووساوسها، ويعتقد أن ربه هو الذي يعيذه ويعصمه ويحميه، وَيَحُولُ بينه وبين تلك الأوهام والتخيلات. كما أن عليه ثانياً: أن يذهب من نفسه تلك التخيلات والواردات، التي تشككه في عقيدته ودينه وطهارته وصلاته سواء في صحتها أو في أصلها، بل يعتقد جازماً أنها عين الصواب والحق، وأن ما يجول في نفسه من الشك والريب في صحتها أو موافقتها كله من أوهام الشيطان، ليوقعه في الحيرة وليكلفه ما لا يطيق، حتى يملَّ العبادة أو يعتقد بطلانها، وهذا ما يريده إبليس من المسلمين، والله أعلم. كيفية النفث عند التعرض لوساوس الشيطان في الصلاة وسئل حفظه الله تعالى: * شكا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تَعَرّض الشيطان وإشغاله لهم في الصلاة، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منه، والنفث ثلاثاً، نرجو بيان كيفية النفث عند التعرض لمثل هذا الموقف في الصلاة ولو تكرر ذلك كثيراً؟ فأجاب: أولاً: على الإنسان أن يستعيذ من الشيطان عند ابتداء الصلاة والقراءة. ثانياً: عليه أن يحرص على إحضار قلبه لما يقوله في صلاته، فإذا قرأ تأمل ما يقرأ، وإذا دعا تأمل ما يدعو به، وإذا ذكر الله تأمل معاني الأذكار التي يدعو بها، حتى ينشغل بتأمل ذلك عن وساوس الشيطان. ثالثاً: إذا ابتلي ووقعت منه هذه الوسوسة، فإن عليه أن يجدد الاستعاذة ولو بقلبه، وينفث عن يساره ثلاثاً.

والنفث هو: النفخ مع قليل من الريق، أي: نفخ مختلط بشيء أو قليل من الريق، هذا هو النفث، وهو الذي يستعمل في القراءة على المريض، بأن ينفث عليه، لعل ذلك يكون مانعاً من الشيطان. الوساوس الشيطانية في الصلاة وسئل حفظه الله: * عن الوساوس الشيطانية في الصلاة والتفكير في أمور الدنيا، حتى إن بعضهم يَشْرُد ذهنه في الصلاة فما يدري ما يقول الإمام، فما علاج مثل هذا الأمر؟ وهل ينقص هذا من أجر الصلاة؟ فأجاب: لا شك أن هذه الوساوس وأحاديث النفس من الشيطان، لينقص على المسلم صلاته، ولكنها شيء غالب على أكثر الناس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". ولأجلها شرع سجود السهو؛ فإن سببه: أن المصلي يشرد ذهنه، فلا يدري ما صلى، فيزيد أو ينقص. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان يأتي المصلي فيقول: له اذكر كذا واذكر كذا، -لما لم يكن يذكر من قبل- حتى يَظَّل الرجل، ما يدري كم صلى.. الخ. وقال عمر رضي الله عنه: "إني لأجهر بصوتي وأنا في الصلاة"، وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص لأبيه في قوله: ((الذين هم عن صلاتهم ساهون)) (الماعون:5) : أيُّنا لا يسهو؟ أيُّنا لا يحدث نفسه؟ فأخبره أن السهو عنها تأخيرها عن وقتها. ولكن على المسلم أن يحرص على الإقبال على صلاته. * فإن كان في قراءتها؛ تدبرها وتأمل معانيها، حتى لا يتحدث بغيرها. * وإن كان في دعاء أو ذكر؛ تعقله واستحضر ما يدل عليه. * وإن كان في ركن كقيام وركوع وسجود؛ تفكر في سببه وحكمة مشروعيته، واحضر قلبه فيه، وبذلك ينشغل بصلاته ويقبل عليها بكليته. ثم إن غلبه حديث النفس، فليحذر من الحديث بأمر الدنيا وشهواتها وأعمالها، والله يعفو ويغفر ما شذ عن ذلك، والله أعلم. (10) ادعاء علم الغيب من ادعى علم الغيب فهو كاهن أو ساحر أو طاغوت وسئل فضيلته:

* ما حكم من ادعى الغيب؟ وما هي أنواع الغيب التي يتشوق الإنسان إلى معرفتها؟ فأجاب: من ادعى علم الغيب فهو كاهن أو ساحر أو طاغوت، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله، لقوله تعالى: ((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)) (الأنعام:59) . والمراد بالغيب: علم ما يكون في الأزمنة القادمة، وعلم الآجال والأعمار، ونحو ذلك. (11) السحر والكهانة والتنجيم حقيقة السحر وسئل عفا الله عنه: * هل للسحر حقيقة؟ فأجاب: نعم! له حقيقة، وحقيقته أن السحرة يعبدون الشياطين، ويطيعونهم، وهم يساعدونهم على ما يريدون، والله تعالى قد أعطى الشياطين من القدرة ما يزاولون به أعمالاً غريبة. السحر عمل شيطاني والساحر مشرك كافر وسئل حفظه الله: * عن امرأة ساحرة تعمل السحر، وقد تضرر منها أناس كثير، فما الواجب نحو هذه المرأة الساحرة؟ وعن كيفية التخلص من هذا السحر؟ فأجاب: فإن السحر هو عمل شيطاني، حيث يتقرب الساحر إلى الجن بالذبح لهم، أو دعائهم من دون الله، أو ترك الصلاة، أو أكل النجاسات ونحو ذلك، حتى تخدمه الشياطين ومردة الجن، فيلابسون من يريده، ويقتلون ويعوقون ويعقدون الرجل عن امرأته، ويصرفون أحدهما عن الآخر ونحو ذلك. وعلى هذا فالساحر مشرك كافر، لأجل تقربه إلى غير الله بهذه الأعمال الكفرية، فلذلك ورد الأمر بقتله، وثبت ذلك عن عمر بن الخطاب، وبنته حفصة، وجندب رضي الله عنهم. وعلى ما ذكرنا فلا يجوز ترك هذه المرأة التي اشتهرت بعمل السحر، فإن كان لديكم بينات وقرائن، فارفعوا أمرها وبما حصل منها من الأضرار، حتى تقتل ويستريح الناس من شرّها، وعلى رب الأسرة السعي في إزالة ضرر هذه المرأة، ولو كانت والدته؛ حيث إن هذا العمل كفر بالله، وضرر على عباد الله، ومتى قتلت انزجر غيرها، وامتنعوا عن مثل هذا العمل الشيطاني.

فإن امتنعوا كلهم من تغيير الحال، ورضوا عن هذه العجوز، وتركوها على هذا الأمر، فإنك أنت مسؤول عن ما تعرف عنها، فاحرص على إثبات الوقائع التي حَصَلَتْ منها، وأثبت ما تقدر عليه من القرائن والبيّنات، وما يعرفه عنها الجيران والأهلون، ومتى حَصَلْت على المعلومات الكافية فارفعها إلى المحكمة الشرعية، ليجرى فيها حكم الله تعالى، وهو العمل بحديث: "حد الساحر ضربة بالسيف". ولا يحق لك أن تقيم على هذه الحال التي تعاني فيها من هذه الأضرار، وبعد ذلك نوصيك: أولاً: بالتحصن بكثرة ذكر الله وقراءة القرآن، واستعمال الأوراد في الصباح والمساء، وذلك مما يحفظك الله من الجن والسحرة. ثم نوصيك ثانياً: بعلاج ما أصابك بالرقية الشرعية، عند القراء المعروفين، باستعمال كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والأدوية الشرعية، وهم كثيرون في البلاد، وقد نفع الله بهم من أراد الله به خيراً، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (12) الحسد والعين والتكبر إنَّ الله جميل يحب الجمال وسئل فضيلة الشيخ: * عن امرأة تحب أن تكون متميزة عن غيرها في لباسها، ولا تريد أحداً مثلها؛ بل ولا تريد أحداً أفضل منها، ولكنها لا تتمنى زوال نعمة أحد من الناس، فهل هذا حسد أم كبر؟ علماً بأنها تكره هاتين الصفتين، الحسد والكبر؟ فأجاب: لا ندري ماذا يقوم بقلب هذه المرأة مما يجعلها على هذه الصفات… * فإن كان ذلك حسداً فهو محرم. * وإن كان تكبراً أو استنكافاً عن مشاركة الغير في ذلك الوصف؛ فهو محرم أيضاً، ولكن الكبر المذموم هو بطر الحق وغمط الناس، أي: احتقارهم، وليس من الكبر من يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فإن الله جميل يحب الجمال.

* وإن كان فعلها هذا حبّاً للتميز والشهرة، بسمة خاصة، فينظر إلى سبب ذلك، ويمكن أن يكون هذا من الأخلاق التي تتمكن من قلوب بعض الناس دون أن يكون لها دوافع ممنوعة، والله أعلم. كيف تتقي العين؟ وسئل فضيلته: * هل للمسلم أن يحتاط من العين، مع ثبوتها في السنة؟ وهل يخالف ذلك التوكل على الله؟ فأجاب: ورد في الحديث: "إن العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا". والعين، هي: عين الإنسان التي تصيب الأشياء فتتلفها، ولا تفسد إلا بإذن الله، وَبِقَدرِهِ. أما كيفيتها: فالله أعلم بها؛ إلا أن بعض الناس تكون نفسه شريرة، وتنبعث منها عند تسممها مواد سامة ضارة، تصل إلى ذلك المعين، فتحدث فيه أحداثاً بإذن الله كأن يتألم ونحو ذلك. ولك أن تحتاط، ولك أن تبذل الأسباب التي تقيك من شره، ومن هذه الأسباب: الاستعاذة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان، وعين الإنسان. وكان جبريل عليه السلام يرقي النبي صلى الله عليه وسلم من العين فكان يقول: "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك". فعلى الإنسان أن يأتي بهذه الأدعية، والأسباب التي تقيه، مع معالجة ذلك إذا وقع، فإنه إذا اتهم إنسان بأنه أصابه بالعين، فيطلب منه أن يغسل له ثوبه أو نحو ذلك، لقوله في الحديث: "وإذا استغسلتم فاغسلوا". الكافر كغيره يصيب بالعين وسئل حفظه الله: * هل صحيح أن الكافر لا يصيب المسلم بالعين -أي بالحسد-؟ وما هو الدليل؟ فأجاب: ليس بصحيح؛ بل الكافر كغيره قد يصيب بالعين. (13) الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة والتوسل والشفاعة الاستغاثة بغير الله وسئل حفظه الله:

* عن إنسان يستغيث بغير الله، إما بالشيوخ، أو بالأولياء، أو بالأنبياء. علماً بأنه مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلي، ويصوم، هل تنقص هذه الاستغاثة التوحيد؟ أم توقعه في الشرك الأكبر؟ فأجاب: الاستغاثة بغير الله معلوم أنها من الشرك الأكبر، وذلك أن الاستغاثة دعاء يكون من الإنسان إذا وقع في كرب وفي شدّة. فهذا يسمى استغاثة. والكفار في الجاهلية كان أحدهم عندما يصيبه الكرب في البحر لجأ إلى الله، فيستغيث بربه ويطلب منه أن ينقذه مما هو فيه من الكرب، قال تعالى: ((وإذا مسّكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه)) (الإسراء:67) . أما الذي يذكر غير الله، ويستغيث بغير الله، في حالة الشدائد، أكبر شركاً من المشركين الأولين الذين نزل فيهم القرآن، والذين كفّرهم الله تعالى، وقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعلينا أن نسأل هذا المستغيث: هل هو مثلاً يقول: يا ولي الله أغثني! فأنا في حسبك! ولا حول لي إلا أنت! ولا أحد ينجيني إلا أنت! أنا معتمد عليك، يا ولي الله خذ بيدي! نجني مما أنا فيه؟!! وإذا كان مثلاً في البحر، وتلاطمت به الأمواج، أخذ يقول مثلاً كقول الرافضة: يا علي! أو يا حسين! نجني من الكرب! أو ما أشبه ذلك؟!! أو يقول: يا عبد القادر الجيلاني! أو يا بدوي! أو ما أشبه ذلك… فإن هذا شرك أكبر!! فهذا معنى الاستغاثة: أن يشهد أن لا إله إلا الله، ويصلي، ويصوم، ولكنه يحلف ويستغيث بغير الله تعالى، فهذا شرك أكبر، ولا ينفعه هذا التوحيد مع هذه الاستغاثة، وهو على خطر عظيم. (14) القبور وما يتعلق بها تحريم زيارة النساء للقبور وسئُل فضيلة الشيخ: * ما السبب أو العلة في تحريم زيارة النساء للقبور؟ فأجاب:

أولاً: ورد النهي الشديد عن زيارة النساء للقبور، بقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوَّارات القبور". وقوله لفاطمة -لما زارت أناساً للتعزية-: "لو بلغت معهم الكداء -يعني أدنى المقابر- ما رأيت الجنة". ثانياً: ورد تعليل ذلك، بقوله صلى الله عليه وسلم -للنساء اللاتي تبعن الجنازة-: "فارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت". فعلَّل نهيهن بعلتين: الأولى: كونهن فتنة للأحياء، فإن المرأة عورة، وخروجها وبروزها للرجال الأجانب يوقع في الفتنة، ويجر إلى الجرائم. الثاني: كونهن يؤذين الميت، فإن المرأة قليلة الصبر ضعيفة القلب، لا تتحمل المصائب، وذلك محرم شرعاً. هل يرش الماء على قبر الميت وجيرانه؟ وسئل فضيلته: * يقوم بعض الناس بعد الفراغ من دفن الميت برش الماء على القبور المجاورة، ويقولون: اسقوا جيرانه، أو نحو هذا الكلام، هل لهذا العمل أصل في الشرع، أو أنه بدعة؟ فأجاب: ذلك لا أصل له؛ إنما يرش قبر الميت بعد أن يدفن، حتى ييبس ظاهر القبر الذي هو من تراب، فيجعل عليه الحصى ثم يرش بالماء حتى ييبس، وحتى لا تذروه الرياح، فإن الرياح قد تثير ذلك التراب، وتحمله عن القبر، ولربما يظهر بعض القبر، فلأجل ذلك يرش الماء. أما الجيران الآخرون فقد تيبست قبورهم، وقد تصلبت فلماذا يسقى هؤلاء؟! إن هذا العمل لا أصل له في الشرع، وليس هذا من السقي كما يقولون! لا إثم في زيارة المقابر يوم الجمعة وسئل حفظه الله: * يوم الجمعة يكون بالنسبة لنا إجازة، فلو خصصنا هذا اليوم أو بعض ساعات منه لزيارة المقابر، فهل يدخل هذا في البدع؟ فأجاب:

لا يدخل؛ لأنه وردت بعض الأدلة في زيارة المقابر يوم الجمعة، وأن أهل المقابر يسمعون من يزورونهم يوم الجمعة، أو يوم السبت أو نحو ذلك، وما دام أنكم لم تقصدوا تخصيص هذا اليوم، وأن هذا هو وقت فراغكم، فلا إثم عليكم إن شاء الله، وقد ورد في تخصيصه وفضله بعض الأدلة، ولكنها لم تثبت. هدم القبر المرتفع وسئل حفظه الله: * توفي أخي، فقام أحد أقاربنا ببناء قبر مرتفع عن سطح المدفون بها، و َكَتَبَ عليه آيات من القرآن، فهل يجوز مثل هذا البناء؟ فأجاب: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر، وأن يجصص. وأن يكتب عليه. وأمر عليّاً رضي الله عنه بقوله: "لا تدعن قبراً مشرفاً إلا سوِّيته". أي جعلته كغيره، ولعل السبب أن ذلك مما يلفت الأنظار، ويسبب الفتنة بصاحب القبر، فيعتقد الجهلة أنه قبر ولي، أو سيد صالح، فيحملهم على التعلق به، واتخاذه مسجداً يصلى عنده، وقد ورد النهي عن ذلك، وإنما ورد رفع القبر عن الأرض بنحو شبر. ليُعرف أنه قبر، فلا يُجلس عليه، ولا يوطأ بالأقدام، أو نحو ذلك. حكم البناء فوق المقابر القديمة وسئل فضيلته: * هناك مقبرة قديمة جدِّاً؛ والدليل على أقدميتها أن بعض قبورها موجهة إلى بيت المقدس، فهل يجوز بناء البيوت فوقها لكونها قديمة؟ فأجاب: لا يجوز البناء على القبور ما دامت واضحة المعالم، ومتحقق أنها قبور، ولو كانت قديمة، وليس كونها موجهة إلى بيت المقدس دليلاً على قدمها، ولا يدل على أن أهلها غير مسلمين، ما دامت البلاد بلاداً إسلامية. فعليك أن تحوِّط عليها حاطاً منيعاً، وتتصرف في بقية أرضك بالحرث والبناء ونحوه. زيارة قبور المشركين وآثارهم وسئل حفظه الله: * هل يجوز للمسلم أن يزور مقابر الكفار، وآثارهم للتذكر؟ مثال ذلك: الأهرامات بمصر، حيث يوجد بها مقابر الفراعنة، وآثارهم؟ فأجاب:

لا يجوز شد الرحال إليها، ولو كان ذلك للاعتبار والتذكر، ولكن إذا كان هناك في مصر، أي: أتاها من غير شد رحل، للاعتبار والنظر في آثار من قبلنا، وكيف أن قوتهم ما دفعت عنهم؟! وكيف أن ما فعلوه كان عاقبة لهم؟! وما بقي إلا آثارهم، وأخبارهم، ويأخذ من ذلك العبرة والموعظة، ويستعد للآخرة، ويعمل عملاً صالحاً، ويعرف أن العمل الصالح هو الذي يبقى، وهو سبب النجاة، فلا مانع من ذلك إن شاء الله، ولو كان فيها قبور المشركين، لأنه لم يقصد بزيارته تعظيم القبور، أو الطواف بها، والتمسح بها، كما يفعل بعض من يزور تلك القبور. حول تمييز القبر وزيارته وسئل: * هل يجوز أن يزار قبر شخص بعينه، مع زيارة القبور الأخرى؟ وما حكم تعيين قبر بعلامة، أو بإشارة من أجل معرفة صاحب هذا القبر؟ فأجاب: زيارة القبور مشروعة لسببين: الأول: تذكر الآخرة. الثاني: الدعاء للموتى. وتجوز مثلاً كل أسبوع، أو كل أسبوعين، أو كل شهر، أو نحو ذلك، أو إذا أحس الإنسان بقسوة قلبه، فإنه يزورهم حتى يتعظ، وحتى يلين قلبه أو نحو ذلك. ويجوز أن يخص الإنسان بزيارة قبر أبيه، أو قبر أخيه، أو قريبه، أو نسيبه، فيجوز له أن يزور قبراً معيناً، ثم يسلم على القبور جميعاً. ويجوز أن يعلِّم القبر بعلامات يُعْرَفُ بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجراً، وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر، أو لبنة، أو خشبة، أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها هذا القبر عن غيره، حتى يزوره، ويعرفه. أما أن يكتب عليه، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد نُهي أن يكتب على القبور، حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعاً زائداً عن غيره. أفضل الأوقات لزيارة المقابر وسئل فضيلته: * هل هناك وقت لزيارة المقابر، فقد سمعنا أن زيارتها في الليل سنة؟ فأجاب:

ليس هناك وقت محدد لزيارة المقابر، إلا أن بعض العلماء يستحب زيارتها يوم الجمعة، وبعضهم يوم السبت. ولكن متى تيسر لك أن تزورها في أي وقت فافعل، ولا عليك أن تحدد وقتاً من الأوقات. وزيارة القبر مشروعة لتذكر الآخرة، والدعاء للأموات، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور في أول الأمر، لما كان الصحابة حديثو عهد بالجاهلية مخافة الغلو، ولما اطمأنوا وعرفوا التوحيد، رخص لهم، وقال: "زوروا القبور فإنها تذكّر الموت". فمتى أحس الإنسان في قلبه قسوة، فإن عليه أن يزورها ليعتبر ويتذكر، ويدعو للأموات متى تيسر له في صباح الجمعة، وهو الأفضل أو غيرها من الأوقات. أما زيارتها في الليل، فلا أذكر دليلاً عليه، ولا أذكر أن أحداً استحبه، بل قد ورد كراهة الدفن ليلاً عند كثير من العلماء، والآخرون قالوا: "لا بأس بالدفن ليلاً إن شاء الله". عذاب القبر وسئل فضيلة الشيخ: هل يعذب أهل الكبائر في القبر؟ فأجاب: لا شك أن عذاب القبر -الذي هو البرزخ بين الدنيا والآخرة- قد أعد تمحيصاً، أو أُعد عاجلاً، يعني عذاباً معجلاً، فإذا مات الإنسان وهو مصر على كبائر وذنوب كثيرة، كترك الصلاة، أو ترك الجماعة، أو شرب الخمر، أو قتل النفس، أو ما أشبه ذلك. فإن هذه من الذنوب الكبيرة، فلا يأمن أن يعذب. وقد رويت أحاديث كثيرة فيها وعيد شديد لمن اقترف ذنباً من تلك الذنوب، وعيد في البرزخ، ووعيد في الآخرة. وبكل حال فإن عذاب القبر يناله العصاة المصرون على الكبائر، كما يناله الكفار والمنافقون ونحوهم. وما روي في بعض الأحاديث من أنه للمنافق، والكافر، وللمرتاب، ونحو ذلك. فهذا هو العذاب الغليظ، والعذاب المستمر لهؤلاء، ويكون للذين ماتوا وهم مصرون على الكبائر، ويلزمون بقدرها، كما أنهم يدخلون النار بقدر سيئاتهم وكبائرهم حتى تمحص، ثم يخرجون من النار بعد ما تمحص.

فكذلك يكون هذا العذاب في البرزخ تمحيصاً وتكفيراً لما اقترفوه من سيئات. (15) رسالة الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق رسالة الجواب الفائق في الرد على مبدِّل الحقائق المقدمة الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه. وبعد: فلقد قرأت النصيحة الصادرة من أحد علماء مصر، والتي بعث بها المرسل المسترشد محمود عبد الله راشد، من الجمهورية العربية المصرية، إلى مفتي مكة المكرمة، وبعد أن قرأت فيها عنوانها تفاءلت به، ولكن اتضح أنه قد أخطأ الحق في بعض المواضيع فيما يتعلق بالصفات، وفيما يتعلق بالأعمال، فأحببت أن أعلق عليها ببعض التنبيهات على ما ظهر لي أنه خطأ، وأوضِّح الصواب في ذلك حسب ما وصل إليه علمي، وأستشهد على ذلك ببعض أقوال العلماء الصالحين المخلصين، وأقدم ما يتعلق بالصفات، مرتباً ذلك حسب أسطر الصفحات. في صفات الله أولاً: طريقة السلف إثبات الصفات حسب ورودها: في السطر الحادي عشر من الصفحة الأولى قال في إثبات بعض الصفات: [يسمع بغير أصمخة وآذان، ويرى بغير حدقة وأجفان، ويتكلم بغير شفة ولسان.. الخ] . فأقول: إن طريقة سلف الأمة إثبات الصفات حسب ورودها، واعتقادها صفات حقيقية لها معان مفهومة، ونفي التشبيه عنها، وإبعاد كل ما يتوهم فيه التشبيه وما هو من خصائص المخلوقين، مع الاقتصار في النفي والإثبات على ما وردت به النصوص، فنحن نثبت صفة السمع والبصر والكلام، مع إثبات الحقيقة ونفي التشبيه، فأما ذكر الأصمخة والآذان، والأحداق والأجفان، والشفة واللسان، فلا نتعرض لها بنفي ولا إثبات، وننكر على من أثبتها، وعلى من نفاها، مع وصف الله تعالى بأنه الأحد الصمد، وقد فسر الصمد بأنه المصمت، الذي لا جوف له، أو بالسيد الذي كمل في سؤدده، وكلاهما معروف في اللغة. ثانياً: الوهابية متبعون للسلف في إثبات الصفات:

قال في السطر الحادي والعشرين من الصفحة الأولى ما نصه: [كتهمة الوهابية للذات العلية يعتقدون بأن لله جسماً محدوداً، مُؤَلَّفاً من أعضاء، يد محسوسة يبطش بها، ورجل يمشي بها، يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع، فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت، لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم من دائرة الإسلام؛ لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء … الخ] . والجواب أن يقال: مراده بالوهابية: أتباع أئمة الدعوة السلفية، التي قام بها في نجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر، وهو وأتباعه رحمهم الله ليس لهم مذهب خاص؛ بل هم في العقيدة على معتقد السلف الصالح والأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام السنة والحديث، مع أنهم لا يعيبون من تبع مذهب إمام من الأئمة المعتبرين، وإذا تبين لهم الحق والصواب في غير مذهب إمامهم، تبعوه مع من كان، وقد ذكرنا آنفاً أننا متبعون للنص والدليل ندور معه حيث دار، ففيما ذكره هذا القائل عدة أخطاء: الأول: تسميته لهم بالوهابية: بعد أن عرفت أنهم لم يختصوا بشيء ولم يبتدعوا جديداً، وأن كل ما قالوه: إنهم متبعون للنصوص وللسلف الصالح، ولأن القائم بالدعوة ليس هو عبد الوهاب، وإنما هو ابنه الشيخ محمد، فهم المحمديون أصلاً وفرعاً، ولأن الوهَّاب اسم من أسماء الله تعالى، فهو الذي وهبهم الهداية والعلم والعمل. الثاني: رميه لهم بالتجسيم:

فهم لم يقولوا بذلك أبداً، ولم يستعملوا هذه اللفظة إثباتاً ولا نفياً، فمن قال: إن الله جسم فهو مبتدع، وكذا من نفى الجسم فهو مبتدع أيضاً، حيث إن هذه اللفظة لم ترد في النصوص، ولم يستعملها السلف والأئمة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، مع أنا نثبت الصفات الواردة ونعتقد حقيقتها، وننفي عنها التشبيه والتمثيل، ولا يلزم أن يكون مجسمة إذا قلنا: بأن الله فوق عباده على عرشه بائن من خلقه، أو قلنا: إن له يداً ووجهاً وعيناً كما يشاء، أو قلنا: إنه ينزل ويجيء لفصل القضاء كما يشاء، فإن هذه الصفات ونحوها قد وردت بها النصوص، فنحن نعتقد حقيقتها ولا نمثلها بخصائص المخلوق، ولا نثبت لها كيفية أو مثالاً، فكما لم ندرك كُنْهَ الذات وماهيتها، فكذا نقول في هذه الصفات، فإنّا نثبتها إثبات وجود لا إثبات تكييف وتحديد، كما قال ذلك أكابر الأئمة. فكيف يلزم من ذلك أن نكون مجسمة؟!. وهكذا قوله: [محدود] . نفضل ترك الخوض في الحد، مع أنه من المسائل التي أثبتها بعض السلف ونفاها البعض، ولكن الأفضل التوقف؛ حيث إن البحث في ذلك مُبْتَدَع، وإن اللفظ لم يرد في الأدلة، ومع ذلك فعذر من أثبت الحد ومن نفاه أن لكل منهما مقصداً ظاهره الصحة. وبالجملة: فلا اختصاص لنا بهذا دون غيرنا، ولكن هذا الكاتب مزجى البضاعة في عقيدة السلف وأقوالهم، وكان الأولى أن يوجه طعنه ولومه على علماء السلف وأئمتهم، فإن هذه الأقوال والمذاهب المأثورة عنهم مدونة في مؤلفاتهم الموجودة المشهورة!! الثالث: قوله عن الوهابية: إنهم يصفون الرب تعالى بأنه: [مؤلف من أعضاء: يد محسوسة يبطش بها، ورجل يمشي بها.. الخ] . والجواب:

إن هذا من جنس ما قبله قول عليهم بلا علم، فإن التأليف جمع المتفرق، أو تركيبه من أدوات مختلفة، وهذه اللفظة محدثة في العقيدة، لا نقول بها ولا نستعملها في عقائدنا ولم ترد في النصوص؛ حيث إن لازمها قول باطل كما ذكرنا. فأما إثبات اليد والرجل حيث وردت فإنا نقتصر على ذلك، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات اليد بما لا يدع مجالاً في أنها يد حقيقية، لكنا نقول: إنها لا تشبه خصائص المخلوق، وإن الله يقبض بها السماوات والأرض كما أخبر عن ذلك (وذلك كما في قوله تعالى: ((وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون)) (الزمر:67) . وأما الرِّجل: فقد ورد في السنة أن الله يضع رجله أو قدمه على النار، وورد في القرآن ذكر السّاق ووُضِّح في الحديث، فإذا أثبتنا ذلك لم يلزم أن نكون مجسمة، ولم يلزم أنّا نقول: إن الله تعالى مؤلف من أعضاء؛ بل نقول: إن ذاته حقيقية، وصفاته حقيقية؛ كما يليق به، كما أنا لا نقول بالبطش والمشي الذي رمانا به؛ بل نقتصر على الوارد في الكتاب والسنة. الرابع: زعمه أنهم يصفون الله بأنه: [يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع.. الخ] . الجواب:

إن هذا قول لا حقيقة له، ولا عمدة له في هذا النقل، فهذه مؤلفاتهم وعقائدهم مطبوعة شهيرة، ولا يوجد فيها هذه الألفاظ، فإنهم ينفون الصفات التي لم ترد في الوحيين ويتقيَّدون بالأدلة، ولكن أعداءهم يلزمونهم بلوازم باطلة، فإذا أثبتوا الاستواء كما يليق بالله أو فسروه بالعلو والارتفاع -كما قاله السلف وأهل اللغة- لم يلزم أنهم قائلون بالجلوس والقيام، فقد تكاثرت الأدلة على إثبات العلو الحقيقي بكل معانيه، وعلى إثبات العرش. وأن الله تعالى مستو عليه كما يشاء، فليس لنا إنكار ذلك أو تسليط التأويلات التي هي تحريف للكلم عن مواضعه على تلك الأدلة واضحة الدلالة، فمتى ألزمنا أعداؤنا بلوازم باطلة زاعمين أنها تلزم من قال بموجب تلك النصوص، لم نلتفت إلى تلك الإلزامات وأوضحنا خطأهم في هذا الإلزام. فأما إثبات النزول والمجيء فليس لنا إنكاره، وقد صرحت به النصوص وتواردت على إثباته الأدلة التي لا تحتمل التأويل، ومع ذلك نتوقف عن الكيفية ونكلها إلى الله، ولا نقول: إنه إذا نزل يخلو منه العرش، أو تحصره السماوات… الخ؛ بل نقول: إن الرسول الناصح لأمته صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهذا النزول. وأن الله تعالى قد أخبر بالمجيء يوم القيامة، فنحن نثبت ذلك كما ورد ولا نضيف إليه شيئاً من عند أنفسنا، فما ألزمونا به غير لازم. الخامس: قوله: [فأصبحوا كإخوانهم النصارى في الناسوت واللاهوت.. الخ] . فنقول:

هذا تشبيه باطل وبعيد عن الصواب فما وجه الشبه؟!، فإن النصارى زعموا أن اللاهوت وهو: (الإله) اتحد بالناسوت وهو: (الإنسان) أو: (عيسى) ، وقالوا: ((إن الله هو المسيح ابن مريم)) (المائدة:72) . ((وقالت النصارى المسيح ابن الله)) (التوبة:30) ، وذلك هو عين الكفر والضلال، فأما أتباع السلف والأئمة فما قالوا شيئاً من قبل أنفسهم، وإنما وصفوا الله تعالى بما وصف به نفسه، أو وصفه به أعلم الخلق بربه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أثبتوا لله الصفات الواردة، واعتقدوها حقيقة لتواتر النصوص بها، ثم نفوا عنها كل أنواع التشبيه وخصائص المخلوقين، واعتقدوا أنها تليق بالله كما يشاء، لم يلزم أن يكونوا كالنصارى في قولهم باللاهوت والناسوت. وبكل حال فإن هذا الكاتب عليه أن يوجه عيبه ولومه إلى الأئمة المتبعين!! كمالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ونحوهم، فهل يتجرأ أن يقول عليهم: إنهم وهابية، وإنهم إخوان النصارى؟!! هذا ما لا يستطيعه لما لهم عند جمهور الأمة من المكانة الراقية، فلو رماهم بذلك لأنكر عليه الخاص والعام، وسددت إليه سهام الملام. السادس: قوله: [لعب إبليس بلحاهم حتى أرداهم وأخرجهم من دائرة الإسلام.. الخ] . فنقول: هذا تهور وجرأة على الله وعلى المسلمين وأهل الدين، واستهزاء وتمسخر بشعائر الإسلام، وتكفير لأهل العقيدة السليمة، وإخراج لهم عن دائرة الإسلام، وتلك مصيبة عظمى لو يعلم أثرها هذا الكاتب لم يتجرأ على ذلك. فإنه: أولاً: زعم أنهم قد أطاعوا الشيطان مطلقاً، وأنه هو الذي أوقعهم في هذا الاعتقاد السلفي، الذي قد سار عليه جمهور سلف الأمة وأهل القرون المفضلة، فإذا كان إبليس قد لعب بهم، فقد لعب أيضاً بأولئك الأئمة والقادة الأجلاء.

ثانياً: إخراجه لهم من الإسلام، وهي إحدى الكِبَرْ. فبأي خصلة أخرجهم من الدين؟! أما كانوا يدينون لله بالتوحيد؟! ويعملون بمعنى الشهادتين؟! ويحافظون على إقامة أركان الإسلام؟! ويبتعدون عن كل المحرمات؟! ويحذرون منها؟! ويحرصون على إخلاص دينهم لربهم وحده؛ فلا يجعلون منه شيئاً لغيره كائناً من كان؟! فمن كفَّرهم فقد أنكر حقيقة التوحيد، وأباح الكفر والشرك، فهو أولى بما قال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه". أي: رجع إليه تكفيره. وفي حديث آخر: "أن رجلاً ممن قبلنا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان؟! إني قد غفرت له، وأحبطت عملك". فهل ينتبه هذا الكاتب، ويرتدع عن مثل هذا التهور والتسرع في التكفير!! السابع: قوله: [لأن المجسمة ليسوا من الإسلام في شيء.. إلخ] . فنقول: ونحن نبرأ إلى الله أن نصفه بالتشبيه، أو التمثيل بشيء من المخلوقات، ولقد أوضحنا أن أئمة الدعوة بريئون من وصمة التشبيه، أو التمثيل الذي يرميهم به أعداؤهم قديماً وحديثاً، وأنه لا يلزم من إثباتهم صفة الاستواء والنزول والمجيء وسائر الصفات الذاتية والفعلية، أن يكونوا مشبهة، فإنهم تابعون للنصوص الصريحة في الإثبات، ومصرحون بنفي مشابهة المخلوقات، كما يثبت غيرهم الصفات العقلية، وينفون عنها التشبيه، وكما يثبت الباقون الذات الحقيقية، ويتوقفون عن معرفة ماهيتها وكنه حقيقتها، وقد يكون النافون أولى بالتشبيه؛ لأنه لم يبادر إلى أذهانهم سوى دلالة النصوص على التشبيه، ولم يفهموا منها إلا هذا المعنى الباطل، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص غير مراد؛ لأنه بزعمهم يدل على مماثلة الله للمخلوقات، تعالى الله وتقدس. ثالثاً: آيات الصفات محكمة جليّة ظاهرة المعاني مفهومة الدلالة:

قال في السطر الثاني من الصفحة الثانية: [أما الآيات المتشابهات فلابد فيها من التأويل، خوف التجسيم والتشبيه.. الخ] . والجواب: إن هذا قول خاطئ مخالف لقول الراسخين في العلم، الذين يقولون في المتشابه: ((آمنا به كل من عند ربنا)) . فقد ذم الله الزائغين الذين: ((يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)) (آل عمران:7) . إن هذا الكاتب اعتقد أن آيات الصفات فقط هي القسم المتشابه وحده، وهو خاطئ من حيث العموم؛ فإنها محكمة جلية، ظاهرة المعاني، مفهومة الدلالة، فسرها السلف والأئمة، وأوضحوا معاني ما اشتملت عليه، ولم يفوِّضوا لفظها كما يزعم أهل الكلام، ولم يحرفوا معانيها كما يدعي هذا الكاتب ونحوه: أن تأويلها لازم خوف التجسيم.. الخ. * فأما قوله: [لأن القرينة تصرف اللفظ عن ظاهره.. إلخ] . نقول: ليس ثمَّ قرينة يحتاج معها إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فمتى قلنا: ((آمنا به كل من عند ربنا)) واعتقدنا أن الألفاظ دالة على معاني صحيحة مفهومة للمخاطبين، وأنها دالة على صفات تناسب الموصوف، وتباين صفات المحدثات ونحو ذلك، لم نحتج إلى صرف اللفظ عن ظاهره، حيث يتكلف في هذا الصرف، وحيث يكون المعنى المصروف إليه بعيداً عن السياق وعن المفهوم المتبادر للسامعين، فإن المخاطبين به عند نزوله لم يحرفوا معانيه ولم يفهموا منه شيئاً من خصائص المخلوق؛ بل أثبتوا كل الصفات الواردة واعتقدوها لائقة بالموصوف، فلما جاء من بعدهم وفشت فيهم المذاهب الكلامية توسعوا في البحث، فاعتقدوا أن ظاهر النصوص يقتضي التجسيم والتشبيه، فسلطوا عليها أنواع التأويل كأضراب هذا الكاتب هداهم الله. رابعاً: لا يلزم من إثبات الصفات القول بأنه جسم محدود: فأما قوله: [فمن كان هذا شأنه لا بداية ولا نهاية، كيف تعتقد أنه جسم محدود مؤلف من أعضاء، يتحرك، وينتقل من مكان إلى مكان آخر، ويترك وراءه فراغاً؟] هذا عليه فيه ملاحظات:

منها قوله: [لا بداية ولا نهاية] : قال ذلك بعد الآية الكريمة: ((هو الأول والآخر)) (الحديد:3) . وهو تفسير مبتدَع، فإن هذه الأسماء قد بيَّن معانيها النبي صلى الله عليه وسلم ووضحها بقوله في دعاء الاستفتاح: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء". ومنها قوله: [كيف نعتقد أنه جسم محدود] : والجواب: إنه لا يلزم من إثبات الصفات على ما يليق بها القول: بأنه جسم محدود، ثم قد سبق الرد على قوله: جسم محدود مؤلف من أعضاء، وبيَّنا أن هذه ألفاظ بدعية، لا يجوز الخوض فيها إثباتاً ولا نفياً.. إلخ. ومنها قوله: [يتحرك وينتقل من مكان … الخ] : فنقول: اتهم بالقول بذلك أئمة الدعوة السلفية وهو كقوله آنفاً: يجلس ويقوم، ويغدو ويروح، وينزل ويرتفع، وقد ذكرنا الجواب عنه آنفاً، وأوضحنا أنه لا يلزم من إثبات المجيء والنزول الذي وردت به الأدلة أن نقول بالحركة والانتقال المحسوس، الذي هو من خواص المحدثات والمركبات، بل مجيء الله ونزوله هو كما يليق به، وهو حق حقيقي ليس بمجاز، ولا يصح نفيه بعد ثبوته في النصوص التي دلالتها قطعية. ذكر الكاتب أمثلة على تأويل بعض الآيات المتشابهة: المثال الأول: تأويل قول الله تعالى: ((وجاء ربك)) : ثم إن هذا الكاتب ذكر مثالاً لتأويل بعض الآيات المتشابهة، كما زعم وهي قوله: ((وجاء ربك)) (الفجر:22) . فأقحم فيها لفظ: (أمر) ، فقال: [وجاء أمر ربك والملك.. إلخ] .

وهذا تفسير الجهمية ومن تبعهم، ولا عبرة بكثرة من قاله من المتقدمين والمتأخرين، فإننا متبعون للأدلة، فقد ذكر الله الإتيان وأضافه إلى ذاته، وفرق بين إتيانه وإتيان بعض آياته، فقال عز وجل: ((هل ينظرون إلى أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك)) (الأنعام:158) . وقال تعالى: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام)) (البقرة:210) … الخ. ومتى قلنا: إن الله يجيء كما يشاء إتياناً يليق به؛ لم يلزم القول بالحركة الموهومة، مع أن تأويله بالأمر لم ينقل عن أحد من السلف وهم الأسوة وبهم القدوة. المثال الثاني: تأويل حديث النزول: ثم ذكر مثالاً ثانياً للتأويل الذي التزم سلوكه خوفاً من التشبيه، فقال في السطر الثامن من الصفحة الثانية: [ (النزول) معناه: الهبوط من أعلى إلى أسفل، ثم الرجوع ثانياً إلى مكانه وهذا أيضاً مستحيل، إذاً لا بد من التأويل، نزول مَنّ وإفضال، وقبول توبة، بمعنى التنزل، لا كنزول الأجسام والصور.. الخ] . والجواب: أن يقال: وردت أحاديث كثيرة صحيحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله تعالى ينزل كل ليلة، وذكرت بلفظ النزول وبلفظ الهبوط، والذين نقلوها هم نقلة أحكام الشريعة ولم ينكرها أحد من السلف، ولم يقولوا: إن المراد نزول فضله أو منِّه أو قبوله التوبة.. الخ. كما أنهم لم يكيفوا ذلك ولم يشبِّهوه بنزول الأجسام، واعتبروه مثل المجيء والإتيان الذي أثبته الله لنفسه، ولم يلزم من إثباته ما هو مستحيل؛ بل الجميع نصّ على حقيقته، وهو من خصائص المتصف به لأنه تعالى: ((ليس كمثله شيء)) (الشورى:11) في ذاته ولا في صفاته. 2- ثم قال في نفس السطر: [ ((ويبقى وجه ربك)) (الرحمن:27) أي: ذاته. ((ولتصنع على عيني)) (طه:39) أي: عنايتي ورعايتي لك] . فنقول:

هذا تأويل خاطئ، حيث أنكر ما أثبته الله لنفسه من صفة الوجه والعين، وقد وردت أدلة متنوعة في الكتاب والسنة بذلك (ومن الأدلة على إثبات صفة الوجه، قول الله تعالى: (0ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)) (الرحمن:27) . وفي الحديث الذي رواه مسلم برقم179 في الإيمان، باب "في قوله عليه السلام: بإن الله لا ينام.. الخ". من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". أما الأدلة في إثبات صفة العين فمنها: قوله تعالى: ((فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)) (الطور:48) . وفي الحديث الذي رواه البخاري كما في الفتح، 6/199 برقم 3057 في الجهاد، باب "كيف يعرض الإسلام على الصبي". من حديث ابن عمر رضي الله عنه، في وصف الدجال) ، ومن طلبها وجدها في كتب الحديث والعقائد، ولم يزل السلف يأثرونها من غير تكبر، ولم يقولوا: إنّها تشبه خصائص المخلوق؛ بل إنها صفة للرب تعالى كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نكيِّفها حيث لم يخالفها عقل سليم، ولا نقل صحيح؛ بل النقول المتكاثرة المتواردة على حكم واحد يتعذر تأويلها. 3- ثم قال في السطر الذي يليه: [ ((والسموات مطويات بيمينه)) (الزمر:67) أي بقدرته. ((يد الله فوق أيديهم)) (الفتح:10) "ويد الله مع الجماعة". أي: يؤيدهم بنصره… الخ] .

وهذا تأويل باطل من جنس ما قبله، فقد تكرر ذكر اليد واليدين للرب تعالى في العديد من الآيات والأحاديث والتصريح بذكر اليمين، ونحو ذلك من العبارات الصريحة، فإن تأويلها بالقدرة بعيد عن الصواب، وقد ذكرها الله في قوله لإبليس: ((ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدَيَّ)) (ص:75) بلفظ المثنى، ولو كان المراد القدرة لما حسن ذكر التثنية، ولقال إبليس: وأنا خلقتني يا رب بقدرتك. ثم إنه ادعى الإجماع على تأويل اليد بالقدرة والتأييد، والنصر والرعاية، والحماية والعناية، وليس كذلك؛ فإجماع الصحابة والتابعين سابق لهؤلاء، على أن يد الله صفة من صفاته، وتبعهم على ذلك سلف الأمة والأئمة الأربعة، وَنَصَرَهُ ابن جرير في تفسير قول الله تعالى: ((بل يداه مبسوطتان)) (المائدة:64) فأين الإجماع على ما قال؟! ومن الذي حكاه كما قال هذا الكاتب؟! ثم إنه أورد بيت شعر اعتمده فيما قال، ونص البيت: وكل نص أوهم التشبيها أوّله أو فوض ورم تنزيها وهذا البيت مذكور في منظومة لبعض الأشاعرة. ونحن نقول: أولاً: إن صاحب النظم لا ينبغي اتخاذه عمدة؛ فإنه إنما بنى كلامه على معتقده الذي اعتنقه عن مشائخه، الذين تلقى عنهم هذه العقيدة السيئة. ثانياً: لا يُظَنّ أن نصوص الشرع من الكتاب والسنة توهم التشبيه أبداً، فإن السلف والأئمة لم يكونوا يفهمون أو يتوهمون أن النصوص توهم التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فالله تعالى أعلى وأجل من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه، لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.

ثالثاً: إلزامه بالتأويل والتفويض، ويعتقد أن السلف يفوِّضون النصوص، أي: يسكتون عن المراد بها مع الاعتقاد أنها لا تدل على صفات حقيقية في نفس الأمر، فألزم إما بالتأويل وهو في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه، لكن ينفي دلالته على الصفات في نفس الأمر، وإما بالتفويض الذي هو السكوت المراد مع روح التنزيه وهو اعتقاد أنها لا تفيد صفات لله في نفس الأمر. وكلا الأمرين خطأ، وإنما الصواب: ترك التأويل وإثبات حقيقة الصفات التي أفادتها تلك النصوص، مع تفويض العلم بالكيفيات والماهيَّات، ومع اعتقاد أنها لا يُفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين، فلا تشبيه ولا تعطيل. خامساً: نسبة الجلوس إلى أهل السنة كذب عليهم: ثم قال في السطر الخامس عشر من الصفحة الثانية: [فمن هذا شأنه لا بداية ولا نهاية، كيف يجلس ويستقر على مخلوق ضعيف تحمله الملائكة؟! وتحفه من كل جانب ملائكة؟! هذا مستحيل… الخ] . فيقال: * تكرر قوله: (لا بداية ولا نهاية) ، وذكرنا أن الصواب التفسير النبوي الأول والآخر. * فأما قوله: [كيف يجلس… الخ] :

فالجواب: أن الله تعالى وصف نفسه بأنه على العرش استوى في سبعة مواضع من القرآن، وفسر العلماء الاستواء بما يدل على العلو والارتفاع والاستقرار، والتزموا نفي العلم بالكيفية وتفويضها إلى الله، ولا أذكر في كتب السلف التفسير بالجلوس، فنسبته إلى أهل السنة أو أئمة الدعوة كذب عليهم؛ بل منهم من فوض وقال (استوى) : استواء يليق بالله تعالى، ومنهم من قال: علا وارتفع كما يشاء مع عدم العلم بالكيفية، وليس في ذلك محذور والحمد لله، وقد أنكروا على من توسع في الخوض في ذلك بذكر أنه أكبر من العرش، أو مثله أو دونه، وكذا بذكر المماسة وكون الرب محمولاً على العرش كحمل الراكب على المركوب ونحو ذلك، فلا نقول بهذه التقديرات، ولا نخوض في هذا الأبحاث لعدم النقل فيها، ولما فيها من التدخل فيما لا يعني. سادساً: تفسير السلف الاستواء: بالاستقرار والعلو … الخ: ثم قال بعد سطرين: [و (استوى) لغة معناها: استقر. فالاستقرار هنا بصفة الرحمة على العرش وما قواه.. أما من اعتقد بأنه جلس واستقر على العرش فقد أشرك، لأنه توهمه جسماً محدوداً محمولاً على عرشه.. إلخ] . والجواب: قد تقدم أن السلف فسروا الاستواء بالاستقرار والعلو والارتفاع والصعود، ولم يقولوا ما قاله هذا الكاتب؛ من أنه الاستقرار بصفة الرحمة على العرش فإنه بعيد. بل قالوا: استقر كما يشاء لا كاستواء المخلوق، ولم يعتقدوا: أنه جلس أو استقر على العرش كاستقرار المخلوق، ولم يقولوا: إنه محتاج إلى العرش أو غيره، ولا توهموا ربهم: جسماً محدوداً محتاجاً إلى خلقه، فكل هذا تقوُّل عليهم بلا علم، فإن كان يقصد أئمة الدعوة فليوقفنا على موضع من كتبهم فيه ما ذكر، وإلاّ فليسند القول إلى قائله، والذي يقول بتلك الأقاويل الكفرية يصدق عليه أنه حمار كما وصفه به الكاتب. (16) في دعاء المخلوقين والتوسل بالأشخاص

أولاً: تفسير معنى دعاء العبادة ودعاء المسألة: قال الكتاب في الصفحة الثالثة في السطر السابع: [ (النداء) لغة معناه الدعاء، وهو لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز وجل، أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع من غير إذن الله فقد أشرك..الخ] . والجواب: لقد خبّط هذا الكاتب، وخلط، وأخطأ في الكثير مما قاله أو تعمده، فأنبِّه على أهم أخطائه فيما يأتي: أولاً: ذكر أن الدعاء لا يتقيد بالعبادة إلا إذا كان لله عز وجل، أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي.. الخ. وهذا قول باطل بعيد عن الصواب، صدر عن جهل بحقيقة الدعاء وبحقيقة العبادة، وبالأدلة الواردة على ذلك، وأنا أشير إلى شيء من ذلك: فأقول: أما الدعاء: فهو لغة: النداء، ويطلق شرعاً على: دعاء العبادة ودعاء المسألة، وهما متلازمان: * فدعاء العبادة هو: فعل كل الطاعات، وأداء جميع القربات امتثالاً لأمر الله، وتقرباً إليه، وهو متضمن دعاء المسألة، فإن المصلي داع بلسان الحال، فكأنه يقول: إنما أصلي طلباً لرضى الله، وجزيل ثوابه، وهكذا في جميع الأعمال الصالحة لسان حال من يفعلها يقول: أريد من فعلها مغفرة الله وجنته، فهو سائل في نفس الأمر. * أما دعاء المسألة فهو: السؤال والطلب، كسؤال الجنة والتعوذ من سخط الله، ومن النار ونحو ذلك، وهو ولابد مستلزم لدعاء العبادة، فإن حقيقة العبادة الذل والخضوع، والتواضع والإذعان، فالذي يدعو ربه يسأله حال تذلل وخشوع وإنابة وإخبات، فالسؤال: دعاء، والذل: عبادة، وهكذا المصلى، والصائم، والمتصدق، والذاكر، والقارئ، والطائف، والعاكف، والراكع، والساجد. فإن كلاً من هؤلاء حال فعله يكون راغباً في فضل الله طالباً لمنه وعطائه، ويكون مع ذلك متذللاً ومذعناً، منقاداً لأمر الله، خاضعاً مخبتاً له، وذلك هو حقيقة العبادة.

ومتى كان كذلك ورأينا من يسأل ربه من فضله ويمد إليه يد الافتقار ويلهج بالدعاء مستمطراً من فضل ربه، فإنّا نسميه داعياً سائلاً لله، فإذا كان مع ذلك قد أهطع وأقنع وخشع وتذلل، وتواضع حال سؤاله، فهو لذلك عابد لربه ظاهراً، نحكم بذلك حسب ما رأينا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة". ثم قرأ قوله تعالى: ((وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي.. الآية)) (غافر:60) . ووجه الدلالة من الآية أنه تعالى أمر بدعائه، وذم المستكبرين عن عبادته، والقرينة تدل على أن المراد يستكبرون عن دعائي وقال تعالى: ((قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون)) (غافر:66) . فجعل دعاءهم عبادة، وقال عن الخليل عليه السلام: ((وأعتزلكم وما تدعون من دون الله)) (مريم:48) . ثم قال: ((فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله)) (مريم:49) . فعبر بالعبادة عن الدعاء. وبعد أن عرفت حقيقة الدعاء وحقيقة العبادة وتلازمهما فإن الأدلة واضحة على أن الدعاء حق الله، لا يُصرف منه شيء لغير الله، قال تعالى: ((فلا تدعوا مع الله أحداً)) (الجن:18) . وقال ((ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك)) (يونس:106) . وقال: ((ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة)) (الأحقاف:5) . ونحوها من الآيات. ثانياً: أما قول هذا الكاتب: [أما النداء لغير الله فيرجع إلى عقيدة الداعي، إن كان يعتقد فيمن يناديه؛ أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، من غير إذن الله فقد أشرك] .

نقول: إن دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك مطلقاً؛ سواء كان المدعو ملكاً، أو نبيّاً، أو ولياً، أو جنِّيّاً، أو صالحاً، أو شريفاً، أو سيداً، أو شجراً، أو قبراً، أو غير ذلك، فأما إن دعى إنساناً حيّاً حاضراً قادراً وطلب منه ما يقدر عليه، كقوله: يا فلان اسقني، أو أطعمني، أو احملني، أو احمل رحلي، ونحو ذلك فهذا جائز، وهو من الأفعال المحسوسة، التي لا يزال الناس يفعلونها ويعين بعضهم بعضاً على فعلها. وكذا إن قال: يا فلان ادع الله لي بالمغفرة والجنة، أو أشركني في صدقاتك، أو وقفك، أو دعواتك ونحوها، فإن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مما يثيبه الله عليه، وهذا بخلاف ما إذا قال: اغفر ذنبي وأدخلني الجنة، أو: خذ بيدي عن النار ونحو ذلك، فإن هذا لا يجوز فعله مع الحي فضلاً عن الميت؛ لأنه مما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا منه تعالى. فنحن نستدل بفعل الإنسان على عقيدته، فمتى رأينا شخصاً وقف عند قبر إنسان معظَّم في نفسه، وخضع برأسه، وتذلل، وأهطع، وأقنع، وخشع، وخفض صوته، وسكنت جوارحه، وأحضر قلبه ولبّه، أعظم مما يفعل في الصلاة بين يدي ربه عز وجل، وهتف باسم ذلك المقبور، وناداه نداء من وثق منه بالعطاء، وعلق عليه الرجاء ونحو ذلك، فإننا لا نشك أنه والحالة هذه يعتقد أنه يعطيه سؤله ويدفع عنه السوء، وأنه يستطيع التصرف في أمر الله، ففعله هذا دليل سوء معتقده، فلا حاجة لنا أن نسأله: هل أنت تعتقد أنه يضر وينفع من غير إذن الله؟ فالله تعالى ما كلفنا أن ننقب عن قلوب الناس، وإنما نأخذهم بموجب أفعالهم وأقوالهم الظاهرة، وهذا الشخص قد خالف قول الله تعالى: ((ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين)) (يونس:106) .

وقد رأينا خشوعه وتذلله أمام هذا المخلوق الميت، وذلك هو عين العبادة كما عرفنا، فنحكم عليه بموجب فعله وقوله؛ بأنه قد أشرك بالله وتأله سواه، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب وتعظمه، وتحبه وترجوه، وتخافه وتعامله بما لا يصلح إلا لله، ولو لم يسمه الفاعل إلهاً، ولو لم يسم فعله تألهاً وتعبداً؛ فإن العبرة بالحقائق وما في نفس الأمر بخلاف الأسماء، فأهل هذا الزمان لما جهلوا حقيقة العبادة والتأله والدعاء ونحوه الذي هو من حق الله ولم يعرفوا معانيها وأصل وضعها صرفوها لغير الله، وسموا ذلك توسلاً واستشفاعاً وتبركاً واحتراماً وهو عين عبادة ذلك المخلوق، وعين الشرك الذي توعد الله عليه بالنار وحرمان الجنة. ثالثاً: ثم قال الكاتب في الصفحة الثالثة في أول السطر التاسع: [أما من اعتقد فيمن يناديه بأنه من أهل العطاء، وما ملك إلا بتمليك الله، ولا يتصرف إلا بإذن الله فهو موحد…الخ] . فنقول: لا حاجة لنا في التنقيب عن معتقده، الذي يقوم بقلبه فإنه أمر خفي، وقد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فنحن نأخذه بالظاهر، فإن أفعاله تعبر عن ما في ضميره ولو حاول تغييره لم يستطع. ثم نقول أيضاً: كيف يصلح اعتقاد أن المخلوق من أهل العطاء، أي أنه يملك أن يعطي من يشاء مغفرة، ورزقاً، ومالاً، وولداً، وصحة، وغنى،.. الخ؟ فإن الذي يملك ذلك هو الله وحده، كما وصفه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت". وقد أخبر الله عن كل ما يُدْعَى من دونه بأنهم: ((ما يملكون من قطمير)) (فاطر:13) .

وإن أراد الكاتب أنه من أهل العطاء، أي الذين أعطاهم الله نوعاً من التصرف والملكية، فهذا لا دليل عليه، وإنما خصائص الأنبياء نزول الوحي عليهم وتكليفهم بالتبليغ عن الله ما نزل إليهم، ولم يعطهم شيئاً من حقه الذي هو الدعاء والعبادة والتأله، ولا ملكهم رزق العباد، وهبة الأولاد، وشفاء الأسقام البدنية، وغفران الذنوب ونحوها، وعلى هذا فمن اعتقد في نبي، أو ملك، أو ولي، أو مخلوق، أنه مفوّض من الله في إهلاك من شاء، أو إعطاء من أراد، أو إدخال جنة أو ناراً، فقد صادم النصوص، وأشرك المخلوق في حق الخالق؛ فإن الله تعالى قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، -وهو أشرف الخلق وأفضلهم-: ((إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)) (القصص:56) . فإذا كان سيد الخلق، وخاتم الرسل، لا يقدر على هداية عمه أو أقاربه فكيف يهدي أبعد الخلق وأشفاهم إذا دعوه مع الله وصرفوا له ما لا يستحقه إلا الله؟ ‍ ولقد أمره الله تعالى أن يعترف بعدم ملكيته لشيء من ذلك؛ لأنه حق الله وحده، قال الله تعالى: ((قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً)) (الجن:21) . والرشد: الهداية القلبية وإيصال الإيمان إلى القلوب، بخلاف البلاغ والبيان؛ فإنه وظيفته ورسالته كما قال تعالى: ((إن عليك إلا البلاغ)) (الشورى:48) . وقد أخبر بأنه يهدي إلى الحق، أي: يدل عليه، كما قال عز وجل: ((وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)) (الشورى:52) . والمراد هداية البيان والدلالة والإرشاد، فأثبت هداية البيان ونفى هداية التوفيق والإلهام وقبول الإسلام، فمع هذه النصوص الصريحة كيف يقال: إن المخلوق يملك بتمليك الله الهداية والإضلال، والإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، أو يتصرف بإذن الله في الكون فيرسل الرياح ويثير السحب، وينزل المطر، وينبت النبات، ويخلق، ويرزق؟!

كل هذا جرأة على الله، وإنما جعل الله من معجزات عيسى ابن مريم عليه السلام شيئاً من ذلك بإذن الله، ثم انقطع برفعه إلى السماء، ولم يذكر الله تعالى أن أحداً من الأموات أو الغائبين، يهدي من أحب، أو يرزق من يشاء بإذن الله؛ بل قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخير وما مسني السوء)) (الأعراف:188) . فهل يقال بعد هذا: إنه هو أو من دونه بعد موته يملك بتمليك الله النفع والضر، والإعطاء والمنع؟ وأنه بناء على ذلك يُطْلَبُ منه كما يُطْلَبُ من الله! فَيُدْعَى وَيُرْجَى وتعلّق عليه الآمال ويخشع له العبد ويتواضع! ويقف أمام قبره خاضعاً ذليلاً وخائفاً راجياً، فإن هذا كله لازم قول هذا الكاتب؛ حيث أباح نداءه وجعله مالكاً متصرفاً فيما هو من خصائص الرب تعالى، وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال لعشيرته الأقربين: "انقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً". وقال لعمه العباس: "لا أغني عنك من الله شيئاً". وهكذا قال لعمته ولابنته فاطمة الزهراء، وأمرهم بأن يعملوا عملاً صالحاً لوجه الله، ينقذون به أنفسهم من النار، ولا يعتمدون على قرابتهم منه أو شرفه عند الله، بل قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه".

وكل هذا حث للمسلم أن يعمل لله عملاً خالصاً لوجهه يكون سبباً لنجاته يوم القيامة، فلا يعتمد على نسب، ولا حسب، ولا يرغب إلى أي مخلوق يدعوه أو يرجوه، أو يخافه أو يعظمه كتعظيم الله تعالى، أو يعقد عليه أمله أو يعتقد أنه يملك من أمر الله شيئاً مع قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((ليس لك من الأمر شيء)) (آل عمران:128) . وقوله: ((قل إن الأمر كله لله)) (آل عمران:154) . فهل ذكر الله تعالى أنه قد ملك أحداً من خلقه شيئاً من حقه؟ أو فوَّض إليه التصرف في عباده؟ بأن يغفر لمن يشاء! ويعذب من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ولقد قال تعالى: ((ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهدي الله فما له من مضل)) (الزمر:36-37) . وقال عز وجل: ((ومن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه)) (الإسراء:97) . أي لا أحد يتولى أمرهم، ولا أحد يقدر على هدايتهم؛ ولو توسلوا بالأنبياء والأولياء والملائكة والصالحين والأصفياء، والقصد من ذلك أن يُقبل العباد بقلوبهم على ربهم، ويَصْدُقُوا الرغبة إليه، ويدعوه مخلصين له الدين، وينصرفوا بقلوبهم وأعمالهم عن كل مخلوق: تحقيقاً لوصف العبودية التي هي غاية الذل مع غاية الحب، فهو سبحانه قريب مجيب، كما قال تعالى: ((وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)) (البقرة:186) .

فهو أعلم بعباده، وهو المطلع على الضمائر والنيات، ويعلم ما تكنه الصدور وما توسوس به النفوس، ويعلم السر وأخفى، فكيف مع ذلك يعدل عنه العباد؟ وكيف يحتاج إلى من يُعرِّفه بخلقه؟ وكيف يكون المخلوق أعلم من الرب الخالق تعالى بما في قلب الداعي؟ فالصدود عن الخالق إلى أحد من المخلوقين، فيه غاية التنقص للرب عز وجل، وسوء الظن به أنه لا يعلم بعباده حتى ينبهه غيره من المخلوقين، تعالى الله علواً كبيراً. ثانياً: الرسل جميعاً لم يخرجوا عن طبيعة البشر: ثم قال الكاتب في السطر الثالث عشر من الصفحة الثالثة: [ومن أسف أن الوهابية قالوا: تمجيد الرسول بما يخرجه عن طبيعته البشرية باطل وزور… الخ] . جوابه:

أن يقال: مراده بالوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن انتفع بدعوته السلفية رحمهم الله، وقد علم أنه رحمه الله لم يأت بجديد، وإنما جدد للناس ما اندرس من معالم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ حيث خرج في مجتمع قد غلب عليه الشرك ووسائله: كعبادة الأموات، وعمارة ما يسمى بالمشاهد برفع قبور الصالحين والأولياء، وبناء القباب عليها، وتحري الصلاة عندها، بالعكوف حولها، وبالذبح لها تعظيماً واحتراماً، وبإيقاد السرج عليها طوال الليل، وبالنذور، والهدايا إلى تلك الضرائح، وتعليق الرجاء عليها، والهتاف بأسماء الأموات، وندائهم ودعائهم مع الله، كقبر: شمسان، وتاج، ويوسف، وزيد بن الخطاب، ونحوهم، فَبيّن لأهل زمانه أن حقهم علينا محبتهم وأتباعهم، والعمل مثل أعمالهم. فأما الدعاء، والرجاء، والذبح، والنذر، فهو خالص حق الله، وأورد لهم النصوص الصريحة في مصادمة ما فعلوه للتوحيد، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله". مع قوله تعالى: ((فصل لربك وانحر)) (الكوثر:2) أي: خصَّه وحده بالصلاة والنحر، فمتى صلى أحد أو نحر لغير الله فقد أشركه في حق الله، وبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال قبل أن يموت بخمس: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وقال وهو في سياق الموت: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا. وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". ودعى ربه فقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". والمعنى: أن الأولين أشركوا حيث تحروا الصلاة عند قبور الأولياء والأنبياء، فكل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجدٌ، لم يُبْنَ مسجد له منبر موجه إلى القبلة، فإن المسجد ما يتخذ للركوع والسجود فيه.

فأهل ذلك الزمان قد غلب عليهم قصد قبور الأولياء والصالحين؛ للصلاة عندها، لاعتقاد أن للصلاة هناك مزية، وأنها أفضل من الصلاة في المساجد، ومع جماعة المسلمين، أو أن ذلك الولي يشفع في هذه الصلاة لتُقْبَل أو يضاعفَ ثوابها ونحو ذلك من الاعتقادات الفاسدة، ولا شك أن هذا تعظيم للمخلوق، ورفع لمنزلته إلى درجة لا يستحقها إلا الله. فأما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإننا نمجده ونحبه ونقدم محبته على الأنفس والأموال؛ فإنّ ذلك شرط لصحة الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده والناس أجمعين"، ولكن لا نخرجه بهذه المحبة عن طبيعة البشر فنجعله رباً، أو إلهاً، أو خالقاً، أو رازقاً، وإنما ميزته الرسالة؛ حيث فضّله الله على جميع البشر، وأنزل عليه الوحي وكلفه بحمل الرسالة وتبلغها إلى جميع الناس، مع أنه لا يزال متصفاً بالبشرية وبالعبودية. قال الله تعالى: ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)) (الكهف:110) . بل إن الرسل كلهم لم يخرجوا عن وصف البشرية كما حكى الله عن الرسل قولهم لأممهم: ((إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)) (إبراهيم:11) . ولما تعنَّت بعض المشركين وطلبوا منه بعض الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله، قال الله تعالى له: ((قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً)) (الإسراء:93) . فهل من دليل يفيد أن الرسل خرجوا عن طبيعة البشرية، فصاروا يعلمون الغيب ويملكون التصرف في الكون، ويشاركون الرب في الإعطاء والمنع، والضر والنفع، ونحو ذلك. أليس قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليّ، وما أنا إلا نذير مبين)) (الأحقاف:9) .

بل أمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه هذه الأمور؛ حيث قال تعالى: ((قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك)) (الأنعام:50) . بل قد وصفه الله تعالى بالعبودية، التي هي تمام التذلل والخضوع للرب عز وجل، فقال تعالى في مقام التحدي، ((وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)) (البقرة:23) . وقال تعالى في مقام الإسراء: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)) (الإسراء:1) . وقال تعالى في مقام الدعوة: ((وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً)) (الجن:19) . وقال تعالى: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)) (الكهف:1) . وقال: ((تبارك الذي نزل الفرقان على عبده)) (الفرقان:1) . فذكر تعالى أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومميزاته أن أنزل عليه هذا الكتاب، الذي أعجز الناس أن يعارضوه، ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومميزاته أن أسرى ببدنه وروحه إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء إلى حيث شاء الله، ومن فضائله أن كلفه ربه بالدعوة إلى الله، وكل هذه المميزات لم تخرجه عن وصف العبودية لله بكل معانيها من كونه مملوكاً للرب، ومن كونه ذليلاً متواضعاً وخاضعاً له مطيعاً، وهذا وصف فضل وشرف اتصف به المصطفَون من عباد الله، ولم يتكبروا عنه، قال تعالى: ((لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون)) (النساء:172) . فنحن نقول: لا يصح في تمجيد الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد أنه خرج عن كل وصف البشرية، إلى وصف الملكية، أو إلى وصف الربوبية، أو الألوهية، ولا واسطة بينهما. رابعاً: يجب إعطاء المسألة والنصرة لله وحده: ثم قال الكاتب في السطر السادس عشر: [فمن اعتقد أن مدد الرسول انقطع لانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقد أساء الأدب مع الرسول، ويخشى عليه الموت على الكفر والعياذ بالله تعالى] . جوابه:

أن يناقش عن مدد الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. * فإن أراد بمدده؛ دلالته على الخير، وإرشاده للأمة، وإيضاحه للحق والهدى، وتبليغه لما أرسل به، وبيانه لعلوم الشريعة أكمل بيان، فهذا لم ينقطع بموته، فإن الأمة لا تزال تستضيء بأنوار هدايته وتسير على النهج الذي رسمه لها، وتستمد من سنته ما يوضح لها طرق الهدى، فمن صد عن سنته وأعرض عنها فهو أضل من حمار أهله. * أما إن أراد بمدد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فوائد اتباعه، وآثار الاقتداء بسنته، وبركات العمل بشريعته،، فهذا أيضاً لم ينقطع بموته، فنحن نعتقد أن من سار على نهجه واقتفى طريقه حصلت له البركات وأمده الله بفضله وعطائه، وانتفع في هذه الحياة بنتائج هذا الاتباع كسائر الأعمال الصالحة، فإن العمل الصالح سبب في كثرة الخير، وحلول البركة، وسعة الرزق، وطيب الحياة، ورغد العيش، والنصر على الأعداء، وحصول العلم والفهم والفتح من الله، والإلهام والتوفيق لعمل الصالحات، والحفظ عن المنكرات، لكن لا يضاف المدد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا حيث إنه ببركة اتباعه، وإلا فالله هو الذي يمد العاملين، ويعطيهم ويتفضل عليهم، لأنه تعالى مالك الملك وبيده النفع والضر، والعطاء والمنع، والخفض والرفع.

* فإن أراد هذا الكاتب بمدد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إعطاءه لمن سأله، ونصره لمن استنصر به، وإجابته لمن دعاه ونحو ذلك، فمثل هذا لا يملكه الرسول صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، بل هو إلى الله تعالى، كما قدمنا بعض الأدلة على ذلك كقوله تعالى: ((قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً قل إني لن يجيرني من الله أحدٌ ولن أجدَ من دونه ملتحدا)) (الجن:21-22) . وقوله: ((قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب)) (الأنعام:5) . وقوله صلى الله عليه وسلم لأقاربه: "أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً". وقوله في حديث الغلول: "لا أغني عنك من الله شيئاً قد أبلغتك". فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك جنس هذا المدد في حياته فهكذا لا يملكه بعد مماته، بل لا يملكه أحد من خلق الله، لا مَلكٌ مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، فمن اعتقد أنه صلى الله عليه وسلم يمد من سأله، ويعطي من طلبه، وينفع من دعاه مع الله، فقد جعله لله نداً وصرف له خالص حق الله، وهذا النوع من الإمداد هو مراد هذا الكاتب وأضرابه، وغاب عنهم أن الصحابة ومن بعدهم من أئمة المسلمين لم يعتقدوا هذا الاعتقاد، ولم يفعلوا معه ما يدل عليه، فلو كانوا يعتقدون فيه هذا النوع لتهافتوا إلى قبره يطلبون منه المدد والإعطاء، فكم نزلت بهم من مصيبة؟! وكم وقعت من فتنة؛ كوقعة الحرة ونحوها؟! وكم سلط عليهم الأعداء؟! ولم يحفظ أنهم جاؤوا إلى القبر مستنصرين، ولا فزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: المدد يا رسول الله!! ولو كان هذا اعتقادهم لتوافدوا إلى قبره أفواجاً، وأقبلوا إليه من كل حدب وصوب زرافات ووحداناً، فلما لم يفعلوا عُرف أن هذا الاعتقاد إنما هو من بدع المتأخرين؛ حيث أوقعهم الشيطان في ذلك الاعتقاد السيئ، ونتائجه الشركية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم، يطلبون منه الدعاء في حياته بالغيث، وإنزال المطر، ورفع العذاب، وبالمغفرة والجنة، وبسعة الرزق، وطيب الحياة، فيدعو الله لهم ويجيب الله دعوته؛ لكرامته عليه، ولفضله وشرفه، وليكون ذلك من جملة معجزاته، فأما بعد موته فلم يطلبوا منه شيئاً من ذلك أبداً؛ بل لما قحطوا عام الرمادة توسلوا بعمه العباس رضي الله عنه؛ لشرفه وكبر سنه وقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، فطلبوا من الله أن يجيب دعوته لهم لأنه حي موجود بينهم، ولم يتوسلوا بالنبي لله؛ لأنهم عرفوا عدم جواز ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. خامساً: لا يجوز الإقسام بذات الرسول صلى الله عليه وسلم على الله، أو السؤال بحقه أو بجاهه: ثم قال هذا الكاتب في السطر السابع: [ (التوسل) كلمة التوحيد لا تتم إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله؟ لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله…الخ] . والجواب: نقول: نعم! لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، ذلك لأنه الذي دل على التوحيد ودعا إليه، ولأن الله تعالى نوَّه برسالته كما في قوله تعالى: ((محمد رسول الله)) (الفتح:29) . وقوله: ((قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)) (الأعراف:158) . وقد فسرت هذه الشهادة بأنها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبَد الله إلا بما شرع. وفسرت الشهادة له بالعبودية والرسالة: بأنه عبد لا يُعبَد، ورسول لا يُكذَّب؛ بل يطاع ويُتَّبَع، فليس معنى هذه الشهادة أو من مستلزماتها التوسل بذاته وسؤال الله بجاهه ونحو ذلك. فأما قوله: [فكيف يتهم بالشرك من توسل به إلى الله؟] .

فنقول: إن أراد من توسل بطاعته واتباعه فلا بأس بذلك، كأن يقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بإيماني وتصديقي واتباعي لرسولك وطاعتي له، أن تغفر لي ونحو ذلك، كما يجوز التوسل بسائر الأعمال الصالحة، كقصة أصحاب الغار الذين توسل أحدهم: ببرّه لأبويه، والثاني: بعفته عن الحرام، والثالث: بأمانته وأدائه حق الغير مع غلته. فيجوز أن نتوسل إلى الله بالصلوات، والأذكار، والصدقة، والجهاد، ونحوها من أعمال العبد التي يرحمه الله بسببها، ويقبل دعاءه. وهكذا إن أراد التوسل بمحبته، واحترامه وتوقيره، والصلاة والسلام عليه، وتعظيم سنته وشرعه وما جاء به، فهذا من التوسل المشروع، فيقول: يا رب أسألك وأتوسل إليك بمحبتي لك ولنبيك، وباحترامي له ولسنته، أن تهب لي من فضلك، وترزقني حلالاً، وتبارك لي فيما أعطيتني، ونحو ذلك. * وهكذا إن أراد التوسل بدعائه وشفاعته فلا بأس بذلك، ولكن يطلب ذلك كله من الله ويوجه إليه سؤاله، فيقول: اللهم اجعلني ممن تناله شفاعة نبيك يوم القيامة، أو: اللهم وفقني للعمل الصالح الذي أنال به شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو: اجعلني من المؤمنين الذين يدخلون في دعائه واستغفاره صلى الله عليه وسلم، وكل هذا ونحوه جائز إن شاء الله، ولا يخالف فيه أحد من أئمة الدعوة أو غيرهم من أهل السنة. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمؤمنين كما في قوله تعالى: ((واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)) (محمد:19) . فأنت تدعو الله أن يجعلك من المؤمنين الذي يعمُّهم هذا الاستغفار.

* أما إن أراد هذا الكاتب السؤال بذاته، أو الإقسام بذاته على الله، أو السؤال بحقه أو بجاهه فهذا لا يجوز، فلم يرد عن الصحابة، ولا عن أحد من أئمة الدين أو علماء المسلمين المقتَدى بهم، ولا نُقل أن أحداً منهم قال: اللهم إني أسألك بحق نبيك، أو أنبيائك، أو بجاه أو حرمة فلان، أو أتوسل إليك بنبيك ونحو هذا، ولم يفعلوه في الاستسقاء ولا في غيره، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا عند قبر غيره، ولم يرد هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقله المتأخرون الذين وقعوا في الغلو والشرك، وينقلون في ذلك أحاديث ضعيفة، أو موضوعة؛ لا تقوم بها حجة. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/202) عن أبي حنيفة وأصحابه؛ أنهم صرحوا بالنهي عن ذلك، وقالوا: لا يُسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. ثم نقل عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك. وقال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام. قال القدوري: المسألة بحقه لا تجوز، لأنه حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. انتهى. ومعنى قوله: لا حقَّ للمخلوق على الخالق، أي: لا يحب على الله حق لخلقه؛ بل هو سبحانه المتفضل على عباده وهو الذي وفقهم للهداية والأعمال الصالحة، وامتنَّ على من شاء منهم بالفضيلة والكرامة، والنبوة والولاية، فليس لأحد عليه حق من واجب نظير ما يجب للمخلوق على المخلوق من الحق، الذي يطالب به ويلزم من عليه الحق بأدائه، فأما ما ورد من الأحاديث في حق العباد على الله، كقوله صلى الله عليه وسلم: "وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً". فهو حق تفضل وتكرم، ووعد وعدهم به وهو لا يخلف الميعاد.

* فأما قول الكاتب: [لك أيها المسلم العاقل أن تتوسل إلى الله بكل ما يحبه الله] . جوابه: ما تقدم من أن التوسل الجائز هو التقرب إلى الله بكل الأعمال الصالحة التي يحبها، فمتى عمل المسلم الحسنات، وتقرب إلى الله بالقربات التي يحبها، كان ذلك أعظم التوسل، وهو معنى قوله تعالى: ((اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)) (المائدة:35) . أي: تقربوا إليه بالأعمال التي يحبها، وتكون موصلة لكم إلى مرضاته. فأما التوسل بالذوات والأشخاص وسؤال الله بحقهم، فإن ذلك لا يجوز، ولم يفعله السلف الصالح، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. سادساً: يجوز التوسل بحب الصالحين ولا يجوز التوسل بأشخاصهم: أما قول هذا الكاتب: [إن الله يحب المتقين ذاتاً وصفات، أحياء وأمواتاً، ويحب من أحبهم، ويحب من اقتدى بهم، ويحب من توسل بهم إليه] . فالجواب: صحيح أن الله تعالى يحب المتقين، ويحب من أحبهم واقتدى بهم، ولكن محبتهم تستلزم محبة أعمالهم، فمن أحبهم صادقاً تَتَبَّعَ أفعالهم فطبقها وعمل مثل أعمالهم، فإن كنت تحب المتقين فاتق الله حق تقاته، حتى يحبك الله كما أحبهم، وإذا كنت تحب المتقين فقلدهم في أفعالهم، فإن من أحب الرسول صلى الله عليه وسلم استن بسنته وعمل بالشرع الذي بلغه، ومن أحب الصالحين أصلح أعماله واقتفى آثار عباد الله الصالحين، فهذه علامات المحبة، قال الله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)) (آل عمران:31) . فمن أحب المتقين وانهمك في الذنوب، وأشرك بالله واقترف المعاصي، وخالف سيماء أهل التقوى فدعواه كاذبة خاطئة. فأما التوسل بحبهم إلى الله فجائز؛ فإن حب أولياء الله وأهل الخير والصلاح من أعمال البر، التي يثيب الله عليها. فإذا قلت: أسألك يا رب وأتوسل إليك بحبك وحب أوليائك، وأهل التقوى والصلاح من عبادك، أن تهب لي من فضلك وجودك، ونحو ذلك، فلا بأس بذلك كالتوسل بسائر الأعمال القلبية.

فأما التوسل بذواتهم وأشخاصهم أو بحقهم وجاههم؛ فقد عرفتَ أنه منكر من القول وزور، وأنه من وسائل تعظيمهم ورفع ذواتهم إلى ما لا يستحقه إلا الله، فيكون شركاً أو من وسائل الشرك، والله: ((لا يغفر أن يشرك به)) (النساء:116) . بل قد توعد على الشرك بأعظم الوعيد، فكيف يحب أهله أو يثيبهم؟! ولكن أكثرهم يجهلون. سابعاً: حديث التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم كذب وزور: ثم قال الكاتب في السطر الحادي والعشرين من الصفحة الثالثة: [قال صلى الله عليه وسلم: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم"] . أقول: هكذا أهل الجهالة والضلالة يتعلَّقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت، فنحن نطالبهم بإثبات هذا المقال كحديث مرفوع، حتى يتم الاستدلال به، فإنه حديث لا أصل له أبداً. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (1/319) : وروى بعض الجهال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألتم الله فسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم". وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين. فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود؟! الذي يغبطه به الأولون والآخرون! وصاحب الكوثر والحوض المورود! وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة! وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه! ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له.. الخ.

وقال أيضاً في الفتاوى (1/346) : وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي". حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا كما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره، وذكروا الصلاة عليه، ولم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، إلى آخر كلامه رحمه الله. الصوفية تعرض هذا الكاتب للمدح والإطراء في حق الصوفية، وكأنه أراد بذلك الرد على أئمة الدعوة في إنكارهم على أهل الطرق والأحوال، أو اعتقد أنهم ينكرون على الصوفية ويمقتونهم، أو أراد بالثناء عليهم أن فيهم الأولياء والأصفياء، الذين وصلوا إلى حضرة القُدُس واتصلوا بالملأ الأعلى؛ فاستحقوا لذلك أن نتوسل بهم وندعوهم من دون الله، كما يفعل المشركون: مع الجيلاني، والبدوي، ونحوهما. ونحن نقول: إن الصوفية أصلاً هم الزهاد في الدنيا، والمشتغلون بالعبادة، وكانوا في الزمن الأول يرتدون الصوف الخشن من باب التقشف فعرفوا بهذا الاسم، كإبراهيم بن أدهم، وبشر الحافي، وإبراهيم الخواص، والجنيد بن محمد، ونحوهم، وكان أولئك يعبدون الله على علم وبصيرة، فيحافظون على الجماعات، ويبتعدون عن المحرمات، ويسارعون في الخيرات، ولم يكن عندهم شيء من البدع ولا الخرافات، ثم جاء بعدهم من تسمى باسم الصوفية وانتحل مذهباً خاصاً، وأصبح الصوفية أهل نحلة وطريقة مستقلة، وابتعدوا عن العلم والعلماء، واعتمدوا على الأذواق والمواجيد، فدخلت عليهم بدع وخرافات في المعتقد، وفي العمل: كالسماع، والرقص، والتواجد، وصحبة الأحداث، والزهد في المباحات، وتأليم النفس ونحو ذلك، وقد ناقشها ورد عليهم فيها الشيخ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) وغيره.

ثم جاء بعدهم من تسمى بالتصوف أيضاً وغلا حتى تدخل في الربوبية، واعتقد أن الوجود واحد بالعين، وأنكر الفرق بين الخلق والخالق، وهم المسمون بالاتحاديين الحلوليين وأهل وحدة الوجود، وقولهم من أشنع الأقوال، وكفرهم أوضح من كفر اليهود والنصارى، فمنهم من أفصح عن ما يكنه، وأعلن معتقده كالحلاج فحكم بكفره أهل زمانه، وأفتوا بقتله فقتل، ومنهم من يتستر ويخفي معتقده ولكنه يظهر للمتمعن والمتفطن في كلامه، أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ونحوهم. وهذا المعتقد الكفري قد تمكن وفشا القول به زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، فرد على أهله ضمن رسائل مطبوعة في المجلد الثاني من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، وله رسائل كثيرة في حقيقة التصوف والسلوك في المجلدين العاشر والحادي عشر، ومن هذا التقديم الموجز يعرف أنه لا يجوز إطلاق الذم ولا المدح للصوفية، بل يعطى كل منهم حكمه. أما الصوفية في هذا الزمان ومنهم من يعرفون بالتيجانية وغيرهم، فإنهم قد انتحلوا طرقاً، وصارت لهم مقامات وخواص تصادم الأدلة؛ حيث يعتقدون في أوليائهم الأقدمية على الرسل الكرام، ويزعمون أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، ويرجعون إلى أقوال مقدميهم، ويحكَّمونهم في الأنفس والأزواج والأموال، ويعتقدون فيهم العصمة وملكية التصرف، ونحو ذلك، من الاعتقادات السيئة، فما داموا كذلك فهم مجانبون للصواب، ومحادون لله ورسوله، فلا نعرف لهم فضلاً ولا كرامة. أولاً: إطلاق الصوفية بأنهم صفوة الله من خلقه خطأ: قال الكاتب: [الصوفية هم صفوة الله من خلقه، وقدوتهم أهل الصُّفَّة الذين مدحهم الله، وأثنى عليهم في محكم كتابه؛ لأنهم عبدوه محبة فيه وشوقاً لرؤيته، وإمام الجميع المصطفى صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله عز وجل، كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة.. الخ] . جوابه:

أن يقال: يعتقد هذا الكاتب وأمثاله أن اشتقاق اسم الصوفية من الصفاء، أي: صفاء القلوب، أو من الصفوة، أي: أنهم صفوة خلق الله، أي: خيرتهم وأفضلهم، وهذا خطأ؛ فإن الصوفية إنما وجدوا في أثناء القرن الثاني واشتهروا بالزهد والتقشف، ولبسوا الصوف المنسوج من صوف الضأن لخشونته، قال الشيخ تقي الدين في الفتاوى (11/28) : وكذلك في المائة الثانية صاروا يعبِّرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال: إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو إلى الصفا، فهي أقوال ضعيفة.. الخ. وقال أيضاً (11/195) : واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح. وقد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل: إلى أهل الصفة، وقيل: إلى الصفا، وقيل: إلى الصفوة، وقيل: إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِيّ، أو صفائي، أو صفوي، ولم يقل صوفي اهـ. وهذا الكاتب جعل الصوفية هم صفوة الله من خلقه، فأما أن يقصد سبب التسمية، أو يقصد الميزة والفضيلة، فقد عرفت أن اشتقاق التسمية من الصوف لا من الصفوة، وعرفت مما قدمناه أن الصوفية الأقدمين كانوا من صفوة عباد الله في ذلك الزمان؛ لكن ليسوا أفضل من أنبياء الله ورسله، ولا من الصحابة والسابقين الأولين، فإطلاق الكاتب بأنهم صفوة الله من خلقه، خطأ؛ فإنه يلزم منه تفضيلهم على ملائكة الله ورسله، وعلى أكابر الصحابة والخلفاء الراشدين، والسابقين إلى الإسلام، وعلى أئمة المسلمين وعلمائهم، الذين لم يلبسوا الصوف، ولم ينتسبوا إلى الصوفية، ولا شك أن مراد الكاتب بهم صوفية هذا الزمان، ومن سبقهم من أئمتهم كابن عربي، وابن سبعين، والحلاج، ونحوهم ممن انتحلوا مذهب الاتحاد، الذي هو كفر صريح، وخروج عن عقيدة الأبنياء وأتباعهم، فهؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء؛ فضلاً عن أن يكونوا صفوة الله من خلقه.

فأما جعله أهل الصفة هم قدوتهم فهو أيضاً خطأ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/38) : أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر المسجد النبوي في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه؛ حيث يكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء والآهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوى إليه، يأوى إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، ويجيء ناس بعد ناس، فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين … الخ. فعلم من هذا أن أهل الصفة هم فقراء المهاجرين، ولكنْ ليسوا قدوة لأهل التصوف، ولا لغيرهم، وليسوا أفضل من أكابر الصحابة من المهاجرين، الذين لم يأووا إلى تلك الصفة، ومن الأنصار الذين هم أهل المدينة، والله تعالى مدح الصحابة والسابقين الأولين عموماً، ولم يخص أهل الصفة بمدح ولا ثناء يتميزون به عن غيرهم، ولا شك أن جميع الصحابة عبدوا الله محبة له وشوقاً لرؤيته، وطلباً لثوابه، وأهل الصفة من جملتهم، فلا مبرر لتخصيص أهل الصفة بأنهم عبدوه محبة فيه وشوقاً لرؤيته، ما دام هذا الوصف يدخل فيه معهم غيرهم. * فأما قول هذا الكاتب: [وإمام الجميع المعصوم صلى الله عليه وسلم بتوجيه من الله عز وجلّ، كان في غار حراء فوجد في الخلوة الجلوة.. الخ] .

فنقول: صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم إمام جميع أمة الإجابة الذين صدقوه وشهدوا له بالرسالة؛ ولكنه لم يشرع لأمته هذه الشطحات، ولا نقلت عنه تلك المواجيد والأذواق المزعومة، فأما خلوته في غار حراء فذلك تمهيد من الله لنزول الوحي عليه، ففي تلك الخلوة تصفية لسريرته وتفريغ لقلبه عن الشواغل، وإبعاد عن المجتمع المليء بالشرك والمعاصي والمخالفات؛ لكنه بعد أن نزل عليه الوحي لم يرجع إلى غار حراء، وما حفظ أنه بعد النبوة صعد ذلك الجبل، ولا حاول الخلوة والتفرد ولا انقطع عن الناس؛ بل لم يزل مع الناس ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو إلى توحيد الله، ويخالط الناس ويجالسهم، ويعاشر أهله ويعلم أتباعه ما أوحي إليه، ويبلغ الناس رسالة ربه، وهكذا بعد أن هاجر إلى المدينة استمر في الدعوة والتعليم، وكان يجلس مجالس عامة يقرأ فيها القرآن، ويبين معانيه ويتلقى عنه أصحابه علم الشريعة، وتفاصيلها مع ما يقوم به من غزوات بنفسه، وبعث جيوش أو سرايا ودعاة إلى الله وجُباة، وبعث رسل وكتب لشرح تفاصيل الإسلام، وكل هذه الأعمال ونحوها تنافي أعمال الصوفية التي معظمها يدور على الخلوة والابتعاد عن مجتمع الناس، وعلى ترك الشهوات المباحة من: النكاح، وتناول الطيبات، وإعطاء النفس حظها من المباح، الذي يتقوى به على عبادة الله، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". فأين في سنته فعل الخلوة أو مدح الانقطاع عن الناس، أو التواجد والطرب عند السماع أو نحو ذلك؟! بل إ نه قد نهى عن السماع الذي يستعمله الصوفية وذم أهله، فأما ما يرويه الصوفية من تواجده وطربه في بعض المناسبات فكله كذب لا أصل له والله الموفق. ثانياً: إن حلاوة الأنس بالله تكون بذكر الله واتباع شرعه: ثم قال الكاتب:

[من ذاق حلاوة أنسه رأى من لطفه العجائب، وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، قال تعالى: ((يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً)) (الأحزاب:45) . لفظ (أيها) بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة بل لابد من حضور، قال صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"] . جوابه: أن نقول: يعتقد الصوفية أن حلاوة الأنس بالله تعالى، لا تحصل إلا بالخلوة الطويلة والانفراد، ويسمون تلك الخلوة جمعية القلب، فإن أحدهم ينفرد في زاوية من مكان مظلم، ويبدأ في التفكير ويطيل النظر، ويتناسى الخلق كلهم، ويجمع همه على ربه، فربما ترك عدة صلوات متوالية تمر به حالة انفراده مخافة تفرق همومه وفساد جمعيته. وفي النهاية يزعم أنه يحصل له في تلك الخلوة مكاشفات واطلاع على الملأ الأعلى، وعلى أمور غيبية وخفية، ويسمى ذلك لذة الأنس، أو حلاوة المناجاة، ويزعم أنه يتمتع بلذيذ الخطاب، ويرفع له الحجاب عن ربه فيطلع بقلبه على ما أخفِي عن غيره، ويسمى الذين لم يصلوا إلى درجته ومنزلته: محجوبين مبعَدين عن القرب الذاتي إلى ربهم، وقد يصل أحدهم إلى غاية قصوى تسمى عندهم بالفناء؛ بحيث يفنى أحدهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده؛ بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وقد تجرهم هذه الأحوال إلى عقيدة سيئة هي اتحاد الخالق بالمخلوق (عقيدة أهل الحلول) ، وقد يزعم بعضهم أن مشايخهم وأكابرهم يصلون إلى درجة تسقط عنهم التكاليف، وتباح لهم المحرمات، ونحو ذلك من الخرافات، التي يمدحهم لأجلها هذا الكاتب وأضرابه. ونحن نقول: إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره ودوام عبادته، والبعد عن القواطع والشواغل التي تقسي القلب، وتحول بينه وبين التفكير في آلائه، والتذكر لنعمائه.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن للإيمان حلاوة وطعماً كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وقال صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبياً". وهكذا أخبر بأن العبادة بها تقر عينه ويرتاح بدنه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة"، وقوله: "أرحنا يا بلال بالصلاة". فهذا ونحوه يفيد أنه عليه الصلاة والسلام، يجد في الصلاة لذة قلبه وسروره وابتهاجه وغاية فرحه وراحة بدنه؛ حيث إنه في الصلاة ينقطع عن الغير ويُقْبِلُ بقلبه على ربه، ويلتذ بذكره ومناجاته، ويتقلب من حال إلى حال يجد في كل منها الأنس بالعبادة، وكذا ينتقل من ذكر إلى دعاء، إلى تلاوة، وفي الجميع قوة للقلب والبدن. فبهذه الأوصاف تكون الصلاة مفيدة ومؤثرة على العبد وناهية عن الفحشاء والمنكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما يلتذ بالعبادة بأي وصف كانت، ولم يكن يؤثر الخلوة والإنفراد، وليس في كون الصلاة قرة عينه ما يدل على أحوال الصوفية وأذواقهم ومواجيدهم، ولو من بعيد.

فنحن نقول: ما نوع الأنس الذي يذوقون حلاوته، ثم يرون من لطفه العجائب؟ فإن كان الأنس بالذكر والصلاة والدعاء والتلاوة والتنقل في العبادة، فليس من شرط ذوقه الانفراد والعزلة والبعد عن الناس وترك الجمع والأعياد والجماعات؛ بل إن حلاوة العبادات يحس بها كل من أحضر قلبه حال أدائها، وأعرض عن كل ما يشغل القلب عن الإقبال على التدبر من أوهام ووساوس وحديث نفس، فتفريغ القلب من ذلك سهل ويسير على من يسره الله عليه، فهؤلاء هم الذين يوليهم الله عنايته ويلطف بهم، ويكون من آثار لطفه أن يحميهم ويحفظهم عن القواطع والعوائق، ويعصمهم من كبائر الإثم والفواحش، ويحميهم أيضاً من الشهوات والملذات التي تعوق سيرهم إلى ربهم، ويكون من آثار لطفه توفيقهم وتسديدهم: في الأقوال، والأعمال، والإقبال بقلوبهم على الطاعات، والاستكثار من الصالحات، وهذه سيرة الصحابة رضي الله عنهم، ومن سار على نهجهم، الذين عمروا أوقاتهم بالتعلم والتفهم، والعمل والتطبيق، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات المباحة أسوة بنبيهم الذي قال: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن يرغب عن سنتي فليس مني". * فأما قول الكاتب: [وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب] . فنقول: إن أراد التمتع والتلذذ بتدبر القرآن وتعلقه؛ بحيث يعده خطاباً من ربه إليه، فهذا حق وصواب، فإن الله تعالى أمر بذلك كما في قوله: ((ليدّبروا آياته)) (ص:29) . وقوله: ((أفلم يدّبروا القول)) (المؤمنون:68) . لكن ليس من شرط هذا التمتع خلوة، أو انفراد؛ بل يحصل التلذذ بتدبره في الصلاة، وبين الناس.

فأما إن أراد التمتع بلذيذ خطاب ربه وسماع كلامه منه إليه، وأن أهل الأحوال تتصل قلوبهم بالملأ الأعلى، ويناجون الله ويكلمهم ويكلمونه، ونحو ذلك، فكل ما يقولون في هذا الباب هوس ووحي شيطان، فإن الله تعالى خص أنبياءه بوحيه وخص موسى بالتكليم، كما قال تعالى: ((وكلَّم الله موسى تكليماً)) (النساء:164) . وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقد قال تعالى: ((وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم)) (الشورى:51) . وهذا الكاتب قد ذكر أن الصوفية ترفع عنهم الحجب والأستار، ويناجون ربهم ويتلذذون بكلامه، ومعنى هذا: أنهم فاقوا كثيراً من الأنبياء والرسل، الذين هم الواسطة بين العباد، فإن الرسل إنما يوحي الله إليهم وحياً، أو يرسل إليهم الله وبين رسولاً ملكياً أو يكلمهم من وراء حجاب، كما في نص هذه الآية، أما الصوفية في زعم هذا الكاتب فإنها ترفع لهم الحجب، وتخترق قلوبهم الأستار، وتتصل بالملأ الأعلى، وتسمع خطاب الرب تعالى مباشرة، وتتمتع بلذيذ ذلك الخطاب، فهل بعد هذا الغلو والرفع لمقامهم من زيادة، سبحان ربنا الأعلى؟! * فأما استدلاله بقوله تعالى: [ ((يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً)) . وقوله: لفظ "أيها" بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة بل لابد من حضور] . فالمتبادر أنه يقصد أحد أمرين: أحدهما: أن الله خاطبه وهو حاضر شاهد عنده، بأن كشف له الأستار، وقربه من حضرة القدس، وخاطبه كفاحاً بلا واسطة ملك ولا غيره، وهذا ليس على إطلاقه، فإن الآيات التي فيها نداء النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن كثيرة، ومعلوم أنها نزلت كغيرها بواسطة الملك وحياً من الله إليه، كما في قوله تعالى: ((نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين)) (الشعراء:193-194) .

الثاني: أن يقصد أننا متى قرأنا هذه الآية فإنا نخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، كأنا نراه مواجهة ومقابلة، وأنه شاهد عندنا حاضر ليس بغائب، فيفيد ذلك أنه حي لم يمت، وأنه يسمع كل من خاطبه بهذه الآية أو غيرها، وأنه شاهد مع كل أحد في كل مكان، متى ناداه وخاطبه سمعه وأجابه، وأن هذا الوصف يعم كل ولي وصالح من أكابر الصوفية، ونحوهم. وهذا لا يصح؛ فلفظ "أيها": ليس خاصاً كما قال هذا بالمواجهة؛ بل إن الله خاطب نبيَّه بهذه الآيات الكثيرة آمراً له بما أرسله به، وما كلفه به من البشارة والنذارة والتبليغ والبيان، وكل ذلك أنزله بواسطة ملك الوحي، فالخطاب بواسطة يناسب فيه لفظ "أيها" فلا تدل على استلزام مواجهة ومقابلة. أما لفظ الشاهد: فالمراد الشهادة على الأمة بأنهم قد بُلِّغوا ودُعُوا وقامت عليهم الحجة، كما في قوله تعالى: ((ويكون الرسولُ عليكم شهيداً)) (البقرة:143) . وقوله: ((ليكون الرسول شهيداً عليكم)) (الحج:78) . قيل: شاهداً على أنه قد بلّغكم ما أنزل إليه وبينه لكم، وقيل: شاهداً على أصحابه بحسن أعمالهم وصلاحهم واستقامتهم، فما يوهمه كلام الكاتب لا صحة له. ثالثاً: الصوفية كغيرهم لا يملكون شيئاً من أمر الكون لأنه لله وحده: ثم قال الكاتب: [الصوفي: هو من عرف أن التوجه إلى الله والانقطاع إليه مما ينيل القصد، ويهيئ النفس للملكية.. الخ] . أقول: قد ذكرنا أول الكلام تعريف الصوفية في أول الأمر، ثم ما آل إليه أمرهم وما دخل عليهم من البدع، ثم الطرق التي أوقعت الكثير منهم في الخروج عن الإسلام: كالحلول، والاتحاد، فأما التوجه إلى الله والانقطاع إليه فهو صفة شريفة عَليَّة متى قصد منها الإقبال على العبادات، والتفرغ لها والإعراض عن كل ما يشغل عن الطاعة، ويعوق عن مواصلة السير إلى الله.

وهذه طريقة أهل الزهد والعلم والعبادة من الصوفية السلفيين ومن غير الصوفية، ولم يزل في المسلمين قديماً وحديثاً خلق كثير وجمع غفير يشتغلون جُلّ وقتهم بالعبادة القلبية الروحية، ويتوجهون إلى ربهم بقلوبهم، ويعلقون عليه آمالهم، وينقطعون إليه وحده، ويعرضون عما سواه، ولا ينافي ذلك إعطاء النفوس حظها من راحة ولذة مباحة: من مأكل، ومشرب، ومنكح، وملبس، وكذا الاشتغال بالكسب الحلال، وجمع المال الذي تمس إليه الحاجة من وجوهه الجائزة، كما أمر الله بذلك في قوله: ((فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)) (الجمعة:10) . وكما في قوله تعالى: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)) (المزمل:20) . وإذا كان الأنبياء والرسل يلتمسون الرزق ويطلبون المال من وجوهه، كما قال تعالى: ((وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)) (الفرقان:20) . فكيف بأتباعهم، ومن هو دونهم؟ فإن أراد الكاتب بالانقطاع إلى الله، ترك الدنيا وما فيها والزهد في المباحات، والرهبنة، وترك كل الملذات ومشتهيات النفس التي تتقوى بها على الطاعات، فهذا الوصف والقصد غير صحيح؛ بل هو خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الرسل وأتباعهم. * فأما قول الكاتب: و [يهيئ النفس للملكية] .. الخ. فهو خطأ من القول؛ فإن أراد بالملكية الصعود بالنفس إلى مقام الملائكة واتصافها بالروحية والنوارنية والاتصال بالملأ الأعلى، ونحو ذلك، فلا يصح، فإن نفس الإنسان لا تصل إلى صفات الملائكة، التي من خصائصها: العلو، والخفة، والنور، والمكاشفات، والاستغناء عن الدنيا، والانكفاف عن الشهوات، ونحوها. فإن الله ركَّب في طباع البشر من الشهوة، والالتذاذ بالطعم والمشرب، والميل إلى ذلك، والتألم بفقده ما لم يكن من صفات الملائكة.

أما إن أراد بالملكية التملك وأن النفس تتهيأ لأن تملك شيئاً من أمر الكون أو تدبره أو تتصرف فيه تصرف المالك، فهذا أيضاً لا يصح، فالنفس البشرية وسائر النفوس المخلوقة ليس لها من الأمر شيء، ولا تقدر على التصرف المستقبل، ولا الملكية التامة النافذة؛ بل إن المخلوق نفسه مملوك لربه ولو ملك الدنيا بأسرها، فملكه مؤقت وناقص، وهو وما بيده ملك لربه، فكيف يقال: إن انقطاع الصوفي ينيله القصد ويهيئ نفسه للملكية. رابعاً: ذكر الله يزيد في استمرار العبادة: ثم قال هذا الكاتب: [فاتخذ الذكر زاداً لروحه والفكر في آياته القرآنية والكونية شراباً لروحه.. الخ] . فأقول: هذا القول حق، فذكر الله دائماً هو قوت القلوب، وزاد الأرواح؛ ولكن ليس معناه أنه يغني عن الزاد الحقيقي للبدن، وإنما الذكر والفكر يقوي الروح، ويزيدها نشاطاً وثباتاً واستمراراً في العبادة، وحباً ورغبة في مواصلة العمل. خامساً: العلماء مهما بلغوا؛ فهم مقيدون بنصوص الشريعة: ثم قال الكاتب: [حتى أشرقت على قلبه شمس المعارف الربانية، فأصبح القلب ينبوعاً من ينابع الأنوار والأسرار والحكم الربانية.. الخ] . نقول: هذا غير صحيح؛ فإن ذلك يستلزم تفوقه على الرسل والملائكة، واستغناءه عن الشريعة وعلومها، فإن الينبوع هو الماء النابع من الأرض، فمعنى ذلك أن شمس المعارف الربانية والعلوم الدينية قد أشرقت على قلوب الصوفية، وسطعت فيها فاستنارت بها فأصبح ينبوعاً للأنوار والأسرار، يعني: معدناً تنبع منه الأنوار الإلهية وتنفجر منه عيون الحكمة، وتتوارد عليه الأسرار والحكم الربانية؛ فتغنيه عن العلوم الشرعية.

ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يفتح على بعض العباد إفهاماً وحكماً وأسراراً في كتابه أو شرعه، كما في قوله تعالى: ((واتقوا الله ويعلمكم الله)) (البقرة:282) ؛ حيث جعل التقوى سبباً للتعليم، فالله تعالى قد يرزق بعض عباده الأتقياء والصالحين علوماً وأفهاماً وأسراراً في كتابه، أو في شرعه، ولكنها مستنبطة من القرآن والحديث، ومن الحكم العامة التي لأجلها شرعت الشرائع، وتنوعت الأوامر والأحكام، ولا تصل إلى الوصف الذي يذكره الكاتب من إشراق شمس المعارف.. الخ، فإنه مع ما فيه من المبالغة والإطراء غير صحيح؛ فإن القلب البشري لا يتصور أن يصبح ينبوعاً من ينابيع الأسرار والأنوار والحكم الربانية، وذلك لقصر الإنسان عن هذا الوصف مهما فتح عليه من العلوم والمعارف، مع أن هذا الوصف ليس خاصاً بالمتصوفة؛ بل هناك علماء الأمة وعبّادها قاموا بحقوق ربهم، ووقفوا عند حدوده، وعبدوه حق عبادته قد فتح الله على قلوبهم من الفهم والإدراك، والحفظ والاستنباط، الشيء الكثير، كما حصل للأئمة الأربعة، وللمحدثين والفقهاء من صدر هذه الأمة، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات والملذات، ولم يدخلوا في عداد الصوفية، ولا توغلوا في إشاراتهم ورموزهم؛ بل هم متقيدون بنصوص الشريعة وبتعاليم ربهم، ومتبعون لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وذلك هو الفضل العظيم. سادساً: الاتباع إنما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله: ثم قال الكاتب: [ومن قال كذلك صارت أحواله كلها بالله، ولله، أمرنا باتباعه] . جوابه:

أن يقال: كيف تكون أحوال الصوفي كلها بالله ولله؟! مع أنه بشر يخطئ ويصيب، ويرتكب الذنوب، وهو محل النقص والتقصير في أداء حقوق ربه، وفي شكر نعمته: ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)) (إبراهيم:34) . وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في صلاته: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت..". الخ. فإذا كان صدِّيق الأمة رضي الله عنه يعترف بأنه ظلم نفسه ظلماً كثيراً، فكيف يكون المتصوف معوصماً وأحواله كلها بالله ولله؟! ونحن لا ننكر أن الله تعالى قد يوفق بعض أحبابه لتكون حركاته بالله، كما في الحديث القدسي عند البخاري عن أبي هريرة، وفيه: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به". فإن معنى ذلك تسديده في أقواله وأفعاله، ولكنّا لا نستطيع الجزم لشخص بعينه بأن أحواله كلها بالله ولله، كما ذكر هذا الكاتب. * فأما قوله: [أمرنا باتباعه] .

فغير صحيح؛ فإن أغلب الصوفية؛ سيما المتأخرين لهم شطحات خاطئة لا يجوز شرعاً اتباعهم فيها، فقد ظهر بُعْدُهم فيها عن الصواب، ولهم أيضاً طرق وأحوال مبتدعة: كالسماع، والرقص، والخلوة الطويلة، والبعد عن العلم والعلماء، والاستغناء عن الوحي بالأوهام، وحديث النفس الذي يخيل أنه وحي إلهام، فكيف يسوغ اتباعهم في هذه البدع ونحوها؟ وبأي نص أمرنا بذلك؟ مع العلم بأن الاتباع إنما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله، وقد ورد الأمر بذلك، كما في قوله تعالى: ((واتبعوه لعلكم تهتدون)) (الأعراف:158) . وقال تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)) (آل عمران:31) . وأن يطاع ويُتَّبع المخلوق، متى وافق أمر الله ورسوله، فيكون اتباعه خاصاً بما بلغه مما تحمله عن الله ورسوله، فالطواعية والاتباع في الحقيقة لله ورسوله، فمتى خالف المخلوق -مهما كانت مرتبته- صريح الكتاب والسنة، وجب طرح قوله، والرجوع إلى شرع الله، كما في قوله تعالى: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)) (النساء:59) . سابعاً: شطحات شنيعة بعضها من أعظم الكفر وأشنعه: ثم قال الكاتب: [قال الإمام الأكبر، محي الدين ابن العربي رضي الله عنه: من لم يأخذ الطريق عن الرجال، فهو ينقل من محال إلى محال] . نقول: لا عبرة بالقائل ولا بما قال، فإن ابن عربي هذا مشهور بأنه اتحادي، يقول باتحاد، الخالق والمخلوق، وهو أعظم الكفر وأشنعه، وقد صرح بذلك في كتابيه: (فصوص الحكم) و: (الفتوحات المكية) وغيرهما من مخالفة الرسل صريحاً، ومدح الكفار والمشركين، وتصويب ما هم عليه.

وقد نقل عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11/240) تعقبه للجنيد بن محمد رحمه الله في قوله: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فأنكر عليه ابن عربي، وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية: يا جنيد، وهل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما؟ كذا قال! لأن عقيدته أن وجود المحدث هو عين وجود القديم، كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثمَّ إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو. فعلوُّه لنفسه وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العليّة لذاته وليست إلا هو. إلى أن قال: هو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر، وما ثَمَّ من يراه غيره، وما ثمَّ من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات. ثم ذُكِرَ أن التلمساني لما قُرئ عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف فصوصكم، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا. فقيل له: فإذا كان الوجود واحداً، فلم كانت الزوجة حلالاً والأخت حراماً؟ فقال: الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم. ونقل شيخ الإسلام في المجموع (2/121) عن صاحب الفصوص، وهو ابن عربي المذكور قوله: إن آدم عليه السلام إنما سُمِّي إنساناً لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين، وهذا يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس، وبعضاً منه، وأنه أفضل أجزائه وأبعاضه. وهكذا قال في الفصوص: إن الحق المنزه هو الحق المشبه، فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا؛ بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة.. الخ.

وفي كلامه من أمثال هذا الكفر الصريح ما لا يحد ولا يوصف، وقد تعقبه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (2/204-284) وغيره. فكيف يوصف، مع ذلك بأنه الإمام الأكبر وبأنه يحي الدين؟ وقد انخدع بكلامه الجم الغفير، واعتقدوا أنه أجر الأولياء، وأرقاهم منزلة، وأرفعهم قدراً، وإنما تفطن له وعرف ما في كلامه من الكفر والضلال، أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تحقق عقيدته، وعرف مواضع أخطائه أو تصريحاته في مؤلفاته، وناقشه في كل ذلك، وبين تناقضه وتهافته في كلامه، وذلك في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى وغيره. * فأما قوله: [من لم يأخذ الطريق من الرجال إلخ] . فمراده بالطريق مسلك الصوفية، وهو العبادات القلبية أو الأسرار الرمزية، كنوع من اللباس، أو إشارات بينهم يتناقلونها، ويتلقاها الصغير عن الكبير بأسانيد كأسانيد الأحاديث والمؤلفات. فيقول أحدهم: أخذت الطريق عن فلان، وأخذها هو عن فلان، حتى تتصل بأكابرهم كالجيلاني، أو الحلاج ونحوهما، ولا يكتفون بما عليه المسلمون من تلقي الشريعة من الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، فالطريق عندهم مسلك مغاير لمسلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته وأئمة المسلمين، وقد اشتهروا بتسميتهم أهل الطرق أو الطرقية، ولا أستحضر شيئاً عن تفاصيل طرقهم ورموزهم ولكني أعتقد أنها خيالية لا يصح الركون إليها؛ لكونهم يؤثرونها على الشرع، ويستغنون بالعمل بها عمّا عليه في ذمهم، وبيان شيئ من أحوالهم، ومنها قول ذلك الناظم رحمه الله: إن قلت قال الله قال رسولُه همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأفعل أو قلت قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والإمام العالي أو قلتَ قال صحابهم من بعدهم فالكلُّ عندهم كشبه خيال

ويقول قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفاء أحوال عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحالي فهذه حقائق الطرق التي يتبجحون بها هم ومريدوهم، أمثال هذا الكتاب، الذي انتحل هذه المناهج المبتدعة، وتحامل على أهل التوحيد، ورغّب في وسائل الشرك في مذكرته هذه. ثامناً: يحرم نشر هذه المذكرة لما فيها من الأكاذيب والأباطيل: ثم قال: [فالواجب عليك وعلى أمثالك من كبار العلماء نشر هذه المذكرة؛ لمن أراد النجاة في الآخرة عن طريق: الإذاعة، والمجلات الإسلامية، رحمة المسلمين، وخوفاً من عذاب الله، لأن كاتم العلم ملعون، نسأله الختام بجاه طه عليه السلام… الخ] . جوابه: أن نقول: الواجب والحرام إنما يؤخذ من الأدلة الشرعية، فنحن نقول: إن هذه المذكرة يحرم نشرها، ويجب إتلافها على من رآها، وذلك لما تحتوي عليه من الملاحظات التي ناقشنا بعضها فيما سبق مما يتعلق بالأسماء والصفات، وما يتعلق بالتوسل والاستشفاع، وما فهيا من ذم أهل التوحيد ورميهم بما هم منه براء، وكذا الغلو في مدح الصوفية المنحرفة والغالية، فعلى كبار العلماء التحذير لمن أراد النجاة عن الاغترار بمثل هذه البدع، ونشر السنة والعقيدة السلفية، وأدلة التوحيد والإخلاص، والنهي عن كتمان ذلك وعدم إيضاحه لمن يخاف وقوعه في أسباب الردى، فمن كتم ذلك فهو كاتم للعلم، وقد توعده الله تعالى بقوله: ((إن الذي يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يعلنهم الله ويلعنهم اللاعنون)) (البقرة:59) .

* فأما توسل هذا الكاتب بجاه طه عليه السلام، فهو من البدع التي قد توقع في الشرك المحبط للأعمال، وقد تقدم أنه استدل بحديث: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي.. إلخ"، وأنه كذب لا أصل له، وبيان ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم له جاه عند الله، ولكن لم يرد التوسل بجاهه، فليس جاه المخلوق عند الخالق كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. وبمراجعة ما تقدم يتضح وجه النهي عن السؤال بجاه المخلوق أو التوسل به، وأنه من وسائل تعظيم المخلوق ووصفه بما لا يستحقه إلا الله. وهذا آخر ما أردت تعليقه على هذه المذكرة؛ نصحاً للمسلمين، وبياناً لما قد يلتبس من كلامه على الجهلة ونحوهم، مع أن أهل العقيدة والتوحيد لا يخفى عليهم ما تحتوي عليه تلك المذكرة من التهافت والتناقض، ونصر الباطل وإنكار حقيقة التوحيد، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

محرمات متمكنة في الأسرة

محرمات متمكنة في الأسرة تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين أحمد الله وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأتوب إليه وأذكره، وأسأله سبحانه أن يغفر لنا الذنوب والخطايا، ويتجاوز عن المعاصي والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند وشبيه ولا ظهير ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، محمد بن عبد الله الذي بشر وأنذر وخوف وحذر الأمة من صغائر الذنوب وكبائرها صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره وتمسك بهداه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن ربنا تبارك وتعالى خلقنا لعبادته وأمرنا بتوحيده وطاعته، وحرم معصيته ومخالفته، ووعد من أطاعه بالجنة والأجر العظيم، وتوعد من عصاه وخالف أمره بالنار والعذاب الأليم، وفرض على أنبيائه ورسله أن يبينوا للأمم تفاصيل الطاعات والمحرمات وما يترتب على فعلها من الثواب والعقاب، وبعد أن وضح الحق واستبان وعرف الناس الواجبات والمحظورات لم يبق للناس على الله حجة ولا اعتذار، فمن تمسك بالحق ودان لله تعالى بالعبودية وأذعن لأمره واستكان وتقرب إليه بالحسنات وحفظ نفسه عن السيئات فهو السعيد الفائز برضى الله تعالى وثوابه، ومن عصى وعتى وتمرد وخرج عن الطاعة وتجرأ على المحرمات فهو الشقي الطريد المبعد عن رحمة ربه وفضله. وذلك أن الله تعالى من حكمته قد حف الجنة بالمكاره، وحف النار بالشهوات، فمن صبر على الطاعات وألزم نفسه بالمكاره من العبادات وتحمل في طاعة ربه المشقات والصعوبات فهو من أهل السعادة والفلاح وجزيل الثواب، ومن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني وانساق نحو شهواته وملذات نفسه وانخدع بالمغريات البراقة ولم يتمعن فيما وراء هذه الشهوات من العاقبة السيئة فهو من أهل الشقاء والحرمان وشديد العقاب.

ومن حكمة الله تعالى كما حف النار بالشهوات أن مكن للعصاة وأمهلهم وعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، وأعطاهم من زهرتها وزينتها، فاعتقد الغوغاء والعامة أنهم من ذوي الحظ العظيم، وأن إكرامهم في الدنيا دليل فضلهم وأقدميتهم رغم ما يجاهرون به من المعاصي، وما يفرطون فيه من الطاعات، فسار الأكثرون خلفهم، وأمعنوا في تقليدهم مما كان سبباً في ظهور المعاصي والمجاهرة بفعل المحرمات بدون خجل ولا مبالاة، فظهر التبرج والسفور ووسائل الزنا والفواحش، وكثرت بيوت الدعارة والفساد وشربت الخمور، وأعلن شرب الدخان وتعاطي المخدرات، وتفنن الكثير في السرقة والاختلاس وانتهاب الأموال وأكلها بغير حق، وكثر التعامل بالربا والغش والمخادعة والرشوة والاختيال على تحصيل المال بأنواع الحيل، وتهاون الكثيرون بالصلاة والصوم والأعمال الصالحة، فكان لزاماً على أهل العلم أن يبينوا للناس خطر ما وقعوا فيه، وأن يحذروهم عاقبة التهاون بالمحرمات. وكنت قد ألقيت محاضرة حول بعض المعاصي المتفشية في هذه البلاد خاصة. وسجلها بعض الإخوان ثم أفرغها الأخ علي بن حسين أبو لوز وعرضها علي فصححتها، وقد أضاف إليها بعض التعديلات، وأذنت بنشرها على ما فيها من ضعف التركيب وعدم التنسيق الذي اقتضاه الارتجال، وأرجوا من الإخوان أن ينبهونا على ما فيها من خلل وخطأ فالمؤمن مرآة أخيه، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)) رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها. فقال قائل: ومن قلة بنا يومئذ؟ قال: ((بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ فقال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) . (رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن ثوبان رضي الله عنه) . أقول إن من حب الدنيا وكراهية الموت انتشار المعاصي والمحرمات هنا وهناك، والتي قد تمكنت في كثير من البلاد واعتادها الكثير من الناس فلا يستقبحونها ولا يستنكرونها. لقد أصبح الإسلام غريباً في كثير من البقاع، وخاصة بين أهله، فما أن تجد شاباً ملتزماً بأمر الله ومتمسكاً بسنة رسوله صلى الله علية وسلم: من توفير لحيته، أو تقصير ثوبه، أو محافظته على الفرائض والسنن وغير ذلك؛ إلا وتجد من ينكر عليه ويقول: لا تتشدد فإن الدين يسر، وإن فعلك غلو وإفراط …. الخ. فجعلوا من يسر الدين ترك الأوامر، وارتكاب النواهي والمعاصي نسأل الله العافية. أيها الأحباب: إن للمعاصي آثاراً وخيمة على مرتكبها وعلى أسرته أو مجتمعه أو على أمته، وعلى الأرض والسماء والدواب وغيرها، قال تعالى: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)) (سورة الروم، الآية: 41) .

والمحرمات والمعاصي هي حدود الله وهي كل ما حرمه الله في كتابه وحرمه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته كما في الحديث: ((ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسياً ثم تلا هذه الآية ((وما كان ربك نسياً)) . (سورة مريم، الآية: 64)) ) . (رواه الحاكم وحسنه الألباني في غاية المرام ص: 14) . وقال صلى الله علية وسلم: ((ما نهيتكم، عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)) . (رواه مسلم) . فعلى المسلم العاقل أن يتوب إلى ربه توبة نصوحاً، وأن يحذر كل الحذر من الوقوع في المحرمات، ومن وقع في شيء منها فليسارع إلى التوبة؛ فعسى الله أن يغفر له، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) (رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد) . وفي الحديث أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) . (رواه مسلم) . وهذه رسالة مختصرة في بيان بعض المحرمات المتمكنة في الأمة، والمحرمات كثيرة، وكثيرة جداً، ولكن اقتصرنا على المشهور منها ليتبين للناس مدى خطورة هذه المعاصي فيتجنبوها، فيحموا أنفسهم ومجتمعهم ودوابهم وغير ذلك من سخط الله وعقابه. نسأل الله تعالى لنا ولإخواننا أن يجنبنا المحرمات صغيرها وكبيرها، ونسأله تعالى الهداية والتوفيق والسداد، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، إنه سميع قريب مجيب والله أعلم. آثار الذنوب والمعاصي

لاشك أن الذنوب والمعاصي والمحرمات سبب لمحق البركات، وقلة الخيرات، ومنع الأرزاق، وسبب لعقوبة الله تعالى وتسليطه على عباده أنواعاً من المثلات، وإحلال العقوبات، وذلك لأنه تعالى يغضب على من عصاه، ويعاقبهم على قدر ذنوبهم إذا لم يعف عنهم، كما ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: ((إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد) . والمعصية يدخل فيها كل مخالفة، فتكون سبباً لغضب الله تعالى، ولا يقوم لغضبه قائم، ولأجل ذلك يتوعد الله على كثير من المعاصي باللعن، ويتوعد على بعضها بالغضب، ويتوعد على بعضها بالعذاب العاجل أو الآجل، تخويفاً منه للعباد حتى لا يقعوا في المعاصي والمحرمات. وقد أخبر الله تعالى بأن هذه المعاصي سبب لمنع الرزق، وسبب لظهور الفساد، وسبب للشرور ولتمكن الأشرار، وتسلطهم على الأخيار. يقول الله تعالى: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)) . (سورة الروم، آية: 41) والفساد هنا يعم فساد الأخلاق، وفساد البلاد، ويعم الانحرافات، وهذا كله عقوبة على ما كسبت أيدي الناس، والكسب هنا هو فعل جرائم المحرمات، فقوله: ((بما كسبت أيدي الناس)) ، يعني بما عملوا من المحرمات التي تسبب العقوبة، وتسبب محق البركة.

ومع ذلك فإنه سبحانه يخبر بأنه لا يعاجل عباده، ولكن يمهلهم ويؤخرهم، وإلا فلو عاجلهم لأحل بهم العقوبة الصارمة، قال تعالى: ((ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة)) (سورة فاطر: 45) والكسب هنا يراد به الكسب السيئ، يعني المحرمات والسيئات. أي أنه تعالى لولا إمهاله لكان العباد على ما يعملونه مستحقين للعذاب، والضمير يعود على الأرض، أي: ما ترك على الأرض من دابة. والمعنى أنه لو يؤاخذ الناس بما يستحقونه من العقوبة على المظالم والمعاصي والمحرمات لعجل لهم، ولأخذهم ولأهلكهم حتى الدواب في الأرض. ولكن إذا استقروا ولزموا الطريقة المستقيمة أعانهم الله وأغاثهم، قال تعالى: ((وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً)) (سورة الجن الآية: 16) والطريقة هي الإسلام، أي إذا استقاموا على الإسلام وتمسكوا به وعملوا بشرائعه وتركوا المحرمات، فإن الله تعالى يسقيهم ماء غرقا فيسقى الأرض ويغيث العباد ويسقي الحرث والأشجار. وأما إذا لم يفعلوا فإنه يعاقب من يشاء بأنواع العقوبة حسب ما يستحقونه. ومع ذلك فإنه يعفو عن كثير من المخالفات، وإلا فان العباد على معاصيهم وذنوبهم يستحقون أكثر مما نزل بهم، قال تعالى: ((وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)) (سورة الشورى، الآية: 30) والكسب هنا السيئات. يعني أن ما ينزل بنا من مصيبة فإنه عقوبة على الكسب المحرم وعلى السيئات التي اكتسبتها أيدينا. وقد ورد في بعض الأحاديث: ((ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة)) . والإنسان لا يغتر بما هو فيه. فلا يغتر بالأمن. ولا يغتر بزهرة الدنيا. ولا يغتر بزخرفها. ولا يغتر بكثرة الأموال والأولاد. ولا يغتر بالصحة في الأبدان. ولا يغتر بما أعطاه الله وما خوله.

فإن هذا ليس دليلاً على رضى الله إذا كان الإنسان يعمل ما يسخطه، ولكن هو من الإمهال إلى العذاب الذي لم يأت أجله، يقول الله تعالى: ((وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا)) (سورة الكهف: الآية 58) يعني أن هذا الإمهال – لمن لم يستقم ولم يرجع إلى الله تعالى – له أجل ينتهي إليه. ودليل ذلك الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله تعالى: ((وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد)) (سورة هود: آية 102) . (متفق عليه) . والظالم هنا العاصي الذي اقترف معصية وفعل ذنباً أيما ذنب. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليملي للظالم)) يعني يؤخره ويمهله ويعطيه على ما هو عليه، ومع ذلك فلعله أن يعود إلى ربه إذا كان ذا عقل، وأن تتغير حاله. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيت الله يعطي الظالم وهو مقيم على ظلمه فاعلم أنه استدراج)) . رواه أحمد. ويعطيه أي يوسّع عليه. فإذا رأيت الله تعالى يوسع على إنسان وهو ظالم، ومع ذلك تزداد مكانته ومنزلته وماله، ويزداد في طغيانه ومعصيته، فلا تظن أن ذلك لكرامته على الله، ولكن أعلم أن ذلك من باب الاستدراج، اقرأ قول الله تعالى: ((سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين)) (سورة الأعراف، الآيتان: 182، 183) فقوله: ((وأملي لهم)) يعني أؤخرهم إلى أن يحين أجلهم وتنزل بهم العقوبة. وقد ورد في بعض الأحاديث: ((ما أخذ الله قوماً إلا عند غرتهم وغفلتهم وسلوتهم)) .والأخذ هنا العقوبة، أي: ما عاقبهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر إلا بعد أن يركنوا إلى الدنيا ويطمئنوا إليها، ويظنوا أنهم يتمتعون فيها. واقرأ قوله تعالى: ((فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين)) (سورة الأعراف: 166) .

واقرأ قول الله تعالى عن الذين مضوا: ((فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)) . (سورة الأنعام: 43، 44) . و ((أخذناهم بغتة)) يعني على حين غرة وعلى حين غفلة. فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، أو أخذهم بالتدريج وعاقبهم عقوبة بطيئة لم يتفطنوا لها حتى بغتهم أمر الله. وهذا ونحوه يدل على أن السيئات والمحرمات من كبائر الذنوب وأن بسببها تنزل العقوبة العاجلة أو الآجلة، وإذا أمهل للعاصي ومات وهو في طغيانه وعلى كفره وعناده وظلمه وعدوانه، فلا يأمن أن يعاقب في الآخرة فإن عذاب الآخرة أشد وأبقى. وكثيراً ما يذكر الله العذاب الأخروي الذي هو عذاب النار وبئس القرار، وذلك لتخويف العباد حتى يعودوا إلى الحق ويعبدوا ربهم وحده لا شريك له، قال تعالى: ((ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون)) . (سورة الزمر: الآية 16) . فيجب علينا أن نخاف من عذاب الدنيا أن يعاجلنا الله به، كما عاجل الأمم السابقة الذين عتوا وبغوا وطغوا وتعدوا. أو نخاف من عذاب الآخرة إذا بقينا على هذه المعاصي والمحرمات، فنخاف أن يعاقبنا الله عقوبة أخروية وهي أشد وأبقى من عقوبة الدنيا. هذا ما أحب أن أقوله في آثار الذنوب والمعاصي. وللذنوب آثار كثيرة وعظيمة وقد قص الله تعالى علينا عقوبة الذين كذبوا وكيف أخذهم لما كذبوا ومكروا وردوا رسالته على رسله، فأنزل بهم أنواع العقوبات التي ذكرها في كتابه العزيز. اجتنبوا السبع الموبقات

إن المحرمات المتمكنة في الأمة كثيرة، وإن المسلم ليحذر أن يركن إلى شيء منها فيكون من أهل العقوبات، وقد وردت الأدلة في ذكر أنواع السيئات للتحذير منها ولعقوبتها ولشدة العذاب عليها. فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) . متفق عليه. وذلك لأن هذه السبع قد ذكر الله عليها عقوبات شديدة، ونأتي على ذكر كل واحدة من هذه المعاصي باختصار فنقول: أولاً الشرك بالله: لقد ذكر الله تعالى الشرك في قوله تعالى: ((إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)) . (سورة المائدة، الآية: 72) . وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) . (سورة النساء، الآية: 48) . وفي الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثاً: ((الإشراك بالله.. .. ..)) الحديث، (متفق عليه) . والشرك ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر وشرك أصغر. وكل منهما له أقسام. والشرك الأكبر مخرج من الملة وهو الذي لا يغفره الله عز وجل، وصاحبه مخلد في النار أبد الآبدين. أما الشرك الأصغر فإنه ليس يخرج من الملة ولكن صاحبه على خطر عظيم. وهنا ننبه على أنواع من الشرك الأكبر المنتشرة على سبيل الاختصار: فمن الشرك الأكبر الذبح والنذر لغير الله. ومن الشرك الأكبر السحر والكهانة والعرافة. ومن الشرك الأكبر اعتقاد النفع في أشياء لم تشرع كاعتقاد النفع في التمائم والعزائم ونحوها.

ومن الشرك الأكبر الطواف حول القبور وعبادتها والاستعانة والاستغاثة بأصحابها، باعتقادهم أنهم ينفعونهم ويقضون لهم حاجاتهم. وهكذا دعاؤهم، ونداؤهم عند حصول الكربات والمكروهات لهم. فتجد أحدهم إذا أصابه مكروه يقول: يا بدوي! أو يا جيلاني! أو يا عبد القادر! أو يا حسين! أو يا علي! أو يا شاذلي! أو يا رفاعي! وهكذا دعاؤهم للسيدة زينب، والعيدروس وابن علوان وغيرهم كثير وكثير. وهكذا من الشرك الأكبر تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله. ومن الشرك الأكبر أيضاً اعتقاد بعضهم في تأثير النجوم والكواكب في بعض الظواهر الكونية وغيرها: كاعتقادهم أن المطر ينزل بسبب النجم كذا وكذا، وأن الرياح يثيرها نجم كذا وكذا، وهذا كله من الشرك بالله. وهناك أنواع من الشرك الأصغر الغير مخرج من الملة نذكر بعضها على سبيل الاختصار: فمن الشرك الأصغر الرياء والسمعة. ومن الشرك الأصغر الطيرة وهي التشاؤم ويدخل فيه التشاؤم ببعض الشهور أو الأيام أو بعض الأسماء أو أصحاب العاهات. وهكذا من الشرك الأصغر الحلف بغير الله: كالحلف بالآباء أو الأمهات أو الأولاد، أو الحلف بالأمانة، أو الحلف بالكعبة، أو الشرف، أو النبي، أو جاه النبي، أو الحلف بفلان، أو بحياة فلان، أو الحلف بالولي وغير ذلك كثير. فلا يجوز الحلف إلا بالله. ثانياً: السحر. وأما السحر فقد ذكره الله تعالى بقوله: ((ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)) إلى قوله: ((ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق)) . (سورة البقرة: الآية: 102) أي ماله في الآخرة حظ ولا نصيب.

والسحر قد كثر في هذه البلاد، وهو من الأعمال الشيطانية، وهو متمكن في كثير من البلاد الإسلامية، ولا شك أنه نوع من الشرك وما ذاك إلا أن السحرة يعبدون الشياطين حتى تلابس من يريدون إضراره؛ فيكون الساحر بذلك مشركاً، حيث إنه يتقرب إلى الشيطان بما يحب حتى يخدمه الشيطان فيضر به مسلماً أو يضر به من يريد إضراره. ولقد انتشر في هذا الزمان اللجوء إلى السحرة لفك السحر وهذا أمر شنيع ومحرم، وفي كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم غنية لمن أصابه السحر ونحوه، وعليه أن يطلب الشفاء من الله أولاً ثم عمل الأسباب المباحة، كالرقية الشرعية ونحوها. ولما كان السحر محرماً وهو نوع من أنواع الشرك بالله فقد حكم على الساحر بأنه كافر. فواجب علينا أن نحذرهم ونبتعد عنهم، وواجب أن نُعَرَّفَ بمن نعرف منه أنه ساحر، أو يتعاطى السحر، من رجل أو امرأة. ويدخل تحت باب السحر أيضاً الكهانة والعرافة، والكاهن أو العراف كافر إذا ادعيا علم الغيب. ولا يجوز الذهاب إليهم ولا التعامل معهم، ومن ذهب إليهم مصدقاً لهم فهو كافر كفراً يخرج من الملة. أما من ذهب إليهم وهو غير مصدق لهم فإنه لا يكفر ولكنه قد وقع في ذنب عظيم، كما ورد أنه لا تقبل صلاته أربعين يوماً نسأل الله السلامة والعافية. ثالثاً: قتل النفس. وأما القتل فالمراد به الاعتداء على المسلم بسفك دمه أو جرحه أو قطع طرف منه، أو نحو ذلك، وقد ورد في الحديث: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) . (متفق عليه) . يعني: المظالم التي بين الناس يوم القيامة تكون في الدماء وتكون في الأموال وتكون في الأعراض ولكن الدماء أهمها، فلذلك يحكم بينهم في أمر هذه الدماء، فيقضي بينهم وذلك لأهميتها.

وقد ورد الوعيد الشديد على قتل المسلم عمداً، قال الله تعال: ((ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً)) . (سورة النساء، الآية 93) . فقد توعد الله القاتل بأنواع العقوبات: الأولى: جزاؤه جهنم وهو اسم من أسماء النار وبئس القرار. الثانية: الخلود فيها يعني: طول المقام فيها إلى أجل لا يعلمه إلا الله. الثالثة: الغضب أي: غضب الله عليه، وإذا غضب عليه فإنه يستحق أن يعاقبه. الرابعة: اللعن وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله. الخامسة: العذاب: على هذا الذنب الذي هو اعتداؤه على حرمة مسلم وإراقة دمه بغير حق. رابعاً: أكل الربا: والربا هو المال الذي يؤخذ بغير حق من المعاملات الربويه المحرمة شرعاً وهو من كبائر الذنوب، ولذلك قال الله تعالى: ((فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275) يمحق الله الربا ويربي الصدقات)) . (سورة البقرة، الآيتان 275، 276) . ولا شك أن الربا متمكن في الأمة. فكثير من المعاملات يكون فيها ربا وأهلها لا يشعرون، ولكن يفعلون ذلك تقليداً أو يفعلونه ظناً منهم أنه لا إثم فيه. فالواجب أن نبتعد عنه وألا نتعامل إلا بالمعاملات المباحة التي لا شك فيها، وفي الحلال غنية عن الحرام. والربا محرم بالكتاب والسنة وهو من المهلكات والموبقات السبع، قال تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)) . (سورة البقرة، الآيتان:278،279) . إن المتعامل بالربا قد حارب الله ورسوله، ويا خيبة من أعلن حربه على الله ورسوله لأنه خاسر لا محالة.

وانظر أيها المتعامل بالربا إلى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في شناعة عملك هذا، ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: ((الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)) . انظر: صحيح الجامع (3533) . وعن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنهما: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)) . انظر: صحيح الجامع (3375) . خامساً: أكل مال اليتيم: يعم كل من كان عنده مال لغيره من يتيم أو فقير أو نحو ذلك، فَأَكَلَهُ وجَحَدَهُ. وقد توعد الله من أكل مال اليتامى بالعذاب الشديد فقال تعالى: ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)) . (سورة النساء، الآية:10) فأكلهم النار، يعني: في عذاب الله تعالى يعاقبون بأن يأكلوا ناراً. وهذه النار التي يأكلونها هي من نار جهنم. يروى أنهم يلقمون جمرات في النار تحرق أجوافهم، أو أنهم يسقون من الحميم الذي هو أشد حرارة مما يتصور، كما في قوله تعالى: ((وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم)) . (سورة محمد، الآية15) . فأخبر بأنهم إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً، أو أنهم يأكلون هذا المال الحرام ويعاقبون بأن يعذبوا في النار يوم القيامة، وهذا وعيد شديد. وعلى المسلم أن يبتعد عن أكل أموال الناس بغير الحق، اليتامى وغيرهم، والله تعالى قد نهى عن أكل المال بغير حق، فقال تعالى: ((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)) . (سورة البقرة، الآية: 188) يعني: لا تأكلوا أموال الناس التي تخصهم بغير حق ظلماً وعدواناً، فإنكم بذلك متعرضون لعذاب الله تعالى وغضبه.

ومن أكل أموال الناس بالباطل كل مال حرام وسحت ومن ذلك: السرقة والرشوة والغصب والتزوير وبيع المحرمات والربا وما يؤخذ كأجرة على المحرمات كالكهانة أو الغناء ونحوها. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به)) . (رواه أحمد والترمذي والدارمي) . فعليك أخي المسلم التوبة من حقوق الناس، وهو شرط من شروط التوبة، فلا تتم التوبة إلا بإرجاع الحقوق إلى أهلها أو استباحتهم. سادساً: التولي يوم الزحف: والتولي يوم الزحف هو: عندما تتقابل الصفوف في القتال فينهزم من ينهزم ويسلط العدو على المسلمين فيأخذ بعضهم بالهرب بسبب انهزامه، فهذا هو التولي. وهو بذلك متوعد بوعيد شديد ذكره الله تعالى بقوله: ((يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيز إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16)) ) . (سورة الأنفال، الآيتان: 15، 16) وهذا وعيد شديد على التولي يوم الزحف. سابعاً: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات: قال تعالى: ((إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24)) ) . (سورة النور، الآيات: 23، 24، 25) . والقذف هو الرمي بالفاحشة، بأن يرمي إنساناً بريئاً بقوله: إنك قد زنيت، أو هذا زان، أو هذه زانية، وهو كاذب عليهم. لا شك أن هذا بهتان وظلم وكذب ورمي لمسلم بريء بفاحشة لم يعملها، وإلصاق له بتهمة يظهر شناعتها، فيلام بها ويعاب عليها.

فلأجل ذلك استحق العقوبة كل من رمى إنساناً بريئاً بفاحشة وهو عالم بأنه بريء، قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا)) . (سورة النور، الآيتان: 4، 5) . فقد عاقب الله من رمى مؤمناً بفاحشة بثلاث عقوبات: الأولى: الجلد. ((فاجلدوهم ثمانين جلدة)) . الثانية: رفض الشهادة ((ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً)) . الثالثة: الحكم عليهم بأنهم فاسقون. ((وأولئك هم الفاسقون)) . إلا من تاب من هذه المعاصي التي بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الموبقات المهلكات التي تسبب العذاب على صاحبها، سواء في الدنيا أو في الآخرة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) . (رواه مسلم) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قذف مملوكه وهو بريء مما قال، جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال)) . (متفق عليه) . ويلحق بهذه الكبائر كل ما يشبهها أو يقاس عليها، مما يدخل فيه الوعيد، أو مما فيه مفسدة للأمة، وفيما يلي نأتي على شيء من الذنوب والمعاصي التي يظن البعض أنها من الصغائر فيستهين بها ولا يلقي لها بالاً ليكون المسلم على حذر منها، فإن من وقع فيها ولم يتب كان على خطر عظيم، وإن ربك لبالمرصاد وإن جهنم موعدهم أجمعين إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، فنرجو الله له المغفرة والرحمة، والله غفور رحيم. إياكم ومحقرات الذنوب

كثيراً ما يقع المسلم في بعض الذنوب ويظن أنها من الصغائر، فيحتقرها، ولا يلقي لها بالاً أو يحتج بقوله تعالى: ((إن الله غفور رحيم)) والبعض الآخر بحديث: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما)) . (رواه مسلم) . وغيرها من الأقوال ومداخل الشيطان عليهم. ونحن نقول لا يجوز للمسلم أن يتهاون بهذه الذنوب التي يدعي أنها من الصغائر، أو بالذنوب التي هي مقدمات للكبائر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن إذا اجتمعن على الرجل يهلكنه. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً: ((كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعودة والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً كثيراً، فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها)) . (رواه أحمد) . هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لو كان هناك جماعة مسافرون وليس معهم حطب يوقدون به ليصلحوا طعامهم والأرض ليس فيها حطب ظاهر، ولكنهم قوم كثير فتفرقوا في الأرض، فوجد هذا بعرة ووجد هذا عوداً، ووجد هذا عوداً. حتى اجتمع سواد، يعني حطب كثير، فكان ذلك سبباً في أنهم أوقدوا فيه وأنضجوا طعامهم، وأصلحوا ما يريدون إصلاحه. فكذلك هذه السيئات الصغيرة تأتي من هنا واحدة ومن هناك ثانية وثالثة ورابعة وهلم جرّا، حتى تجتمع على الإنسان فتهلكة، وهو متساهل بها ومتصاغر لها لا يظن أنها تبلغ ما بلغته. وأنا أذكر جملة من هذه الذنوب التي يحتقرها كثير من الناس ويظن أنها صغيرة ولا محذور فيها للتذكير، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وحتى يبتعد عنها المسلم ويقف عند حدود الله: أولاً: السخرية والاستهزاء وإطلاق الكلمات البذيئة:

كثير ما يتلفظ بعض الناس بكلمات لا يهتم بها ولا يلقي لها بالاً وقد تهلكه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) . (رواه البخاري) . وما أكثر هذه الكلمات التي لا ينتبه لها صاحبها عند المقال، ولا يفكر فيها، وقد تكون كفراً، وقد تكون معصية، ولكنه لا يقدر لها تقديراً. كثيراً ما يتكلم بكلمة كسُبَّةٍ، أو بهتان أو ظلم، أو غيبة، أو نميمة، أو سخرية أو استهزاء في أمر من الأمور، ولا يتفطن لها فيحكم عليه بالكفر والعياذ بالله. ولقد توعد الله بالوعيد الشديد الذين يسخرون بأهل الخير وبأهل الصلاح. وقد عد الله سبحانه وتعالى السخرية بهم والاستهزاء بآيات الله وبأحكامه وبشرائعه كفراً. ومن الأدلة على خطر الاستهزاء بالله وبآياته وبأوليائه المؤمنين قول الله تعالى عن أهل النار: ((وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار * اتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار)) . (سورة ص، الآيتان: 62، 63) . يقولون: إننا كنا نستهزئ بالمطوعين، ونستهزئ بالمصلين، ونستهزئ بالملتحين، ونستهزئ ونسخر بالمتدينين، ونعدهم أشراراً، ونعدهم فجاراً وضلالاً، واليوم لا نراهم معنا في النار!! أين ذُهب بهم؟! أين أولئك الذين كنا نعدهم من الأشرار، ونتخذهم سخرياً؟! ومن الأدلة أيضاً قول الله تعالى: ((زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب)) . (سورة البقرة، الآية:212) . ((ويسخرون من الذين ءامنوا)) يعني يستهزئون بالمؤمنين وبالمتدينين وبالصالحين، ويسخرون من زهدهم وتمسكهم بدينهم، فلذلك عاقبهم الله تعالى بأن أحل بهم غضبه وعذابه وصاروا من أعدائه. أما أولئك الذين كان يسخر منهم ويستهزأ بهم فهم من أولياء الله الذين أكرمهم بجزيل ثوابه.

ومن الأدلة أيضاً ما حكاه الله تعالى عن المنافقين بأنهم يلمزون أهل الخير، فقال تعالى: ((الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم)) . (سورة التوبة، الآية: 79) . ويلمزونهم أي: يعيبونهم، وما أكثر الذين يلمزون المطوعين ويعيبونهم! فيعيبونهم مثلاً بالصلاة، ويعيبونهم برفع الثياب وتقصيرها، ويعيبونهم بإرخاء اللحى وإعفائها، ويعيبونهم بترك شرب الدخان والخمور، وما أشبهها! وتلك شكات ذاهب عنك عارها، فالعبادات المذكورة لا عيب فيها، وليس عليك عيب إذا عابك مثل هؤلاء وتنقصوك، وإنما العيب في الذي يعيبك بتمسكك فهو أولى بأن يكون معيباً ذميماً. ولقد ذم الله أولئك الذين يستهزئون بالمؤمنين ويلمزونهم، وسماهم مجرمين، قال تعالى، ((إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون)) . (سورة المطففين، الآية: 29) . والذين آمنوا يراد بهم الذين حققوا الإيمان وعملوا الصالحات، وتركوا المحرمات. فالمجرمون يضحكون منهم ويستهزئون بهم قال تعالى: ((وإذا مروا بهم يتغامزون)) . (سورة المطففين، الآية: 30) . وقال: ((وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون (32) وما أرسلوا عليهم حافظين)) . (سورة المطففين، الآيتان: 32، 33) . هكذا تكون حالهم في الدنيا، أما في الآخرة فإن المؤمنين يضحكون منهم عندما يرونهم هم الخاسرين. ولا شك أن الاستهزاء والسخرية بأهل الخير هو الكمال الحقيقي بأهل الخير، ذلك أنهم أهل الطاعة وأهل الاستقامة، أما أولئك فهم أهل الضلال والخسران فبماذا يمتدحون؟ أيمتدحون بشربهم الخمور؟! أم يمتدحون بسماع الأغاني؟! أم يمتدحون بحلق اللحى وإعفاء الشوارب؟! أم يمتدحون بترك الصلوات أو التكاسل عنها؟! أم يمتدحون بالغيبة والنميمة والبهتان؟! أم.. أم.. أم.. الخ.

ثم نقول أنه لا يجوز الجلوس مع هؤلاء الفساق الذين يستهزئون بالمؤمنين ويلمزونهم ويسخرون منهم، كما أخبر الله بذلك فقال: ((وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)) . (سورة الأنعام، الآية: 68) . بل لا يجوز السكوت على ما يقولونه من السخرية أو الاستهزاء أو الرضا بما يقولونه، قال تعالى: ((فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)) . (سورة التوبة، الآية: 96) . ولا يجلس مع هؤلاء الأشرار إلا ضعاف الإيمان والذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم. أما من أراد دعوتهم ونصحهم وبيان الحق وأن ما هم عليه فهو باطل فلا بأس بالجلوس معهم بقدر البيان لهم وتحذيرهم، فهو من الدعوة إلى الله. ثانياً: شرب الخمور وتعاطي المخدرات: ومن المنكرات والمحرمات المتمكنة في الأمة، والتي فشت في كثير من الناس، شرب الخمور والمسكرات وتعاطي المخدرات. إن الكثير من الشباب اليوم يبيت ليله على شرب هذه المسكرات وتعاطيها، وربما تفوت عليهم أوقات كثيرة وهم في سكر والعياذ بالله. وقد وردت الأدلة الكثيرة في تحريم الخمر، وذكر جل وعلا العلة في تحريمها فقال تعالى: ((إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان واجتنبوة)) . (سورة المائدة، الآية: 90) . وهذا دليل واضح على تحريم الخمر، وهو الأمر بالاجتناب الذي هو البعد عنها. وكذلك مقارنتها بالأنصاب وهي آلهة الكفار، وهذا دليل آخر على تحريمها. فانظر أيها المسلم العاقل إلى هؤلاء الذين يعيبون أهل الخير والاستقامة، كيف حالهم وهم سكارى؟! نسأل الله العافية. وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)) . (رواه مسلم) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)) . (رواه أبو داود، وانظر صحيح الجامع (3128)) . فكل مسكر ولو كان غير الخمر فهو حرام، فالويسكي أو الشمبانيا، أو الفودكا أو البيرة أو العرق وغيرها كلها داخلة في التحريم فهي كلها أسماء للخمر، كما ورد في الحديث: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) . (رواه الإمام أحمد، وانظر صحيح الجامع (5453)) . وهناك من يسميها مشروبات روحية نسأل الله العافية. ثم انظر أيها المسلم لهذا الحديث العظيم وأمعن النظر فيه، فإنه يقطع القلوب لمن كان عنده إيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة، قالوا: يا رسول الله، وما ردغة الخبال؟ قال عصارة أهل النار)) . (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان (1378) والحاكم: 4/145، 146. ووافقه الذهبي. وحسنة أحمد شاكر (4918) . وقد انتشر في هذا الزمان تعاطي المخدرات ولا شك أنها أشد وأعظم من الخمر، فهي أشد حرمة من الخمر، وإذا كان هذا الوعيد الشديد في من شرب الخمر، فكيف بمن يتعاطى المخدرات؟ بل كيف بمن أدمن عليها؟! نسأل الله أن يهدي شباب المسلمين وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً وأن يبعد عنهم الفتن ما ظهر منها وما بطن ثالثاً: تعاطي القمار والميسر:

ومن المنكرات التي فشت أيضاً وتمكنت في الأمة لعب القمار، وهو الميسر الذي قرنه الله بالخمر، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)) . (سورة المائدة، الآية:90) . إن الكثير من الشباب يبيت طوال ليله على اللعب بما يسمى الورق أو على اللعب بما يسمى (البلوت) أو ما أشبه ذلك، فماذا يستفيدون من هذا اللعب؟! فإن كان على عوض فإنه ميسر محرم، حيث إنه يكسب مالاً حراماً إذا ربح، مع ما يترتب على ذلك من العقوبة والإثم الذي ذكره الله بقوله: ((إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)) . (سورة المائدة، الآية:91) . فالميسر هو اللعب الذي يُؤخذ عليه عِوض. ولا شك أن الذين يلعبون هذه الألعاب ينشغلون عن ذكر الله، فلا تجدهم يذكرون الله إلا قليلاً، وينشغلون عن الصلاة، فكثير منهم يلعب إلى نصف الليل أو ثلث الليل أو ثلثي الليل. فمتى يقومون لأداء صلاة الفجر مع الجماعة؟! إن أضرار هذه الألعاب التي فشت وتمكنت في الأمة كثيرة جداً: إنها سبب في السب والشتم والتشاحن والخلافات. وسبب لتضييع الأوقات. وسبب لعقوبة الله لهؤلاء المفرطين. إن أولئك المدمنين على هذه الألعاب يدعون أنهم بلعبهم هذا يقطعون الفراغ، وذلك أن عندهم أوقات فراغ طويلة يحبون أن يشغلوها بهذه الألعاب، وبئس ما فعلوا، فعندهم وقت ثمين يستحق أن يشغلوه بطاعة الله. فما بالهم لم يتعلموا العلم؟! وما بالهم لم يتعلموا القرآن ولم يتعلموا معانيه ولم ينشغلوا بحفظه؟! وما بالهم لم يجتهدوا في ذكر الله تعالى وفي دعائه وفي طاعته؟! لماذا ينشغلون باللهو واللعب ويتركون ما هو ذكر وطاعة وخير ويقطعون أوقاتهم في هذه المحرمات؟! والقمار أو الميسر له أشكال كثيرة ومتنوعة وهو من أعمال الجاهلية المشهورة:

فمن أشكاله في هذا الزمان ما يسمى (عقود التأمين التجاري) كالتأمين على الحياة أو السيارات أو البضائع أو المنازل أو المصانع ونحوها، وهذا من الميسر المحرم، ومنه التأمين الجزئي أو التأمين الشامل أو التأمين ضد الغير وهذا كله من الميسر الحرام. ومن أشكاله أيضاً ما يسمى (بالنصيب الخيري) في بعض البلاد، وكان من الأولى أن يسموه (اليانصيب الشرِّي) لأنه يأتي بشر ولا يأتي بخير، وكل ما يكسبه الفائز من الجوائز العينية أو المالية فهو حرام وسحت. ومن أشكاله أيضاً المراهنات في المباريات وغيرها. أما إذا كانت هذه المباريات لا تحتوي على جعل فإنها مباحة إذا خلت من المحرمات: كإضاعة الصلوات أو السب والشتم واللعن أو تكشف للعورات ونحوها. ومن الألعاب المحرمة التي تدخل في هذا الباب: لعبة الملاكمة لما فيها من ضرب الوجه والذي ورد النهي عنه. مسابقات اختيار ملكة جمال العالم. لعبة مناطحة الأكباش أو الثيران أو مناقرة الديوك وغيرها. ومما يجب التنبيه عليه ما انتشر في هذه الأزمنة من وجود المسابقات في بعض المحلات التجارية فتأخذ رقماً يتم السحب عليه ثم توزع الجوائز على أصحاب الأرقام الفائزة. وبعض المحلات التجارية أو المصانع تضع بداخل سلعتها حروفاً لأسماء أو أرقام معينة أو أجزاء من صورة ما، ثم يقولون: من جمع هذه الحروف وتكونت لديه كلمة كذا فإنه يربح، ثم بعد ذلك يحدد الفائز الأول والثاني وهكذا علماً بأن المشتري لا يعلم ما بداخل السلعة فيلزم فتحها حتى يعلم الحرف أو الرقم الذي بداخله، وهكذا يظل يشتري حتى تتكون لديه جميع الحروف والأرقام، وربما لا تجتمع لديه فيكون خاسراً. وربما يشتري أكثر من قيمة الجائزة وهذا كله حرام وسحت ومن الميسر المحرم. وهناك مسابقات مباحة لا تدخل في الميسر ومن ذلك: مسابقات تحفيظ القرآن أو مسابقات العلم الشرعي كالبحوث ونحوها. وهذه جائزة بجعل وبدون جعل.

ومن المسابقات المباحة أيضاً سباق الخيل والإبل والرمي والسباحة ونحوها، وهذه جائزة أيضاً بجعل وبدون جعل. رابعاً: سماع الأغاني والموسيقى ونحوها: إن من أبرز المحرمات التي تمكنت في الأمة وصارت مرضاً عضالاً، هو سماع الأغاني والموسيقى والملاهي والعكوف عليها. إن الكثير ممن انتكست فطرتهم عندما يقرأ عليهم القرآن تجد أحدهم ينعس أو ينام، وإذا سمع أغنية أو مطرباً أو مغنياً طرب له، وذهب عنه النعاس، وذهب عنه الوسن الذي كان يعتريه، وقام نشيطاً، وبات ليله على سماع هذا المنكر، نسأل الله العافية. لا شك أن هذا السماع من المحرمات، ولا شك أن السامع واقع في إثم عظيم، لأنه حيل بينه وبين سماع القرآن، واعتاض عنه الغناء واللهو الذي يشغله عن ذكر الله. ثم هو مع ذلك يفسد القلوب، فإن هؤلاء الذين يعكفون على سماع الغناء تفسد أمزجتهم وتفسد قلوبهم والعياذ بالله، وتثقل عليهم الطاعات، وتسهل عليهم المحرمات، ثم هو دافع أيضاً إلى ما وراءه وما هو شر منه، والعياذ بالله، فيكون إثمه أعظم وأكبر، وخاصة إذا كانت الأغنية مثيرة أو بصوت امرأة من المطربات ونحوها. لقد فشت بسبب هذه الأغاني منكرات كثيرة منها فعل فاحشة الزنا واللواط، وما شابههما، وتمكنت في كثير من الناس، وما ذاك إلا أنهم ألفو اهذه الأصوات الرقيقة الرنانة المثيرة للوجد والمثيرة للشهوات التي تدفعهم إلى اقتراف المحرمات ولا يجدون ما يردعهم. إن ضعف الإيمان وضعف الوازع الديني سبب رئيس لتمكن هذه الأغاني في قلوب كثير من الناس، وكذلك قلة الخوف من الله تعالى ومراقبته في السر والعلن، وإلا لو وجد الخوف لما كان لهذه الأغاني طريق إلى القلوب. فنصيحتي للإخوة بأن يحفظوا أنفسهم عن سماع الأغاني أو الجلوس عندها، والبحث عما فيه خير في الدنيا والآخرة من ذكر الله وطاعته، وألا يكونوا كالذين استبدلوا الذي هو أدني بالذي هو خير، نسأل الله السلامة والرحمة.

ومن الأدلة على تحريم الأغاني والموسيقى ونحوها، قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) . (رواه البخاري) . وعن أنس رضي الله عنه: ((ليكونن في هذه الأمة خسف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف)) . رواه الترمذي، وانظر السلسة الصحيحة 2203)) . ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: ((ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله)) . (سورة لقمان، الآية: 60) . وكان ابن مسعود رضي الله يقسم بالله عنه أنه الغناء. انظر: تفسير القرآن الكريم لابن كثير. خامساً: النظر إلى الصور عبر جهاز التلفاز أو الفيديو ونحوه: ومن المنكرات أيضاً النظر إلى تلك الصور الفاتنة والتفكه بالنظر فيها، تلك الصور التي تعرض في الأفلام عبر أجهزة الفيديو والتلفاز وغيرهما، والتي تعرض فيها صور النساء المتبرجات، سيما التي تذاع من البلاد الأجنبية كالبث المباشر، وما يعرض بواسطة ما يسمى (بالدش) وما أشبهها. إنها والله فتنة وأي فتنة، حيث إن الذي ينظر إلى تلك الصور لا يأمن أن تقع في قلبه صورة هذه المرأة أو صورة هذا الزاني أو هذا الذي يفعل الفاحشة أمام عينيه، وهو يمثل له كيفية الوصول إليها. فلا يملك نفسه أن يندفع إلى البحث عن قضاء شهوته، إذا لم يكن معه إيمان أكب على النظر إلى هذه الصور، سواء كانت مرسومة أو مصورة في صحف ومجلات، أو كانت مرئية عبر البث المباشر، أو تعرض في الأفلام ونحوها.

إن هذه المعاصي والمحرمات المتمكنة قد فشت كثيراً وكثيراً، ودعت إلى فواحش أخرى، فالمرأة إذا أكبت على رؤية هؤلاء الرجال الأجانب لم تأمن أن يميل قلبها إلى فعل الفاحشة، وإذا رأت المرأة هؤلاء النساء المتفسخات المتبرجات المتنكفات المتحليات بأنواع الفتنة، لم تأمن أن تقلدهن فترى أنهن أكمل منها عقلاً، وأكمل منها اتزاناً وقوة، فيدفعها ذلك إلى أن تلقي جلباب الحياء، وأن تكشف عن وجهها، وأن تبدي زينتها للأجانب، وأن تكون فتنة وأي فتنة. سادسا: ً تبرج النساء: وإن من المحرمات المتفشية أيضاً تبرج كثير من النساء في الأماكن العامة وغيرها، والذي هو تفسخ وقلة حياء منهن. إن هذا التبرج له أسباب كثيرة، وأهم الأسباب في وجوده وانتشاره، عكوف كثير من النساء على رؤية الصور الخليعة في الصحف والأفلام ونحوها، فهو الذي أوقع في قلوبهن حب الشهوات التي أدت إلى خلع جلباب الحياء، مما دعاهن إلى أن يندفعن إلى فعل الفاحشة.ولا يحصى ما يحصل، أو ما يعثر عليه هيئات الأمر بالمعروف والدعاة إلى الله تعالى من أماكن الدعارة، ومن أماكن الفساد، ومن اختطاف النساء من الأسواق، وكذلك اختطاف طالبات المدارس، برضاهن أو بغير رضاهن، مما يؤدي إلى فعل الفاحشة بهن، وهذا لا شك أن له دوافع وأسباباً كثيرة أدت إليه، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: قلة الإيمان الرادع وضعف الوازع الديني مما يؤدي إلى عدم أو قلة الخوف من الله. عدم الغيرة من أوليائهن والمحافظة عليهن. جلب الأولياء لهذه الأجهزة كالتلفاز والفيديو والدش وغيرها، والتي سبَّبت خلع الحياء عند كثير منهن، والتبرج المحرم، حتى حصلت هذه المحرمات وما شبهها. إن هذا التبرج معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهو من كبائر الذنوب. وهو سبب للعن والطرد من رحمة الله، كما في الحديث: ((سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات)) . (رواه مسلم) .

وهو أيضاً من صفات أهل النار. وهو سواد وظلمة يوم القيامة. وهو نفاق. وهو هتك لستر ما بينها وبين الله. وهو من الفواحش. وهو من أفعال الجاهلية. وهو من فتح الباب إلى كثير من الفتن، فهو يؤدي إلى الخلوة والاختلاط، وغيرها من الفواحش: كالزنا واللواط. وللتبرج مفاسد كثيرة: منها: فساد أخلاق الرجال. ومنها: تحطيم وتفكك الأسر. ومنها: المتاجرة بالمرأة. ومنها: انتشار الأمراض إذا حدث الوقوع في الفاحشة. ومنها: أنها سبب في الوقوع في الزنا. ومنها: أنها سبب لوقوع عقوبات من الله. فيا أولياء النساء والزوجات والبنات تذكروا: أن الرجل راع على أهله وهو مسؤول عن رعيته. فاحذروا الخلوة، والاختلاط، والتبرج، فإنها والزنى رفيقان لا يفترقان. ثم اعلموا أن الستر أعظم عون على العفاف. واحذروا أجهزة الفساد السمعية والمرئية فإن فيها الشر الكبير وهي فتنة وأي فتنة. إن الرجال الناظرين إلى النساء مثل السباع تطوف باللحمان إن لم تصن تلك اللحومَ أُسُوْدُها أكلت بلا عوض ولا أثمان فالله الله يا ولي أمر المرأة في نسائك ومحارمك فإنك مسؤول، احفظ بنتك وأختك وزوجتك ولا تتركهن يربيهن التلفاز والفيديو والدش فتندم حين لا ينفع الندم. وفي الختام: وبعد ذكر هذه النبذة المختصرة لبعض المحرمات، فهناك محرمات أخرى متمكنة، ولكن اقتصرنا على بعضها والمقصود الإشارة واللبيب تكفيه الإشارة. أيها الأخوة: إن انتشار هذه الفواحش سبب في وقوع العقوبة من الله على الأمم، فقد ورد في بعض الأحاديث: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)) . (رواه بن ماجه) . وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما يحدث في المستقبل، ولقد رأينا تحقيق هذا الحديث في هذا الزمان بما يحدث في الدول الأجنبية من إباحة الفاحشة وإعلانها، وما نتج عنه من الأمراض الخبيثة التي لم تكن من قبل.

إننا نشاهد كثيراً من الأمراض التي يذكرها الأطباء ليل نهار، والتي استعصى علاج الكثير منها، يقولون إن سببها فعل هذه الفواحش. اسألوا الأطباء: ما هو علاج هذه الأمراض؟! ما هو علاج الإيدز؟! ما هو علاج مرض الهربس؟! ما هو علاج مرض السرطان؟! ما هو علاج مرض كذا وكذا؟! لا شك أنه استعصى عليهم الكثير من هذه الأمراض، والتي من أسبابها والعياذ بالله اقترافُ هذه الفواحش والمحرمات والعكوف على فعلها. نسأل الله أن يحفظنا ويحفظ شباب المسلمين ونساءهم، وأن يحفظ علينا بلدنا هذا من الفتن والشرور وجميع بلاد المسلمين.. اللهم آمين. كيف تحصن نفسك وبعد أن عرفنا جملة من المعاصي والمحرمات المتمكنة في الأمة، وعرفنا أدلتها، والوعيد الشديد على من اقترفها وعكف عليها، فإننا نقول: كيف يحصن المسلم نفسه وأهله ونساءه وأولاده حتى لا يقع في مثل هذه المعاصي والمحرمات؟! أولاً: بالتربية الحسنة: نعم، إن أول حصن حصين ومانع قوي، هو التربية الحسنة، التربية على الأخلاق والآداب الإسلامية، والتربية على معرفة الله، ومعرفة آثار هذه المعاصي السيئة ومعرفة تأثيرها على الطاعات والأعمال الصالحة وعلى المجتمع. أيها الإخوة: إن الذي يتربى على الطاعة يألفها ويحبها، والذي يتربى على حب الأعمال الصالحة فإن ذلك يحمله على الاستكثار من العبادات والطاعات. ولا شك أن من أسباب الوقوع في السيئات والمعاصي نقص قَدْرِ الله وعظمته وإجلاله في قلب العبد، فإنه لو كان لقدر الله نصيب في نفسك أيها العاصي لما وقعتَ فيما وقعت فيه من الذنوب والخطايا، لأن معرفتك بالله وعظمته وهيبته تمنعك من اقتراف هذه الذنوب، ولو كنت تعلم يقيناً أن الله مطلع عليك لما عصيته في أرضه لو وقعت الخشية في قلبك منه.

ومن التربية اختيار الزوجة الصالحة، لأن الزوجة الصالحة المحافظة على دينها سوف تسعى جاهدة إلى تربية ابنها التربية الإسلامية وتحافظ عليه ليكون ابنها لبنة صالحة في المجتمع، كما أنها تربيه على الطاعة والأعمال الصالحة. أما المرأة السيئة في خلقها ودينها؛ فإنها عادة تهمل نشئها وتربيه على التلفاز والفيديو، وتربيه على الفساد شعرت بذلك أم لم تشعر. وكما ورد في الحديث: ((ثلاث من السعادة.. وذكر منها الزوجة الصالحة)) . (رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني ((1047)) . ثانياً: المحافظة على الصلوات الخمس: الصلاة وما أدراك ما الصلاة، يقول الله تعالى: ((وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)) . (سورة العنكبوت، الآية: 45) . والفحشاء هو القول الفاحش، والمنكر جميع المعاصي المنكرة. إن الصلاة سبب رئيسٌ ومهم جداً في حماية الفرد والمجتمع من الوقوع في الذنوب صغيرها وكبيرها. ولكن متى؟! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يوم أن تكون هذه الصلاة لله بخشوع وخضوع قلب، ليس نقراً كنقر الغراب لا يدري ماذا قال فيها. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يوم يتعبد الإنسان لله فيها بأنواع العبادات، يكبره، ويعظمه، ويجله، ويدعوه، ويركع ويسجد، ويقوم ويقعد، كل ذلك لله وحده. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يوم أن يستحضر ذلك المصلي عظمة الله في قلبه، ويعلم أن هذه الصلاة وهذه العبادة هي لله وحده، ويستحضر كبرياءه وأنه مأمور بهذه العبادة حتى يأتيه اليقين. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يوم يعلم العبد أن تركها بالكلية كفر وعقوبتها عظيمة. أيها الإخوة: إن الصلاة لم تشرع إلا لتهذيب النفوس، ولم تشرع إلا لعبادة الله تعالى وحده، فإن تيقن المصلي بهذا كله كانت الصلاة حماية وحجاباً عن الوقوع في الذنوب والمعاصي وغيرها. ثالثاً: كثرة ذكر الله تعالى:

إن ذكر الله تعالى سبب من أسباب الحماية من هذه المحرمات، بل وسبب مهم قد يتهاون فيه الكثير إلا من رحم ربي. لذلك فقد أمر الله تعالى بذكره في مواضع كثيرة من كتابه العزيز ومن ذلك قوله تعالى: ((الذين يذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم)) . (سورة آل عمران، الآية: 191) . وذلك لأن الذي يذكر الله يتذكر أمره ونهيه، فيتذكر أنه أمر بالعبادات، ويتذكر أن في هذه الأذكار أجراً عظيماً، ويتذكر أنه نهي عن المحرمات وأن في تركها أجراً كبيراً، وأن في تركه للأوامر وفعل المحرمات عقوبة، فيحمله هذا التذكر على أن يتقرب إلى الله بالطاعات ويترك المحرمات ويبتعد عنها. رابعاً: مجالسة الصالحين: ومن أسباب الحماية مجالسة الصالحين وأهل الخير الذين يذكرون الإنسان إذا غفل، ويعينونه إذا ذكر، ويدعونه، إلى الخير ويحذرونه من الشر. ولكن من هم الصالحون؟! الصالحون هم أولئك الذين أصلحوا أعمالهم، وأصلحوا أقوالهم، واستقامت أحوالهم. وهم الذين عرفوا الله حق المعرفة. وهم الذين يدعون إلى الخير وينهون عن الشر. وهم الذين التزموا أوامر الله واجتنبوا نواهيه. وهم.. وهم.. وهم.. الخ. هؤلاء هم الصالحون، أما غيرهم فهم أهل الشر والفساد. وإن من تمام مجالسة الصالحين اجتناب أهل المعاصي والبعد عنهم، فإن من جالس الصالحين اجتنب أهل الشر والفساد، ومن جالس أهل الخير هجر أهل الشر وابتعد عنهم. أما أولئك الذين لا يجالسون الصالحين ويصدون عنهم، فكثيراً ما يجتذبهم أهل الفساد ويدعونهم إلى ما يفعلونه، فيزينون لهم ما هم فيه، فلا يأمن أن يقعوا فيما وقعوا فيه.

أيها الإخوة، إن الأشرار ولو اعترفوا بأنهم على الشر، فإنهم يتمنون أن يكون الناس مثلهم حتى لا ينفردوا بالشر وحدهم، فصاحب الدخان لا يعترف بأنه على باطل، ولذلك تجده يزين لكل من رآه ولكل من جالسه أنه على حق، وأن هذا الدخان لا مانع منه، ولا بأس به، حتى يوقع فيه هذا وذاك، فإن شربوه مرة واثنين وتعودوا عليه، صعب عليهم بعد ذلك التخلص منه. ثم تجدهم يعيبون من ترك الدخان ويقولون إنه بخيل متزمت ومتشدد ونحو ذلك من الألفاظ. وهكذا فإن هؤلاء المفسدين الأشرار يعيبون أهل الدين ويعيبون أهل الصلاة وأهل ترك المحرمات بهذه العيوب التي يلصقونها بهم. وهذه سنة الله تعالى أن كل عاص يدعو إلى معصيته، ولو اعترف بأنه على باطل، ولكن لابد إذا كان متمكناً في هذه المعصية أن يزين حالته ويبين للناس أنه ليس على باطل حتى يفعلوا مثل ما فعل. فعلى المسلم أن يجتنب أهل السوء ومجالسهم فإنه لا يسلم إلا إذا اجتنبهم وابتعد عنهم. أما من كان معه قدرة على مقاومتهم، وإقناعهم ونصحهم، والرد عليهم وإبطال شبهاتهم، فإنه واجب عليه أن يفعل ذلك، ولا بأس أن يجالسهم في هذه الحالة حتى يرد عليهم، فإذا رأى أنهم تمادوا واستمروا في غيهم ولم تؤثر فيهم كلماته ومواعظه ونصحه فالنجاة النجاة، والبعد البعد، فهو أولى وأسلم. أيها الإخوة، هذه توجيهات في السلامة من هذه المحرمات، وهي على سبيل المثال. وأسباب التحصن والحماية كثيرة وفي الإشارة كفاية، واللبيب تكفيه الإشارة، والإنسان الذي معه فكر وعقل يعلم كيف الطريق إلى السلامة من بقية المحرمات لاجتنابها والحذر من مقاربتها. نسأل الله تعالى أن يحمي المسلمين من المعاصي ما ظهر منها وما بطن، وأن يبصرهم بأنفسهم حتى يجتنبوها، وأن يحمي مجتمعات المسلمين من العصاة والمفسدين.

ونسأله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، ويمكن لهم الدين، ونسأله أن يصلح أئمة المسلمين وولاة أمورهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين، يقولون بالحق وبه يعدلون. ونسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويصلح أحوال المسلمين، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ترجمة الشيخ عبد الله ابن جبرين

ترجمة الشيخ عبد الله ابن جبرين الاسم والنسب هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين من آل رشيد وهم فخذ من عطية بن زيد وبنو زيد قبيلة مشهورة بنجد كان أصل وطنهم مدينة شقراء ثم نزح بعضهم إلى بلدة القويعية في قلب نجد وتملكوا هناك. أسرته هذه الأسرة منهم من له ذكر وأخبار على الألسن لكنها لم تدون في كتب التأريخ لقلة العناية بتلك الأخبار في زمنهم وقد أشتهر جده الرابع وهو حمد بن جبرين وكان في أواسط القرن الثالث عشر حيث آل إليه أمر القضاء والولاية والأمارة في مدينة القويعية وكان ذا منزلة ومكانة في قومه فهو خطيبهم وأميرهم وقاضيهم مع ما رزقه الله من السعة في العلم والمال وتملك الآبار وإحياء الموات كما تدل على ذلك وثائق الملكية التي تحمل اسمه وأسماء بنيه من بعده وقد أورث علماً جماً حيث كان له كتاب وعمال ينسخون الكتب الجديدة بالأجرة ولا يزال الكثير منها موجوداً موقوفاً عند بعض أحفاده ثم اشتهر بعده ابن ابنه إبراهيم بن فهد فتعلم العلم وأدرك الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ والشيخ عبد الله أبابطين والشيخ حمد بن معمر وقرأ ونسخ وحفظ علماً جماً وأورث بعده مخطوطات تحمل اسمه منها ما نسخه بيده ومنها ما تملكه وقد تولى الإمامة والخطابة والإفتاء والتدريس وتعليم القرآن والحديث وتوفى في آخر القرن الثالث عشر وقام بعده ابنه عبد الله الذي حفظ القرآن وقرأ على أبيه وبعض علماء بلده وغيرهم وتولى الإمامة والخطابة والتعليم في قرية مزعل التابعة للقويعية وقد نسخ كتباً بيده أوقفها بعده ومات سنة 1344هـ وتولى الإمامة والخطابة بعده ابنه محمد بن عبد الله وكان قد قرأ على أبيه ورحل في طلب العلم وحفظ الكثير من المتون ونسخ بيده كتباً ومات سنة 1355هـ وأما والد المترجم له فهو أحد طلبة العلم وحفظه القرآن ولد سنة 1321هـ وتولى الإمامة بعد أخيه ثم انتقل إلى بلدة الرين لطلب العلم على قاضيها

عبد العزيز الشثري المكنى بأبي حبيب وأقام هناك حتى أرتحل بعد وفاة الشيخ أبا حبيب إلى الرياض ومات سنة 1387هـ. ولد الشيخ عبد الله بن جبرين سنة 1352هـ في إحدى قرى القويعية ونشأ في بلدة الرين وابتدأ بالتعلم في عام 1359هـ وحيث لم يكن هناك مدارس مستمرة تأخر في إكمال الدراسة ولكنه أتقن القرآن وسنه إثناء عشر عاماً وتعلم الكتابة وقواعد الإملاء البدائية ثم ابتدأ في الحفظ وأكمله في عام 1367هـ وكان قد قرأ قبل ذلك في مبادئ العلوم ففي النحو على أبيه قرأ أول الآجرومية وكذا متن الرحبية في الفرائض وفي الحديث الأربعين النووية حفظاً وعمدة الأحكام بحفظ بعضها وبعد أن أكمل حفظ القرآن ابتدأ في القراءة على شيخه الثاني بعد أبيه وهو الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري المعروف بأبي حبيب وكان جل القراءة عليه في كتب الحديث ابتداء بصحيح مسلم ثم بصحيح البخاري ثم مختصر سنن أبى داود وبعض سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي وقرأ سبل السلام شرح بلوغ المرام كله وقرأ شرح ابن رجب على الأربعين المسمى جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديث من جوامع الكلم وقرأ بعض نيل الأوطار على منتقى الأخبار وقرأ تفسير ابن حرير وهو مليء بالأحاديث المسندة والأثار الموصولة وكذا تفسير ابن كثير وقرأ كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وأتقن حفظ أحاديثه وأثاره وأدلته وقرأ بعض شروحه وقرأ في الفقه الحنبلي متن الزاد حفظاً وقرا معظم شرحه وكذا قرأ في كتب أخرى في الأدب والتأريخ والتراجم واستمر إلى أول عام، أربع وسبعين حيث انتقل مع شيخه أبو حبيب إلى الرياض وانتظم طالباً في معهد إمام الدعوة العلمي فدرس فيه القسم الثانوي في أربع سنوات وحصل على الشهادة الثانوية عام 1377هـ وكان ترتيبه الثاني بين الطلاب الناجحين البالغ عددهم أربعة عشر طالباً ثم انتظم في القسم العالي في المعهد المذكور ومدته أربع سنوات ومنح الشهادة الجامعية عام 1381هـ وكان ترتيبه الأول

بين الطلاب الناجين البالغ عددهم أحد عشر طالباً وعدلت هذه الشهادة بكلية الشريعة. وفي عام 1388هـ انتظم في معهد القضاء العالي ودرس فيه ثلاث سنوات ومنح شهادة الماجستير عام 1390هـ بتقدير جيد جداً وبعد عشر سنين سجل في كلية الشريعة بالرياض للدكتوراه وحصل على الشهادة في عام 1407هـ بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وأثناء هذه المدة وقبلها كان يقرأ أكابر العلماء ويحضر حلقاتهم ويناقشهم ويسأل ويستفيد من زملائه ومن مشائخهم في المذاكرة والمجالس العادية والبحوث العلمية والرحلات والاجتماعات المعتادة التي لا تخلو من فائدة أو بحث في دليل وتصحيح قول ونحوه. الحالة الاجتماعية

تزوج بابنة عمه الشقيق رحمها الله وذلك في آخر عام 1370هـ ومع قرابتها كانت ذات دين وصلاح ونصح وإخلاص بذلت جهدها في الخدمة والقيام بحقوق ربها وبعلها وتوفيت عام 1414هـ وقد رزق منها أثنى عشر مولوداً من الذكور والإناث مات بعضهم في الصغر والموجود ثلاثة ذكور وست إناث وقد تزوج جميعهم وولد لأغلبهم أولاد من البنات والبنين ولا يزالون يغشون أباهم ويخدمونه ويقومون بالحقوق الشرعية والآداب الدينية، أما الوضع المنزلي فقد كان في أول الأمر تحت ولاية والده فكان يخدمه ويقوم بما قدر عليه عن بره وأداء حقه في نفسه وماله ولا يستبد بكسب ولا يختص بمال ولما انتقل إلى الرياض وانتظم في معهد إمام الدعوة العلمي وكان يدفع له مكافأة شهرية فكان يدفع ما فضل عن حاجته لوالده الذي ينفق على ولده وولد ولده وبعد ثلاث سنين اضطر إلى إحضار زوجته وأولاده واستئجار منزل صغير وتأثيثه والنفقة فكانت المكافأة تكفي لذلك رغم قلتها لكن مع الاقتصار على الحاجات الضرورية وبقي يستأجر منزلاً بعد منزل لمدة ثماني سنين فبعدها أعانه الله على شراء بيت من الطين والخشب القوي فهناك استقر به النوى حيث قام فيه سبعة عشر عاماً يعيش في وسط من الحال لا إسراف فيه ولا تقتير ولم يتوسع في الكماليات والمرفهات لقلة ذات اليد ثم في عام 1402هـ انتقل إلى منزله الحالي الذي أقامه بمساعدة بنك التنمية العقارية وعاش فيه كما يعيش أمثاله في هذه الأزمنة. عقيدته

أما العقيدة والمذهب فقد نشأ على معتقد سليم تلقاه عن الآباء والأجداد والمشايخ العلماء المخلصين فتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، فقرأ وحفظ ما تيسر من كتب العقائد كالواسطية للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وتقلى شرحها من مشائخه الذين تعلم منهم العلوم الشرعية فكانوا يفسرون غريبها ويوضحون المعاني ويبينون الدلالات من النصوص وقد نهج والحمد لله منهج مشايخنا في تدريس كتب العقيدة السلفية فقرأ عليه التلاميذ الكثير من كتب العقائد المختصرة والمبسوطة كشروح الواسطية للهراس ولابن سلمان ولابن رشيد وشرح الطحاوية ولمعة الاعتقاد وشروح كتاب التوحيد وكذا الكتب المبسوطة لشيخ الإسلام وابن القيم وحافظ الحكمي وغيرهم ممن كتب في العقيدة وناقش الأدلة وتوسع في سردها وكان في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة يدرس كتب العقيدة ويشرف على البحوث والرسائل التي تقدم للجامعة في هذا القسم ويشترك في مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه ويرشد الطلاب إلى المراجع المفيدة في الموضوع ولا زال إلى الآن يشرف على كثير من الرسائل وعلى اتصال بالجامعة زيادة على الطلاب الراغبين في هذه الدراسة في هذه الدراسة. أما المذهب في الفروع فإن مشايخه الذين درس عليهم الفقه كانوا متخصصين في مذهب أحمد بن حنبل، لا يخرجون عنه غالباً وقد اقتصر عليه وأكثر من قراءة كتب الحنابلة والتعليق عليها ومعلوم أن مذهب أحمد هو أوسع المذاهب لكثرة الروايات فيه التي توافق المذاهب الأخرى غالباً فمن قرأ هذا المذهب وتوغل فيه أحاط بأكثر المذاهب ما عدى الافتراضات ونوادر المسائل التي يفترض الفقهاء وجودها فلا أهمية لدراستها فمتى وقعت أمكن معرفة حكمها بإلحاقها بأقرب ما يشابهها. شيوخه

أما الشيوخ والعلماء الذين تتلمذ عليهم فأولهم والده رحمه الله تعالى فقد بدأ بتعليمه القراءة والكتابة في عام 59 ثم أكمل وهي مسقط الرأس وكان رحمه الله من طلبة العلم وأهل النصح والإخلاص والمحبة وقد أفاد كثيراً بحسن تربيته وتلقينه وحرصه على التلاميذ ليجمعوا بين العلم والعمل وقد توفى سنة 1377هـ ومن أكبر المشايخ الذين تأثر بهم شيخه الكبير عبد العزيز بن محمد أبو حبيب الشثري الذي قرأ عليه أكثر الأمهات في الحديث وفي التفسير والتوحيد والعقيدة والفقه والأدب والنحو والفرائض وحفظ عليه الكثير من المتون وتلقى عنها شرحها والتعليق على الشروح وكان بدء الدراسة عليهم عام 1367هـ حتى توفى عام 1387هـ بالرياض رحمه الله تعالى ولكن قلت القراءة عليه بعد التخرج للانشغال والتدريس ونحوه، ومن العلماء الذين قرأ عليهم واستفاد من مجالستهم فضيلة الشيخ صالح بن مطلق الذي كان إماماً وخطيباً في إحدى القرى بالرين ثم قاضياً في حفر الباطن ثم تقاعد وسكن الرياض ومات سنة 1381هـ وكان ضرير البصر ولكن وهبه الله الحفظ والفهم القوي فقلّ أن يجالسه كبيراً أوصغيراً إلا استفاد منه وقد قرأ عليه بعض الكتب في العقيدة والحديث وحضر مجالسه التي يتعدى فيها الأكابر والعلماء ويأتي بالعجائب والغرائب وبالجملة فهو أعجوبة زمانه رحمه الله وأكرم مثواه، ومن أشهر المشايخ الذين قرأ عليهم وتابع دروسهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وهو غني عن التعريف به وقد تلقى عليه مع التلاميذ دروساً نظامية عند ما أفتتح معهد إمام الدعوة في شهر صفر عام 1374هـ وتولى تدريس القسم الذي كنت معهم في أغلب المواد الشرعية كالتوحيد والفقه والحديث والعقيدة فدرسه في الحديث بلوغ المرام مرتين في القسم الثانوي والقسم العالي وفي الفقه متن زاد المستقنع وشرحه الروض المربع مرتين أيضاً بتوسع غالباً في شرح كل جملة وهم يتابعون ويكتبون الفوائد المهمة.

وفي التوحيد والعقدية قرأ كتاب التوحيد وشرحه فتح المجيد وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ومتن العقيدة الحموية والعقدية الواسطية له أيضاً وشرح الطحاوية لابن أبي العز وغيرها وقد استمر في التدريس حتى أنهو القسم العالي في آخر سنة 1381هـ حيث توقف عن التدريس وانشغل بالافتاء ورئاسة القضاء حتى توفى عام 1389هـ في رمضان رحمة الله تعالى عليه. وقرأ في الدراسة النظامية على جملة من العلماء كالشيخ إسماعيل الأنصاري في التفسير والحديث والنحو والصرف وأصول الفقه وذلك من عام 1375هـ حتى التخرج والشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد في الفرائض لمدة ثلاث سنوات ودرس عليه أيضاً في مرحلة الماجستير لمادة الفقه عام 1388هـ وكان رحمه الله نم فقهاء البلد وله مؤلفات مشهورة منها عدة الباحث بأحكام التوارث ومنها التنبيهات السنية شرح العقدية الواسطية وهو أول الشروح الوافية لهذه العقيدة. وقرأ أيضاً على الشيخ حماد بن مجد الأنصاري والشيخ محمد البيحاني والشيخ عبد الحميد عمار الجزائري في علوم وفنون متعددة وفي مرحلة الماجستير قرأ على الكثير من كبار العلماء كسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد المتوفى سنة 1402هـ في الفقه طرق القضاء وحضر مجالسه منذ أن قدم الرياض واستفاد منه كثيراً في الأحكام والقصص والعبر والتأريخ والنصائح كما هو مشهور بذلك وقرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي وهو مشهور من كبار العلماء وقد تتلمذ عليه واستفاد منه جمع غفير في هذه البلاد من القضاة والمدرسين والدعاة وغيرهم وهو ممن فتح الله عليه وألهمه من العلوم ما فاق به الكثير من علماء هذا الزمان وقد توغل في التفسير والاستنباط عن الآيات وكذا في الحديث ومعرفة الغريب منه وكذا في العلوم الجديدة وأهلها.

وكذا الشيخ مناع خليل القطان الذي درسهم في تلك المرحلة في مادة التفسير بتوسع وإيضاح وقد استفادوا كثيراً من مجالسته ومحاضراته حيث يأتي بفوائد كثيرة مستنبطة من الآيات أو الأدلة وله مؤلفات عديدة في فنون متنوعة وكذا الشيخ عمر بن مترك رحمه الله تعالى وكان من أوائل حملة الدكتوراه من السعوديين وقد قرأ عليه في مادة الفقه والحديث والتفسير وكان شديد العناية بالأدلة والتعليلات وله معرفة تامة بالمعاملات المتجددة ويتوسع في الكلام قولها وقد استفاد منه كثير، ومنهم الشيخ محمد عبد الوهاب البحيري مصري الجنسية تولى التدريس في الحديث وكان يتوسع في الشرح وذكر المسائل الخلافية ويحرص على الجمع والترجيح فأفاده في كثير من المواضع المهمة ومنهم محمد الجندي مصري أيضاً ولم يقم إلا بعض سنة حتى مرض فرجع إلى مصر وتوفى هناك رحمه الله ومنهم محمد حجازي صاحب التفسير الواضح ومنهم طه الدسوقي العربي مصري أيضاً وكان ذا معرفة واسعة واطلاع وحفظ مع فصاحة وبيان وآخرون سواهم.

وقد استفاد أيضاً من مشايخ آخرين دراسة غير نظامية وأشهرهم سماحة الشيخ عبد العزيز بذلك عبد الله بن باز -رحمه الله- الذي لازمه في أغلب الحلقات التي يقيمها في الجامع الكبير بالرياض بعد العصر وبعد الفجر والمغرب بحيث يحضره العدد الكثير ويدرس في فنون منوعة من المتون والشروح المؤلفات ويعلق على الجمل ويوضح المسائل وينبه على الأخطاء ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم المهيزع وهو من المدرسين والقضاة وكان يقيم دروساً في مسجده وفي منزله ويستفيد منه الكثير ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن هويمل أحد قضاة الرياض قرأ عليه في المسجد وغيره وإن كان قليل التعليق لكنه يفيد على الأخطاء ويوضح بعض المسائل الخفية وفي آخر حياته ثقل سمعه وأشتد مرضه ثم توفى رحمه الله تعالى في عام 1415هـ وقد استفاد أيضاً من الزملاء والجلساء الذين سعد بالاقتران بهم وقت الدراسة ووفق بالقراءة معهم والمذاكرة في أغلب الليالي وفي أيام الاختبارات ومنهم الشيخ فهد بن حمين الفهد والشيخ عبد الرحمن محمد المقرن رحمه الله والشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فرسان والشيخ محمد بن جابر وغيرهم ممن سبقوه بالقراءة على المشايخ وتعلموا كثيراً مما فاته فأدركه بواسطتهم فكان يقرأ عليهم الشرح ويتلقى إصلاح بعض الأخطاء اللغوية والبحث في المسائل الخلافية ومعرفة الكتب المفيدة في الموضوع وكيفية العثور على المسألة في الكتب المتقاربة في الفقه الحنبلي وكذا معرفة طرق الاستفادة من كتب اللغة واختصاص كل كتاب بنوع من المواضيع ونحو ذلك مما يفوت من يقرأ بمفرده فلذلك ينصح المبتدئ أن يقترن في المذاكرة والاستفادة بمن هم أقدم منه في الطلب ليضم ما عندهم إلى ما عنده وقد ذكرنا أن أقدم هؤلاء المشايخ هو الشيخ عبد العزيز الشثري رحمه الله وقد بالغ في الثناء عليه ولما انتقل إلى الرياض عام 1374هـ استصحبه معه وذكر لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى بعض ما قرأ عليه وما وصل إليه

مما جعل الشيخ يجعله مع أعلى التلاميذ عند تقسيمهم إلى سنوات في معهد إمام الدعوة العلمي وكان من آثار إعجابه أن طلبه ذلك العام لتولي القضاء ولكنه أعتذر بالدراسة والشوق إليها فعذره. الأعمال التي تقلدها أولها أن بعث مع الدعاة إلى الحدود الشمالية في أول عام 1380هـ بأمر الملك سعود وإشارة لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ورئاسة الشيخ عبد العزيز الشثري رحمهم الله تعالى مع بعض المشائخ ولمدة أربعة أشهر ابتداء من حدود الكويت على امتداد حدود العراق وحدود الأردن وحدود المملكة شمالاً وغرباً وكثير من مناطق المملكة وقاموا بالدعوة والتعليم وتوزيع النسخ المفيدة في العقيدة وأركان الإسلام حيث أن أغلب السكان من البوادي عاشوا في جهل عميق فهم لا يعرفون إلا اسم الإسلام والصلاة والصيام ونحو ذلك ويجهلون الواجبات وما تصح به الصلاة ويقعون في الكثير من وسائل الشرك وأنواعه وقد بذلت الهيئة جهداً في تعليمهم ونفع الله الكثير ممن أراد به خيراً.

ثم تعين مدرساً في معهد إمام الدعوة في شعبان عام 1381هـ إلى عام 1395هـ قام فيه بتدريس الكثير من المواد كالحديث والفقه والتوحيد والتفسير والمصطلح والنحو والتأريخ وكتب مذكرات على أحاديث عمدة الأحكام بذكر الموضوع والمعنى الإجمالي وشرح الغريب وذكر الفوائد وكذا مذكرات على مواد الفقه والتوحيد والمصطلح لا يزال الكثير منها محفوظ عند الطلاب أو في المعاهد العلمية ثم في عام 1395هـ انتقل إلى كلية الشريعة بالرياض وتولى تدريس التوحيد للسنة الأولى وهو متن التدمرية وكتب عليه تعليقات كفهرس للمواضيع وعنوان للبحوث وكذا درس أول شرح الطحاوية ثم في عام 1402هـ انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد باسم عضو إفتاء وتولى الفتاوى الشفهية والهاتفية والكتابة على بعض الفتاوى السريعة وقسمة المسائل الفرضية وبحث فتاوى اللجنة الدائمة التي يناسب نشرها وقراءة البحوث المقدمة للمجلة فيما يصلح للنشر وما لا يصلح ومازال هكذا حتى الآن وقد انتهت مدة خدمته في دار الإفتاء، أما الأعمال الأخرى فقد تعين إماماً في مسجد آل حماد بالرياض في شهر شوال عام 1389هـ حتى هدم المسجد وهدم الحي كله في عام 1397هـ وبعد عامين عين خطيباً احتياطياً يتولى الخطبة عند الحاجة ومازال كذلك إلى الآن حيث يقوم بخطبة الجمعة وصلاتها في الكثير من الجوامع عند تخلف الخطيب أو قبل تعيينه وقد يستمر في أحد الجوامع أشهراً أو سنوات ويتولى صلاة العيد في بعض المناسبات. ويقوم أيضاً متبرعاً بالتدريس في المساجد ابتداء بدرس الفرائض في عام 1387هـ لعدد قليل ثم بتدريس التوحيد والأصول الثلاثة وكشف الشبهات والعقيدة الواسطية ونحوها لعدد كثير في مسجد آل حماد في آخر عام 1389هـ وقد حصل إقبال شديد على تلك الحلقات وكان أغلب الطلاب من مدرسة تحفيظ القرآن الذين توافدوا من جنوب المملكة ومن اليمانيين الوافدين لأجل التعلم وقد أقام تلك الدروس بعد الفجر أكثر

من ساعة أو ساعتين وبعد الظهر كذلك وبعد العصر غالباً وبعد المغرب إلى العشاء واستمر ذلك حتى هدم المسجد المذكور حيث نقلت الدروس إلى مسجد الحمادي حيث توافد إليه الطلاب كثرة في أغلب الأوقات للدراسة في العلوم الشرعية كالحديث والتوحيد والفقه وأصوله والمصطلح وغيرها ثم في عام 1398هـ رغب إليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن يقوم في غيبته بالصلاة في الجامع الكبير كإمام للصلوات الخمس فقام بذلك وكان يتولى الصلاة بهم إماماً كل وقت ماعدا خطبة الجمعة وصلاتها ومن ثم نقلت الدروس إلى مسجد الجامع الكبير والذي عرف بعد ذلك بجامع الإمام تركي بن عبد الله رحمه الله وفي حالة حضور سماحة الشيخ يقوم بصلاة العشائين هناك وإلقاء الدروس بينهما وبقية الأوقات ويلقي الدروس في مسجد الحمادي بعد العصر والمغرب وبعد الفجر غالباً ثم في عام 1398هـ رغب إليه بعض الشباب في درس بعد العشاء في المنزل يتعلق بالعقيدة فلبى طلبهم وابتدأ بالعقيدة التي كتبها الشيخ ابن سعدي وطبعت في مقدمة كتابه القول السديد وقد كثر عدد الطلاب وتوافدوا من بعيد ولم يزالوا إليه الآن وقد انتقل عام 1402هـ إلى منزله الحالي في السويدي فنقل الدرس هناك في ليلتين من كل أسبوع وقد قرؤا في هذه المدة نظم سلم الوصول وشرحه معارج القبول في مجلدين ورسالة الشفاعة للوادعي وكتاب التوحيد للشيخ محمد محمد بن عبد الوهاب وشرح ثلاثة الأصول له كما قرؤا في الفقه ونظم الرحبية في المواريث ومنار السبيل شرح الدليل لابن ضويان حتى كمل والحمد لله، ولما ضاق المنزل نقلوا الدرس إلى المسجد المجاوره ويعرف بمسجد البرغش كما نقول فيه الدروس الأسبوعية بعد الفجر وبعد المغرب أي بعد هدم المسجد الكبير عام 1408هـ وقد قرؤوا في هذه الأوقات كثيراً من الأمهات كالصحيحين وشرح الطحاوية وشرح الواسطية لابن سلمان ولابن رشيد وبعض زاد المعاد وجميع بلوغ المرام وزاد المستقنع وبعض سنن أبي داود

والترمذي وموطأ مالك ورياض الصالحين وبعض نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار وبعض سنن الدارمي وترتيب مسند الطيالسي وشرح كامل منتقى الأخبار لأبي البركات وكتاب الدين الخالص لصديق حسن خان وفي المصطلح متن نخبة الفكر ومتن البيقونية وفي النحو متن الآجرومية وبعض ألفية ابن مالك وفي أصول الفقه متن الورفان لإمام الحرمين وغير ذلك من المتون والشروح الكثيرة. وفي عام 1382هـ أسس بعض المحسنين مدرسة خيرية أسموها (دار العلم) فأقبل إليها العدد الكثير من الطلاب صغاراً وكباراً وتولى المترجم فيها التدريس في المواد الدينية كالحديث والتوحيد والفقه حسب مدارك الطلاب وأقام الشباب فيها نادياً أسبوعياً يستمر بعد العشاء ليلة كل جمعة لمدة ساعتين يحضره غالباً ويلقى فيه بعض الكلمات ويجيب على الأسئلة الدينية والاجتماعية وفي عام 1398هـ قام فيها بدرس أسبوعي يحضره العدد الكثير واستمر حتى هذا العام حيث نقل إلى أقرب مسجد هناك حولها ولا يزال وقد أكملوا فيه قراءة الصحيحين وابتدؤا في سنن الترمذي وتولى القراءة عليه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الله بن غيث وتركه في أول الأمر الشيخ الدكتور محمد بن ناصر السحيباني حتى انتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة ثم خلفه الشيخ الدكتور فهد السلمة حتى انشغل بالتدريس في كلية الملك فهد الأمنية والطريقة أن يقرأ الباب ثم يشرحه بإيضاح مقصد المؤلف وبيان ما تدل عليه الأحاديث وفي حدود عام 1403هـ رغب إليه بعض الشباب من سكان حي العليا أن يلقى عندهم درساً أسبوعياً في العقيدة ودرساً في الحديث فابتدأ الدرس في مسجد متوسط في الحي أشهراً ثم انتقلوا إلى مسجد الملوحي مدة طويلة ثم إلى مسجد السالم حيث استمر الدرس فيه سنوات ثم انتقل بهم إلى مسجد الملك عبد العزيز ثم إلى جامع الملك خالد وقد أكملوا في هذه المدة متن لمعة الاعتقاد والعقيدة الواسطية وكتاب التوحيد ومتن التدمرية وبعض بلوغ المرام وشرح عمدة الفقه قسم

العبادات بعض الروض المربع قراءة وشرحاً وفي عام 1409هـ رغب إليه بعض الأخوان أن يقرر درساً أسبوعياً في مسجد سليمان الراجحي بحي الربوة قراءة وشرحاً وذلك أن المسجد مشهور ويحيط به أحياء واسعة مكتظة بالسكان المحبين للعلم فلبى طلبهم وابتدأ في شرح الطحاوية فأكمله وفي عمدة الأحكام في الحديث فأكملها وفي كتابه السنة للخلال ثم كتاب السنة لعبد الله بن أحمد ولا يزال يقرأ فيه ويتولى القراءة غلاباً إمام المسجد صالح بن سليمان الهبدان أو مؤذن المسجد ويختم الدرس قرب الإقامة بالإجابة على أسئلة مقدمة من الحاضرين ويتكاثر العدد في هذا الدرس فربما ذادوا على الخمسمائة ولا يتوقف إلا في أيام الاختبارات ثم يستأنف بعدها وفي عام 1409هـ رغب إليه سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- أن يلقي درساً في مسجد سوق الخضار بعتيقة لكثرة من يصلي فيه فلبى رغبته وأقام فيه درساً أسبوعياً لكن إنما يحضره القليل من الطلاب لانشغال أهل الأسواق بتجارتهم واستمر هذا الدرس في الفقه والتوحيد كما أنه في هذه السنين يقوم غالب الأسابيع بإلقاء محاضرات في مساجد الرياض النائية التي يكثر فيه المسلون ولا يلقى فيها دروس فيتواجد العدد الكثير غالباً في المحاضرة التي تتعلق بالعبادات والمعاملات وما يحتاج إليه الناس ويشترك أيضاً في الندوات التي تقام أسبوعياً في المسجد الجامع الكبير المعروف بجامع الإمام تركي والتي ابتدأت من أكثر من عشرين عاماً ويعلق عليها غالباً سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والآن يعلق عليها سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله.

وهناك أعمال أخرى قام منها التدريس في المعهد للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وذلك في عام 1408هـ حيث أسند إليه درس الفقه للسنة الأولى ويسمى السياسة الشرعية وهو ما يتعلق بالمعاملات وأحكام والتبادل بمعدل درسين في الأسبوع وفي نهاية العام وضع أسئلة الاختبار وصحح الأجوبة كالمعتاد ثم في العام بعده قام بهذا الدرس ومعه درس آخر للسنة الثانية ويعرف بالأحوال الشخصية وله ثلاث حصص كل أسبوع وطريقة الإلقاء اختيار جمل من الكتاب المقرر وذكر ما فيها من الخلاف وسرد أدلة الأقوال مع الجمع والترجيح ووجه الاختيار وفي السنة بعدها اقتصرت على الدرس الأول وهو السياسة الشرعية ثم توقف بعدها عن هذا التدريس (ومنها) الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه التابعة للجامعة المذكورة وذلك طوال هذه السنين أي بعد الانتقال من الجامعة إلى رئاسة البحوث العلمية كما سبق لم يتخل عن أعمال الجامعة وذلك في كل عام يلتزم بالإشراف وعلى ثلاث رسائل وأربع يقوم بتوجيه الطالب وإرشاده إلى مراجع البحث في الأمهات حسب علمه ويقرأ ما يقدمه كل شهر من بحثه ويبين ما فيه من خطأ ونقص ويجتمع به غالباً كل أسبوع أو نحوه ويرفع عنه للجامعة تقريراً عن سيره وما يعوقه وفي النهاية يكتب عن رسالته ومدى صلاحيتها للتقديم ويحضر عند المناقشة وتقويم الرسالة كما يقوم أيضاً بمناقشة بعض الرسائل المقدمة للجامعة كعضو فيها ويبدى ما لديه من الملاحظات ويحضر تقويم الرسالة كالمعتاد (ومنها) القيام بالدعوة داخل المملكة بإلقاء محاضرات أو خطب أو إجابة على الأسئلة وذلك كل شهر أو شهرين حيث يزور البلاد القريبة الرياض فيلقي محاضرة في معهد أو مركز صيفي وفي مسجد جامع ويجتمع بالأهالي ويبحث معهم في مشاكل البلاد وعلاجها وقد تستمر الرحلة أسبوعياً أو أكثر للتجول في البلاد النائية وزيارة بعض الدوائر الحكومية للمناصحة والإرشاد فيلقى تقبلاً وتشجيعاً وترغيباً في

الاستمرار وقد تكون الزيارة رسمية وتحدد المدة من مركز الدعوة أو إدارة الدعوة في الداخل (ومنها) الاشتراك في التوعية في الحج وذلك زمن إن كان تبع الجامعة حتى عام وذكر منافع الحج والعمرة وإيضاح الأهداف من هذه الأعمال وتفقد آثارها بعد إنقضائها والإجابة على الأسئلة التي تتعلق بالمقام وذلك لمدة شهر كامل وقد تعزر عليه الاشتراك في هذا بعد الالتحاق بالرئاسة بسبب الإقامة في المكتب للحاجة الماسة إليه هناك وقام في السنوات الأخيرة بالحج مع بعض الحملات الداخلية التي تجمع حجاجاً من الرياض وكان يتولى معهم الإجابة على الأسئلة وإلقاء كلمات توجيهية كل يوم مرة أو مرتين ويقوم بزيارة بعض الحملات الأخرى في الموسم فيفرحون بذلك العمل. مؤلفاته

أولها البحث المقدم لنيل درجة الماجستير في عام 1390هـ (أخبار الآحاد في الحديث النبوي) وقد حصل على درجة الامتياز رغم إنه كتبه في مدة قصير ولم تتوفر لديه المراجع المطلوبة وقد طبع عام 1408هـ في مطابع دار طيبة ثم أعيد طبعه مرة أخرى وهو موجود مشهور ولم يتيسر له التوسع فيه قبل طبعة لاحتياجه إلى مراجعة وتكملة وقد حمله على الكتابة فيه محبة الحديث وفضله وما رأه في كتب المتكلمين والأصوليين من عدم الثقة بخبر الواحد سيما إذا كان متعلقاً بعلم العقيدة وقد رجح قبوله في الأصول كالفروع. وفي عام 1398هـ كلف بكتابة تتعلق بالمسكرات والمخدرات لتقديمها للمؤتمر الذي عقدته الجامعة الإسلامية في ذلك العام فكتبه بحثاً بعنوان (التدخين مادته وحكمه في الإسلام) وهو بحث متوسط وفيه فوائد وأحكام زائدة على ما كتبه الآخرون وقد أعجب به المشايخ المشاركون في موضوع الدخان وقد طبعته مطابع دار طيبة عدة طبعات وهو مشهور متداول وإن كان مختصراً لكن حصل به فائدة لمن أراد الله به خيراً وفي عام 1402هـ رفع إليه كلام لبعض علماء مصر ينكر فيه إثبات الصفات ويرد الأدلة ويتوهم إنها توقع في التشبيه وكذا يميل إلى الشرك بالقبور ويمدح الصوفية وقد لخص كلامه بعض الأخوان في أربع صفحات وأرسلها لمناقشتها في كتب عليه جواباً واتضحاً وتتبع شبهاته وبين ما وقع فيه من الأخطاء بعبارة واضحة ومناقشة هادئة وطبع ذلك البحث في مجلة البحوث الإسلامية العدد التاسع ثم أفرده بعض الشباب بالطبع في رسالة مستقلة بعنوان (الجواب الفائق في الرد على مبدل الحقائق) وهو موجود متداول طبعته مؤسسة آسام للنشر وكتبه أيضاً مقالاً يتعلق بمعنى الشهادتين وما تستلزمه كل منهما وطبع في مجلة البحوث العدد السابع عشر ثم افرده بعض التلاميذ بالطبع بعنوان (الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما) وطبع في عام 1410هـ في مطابع دار طيبة في 90صفحة من القطع الصغير وقد التزم فيه وفي غيره

العناية بالأحاديث للاستدلال بها وتخريجها مع ذكر درجتها باختصار. وفي عام 1391هـ قام بتدريس متن لمعة الاعتقاد لابن قدامة لطلاب المعهد العلمي وكتب عليها أسئلة وأجوبة مختصرة تتلاءم مع مقدرة أولئك الطلاب في المرحلة المتوسطة ومع ذلك فإنها مفيدة لذلك رغب إليه بعض الشباب القيام بطبعها فطبعت بعنوان (التعليقات على متن اللمعة) عام 1412هـ وفي مطبعة سفير والناشر دار العميعي للنشر والتوزيع وقد وقع فيها أخطاء تبع فيها ظاهر المتن والأدلة وقد أعيد طبعها مع إصلاح بعض الأخطاء. وقد قام فيها بتخريج الأحاديث التي استشهد بها ابن قدامة تخريجاً متوسطاً حسب بدارك التلاميذ وفي عام 1399هـ سجل في كلية الشريعة لدرجة الدكتوراه واختار (تحقيق شرح الزركشي على مختصر الخرفي) وهو أشهر شروحه التي تبلغ الثلاثمائة بعد المغني لابن قدامة واقتصر في الرسالة على أول الشرح إلى النكاح دراسة وتحقيق أو نوقشت الرسالة كما تقدم ثم كمل تحقيق الكتاب وطبع في مطابع شركة العبيكان للنشر والتوزيع في سبعة مجلدات كبار وتم توزيعه وبيعه في أغلب المكتبات الداخلية وهو موجود متداول والحمد لله.

وقد اعتنى في هذا الشرح بتخريج الأحاديث والآثار الكثيرة التي يوردها الشارح وقام بترقيمها فبلغ عددها كما في آخر المجلد السابع 3936 وإن كان فيه بعض التكرار القليل وقد بذل جهداً في هذا التخريج بمراجعة الأمهات وكتب الأسانيد التي تيسرت له للرجوع إليها وهي أغلب المطبوعات وذكر رقم الحديث إن كان الكتاب مرقى أو الجزء والصفحة وذكر اختلاف لفظ الحديث إن كان مغايراً لما ذكر الشارح وذكر من صحح الحديث من المتقدمين أو ضعفه كالترمذي والحاكم والذهبي وابن حج والهيثمي وإن كان في أحد الصحيحين لم يذكر ما قبل فيه للثقة بهما وحيث أنه بدأ درا ستة في الصغر بكتب الحديث كما تقدم فقد أورث ذلك له شوقاً إلى كتابة الحديث فحرص على اقتناء الكتب القديمة التي يهتم مؤلفوها بالأحاديث النبوية ويوردونها بأسانيدهم المتصلة كما أحب كل ما يتعلق بالحديث من كتب المصطلح وعلل الحديث وكتب الجرح والتعديل ونحوها وذلك أن هذا النوع هو الدليل الثاني للشريعة أي بعد كتاب الله تعالى ولأن علماء الأمة أولوه عناية تامة حتى قال بعضهم إن علم الحديث من العلوم التي طبخت حتى نضجت ولأن هناك من أدخل فيه ما ليس منه برواية أحاديث لا أصل لها من الصحة ولكن قبض الله لها نقادها من العلماء الذين وهبهم الله من المعرفة بالصحيح والضعيف ما تميزوا به على غيرهم وقد عرفنا بذلك جهدهم وجلدهم وصبرهم على المشقة والسفر الطويل والتعب والنفقات الكثيرة مما حملهم عليه الحرص على حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيتها عما ليس منها وقد يسر الله في زماننا هذا طبع هذه الكتب وفهرستها وتقريبها بحيث تخف المؤنة ويسهل تناول الكتاب ومعرفة مواضع البحوث بدون تكلفة والحمد لله، هذا وقد كان ألقى عدة محاضرات في مواضيع متعددة وتم تسجيلها في أشرطة ثم أن بعض التلاميذ أهتم بنسخها وإعدادها للطبع وقد تم طبع رسالتين الأول بعنوان (الإسلام بين الإفراط والتفريط) في 59صفحة والثانية

بعنوان (طلب العلم وفضل العلماء) في 51صفحة وكلاهما طبع عام 1313هـ في مطبع سفير والناشر دار الصميعي للنشر والتوزيع وأما التسجيل فإن التلاميذ قد أولوه عناية شديدة وذلك بتتبع الدروس والمحاضرات وتسجيلها في أشرطة ثم الاحتفاظ بها ومن ثم نسخ ما تيسر منها للتداول وللطبع وقد سجل شرح زاد المستقنع وشرح بلوغ المرام وشرح الوقات في الأصول وشرح البيقونية في المصطلح وشرح منار السبيل في الفقه وشرح الترمذي وثلاثة الأصول ومتن التدمرية وغيرها كثير، ويباع كثير من الأشرطة في التسجيلات الإسلامية في الرياض وغيرها.

أما الكتابات السريعة فكثيرة فإن هناك العديد من الطلاب يحرصون على تحصيل جواب مسألة أو فتوى في مشكلة ويرفعونها إليه وبعد كتابة الجواب وتوقيعه ينشرونه في المساجد والمكاتب والمدارس فيتداول ويحصل له تقبل وفائدة محسوسته لثقتهم بالكاتب كما إن الكثير من الشباب الذين أعطوا موهبة في العلم إذا كتب أحدهم رسالة أو كتيباً رغب إليه إن يكتب له مقدمة أو تقريظاً فيصرح باسمه عنوان الرسالة ويكون ذلك ادعى لزوجاته والإقبال عليه والاستفادة وهناك من العلماء من يساهم في بث تلك النشرات التي لها مسيس ببعض الأوقات كالمخالفات في الصلاة وأحوال الاقتداء بالإمام والمخالفات في الصيام وفي الحج وأعمال عشر ذي الحجة والمقال في التيمم ومتى يرخص فيه ونحوها فتطبع في مواسمها ويوزع منها ألوف كثيرة رجاء الانتفاع بها وهناك من العلماء من أخذ تلك النشرات وأودعها بعض مؤلفاته كالشيخ عبد الله بن جار الله رحمه الله وغيره ممن كتبوا في تلك المواضيع وضمنوها بعض ما كتبه المترجم للاستفادة، وأما العلماء الأكابر فإن المناقشين لرسالة أخبار الآحاد بعد إقرارها كتبوا عنها تقريراً مفيداً يمكن الحصول عليه من المعهد المذكور حيث كتبوه عام 1390هـ وهكذا الذين ناقشوا كتاب شرح الزركشي وهم الشيخ صالح بن محمد اللحيدان والشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مع المشرف الدكتور عبد الله بن علي الركبان فقد قرروا الكتاب الذي ناقشوه من أول الشرح إلى النكاح وكتبوا عنه صلاحيته للنشر وحرصاً الأكثر على الحصول عليه قبل طبعه وتقبله أكابر العلماء وأقروا العمل الذي قام به تجاهد ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسائر هيئة كبار العلماء ويمكن مراجعتهم لتقييمها وما لوحظ علهيا وما تميزت به ولم يعرف أحداً ابدى انتقاد المانهجه في هذه الكتب المتعلقة بالحديث والمصطلح.

أما المنهج فقد سلك في تحقيق الزركشي الخطة التي رسمت في الخطط والموجود في المقدمة وقد حرص على البحث عن الأحاديث وأنها التي يستدل بها وقابلها على أصولها كما حرص على التعليق على ما يحتاج إلى تعليق من نقل أو مخالفة أو خلاف في مسألة وأما الشروح الأخرى كشرح اللملعة القديم والبيقونية والورقات والتوحيد والبلوغ والمنتقى الخ فإنه يترحها ارتجالاً ويوضح العبارة التي في المتن بالأمثلة ويذكر الخلاف المشهور ويبين المختار عنده حتى لا يقع الطالب في حيرة ويتوسع أحياناً في الشرح بذكر ماله صلة بذلك الحديث أو تلك المسألة وقد تميزت هذه الكتب والشروح بوضوح العبارة وبذكر الأدلة ومناقشتها وبالتعليل إن وجد والحكمة من شرعية هذا الحكم والتوسع في ذكر الأمثلة فلا جرم صار عليها إقبال شديد حيث نسخ كثير من الطلاب بعض تلك الأشرطة بشرح منار السبيل وقد بلغ ما نسخوه عدة مجلدات وحرص الكثير على تصويره واقتنائه حيث وجد وافية مسائل واقعية ومعالج لبعض المشاكل المتمكنة في المجتمع وتحذير من بعض الحيل والمكائد التي يتعلها بعض المؤمنين ونحو ذلك من المميزات الكثيرة.

أما استقصاء المعلومات عند الكتابة فهذا يكون في الشرح الارتجالي كشرح أحاديث مسلم والترمذي ومنتقى الأخبار وأما الكتابة فالغالب الاقتصار على القد المطلوب في السؤال دون استقصاء وتوسع في الجواب وكذا الإملاء إذا كان الجواب ارتجالياً كما وقع في الأسئلة التي طبعت بعنوان (حوار رمضاني) الذي طبعته مؤسسة آسام للنشر عام 1312هـ في 28صفحة بقطع صغير وكذا في أسئلة متعلقة برمضان وقيامه والقراءة في القيام ودعاء الختم ونحوه حيث ألقى بعض الشباب 36سؤالاً وقد كتب عليها جواباً متوسطاً ثم قام السائل وهو سعد بن عبد الله السعدان بتحقيقها وتخريج أحاديثها وطبعت بعنوان (الإجابات البهية في المسائل الرمضانية) نشر دار العاصمة مطابع الجمعة الإلكترونية عام 1413هـ 103صفحة وبكل حال من الأحوال تختلف في الدوافع إلى الكتابة وحال المستفيد فأما الصعوبات فإن الرسالة الأولى وهي (أخبار الآحاد) كتبها في زمن قصير وكانت المراجع قليلة أو مفقودة عنده فلا جرم لقي مشقة في البحث عن مواضع المسائل واضطر إلى الاختصار رغم سؤال المشرف وغيره فأما شرح الزركشي فقد لقي أيضاً فيه صعوبة لسعة الكتاب وكثرة نقوله وندرة الكتب التي نقل عنها وعدم بعض المراجع للأحاديث التي يستشهد بها معتمداً على كتب الفقهاء التي لا تعزو الأحاديث إلى مخرجها فيحتاج إلى صعوبة في البحث في كتب الفهارس والتخريج التي تذكر المشاهير من الأدلة دون النادر منها ولكن الله أعان على الكثير وحصل التوقف في البعض الذي لم يعثر على أصوله كأول سنن سعيد بن منصور وكسنن الأثرم ومسند إسحاق ونحو ذلك ولو وجد من ينقلها لكن مع قصور واختصاره وأما علم المصطلح فإن مراجعة كثيرة وكتبه متوفرة والغالب إنها متوافقة فيه وإن يوجد في بعضها زيادة خاصة فلذلك يمكن الاختصار فهيا ويمكن التوسع بذكر الأمثلة ولم يكتب فيها سوى شرح البيقونية وهو الآن يحقق وبعد للطبع وهو مجرد إيضاح للتعاريف المذكورة في النظم،

وأما المشكلات التي تواجه من كتب في علم المصطلح فهي كثرة الكتب في الموضوع التي يلزم منها كثرة التعريف ووجود الطرق بينها حتى يحتار الكاتب في اختيار ما يناسب المقام ولكن الأجلاء من المحدثين قد ناقشوا التعريفات الاصطلاحية وذكروا ما يرد عليها والجواب عنه لكن قراءة ذلك كله تستدعى وقتاً طويلاً فالطلاب إذا اقتصر على المختصر التي كتبها أئمة هذا الفن كالنخبة والبيقونية والفية العراقي والسيوطي رأى في ذلك كفاية ومقنعاً. وحيث أن هذا النص قد أكثر فيه العلماء من الكتب فإن أشهر كتبه التي تحتوي على ما ويوضحه ويجلى معانيه هي الكتب الواسعة مثل تدريب الراوي شرح تقريب النووي للسيوطي ومثل توجيه النظر لبعض علماء الجزائر ومثل توضيح الأفكار للأمير العسفاني وإن كان بعضها ينقل من بعض ومن المعاصرين الشيخ صبحي الصالح فقد كتب مؤلفاً في علوم الحديث ومصطلحه وذكر أشياء زائدة على ما كتبه الأولون لوجود كثير من المراجع التي توفرت له والأدلة التي أمكنه أن يستدل بها وبكل حال فالباحث في الموضوع يحس أن يلم بكتب المتقدمين الذين وضعوا هذا الاصطلاح ثم بعدهم. المصدر: موقع الشيح ابن جبرين مع تحيات شبكة مشكاة الإسلامية / المكتبة الإسلامية

فتاوى في الخسوف والكسوف

فتاوى في الخسوف والكسوف المقدمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه. وبعد، فهذه أجوبة على أسئلة رفعها بعض المواطنين عن الكسوف والخسوف وشيء من أحكامهما.

السؤال:- هل وردت حكمة لحدوث الكسوف والخسوف؟ وما الرد على من قال إن معرفتها بالحساب دليل على أنها ظاهرة طبيعية؟ الجواب:- نقول: لقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة في عدة أحاديث مخرجة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة وذلك (أولاً) أنه خرج فزعاً يجر رداءه يخشى أن تكون الساعة (ثانياً) بين أنه آية من آيات الله (وثالثاً) أنه ذكر أن الله يخوف بهما عباده، ولا شك أن هذا التغير الحادث في هذه الجرم العظيمة هو من أكبر آيات الله الكونية التي يشاهدها العالم في وقتها، وأنه عبرة وموعظة وذكرى للمؤمنين، ولا يقلل من شأنه معرفة أسبابه من اجتماع النيرين في آخر الشهر أو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر في وسط الشهر فإن هذا من آيات الله الذي قدر سيرهما بانتظام وقدر اجتماعهما في هذا الوقت وأحدث به هذا الحدث الكبير ونحو ذلك، فالواجب أن المسلمين يخافون العذاب أو الضرر أو حدوث حادث كبير ويتذكرون قول الله تعالى: ((وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً)) (الإسراء:59) . وقوله تعالى: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)) (فصلت:53) . وإذا رأوا آيات الله في الآفاق عرفوا قدرة من خلقها وسيّرها فعبدوه وحده، وخافوه دون غيره، واستحضروا عظمته وجلاله وكبرياءه فهابوه وأشفقوا من حلول سخطه ونزول عذابه عند معصيته أو التقصير في طاعته، ولم يتقبلوا قول مَن يهون مِن شأن هذه الآيات والمخلوقات ويدعى أنها عادات طبيعية؛ فإن الله -تعالى- هو الذي سخر الشمس والقمر وقدر سيرهما، وقدر اجتماعهما في أول الشهر وتباعدهما في وسط الشهر، وجعل القمر نوراً يكتسب من ضوء الشمس، وقدر هذا الليل والنهار لمصالح العباد وهو العزيز الحكيم.

السؤال:- هل الكسوف والخسوف مؤقتان بوقت من الشهر بحيث يستدل بالكسوف على نهاية الشهر وبالخسوف على انتصاف الشهر؟ الجواب:- نعتقد أن ربنا -تعالى- على كل شيء قدير ويدخل في عموم القدرة حدوث الكسوف أو الخسوف في أي وقت وزمن لكن جرت سنة الله في هذا الكون أن الكسوف يكون في آخر الشهر، وأن سببه حيلولة القمر دون ضوء الشمس، أو بعضه فتظلم الأرض ويضعف ضوء الشمس؛ ولا شك أن ذلك من آيات الله ومن الدليل على أنه جعل هذه الشمس مضيئة وقدر على أن يغير ضوء الشمس أو يضعفه؛ فيتذكر العباد قدرة الرب وعظمته وكمال تصرفه فيخافونه أشد الخوف ويهرعون إليه، وهكذا جرت العادة في خسوف القمر أنه يكون في وسط الشهر بسبب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس فيظلم القمر وينطمس نوره حيث إنه يكتسبه من الشمس، ومع ذلك فهو دليل على قدرة الرب وكمال تصرفه سبحانه وتعالى.

السؤال:- تعددت الروايات في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الكسوف مع أن الشمس كسفت مرة واحدة في حياته صلى الله عليه وسلم فكيف ذلك؟ الجواب:- غالب الروايات على أنه صلاها ركعتين؛ في كل ركعة ركوعان وسجدتان، هكذا في صحيح مسلم (صحيح مسلم:3/28) وغيره عن عائشة وأختها أسماء وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن سمرة. وروى مسلم (صحيح مسلم:3/29) وغيره أنه صلاها ركعتين؛ في كل ركعة ثلاثة ركوعات وسجدتان كما في حديث ابن عباس وعائشة وجابر وروى مسلم (صحيح مسلم:3/34) . عن ابن عباس أنه صلاها ركعتين، في كل ركعة أربع ركعات وسجدتان، وروى علي مثل ذلك، وروى أبو داود (سنن أبي داود، ومعه كتاب معالم السنن للخطابي: 1/699) أنه صلاها عشرة ركوعات وأربع سجدات مع أن أسانيدها صحيحة ثابتة معتمدة في كثير من الأبواب والأحكام. وقد ذهب بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى تخطئة الروايات التي فيها الزيادة على ركوعين حيث انفرد بها مسلم عن البخاري، وعلل بأن الكسوف لم يقع إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ومعلوم أنه لم يمت موتتين، ولا كان هناك إبراهيمان، لكن نقول: إن تخطئة هؤلاء الرواة الثقات فتحٌ لباب الطعن في حديثهم، وردٌّ لكثير من الأحاديث التي تخالف المذاهب والآراء بحجة أنها خطأ وأن الراوي قد أخطأ في كذا وكذا مع أن هؤلاء الرواة محتج برواياتهم في الصحيحين، معتمدون في الكثير من الأحاديث التي تفردوا بها، فالأقرب أن يُحمل هذا الاختلاف على تعدد وقوع الكسوف والخسوف؛ فإن المعتاد وقوعهما في كل سنة مرة أو مراراً ومن المستبعد أن لا يقع الكسوف والخسوف في زمن النبوة عشر سنين سوى مرة واحدة، ويحمل ذكر إبراهيم في الروايات الأخرى على أنه سبق فهم أو خطأ من الراوي؛ فتخطئة أحدهم في كلمة أولى من رد عدة أحاديث، وعلى هذا فيجوز للإمام أن يصلي

ثلاثة ركوعات أو أكثر في كل ركعة إذا علم أن مدة الكسوف سوف تطول، ويمكنه أن يطيل الصلاة ويكثر الركعات قبل التجلي أو رآه أخف على المأمومين من إطالة القيام وتقليل الركعات، والله أعلم.

السؤال:- ما صفة صلاة الكسوف والخسوف؟ وهل القراءة فيهما بالنسبة للإمام سرية أو جهرية؟ الجواب:- هي كسائر الصلاة لا تصح إلا بطهارة كاملة، وبشروط الصلاة: من الإسلام، وإزالة النجاسة، وستر العورة، واستقبال القبلة؛ ولا بد فيها من التكبير والاستفتاح وسائر أعمال الصلاة، وفيها قراءة طويلة في القيام فيبدأ بقراءة الفاتحة جهراً ولو كان الكسوف نهاراً، ثم يفتتح سورة طويلة كالبقرة أو نحوها، ثم يركع ويطيل الركوع، ثم يرفع ويعيد القراءة للفاتحة ثم سورة أخرى أقصر من الأولى، ثم يركع ويطيل الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم يرفع ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد إلى آخره، ثم يسجد سجدتين بينهما جلسة يطيلهما، ثم يقوم فيقرأ الفاتحة وسورة أقصر من التي قبلها، ثم يركع دون الركوع الثاني في الركعة الأولى، ثم يرفع ويطيل القيام والقراءة بسورة دون السورة التي قبلها، ثم يركع دون الركوع الثالث، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين بينهما جلسة يطيلهما دون السجدتين في الركعة الأولى؛ فيكمل أربعة ركوعات وأربع سجدات، وإن أراد تكرار الركوع أكثر من ركوعين فله ذلك كما تقدم.

السؤال:- هل تصليها النساء في المساجد أو في البيوت؟ الجواب:- ذكرت عائشة وأسماء وغيرهما أن النساء صلين في الكسوف مع النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أسماء: فدخلت على عائشة وهي تصلي فقلت: ما شأن الناس يصلون؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقلت: آية؟ قالت: نعم، فأطال رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام جداً حتى تجلاّني الغَشْي فأخذت قربة من ماء إلى جنبي فجعلت أصب على رأسي أو على وجهي، وفي رواية: فجعلت أنظر إلى المرأة أسن مني وإلى الأخرى هي أسقم مني، وفي لفظ: ثم التفت إلى المرأة الضعيفة فأقول: هذه أضعف مني. رواه مسلم (صحيح مسلم:3/32-33) وغيره، فدل على أن هناك نساء صلين في المسجد، ولكن إذا خشيت الفتنة أو كانت المرأة شابة يخاف أن تفتن الرجال أو متطيبة فلا يجوز لها حضور المسجد بل تصلي في بيتها سيما إذا كان هناك مجموعة من النساء وفيهن من تقرأ وتعرف الأحكام فتصلي بهن جماعة أو تعلمهن يصلين فرادى، والله أعلم.

السؤال:- هل لصلاة الكسوف والخسوف خطبة؟ الجواب:- وقع في حديث عائشة عند مسلم (صحيح مسلم:3/27) وغيره: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر من آيات الله، وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فكبروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا يا أمة محمد إنْ مِنْ أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ألا هل بلغت" وفي رواية: وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة" وقال أيضاً: "فصلوا حتى يفرج الله عنكم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سيب السوائب" وفي رواية: "إني قد رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال"، وفي حديث جابر في صحيح مسلم (صحيح مسلم:3/30) وغيره ثم قال: "إنه عرض عليّ كل شيء تولجونه؛ فعرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفاً لأخذته" أو قال: "تناولت منها قطفاً فقصرت يدي عنه؛ وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار، وإنهم كانوا يقولون إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما، فإذا خسفا فصلوا حتى تنجلي" وفي رواية عنه قال: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه؛ لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من

لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار؛ كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به، ورأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً، ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه" وفي حديث أسماء بنت أبي بكر في الصحيحين (صحيح مسلم:3/32، وصحيح البخاري:2/46) قالت: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، ما من شيء لم أكن رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، وأنه قد أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة المسيح الدجال؛ فيؤتي أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وأطعنا، فيقال له: نَمْ، قد كنا نعلم أنك لتؤمن به فَنَمْ صالحاً؛ وأما المنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت". ونحو ذلك من التعليمات التي ذكرت في هذه الأحاديث وفيها أنه خطب وأنه حمد الله وأثنى عليه وأنه أفادهم بهذه الفوائد نقل هذا بعضها وهذا بعضها، وقد استدل به على أن المصلي بالجماعة يخطبهم بما يفيدهم، وقيل: إنه لا يخطب وإنما يذكرهم ويعلمهم أحكام الكسوف وما حصل فيه، ويذكر بعض ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من هذه التعليمات وإن لم يصعد منبراً وإن لم يقف أمام المصلين كما في خطبة العيدين؛ فيحصل بذلك الإفادة والتعليم والتحذير من المعاصي ونحوها.

السؤال:- هل يسن قراءة سورة معينة فيها (صلاة الكسوف والخسوف) ؟ الجواب:- لا أذكر في حديث صحيح تعيين سورة ورد ذكرها في هذه الصلاة، ومع كثرة من رواها من الصحابة لم يصرح أحد منهم بأنه قرأ سورة كذا وكذا، وقد ورد في حديث عائشة عند مسلم (صحيح مسلم:3/28) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف بقراءته، وفي حديث ابن عباس في صحيح مسلم وغيره فقام قياماً طويلاً قدر نحو سورة البقرة … إلخ. ولعله صلى الله عليه وسلم قرأ عدة سور في هذه الصلاة فلم يحتج الناقل أن يذكر شيئاً منها واكتفوا بقولهم فقام قياماً طويلاً، وفي الثاني وهو دون القيام الأول دون أن يحتاج إلى ذكر السورة أو السور التي قرأ بها، فعلى هذا إذا قرأ في الأولى سورة البقرة قرأ في القيام سورة آل عمران فإنها دون البقرة، ثم في القيام الثاني سورة الأنعام، وفي الرابع سورة يونس أو نحو ذلك.

السؤال:- إذا أدرك المصلي ركوعاً من ركعة فهل أدرك الركعة؟ الجواب:- معلوم أن الركوع ركن في كل صلاة، وحيث إن صلاة الكسوف يكرر فيها الركوع فالصحيح أن الركن هو الركوع الأول فما بعده يكون عبادة مضافة مؤكدة للأول، وعلى هذا فمن فاته الركوع الأول من الركعة الأولى قضى ركعة كاملة بركوعيها أو بركوعاتها إن زادت على اثنين، ومن فاته الركوع الأول من الركعة الثانية قضى الصلاة كلها ولا يعتد بما أدركه بعد الركوع الأول ولو كان قياماً وركوعاً وسجوداً حيث فاته الركن الموجود في كل الصلوات، والله أعلم.

السؤال:- إذا زال الكسوف أو الخسوف وهو يصلي فماذا يفعل؟ الجواب:- لما كان الموجب للصلاة هو الخسوف فإذا زال السبب فلا بأس بإنهاء الصلاة؛ فله أن يخفف الأركان والصلاة وينهي ما بقي منها ثم يسلم ولا يقصر من الأركان؛ فإذا تجلت الشمس وهو في الركوع الأول من الركعة الثانية أتمه خفيفاً وأتم القيام الثاني والركوع الثاني والسجدتين وخفّفهما ومسلم، وهكذا.

السؤال:- إذا انتهت الصلاة ومازال الكسوف أو الخسوف فما الحكم؟ الجواب:- لا يشرع تكرار الصلاة فيما أعلم، ولم أطلع على رواية فيها أنه أعاد الصلاة بعد ما سلم من الأول؛ وإنما في الروايات أنه أطال القراءة والركوع والأركان وانصرف وقد تجلت الشمس، ولعله صلى الله عليه وسلم عرف بالوحي وقت التجلي فمدّ الصلاة بقدر الكسوف؛ وعلى هذا فإن كان الكسوف قد عم الشمس أو القمر فإنه سوف يطول زمانه فيشرع أن يطيل في الأركان بقدر مدة الكسوف، وإن كان الكسوف يسيراً خفف حتى ينصرف وقت التجلي، وإن كرر الصلاة مرتين فلا بأس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتموهما فكبروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا" (صحيح مسلم:3/27) وفي رواية: "فصلوا حتى يفرج الله عنكم" (صحيح مسلم:3/28) . وفي لفظ: "فاذكروا الله حتى ينجليا" رواه مسلم (صحيح مسلم:3/29) عن عائشة، وله في حديث: "فصلوا حتى تنجلي" (صحيح مسلم:3/31) . فيدخل في ذلك إطالة الصلاة وتكرارها.

السؤال:- إذا حدث الكسوف في وقت نهي فهل تقام الصلاة؟ الجواب:- نعم لأن الكسوف من أسباب إقامة الصلاة وفعلها؛ فإذا كسفت الشمس بعد العصر فإنهم يصلون حتى تنجلي أو تغرب عنهم، وإذا خسف القمر بعد الفجر فقيل إنهم يصلون ما لم تطلع الشمس وذلك لأنهم لا يزالون في حكم الليل، وقيل لا صلاة حيث إنه ذهب وقت الانتفاع به، أما إذا خسف بعد طلوع الشمس فلا صلاة مع أن ذلك لا يتصور عادة لما تقدم من أسباب الكسوف والخسوف.

السؤال:- من فاتته صلاة الكسوف أو الخسوف فهل يقضيها بمفرده؟ الجواب:- لا مانع من أن يصلي ما تيسر له إن كان الكسوف باقياً؛ فيصلي منفرداً بقدر ما يشغل به بقية الوقت قبل التجلي، فإن تجلى الكسوف قبل أن يصلي فات وقته، وإن تجلى وهو في الصلاة خفف ما بقي وانصرف، وإن اقتصر على الذكر والاستغفار والقراءة كفاه ذلك كما لو انصرف المصلون قبل التجلي واشتغلوا بذكر الله ودعائه وتلاوة كتابه، والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، كتبه عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين؛ عضو الإفتاء

الثمرات الجنية

الثمرات الجنية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رفع منزلة أهل العلم، فقال: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)) (المجادلة:11) . والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الكرام، حُماة السنة المقتدين، ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. وبعد، فمما لا شك فيه ولا ريب أن أعظم وأفضل وأجل العلوم بعد القرآن الكريم علم السنة النبوية و "شرف العلوم يتفاوت بشرف مدلولها، وقدرها يعظم بعظم محصولها، ولا خلاف عند ذوي البصائر أن أجلها ما كانت الفائدة فيه أعم، والنفع فيه أتم، والسعادة باقتنائه أدوم، والإنسان بتحصيله ألزم، كعلم الشريعة الذي هو طريق السعداء إلى دار البقاء، ما سلكه أحد إلا اهتدى، ولا استمسك به من خاب، ولا تجنبه من رشد، فما أمنع جناب من احتمى بحماه، وأرغد مآب من ازدان بحُلاه" (جامع الأصول لابن الأثير 1/36) .

وإذا علمنا أن علم الحديث من العلوم الشرعية التي أمرنا بتعلمها وتعليمها "وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه، ولذلك يسر الله سبحانه وتعالى أولئك العلماء الأفاضل، والثقات الأماثل، والأعلام المشاهير، الذين حفظوا قوانينه، واحتاطوا فيه، فتناقلوه كابراً عن كابر، وأوصله كما سمعه أول إلى آخر، وحببه الله إليهم لحكمة حفظ دينه، وحراسة شريعته، فمازال هذا العلم من عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه والإسلام غض طري، والدين محكم الأساس قوي، أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعدهم وتابعي التابعين، خلفاً بعد سلف لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله عز وجل، إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما يسمع من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه، وانقطعت الهمم على تعلمه، حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ذوات العدد، ويقطع الفيافي والمفاوز الخطيرة، ويجوب البلاد شرقاً وغرباً في طلب حديث واحد ليسمعه من روايه…" (جامع الأصول لابن الأثير 1/39-40) . وقد اعتنى أهل العلم في القديم والحديث بحفظ الأحاديث وروايتها، والعمل بها، وتدوينها في كتب أطلق عليها، سنن، ومسانيد، وصحاح، ومعاجم، وجوامع، ومشيخات، وأجزاء، وأمالي، ونحو ذلك. واهتموا كذلك بالرواة ومروياتهم من حيث القبول والرد، وقعدوا قواعد لنقد الرواة والروايات، وألفوا في علوم الحديث كالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأسباب ورود الحديث، والتصحيف والتحريف، والمؤتلف والمختلف، والمتفق، والمتفرق إلى غير ذلك من مباحث هذا العلم. 1- ويعتبر الإمام القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خالد الرّامَهُرْمُزي (360هـ) أول من ألف في علوم الحديث في كتابه "المُحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ولم يستوعب كل الأنواع.

2- ثم تلاه الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع النيسابوري (405هـ) فألف "علوم الحديث" لكنه لم يهذب الأبحاث ولم يرتبها. 3- ثم جاء الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430هـ) فعمل على كتاب الحاكم مستخرجاً، وترك أشياء لم يذكرها فتداركها من جاء بعده من الأئمة. 4- ثم صنف الحافظ الحجة أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (463هـ) كتاباً في قواعد الرواية سمّاه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع". بل وقل فن من فنون الحديث النبوي إلا وألف فيه كتاباً حتى قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه". 5- وألف القاضي عياض بن موسى اليحصبي (544هـ) كتابه: "الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع" وهو كتاب فريد، مفيد جداً في بابه، واقتصر فيه على كيفية التحمل والآداء وما يتفرع عنها. 6- وألف الإمام أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانجي (580هـ) جزءاً مختصراً بعنوان "ما لا يسع المحدث جهله". 7- ثم جاء الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (643هـ) فألف كتابه المشهور "علوم الحديث" والذي عُرف بـ "مقدمة ابن الصلاح". وقد اعتنى بكتب من سبقه من الأئمة خصوصاً الخطيب البغدادي، وكان يُملي على طلبته ما جمعه وهذبه، فجاء كتابه حافلاً مفيداً، لكن لم يرتبه ترتيباً مناسباً، ومع ذلك فيعتبر كتابه بحق عمدة لمن جاء بعده من العلماء ولذا اعتنى به الكثير ما بين شارح له أو ناظم أو مختصر أو مستدرك، فمن ذلك: ألفية الحديث للحافظ العراقي، وقد شرحها بنفسه، وشرحها الحافظ السخاوي بشرح مطول أسماه: "فتح المغيث". - واختصر المقدمة، الإمام النووي بكتابه: "التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير" وشرح التقريب الإمام السيوطي شرحاً وافياً في كتابه: "تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي".

- وممن اختصر المقدمة الحافظ ابن كثير في كتابه "اختصار علوم الحديث" وقد شرحه العلامة أحمد شاكر في كتابه: "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث". ومن المختصرين أيضاً القاضي بدر الدين ابن جماعة في كتابه "المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي". وكذلك البلقيني في كتابه: "محاسن الاصطلاح في تضمين كتاب ابن الصلاح"، والعراقي في كتابه "التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح". وأيضاً الإمام ابن الملقن في كتابه المقنع، وكذلك ابن حجر في كتابه: النكت، والطيبي في كتابه الخلاصة في أصول الحديث، وغير ذلك من المؤلفات التي تدل على أهمية كتاب ابن الصلاح. وتوالت بعد ذلك المؤلفات في علم مصطلح الحديث عموماً إما بالنظم أو النثر، ومن أفضل وأدق كتاب في هذا الباب: كتاب الحافظ ابن حجر: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، وشرحه "نزهة النظر" هذا الكتاب يعتبر من المختصرات المحررة: وإذا كانت مقدمة ابن الصلاح قد اعتنى بها الكثير، فإن النخبة ذاع صيتها وتلقفها طلاب العلم، واهتم بها العلماء أكثر من غيرها وكثرت شروحات الأئمة، وكثر النظم لها (انظر مقدمة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة لكتاب قفو الأثر في صفو علوم الأثر لابن الحنبلي ص24 فقد ذكر جملة من شروحات ونظم العلماء للنزهة) . وممن نظم في علم المصطلح الشيخ طه بن محمد ابن فتوح البيقوني كان حياً قبل 1080هـ وهو نظم مشهور بديع امتاز بسلاسة الألفاظ وسهولة العبارة، إلا أنها مختصرة جداً اقتصر في نظمه على ذكر بعض مصطلحات الفن، ولو كانت شاملة لكفت الراغب في هذا العلم، وقد انتقد النظم في بعض المواضع، وقام بشرح البيقونية بعض أهل العلم من ذلك: 1- شرح العلامة عبد القادر بن جلال الدين المحلى كان حياً 1065هـ المسمى: "فتح القادر المعين بشرح منظومة البيقوني في علم الحديث" وتوجد نسخة خطية محفوظة في جامعة الملك سعود برقم 342.

2- "تلقيح الفكر بشرح منظومة الأثر" تصنيف العلامة أحمد بن محمد الحسيني الحمودي الحنفي 1098هـ وتوجد نسخة خطية في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم 598. 3- "شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية في المصطلح" تصنيف العلامة محمد الزرقاني المالكي 1122هـ وشرحه مطبوع. 4- "صفوة الملح بشرح منظوم البيقوني في فن المصطلح" تصنيف العلامة شمس الدين محمد بن محمد البديري الدمياطي المشهور -بابن الميت- 1140هـ. وتوجد نسخة خطية في دار الكتب المصرية برقم 23264ب، وأخرى برقم 25882ب، ونسخة ثالثة في المكتبات الوقفية بحلب وعنها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم 7692ب. 5- "حواشي على المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى الأهدل 1250هـ. وتوجد نسخة في جامعة الملك سعود برقم 598 وأخرى برقم 1404م (ص293-300) . وثالثة برقم 1351. 6- "الدرة البهية في شرح المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة محمد بدر الدين بن يوسف المدني الدمشقي 1354هـ وتوجد نسخة في الخزانة العامة بالرباط، وعنها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم 6439ف. 7- "النخبة النبهانية شرح المنظومة البيقونية". تصنيف الشيخ محمد بن خليفة بن حمد النبهاني 1369هـ وهي مطبوعة. 8- "التقريرات السنية شرح المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة حسن بن محمد المشاط المكي 1399هـ وقد طُبع مراراً. 9- "شرح البيقونية في مصطلح الحديث". تصنيف العلامة محمد بن صالح بن عثيمين. وهو شرح لطيف مفيد للغاية، وقد طبع.

01- وهناك شروح كثيرة على البيقونية غير ما ذكرناه، ولعل من أفضل شروحات هذه المنظومة شرح شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن ابن جبرين حفظه الله تعالى -وهو هذا الشرح- ولقد امتاز شرح شيخنا بسهولته ووضوحه، وكثرة الأمثلة، والتعقبات المفيدة، وعدم التقيد بالمباحث التي اقتصر عليها الناظم، فنجد في هذا الشرح الماتع ذكر بعض أنواع مصطلح الحديث التي لم يرد ذكرها في النظم، على أن شيخنا -دعاه الله- لم يرد التوسع ولو فعل لكان هذا الشرح في مجلد كبير. وهذا الشرح عبارة عن درس ألقاه الشيخ لبعض الطلاب المبتدئين، وسُجل على أشرطة وقام بنقله أحد الإخوة الفضلاء -جزاه الله خيراً- ومن ثم عُرض على الشيخ وقام بمراجعته وتصحيحه وتعديله، وقد وفقني الله تعالى للعناية بهذا الشرح وخدمته، فلله الحمد والمنة، وقمت بتعليق بعض الفوائد الضرورية المهمة، ووضعت عناوين للرسالة إتماماً للفائدة، ونسأل الله العلي القدير أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً متقبلاً، ونستغفره ونتوب إليه من جميع الذنوب والحمد لله رب العالمين. وكتب أبو أكثم سعد بن عبد الله سعد السعدان 13/10/1416هـ ص ب: 86662 الرياض: 11632 متن المنظومة البيقونية أَبدَأُ بِالْحَمْدِ مُصَلِّياً عـ ـ ــــَلَى ... ... ... مُحَمَّدٍ خَيرِ نبيٍ أُرْسِلاَ وذِي مِنْ أَقْسَامِ الحَدِيثِ عِدَّة ... ... ... وكلُّ واحَدٍ أتى وحَدّهْ أَوَّلُها الصَّحيحُ وهْوَ ما اتَّصلْ ... ... ... إِسْنَادُه وَلَم يُشَذَّ أَوْ يُعَلّ يرْوِيهِ عَدْلٌ ضَابطٌ عَنْ مِثلهِ ... ... ... مُعْتمَدٌ في ضَبْطِهِ وَنقْلِهِ والحَسَنُ المعْرُوفُ طُرْقاً وغدتْ ... ... ... رجَالهُ لا كالصّحيح اشتهرتْ

وكلُّ ما عَن رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصُر ... ... ... فهو الضّعِيفُ وهْوَ أَقْسَاماً كُثرْ وَمَا أُضِيفَ لِلنَّبيِ المرْفوعُ ... ... ... وَمَا لِتابعٍ هوَ المقطوعُ وَالمُسْنَدُ المتَّصلُ الإِسنادِ مِن ... ... ... رَاويهِ حَتى المُصْطفى وَلَمْ يَبنْ وَمَا بِسَمْع كلِّ رَاوٍ يتَّصِل ... ... ... إسنادُه لِلمصطفى فالمتَّصِلْ مُسَلسلٌ قلْ ما عَلى وَصفٍ أَتى ... ... ... مِثْلُ أَمَا وَاللهِ أَنبانِي الفَتى كَذَاكَ قَد حَدَّثنيهِ قَائِماً ... ... ... أَوْ بَعْدَ أَنْ حدَّثني تبسَّما عَزيزُ مَروي اثنين أَوْ ثلاثهْ ... ... ... مشهورُ مَرْوي فوقَ ما ثلاثهْ مُعنَعنٌ كَعنْ سعيدٍ عن كَرَم ... ... ... وَمُبْهَمٌ مَا فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسم وكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُه عَلا ... ... ... وَضِدُّهُ ذَاكَ الذِي قدْ نَزَلا وَمَأ أَضفتَهُ إلى الأَصْحاَبِ مِنْ ... ... ... قَوْلٍ وَفِعلٍ فَهْوَ موقوفٌ زُكِن وَمُرْسلٌ مِنهْ الصّحَابيُّ سَقَطْ ... ... ... وقلْ غريبٌ ما روَى راوٍ فقط ْوَكُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَال ... ... ... إِسْنَادُهُ مُنقطِعُ الأَوْصَالِ وَالمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْهُ اثنَانِ ... ... ... وَما أَتى مُدَلَّساً نوعانِ الأَوَّلُ الإِسْقَاطُ للشيخِ وأَنْ ... ... ... يَنقُلَ عمَّنْ فوْقَهُ بعَن وأَنْ والثّانِ لا يُسقطهُ لكن يَصِفْ ... ... ... أوْصَافهُ بِما بِه لا يَنْعَرِف ومَا يُخالِفُ ثقةٌ فِيهِ الملا ... ... ... فالشْاذُّ والمقلوبُ قِسمانِ تَلا

إبدالُ رَاوٍ مّا بِرَاوٍ قِسْمُ ... ... ... وقَلْبُ إِسْنَادٍ لِمتنٍ قِسْمُ وَالفَرْدُ ما قيّدْتَهُ بِثَقَةٍ ... ... ... أَوْ جمْعٍ أَوْ قْصرٍ على رِوَاية وَما بِعٍلةٍ غُموضٍ أَوْ خفَا ... ... ... مَعَلَّلٌ عِندَهُمُ قَدْ عُرِفَا وَذُو اخْتِلافِ سندٍ أَوْ مَتنِ ... ... ... مُضطَرِبٌ عِنْدَ أُهيلِ الفَنِّ وِالمُدرَجاتُ في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلتْ وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أَخِهْ ... ... ... مُدبَّجٌ فاعرِفهُ حَقاً وانتَخِهُ مُتَّفِقٌ لفْظاً وَخَطَّا مُتفِقْ ... ... ... وضدُّهُ مختِلفٌ فاخْشَ الغلَطْ والمنكرُ الفرْدٌ به راوٍ غدا ... ... ... تعْدِيلُهُ لا يحمِلُ التُّفرُّدَا متروكُهُ ما واحدٌ به انفرَدْ ... ... ... وأَجمَعُوا لضِعفهِ فهوَ كَرَدْ والكذِبُ المُخْتَلقُ المصنُوعٌ ... ... ... عَلَى النبيِ فذلِكَ الموْضوعُ وقدْ أَتتْ كالجَوْهَرِ المكْونِ ... ... ... سمّيتٌها مَنظُومَةَ البَيْقوني فوقَ الثلاثينَ بأَربَعٍ أَتت ... ... ... أَبياتُها ثمَّ بخَير خُتِمَتْ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاَّ على الظالمين، وأَشهدُ أَن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصبحه والتابعين. وبعد: فهذه منظومة في مصطلح الحديث، اقتصرَ فيها الناظم على مجرد التعريف، واختصر كثيراً من التعاريف، واقتصر على المهم من اصطلاحات المحدِّثين، ولم يتوسَّع في ذكر كل المصطلحات، وإِنَّما ذكرَ البعض دون الكل.

وقد كنتُ شرحت المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث قبل نحو عشرين عاماً لبعض الطلاَّب المبتدئين، وتوسعت في شرح الأبيات، وأكثرت من ذكر الأمثلة، حيث إنها اصطلاحات عرفية لا تظهر من السياق ولا من الأَصل اللغوي، ثم إن بعض التلاميذ سجلها وأفرغت وعرضت عليَّ فقمت بتصحيحها وإدخال بعض التعديلات عليها وأذنت بطبعها، حيث لم يشتهر شيء من الشروح المبسطة على هذه المنظومة إلاَّ أَن يكون بعيداً لم أطلع عليه. فهذا الشرح صدرَ ارتجالاً بناء على المفهوم المعروف من الفن في كتب المصطلح، فللقارئ غُنْمه، وعلى الكاتب غُرْمه، وهو جهد المقل، وقدرة المفلس. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. قاله: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء 5/10/1415. قال الناظم: أبدأ بِالْحَمْدِ مُصَلَّياً عَلَى ... ... ... مُحَمَّدٍ خَيرِ نبي أُرْسِلاَ معنى الحمد: بَدأ بالحمد اقتداء بالكتاب العزيز، كتاب الله، حيث بُدِئ بالحمد؛ لأَن الله هو المستحقّ للحمد وحده (والحمد) : ذكرُ محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، هذا تعريفٌ لبعض العلماء، وبعضهم قال: (الحمد) فعلٌ يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً على الحامد وغيره، والله تعالى هو المستحق للحمد، ويُحْمَدُ على صفاته، فتَحمدُه لأنه الواحد الأحد؛ ولأنه متصف بصفات الكمال ونحوها، وتحمده على تصرفاته، وتحمده لأنه الذي سخَّر الشمس والقمر، وسخر لنا النجوم مسخرات، وخلق وقدر، وأنه الذي يحيي ويميت ويفعل ما يشاء، وتحمده على عطائه وفضله؛ لأنه الذي أعطى وتفضل، وأغنى الإنسان، وأتم عليه نعمته، وآتاه من كل ما سأل، وخلقه في أحسن تقويم، وما أشبه ذلك، فيحمد على كل حال كما يحمد على ما قدره وما قضاه، حتى يحمده على المصائب والآفات والعاهات التي تصيب الإنسان؛ لأن الله ما أوقعها وأحدثها إلا لمصلحة كالتفكر والاختبار والعبرة.

معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: قوله: (مصلياً يعني: حالَ كوني مصلِّياً على النبي، والصلاة من الله ثناؤه علىعبده في الملأ الأعلى، وقيل: الرحمة، والصلاة من الملائكة الاستغفار، والصلاة من الآدميين الدعاء. وأصل الصلاة لغة: الدعاء قال تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) (التوبة:103) ، يعني: دعاءك، والمعنى في قوله: (صلوا عليه وسلموا) (الأحزاب:56) ، يعني: ادعوا الله له على ما بذل لكم من النصح والتوجيه، والإرشاد. الفرق بين النبي والرسول: ووصَفَه بقوله: (خير نبيٍ أُرسلا) ليجمع بين كونه نبياً ومرسلاً، فإنه ليس كل نبي رسولاً. والنبي مشتق من النبأ وهو الخبر؛ لأنه جاء بخبر من الله، أو من النبوة وهي الارتفاع؛ لأن الله رفع قدره، قال تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) (الانشراح:4) . والرسول هو: الذي يحمل الرسالة من قومٍ إلى قوم. والفرق بين النبي والرسول: أن النبي من كلف ولم يؤمر بالتبليغ، والرسول من كلف وأمر بالتبليغ، يعني كٌلف بالتبليغت وألزم به، ودعا قومه ونجا من أطاعه، وهلك من عصاه، هذا هو الرسول. قوله: (وذي من أقسام الحديث عِدَّه) يعني بأقسام الحديث مصطلحات المحدِّثين، وإلا فالحديث قسمان: صحيح، وضعيف، ولكن البقية مصطلحات (وكلُّ واحدٍ أتى وحده) يعني: كل قسم، أو كل نوع أتى، وأتى بعده حده، يعني تعريفه. فذكر الصحيح وتعريفه، وذكر الحسن وتعريفه إلى آخره، وبدأ بالصحيح. أوَّلٌها الصحٍحٌ وَهُوَ ما اتَّصَلَ ... ... ... إِسْنَادُه وَلَم يُشَذَّ أَوْ يُعلّ الحديث الصحيح: قوله: (أولها الصحيحُ وهو ما اتّصل ... إسناده) . الصحيح: مشتق من الصحة، وهي ضد البطلان، والصحيح بمعنى الثابت، صح الشيء يعني: ثبت وتحقق، وصح الحديث، يعني: ثبت نقله واعتمد ووثق به. تعريفه:

والحديث الصحيح هو: ما رواه عدلٌ ضابطٌ مُعتَمدٌ في ضَبْطِه ونَقْلِه، واتّصلَ إسناده دون أن يكون فيه انقطاع، وسلم من العلة والشذوذ. شروط الحديث الصحيح: فشروطه: أولاً: اتصال السند. ثانياً: عدالة الراوي. ثالثاً: تمام ضبط الراوي. رابعاً: السلامة من العلة. خامساً: السلامة من الشذوذ. أي لابد للحديث الصحيح من هذه الضوابط. تعريف السند: والسند هو: رجال الحديث، أي: سلسلة الرجال الموصلة للمتن، ومعنى اتصال السند: كون هذا يرويه عن هذا وقد لقيه، وهذا يرويه عن هذا وقد لقيه، وهذا يرويه عن هذا وقد لقيه، إلى أن يأتي إلى الصحابي الذي سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم. محترزات الحديث الصحيح: قوله: (ما اتصل إسناده) يَخرج ماذا؟ يخرج الانقطاع، وسيأتينا أمثلة للانقطاع. والمنقطع: (منه) ما سقط من أوله واحد أو أكثر، ويسمى معلقاً. (ومنه) ما سقط من آخر الإسناد، ويسمى مرسلاً. (ومنه) ما سقط من وسطه اثنان متواليان، ويسمى معضلاً. (ومنه) ما سقط من وسطه واحد ويسمى منقطعاً، أو سقط من وسطه اثنان غير متواليين، ويسمى أيضاً منقطعاً.

يعني: مثلاً الراوي الأول سمعه من شيخ أسقطه، ورواه عن شيخ شيخه، وهو لم يلقه أو لم يسمعه منه فأصبح بينه وبينه فجوة، فيقال هذا الإسناد منقطع، أي: كيف يرويه هذا عن هذا وهو ما لقيه، فلابد أن يرويه واحد عن واحد قد لقيه، والثاني عن ثالث قد لقيه، والثالث عن رابع قد لقيه، إلى أن يتصل بالصحابي. فمثلاً إذا قال الإمام مسلم: حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا إسماعيل بن جعفر، حدّثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. تحققنا أن مسلماً قد روى عن قتيبة، وهو أحد مشايخه الذين أدركهم، وتحققنا أن قتيبة روى عن إسماعيل، وأن إسماعيل أدرك ابن دينار، وأخذ عنه، وأن ابن دينار أدرك ابن عمر وروى عنه، فالإسناد هنا متصل لذلك نقول: قد اتصل الإسناد، وهكذا إذا قال: حدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث قال حدثني أبي شعيب قال حدثني جدي الليث بن سعد (الإمام المشهور، قال: حدثنا بكير بن الأشج، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، تحققنا أن عبد الملك قد روى عن أبيه شعيب، وأن شعيباً أدرك أباه الليث، وأن الليث روى عن بكير، وأن بكيراً روى عن سهيل، إلى آخر ذلك، فنقول: هذا إسناد متصل. لكن لو رواه عبد الملك بن شعيب عن جده الليث وهو ما أدركه أصبح منقطعا ولو رواه عبد الملك عن بكير بن الأشج وأسقط أباه وجَده فهذا نسميه معضلاً، حيث سقط فيه اثنان متواليان، وهكذا، ومثل هذا يكون ضعيفاً لا يُعمل به حتى يأتي من طريق أخرى متصلاً. الحديث الشاذ: ثم قال: (ولم يشذَ أو يعل) .

(الشذوذ) مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه أو أكثر منه عدداً، فإنّ هذا يُعدُّ حديثاً شاذاً فلا يقبل، فإذا اتفق الرواة على رواية حديث، ثم رأينا واحداً منهم وكان ثقة قد خالف هذا الجمع الكثير، وأتى بزيادة كلمة انفراد بها، عرفنا أن هذا شاذ، ونقول: إنَّ هذه الزيادة شاذة، فلا تقبل لِعلة احتمال الخطأ، أو لانفراد واحد عن جمع، ومُثّل لذلك بحديث المغيرة في مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين. حيث رواه عن المغيرة نحو عشرين روايا كلهم قالوا: مسح على الخفين: وأنفرد واحد يُقال له: أبو قيس، عن هُزيل بن شرحبيل عن المغيرة فقال: مسح على الجوربين والنعلين. فنقول: هذه الرواية راويها عدل وإن كان أبو قيس فيه مقال، كما قال مسلم في التمييز صـ203. وإسنادها متصل، لكنها شاذة، والشذوذ ضعف، فلا يسمى هذا حديثاً صحيحاً، بل يسمى إسناده صحيحاً ولكنه شاذ، قد خالف فيه الثقة من هو أكثر منه وأوثق وأضبط، وأكثر ملازمة وما أشبه ذلك. الحديث المعلول:

وكذلك السلامة من العلة، والمعلول هو: ما فيه علة خفية قادحة، فقد يطلع أحد العلماء على خطأ من أحد الرواة، كأن يقلب الحديث، أو يرويه بالمعنى، أو يرفعه وهو موقوف، أو يصله وهو منقطع أو ما أشبه ذلك فيطلع النقاد من أهل الحديث على أن فيه علة، وأنها قد خفيت على أكثر المحدثين، لكون ظاهر الإسناد الصحة، ولكن بالتتبع وبمقابلته بالأحاديث الأخرى وجد أن فيه علة خفية قادحة، ويسمى هذا بالمعلول، وقد ألف فيه تآليف كثيرة، مثل كتاب (العلل) لابن أبي حاتم في مجلدين بلغت أحاديثه التي فيها علل ألفين وثمانمائة وأربعين حديثاً، رتبها على ترتيب أحاديث الأحكام من الطهارة إلى آخره، مقتصراً على الأحاديث التي فيها علل، ويعتمد غالباً في أخذ العلة على أبيه؛ لأنه كان من فرسان المحدثين، وعلى ابن عم أبيه وهو أبو زرعة الرازي، وكان من أهل العلم بالرجال، ومن أهل العلم بالعلل، وقد أكثر فيه من الأمثلة، وتوسع حتى أدخل أحاديث صحيحة علتها تكون بنسبة يسيرة. ومثله وأوسع منه (العلل) للدارقطني فإنه قد توسع حتى علل أحاديث موجودة في الصحيحين، أو في أحدهما! وكتابه أوسع من غيره، وقد طُبع منه عشرة أجزاء وفيها 2083 حديثاً. وبالجملة قلَّ أن يكون الإنسان راوياً للكثير إلا ويقع في شيء من الخطأ، فيعتبره بعض الناس حديثاً صحيحاً. وهو خطأ. يرْوِيهِ عَدْلُ ضَابطٌ عَنْ مِثلهِ ... ... ... مُعْتمَدٌ في ضَبْطِهِ ونقْلِهِ تعريف العدالة: قوله: (يرويه عدل ضابط عن مثله) العدل الضابط المراد به الراوي، ولابد في الراوي من وصفين: العدالة، والضبط. والعدالة ما هي؟ معلوم أنها تشترط العدالة في الشاهد مثلاً في المحاكم لقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم) (الطلاق:2) . فكذلك العدالة في رواي الحديث، أي: لابد فيه من اعتبار العدالة.

وقد تكلم الفقهاء في العدالة في الشهود، وذكروا ما يقدح في عدالة الشاهد، وما يخرجه من سمة العدالة، وقالوا: العدالة هي: أولاً: فعل الواجبات وترك المحرمات. ثانياً: المحافظة على الشِّيم والأَخلاق. ثالثاً: فعل المُروءات. والمروءة هي: أن يفعل كل ما يُجَمِّل ويُزين، ويترك ما يُدنس ويشين، فهذا هو العدل، وتفصيل ذلك طويل، وقد توسعوا فيه في كتب الفقه في كتاب الشهادات، وذكروا أمثلة مما يقدح في عدالة الشاهد، حتى أوصلها بعضهم إلى مائة قادح أو أكثر، حتى قدحوا في شهادة من يأكل في الأسواق، أو يمشي كاشفاً لبعض عورته كفخذيه، أو يمد رجليه في المجالس، أو يضطجع أمام الناس ولا يبالي؛ لأن ذلك يدل على سخافته ودناءته، وعلى نذالة خلقه، وكذلك قدحوا في شهادة من يجاهر بالمعصية ويعلن بها ونحو ذلك، فكذلك يقدح في روايته. تعريف: الضبط (أما الضبط) فهو الحفظ، وذكروا أنه قسمان: (ضبط صدر) و (ضبط كتاب) . * تعريف ضبط الصدر:

فضبط الصدر: أن يحفظ ما رواه: أي: إذا سَمِعَهُ حَفِظَه، أو ردده حتى يحفظه، وعلامة الحفظ: أن يأتي به كما سمعه وأن يستحضره كلما أراد الاستشهاد به فيسرده كما هو. وكان في الصحابة حفاظ، منهم: أبو هريرة رضي الله عنه حافظ الصحابة، ومع ذلك كان يكرر الأحاديث، يبيت أول الليل يدرسها ويكررها ويرددها حتى لا ينساها؛ لأنه يُحدث من الذاكرة، ولم يكن يكتب، وهناك من يكتبها كعبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقد كتب صحيفة وسماها الصحيفة الصادقة، وتوارثها ولده بعده، إلى أن وصلت إلى عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك في التابعين حفاظ، منهم من يحفظ الحديث أو القصة، أو القصيدة عندما يسمعها، وقد روي عن الشعبي عامر بن شراحيل التابعي المشهور أنه قال: (ما كتبت سوداء في بيضاء) مع كثرة أحاديثه، وكثرة ما يحفظه من القصص والأخبار، والقصائد والأشعار، ونحو ذلك، ومع ذلك لم يكن يكتب، بل كان يعتمد على الحفظ، وأن بعضهم لم يكن يطلب من المحدث أن يعيد شيئاً بل متى سمع الشيء حفظه لأول مرة ولو لم يتكرر، حتى أن بعضهم كان إذا مر باللهو أو بالكلام الباطل، والقصص الخرافية ونحوها يسد أذنيه، مخافة أن يدخل فيها شيء باطل فيبقى في ذهنه، فهو يحب أن تكون محفوظاته خالية من الأشياء التي لا فائدة فيها، وهذا هو: ضبط الصدر. * تعريف ضبط الكتاب: وأما ضبط الكتاب: فكونه إذا سمع الشيء دونه وكتبه، وحفظ كتابه في صندوقه أو في يده، مخافة أن يطلع عليه سفيه فيزيد فيه أو ينقص منه، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا ونحوه قدح في الضبط، بخلاف ما إذا حفظ كتابه فإنه يؤدي منه متى أراد، بدون أن يحصل فيه تغيير أو نقص، ولهذا قال الناظم في ذلك الراوي: (معتمد في ضبطه ونقله) يعني معتمد عليه، ضابط لما يسمعه ولما ينقله، وسبب الاعتماد الحفظ والأهلية. أقسام الحديث الصحيح:

أقسام الحديث الصحيح كثيرة، أرفعها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم بعده ما كان في صحيح البخاري، ثم بعده ما كان في صحيح مسلم دون البخاري، ثم بعده ما كان على شرطهما وإن لم يروياه، ثم بعد ذلك ما كان على شرط البخاري وحده، ثم بعده ما كان على شرط مسلم وحده، ثم ما صح عند البقية من المحدثين وإن لم يكن على شرط أحد منهما. الحديث الحسن: قوله: (والحسن المعروف طرقاً) هنا عرَّف الحسن. يقول في تعريف الحديث الحسن: أنه ما غدت رجاله اشتهرت، لكنه نزل عن درجة الصحيح، وعرَّفه بأنه معروفة طرقه يعني أن أسانيده معروفة، وأن رجاله موثوقون، وأنه متصل، إلا أن رجاله وجملته ليسوا في الشهرة كرجال الصحيح، بل أقل منهم شهرة، فهو يُقبل ويُعمل به، ولكن منزلته دون منزلة الصحيح، لنزول درجة رجاله، فمن المعلوم أن رجال الحديث يتفاوتون في الثقة والحفظ، فمنهم: حفَّاظ نقَّاد، ومنهم: حفَّاظ يقعون في شيء من الوهم.

وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه أمثلة من هؤلاء وهؤلاء، فمثل للثقات العدول: بإسماعيل بن أبي خالد، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش ومثلهم كثير كما للابن أمر وابن أبي ذئب وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وأبي إسحاق السبيعي، وأمثالهم، فهؤلاء أئمة وحفاظ وعلماء، يحفظ أحدهم ما سمع غالباً، وقد اشتهروا بالنقل، وصار الناس يرجعون إليهم، وتتلمذ عليهم الخلق الكثير، فمثلاً تلامذة الزهري لا يكادون أن يحصوا كثرة لاشتهاره بالحفظ، ومثل تلامذة الأعمش سليمان بن مِهران أحد الحفاظ المشهورين كثيرون لاشتهاره فيما بينهم بالحفظ، وكذلك الذين اشتهروا بقوة الحفظ، كما ذكرنا أن الشعبي عامر بن شراحيل يقول: (ما كتبت سوداء في بيضاء) ، لقوة حفظه مع كثرة ما روى، فهو من الحفَّاظ المشهورين، فإذا جاءنا في رجال الحديث من هؤلاء الأئمة اعتبرناه من الصحيح! سواء كانوا من أهل العراق كشعبة، والثوري، والسبيعي، ونحوهم، أو من أهل الشام كالأوزاعي، أو من أهل مصر كالليث، أو من أهل مكة كابن عيينة، وعطاء بن أبي رباح، أو من أهل المدينة كالزهري ومالك وابن أبي ذئب ونحوهم، فنقول: هؤلاء رجال الصحيح، فمن نزل عن مرتبتهم وإن كان يشمله اسم الصدق والحفظ وكثرة الرواية، لكن يقع منه خطأ، وينسى أحياناً فهو الذي روايته في مرتبة الحسن. فمثلاً أبو صالح السمان أحد الحفاظ من تلاميذ أبي هريرة، نقله يعتبر في درجة الصحيح، وتلميذه ابنه سهيل كثير الرواية عن أبيه، لكنه يقع في أخطاء، ولأجل هذا احتج به مسلم دون البخاري، فروايته وحده تعتبر في مرتبة الحسن، وكذلك يمثل بسعيد بن أبي عروبة، وعطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم، ويزيد بن أبي زياد، وأشباههم، هؤلاء يروون أحاديث، ولكن ليسوا في الترتيب في منزلة رجال الصحيح، فيعد تفردهم أو كون الحديث من رواية أحدهم هو الحسن، هذا معنى قوله: (وغدت رجاله لا كالصحيح) يعني اشتهرت لا كرجال الحديث الصحيح،

بل دون رجال الصحيح في الشهرة. وقد عرفنا أن رجال الحسن يشملهم العدالة والضبط، إلا أن ضبطهم أقل من ضبط رجال الصحيح، وهذا هو الفرق بين الحديث الحسن والحديث الصحيح. معنى قولهم: حسن صحيح: واستشكلوا الجمع بين الحسن والصحيح، كما يفعله الترمذي في قوله: هذا (حديث حسن صحيح) ، فما الجواب؟ فإن كونه صحيحاً يغني عن كونه حسناً؛ لأن الحسن أنزل من درجة الصحيح، فكيف يكون حسناً صحيحاً؟ لماذا لم يكتف بصحيح؟ أو لم يكتفِ بحسن، إن كان أنزل درجة من الصحيح؟ ولم يستعمل هذا غالباً إلا الترمذي، ولكن يظهر أن الترمذي لم يلتزم هذا الاصطلاح، وهو أن الصحيح رجاله هم الموثقون الحفاظ، والحسن رجاله هم الذين دون أولئك في الضبط، إنما أراد بقول: حسن صحيح. الوصف له بما يقتضي الصحة والعدالة والقبول، فيقول: حديث حسن صحيح، يعني أنه حسن من حيث مخرجه، وصحيح من حيث أصله، كأنه يصفه بما يؤكد قبوله، هذا هو المتبادر من فعل الترمذي. أما إذا قال: حديث حسن. فإنه كما ذكر أن الحسن هو ما عرف مخرجه واشتهرت رجاله، وروي له طريقان أو أكثر. أقسام الحديث الحسن: ثم يقسّمون الحسن أيضاً إلى قسمين: حسنٌ لذاته، وحسنٌ لغيره، كما أن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، والحسن لذاته هو: الذي له طريق واحد، ولكن رجاله موثقون، ثم قد يكون الحسن صحيحاً وذلك إذا تعددت طرق روايته، أي: روي عن طريقين أو أكثر، ولكن كل منهما رجاله كرجال الحسن، فيكون هذا الطريق حسناً لذاته، وهذا الطريق الثالث حسناً لذاته، وهذا الطريق حسن لذاته والمدار على الصحابي في الحديث الواحد، فنقول هذا هو الصحيح ولكن لا لذاته بل بالمجموع، ويسمى الصحيح لغيره، يعني أنه صحيح لشواهده ولكثرة طرقه، فإن كثرة الطرق تقويه، وتنقله من قوي إلى أقوى.

أما الحسن لغيره فهو: الذي نزل عن درجة الحسن لما كان فرداً، ولكن بمجموع الطرق -وكلها لا تخلو من الضعف- يترقى إلى الحسن لا لذاته بل بالمجموع. المتابعات والشواهد: فعندنا مثلاً طريق ضعيف، وطريق آخر فيه ضعف، وطريق ثالث فيه ضعف، تجتمع هذه الطرق وتتقوى، ويكون حسناً لا لذاته بل بالمجموع، يعني أنه تقوّى بهذا وبهذا فأصبح حسناً لغيره؛ ولهذا يسمون الطرق متابعات وشواهد وإن لم يذكرها الناظم فقد ذكرها غيره. والمتابعات تكون في السند والشواهد تكون في المتن. فإذا كان الراوي يوافق غيره كان دليلاً على ثقته، وإذا كان ينفرد عن غيره كان دليلاً على ضعفه، وتسمى موافقته لغيره متابعة، فتجدهم إذا قرأت ترجمة أحد الرواة يقولون مثلاً في الكلام عليه: فلان ضعيف، لا يُتابع على أحاديثه، أو ينفرد عن الثقات بالمنكرات، أو ينفرد بالغرائب عن الثقات. أما الذي يتابع فإنه يدل على حفظه، فعندك مثلاً: الزهري له تلاميذ كثيرون، فإذا روى عنه ابن أخيه وهو محمد بن عبد الله حديثاً، ولم يروه غيره قلنا: هذا الحديث غريب، تفرد به ابن أخي الزهري عن عمه، ولو كان عند الزهري ما تركه بقية تلامذته، فدل على ضعف هذا الحديث حيث تفرد به ابن أخي الزهري، فإن وجدناه قد رواه يونس بن يزيد الأيلي أحد تلامذة الزهري، أو عقيل بن خالد أحد تلاميذه، أو شعيب بن أبي حمزة أحد تلامذة الزهري أو سفيان ابن عيينة، أو الثوري، أو معمر بن راشد، أو من أشبههم عرفنا أنه قد توبع، فقلنا: ابن أخي الزهري يتابع، تابعه فلان على حديثه، وتابعه معمر وهكذا. والحاصل أن الحسن لغيره هو: الضعيف الذي تتعدد طرقه. والصحيح لغيره هو: الحسن الذي تتعد طرقه. الضعيف الذي لا ينجبر:

ثم إن هناك ضعفاً لا ينجبر، وهو أن يكون الرواةمتهمين بالكذب، مشهورين به، وقد تتعجب من توافق كثير من الروايات التي فيها ضعف، لكن لا غرابة، فإنهم قد يتفقون على الكذب فيجتمع مثلاً في مجلس واحد ثلاثة يختلقون حديثاً، ويقولون: نرويه عن فلان الثقة المعروف، فيتفرقون وكل منهم يحدِّث به، فيقول مثلاً: حدَّثني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، فمثلاً عبد القدوس بن حبيب في الشام يقول: حدّثني شعيب، ثم يأتي أحد الكذابين في العراق كعمرو بن جميع ويقول: حدثني شعيب، ويأتي آخر في خراسان ويقول: حدثني شعيب، فإذا رأينا أن هذا الحديث قد توافقوا وتتابعوا على روايته عن شعيب تعجبنا حتى ليجزم بعضهم أن شعيباً حدَّث به، وإلا فكيف اتفق عليه راوي العراق، وراوي خراسان، وراوي الشام؟ والجواب: أنه لا عجب، فقد يجمعهم مجلس، ويتفقون فيه على اختلاق حديث، ويتفرقون ويروونه، وقد يسرقه بعضهم، كما تجد في تراجم بعض الرواة ذكر السرقة، يقال: فلان يسرق الأحاديث. أي أنه إذا سمع حديثاً ضعيفاً مروياً من طريق سرقه، وكتبه، ثم حدّث به من طريق ثانِ، فاختلق له طريقاً آخر، فيتعجب الذي يرى هذا مخرجاً من طريق، ثم يراه مخرجاً من طريق آخر، ويقول: كيف توافقت الرواة؟ يعني هذا: طريق كلهم مصريون، وله إسناد من طريق كلهم عراقيون، فنقول: لا غرابة في ذلك، فقد يكون الذي اختلقه لأول مرة هو المصري، ثم لما سمع به العراقي ركب له إسناداً، ليدعي أنه قوي.

وقد يكتب بعضهم إلى بعض ممن يَروون الكذب، أو يرون جواز الكذب أو نحو ذلك، فإذاً قد يقع في روايات الضعفاء توافق، فلا تكون متابعة الضعيف شديد الضعف رافعة لضعف الحديث، ولا مسببة لنقله إلى مرتبة الحسن لغيره، وإنما الذي يرتقي إلى مرتبة الحسن إذا كان الضعف فيه ينجبر وذلك إذا كان الراوي غير متهم بالكذب. أما الضعف الذي لا ينجبر فلا يعني ما هو ضعيف بسبب رواة متهمين بالكذب، وقد عرف أن الراوي يطعن فيه فيُقال: كذَّاب. أو يُقال: متهم بالكذب، أو ما أشبه ذلك. فإذا كان الراوي غير متهم بالكذب، فضعفه ينجبر إذا روي عن طريق أُخرى، وأحاديث الكذَّابين تُتَجنَّب. وقد كُتبت في ذلك مؤلفات كثيرة ككتب الموضوعات، والقصد من كتابتها التحذير منها لكي يعرفها الناس ويحذروها ويتجنبوا روايتها، أو يتجنبوا تصديقها والعمل بها، فمنها: (كتاب الموضوعات) في أربعة مجلدات لابن الجوزي، يرويها بالأسانيد، ويقتصر على الأحاديث الموضوعة، وإن كان قد تساهل وأدخل في ذلك أشياء من الأحاديث التي فيها ضعف لا يصل إلى الوضع ومنها: (تنزيه الشريعة المرفوعة) لابن عراق في مجلدين، وهو من أوفى ما كتب في الموضوعات، وإذا كان رواة المتابعات كلها من المبتدعة، فإن الضعيف لا يترقى إلى الحسن؛ لأن كثيراً من المبتدعة يتساهلون في رواية الموضوع سيما إن كانت الأحاديث تؤيد بدعتهم، أو يرون وضع الأحاديث حسبة، تقوية لمذاهبهم ومعتقداتهم، وأكثر من يفعل ذلك الرافضة الذين امتلأت مؤلفاتهم بالأكاذيب التي يؤيدون بها مذهبهم. وكُلُّ ما عَن رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصُر ... ... ... فهو الضّعِيفُ وهْوَ أَقْسَاماً كُثرْ الحديث الضعيف: قوله: (وكل ما عن رتبة الحسن قصر ... فهو الضعيف وهو أقساماً كَثُر) :

معروفٌ أن الحديث صحيح، وحسن، وضعيف، ومنهم من يقول: صحيح وضعيف، ولكن الصحيح ينقسم إلى قسمين، صحيح قوي، وصحيح دونه في القوة وهو الحسن، فكل ما نزل عن مرتبة الحسن فهو الضعيف، وأقسامه كثيرة. فمنه: ما يسمى بالمنكر، والمنقطع، والمقلوب، والموضوع، ومنه يُطلق عليه اسم: الضعيف، ومنه ما يكون ضعفه بسبب في إسناده، كالمعضل، والمعلق، والمرسل والمدلس والمعنعن وما أشبه ذلك، كمما سيأتينا أمثلة لذلك. وَمَا أُضِيفَ لِلنَّبيِ المرْفوعُ ... ... ... وَمَا لِتابعٍ هوَ المقطوعُ الحديث المرفوع: قوله: (وما أضيف للنبي المرفوع ... وما لتابع هو المقطوع) الحديث المرفوع هو: ما ينتهي إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله أو تقريره، وينقسم إلى مرفوع صريحاً، ومرفوع حكماً. فالمرفوع الصريح هو أن يُقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم كذا، أو فُعِلَ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فهذا مرفوع صريحاً. أما المرفوع حكماً فهو كلام الصحابي الذي يتورع عن الجرأة في الدِّين، ولم يأخذ عن الإسرائيليات ونحوها، وتكلّم بما لا مجال للرأي فيه، فإن له حكم الرفع، حيث إنه لا يُقال مثل هذا بالرأي وعلى هذا تحمل كثير من أحاديث الصحابة الموقوفة فإن يوجد أحاديث موقوفة على الصحابة كعمر وعثمان وعلي، وابن عمر، وأنس وجابر ونحوهم، فهذه الآثار أقوال يقولونها وأفعال يفعلونها لها أحكام ولا يمكن أن يفعلوها من تلقاء أنفسهم، بل لابد أن يكونوا تلقوها عن نبيهم صلى الله عليه وسلم سواء كانت في العبادات أو في المعاملات، وسواء كانت أفعالاً أو تروكاً، فإن لها حكم الرفع. الحديث الموقوف:

وقد ألحق بذلك بعضُ العلماء ما كان عن التابعين، ولكن الصحيح أن التابعي ما وقف عليه، فهو أقل رتبة مما وقف على الصحابي، فالصحابي إذا انتهى إليه الإسناد فإنه يسمى موقوفاً، ولكن إن كان لا مجال للرأي فيه فهو مرفوع حكماً، وإن كان للرأي مجال فيه فهو موقوف أصلاً وفرعاً، أما إن انتهى إلى التابعي (وهو الذي رأى الصحابة) كسعيد بن المسيب، وقتادة، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، والزهري وأشباههم، فإن ما وقف عليه يسمى مقطوعاً. الحديث المقطوع: (وما لنابع هو المقطوع) يعني: ما وقف على التابعي وجعل من كلامه فإنه مقطوع، وقد دونت فتاواهم وأقوالهم، وما تركت تضيع، حتى ولو كانوا من التابعين؛ لأنهم تلامذة الصحابة، فاعتنى كثير من العلماء بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المرفوعة ودوّنوها، كأهل السنن وأهل الصحيحين ونحوهم. وبعض العلماء الذين ألفوا في كتب الأحكام لم يقتصروا على المرفوع، بل ألحقوا به أقوال الصحابة وأقوال التابعين وأفعالهم واجتهاداتهم، ولو كان فيها شيء من الاختلاف، فإنها تدل على أن هذه المسألة فيها مجال للاجتهاد، وقد نجد اختلافاً عن بعض الصحابة فقد اختلفوا في المستحاضة كم تجلس؟ واختلفوا في من أتى حائضاً هل يكفر أم لا؟ واختلفوا في إزالة النجاسة بكم تزول؟ لكن هذا الاختلاف يدل على أن هذه الأمور فيها سعة، وأن فيها مجالاً للاجتهاد، وأنه ليس كل ما قالوه متحققاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

فالحاصل أن ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمى مرفوعاً، وما أضيف إلى الصحابي يسمى موقوفاً، وما أضيف إلى التابعي من كلامه أو فعله يسمى مقطوعاً، فإن المسألة إما أن يوجد فيها نص مرفوع، فحينئذ يستدل به وتطرح أقوال غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه طريقة الإمام أحمد، فإنه إذا وجد في الباب حديثاً لم يلتفت إلى غيره، وإذا لم يجد حديثاً ووجد فيها أثراً عن الصحابة تمسك به إذا لم يختلفوا، فإذا اختلف الصحابة اختار القول الذي فيه أحد الشيخين أبي بكر وعمر أو أحد الخلفاء، فإذا لم يجد عن الصحابة في المسألة شيئاً فإنه يذهب إلى أقوال التابعين؛ لأنهم تلامذة الصحابة، فإذا لم يجد فيها شيئاً اجتهد بنظره وأفتى بما يوجبه اجتهاده. وَالمُسْنَدُ المتَّصلُ الإِسنادِ مِن ... ... ... رَاويهِ حَى المُصْطفى وَلَمْ يَبنْ الحديث المسند: وقوله: (والمسند المتصل الإسناد من ... راويه حتى المصطفى) : اقتصر الناظم هنا على تعريف المصطلحات تعريفاً موجزاً، دون أن يذكر أكثر من تعريف، ودون أن يذكر شيئاً من الخلاف، أو كثرة الأقوال، وقد تقدم تعريف الحديث الصحيح، والحسن، والضعيف، والموقوف، والمرفوع، وذكر الناظم في هذا البيت تعريف المسند. فالمسند مشتق من الإسناد والإسناد هو سلسلة الرجال أي رجال الحديث، وسمي إسناداً لأن بعضهم يسنده عن الآخر وهذا يسنده عن الآخر، كأنه يبرأ من عهدته، إذا حدثك بهذا الحديث فإنه لا يتهم به، حيث إنه نقله عن شيخه فلان، فأسنده إليه وسلم من العهدة، وشيخه فلان أيضاً سلم من العهدة حيث أسنده إلى شيخ له، وهكذا كل واحد منهم يسنده إلى شيخه، إلى أن يصل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو المسند أي ما رُوي بالإسناد، بحيث أن كل راوٍ منهم ينقله عن الآخر، ورجال الحديث يسمون إسناداً. الإسناد المتصل:

ويُقال: هذا إسناد صحيح، يعني رجاله موثقون، وقد عرفت أن الإسناد معناه إضافة الشيء إلى إنسان، تقول: فلان أسند هذا القول إلى فلان، يعني أضافه إليه، كأنه كان ملتصقاً به، ثم بعد ذلك اعتمد على غيره، واستند على سواه، فالإسناد هو رجال الحديث، بقطع النظر عن كونه فيه فجوات، أو ليس فيه فجوة، فإنه قد يسقط بعض رجاله وهو ما يسمى معلقاً أو معضلاً، أو منقطعاً أو مرسلاً، أو مدلساً، وذلك من العيوب التي يطعن بها في الحديث، فأما إذا اتصل رجال الإسناد فهو المتصل، إذا كان كل منهم قد روى هذا الحديث عن شيخ له قد سمعه منه، تقول: هذا إسناد متصل، وضده المنقطع، فالمتصل هو المتواصل، فأنت مثلاً إذا خططت خطوطاً في الأرض وتركت بينها فرجاً قيل: هذا خط متقطع، فإذا وصلت بينها أي: وصلت هذا وهذا، قيل: هذا خط متصل. ومثله خطوط الطرق للسيارات فالمتصل الذي يستمر من هذه البلدة إلى هذه البلدة، أي متواصل ليس فيه فجوات، أما إذا كان فيه فجوة ولو قدر ذراع، أو قدر عشرين باعاً أو مائة قيل: هذا خط منقطع، أو خط متقطع أي: فيه قطع، فالإسناد كذلك، كون كل من الرواة سمع من الآخر واتصل السماع واتصلت الرواية.

ومثال ذلك: إن قال مسلم مثلاً: حدَّثنا محمد بن رافع (شيخ له قد لقيه وأخذ عنه كثيراً) ، وابن رافع قال حدثنا عبد الرزاق شيخ له قد لقيه وأخذ عنه كثيرا وعبد الرزاق قال: حّدثنا معمر (أحد مشايخ عبد الرزاق) ، ومعمر قال: حدَّثنا الزهري. وهو قد لقي الزهري وأخذ عنه، والزهري قال: حدثني سالم بن عبد الله، وهو من أشهر مشايخه، وسالم قال: حدثني عبد الله بن عمر، وهو أبوه الذي هو من أشهر تلاميذه من أولاده، نقول: هذا إسناد متصل، حيث إننا تحققنا أن كلاّ منهم قد لقي الآخر وقد حدث عنه، وهكذا سائر الأسانيد المتصلة، فإنها سميت متصلة لتلاقي كل من التلميذ وأستاذه، وكونه قد لقيه ويعرف أنه قد لقيه إما بإخباره، كأن يقول: لقيت فلاناً وأخذت عنه وإما بالإمكان بكونهما في بلد واحد، وقد عاش معه سنين، وهو يجمع الأحاديث، ويحرص على جمعها، لاسيّما كبار السن، فإنه والحالة هذه يكون إذا روى عنه يحمل على السماع، كذلك بالتحديث إذا كان مأموناً موثوقاً، وقال: حدثني فلان، عرفنا من ذلك أنه حدثه وسمعه منه، كذلك بالتصريح بالسماع، إذا قال: سمعته من فلان، فإنه يحمل على الاتصال فيكون إسناده متصلاً وهكذا يقال في بقية الأسانيد، فالإسناد المتصل هو المتواصل الذي ليس فيه اختلال، وضده المنقطع، والمنقطع هو الذي في إسناده سقوط واحد من الوسط، أو اثنين غير متواليين من الوسط، فإن سقط من وسطه اثنان أو أكثر على التوالي فإنه يسمى معضلاً. الحديث المعلق: فإن كان السقط من أوله وكان واحداً أو أكثر فيسمى معلقاً. كأن صاحب الكتاب علقه وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر على الوصول إليه.

فإن كان السقط من آخره بعد التابعي فإنَّه يسمى مرسلاً، فإن كان السقط خفيّاً، وظاهر الإسناد أنه متواصل لكن فيه سقط خفي فإنه يسمى مدلساً، والمُدَلِّس هو الذي يروي عن شيخه ما لم يسمعه منه بصيغة تحتمل اللقي، فيقول مثلاً: عن فلان. وكان قد لقيه لكنه ما سمع منه هذا الحديث كقوله عن الزهري. أو قال الزهري لما لم يسمعه منه، فإذا قال: حدثني الزهري، دل على أنه سمعه منه، أو قال: سمعته من الزهري، فالمدلس يتوقف في قبوله مخافة أن يكون قد دلسه عن ضعيف فأسقطه. قوله: (ولم يبن) يعني ينقطع، أي لم يكن فيه بون، والبون الانقطاع، يقال مثلاً بان عنه، يعني انفصل عنه وانقطع، وتقول: أبن هذا عني، يعني أزله، وفي الحديث لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشراب وأن الإنسان لا يروى بنفس واحد قال: (أبن القدح عن فيك) ويعني: أفصله وأخره (لم يبن يعني لم يفصل، ولم ينقطع، ولم يكن فيه بون، والبون والبين هو الانقطاع، كما في قول بعضهم: وأتى دونك البون، وبون بعيد، وبينهم بون شاسع، فالبون هو البعد، فالمسند هو الذي إسناده موجود، بقطع النظر عن الإسناد هل هو متصل أو منقطع، فصورة الإسناد ظاهرة، وقد يكون مُدلساً، وقد يكون مرسلاً خفياً، وقد يكون مرسلاً جلياً، وقد يكون معضلاً، وإنما فيه صورة الإسناد ظاهرة، وضده ما لم يسند، فمثلاً كتاب (رياض الصالحين) للنووي أحاديثه ليست مسندة بل مذكورة بدون أسانيد، وصحيح مسلم أحاديثه مسندة من مسلم إلى الصحابي إلى الرسول. وعلى هذا فالمسند هو الذي فيه الإسناد، وقد يكون في تلك الأسانيد ما هو منفصل منقطع، أو مرسل أو معضل، ولكن مع ذلك تُسمى مسانيد، وأحاديث مسندة، فالمسند هو الذي يوجد فيه الإسناد. والمتصل هو الذي اتصل إسناده بالسماع أو بالتحديث، بحيث لم يظهر فيه ما يوهم أنه غير متصل، فمن سمعه عرف أنه متصل.

مُسَلسلٌ قلْ ما عَلى وَصفٍ أَتى ... ... ... مِثْلُ أَمَا وَاللهِ أَنبانِي الفتى كَذَاكَ قَد حَدَّثنيهِ قَائِماً ... ... ... أَوْ بَعْدَ أَنْ حدَّثني تبسَّما الحديث المسلسل: وأما (المسلسل) فهو ما على وصف أتى، يعني: ما أتى على صفة معينة من أول السند إلى آخره. وقد يكون مسلسلاً بالقول، أو مسلسلاً بالفعل، فالمسلسل بالقول كالمسلسل بالتحديث، أي أن كل واحد منهم يقول: حدَّثني حدّثني، والمسلسل أيضاً بالقول كالمسلسل بالسماع، كأن يقول: سمعت فلاناً قال: سمعت فلاناً، قال: سمعت فلاناً. إلى أن يقول الصحابي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مسلسلاً بقول خارج، ومِثلُ ذلك حديث معاذ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحبك) فإنه تسلسل، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: (إني أحبك) ومعاذ قال لتلميذه: إني أحبك وتلميذه قال للثاني: إني أحبك. وقد قال لي فلان: إني أحبك وقال لي فلان: إني أحبك، إلى أن قال: قال لي معاذ: إني أحبك. قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحبك) فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، فهذا مسلسل بهذه المقالة إلى أن وصل إلى الصحابي يعني من أول الإسناد إلى الصحابي، كل واحد منهم يقول لتلميذه: إني أحبك. وهناك حديث مسلسل بالأولية، وهو أن يقول الراوي: حدثني فلان، وهو أول حديث سمعته منه. قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، إلى أن يصل إلى الصحابي، فهذا مسلسل بالأولية.

وقد يكون مسلسلاً بالفعل، كأن يقول: حدثني فلان وهو قائم، قال: حدثني فلان وهو قائم، إلى أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مسلسلاً بفعل أجنبي، كأن يقول: حدثني فلان متبسماً، أو حدثني فلان وهو يضحك، قال: حدثني فلان وهو يضحك، قال: حدثني فلان وهو يضحك. أو وهو يبتسم، إلى أن يصل إلى الصحابي، فيكون هذا مسلسلاً بالفعل. فالحاصل أن المسلسل ما اتفق رواته على صيغة أو على كلمة تتصل بالرجال، أو تتصل بكيفية الأداء، فتسلسل كأنه انجر من هذا إلى هذا، والتسلسل أصله التجاذب، تسلسل القوم يعني تجاذبوا، يعني صاروا كذا وكذا، وكذلك تسلسل أي: ترقى من كذا إلى كذا، وتسلسل هذا العمل يعني نزل من هذا إلى هذا، فأخذوا منه هذه الكلمة، وذكروا في الأحاديث المسلسلة أنها غالباً تكون ضعيفة أو يختل فيها التسلسل كثيراً، فيحتاجون أن يأتوا به بصورته فينقطع في بعض الأحيان فيقع فيها تساهل، أو يقع فيها شيء من الرواية بالظن أو ما أشبه ذلك. عزيزُ مَروي أثنينِ أَوْ ثلاثةْ ... ... ... مشهورُ مَرْوي فوق ما ثلاثةْ وهنا تأتي تعريف العزيز والمشهور، وبعده المعنعن والمبهم، والعالي والنازل. الحديث العزيز، والمشهور، والمستفيض:

فأما (العزيز) فهو ما رواه اثنان، وقيل: ما رواه ثلاثة، والأشهر أنه ما رواه اثنان فقط، يعني رواه عن الصحابي اثنان، ورواه عن الاثنين اثنان وهكذا، رواه اثنان إلى أن وصل إلى المؤلف، وسمي عزيزاً من العزة وهي القلة، يُقال: هذا (عزيز) في هذا الزمان، يعني قليل، كما يقولون: هذا أعز من الكبريت الأحمر. يعني أقل من العزة، وهي القلة؛ لقلة رجاله، وقيل: مشتق من القوة، فإن أحد الراويين تقوى بالآخر، فقد كان غريباً كما سيأتي، ولكن بعد أن رواه راوٍ آخر ووجد له إسناد آخر تقوى أي أصبح قوياً، فقيل: عزيز بمعنى قوي، فالتعليل الأول يناسب كونه مروي اثنين، وإذا قيل: إنه مروي ثلاثة -كأن يكون له ثلاثة أسانيد- فإنه مشتق من القوة لا من القلة؛ لأن الثلاثة فأكثر ليست قليلة، بل هي أدنى الكثرة، هذا هو العزيز. وذهب الحاكم إلى أنه شرط للصحيح، وقال: لا يكون الصحيح إلا ما رواه اثنان أو أكثر، وعلى كلام الحاكم لا يكون الغريب صحيحاً، وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وصححوا أحاديث غريبة ليس لها إلا إسناد واحد، كحديث: (إنما الأعمال بالنيات) فليس له إلا إسناد واحد بالنسبة إلى التابعين، ومع ذلك فهو صحيح، وكذا الترمذي فهو في كتابه الجامع يصحح الأحاديث الغريبة، فيحكم بغرابته ومع ذلك يصححه فيقول: هذا حديث صحيح غريب، والغريب ما ليس له إلا إسناد واحد. فالحاكم يقول: لا يكون صحيحاً إلا إذا كان له إسنادان، وهو العزيز، والراجح إن شاء الله أنه قد يحكم بصحة الحديث الغريب إذا كان إسناده ثقات، ورواته مشهورين، ولو لم يكن له إلا إسناد واحد.

فالعزيز ما رواه (إما اثنان) ، على قول الحاكم وهو المشهور، أي ليس له إلا إسنادان، (وإما ثلاثة) على قولٍ أشار إليه الناظم البيقوني (عزيز مروي اثنين أو ثلاثة) وهو يدل على أن هناك خلافاً، وأن بعض العلماء قالوا: العزيز ما رواه ثلاثة والمعنى أنه رواه عن الصحابي ثلاثة، ثم استمر يرويه ثلاثة ثلاثة، إلى أن وصل إلى أهل التأليف، فأصبح له ثلاثة أسانيد، كما لو رواه مثلاً عن أنس ثلاثة من تلاميذه كقتادة وأيوب السختياني وثابت البناني ثم يرويه عن كل واحدٍ واحدٌ، فيرويه عن قتادة شعبة، ويرويه عن ثابت سعيد بن أبي عروبة، ويرويه عن أيوب عوف الأعرابي، ثم يرويه عن هؤلاء الثلاثة ثلاثة، كل واحد يرويه عنه واحد، إلى أن يصل إلى زمن البخاري أو الترمذي، فيرويه الترمذي أو غيره بهذه الأسانيد الثلاثة، فيسمى هذا الحديث عزيزاً على قولٍ، ومشهوراً على قولٍ آخر، يعني أن العزيز فيه قولان (الأول) : أنه مروي اثنين. والقول (الثاني) أنه مروي ثلاثة. (والمشهور) فيه قولان: (الأول) أنه مروي ثلاثة أو أكثر (الثاني) أنه مروي أربعة أو أكثر، وهو الذي اختاره البيقوني، ولهذا قال: (مشهور مروي فوق ما ثلاثة) يعني فوق الثلاثة، وأدنى شيء فوق الثلاثة هو الأربعة، فإذا كان له أربعة أسانيد فإنه عنده المشهور، ولعل الراجح قول الجمهور أن العزيز يطلق على ما رواه اثنان، وأن المشهور يطلق على ما رواه أكثر من اثنين، يعني ثلاثة أو أكثر ما لم يبلغ حد التواتر، يعني ولو رواه عشرة، ولكنه لم يبلغ حد التواتر، فيسمى مشهوراً، وقد يسمى مستفيضاً، يعني أن له اسمين، المشهور والمستفيض، واشتقاقه من الشهرة لانتشاره بين الناس وتناقله، وكذلك المستفيض من الفيضان، وهو التفجر، وكأنه فاض في الناس، وتناقلوه أفراداً وجماعات، فلأجل هذا أطلق عليه: مستفيض. أقسام الحديث المشهور: قوله: (مشهور مروي فوق ما ثلاثة)

ويقسمون المشهور أيضاً إلى قسمين عند الخاصة، ومشهور عند العامة، والمراد بالخاصة علماء الحديث، فقد يكون الحديث مشهوراً عندهم، وإن لم يكن منتشراً وكثيراً تناوله وتناقله بالنسبة إلى العامة؛ لأن العامة إنما يتناقلون ما يسهل حفظه، أو ما يتكرر، أو ما تكثر الحاجة إليه، أما الأحاديث الخاصة فإنها تكون متناقلة بين العلماء والمحدثين وليست متناقلة بين عموم الناس، فتجد الحديث مثلاً يسمى مشهوراً ومستفيضاً حيث إن له عدة طرق، أكثر من اثنين أو ثلاثة، ومشهوراً لأنه رواه أهل السنن، ورواه أهل الصحاح: البخاري ومسلم، وابن خزيمة وابن حبان، والحاكم وابن الجارود، وابن السكن، وابن القطان، ومن أشبههم من الذين ألفوا في الصحيح، ورواه أهل السنن الأخرى كالدارمي والبيهقي والدارقطني وأشباههم، ورواه أهل المسانيد، ورواه أهل المصنفات، ورواه أهل التفاسير، ومع ذلك وقد يكون منتشر الذكر بين العامة، وقد يكون الأمر بالعكس أي أن الحديث قد يشتهر على ألسن العامة، ومع ذلك ليس بمشتهر عند الخاصة الذين هم العلماء والمحدثون، فالعامة قد يسمعون أثراً ونحوه فيتناقلونه على أنه حديث، ويشتهر بينهم وينتشر، وإذا نقب عنه لم يكن حديثاً، بل هو إما حديث ضعيف مع شهرته بين العامة وكثرة تناقلهم له، وإما أثر موقوف على بعض الصحابة أو من دونهم. فالحاصل أن المشهور هو الذي يرويه ثلاثة عند أكثر العلماء أو يرويه أكثر من ثلاثة عند البيقوني والبعض غيره، وأنه يسمى مشتهراً مستفيضاً، وأنه قسم إلى مشهور عند الخاصة، ومشهور عند العامة، ورواته هي الأسانيد والطرق، والحكم عليه يرجع إلى الرجال.

ونحن إنما نقول: مروي ثلاثة ومروي اثنين بالنسبة إلى الأسانيد ظاهراً، ولا يحكم بصحته ولا بضعفه إلا بعد النظر في رجاله، فإذا نظرنا في رجال الحديث، نظرنا في ثقتهم وعدالتهم وأهليتهم، أو أن فيهم نوع ضعف، ولكن ذلك الضعف ينجبر بمتابعة هذا لهذا ولهذا، فيحكم بصحته، وقد يكونون من الضعف بمكان قوي، بحيث لا يُقبل حديثهم، ولا يُحكم بصحته إذا كانوا متهمين بالكذب، أو ضعفاء بالمرة، فهذا التعريف إنما هو بالنظر إلى الاسم أي اسم الحديث مشهور أو مستفيض أو عزيز، مع قطع النظر عن ثقة رجاله أو ضعفهم، فإذا أردنا الحكم عليه فلا نحكم عليه إلا بالنظر إلى عدالة رواته وصحة إسناده. مُعنْعنٌ كَعنْ سعيدٍ عنْ كَرَم ... ... ... وَمبْهَمٌ مَا فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسم الحديث المعنعن والمؤنن: قوله: (معنعن كعن سعيد عن كرم)

(المعنعن) هو الحديث الذي يتسلسل بكلمة عن فلان عن فلان، والعنعنة يستعملونها إما للاختصار وإما لعدم التثبت من سماعه عن ذلك الشيخ، كأن يرويه عنه بواسطة، أو ما أشبه ذلك ويجوز للمتأخر أن يروي الحديث بعن، فيجوز لك أن تقول: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال ستاّ..) مع أن بينك وبين أبي هريرة مئات السنين، فإذا قال الراوي (عن) فليس متحققاً أنه لقيه أو أنه سمعه منه، فقد يقول أبو بكر بن أبي شيبة: عن شعبة. وهو مالقيه، وقد يقول مثلاً سفيان بن عيينة: عن الزهري. وهو قد لقيه فيعنعن، وقد يكون الشيخ روى عن شيخه بالتحديث، وعن شيخ شيخه بالعنعنة، ويفعل ذلك كثير من العلماء، وقد يكون الإسناد كله معنعناً، فغالب أول مصنف عبد الرزاق رواه تلميذه عند بالعنعنة مع ذكره لاسمه فيكتب: عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري عن سالم عن أبيه، فيجعله كله معنعناً، مع أن عبد الرزاق قد روى عن مشايخه بالتحديث أو بالإخبار أو بالسماع، ومع ذلك يذكره بالعنعنة، ولعلّ ذلك من باب الاختصار والعنعنة إذا جاءت في الحديث فإنها تكون دون التحديث بمراتب؛ لأنها ليست دالة على الاتصال، إلا إذا حملنا ذلك الراوي على حسن الظن. واختار الإمام مسلم -رحمه الله- أن الحديث المعنعن يقبل مطلقا ويحمل على الاتصال بشرط: أن يكون المعنعن ليس مدلساً. وأن يكون معاصراً لمن روى عنه يمكن أنه لقيه. فإن كان المعنعن مدلساً فلا يقبل إلا إذا صرح بالتحديث، فمثلاً من المدلسين ابن إسحاق صاحب السيرة، نجد عنده أحاديث كثيرة تارة يذكرها بصيغة العنعنة، وتارة بالتحديث، فتارة يقول: حدَّثنا عاصم بن عمر، وتارة يقول: عن عاصم بدون حدَّثنا، فيقبل ما صرح فيه بالتحديث، دون ما لم يصرح فيه بالتحديث، مخافة أن يكون قد أسقط شيخه.

والضعيف (المدلس) هو الذي يسقط شيخه، ويروي الحديث بالعنعنة عن شيخ شيخه، الذي قد لقيه لكنه لم يسمع منه ذلك الحديث، (المؤنن) أيضاً ألحقوه بالمعنعن، لكن الغالب أن المؤنن لا يقتصر فيه على كلمة (أن) بل لابد أن يُضاف إليها كلمة أخرى، فإن أضيف إليها ما يدل على السماع فهو متصل وإن أضيف إليها ما لم يدل على السماع فلا، فإذا قال مثلاً: حدثنا عبد الله بن لهيعة أن جابراً الجعفي قال: حدثني أنس. فمثل هذا أن جابراً قال. وكلمة (أن) هو المؤنن، ولكن أضاف إليها (قال) وكلمة (قال) لا تدل على الاتصال، فيتوقف فيه؛ لأن ابن لهيعة قيل: إنه مدلس، وأما إذا أضاف إليها كلمة صريحة فيقبل، كأن يقول: حدثنا ابن لهيعة، أن جابراً الجعفي حدثه، فكلمة (أن) اقترنت بها (حدثه) أو أخبره، أو سمعه يقول: أو ما أشبه ذلك، فيزول بذلك خوف الانقطاع. الحديث المبهم: قوله (ومبهمٌ ما فيه راوٍ لم يُسم) ، أي: لم يصرح باسمه، كأن يقول مثلاً عن ابن لهيعة عن رجل، عن قتادة. فقوله عن (رجل)) هذا مبهم لا يُدرى من هو، وقد لا يذكره باسم رجل، كأن يقول عمن أخبره، أو عمن يسمع جابراً.

فهذا الذي سمع جابراً مبهم، وقد يكون الإبهام لعدد، كأن يقول: عن عدة من مشايخنا، أو من أصحابنا، فهؤلاء العدة مبهمون، وقد يكون الإبهام مع نوع من التعيين، كأن يقول: عن عمه أو عن أخيه، وله عدة أعمام وله عدة إخوة، أو أخوه مجهول لا يُدرى من هو ولا يُدرى ما اسمه، فيكون هذا مبهماً، فالمبهم هو الذي فيه رجل لم يسم، وهو يدل على ضعفه، فيُرد الحديث الذي فيه راوٍ مجهول، وقد يسمى ومع ذلك يبقى على جهالته، وقد يسمى ولكن لا يقال فيه كلام، ولا يذكره أحد، ولا يترجم له، ولا يدري ما حاله، وما روايته وما ثقته، وهو مع ذلك مسمى، بأن يقول مثلاً: حدثني زهير أو يزيد، وقد يقول مثلاً: يزيد بن بزيع، ولكن من هو يزيد هل هو ثقة أو ضعيف، لا ندري، لم يتكلم فيه أحد، فيتوقف في رواية هذا المجهول. المجهول وأقسامه: ويقسم المجهول إلى قسمين: مجهول الحال. ومجهول العين. فمجهول العين هو: أن لا يُعرف بعينه، ولا يُدرى ما اسمه. وأما مجهول الحال فهو: الذي يسمى، ويرويه عنه اثنان، ولكن لا يروى شيء من أخباره، ولا ينقل هل هو صدوق أو كذوب، أو ثقة أو ضعيف، روى عنه فلان وفلان ولكن ما وثق، فيسمى مجهول الحال، وقد يسمى مستوراً. الفرق بين المبهم والمجهول: والفرق بين المبهم والمجهول أن المجهول أخص؛ لأنه قد يكون مسمى ومجهولاً، قد يُقال: عن أُمه، وأُمه مجهولة، وقد يُقال عن أخيه، وأما إن قيل: عن رجل. أو عن من سمع. فهذا يسمى مبهماً، فالمبهم هو الذي لا يذكر بما يميزه، وأما إذا قال: عن أخيه أو عن أمه وهي مجهولة، أو أخته أو عمه، أو ما أشبه ذلك فهذا يسمى مجهولاً، وليس بمبهم. وكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُه عَلا ... ... ... وَضِدُّهُ ذاكَ الذِي قدْ نَزَلا الحديث العالي، والحديث النازل: قوله: (وكل ما قلت رجاله علا ... )

العالي والنازل من أقسام الحديث، وتتعلَّق بالأسانيد، ويُقال: هذا إسناد عال، وهذا إسناد نازل. فالعالي هو الذي قلَّت رجاله، والنازل هو الذي كثرت رجال إسناده، وقلة الرجال مرغوب فيها عند المحدّثين فهم يحبون الحديث العالي دون النازل، وسبب ذلك: أن كثرة الوسائط سبب لكثرة الأوهام؛ لأنه إذا كان مثلاً بين الترمذي وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة، فاحتمال الخطأ من هؤلاء قليل، يعني محتمل أنهم أخطأوا ولكنه احتمال قليل بخلاف ما إذا كان بينه وبينه عشرة، فإنه قد يوجد أحاديث ينزل فيها الترمذي إلى عشرة، وقد يوجد أربعة، فيسمى القليل عالياً، فأقل ما بين الترمذي وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة، ويسمى الآخر نازلاً إذا كان الإسناد سبعة أو أكثر، وسبب ذلك أن بعضهم يروي عن بعض، وهم متقاربون، يروي عن بعض، وهم متقاربون، يروي التابعي عن تابعي عن تابعي إلى أربعة أو خمسة أو ستة بعضهم عن بعض، وكلهم متقاربون، وتكثر الوسائط، فلأجل ذلك قالوا: إن العالي أصح، وأقوى، وأقرب إلى الثقة بهم، وقد كانوا يحرصون على العلو، فكثيراً ما توجد الأحاديث عند الشيخ في بلاده نازلة، فيسافر مسيرة شهر أو أكثر، لأجل أن يحصل عليه بإسناد أقل لأنه يسقط عنه رجل.

فمثلاً: الإمام أحمد يروي عن عبد الله بن عمر أحاديث ليس بينه وبينه إلا اثنان، يرويها مثلاً عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ لأن ابن عمر طال عمره إلى أن توفي في حدود سنة 74هـ وتتلمذ عليه عبد الله بن دينار في آخر حياته وحفظ منه علماً، وطالت حياة عبد الله بن دينار فمات سنة 127هـ، فأدركه بعض مشايخ أحمد كسفيان بن عيينة وإسماعيل بن جعفر ونحوهما، فرووا عنه فتكون أحاديثه ثلاثية حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، وكذلك أحاديث أنس حيث أدركه الزهري، وإن كان الزهري لم يُعمرْ أي ما طالت حياته، ولكن أنسا عُمر حتى توفي سنة 93، وعاش بعده الزهري ثلاثاً وثلاثين سنة126وتوفي سنة 5 والإمام أحمد يروي عن ابن عيينة ويقول: حدثنا ابن عيينة عن الزهري، عن أنس، فأحاديثه عنه ثلاثية.

كذلك البخاري عنده الأحاديث الثلاثيات فليس بينه وبين الصحابي إلا اثنان، وبينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة، ومنها أحاديث عن أنس يرويها عنه تلميذه حُميد الطويل الذي عُمِّر فأدركه محمد بن عبد الله الأنصاري فالبخاري يقول: حدَّثنا محمد بن عبد الله عن حميد عن أنس فهذا إسنادٍ عال، وكذلك سلمة بن الأكوع عُمر يعني عمراً متوسطاً توفي سنة 74هـ، ولكن تلميذه ومولاه يزيد بن أبي عبيد عُمر بعده فأدركه مشايخ البخاري فصار يروي عن سلمة أحاديث ثلاثية، فيقول: حدّثنا مكي بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، فهذا حديث عال، فإذا كثرت الرجال فإنه يسمى نازلاً، فقد تجد بين البخاري وبين الرسول صلى الله عليه وسلم سبعة أحياناً، ويكون ذلك لأن بعضهم يروي عن بعض، وهم متقاربون فيقول مثلاً: حدّثنا عمر بن حفص، حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود فهذا بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ستة، وقد يحدث عن بُندار عن غندر عن شعبة عن الأعمش فهذا إسناد فيه نوع من النزول بالنسبة إلى الثلاثي، هذه هي الأحاديث العالية والنازلة، ورغبتهم في الأحاديث العالية لقلة الوسائط وقلة الرجال، فقد يسافرون -كما ذكرنا- لأجل سقوط رجل أو رجلين.

فالإمام أحمد توجد عنده أحاديث في بغداد نازلة، ولكنها توجد عند بعض المشايخ عالية مثل عبد الرزاق، فسافر أحمد من بغداد إلى صنعاء لأجل أن يسمع منه أحاديث هي موجودة عنده في بغداد، لكنها نازلة، فأراد أن يأخذها عن عبد الرزاق لتكون عالية، فقد يكون بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ستة فإذا أخذها عن عبد الرزاق ارتفع إلى خسمة أو أربعة فقد يقول: حدّثنا عبد الرزاق: حدَّثنا معمر عن الزهري عن أنس فهؤلاء أربعة أو يقول عبد الرزاق: حدّثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس فهؤلاء خمسة فالرغبة في علو الإسناد لأجل قلة الوسائط التي يحصل بسببها قلة الأوهام. فأنت مثلاً إذا سمعت حادثاً حدث كمرض أو موت فسمعته من واحد شاهده وقال لك: شاهدت فلاناً مريضاً أو شاهدت فلاناً عندما توفي، أو شاهدت البيت الفلاني وقد احترق أو قد انهدم، جزمت به، لأنه ليس بينك وبين هذا الحادث إلا واحد شاهده، لكن لو أن هذا الواحد الذي شاهده نقله لك عن خمسة قال مثلاً: أنا ما شاهدته، ولكن أخبرني فلان وهو ما شاهده ولكن أخبره فلان وهو أيضا ما شاهده وإنما أخبره فلان ولم يشاهده أيضاً وأخبره فلان الخامس الذي شاهده، فكثرة الوسائط قد تُوقع الشك في هذا الحادث هل هو صحيح واقعي أم لا؟ لأن أحدهم قد يكون قاله مازحاً غير مُجدّ في قوله، وقد يكون مخطئاً على بعضهم، وقد يكون بعضهم قال: نقله لي فلان وهو مخطئ، وقد يكون بعضهم لا يعرف هذا الذي حدَّثه، إنما قال: يمكن أنه فلان، وليس جزماً، فلأجل ذلك كثرة الوسائط يحصل بها وَهم وخطأ غالباً، فهذا هو السبب في أن قلة الرجال أقوى. حكم الإسناد العالي والنازل:

ثم إن الحكم على السند بالنظر إلى الرجال، لا نحكم على السند عالياً أو نازلاً إلاَّ بعد النظر في رجاله، وقد يكون العالي رجاله ضعفاء، ويكون الإسناد النازل رجاله أقوياء، وقد يكون الإسناد العالي أضعف من النازل، رغم أن هذا عال ولكن في رجاله ضعف وهذا عال ورجاله ثقات، فلا تساوى بينهما. وَمَا أَضَفْتهُ إلى الأَصْحاَبِ مِنْ ... ... ... قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَهْوَ موقوفٌ زُكِنْ وَمُرْسلٌ مِنهُ الصّحَابيُّ سَقَطْ ... ... ... وقل غريبُ ما روى راوٍ فقطْ وَكُلًّ مَاَ لَمْ يَتَّصِلْ بِحَالِ ... ... ... إسنادُهُ مُنْقطِع الأَوصَال هذا تعريف الموقوف، والمرسل، والغريب، والمنقطع، وهي بعضها من مباحث الإسناد كالمرسل والمنقطع، وبعضها من مباحث المتن كالغريب والموقوف. الحديث الموقوف: (والموقوف) هو ما وقف على الصحابي، فإذا وقف الإسناد إلى الصحابي ولم يتجاوزه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو موقوف أي هو من كلام الصحابة، ويكثر هذا في الكتب التي تعني بكتابة الآثار، كمصنف ابن أبي شيبة، وسنن الدارمي، ومصنف عبد الرزاق، وسنن سعيد بن منصور، يذكرون فيها أشياء كثيرة من الموقوفات على الصحابة، ومن الموقوفات على التابعين، فكل ما أضيف إلى الصحاب يعني الصحابة فهنا عبَّر بالصحاب عن الصحابة يُقال لهم: أصحاب وصحب وصحابة وصحاب، وسواء كان ذلك المروي من قولهم أو من فعلهم، كفعل أحدهم أمراً من الأمور، يُقال: فعل عثمان كذا فهذا موقوف، أو قال عمر كذا وكذا فهذا موقوف. (زُكِن) يعني عُرِفَ وحققَ أنّ هذا هو الموقوف حقاً، وكثيراً ما تكون الموقوفات في كتب المتقدمين كالدارمي وعبد الرزاق ومالك، ثم يخطئ فيها كثير من المتأخرين فيرفعونها، وكثيراً ما يقول الترمذي وغيره هذا الحديث موقوف، رفعه فلان فأخطأ فيه، أو غلط فرواه مرفوعاً، والصحيح أنه موقوف على عائشة، أو موقوف على ابن عباس أو نحو ذلك.

وقد ذكرنا سابقاً أن الموقوف قد يكون له حكم المرفوع، فيما إذا كان ذلك الصحابي لا يأخذ عن الإسرائيليات، وكان كلامه لا يُقال مثله بالرأي، فإذا تكلم بكلام من أُمور الآخرة حُمِلَ على أنه تلقَّاه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مثلاً أخبر بثواب، فإنه محمول على أنه مرفوع حكماً لا لفظاً، هذا هو الموقوف. الحديث المرسل: وبعده قال: (ومرسل منه الصحابي سقط..............) المرسل: ما رفعه التابعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والتابعي هو الذي لقي الصحابة، فإذا قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال عطاء بن أبي رباح: قال النبي صلى الله عليه وسلم فهو المرسل، وقوله: (منه الصحابي سقط) . أي في الظاهر، ولكن لو تحققنا أنه لم يسقط منه إلا الصحابي لقبلناه؛ لأن الصحابة عدول، لكن نخشى أن يكون سقط قبل الصحابي تابعي ضعيف، فلأجل ذلك يكون المرسل ضعيفاً، والتعبير السليم أن يقال: إن المرسل ما رفعه التابعي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبب رده الجهل بالساقط؛ لأنا لا ندري هل هو صحابي فنقبله أو هو تابعي، فإن كان تابعياً فقد يكون ضعيفاً، وإن كان ثقة فلا ندري هل أخذه من صحابي فيقبل، أو أخذه من تابعي آخر، فإذا أخذه من تابعي آخر فقد يكون ضعيفاً فيرد، وإذا كان قويّاً فهل أخذه من صحابي أو من تابعي ثالث، فقد يأخذ بعض التابعين من بعض إلى ثلاثة أو أربعة، فلأجل احتمال أنه أخذه عن تابعي ضعيف يتوقف في قبول المرسل. ويستثنى من ذلك مراسيل سعيد بن المسيب قالوا: لأنها تُتُبِّعَتْ فوجدت مسانيد، فهو لا يرسل إلا عن ثقة، أو عن صحابي، وكذلك إذا تحقق أن هذا المرسل قد أرسله ذلك التابعي عن جَمْعٍ من الصحابة؛ لأن التابعي قد يسمع الحديث من عشرة من الصحابة، فيجزم به، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم فهنا إذا يقبل. الحديث الغريب:

قوله: (............ وقل غريب ما روى راوٍ فقط) هذا تعريف الحديث الغريب، بأنه ما ليس له إلا إسناد واحد، وأكثر من يستعمله الترمذي في جامعه حيث يقول: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث فلان، أو من رواية فلان، فإذا رواه مثلاً عن الصحابي تابعي، وعن التابعي تابعي آخر، وعنه تابعي ثالث، ثم رابع، ثم آخر، وهؤلاء انفردوا به لم يتابعهم أحد فنسمي هذا حديثاً غريباً، وقد يشتهر بعد ذلك كحديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات) فإنه غريب في أوله ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا رواه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا رواه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن التيمي إلا يحيى الأنصاري، فهو غريب في أوله، ثم اشتهر عن يحيى، فأصبح متواتراً في آخره. ومن أمثلة الغريب حديث أبي هريرة: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) فإنه ما رواه إلا أبو هريرة، ولا رواه عن أبي هريرة إلا الأعرج، ولم يروه عنه إلا أبو الزناد، ولا رواه عن أبي الزناد، إلا محمد بن عبد الله بن الحسن، ولا رواه عن ابن الحسن إلا الدراوردي، فيكون هذا حديثاً غريباً وإن كان قد رُوي من طرق أخرى بغير هذا اللفظ، والغرابة تدل على ضعف الحديث، فيقولون في تعبيراتهم: لا يأتيك بالغريب إلا الغريب، ويقال: فلان يأتي بالغرائب، فلان أحاديثه غريبة أي يأتي بأحاديث ما رواها غيره، فانفراده يدل على ضعفه وضعف روايته، هذا هو الغريب أي ما ليس له إلا إسناد واحد. الحديث المنقطع: وقوله: (وكلُّ ما لَم يتَّصِل بِحَال إسناده منقطعُ الأوصال) هذا تعريف المنقطع، وقد ذكرنا أن الإسناد إما أن يكون فيه انقطاع في أوله وهو المعلق، أو من آخره وهو المرسل، أو من وسطه فإن كان باثنين متواليين فهو المعضل، وإن كان باثنين غير متواليين فالمنقطع، وكذلك إن كان الساقط واحداً فهو المنقطع.

كيف يعرف الانقطاع في الإسناد: وكيفَ تَعرِفُ الانقطاع؟ تعرفه بالرواة عن هذا الشيخ، تقول مثلاً: هذا الشيخ لم يرو عنه إلا فلان وفلان، فإذا وجدت إنساناً لم يُذكر في تلامذته عرفت أنه لم يرو عنه، فإنك كثيراً ما تجد في تراجم الرواة إحصاء تلاميذ الشيخ وإحصاء مشايخه كما في كتاب: (تهذيب الكمال في أسماء الرجال) للمزي. إذا قال مثلاً: إسرائيل بن أبي إسحاق السبيعي، روى عن فلان وفلان وفلان وفلان، فيحصي مشايخه الذين روى عنهم ثم يقول وروى عنه فلان وفلان وفلان، فيحصي تلاميذه الذين رووا عنه، ولو زادوا على المائة أو على المائتين، فأنت إذا رأيت شخصاً قد روى عن إسرائيل، فانظر هل ذكره صاحب تهذيب الكمال، فإذا لم يذكره، ولم يذكره غيره دلَّ على أنه ليس من تلاميذه، وأنه ما أدركه، أو أنه روى عنه بواسطة فأسقط تلك الواسطة، فيكون الإسناد منقطعاً. فالإسناد المنقطع هو الذي فيه سقط، وقد يعرف السقط بعدم المعاصرة، وذلك يحتاج إلى معرفة المواليد والوفيات، فإذا رأيت مثلاً وكيع بن الجراح الذي وُلِدَ قبل موت الزهري بسنة أو سنتين عرفت أنه ما روى عنه أي كيف يروي عنه وهو ابن سنة أو سنتين يعني أن هذا ولادته في سنة كذا، وهذا وفاته في سنة كذا وبينهما سنة أو سنتان فلان يمكن أن يروي عنه، وهكذا بعض المحدثين قد يروي عن شخص بواسطة ويسقط من روى عنه، ويقع ذلك كثيراً في أولاد بعض الصحابة الذين ما أدركوا آباءهم ورووا عنهم كأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود روايته عن أبيه منقطعة؛ لأنه مات وهو صغير فما عقله، ومع ذلك روى عنه كثيراً، ولكن روايته محمولة على أنه أخذها عن أهل بيته أو عن تلامذة أبيه، فتكون منقطعة، فالمنقطع هو: ما سقط فيه راوٍ أو أكثر مع عدم التوالي، هذا من حيث الاصطلاح، وإلا فهو يعم كل ما لم يتصل، على ظاهر النظم. وَالمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْه اثنَانِ ... ... ... وَما أَتى مُدَلَّساً نوعَانِ

الحديث المعضل: قوله: (والمعضَلُ الساقطُ منه اثنانِ.............) الإعضال في اللغة: والإعضال هو العيب الكبير، هذا في اللغة: أعضله يعني عاقه عن السير، وقطعه قطعاً كلياً، فهناك مثلاً المنقطع عن القوم، إما أن يسير خلفهم سيراً متوسطاً وهم مسرعون، فهذا يسمى منقطعاً عن القوم، وإما أن يكون سيره بطيئاً وسيرهم سريعاً، فهذا قد أعضل عن القوم، ولحاقه بهم متعذِّر، فالمعضل سمي بذلك لزيادة انقطاعه. المعضل اصطلاحاً: والمعضل من مباحث الإسناد وعرَّفه بأنه الساقط منه اثنان، ولابد أن يكونا متواليين، فمتى سقط منه راويان متواليان فهو المعضل، فإن كانا متفرقين فإنه المنقطع. كيف يعرف الإعضال في الإسناد: ويُعرف السقط منه بمجيئه من طريق أُخرى، وقد يكون السقط غير ظاهر، حيث يكون بعض الرواة قد لقي بعضاً، فمثلاً الإمام سفيان بن عيينة قد لقي الزهري وحدَّث عنه، ولكنه تارة يحدِّث عنه بواسطة رجل، وتارة يحدث عنه بواسطة اثنين، فإذا روى ابن عيينة عن الزهري حديثاً لم يسمعه منه ولا ممن سمعه منه، لكن بواسطتين فحذف الواسطتين فهو حديث معضل، مع أن ظاهره الاتصال. كذلك قد يكون المسقط لا يتفطن للانقطاع الظاهر، فيروي عمن لم يسمع منه ما لم يسمع، فمثلاً يروي بكير بن الأشج عن قتادة وهو لم يسمع منه؛ لكونه مات كهلاً، وقد يكون بينه وبينه اثنان فيسمى معضلاً، ومثلا يروي هشيم بن بشير عن ابن إسحاق وهو لم يسمع منه، وكذلك قد يروي عبيد الله بن معاذ العنبري عن هشام بن عروة بن الزبير ما لم يسمع منه؛ بل قد يروي عنه بواسطتين، ويسقط الواسطتين، فيسمى هذا معضلاً، فالمعضل الساقط منه اثنان على التوالي. الحديث المدلس: قوله (وما أتى مدلسا نوعان) التدليس لغة: إخفاء العيب، وقد ذكروه في البيوع، وأنه من أقسام الخيار هو التدليس، الذي هو ستر العيب.

ومثلوا له: بأن يكون في السلعة عيب ويستره البائع، والمشتري لا يدري عنه، كالمُصرَّاة وهي: الناقة أو البقرة أو الشاة التي يُجمع لبنها في ضرعها أياماً، إذا رآها المشتري اعتقد أنها كثيرة اللبن، وإنما هو مجموع، فهذا تدليس، فالدابة مُدلسة، وكذلك الجارية عندما تُباع إذا كانت قد ابيض شعرها من الكبر فسوده ليوهم أنها شابة، وقد تكون شمطاء، وقد تكون عجوزاً، فيعتقد المشتري أنها شابة؛ لأن شعرها أسود فهذا تدليس. تعريف التدليس: والحاصل أن التدليس هو الإخفاء أي إخفاء العيب ونحوه، وهو غش في العين، فالتدليس في الإسناد هو إخفاء السقط، بأن يسقط في الإسناد رجلاً ويخفيه، بحيث إذا سمع أو قرأ المحدث هذا السند لم يتفطن للساقط، ويُعدُّ التدليس عيباً كبيراً في الراوي، لكن قد يُتسامح في بعضهم، يعني أن بعض الرواة قد يدلس، ولكن يُعتذر عنه أنه لا يدلس إلا عن ثقة، أو أنه يدلس لعذر عدم التذكر، يعني قد يكون نسي شيخه الذي حدث عنه، فحينئذ يحدث عن شيخه الذي فوقه، وعلى كل حال فالتدليس عيب، وقد ذمه كثير من العلماء، ومنهم شعبة بن الحجاج الذي يُقال له: أمير المؤمنين في الحديث فإنه روي عنه أنه قال: لأن أزني أحب إليَّ من أن أُدلِّس. الأَولُ الإِسْقَاطُ للشيخ وأَنْ ... ... ... ينقلَ عمَّن فوْقهُ بعَن وأَن ْ أمثلة للمدلِّسين: ومن المشتهرين بالتدليس ابن إسحاق صاحب السيرة، فكثيراً ما يسقط شيخه، ويروي عن شيخ شيخه بعن أو بأن، ومن المشهورين بالتدليس: الكلبي، وعطية العوفي، وهناك مدلسون ولكنهم ثقات، منهم أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدرُس، والأعمش سليمان بن مهران، وقتادة بن دعامة، ولكن في الغالب أنهم لا يدلسون إلا عن ثقات، فلا يحذفون من الإسناد إلا شخصاً موثوقاً ومجزوماً به؛ فلأجل ذلك تقبل رواياتهم عن أكابر مشايخهم وإن اشتهر عنهم التدليس. تدليس الإسناد:

والتدليس الذي يستعملونه أن يسقط أحدهم شيخه، ويروي عن شيخ شيخه بعن أو بأن، كأن يقول مثلاً: عن الزهري قال: حدثني سالم عن أبيه، أو عن الزهري عن سالم عن أبيه، فلا يقول: حدَّثني الزهري؛ لأنه ما حدَّثه به فلا يتجرأ على الكذب، إنما يقول عن الزهري، أو يسقط مثلاً شيخه، ويقول: إن هشيماً قال: حدَّثنا فلان. وإن عاصم بن عمر قال. فالحاصل أن المدلس تارة يأتي بكلمة (أنه قال) وتارة يأتي بكلمة (عن) ويسقط شيخه الذي سمع منه الحديث. والثّانِ لا يُسقطهُ لكن يَصِفْ ... ... ... أوصافهُ بما بِه لا يَنْعَرِف تدليس التسوية: وهناك تدليس شر منه، ويُقال له: (تدليس التسوية) وهو: أنه لا يسقط شيخه؛ ولكن يسقط شيخ شيخه، لأن شيخه ليس بمدلس، فيسقط شيخ شيخه، ويركب الإسناد برجال كلهم ثقات، فهذا تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس، واشتهر به اثنان من الرواة، أحدهما (بقية بن الوليد) وثانيهما (الوليد بن مسلم) اشتهرا بتدليس التسوية، وقد ذكروا أن الوليد بن مسلم قالوا له مرة: إنك تروي الحديث عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن الزهري، وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، وغيرك يدخل بينه وبين نافع عبد الله بن عامر، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة وغيرهما، فما يحملك على هذا؟ قال: أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء إلخ أي: أكرمه أن يروي عن هؤلاء لكنه سبب تفرد الأوزاعي؟ بهذه الأحاديث الضعاف التي تفرد بها عنه الوليد بن مسلم عن أولئك الثقات مشايخ الأوزاعي يطعن في الأوزاعي.

فقالوا له: إنك إذا جعلت هذا الإسناد مركباً كذلك حصل الطعن على الأوزاعي؟ كيف أن هذا الإمام يروي هذه الأحاديث الضعيفة فتكون من أفراد الأوزاعي لا من أفراد عبد الله بن عامر أو إبراهيم بن مرة أو شهر بن حوشب الذين هم ضعفاء فيصير الطعن على الأوزاعي فيقال: الأوزاعي أتى بالمنكرات والمعضلات، فتكون أنت السبب حيث إنك أسقطت الضعفاء، ولكنه لم يبالِ بكلام من نصحه، هذا هو الوليد بن مسلم المشهور بتدليس التسوية مع عدالته وثقته وحفظه. ومثله (بقية بن الوليد) فهو مشهور أيضاً بتدليس التسوية، وفيه يقول بعض العلماء: أحاديث بقية، ليست نقية، فكن منها على تقيّة. أي على حذر، وقد تجده مصرحاً بالتحديث بأن يقول: حدَّثنا بقية بن الوليد، حدَّثنا هشيم، عن الزهري ولكن لا ينفعه تصريحه بالتحديث؛ لأنه يسقط شيخ هشيم الذي بينه وبين الزهري ويسقط شيخ الأعمش فيحدث عن الأعمش عن ثقات، وهكذا. فالحاصل أن تدليس التسوية هو شر أنواع التدليس والسبب: (أولا ً) : أن الناس ينخدعون به إذا رأوه قد صرَّح بالتحديث، فإذا قالوا: فيه بقية بن الوليد وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث، فيقبلون حديثه وما فهموا أنه لم يسقط شيخه، وإنما أسقط شيخ شيخه.

(ثانيا) : أن شيخه الذي حدَّث عنه - حيث قال: حدَّثنا شعبة، أو قال: حدَّثنا سفيان - ليس من أهل التدليس، فإذا رأيناه روى عن قتادة، قلنا: هذا الإسناد ثابت ولو بكلمة (عن) بأن قال: حدَّثنا شعبة عن قتادة، فقد يكون بينهما يزيد بن أبي زياد، أو ليث أبن أبي سليم، أو عوف الأعرابي، أو غيرهم ممن فيه ضعف، فأسقطه بقية بن الوليد مع أن شعبة ليس من أهل التدليس، بل يذمُّ التدليس، فلو رآه الباحث قال: هذا إسناد مقبول، هذا إسناد ثابت، صرح فيه بقية بن الوليد بالتحديث قال: حدَّثنا شبعة، وشعبة ليس من المدلَّسين، وقد رواه عن قتادة، فيصير شر أنواع التدليس؛ لأن شيخه ليس من أهل التدليس، وقد رواه بالعنعنة عن قتادة ولم يتجرأ أن يقول فيه: حدَّثنا قتادة. وشعبة ما قال حدَّثنا قتادة، فإنَّ شعبة كثيراً ما يقول: عن قتادة ولا يدل أن بينه وبينه واسطة، وإنما للاختصار مثلاً. تدليس الشيوخ: وهناك تدليس آخر وهو الذي أشار إليه الناظم، وهو أن يوصف الشيخ بما لا يتميز به بأن يكني المسمى، أو يسمي المكني أو يذكره باسم غير مشهور به، أو ما أشبه ذلك، فغالباً ما يفعل ذلك المدلسون إذا رووا عن إنسان مشهور بالضعف، لم يصرحوا باسمه ليقبل حديثه، فمثلاً هناك عبد الله بن المسور الهاشمي مشهور بالضعف، بل بوضع الحديث، كان يضع أحاديث كلام حق ليست من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيركب لها إسناداً، ويجعلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيروي عنه أناس، ولا يذكرونه باسمه أي لا يصرّحون به فيقول أحدهم: حدَّثنا الهاشمي، أو حدَّثنا عبيد الله الهاشمي، أو يُكَنُّونُه بأن يقولوا: حدَّثنا أبو هاشم، أو ما أشبه ذلك فالذي يرى الحديث قد يقول: هذا حديث رجاله مستورون، وإنَّما يتفطن لهذا أهل المعرفة بالحديث، إذ الرجل لم يكن اسمه واضحاً مشهوراً بالضعف أو بالكذب.

ومثله تلاميذ الكلبي، يدلسون اسمه أيضاً، فالكلبي اسمه محمد بن السائب بن بشر الكلبي، وكنيته أبو سعيد، وليس مشهوراً بالكنية، فيروي عنه بعضهم ويقول: عن أبي سعيد، ويسمعه إنسان فيتبادر إلى فهمه أنه الخدري الصحابي الجليل، مع أنه الكلبي، والكلبي كذاب، كذلك قد يسقط بعضهم أباه فيقول: حدَّثنا محمد بن بشر وهو ليس مشهوراً بذلك بل مشهور باسمه محمد بن السائب بن بشر، ومشهور بالكلبي، فإذا قال محمد بن بشر وأسقط السائب توَهم البعض أنه غيره فقبلوا حديثه. هذا هو التدليس في الشيوخ بحيث إنه لا يميز شيخه، ولا يذكره بالوصف الذي يعرف به، كذلك لو لم يذكره إلا بالاسم العَلَم، كأن يقول: حدَّثنا إسحاق، وهناك عشرة مشايخ اسم كل منهم إسحاق، وفيهم ضعيف، وفيهم ثقة، وفيهم متوسط، فسكت ولم يميز، فإنَّ هذا تدليس أيضاً. (فتدليس الإسناد) -وهو الأكثر- يعني: أن يسقط الراوي شيخه ويحدَّث عن شيخ شيخه بعن أو بأن. (وتدليس التسوية) يعني: أن يسقط الراوي شيخ شيخه، ويجعله عن شيخه، عن الشيخ الثالث. (وتدليس الشيوخ) : بأن يصف شيخه بما لا يتميز به أي بصفة لا يعرف بها حقاَّ أنه فلان. وكلها تعد طعناً في الراوي متى عُرِفَ أن هذا الراوي تعمد هذا التدليس. متى يقبل حديث المدلس؟: وإذا قيل: متى يقبل حديث المدلس؟ فالجواب: يقبل إذا صرَّح بالتحديث، فإذا قال: (حدَّثنا) فإنه يقبل حديثه؛ لأنه لا يتجرأ على الكذب في مثل هذا، بل يتحاشى أن يكذب بأن يقول: (حدثنا) وهو ما حدَّثه، فكلمة (حدَّثنا) و (أخبرنا) و (سمعت) صريحة بأنه تلقاه عنه، بخلاف كلمة (عن) و (أن) و (قال) فإنَّها محتملة أنه سمعه منه أو لم يسمعه منه، فهذا هو التدليس المشهور. بواعث التدليس:

وقد يكون قصده قصداً مناسباً، وقد يكون قصده تكثير مشايخه، كما ذكروا ذلك عن الطبراني صاحب المعاجم التي رتبها على مشايخه، ليعرف بذلك كثرة مشايخه الذين حدَّث عنهم، فهو يروي عن شيخه الذي اسمه أحمد حديثاً أو أكثر ثم عن شيخ له آخر اسمه أحمد بن فلان حديثاً أو أكثر إلى أن يكمل من اسمهم أحمد، وقد يذكر أحدهم باسميه مثلاً، أوله كنية فيذكره مع الأسماء ومع الكنى، حتى يُقال: إنه حدَّث عن ألف شيخ، أو عن خمسة آلاف أو ما أشبه ذلك. فإذا لم يتميز ولم يُعرف يكون هذا الشيخ مجهولاً فيرد حديثه وترد روايته. فإن قيل: ما حكم القراءة من كتاب بصيغة: روى الترمذي. ويُذكر الحديث بدون إسناد، هل هذا تدليس؟ قلنا: إذا قال: رواه الترمذي، فقد عزاه إلى من أسنده فصاحب (رياض الصالحين) يقول: رواه الترمذي ولا يُقال هذا تدليس. ضابط التدليس: إذاً ما ضابط التدليس؟ لو وصل إليك حديث بالإسناد، بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ثلاثون راوياً، يعني سمعت هذا الحديث عن شيخك فلان وسمعه شيخك عن شيخه فلان، إلى أن وصل إلى الصحابي وبينك وبينه ثلاثون راوياً ترويه بالأسانيد، فأنت إذا أسقطت شيخك الذي سمعته منه، ورويته عن شيخ قد لقيته، ولكن ما سمعت منه هذا الحديث فقد صرت مُدّلساً لهذا الحديث تدلس الإسناد، فإذا لم تسقط شيخك الأول ولكن أسقطت شيخ أحد المشايخ الذين فوقك وقد لقيه ذلك الشيخ لكنه هنا رُوي بواسطة فأسقطت الواسطة فإن هذا تدليس تسوية، فأما روايتك من كتاب قد دُوِّن وطبُع واشتهر فإنه يجوز لك أن تعزو إليه وتسقط الإسناد. والمدلس لا يلزم إطراح كل رواياته، بل إذا تحققنا أن هذا الحديث ثابت من طرق أخرى اعتبرنا روايته له كشاهد ومقوِّ، أما إذا تفرد بالحديث فإنه لا يقبل. الفرق بين التدليس والمرسل الخفي: فإن قيل: ما الفرق بين التدليس والمرسل الخفي؟

قلنا: بينهما فرق ظاهر ذكره ابن الصلاح في علوم الحديث؟ لأن المرسل الخفي هو: أن يروي الراوي حديثاً عن شيخ لم يسمع منه وقد عاصره. وأما المُدَلِّس فيروي عن شيخه الذي سمع منه أحاديث. حديثاً ما سمعه منه. المرسل الخفي: (فالمرسل الخفي) أن يروي عمن في زمانه ومن عاصره شيئاً لم يسمعه منه، والمدلس أن يروي عن شيخه ما لم يسمعه منه. نقول مثلاً: أنت أدركت من المشايخ في هذه البلاد الشيخ عبد الله بن حميد، وعاصرت الشيخ عبد الله بن عدوان، ولكنك لم ترو عنه، فتحديثك وروايتك عن ابن حميد حديثاً ما سمعته منه يسمى تدليساً لأنك رويت عنه وجلست عنده، أو سمعت كلامه في الحرم أو في الرياض، فرويت عنه شيئاً لم تسمعه منه، فهذا تدليس، أما روايتك عن ابن عدوان فتسمى مرسلاً خفياً، لأن زملاءك هؤلاء قد يقولون: يمكن أنه سمع منه لأنه عاصره؛ ولأنه في بلاده، ولكنك ما سمعت منه؛ لأنه توفي من زمن قديم سنة (1374هـ) فتحقق أنك لم ترو عنه، فنقول: إن هذا مرسل خفي. فالتدليس بأنواعه مذموم؛ لأنه حديث مروي عنهم فعليه أن يبين رجال الحديث الذي نقله عنهم، ليُرجع إلى تراجمهم، ويُبحث في الحديث، ليحكم بعد ذلك بأنه صحيح أو غير صحيح. إِبدالُ رَاوٍ مّا بِرَاوٍ قِسْمُ ... ... ... وقَلْبْ إِسْنَاد لِمتنٍ قِسْمُ الحديث المقلوب: قوله: (إبدال راو ما براو قسم وقلب إسناد لمتن قسم)

(المقلوب) والقلب يكون تارة في الإسناد، وتارة في المتن، وتارة يكون في المتن والإسناد، فالإسناد كأن يُبدل راوياً براو إذا كان بينهما تقارب في اللفظ، كأن يُبدل عاصماً الأحوال بواصل الأحدب لتقاربهما في اللفظ والسمع، مع اختلافهما، أو يبدل يحيى بن بكير بيحيى بن أبي بُكير وكلاهما من الرُّواة، فالأول هو يحيى بن عبد الله بن بكير يروي عنه البخاري كثيراً فيقول: حدَّثنا يحيى ابن بكير، وأما الثاني فروى عنه ابن أبي شيبة وغيره وهو من رجال الصحيحين، فإبدال راوٍ براوٍ يُسمى قلباً، يُقال: انقلب هذا الحديث على فلان، فجعله عن شيخه فلان وقد أخطأ. أنواع القلب: وقد يكون قلب الإسناد بإبدال راوٍ ثقة براوٍ ضعيف أو بالعكس، ولا شك أنه إن كان الأصل أنه ضعيف وانقلب براوٍ ثقة، فإنه يعد مردوداً، فكثيراً ما يروى حديث عن عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، فينقلب على بعضهم بعبيد الله بن عمر هو أخوه الثقة، ويقال: هذا الحديث انقلب على الدراوردي مثلاً، أو انقلب على غيره من عبد الله إلى عبيد الله العمري، وهذا طعن في الحديث. ومن أنواع الانقلاب: أن يحول متن إلى إسناد حديث آخر أو بالعكس، وقد يكون عمداً كما وقع لجماعة من أهل بغداد، لما قدِم عليهم البخاري قلبوا له أسانيد مائة حديث، جعلوا إسناد هذا لمتن هذا وإسناد هذا لمتن هذا، وأعطوها عشرة أشخاص، لكل شخص عشرة أحاديث، وقالوا له: إذا اجتمعوا عنده فاسأله عن عشرتك، ففعل الأول وكلما حدَّثه بحديث قال: لا أعرفه. حتى تم عشرته، وجاء الثاني وهكذا حدّثه بالعشرة، وقال: لا أعرفها، فأما عوام الناس فقالوا: إنّه غير حافظ، كيف مر عليه مائة حديث وهو لا يعرفها، وأما أهل العلم الذين عملوا هذه الحيلة فإنهم عرفوا أنه قد فطِن.

ولما أكمل العشرة أحاديثهم رجع إلى أولهم، وقال: حديثك الأول حدَّثناه فلان عن فلان عن فلان، وحديثك الثاني والثالث إلى أن تمم عشرته، وهكذا حتى أتمهم، فردّ الأسانيد إلى متونها والمتون إلى أسانيدها، فاعترفوا له بالفضل، وهذا يسمى قلب إسناد إلى متن للاختبار. وقد يكون القلب في نفس المتن، بأن تنقلب كلمة بدل كلمةٍ على بعض الرواة، مثاله حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، وفيه: (ور جلٌ تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) انقلب على بعض الرواة فقال: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. وهذا انقلاب في المتن. ومثله حديث في الشفاعة، وفيه: (أن النار يبقى فيها فضل، ويبقى في الجنة فضل، قال: فأما النار فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فيها) وهذا انقلاب، والصواب أنه ينشئ للجنة، وتأبى حكمته أنه ينشئ للنار خلقاً ما عملوا أعمالاً سيئة فيدخلهم النار بلا ذنب، أما الجنة فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم في ما فيها من الفضل. والحاصل أن هذا يسمى انقلاباً في المتن وذكر ابن القيم أيضاً له مثالاً وقال: إنه انقلب على بعض الرواة، وهو حديث أبي هريرة الذي يقول فيه: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) وقال: إن آخره يخالف أوله، فإن البعير يقدم يديه في البروك قبل رجليه، وأنكر أن ثفنات اليدين تسمى ركباً، بل الركبة دائماً في الرجل وقال: لعله انقلب على بعض الرواة وأن صوابه وليضع ركبتيه قبل يديه، وذكر أنه كذلك وقع عند ابن أبي شيبة في المصنف: (إذا سجد أحدكم فيضع ركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل) ولو كان سنده ضعيفاً لكنه وافق الأصل، فترجح بذلك أن الحديث منقلب على بعض الرواة كالدراوردي أو محمد بن عبد الله بن الحسن وكلاهما فيه مقال، يضرُّ مع التفرد والمخالفة.

وعلى كل حال فإن الانقلاب يُرجع فيه إلى أصل الحديث، فإذا خفت أن يكون هذا الحديث مما انقلب على بعض الرواة فارجع إلى أصل الحديث ثم اطرح الرواية المنقلبة، ويعد الانقلاب قدحاً في الرواية، ونقصاً في الحديث، لأنه خطأ وقع إما في المتن وإما في الإسناد. وَالفَرْدُ قيّدْتَهُ بِثقَةٍ ... ... ... أَوْ جمْعٍ أَ ْ قْصرٍ على رِوَاية الحديث الفرد: قوله: (والفرد ما قيدته بثقة أو جمع أو قصر على رواية) من مباحث أصول الحديث البحث في (الفرد) والبحث في (المعلول) . فالفرد هو: ما تفرد به شخص عن عالم من العلماء، ويقسمونه إلى قسمين، فرد نسبي، وفرد مطلق، فإن كان غريباً من أصل السند فإنه يسمى فرداً مطلقاً وإن تفرد به شخص في أثناء السند فإنَّه يسمى فرداً نسبياً، مثال الفرد المطلق إذا لم يروه إلا صحابي، ولم يروه عنه إلا واحد، ولم يروه عنه أيضاً إلى واحد، إلا أن انتهى إلى المؤلف، فإنه فرد مطلق، أي فرد مشتق من الواحد. ومثال الفرد النسبي أن يرويه مثلاً عن الزهري جماعة، ثم يتفرد به عن واحد منهم شخص واحد، فإذا رواه عن الزهري ابن أخيه محمد بن عبد الله، وعُقيل، ومعمر، ويونس، وسفيان، ونحوهم وتفرد به عن عُقيل شخص واحد فإنّه فرد نسبي، والغريب والفرد متقاربان، إلا أن أكثر ما يستعمل الغريب في الاسم، فيُقال: هذا حديث غريب. والفرد في الفعل يُقال: تفرد به فلان عن فلان، هذا حديث غريب تفرد به العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه مثلاً، لكن لما كان فيه هذا التقسيم خصه باسم، يعني أن التفرد قد يكون في السند كله فالسند كله فرد، يعني ما رواه مثلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة ولا رواه عن أبي هريرة إلا القارئ عبد الرحمن، ولا رواه عنه إلا ابنه العلاء، ولا رواه عن العلاء إلا إسماعيل بن جعفر فيقال: هذا حديث غريب، ويقال: حديث حديث فرد تفرد به إسماعيل، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة.

وَما بِعِلةٍ غُموضٍ أَوْ خفَا مُعَلَّلٌ عِندَهُمُ قَدْ عُرِفَا الحديث المعلَّل: قوله: (وما بعلة غموض أو خفا معلل عندهم قد عرفا) (المعلول) عندهم ما فيه علة خفية قادحة، والعلة هي ما يطعن به في الشيء ومنه سمي المرض علة، والعلة اسم للعيب والطعن في الشيء، يطعن في الحديث بطعن، ويكون ذلك الطعن علة، ولابد أن تكون العلة شيئاً خفياً، بحيث إن الذي لم يمارس الأسانيد ونحوها ينخدع بهذا الحديث فيقول: صحيح لا عيب فيه، فظاهره متصل فيحكم بقبوله لكن أهل الأسانيد والعلم بالأحاديث يعرفون صحته أو ضعفه، فيطلعون على عيب خفي يسمونه علة في هذا الحديث، سواء في إسناده أو في متنه، وقد ألَّفوا في ذلك مؤلفات، ولعلك قرأت (كتاب العلل) لابن المديني، مطبوع في نبذة متوسطة، تكلم فيها على علل الحديث، وكيف تُستنبط، وكيف تُعرف. وممن ألّف في علل الحديث ورتبها على الأبواب ابن أبي حاتم كما تقدم في أول الكلام، وكتابه مطبوع في مجلدين كبيرين، اسمه (علل الحديث) رتبه على أبواب الفقه، فكتابُ الطهارة ذكر فيه علل الأحاديث التي في الطهارة، وكتاب الصلاة وهكذا، وأوفى من ألف فيه الدارقطني فإنه استوفى جميع العلل التي في الأحاديث، حتى تكلم على الأحاديث التي في الصحيحين، وذكر أن في بعضها علل، وسرد الاختلاف والاضطراب الذي يطعن به، فتارة يذكر أن بعضهم أخطأ في الموقوف فرفعه وقد كان أصله موقوفا على صحابي فأخطأ بعضهم فرفعه، وتارة تكون العلة الوصل، فقد يكون أصله مرسلاً، فأخطأ بعضهم فوصله، وكذا المنقطع قد يصله بعضهم خطأ وهو منقطع، وهكذا، هذه أنواع العلل، وأمثلتها في تلك الكتب. وَذُو اخْتِلافِ سَندٍ أَوْ مَتنِ ... ... ... مُضطَرِبٌ عِنْدَ أُهيلِ الفَنِ الحديث المضطرب: قوله: (وذو اختلاف سند أو متن مضطرب عند أهيل الفن)

(المضطرب) هو الذي يقع فيه اختلاف في أَلفاظه، يقال: اضطرب الرواة في هذا الحديث، فرواه بعضهم كذا ورواه بعضهم كذا، ولم نستطع أن نرجح راوياً على راو، ويعد الاضطراب قادحاً في الحديث، مسبّباً اطِّرَاحه، ومثّلَ له ابن القيم بحديث أبي هريرة الذي في السنن والمسند في صفة الصلاة "إذا سجد أَحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" وقال: إن هذا حديث مضطرب، رواه بعضهم "وليضع يديه قبل ركبتيه" ورواه بعضهم بالعكس "إذا سجد أَحدكم فليضع ركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل" وبعضهم حذف الجملة كلها واقتصر على فلا يبرك كبروك الفحل ولم يذكر اليدين والرجلين، وبعضهم رواه: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه على ركبتيه" ولم يقل: قبل ركبتيه، وقال بعضهم: كالبعير يضع إلخ ذلك من الروايات، فجعل هذا اضطراباً يقدح به في الحديث. فالمضطرب ضعيف، حيث إننا لا ندري نأخذ بهذا أم بهذا أم بهذا، فيطرح الحديث فنقول: المضطرب هو: الذي يختلف فيه الرواة، فَيروُونه على وجوه مُحتَمِلة، فلا نرجح هذا على هذا، بل يُتَوَقَّفُ في قبوله كله، ويعدل إلى غيره، فإن كان أصل الحديث محفوظاً في الصحيحين مثلاً ثم حصل اضطراب فيما بعد في السند، أو في المتن، فإنه لا يضر، وأكثر ما يكون الاضطراب في السند، حيث يبدل راوٍ براو، ويوصل مرة ويقطع مرة، فيقال: هذا مضطرب السند، ولا يضر الاضطراب في الإسناد إن كان أصله محفوظاً، وحَدَثَ الاضطراب متأخراً. ثم قال الناظم رحمه الله: و (المُدرَجاتُ) في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلتْ وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أَخِهْ ... ... ... (مُدبَّجٌ) فاعرِفهُ حَقا وانتخِه مُتَّفِقٌ لفْظاً وَخَطّاً (مُتفِقْ) ... ... ... وضِدٌّهُ فيما ذَكرْنا (المفترِقْ)

(مُؤتَلفٌ) مُتّفقُ الخطِّ فقَطْ ... ... ... وضِدُّهُ (مختلِفُ) فَ اخْش الغلَطْ (والمُنكَرُ) الفرْدُ بهِ راوٍ غدا ... ... ... تعُدِيلُهُ لا يَحْمِلُ التَّفرًّدَا (مَترُوكُهُ) ما واحِدٌ بهِ انْفَرَدْ ... ... ... وأَجْمَعُوا لِضَعْفهِ فهْوَ كَرَدّ والكَذِبُ المُخْتَلَقُ المصْنُوعُ ... ... ... عَلَى النَّبيِّ فَذلِك (الموْضوعُ) وقد أتتْ كالجَوْهَرِ الكْنُونِ ... ... ... سمَّيتُها منظُومَةَ البَيْقُوني فوقَ الثلاثينَ بأَربَعٍ أَتت ... ... ... أَبياتُها ثُمَّ بخَيرٍ خُتِمَت في هذه الأبيات تعريفُ أنواع من المصطلح فمنها (المدرج ومنها (المدبج) ومنها (المتفق والمفترق) ومنها (المؤتلف والمختلف) ومنها (المنكر) ومنها (المتروك) ومنها (الموضوع) . وَالمُدرَجاتُ في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلتْ الحديث المدرج: فقوله (والمدرجات في الحديث ما أتت من بعض ألفاظ الرواة اتصلت) :

(المدرج) : هو ما أُضيف إلى الحديث من غيره، من كلام الرواة مما ليس بمرفوع، أُضيف للحديث، وجُعِل منه، وأُوهِم أَنه من الحديث، وليس منه، فيسمى مدرجاً، كأَنه أَدرجه في ضمن الحديث أحد الرواة، وقد يُعرَفُ المدرج بمجيئه من طريق أُخرى مصرَّحاً به، أو مجيء الحديث ناقصاً من طريق أُخرى ليست فيها تلك الزيادة، فيعرف أنه مدرج، أو كونه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حديث رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للعبد المملوكِ الصَّالحِ أجران) -والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبرٌّ أُمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك، فآخر الحديث يٌفهم منه أَنه ليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: وبر أُمي. فدلَّ على أَن هذا من كلام أبي هريرة، قال: لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي لأحببت أنني مملوك - فآخر الحديث يسمى مدرجاً، مضافاً إلى الحديث وليس منه. وكذلك إذا كان أيضاً فيه نقص، مثل حديث ابن مسعود (الطِّيَرَةُ شِرْك، الطِّيرَةُ شرك) - وما منا إلا.... ولكن الله يذهبه بالتوكُّل - فآخره مدرج وهو قوله: وما منَّا إِلاَّ.. إلخ فليس هو من الحديث؛ لأنه معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقع في شيء من الطيرة مع كونها شركاً، فدل على أنه مدرج من كلام الراوي.

وقد يكون الإدراج في آخر الحديث وهو الأغلب، كما في هذين المثالين، يعني: يتكلم الراوي بكلمة، فيفهمها أو يسمعها تلميذه فيعتقد أنها من ضمن الحديث فيرويها، وقد تكون في أول الحديث، مثاله حديث أبي هريرة: (أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار) فقوله: أسبغوا الوضوء. هذا من كلام أبي هريرة: (ويلٌ للأعقاب من النار) هذا هو المرفوع، حيث ذكروا أن أبا هريرة رأى أناساً يخففون الوضوء فقال: أسبغوا الوضوء (ويل للأعقاب من النار) سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فاعتقد أحدهم أن قول: سمعتُه عامٌ لقوله: أسبغوا الوضوء وما بعده فرواه كذلك، والصحيح أن المرفوع إنما هو آخره، وهو قوله: (ويل للأعقاب من النار) . ومثله حديث ابن عمر في سترة المصلي، وهو قوله: لا تُصل إلا إلى سُترة (ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله فإن معه القرين) قوله: لا تصل إلا إلى سترة، هذا على الصحيح مُدْرَجٌ، وإِنَّما المرفوع قوله: (لا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله، فإِنَّ معه القرين) هذا هو أصل الحديث، الذي اقتصر عليه المخرجون الأُول كمسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، لم يرووا إلا قوله: ( ... فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين) فقوله: لا تصل إلا إلى سترة، هذا مدرج ولو صححه الحاكم وغيره. والحاصل أن المدرج هو الذي يُجعلُ من ضمن الحديث وليس منه، بل من كلام الراوي، وأنه يتميز بجمع الطرق، ومعرفة أَنه قد صَّرح فيه بأنه ليس من أصل الحديث. وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أخِهْ ... ... ... مُدبَّج فاعرِفهُ حَقا وانتَخِهْ الحديث المدبَّج: قوله: (وما روى كلُّ قرين عن أخه مدبج فاعرفه حقا وانتخه) :

وأما (المُدَبَّجُ) : فهو أن يروي الراوي عن زميله، وتسمى رواية الأقران، وهم الذين يشتركون في زمن واحد، وفي أًستاذ واحد ويشتركون في الرواية عن شيخ فيسمون أقراناً، مثل محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، زميلان، فسِنُّهُما متقارب، وهما تلميذان لمحمد ابن جعفر المسمى بغندر، فيُقال فيهما قرينان، فإذا روى محمد ابن بشار، فهذا هو المدبج أي: أن يروي الزميل عن زميله حديثاً، والزميل الثاني يروي عن زميله محمد بن بشار عن محمد بن المثنى ثم روى محمد بن المثنى عنه حديثاً آخر، يعني روى هذا حديثاً وهذا حديثاً، فمثلاً الإمام أحمد زميل ليحيى بن معين، ومع ذلك قد روى يحيى عن أحمد وروى أحمد عن يحيى، حيث وجد أحمد عن يحيى أحاديث ما حصل عليها من مشايخه الذين لقيهم وسافر إليهم ووجد يحيى أحاديث عند أحمد، ولم يدرك مشايخه الذين روى عنهم أو روى عنهم غيرها، فقال يحيى: حدَّثنا أحمد بن حنبل، حدّثنا محمد بن جعفر مثلاً، وقال أحمد: حدّثنا يحيى ابن معين حدّثنا وكيع بن الجراح، فهذا هو المدَبَّجُ. رواية الأقران: أما لو روى واحد عن الثاني، ولم يرو الثاني عن الأول، فإنه يسمى أقراناً، فالأقران رواية واحد عن قرينه، فإذا روى كل منهما عن زميله أصبح اسمه مدبجاً، أي أن هذا وجد أحاديث عند شيخ له ما وجدها الآخر عند شيخه.

فمثلاً إذا كان عندنا الزميلان (عبد الإله) و (محمد) زميلان في الوقت الواحد، ولكن عبد الإله اتصل بمشايخ حدَّث عنهم وما اتصل بهم محمد، فاحتاج محمد أن يروي تلك الأحاديث عن عبد الإله، فيقول: حدثنا عبد الإله عن شيخه فلان، وعبد الإله وجد أحاديث عند محمد عن مشايخ قد أدركهم، ولكن ما روى عنهم تلك الأحاديث، فاحتاج أن يرويها عنهم بواسطة، فيقول: حدّثني زميلي محمد، عن شيخه فلان، وهو شيخهما، لكن ما استطاع أن يأخذ عنه هذا الحديث، أي أن كليهما قد أخذ عن ذلك الشيخ، ولكن محمد وجد عند ذلك الشيخ أحاديث ما بحث عنها عبد الإله، فلأجل ذلك انفرد بها، ولما سمعها عبد الإله عن زميله قال: فاتتني عن شيخي، فآخذها منك أي آخذها عن شيخي بواسطتك، وكذلك محمد وجد أحاديث عند عبد الإله عن شيخهما أيضاً فقال: فاتتني تلك الأحاديث عن شيخي ما سمعتها منه، لكن آخذها منك وأرويها بواسطة زميلي للحاجة، فينزل درجة، فيقول: حدّثنا عبد الإله عن شيخنا فلان. مُتَّفقٌ لفْظاً وَخَطًّا مُتفِقْ ... ... ... وَضِدُّهُ فيما ذَكرْنا المفترِقْ الحديث المتفق والمفترق: قوله: (متفق لفظاً...................المفترق) : (المتفق والمفترق والمؤتلف والمختلف) ، هذه مباحث تتعلق بأسماء الرواة، فإذا اتفقت الأسماء واختلف الأشخاص سموه المتفق والمفترق، كما لو اتفق الاسم واسم الأب، واختلف الشخص فمثلاً اثنان في زمن واحد كلاهما اسمه إسحاق بن إبراهيم، متفق في الاسم واسم الأب، مفترق في الشخص، هذا يُقال له ابن نصر وهذا يقال له ابن راهويه، وقد يكون أكثر من اثنين، كثلاثة أو أربعة في زمن واحد، فهنا إسحاق بن إبراهيم بن يزيد، وإسحاق ابن إبراهيم الصواف، وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ، كلهم في زمن متقارب فيقال لهذا متفق الاسم واسم الأب ومفترق في الجد وفي الشخص. الحديث المؤتلف والمختلف:

أما (المؤتلف والمختلف) فهذا مما يحتاج إلى العناية به، وهو ما اتفقت حروفه وافترقت حركاته، فكثيراً ما تتفق الأسماء يعني في الحروف، وتختلف في الحركات، أو تتفق في الحروف وتختلف في النقط والإعجام، وكثيراً ما يحصل فيه التصحيف والتحريف، وكثيراً ما يشتبه محمد بن بشار بمحمد بن سنان ومحمد بن بشار مع كون الباء هنا بعدها معجمة، والياء هناك بعدها مهملة، لكن لكتابتهم باليد يحصل أيضاً الاشتباه، وكثيراً ما يشتبه الاسم بما يقاربه حيث يشتبه شيبان بسنان مع أن بينهما فرقا، ولكن غالبهم لا ينقطون الحروف، فلأجل ذلك يحصل الاشتباه كسليمان بسلمان مع أن بينهما فرقا، ويقع هذا في الأسماء التي يتقارب لفظها وتحتاج إلى ضبط وإلى عناية، وقد ضبطها النووي في مقدمة شرح مسلم، فذكر الأسماء التي تتقارب، وذكر ما يوجد بينهما من الفروق، فأنت إذا قرأت مثلاً هذه الكلمة تعرف أنها كلها تُنطق بكذا إلا هذا الاسم الفلاني، مثلاً غالب الأسماء تتميز إذا كانت أعلاماً وقد يحصل الاشتباه في بعض الأعلام وفي الأنساب فقد يكون الفرق بينهما في النقط كالهمداني، والهمذاني، والدهني والذهبي، فإذا مر بك عمار الذهبي فأصلحه الدهني بالمهملة والنون؛ لأنه خطأ فليس هناك عمار الذهبي في الرواة الأولين، وإنما كتبوه الذهبي لاشتهار نسبة الذهبي، وإلا فالصواب أنه عمار الدهني.

والأولون يكتبون الحروف بدون نقط، فيجيء بعض النسَّاخ، -والنساخ قد يكونون من العامة حتى سماهم كثير من الحذاق مُسَّاخاً فيكتبونة فإذا رأوا الدهني نقطوا الدال وجعلوا الدال ذالا وجعلوا النون باء وقد يحصل أيضاً التصحيف حتى بزيادة أو بإسقاط بعض من الحروف، فمثلا رأيت من صحف (الضبي بالضبعي) وبالعكس، فأسقط العين مع السرعة، وكأنها ما اتضحت العين فكتبها الضبي مع أنه الضبعي، فأما الاختلاف في النقط فحدث ولا حرج، مثل جمرة كثيرا ما يكتبونه حمزة، فأبو جمرة الضبعي تلميذ ابن عباس مشهور يكتبونه أبو حمزة؛ لأن كلمة (جمرة) غريبة غير مشهورة، ولما كتبت نقطت الراء فأصبح حمزة. فهذا النوع يسمى المؤتلف والمختلف يعني بالمؤتلف المتقارب في الرسم، والمختلف في النطق إما بالشكل وإما بالنقط، فالشكل مثل سَلاَم وَسلاّم بتشديد اللام وتخفيفها هذا اختلافه بالشكل، وأما النقط فمثل سنان وشيبان، ومثل سيار ويسار وبشار وما أشبه ذلك، فهذا كله مما يقع فيه التصحيف، فهو يسمى بالمؤتلف يعني بالمؤتلف في الخط المختلف في النطق. والمنكرُ الفرْدُ به راوٍ غدا ... ... ... تعْدِيلهُ لا يحمِلُ التَّفردَا الحديث المنكر: قوله: (والمنكر الفرد به راو غدا تعديله لا يحمل التفردا) :

(المنكر) : هو ما رواه راوٍ تفرَّد به، وتفرده لا يحتمل، يقال: هذا حديث منكر، تفرَّد به فلان وتفرده ليس بمقبول، أَما لو تفرَّد به إنسان ثقة عدل كالزهري والشعبي والأَعمش فإنَّه لا يكون منكراً بل يكون مقبولاً، فإذا تفرَّد ليث بن أبي سليم أَو عطاء بن السائب بهذا الحديث مثلاً فإنه يكون منكراً، وقد ذكرنا أن أبا قيس روى عن هزيل، عن المغيرة المسح على الجوربين، وأنه تفرد به، فسمى منكراً، يُقال: إن أبا قيس وهزيلاً لا يحتملان هذا التفرد أي لا يقوى على أن يقبل تفرده دون سائر الرواة الكثيرين، فهذا هو المنكر، وكأننا استنكرنا على هذا الراوي تفرده. الحديث المعروف: ويقابله (المعروف) فالمنكر ضده المعروف، وهو رواية من لم يخالف غيره، ولم ينفرد، يقال: المعروف رواية فلان وفلان المرسلة مثلاً، والمنكر رواية فلان المتصلة، وهكذا فعندنا مثلاً حديث: (كل أمر ذي بال لا يُبْدأُ فيه بحمد الله فهو أجذم) هذا رواه قرة ابن عبد الرحمن، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً، وقرة ضعيف تفرد به، فيُقال: هذا الحديث منكر، تفرد به قرة، وضعفه ظاهر لا يحتمل التفرد، وقد رواه جماعة عن الزهري ولم يذكروا أبا هريرة ولا أبا سلمة بل قالوا: عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، فروايتهم المعروفُ، ورواية قرة المُنْكَرُ، حيث إن هذا هو المعروف الذي تتابع عليه تلامذة الزهري فأرسلوه، وانفرد قرة بن عبد الرحمن فوصله، فيسمى حديثاً منكراً من رواية قرة له، ومرسلاً برواية الآخرين. متروُكهُ ما واحد به انفرَدْ ... ... ... وأجمَعُوا لِضعْفهِ فهوَ كَرَدِّ الحديث المتروك: قوله: (متروكه ما واحد به انفرد وأجمعوا لضعفه فهو كرد)

(المتروك) : هو الذي انفرد به راوٍ متهم بالكذب، إذا لم يعثر على كذبه، ولكن تلحقه التهمة، فيأتي بغرائب، وينفرد عن الثقات بما يخالف فيه غيره، فقد يأتي بأحاديث طويلة وهو ليس أهلاً لحفظها، فيُقال: فلان متهم بالكذب، فإذا انفرد بحديث فإنَّه منكر، وروايته تلك تسمى منكرة، والمنكر مردود أي متروك، ويسمى (متروكاً) أي: مشتق من التَّرْكِ، والتَّرْكُ هو عدم القبول، والراوي نفسه يُقال له: متروك، وكذا روايته، ويقال فيه: متروك الحديث، فالمروي متروك، والراوي نفسه متروك يعني متروك التحديث عنه، فمثلاً إذا روى عبد الله بن مُحَرّرٍ أو عباد بن كثير فإنَّ كليهما متهم بالكذب شديد الضعف، فيُقال: عبد الله بن محرَر متروك، يعني اتركوه ولا تحدِّثوا عنه، وإذا رُوِىَ لنا حديث في إسناده عباد بن كثير قلنا هذا الحديث متروك، فيكون الحديث متروكاً لأن في إسناده راوياً متهماً بالكذب ويطلق على مرويه أنه متروك. الرواية عن المختلط: وكذا الرواية عن المختلط كعبد الله بن لهيعة فإنَّه ثقة، ولكن عمدته على كتب له كان يحدِّث منها ويحتفظ بها، فلما احترقت صار يحدِّث مما علق بذهنه منها، فلأجل ذلك وقع التخليط في حديثه، فتلامذته الأولون الذين رووا عنه قبل الاختلاط تقبل روايتهم عنه، والتلامذة الآخرون يُرَدُّ حديثهم عنه إذا انفرد به، وكذلك الذين أخذوا عنه قبل الاحتراق وبعده؛ لأنه اختلط حديثهم الأول بالثاني، فهناك أُناس لما رأوا أنه اختلط كفوا عنه، ولم يحدِّثوا عنه فتقبل روايتهم وهناك أناس حدثوا عنه قبل الاختلاط وبعده فاختلط الأول بالآخر فيترك إذا انفرد به، وهناك تلاميذ ما حدَّثوا عنه إلاَّ بعد الاحتراق فيترك إذا انفرد به أيضاً، لكن إذا وجد حديث قد تابعه غيره دلَّ على أن له أصلاً، أما ما انفرد به وكان عن طريق من لم يحدث عنه إلاَّ بعد الاختلاط فلا. والكذِبُ المختلَقُ المصنُوعُ ... ... ... عَلَى النبي فذلِكَ الموْضوعُ

الحديث الموضوع: قوله: (والكذب المختلق المصنوع على النبي فذلك الموضوع) : (الموضوع) : هو الذي تَحَقَّقَ أَنه مكذوب، واشتقاقه من بريء منه، ويسمى المختلق، كأن صاحبه هو الذي اختلقه يعني افتراه، ويسمى: المكذوب، فالمكذوب والمفترى والمختلق والموضوع والمصنوع معناها واحد، والوضع في الحديث قد وجد منذ زمن بعيد. أسباب وضع الأحاديث: والواضعون للحديث أصناف فهناك أُناس ضَعافُ الدِّين وضعوا أحاديث انتصاراً للمذاهب، كما روي أن رجلاً حنفياً أراد أن يرفع من قدر إمامهم أبي حنيفة، ويضع من قدر الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله فاختلق حديثاً بلفظ: (يكون في أُمتي رجل يقال له محمد بن إدريس، أضر على أُمتي من إبليس، ويكون في أُمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أُمتي) فعرف وضعه بظهور آثار الاختلاق عليه. وذكروا أن رجلاً جاءه ولده يشكو المعلم الذي يعلم القرآن أنه ضربه، فقال: لأفضحنَّ المعلمين اليوم، ثم رَكَّبَ إسناداً له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وافترى حديثاً بلفظ: (مُعلِّمُو صبيانكم شرارُكم أقلهم رحمةً لليتيم، وأغلظهم على المسكين) أو نحوه فاعترافه بأنه سيفضح المعلمين دل على أنه اختلق ذلك وكذب. وقد يكون مما يدل عليه قرائن الحال، ففي مجلس من المجالس اختلفوا مرة فقال بعضهم: سمع الحسن من أبي هريرة، فأنكره بعضهم، فكان بينهم واحد من الوضَّاعين فَرَكَّبَ له إسناداً وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سمع الحسن من أبي هريرة) ومعروف أن الحسن ما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تكلم في حقه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، ولكن هذا دليل على الافتراء!

وقد يكون بعض من يضع الأحاديث يريد التَّقَرُّبَ بها إلى الملوك، كما ذكروا أن أحد الوضَّاعين دخل على المهدي وإذا المهدي -وهو خليفة- يلعب الحمام، يُطَيِّرُهُ من هنا، ويقع هنا، فيعجبه طيرانه من هنا ومن هنا، فيقول: إذا سبقت الحمامة الفلانية أو التي لونها كذا فَعَلَيَّ كذا، فأراد الوَضَّاعُ أن يفتري حديثا يقوِّي فعل المهدي، فروى حديثاً فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سَبَق إلا في نَصل أو خُفٍ أو حافرٍ أو جناح) فكلمة (جناح) زادها كذباً من قِبَل نفسه، يريد بذلك الجائزة وقد أعطاه عشرة آلاف درهم، فلما خرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب، ثم قال المهدي: أنا الذي حملته على الكذب، ثم أمر بالحمام فذُبح، فهذا كذب للتقرب إلى الملوك، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال (أو جناح) . وهناك من يكذب احتساباً كما رُوِيَ أن بعض القصاص ونحوهم يضعون على الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضل السنة، وفي فضائل الأعمال، وما أشبهها فقيل لهم: كيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليَّ متعمداً فيتبوأ مقعده من النار) فقالوا: نحن ما كذبنا عليه، إنَّما كذبنا له، أي ننصر بذلك سنته، ونجلب الناس إلى شرعه، فنكذب في فضائل الأعمال، لأجل أن نرغب الناس فيها بأحاديث في فضل الصلاة وأحاديث في فضل الجهاد، وأحاديث في فضل الأعمال، وفعل الخيرات وما أشبهها، فيُقال لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عمم في قوله: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهذا آخر الكلام على هذه المنظومة. والله أعلم وأحكم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الحسد

الحسد تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين الحمد لله تعالى على ما أنعم، وله الشكر على ما وفق له وألهم، نحمده سبحانه على ما تفضل به وتكرم، هو ربي لا إله إلا هو، وهو الإله الواحد المعظم، أرسل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهدى الله به من هذه الأمة من أراد به خيراً من جميع الأمم، وحرم الهداية أهل الغي والحسد وحيل بينهم وبين هذا الفضل والكرم. وبعد: فهذه رسالة كتبتها في الحسد وآثاره وأضراره وما وقع بسببه من المصائب والشرور والفتن، وسردت بعض الأدلة التي نقلتها عن مؤلفات أهل العلم، كالآداب الكبرى لابن مفلح وتفسير الرازي الكبير ومختصره للقمي، والترغيب والترهيب للمنذري ونحوها، رجاء أن يستفيد منه من قرأه بإنصاف وتمعن، حتى يخف أثر هذا الداء العضال الذي فشا وتمكن حتى في طلبة العلم وحملته، فإن الحسود لا يسود ولا ينال من حسده إلا الهم والغم والنكد والكبد، فمن عرف أن الله تعالى هو المنعم على عباده بما فيه خيرهم وصلاحهم، أو فيه اختبارهم وابتلاؤهم، فلا يجوز له أن يحسدهم على ما أعطاهم الله تعالى وإنما عليه أن يغبطهم إذا أدوا حقوق الله تعالى وعملوا بما يرضيه، ويحرص على أن يحصل على مثل ما حصلوا عليه، فأما السعي في إزالة النعمة وتنغيصها على أهلها فهو من الكبائر، والله المتفضل على عباده، وله الحمد والشكر وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين 21/3/1419هـ تعريف الحسد وبيان حقيقته تعريف الحسد: الحسد لغة: قال في لسان العرب: الحسد معروف، حسده يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حسداً وحسَّده إذا تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته أو يسلبهما هو، وقال: الحسد أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه.

والغَبْطُ: أن يتمنى أن يكون له مثلها ولا يتمنى زوالها عنه (لسان العرب لابن منظور 3/148-149) . واصطلاحاً: هو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يَصِرْ للحاسد مثلها. أو تمني عدم حصول النعمة للغير. حقيقة الحسد: وحقيقة الحسد أنه ناتج عن الحقد الذي هو من نتائج الغضب. أدلة إثبات الحسد من القرآن والسنة أولاً: الأدلة من القرآن: · قال الله تعالى: ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم)) (البقرة:109) ، وهذا تحذير للمؤمنين عن طريق اليهود الذين يحاولون رد المؤمنين إلى الكفر، يحملهم على ذلك الحسد الدفين في أنفسهم لما جاء هذا النبي من غيرهم، فحسدوا العرب على إيمانهم، وحاولوا أن يردوهم كفاراً ولكن الحق واضح فتمسكوا به. · وقال تعالى: ((أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)) (النساء:54) . وذلك هو حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم الناس من تصديقهم له حسداً له لكونه من العرب، روى الطبراني عن ابن عباس في قوله ((أم يحسدون الناس)) ، قال: نحن الناس دون الناس. يعني: إننا معشر العرب أو معشر قريش نحن الناس المذكورون في هذه الآية، ولا شك أن هذا ذم لهم على هذه الخصلة، وهي الحسد الذي حملهم على إعمال الحيلة في صد الناس عن الحق المبين. · وقال تعالى: ((ومن شر حاسد إذا حسد)) (الفلق:5) ، فالحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن أخيه المحسود، ولابد أنه سوف يبذل جهده في إزالتها إن قدر، فهو ذو شر وضرر بمحاولته وسعيه في إيصال الضرر، ومنع الخير. · وقد حكى الله تعالى أمثلة من الحسد كقصة ابني آدم فإن أحدهما قتل أخاه حسداً لما تقبل قربانه، فأوقعه الحسد في قتل أخيه بغير حق، وكقصة إخوة يوسف في قولهم: ((ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا)) (يوسف:8) . ثم عملوا على التفريق بينه وبين أبيه بما فعلوا.

· وكقصة المنافقين في قوله تعالى: ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم)) (آل عمران:120) . وذلك مما يحملهم على إعمال الحيل في إبعاد المؤمنين عن الخيرات. · وقد قال تعالى: ((ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض)) (النساء:32) . فهذا التمني المنهي عنه قد يكون الدافع له الحسد من المفضول للفاضل، مع أن الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فعلى المفضول أن يطلب الفضل من الله تعالى، ولا ينافس أخاه ويضايقه فيما أعطاه الله وتفضل به عليه. ثانياً: الأدلة من السنة: · ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا" الحديث، وهذا النهي للتحريم بلا شك، لما في التحاسد من الأضرار والمفاسد، وقطع الصلات بين المسلمين. · وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع في قلب بعد الإيمان والحسد". · وثبت في السنن عن أبي هريرة وأنس قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب". · وعن ضمرة بن ثعلبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا" رواه الطبراني ورواته ثقات. · وعن الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" رواه البزار والبيهقي بإسناد جيد. · وعن أنس قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني إن قدرت على أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل" رواه الترمذي وحسنه.

· وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قيل فما المخموم؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد" رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. · وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن لنعم الله أعداء، الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله". · وفي حديث مرفوع: "ستة يدخلون النار قبل الحساب، ذكر منهم: العلماء بالحسد". · وقال ابن الزبير: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا، إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟! · وروي عن الأصمعي أنه قال: الحسد داء منصف، يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود. يعني: أن الحاسد إذا رأى أخاه في نعمة وصحة ورفاهية حسده وقام بقلبه حقد وبغض له، فهو كلما رآه في هذه النعمة اغتاظ لذلك، فيبقى دائماً مهموم القلب حزيناً، يتمنى ما لا يقدر عليه من إزالة تلك النعم، فهو يتقلب على فراشه من الغيظ، مع أن المحسود لا يشعر بألم، بل هو قرير العين مسرور لم يصل إليه في الغالب شيء من الضرر الذي في قلب الحاسد، وإن وصل إليه فإنه لا يتأثر به إلا قليلاً، والله أعلم. الفرق بين العين والحسد

العين هي: النظر إلى الشيء على وجه الإعجاب والإضرار به، وإنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية السم، فتؤثر في الملسوع، وربما قويت تلك الكيفية واتقدت في نوع منها، حتى تؤثر بمجرد نظرة، فتطمس البصر، وتسقط الحبل، فإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة، إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، وتوجهت إلى المحسود، فكم من قتيل! وكم من معافى عاد مضني البدن على فراشه! يتحير فيه الأطباء الذين لا يعرفون إلا أمراض الطبائع، فإن هذا المرض من علم الأرواح، فلا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع وعجائبه أبهر، وآياته أعجب، فإن هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح أصبح كالخشبة، أو القطعة من اللحم، فالعين هي هذه الروح التي هي من أمر الله تعالى، ولا يدرك كيفية اتصالها بالمعين، وتأثيرها فيه إلا رب العالمين. وأما الحسد: فهو خلق ذميم، ومعناه تمني زوال النعمة عن المحسود، والسعي في إضراره حسب الإمكان وهو الخلق الذي ذم الله به اليهود بقوله تعالى: ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم)) (البقرة:109) . أي أنهم يسعون في التشكيك وإيقاع الريب، وإلقاء الشبهات حتى يحصلوا على ما يريدونه من صد المسلمين عن الإسلام، ولا شك أن الحسد داء دفين في النفس، وتأثيره على الحاسد أبلغ من تأثيره على المحسود، حيث إن الحاسد دائماً معذب القلب، كلما رأى المحسود وما هو فيه من النعمة والرفاهية تألم لها، فلذلك يقال: أصبر على كيد الحسود إن صبرك قاتله النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله وقال بعض السلف: الحسد داء منصف، يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود. الفرق بين العائن والحاسد

قال ابن القيم في بدائع الفوائد: العائن والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشتركان في أن كلاً منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه، فالعائن، تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره، ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده: من جماد، أو حيوان، أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، فمع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين. ا. هـ. فالحاصل أن الحاسد هو: الذي يهمه ما يرى في إخوانه المسلمين من النعمة والخير، والصحة والمنزلة الراقية فيحقد عليهم، ويغتم لذلك، ثم يسعى في زوالها، ويبذل ما في وسعه من وشاية وكذب، وافتراء عليه، ويؤلب عليه من له سلطة أو ولاية، حتى تزول تلك النعمة التي يتمتع بها أخوه، وليس هناك دافع له على إزالتها سوى الحقد والبغض، فلا يقر قراره حتى يتلف المال، أو يفتقر الرجل، أو يمرض، أو يحرم من حرفته أو عمله. أما العائن فهو: إنسان قد تكيفت نفسه بالخبث والشر، فأصبحت تمتد إلى ما يلفت النظر، وترسل إليها ما يحطمها ويغيرها، فيسقط الطائرة من الهواء، ويعطب الوحش البري، بمجرد كلمته ونظرته السامة، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن منهم من تمر به الناقة أو البقرة السمينة فيعينها، ثم يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم، وآتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة، لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه. فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها طائفة.

وقد حكى بعض الإخوان أن منهم من يريد السفر على الطائرة أو الحافلة فيعينها، فتتوقف حتى يتفرغ فيأتي ويتكلم بما يبطل ما بها فتصلح مع بذل العمال ما يستطيعون في إصلاحها، والحكايات عن أهل العين كثيرة مشهورة. ومع ذلك قد أنكرها بعض المشايخ الكبار بسبب أنهم لا يعلمون لها سبباً مباشراً، وذلك لجهلهم بتأثير الأرواح وما تختلف به عن الأجساد، كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى في البدائع وغيره. مراتب الحسد ذكر ابن سليمان في الموارد أنها خمس: المرتبة الأولى: أن يتمنى زوال النعمة عن الغير، ويسعى في الوسائل المحرمة لإزالتها بكل ما يستطيع، وهي الغاية في الخبث والنذالة، وهما الغالب في الحساد، خصوصاً المتزاحمين في صفة واحدة، كالتجار والعمال، وأهل الوظائف الحكومية، فمتى ربح أخوه ربحاً كثيراً أو حصل له لذة مما يتمناه، أو حصل على عمل أو منصب أرفع من غيره، فإن الحاسد يعمل في الإساءة إليه، ويسعى في حرمانه، ويلصق به العيوب، ويولد عليه الأكاذيب، ليزيحه عن ذلك العمل، وينصب نفسه مكانه. المرتبة الثانية: أن يتمنى زوال تلك النعمة، ويحب ذلك، وإن كان لا يريدها لنفسه، ولا يطمع فيها، لكن من باب الحقد على أخيه والبغض له. المرتبة الثالثة: أن يجد من نفسه الرغبة في زوال النعمة عن المحسود، سواء انتقلت إليه أو إلى غيره، ولكنه لا يعمل شيئاً في إزالتها إلا أنه في جهاد مع نفسه، وكفها عما يؤذي أخاه، خوفاً من الله تعالى، وكراهة لظلم عباد الله، فهذا قد كفي شر غائلة الحسد، ودفع عن نفسه العقوبة الأخروية، ولكن ينبغي له أن يعالج نفسه عن هذا الوباء الذي هو بغض النعمة، ومحبة زوالها عن أخيه المسلم.

المرتبة الرابعة: أن يتمنى زوال النعمة عن غيره بغضاً لذلك الشخص، لسبب شرعي، كأن يكون ظالماً يستعين على ظلمه بذلك المنصب، أو ذلك الجاه والمال، فيتمنى زوالها ليريح الناس من شره، وكالفاسق الذي يستعين بالمال أو المنصب على فسقه وفجوره، فتمني زوال ذلك والسعي فيه لا إثم فيه، بل قد يكون مثاباً إذا عمل على إراحة المسلمين من الشر والعسف، والظلم والتجبر الذي يتسلط به ذلك الظالم بسبب منصبه أو جاهه. المرتبة الخامسة: أن يتمنى لنفسه مثلها، ولا يحب زوالها عن أخيه، ولا يسعى في ذلك، سواء كانت تلك النعمة من مباح متاع الدنيا كالمال والجاه، أو من النعم الدينية كالعلم الشرعي، والعبادة الدينية، وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها"، وهذا لا يسمى حسداً إلا من حيث الظاهر، وإلا فهو غبطة ومنافسة، ومحبة للحصول على الخير الدنيوي، والأجر الأخروي، فهو يحب أن يكون مثل أخيه، ويغبطه بذلك، وله مثل أجره على حسن نيته وقصده. أسباب الحسد ودوافعه يمكن أن نلخص ذلك في سبعة أسباب: أولها: العداوة والبغضاء، فمن آذاه إنسان وأوصل إليه ضرراً، فلا بد أن يبغضه، ويغضب عليه، ويتولد من ذلك الحقد المقتضي للتشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، قال تعالى: ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)) (آل عمران:120) . وربما أفضى هذا الحسد إلى التقاتل والتنازع. ثانيها: التعزز، فإنَّ واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً، يترفع به عليه، وهو لا يمكنه تحمل ذلك، أراد زوال ذلك المنصب عنه، وليس غرضه التكبر، بل يريد أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته.

ثالثها: أن يكون من طبعه أن يستخدم غيره، فيريد زوال النعمة من ذلك الغير، ليقدر على ذلك الغرض، ليكون تابعاً له، ومنه قوله تعالى عن المشركين: ((وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)) (الزخرف:31) . يعني أنهم يتكبرون عن أن يكونوا تابعين، بدل ما كانوا متبوعين، وقال تعالى: ((أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)) (الأنعام:53) . كأنهم احتقروا المسلمين الذين كانوا أتباعاً فاستقلوا عنهم. ورابعها: التعجب من أن يفضلهم رجل من أمثالهم، كما في قوله تعالى: ((أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم)) (الأعراف:63) . فكأنهم عجبوا من رجل مماثل لهم، ينزل عليه الوحي دونهم، فلذلك حسدوه. وخامسها: الخوف من فوات المقاصد، وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد كتحاسد الضرائر على مقاصد الزوجية، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة وفي ذلك قال الشاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً إنه لدميم وسادسها: حب الرئاسة، كمن يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك، وأحب موته، فإن الكمال محبوب لذاته وهذا المحبوب مكروه، ومن أنواع الكمال التفرد به، لكن هذا ممتنع إلا لله تعالى، ومن طمع في المحال خاب وخسر. وسابعها: شح النفس بالخير على عباد الله، فإنك تجد من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر، ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك، وإذا وصف اضطراب الناس وإدبارهم فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه، وهذا ليس له سبق ظاهر سوى خبث النفس، كما قيل: البخيل من بخل بمال غيره. أثر الحسد على المجتمع

لقد أمر الله تعالى بالاستعاذة من شر الحاسد، في قوله: ((ومن شر حاسد إذا حسد)) (الفلق:5) ، وهذا دليل على أن له شر وفيه ضرر، ولا يتحصن منه إلا بالاستعاذة بالله تعالى حيث إن الحسد من أعظم الأمراض الفتاكة بالمجتمع، فهو يجبر صاحبه على أصعب الأمور، ويبعده عن التقوى، فيضيق صدر الحسود، ويتفطر قلبه إذا رأى نعمة الله على أخيه المسلم، ولقد كثر الحسد بين الأقران والإخوان والجيران، وكان من آثار ذلك التقاطع والتهاجر، والبغضاء والعداوة، فأصبح كل من الأخوين أو المتجاورين يتتبع العثرات، ويفشي أسرار أخيه، ويحرص على الإضرار به، والوشاية به عند من يضره أو يكيد له، ولا شك أن ذلك من أعظم المفاسد في المجتمعات الإسلامية، فإن الواجب على المسلمين أن يتحابوا ويتقاربوا ويتعاونوا على الخير والبر والتقوى، وأن يكونوا يداً واحدة على أعدائهم من الكفار والمنافقين، فمتى أوقع الشيطان بينهم العداوة والبغضاء، وتمكنت من قلوبهم الأحقاد والضغائن، حصل التفرق والتقاطع، وصار كل فرد يلتمس من أخيه عثرة أو ذلة فيفشيها، ويعيبه بها، ويكتم ما فيه من الخير، ويسيء سمعته، ويجعل من الحبة قبة، ويقوم الثاني بمثل ذلك وكل منهما يوهم أن الصواب معه، وأن صاحبه بعيد عن الصواب، ثم إن كلا منهما يحرص على الإضرار بالآخر ويعمل على حرمانه من الخير، فيصرف عنه المنفعة العاجلة ويحول بينه وبين المصالح المطلوبة، من فائدة مالية، أو حرفة أو أرباح أو معاملات مفيدة، ونحو ذلك، ولا شك أن هذا يضر المجتمعات ويقضي على المصالح، ويتمكن الأعداء من المنافع ومن استغلال الفوائد، وبتمكنهم يضعف المسلمون المخلصون، ولا ينالون مطلوبهم من ولاية أو رئاسة، أو شرف أو منفعة، وسبب ذلك هذه المنافسات التي تمكنت من النفوس، حتى حرموا إخوانهم وأنفسهم من الخير، وسلطوا عليهم أعداءهم. أفلا يرعوي المؤمن، ويعرف مصلحته ويحب الخير

لإخوانه، ويوصل إليهم ما يستطيع، حتى يعم الأمن ويصلح أمر الدين والدنيا والآخرة، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. كيفية علاج الحسد يمكن أن يلخص علاجه في أمرين: العلم والعمل: أما العلم: ففيه مقامان: إجمال، وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره. وتفصيل: وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان، حيث كره حكم الله وقسمته في عباده، فهو غش للإخوان، وعذاب أليم، وحزن مقيم، ومورث للوسواس، ومكدر للحواس، ولا ضرر على المحسود في دنياه، لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، ولا في دينه، بل ينتفع به، لأنه مظلوم من جهتك، فيثيبه الله على ذلك، وقد ينتفع في دنياه أيضاً من جهة أنك عدوه، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك، إلى أن يقضي بك إلى الدنف والتلف، قال الشاعر: اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من الله تعالى بمزيد الفضائل، قال الشاعر: لا مات أعداؤك بل خلدوا وحتى يروا منك الذي يكمد لا زلت محسوداً على نعمة فإنما الكامل من يحسد والحاسد مذموم بين الخلائق، ملعون عند الخالق، مشكور عند إبليس وأصدقائه، مدحور عند الخالق وأوليائه، فهل هو إلا كمن رمى حجراً إلى عدو ليصيب به مقتله، فرجع حجره إليه فقلع حدقته اليمنى، فغضب فرماه ثانياً فرجع ففقأ عينه الأخرى، فازداد غيظه فرماه ثالثاً فرجع إلى نفسه فشدخ رأسه، وعدوه سالم، وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون: ((ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)) (طه:127) .

وأما العمل: فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه، حتى يصير المحسود محبوباً محباً له، على حد قوله تعالى: ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)) (فصلت:34) . فذلك التكلف يصير في النهاية طبعاً. وقد ذكر ابن القيم أن شر الحاسد يندفع عن المحسود بعشرة أسباب: أحدها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به واللجوء إليه. الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله حفظه ولم يكله إلى غيره. الثالث: الصبر على عدوه، فلا يقاتله ولا يشتكيه، ولا يحدث نفسه بأذاه، فما نصر على حاسده بمثل الصبر، والتوكل على الله، ولا يستطيل الإمهال له، وتأخير الانتقام منه. الرابع: التوكل على الله، فمن توكل على الله فهو حسبه، فالتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فمن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره. الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به، والفكر فيه، فيمحوه من باله، ولا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يشغل قلبه بالفكر فيه، فمتى صان روحه عن الفكر فيه، والتعلق به، فإن خطر بباله بادله إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفع له، بقي الحاسد يأكل بعضه بعضاً. السادس: الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها، بحيث تبقى خواطره وهواجسه كلها في محاب الله، والتقرب إليه، فيشغل بذلك عن الحاسد وحسده، ويكون قلبه معموراً بذكر ربه والثناء عليه، غير متشاغل بغيره.

السابع: تحريه التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فما سلط على العبد أحد إلا بذنبه، فعليه المبادرة إلى التوبة والاستغفار، فما نزل بالعبد بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. الثامن: الصدقة والإحسان مهما أمكن فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء، وشر الحاسد، فلا يكاد الأذى والحسد يتسلط على متصدق، فإن أصابه شيء كان معاملاً باللطف والمعونة والتأييد. التاسع: إطفاء نار الحاسد والباغي والظالم بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذاه وشره وبغيه، ازددت إليه إحساناً وله نصيحة، وعليه شفقة لقوله تعالى: ((ادفع بالتي هي أحسن السيئة)) (المؤمنون:96) . العاشر: تجريد التوحيد لله تعالى، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأنها بيد الله تعالى، فهو الذي يعرفها عنه وحده إلى آخر كلامه، وقد لخصت هذا من كلامه على آخر سورة الفلق في بدائع الفوائد فليراجع.

اثر الذنوب والمعاصي

اثر الذنوب والمعاصي لها أثر كبير في حدوث الأضرار والشرور والعقوبات السماوية ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة وقد قال تعالى: ((وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)) والمصيبة يدخل فيها المصائب البدنية كالأمراض والعاهات والحوادث السيئة والموت والفتن وتسليط الأعداء كما في الأثر القدسي "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني" كما يدخل في المصيبة العقوبات السماوية كالقحط والجدب وغور المياه ويبس الأشجار وقلة الثمار أو فسادها ومثل الغرق والصواعق والرجفة والآفات السماوية كعقوبة قوم هود بالريح العقم وقوم صالح بالصيحة الطاغية وقوم نوح بالغرق وفرعون وقومه بالغرق ونحوهم ومن آثار الذنوب أيضاً قسوة القلوب وعدم تأثرها بالمواعظ والآيات والأدلة والتخويف والتحذير والإنذار بحيث تسمع ولا تفقه ولا تقبل وتزل عنها الموعظة وهي في غفلة ولأجل مناعة الذنوب عظمت عقوبتها في الدنيا بالقتل للمرتد والزاني المحصن والقطع للسارق وقاطع الطريق والحبس للمحاربين والجلد لأهل المسكرات ونحو ذلك تفادياً للآثار السيئة التي يعم ضررها للمجتمعات حيث أن المعصية إذا أعلنت تعدت عقوبتها لقوله تعالى ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)) أي أنها تعم العاصي وغيرها وكذا في الحديث أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه وقد عدد ابن القيم عقوبات الذنوب في الجواب الكافي إلى نحو الخمسين فليراجع.

الشيشان

الشيشان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد ... فلا يخفى ما وقع هذه الأيام القريبة على جمهوريتي الشيشان وداغستان من الاعتداء الشيوعي وما حصل من آثاره من قتل وتشريد وهدم وأضرار فادحة نتج من آثارها موت وإتلاف للممتلكات بسبب كونهم مسلمين مؤمنين بالله تعالى، وهذه الاعتداءات تسود كل مسلم ويحزن لها كل مؤمن وذلك مما يوجب على أهل الإسلام الاهتمام بأمر إخوانهم المسلمين والحرص على تخفيف آلامهم وجبر مصابهم، فقد ورد في الحديث "أن المؤمنين يد واحدة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" ومعنى كونهم يداً واحدة أن الإسلام يجمعهم وبذلك يساعد بعضهم بعضاً ويتعاونون على ما يكون سبباً في نصرهم وتقويتهم ورد كيد أعدائهم، وقد أمر الله تعالى بنصر المؤمنين في كل مكان كما في قوله تعالى: ((وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)) وأخبر بتولي المؤمنين لإخوانهم فقال تعالى: ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)) ، ولا شك أن هذه الولاية يكون من آثارها التناصر والتعاون وبذل كل المستطاع في نصر الإسلام وأهله وإعلاء كلمة الله وهذا دأب المسلمين في كل زمان ومكان لما بينهم من الأخوة الإيمانية التي تقتضي المحبة والشفقة حتى مثلهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد في قوله ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاظفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وفي رواية (إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله) ، فالمؤمنون في كل مكان يعين بعضهم بعضاً ويقوي بعضهم بعضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه، ومن هذه الأدلة يجب على المسلمين أولاً:- الدعاء لإخوانهم في تلك البلاد بالنصر والتمكين والتأييد ورد كيد الكائدين، ويجب ثانياً:- إمدادهم بالأسلحة والقوة الحسية التي يكافحون بها ويقاتلون من قاتلهم،

ويجب ثالثاً:- تقويتهم مالأموال فهم بأمس الحاجة إلى القوت والغذاء والكسوة وكل ما يتقوون به ويدفعون به آلام الجهد والضرر ويعالجون من أصيب منهم بجراح أو آلام، ولا شك أن الجهاد بالمال مما يثاب عليه وقد قدمه الله على الجهاد بالنفس في آيات كثيرة، كقوله تعالى ((انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله)) وقوله تعالى: ((تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم)) وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم" وفي الحديث الآخر "من جهز غازياً فقد غزى" فعلى المسلمين أن يهتموا بأمر إخوانهم فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم؛ نسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته وينصر المجاهدين في كل مكان ويثبت أقدامهم ويسدد سهامهم ويكبت الأعداء ويرد كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصبحه وسلم.

اللهو والأغاني

اللهو والأغاني وردت أدلة في تحريم اللهو والاغاني سواء بالآلات كالعودة والطنبور والرباب والطبل والزير والدفوف أو بغيرها وساء كان معه رقص وتمايل وتشبيب أو لم يكن معه لعموم الأدلة قال تعالى: ((وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامرون)) والسمور هو الغناء الذي يسبب الغفلة ويشبه السكر ويبعث على الأمور المحرمة كالزنا ومقدماته وفعل الفواحش وقد ورد في تفسير قول الله تعالى خطاب الأبليس ((واستفزز من استطعت منهم بصوتك)) أن صوته هو الغناء والطرب وقال الله تعالى: ((ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم)) قال ابن مسعود رضي الله عنه: "والله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء" بمعنى لهو الحديث وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع وثبت أن عائشة أدخلت جاريتين صغيرتين في يوم عيد تغنيان بشيء من شعر العرب وليستا بمغنتين فدخل أبو بكر رضي الله عنه فقال: "أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على تسمية الغناء مذمار الشيطان فننصح المسلم ذكر أو أنثى أن يبتعد عن سماع الغناء واللهو المحرم سواء من أشرطة أو أفلام أو من المغني نفسه وأن يعتاض بذلك سماع القرآن والذكر والعلم المفيد والله أعلم.

بيع الدخان

بيع الدخان لا شك أن الدخان محرم وشربه وإنتاجه وكذا الجراك وأجهزته ذلك لأنه يضر بالبدن والصحة وأضراره كثيرة ولذلك يحذر منه الأطباء والمعتبرون وكذا يمنع إظهاره في الدول الكبرى كأمريكا وبريطانيا ويمنع شربه في الحافلات والطائرات اعترافاً منهم بضرره صحياً رغم ما يحصل للشركات المنتجة من الأرباح الكثيرة وحيث أنه محرم فإن ربحه حرام والله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه فننصح المسلم أن يبتعد عن بيعه ولو كان في ربح كثير ولو كان جالباً للزبائن أي المتعاملين معه بالشراء فإن بيعه غش للمسلمين وترويج للمحرم وقد قال الله تعالى ((ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)) فننصح كل مسلم أن يصون كسبه عن الحرام وننصح الجمهور أن لا يتعاملوا مع البائعين للدخان والجراك ونحوه فإن ذلك من إعانتهم على فعل المنكر وترويجه وأن يذهبوا إلى من لا يبيع شيئاً من ذلك ولو كان بعيداً ليشجعوا أهل الكسب الحلال وهكذا لا يجوز بيع المجلات الهابطة التي تحمل الصور الخليعة الفاتنة فإنها تدعوا إلى الفتنة وفعل الفواحش ولا فائدسة فيها خالصة وما فيها من مقالات وأخبار قد يوجد خير منه في غيرها فليحذر المسلم من يشر الرذيلة وأسبابها والله هو الرازق ذو القوة المتين، والله أعلم.

صلة الأرحام

صلة الأرحام السؤال الأول:- من هم الأرحام الذين تجب صلتهم؟ وما هي حدود الصلة؟ السؤال الثاني:- تقيم بعض الأسر لقاءات شهرية أو سنوية للرجال هل الحضور فيها من صلة الرحم؟ السؤال الثالث:- من المعلوم أن من ذوي الأرحام الذين تجب صلتهم بعض النساء اللاتي ليسوا من محارم الرجل كبنت العم والعمة والخال والخالة وغيرهم فكيف تكون صلتهم؟ الجواب الأول:- قال تعالى: ((وأولا الأرحام بعضهم أولى ببعض)) وهم القرابة من جهة الأب والأم كالأبوين والأجداد والجدات وأن علوا والأولاد ذكوراً وأناثاً وأولادهم وإن نزلوا وأولاد الأب ذكوراً وأناثاً وهم الأخوة والأخوات من الأب وأولادهم وإن نزلوا ذكوراً وأناثاً وأولاد الأم وهم الأخوة والأخوات من الأم وأولادهم ذكوراً وأناثاً إن نزلوا وأولاد الجد وهم الأعمام والعمات وأولادهم وإن نزلوا وأولاد جد الأب وهم أعمام الأب وإن علوا وأولادهم وإن نزلوا وكذا من يدلي بالأم كالأخوات والخالات وأولادهم ذكوراً وأناثاً ولا شك أنهم يتفاتون في الأحقية فالكبير له حق القرابة وحق الطعن في السن والصغير له حق التعليم والتأديب وعليه حق لمن هو أكبر منه في الأحترام والتوقير وتحصل الصلة بالزيارة والاستزارة وإجابة الدعوة وبالمؤانسة والمحادثة والمكالمة والمكاتبة والهدية والتقبل وإظهار الفرح بالزيارة والأعتذار وقبول الأعذار عن التأخر والأبتعاد وتكون الصلة بحسب العادة وتختلف بأختلاف البلاد وكثرة الأعمال وتباعد المساكن ونحوها. الجواب الثاني:-

نعم هذه اللقاءات والاجتماعات من صلة الرحم فمن لا عذر له ولا يوجد ما يشغله فعليه حضور هذه الاجتماعات متى كان القصد منها التعارف والتقارب والتواصل وإظهار الحب والوداد واشتملت على نصايح وعظات وعلوم نافعة وعلى ذكر وشكر الله تعالى على نعمة الإسلام والأمن والخير والعيش الرغيد وعلى البحث في المشاكل العائلية وتفقه أحوال الأقارب وعلى كلام معتاد لا محذور فيه وسلمت من غيبة ونميمة ومن لهو وسهو ومن آلا غناء أو طرب ولم يكن فيهم من يظهر معصية كشرب دخان أو جراك أو مسكر أو نحوها فمتى سلمت تلك الأجتماع من مثل هذه المحرمات والمكروهات فلا أرى التأخر عنها. الجواب الثالث:- لا شك أن القرابة من النساء المحارم حق الزيارة والسمات عليهن لا سيما مع كبر السن وقوة القرابة من الصغار فلهن حق لها جوا لها نوقت فإن المرأة تمنعها أن ظنها من كثرة التجول من الدخول على الرجال فلذلك لهن حق على القريب ولو أكبر منهن فإن تيسر لهن الابتداء واللازام فهو أولى لمن هو أكبر سن كالعم والخال والأب والأخ الكبير ونحوهم. فأما القريبات من غير المحارم فحقهن يكون في المناسبات بالسلام عليهن من راء حجاب سيماء مع كبر السن وصدق الأخوة وقدم الصحية ولا يلزم الزيارة الشهرية ولا الأسبوعية لمثل هؤلاء ولا بأس المكالمات الهاتفية التي تشمل على سلام وتحيات وتجديد عهد ونحو ذلك.

الألفية

الألفية لا يجوزالاحتفال بأعياد الكفار ولو على وجه المجاملة لأنها أعياد مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فلا أصل لها في الكتب السماوية ولا في الشرائع الإلهية، وإنما هي من محدثات النصارى الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. ولا شك أن مشاركتهم في هذا الاحتفال أو في غيره من أعيادهم يُعتبر ذلك إقراراً لهذه المحدثات وتعظيماً لهؤلاء المبتدعة، فعلى هذا يحرم على المسلمين تعظيم هذه الأعياد وتهنئه أهلها وإظهار شيء من الفرح والسرور بها مما يُعد إقرار لتلك البدع، بل المسلمون يعتبرونها كسائر أيام السنة وإنما يحتفلون بالأعياد الشرعية الإسلامية وبما شُرع فيها من الصلاة والعبادات. والله أعلم.

المدير والمدرس

المدير والمدرس

السؤال:- ما هي نصيحة فضيلتكم لمديرات المدارس والمدرسات؟ الجواب:- ننصح كل مدير أو مدرس ذكر أو أنثى بالحرص على أداء الأمانة والأخلاص في أداء العمل الوظيفي الذي التزم به وعليه أن يحرص على الحضور أو الوقت ويستمر إلى آخر لينجز عمله كما ينبغي وعليه أن يستعد لألقاء الدرس كامل ويحضر له ويتصور الموضوع كاملاً قبل أن يبدأ في الإلقاء وذلك حتى تبدأ الزمن فإن القصد هو إيصال المعلومات إلى الطلاب والطالبات وإفهامهم الدروس وحصول الفائدة المطلوبة ثم على المدرس والمدير أن يكون قدوة حسنة في أفعاله وأقواله فيظهر بالمظهر الحسن في لباسه والمرأة تتستر وتلبس اللباس الواسع الذي لا يبين تفاصيل البدن وعليهم أن يعودوا أنفسهم على الكلام الطيب والقول الحسن والبعد عن السباب والشتم والعيب والثلب والتأنيب لمن لا يستحق ذلك فإن الجميع يقتدى بهم أقوالهم وأفعالهم، والله أعلم.

مشاهدة مباريات كرة القدم في رمضان

مشاهدة مباريات كرة القدم في رمضان إعلم أن أيام رمضان غرة في وجه العام فهي أفضل الأزمنة وأجدرها بالاغتنام والأحتفاظ عن الإضاعة وأولها أن تستغل في العمل الصالح الذي يعود على الإنسان بالأجر الكبير حيث أن رمضان موسم من مواسم الآخرة يجب أن تشغله في القراءة والذكر والدعاء والعمل الصالح ولهذا كان العلماء والأئمة من صدر هذه الأمة إذا دخل رمضان تخلوا من التعليم والتحديث وتفرغوا للقرآن تعلماً وتدبراً وتلاوةً فإن رمضان له خصوصية بالقرآن لقول الله تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)) فننصحك بتركك للملاهي والألعاب والمباريات والمسلسلات وما يعرف في الشاشات مما يعوقك عن القرآن ويفوتك الخير الكثير في رمضان ثم أنك لست مضطر إلى المحادثات ولا إلى الكلام المكروه ولا إلى الغيبة والنميمة فمتى رأيت أهل مجلس لهو فأنصحههم وإلا فأتركهم وتكذر قول الله تعالى: ((والذين هم عن اللغو معرضون)) وبذلك تكسب وقتك وتسلم من إضاعته.

القنوات الفضائية

القنوات الفضائية

السؤال:- ما حكم مشاهدة القنوات الفضائية؟ وما هي نصيحتكم لإولياء الأمور الذين قاموا بإدخال جهاز الإستقبال ((الدش)) لأبنائهم؟! الجواب:- هذه القنوات الفضائية عما يبثه أعداء المسلمين أو ضعفاء الإيمان يرسلونها نحو أهل الإيمان والدين الصحيح ليزعموا العقيدة ويشككوا في الدين الصحيح ويثيروا الشبهات بما يبثون من الشبه التي يروجونها بين أبناء المسلمين وكذا تحتوي هذه القنوات على ما يدفع إلى الفتنة ويدعوا إلى أقتراف المحرمات من الزنا والولاط والسرقة والقتل والحيل الباطلة التي يحكوها أولئك المذيعون فلا جرم رأينا وسمعنا الكثير من الجرائم والأفعال الشنيعة التي تقع في المنازل التي تحتوي على أجهزة الأستقبال لهذه القنوات فننصح الملسلم الغيور على محارمه وأولاده أن يبعدهم عن تلقي هذه التصاوير والتماثيل التي تزرع الشر في النفوس وتثير الغرائز إلى أرتكاب المحرمات وإلا فسوف يعض الظالم على يديه ويتمنى إن أبتعد عن هذه الأجهزة فعليه المبادرة وإبعادها قبل أن تستفحل الشرور وتتمكن في النفوس والله المستعان.

جهل الإنسان

جهل الإنسان إن الإنسان يولد جاهلاً ويرزقه الله سمعاً وبصراً وعقلاً ويكلفه أن يتعلم حتى يزيل الجهل الذي هو وصف له ذاتي، وليس عليه أن يحيط بكل المعلومات ويقرأ كل الفنون وإنما عليه أن يبدأ بالأهم فالأهم ويتعلم ما ينفعه سواء في المدارس والجامعات أو في الحلقات والمحاضرات والندوات أو من الكتب والرسائل أو من الأشرطة والإذاعات وعليه أن يأتي الأمور من مبادئها فيهتم بالعقيدة والتوحيد ويحفظ بعض المتون في ذلك ويقرأ شروحها وكذا يقرأ في النحو والصرف واللغة ما يقيم لسانه ويفهم معه كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم وبحفظ المتون المختصرة في ذلك ويقرأ شروحها حتى يفهمها وكذا يقرأ في كتب العبادات والمعاملات التي هو بحاجة إلى العمل بها في حياتها فإنه مكلف بالطهارة والصلاة والزكاة الخ ويحتاج إلى بيع ونحو ذلك مما هو مضطر إليه وعليه أن يتعلم من ذلك ما تمس إليه الحاجة من البيوع المحرمة حتى يتجنبها وحتى يستفاد من علمه فيها وهكذا بقية العلوم الحكمية في كتب الفقه والحديث وعليه أن يحفظ من المتون أقربها تناولاً وأمهلها فهماه وهكذا يتزود من علوم الآداب والأخلاق واليقرأ في كتب السيرة والتاريخ للعبرة والأتعاظ ونحو ذلك.

فأما حديث جابر فهو صحيح وهو حجة في طلب العلم فإن الصلاة المكتوبة وصوم رمضان تحتاج إلى تعلم الكيفية وما تتم به الصلاة وما يشترط لها وما يبطلها وما يلحق بها عن السنن والندويات والمكملات وهكذا قوله وأحللت الحلال وحرمت الحرام وهو بحاجة إلى تعلم الكسب الحلال وما يترتب عليه وما يكره فيه وتعلم الحرام وأسبابه وأمثلته ولها شك أن ذلك يحتاج إلى وقت طويل في التعلم من أفواه المشايخ ومن يعلمون الكتب ولا يحصل ذلك بمجرد الفهم والألقاء في الروع. أما قوله: ثم ماذا بعد القراءة ثم ماذا بعد البحث الخ نقول أن القراءة تفيد العلم ويحصل بعدها فوائد جمة ثابتة تؤيد في المعلومات ولا شك أن البحث في الكتب عن المسألة وتتبع مواضعها يفهم منه معرفة حكمها وكلام العلماء وفيها حتى إذا جرت على الإنسان عرف كيف يتخلص منها ولا شك أن تقييد الفوائد سبب في مراجعتها وبقائها في الذاكرة والعلم بما تحويه وكذا يقال في حضور الدروس في المدارس والحلقات حيث يحصل للدراس مسائل يتزود منها خير أو تزيد معلومات يومياً أو أسبوعياً بما لا يحصل للمتخلف والمشغول بحاجة نفسه ولا شك أن الكتب العلمية التي تعب العلماء في جمعها وتنقيحها وتحريرها وبذلوا فيها جهدهم يحصل بها فوائد جمة لمن قصد الأستفادة وأعطاها حقها من القراءة والمطالعة. وأما تحضير المواضيع فيحتاج إليه من بعد بحثاً خاصاً أو يلقى درساً أو محاضرة فهو يحضر بأن يقرأ ويطالع المراجع حتى يتأكد عند الألقاء من صحة ما ألقاه وجواب ما يسأل عنه وحفظ المتون ففائدة كبيرة حيث أن يستحضر الجواب من ذلك المتن عند البحث فيه أو العمل بمسألة فيعرف الحكم ويتذكر نص العلماء على ذلك من حفظه. فأما الإعجاب على قراءة كتب الزهد والترغيب والترهيب فهو مفيد في بعض الأ؛ وال لكن لابد قبله من معرفة الأحكام والواجبات والمحرمات وأمور العقائد ونحوها حتى يكون الإنسان على بعيدة من أمره، والله أعلم

أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم

أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم يراد بالضعف هنا ضعف الإيمان وضعف التمسك بالدين والاقتناع من غالب المسلمين بمجرد الانتماء إلى الإسلام دون التحقيق بتعاليمه ولا شك أن لذلك أسباباً عديدية أشدها كثرة الدعاة إلى الفساد والمنكرات والمعاصي بالقول والفعل من أناس ثقلت عليهم الطاعات ومالت نفوسهم إلى الشهوات المحرمة كالزنا وشرب الخمر وسماع الأغاني ونحو ذلك فقاموا بالدعوة إلى الاختلاط وزينوا للمرأة التبرج والسفور وجعلوا ذلك من حقها ودعوا إلى إعطائها الحرية والتصرف في نفسها فجعلوا لها أن تمكن من نفسها برضاها ولو غضب أبوها أو زوجها فلا حد عليها ولا على من زنا بها برضاها وعند الانهماك في هذه الشهوات ثقلت عليهم الصلوات وتخلفوا عن الجمع والجماعات ومنعوا الواجبات وتعاطوا المسكرات والمخدرات مما كان سبباً لضعف الإيمان في قلوبهم وهكذا من أسباب ضعف الأمة الإسلامية كثرة الفتن والمغريات حيث توفرت أفلام الجنس وأصوات المغنين والفنانين والفنانات وصور النساء العاريات أو شبه العراة ولك ذلك سبب الانهماك في هذه المحرمات فضعف الإيمان في القلوب وهكذا من أسباب ضعف الأمة الإسلامية انفتاح الدنيا على أغلب الناس وانشغالهم بجمع الحطام الفاني والإعراض عن العلم والعمل والسعي وراء جمع المال وتنمية التجارات والمكاسب فكان سبباً لنسيان حق الله تعالى وتقديم الشهوات وما تتمناه النفس مع توفر الأسباب والتمكن من الحصول عليها، ومن الأسباب أيضاً ضعف الدعاة إلى الإسلام الحقيقي وقلة ما معهم من العلم الصحيح ورضاهم بأقل عمل مع مشاهدة كثرة الفساد وتمكن المعاصي وكثرة من يتعاطى على مرأى ومسمع من الجماهير ولا شك أن الأمة متى ضعف فيها جانب الإيمان والعمل الصالح وفسدت فطرها وانهمكت في الملاهي والشهوات وأعرضت عن الآخرة فإنها تضعف حسياً ويقوى الأعداء من كل جانب ويسيطرون على ما يليهم من بلاد المسلمين ولا يكون مع المسلمين قوة حسية ولا

معنوية تقاوم قوة الأمم الكافرة وذلك ما حصل في كثير من البلاد الإسلامية التي تسلط عليهم الأعداء يسومونهم سوء العذاب وتسلط عليهم ولاة السوء وأذلوهم وقهروهم حتى يرجعوا عن دينهم والله المستعان.

العلم ... فضله وآدابه ووسائله

العلم فضله وآدابه ووسائله لفضيلة الشيخ العلامة / عبد الله الجبرين أعده للنشر د. طارق بن محمد الخويطر تقديم الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد: فقد أذنت للشيخ الدكتور طارق بن محمد بن عبد الله الخويطر قي طبع الرسالة التي في فضل العلم وطلبه بعد أن فرغها من الأشرطة وبعد أن عرضها علي وقمت بتصحيحها حسب ما يناسبها.. ووكلته في الإشراف على الطبع والتصحيح والإخراج وكل ما يستلزم نشرها، فهو محل ثقة وأمانة ونصيحة، وفقه الله تعالى لرضاه. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أولا: ما المراد بالعلم ثانيا: أهمية العلم الذي يحتاج إلى تعلمه ثالثا: كيفية التعلم نقول إن المراد بالعلم، هو العلم الشرعي الذي أخذ من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم في نونيته: العلم قال الله قال رسوله ******** قال الصحابة هم أولو العرفان ما العلم نصبك للخلاف سفاهة **** بين النصوص ويبن رأي فلان هذا حقيقة العلم، وذلك لأن القرآن الذي نحن نهتم به ونقرأه ونتلوه ونتعلمه هو منبع العلوم وأصلها، ولأجل ذلك يؤمر الذين يتعلمونه ويحفظونه أن يتعلموا معانيه كما يتعلمون ألفاظه، وقد ثبت أن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا فعلمنا العلم والعمل (2) .

_ (1) أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين في معهد القرآن الكريم بالحرس الوطني. (2) رواه أحمد 5/410، وابن أبي شيبة 10/460، وابن جرير الطبري 1/60.

لا شك أن القرآن فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، فهو الفصل ليس بالهزل.. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله. ذكر الله تعالى أن الجن لما استمعوه {فقالوا إنا سمعنا قرانا عجبا @ يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} [الجن: 1-2] .. فما فيه كله رشد وكله هدى، وقد تكفل الله تعالى بحفظه، قال الله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] ، هكذا أخبر سبحانه أنه تولى حفظه. كذلك أيضا قد تولى الصحابة رضي الله عنهم بيان معانيه، تولوا تفسيره وبيان ما فيه من المعاني، ثم يسر الله من العلماء من فسروا ألفاظه، وفسروا معانيه، وبينوا ما يستنبط منه من الأحكام، فما بقي لأحد عذر في أن يجهل معاني القرآن. لا شك أن القرآن قد تناوله بعض المحرفين من المعتزلة والمبتدعة، وحرفوا الكلم فيه، ولكن صانه الله تعالى وحماه عن أن يحرفوا ألفاظه، وإنما فسروا معانيه بتفاسير بعيدة، فيسر الله من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة من فسره التفسير الصحيح، فلذلك نقول: إن على طالب العلم أن يقتصر على التفاسير التي اعتنت ببيان ألفاظه واقتصرت على القول الصحيح، مثل تفسير ابن جرير الطبري رحمه الله، وتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير البغوي، وابن كثير رحمهم الله.. هؤلاء من علماء أهل السنة، وكذلك من المتأخرين مثل تفسير ابن سعدي وتفسير الجزائري، أما أكثر التفاسير فإن فيها ضلالات وتحريفات، فيقتصر المسلم على تفسير يكون موثوقا.

أما بالنسبة إلى السنة، فإن السنة - التي هي الأحاديث النبوية - تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين هذا القرآن، فقال له: {وأنزل إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ، وقد بينه صلى الله عليه وسلم بأقواله وبأفعاله، وكذلك بين الشريعة التي أرسل بها، وقد وفق الله تعالى صدر هذه الأمة للعناية بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فنقلوه نقلا ثابتا، ثم كتبوه في مؤلفات، وبينوه، وتكلموا على صحيحه وما ليس بصحيح، وما هو حسن، وما يعمل به وما لا يعمل به، وشرحوه أيضا، وشرحوا غريبه، وتكلموا على أسانيده.. فأصبحت السنة محفوظة، لأن حفظها من تمام حفظ الشريعة التي شرعها الله تعالى. فنقول أيضا: إن على طالب العلم أن يهتم بحفظ السنة، أو بقراءة ما تيسر منها، فإن فيها علما جما، علما نافعا، وحيث أن الكتب كثيرة قد لا يسمح الوقت لكي يقرأها طالب العلم كلها، فإن عليه أن يهتم بمبادئها، فإن أصح الكتب صحيح البخاري ثم مسلم، ولطول الكتابين يشق قراءتهما في وقت قصير، فلذلك يسر الله تعالى من العلماء من اختصر الصحيحين، فهناك كتاب " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان "، وفي الإمكان أن يستفيد منه ويعرف الأحاديث الصحيحة التي اتفق عليها البخاري ومسلم، وإذا أراد مختصر واحد منهما وجده فيستفيد منه، وإذا أراد نبذا من هذين الصحيحين وجد أيضا مختصرات، وكذلك أيضا إذا أراد شروحا وجد شروحا توضح المعاني والألفاظ.. كذلك أيضا أقوال الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -، وذلك لأن الصحابة تعلموا من نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتابعون تعلموا من الصحابة؛ فلذلك تعتبر أقوالهم، وتعتبر أحكامهم وتفاسيرهم من السنة، من تعلمها فإنه على هدى، وقد يسر الله تعالى من حفظ أقوالهم ورواها بالأسانيد، واعتبروها من السنة، واعتبروها من الشريعة، فمن طلبها وجدها.

فهذه هي المراجع الأساسية للعلم، كتاب الله أولا، ثم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقوال الصحابة وأفعالهم، وتلامذتهم، هذا هو العلم الذي ينبغي أن يبدأ به. بعد ذلك نقول ما حكم تعلم هذا العلم؟ الجواب: ما تعلمه: منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب. الواجب هو ما كان مكلفا به كل إنسان، فإن كل فرد من الأمة مطالب بالعمل، مطالب بالعبادات أن يتعبد بها، ولا شك أن التعبد على جهل لا يقبل؛ فلأجل ذلك فرض عليك أن تتعلم ما أنت مأمور بالعمل به، حتى لا تتخبط في الأعمال.. فإن التخبط في العمل، والعمل على جهل، وسيلة وذريعة إلى رد العمل وعدم قبوله وعدم إجزائه، فلا بد أن تتعلم، وأهم شيء تتعلمه هو علم الديانة، العلم الذي أنت مطالب به. تتعلم كيف طهارتك وكيف صلاتك وكيف عباداتك، والمراد بالعبادة التي أنت مخلوق لها، وما حرم الله عليك حتى تتجنبه، وما كلفك به حتى تطبقه، وما أنت مأمور بفعله حتى تعمله، وتتعلم الآداب وتتعلم الأحكام، وكلها – والحمد لله – ميسرة ما بين مختصر وما بين مبسوط، وتعلمها سهل يسير، ولا شك أن من تعلم هذا له أجر كبير. إذا تعلمها أثابه الله على تعلمه لما هو فرض ولما هو نفل، والأدلة على ذلك كثيرة.

مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ومن سلك طريقا يلتمسن فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ".. ثواب عظيم، فالجنة هي أعلى مقاصد الإنسان في الآخرة، من دخل الجنة فقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وكيف يحصل عليها؟ هذا إذا سلك طريقا يتعلم فيه علما شرعيا، وليس المراد بالطريق أن يسافر سفرا بعيدا يقطعه في أيام أو في أشهر، بل يعم ذلك كل من توجه إلى مكان يتعلم فيه ولو بضع دقائق بينه وبين مسكنه، فإنه والحال هذه يعتبر قد حصل على علم وسلك طريقًا.. إذا توجهتَ من بيتك إلى حلقات علمية أو ندوات أو محاضرات أو حلقات تحفيظ قرآن وقصدك أن تتزود من هذا العلم، من القرآن أو من السنة أو من المسائل والأحكام الدينية فأنت قد سلكت طريقا تلتمس فيه علما، وقد اشتمل هذا الحديث الذي هذا أوله على فضل طالب العلم، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " (1) . يتكرر هذا الحديث على المسامع دائما، ولكن الهمم ضعيفة، يسمعه الكثير وما رأينا حوافز تدفع إلى تعلم العلم الصحيح!! آداب ووسائل طلب العلم: وبعد أن عرفنا أهمية وفضل تعلمه نذكر بعض الأسباب التي تكون وسيلة إلى تعلمه وتحصيله، وتسمى آدابا ووسائل يتوصل بها طالب العلم إلى أن يبارك الله تعالى في أيامه، ويبارك في علومه، ولو كانت علوما قليلة:

_ (1) أبو داود (3641) واللفظ له، والترمذي (2682) ، وابن ماجه (223) .

أولا: الإخلاص في تعلم العلم: فإن الإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها ومن جملتها العلم، أمر الله بالإخلاص في الدين في قوله تعالى: {فاعبد الله مخلصا له الدين @ ألا له الدين الخالص} [الزمر:2-3] ، وفي قوله سبحانه: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} [الزمر: 11] ، وذلك بإصلاح القصد وإصلاح النية في طلب العلم. فإن هناك من ينوي بتعلمه شغل الوقت، يقول عندي وقت فراغ أشغله بهذا التعلم، وليس له قصد في المنفعة، ولا شك أن هذا قصد قاصر، قصد ناقص إذا كان لمجرد شغل الوقت، لأن هؤلاء إذا وجد أحدهم ما يشغل به وقته غير العلم انشغل به، فكأنه وجد فراغا فأخذ المصحف أو أخذ الكتاب حتى يشغل هذا الفراغ، ولو وجد كتابا ليس علميا لشغل به وقته، ولو وجد من يحدثه لشغل وقته بهذا الكلام الدنيوي أو اللهو. ومن الناس من يكون قصده بتعلمه أمرا دنيويا، فيقول أتعلم حيث أنه يبذل في هذا التعلم مكافأة، أو أجرة، أو مال أو نحو ذلك، فيكون من الذين تعلموا العلم لأجل الدنيا، ولا شك أن هذا يفسد النية، ولا يحصل له الفضل الذي ورد في فضل تعلم العلم. ومن الناس من يكون قصده بالتعلم مجرد شهادة أو مؤهل يحصل به على ترقية أو وظيفة أو نحو ذلك، وهذا أيضا مقصد دنيء لا يليق بالمؤمن أن يقصد هذا المقصد؛ وذلك لأنه لا يبارك له في علمه إذا كان يدرس لمجرد أن يحصل على كفاءة أو توجيه، أو ما أشبه ذلك، فيكون قصده قصدا دنيئا، وغير ذلك من المقاصد الدنيوية. وإذا قلت فما المقصد الصحيح؟ وكيفا إذا تعلمت العلم يكون قصدي قصدا حسنا؟ الجواب:

أولا: تنوي إزالة النقص، وذلك لأن الجهل نقص، فالله تعالى أخبر بأنه أخرجنا إلى الدنيا من بطون أمهاتنا جهلاء، قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] ، فإذا عرفت أن الإنسان ناقص في حالة جهله، ونويت أن تزيل هذا النقص لتحصل لك صفة كمال فإن هذا مقصد حسن، فتقول إني رأيت الجهلاء لا يعرفون وقدرهم ناقص عند الناس فأنا أريد أن أسد هذا الفراغ وأن أكمل ذلك النقص. ثانيا: أن تنوي شرف العلم وشرف العلماء، إذا عرفت أن للعلم فضلا، وأن العلماء لهم شرف، ولهم ميزة، يرفعهم الله تعالى بهذا العلم، إن الله يرفع بهذا العلم أقواما ويضع به آخرين، يقول الله تعالى: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] . ويقول الشاعر: العلم يرفع بيتا لا عماد له ****** والجهل يهدم بيت العز والشرف فأنت تنوي أن يكون هذا العلم فضلا وشرفا يرفعك الله به. ثالثا: أن تنوي العمل على بصيرة، لأنك مكلف، فإن الإنسان منا عليه أعمال وعليه واجبات وطاعات مأمور أن يتعبد بها، ومحرمات منهي عن فعلها.. وكيف يؤديها وتكون مجزئة؟ لا بد من أن يتعلم، حتى يعمل على بصيرة.. فمن توضأ وهو جاهل لم يعمل بالوضوء الصحيح، ومن لم يتعلم نواقض الوضوء انتقض وضوءه وهو لا يشعر، ومن لم يتعلم كيفية الصلاة وما يجب فيها ما قبلت منه صلاته، ومن لم يتعلم كيفية الحج وقع في أخطاء تفسده أو تبطله. فإذا نويت أن تتعلم حتى تعمل على بصيرة ويجزئك العمل ويصير مقبولا فهذه نية صالحة يثيبك الله تعالى على ذلك ويوفقك.

رابعا: إذا نويت حمل هذا العلم الذي هو علم الكتاب والسنة، لتبلغ من يجهل من أهلك وأقاربك وغيرهم ما يجهلونه، فقد ورد في الحديث " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (1) . ففي هذا أن حملة العلم هم أهل العدالة، فالذي ينبغي أن يكون من هؤلاء العدول نية صالحة، نية صادقة، وهكذا تكون المقاصد. هكذا ذكرنا أربعة أسباب تكون بها نية الإنسان صالحة، وأربعة تكون بها نيته فاسدة. كيفية طلب العلم: بعد ذلك كيفية التعلم والآداب التي يحصل بها على العلم.. فقد يقول قائل إن التعلم خاص بالصغار وأن الإنسان إذا أسنَّ فاته سن التعلم، وأنا قد كبرتُ، وقد طعنتُ في السن، فكيف أحصل على العلم؟ فنقول إن الإنسان يتعلم ولو بلغ الستين أو السبعين، فإن باب العلم مفتوح ووسائله مهيأة، وليس هناك عوائق، ونعرف أن كثيرا من الصحابة أسلموا وهم كبار السن، منهم ابن الستين وابن السبعين سنة ومع ذلك تعلموا، وكذلك التابعون الذين دخلوا في الإسلام وقد أسنوا، تعلموا وأصبحوا حفظة وعلماء ورواة.. لا شك أن هذا ليس عذرا أن يكون الإنسان قد تجاوز السن الذي يتعلم فيه فيترك التعلم. فللعلم آداب، ونذكر بعض تلك الآداب التي تكون وسيلة لذلك: أولا: إحضار القلب عند التعلم، فإن الكثير الذين يحضرون مجالس العلم والقلب غافل يجول في الشهوات، أو كذلك يحضرون خطب الجمع وأحدهم ناعس أو يوسوس في أمور بعيدة، فإنه لا يستفيد من الخطب، ولا يستفيد من التعلم ولا من الحلقات العلمية، فلا يكون بذلك مستفيدا، فلا بد أن تحضر قلبك ولبك.

_ (1) أخرجه ابن عدي في الكامل 1/146، وابن عبد البر في التمهيد 1/59، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.. وانظر الكلام على الحديث في فتح المغيث 2/14.

ثانيا: الحرص، فلا بد أن يكون طالب العلم حريصا على التعلم، فإن الذي يقول إن وجدت وسيلة تعلمت وإلا فلست بحاجة إلى العلم، ولست مُكَلِّفًا نفسي..! ليس هذا وصفُ طالب العلم، لا بد أن يحرص على التعلم، ويكون في قلبه همة واندفاع إلى التعلم. ثالثا: تفريغ وقت لطلب العلم، فإن الكثير الذين جعلوا أوقاتهم إما في مجالس عادية: زيارات ومجالسات مع أصدقاء أو مع زملاء أو مع أهل أو نحو ذلك، يفوتهم التعلم. كذلك أيضا إذا جعلوا أوقاتهم كلها في طلب الدنيا: في حرفة، في تجارة، في مصنع؛ وكذلك إذا جعلوا أوقاتهم في أسفار لنزهة أو زيارة عادية، أو أسفار لا أهمية لها، لا شك أنه يضيع عليهم الأوقات، فلا بد أن يخصص طالب العلم وقتا، كما إذا خصص كل يوم ساعة أو ساعتين، فإنه مع المواصلة يحصل على علم، بخلاف من شغل وقته بالقيل والقال، أو شغله بالزيارات، أو شغله بالخرافات، أو بالسماعات، أو بالعكوف على الملاهي، أو ما أشبه ذلك، فإنه قل أن يستفيد. وكثير قد تعلموا علما، ثم انشغلوا عن العلم به وانشغلوا عن ترداده، فكان ذلك سببا لنسيانه ولغفلتهم عنه. ومعلوم أن الإنسان في هذه الدنيا لا بد أن يكون له رزق يقتات به، فإذا يسر الله تعالى له من القوت ما يكتفي به فعليه أن يجعل بقية الوقت في طلب العلم، وإذا ضاقت به الحالة فإنه مرخص له أن يطلب الرزق، وأن يبتغى من فضل الله، لقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10] ، ولقوله: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] ، يبتغون الرزق، فإذا يسر الله للإنسان رزقا هنيئا حلالا يتقوت به، ويقوت به من تحت يده ومن يعول، فإن عليه أن يجعل وقته أو بقية وقته للاستفادة ولطلب العلم.

رابعا: الصبر والتحمل، فإنه قد يلقى مشقة، لكن عليه أن يتحمل، فإذا عرض له من يعوقه قطع تلك العوائق، وإذا نازعته نفسه وشعر بالملل والتعب والسآمة عصى تلك الدوافع، فإن النفس قد تميل إلى الراحة، وقد تميل إلى النوم وإلى الكسل وإلى الخمول، ولكن إذا عزم الإنسان ودفع نفسه، فإنها تطاوعه. وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ****** فإن أطمعت تاقت وإلا تسلتِ والنفس كالطفل إن تهمله شب على ***** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فهكذا النفس إذا أطيعت فإنها تندفع إلى الشهوة، وإلى اللذة، وإلى النوم، وإلى الراحة. نجد أن كثيرا أضاعوا أوقاتهم، فإذا دخلت إلى الحدائق وجدتها مليئة، وإذا دخلت إلى المقاهي وجدتها مليئة، وليس لهم حاجة إلا مجرد التسلي والترفيه بزعمهم يرفهون عن أنفسهم. فإذا تركت النفس على ما هي عليه اندفعت إلى ذلك اللهو، وإذا فطمت وترك ما تميل إليه انتفع الإنسان بالوقت ولم يضع عليه وقته. خامسا: الاستمرار وعدم الانقطاع، فهكذا طالب العلم لا ينقطع عن التعلم ولا عن العلم في وقت من الأوقات، بل يستمر عليه إلى الممات.. يقول بعض السلف: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي منذ أن تكون صغيرا إلى الموت، وكان كثير من السلف يطلبون العلم ويكتبونه، فيدخل أحدهم إلى الأسواق ومعه المحبرة - الدواة التي فيها الحبر -، وسنه كبير، فيُقال: لا تزال تحمل المحبرة؟ فيقول: من المحبرة إلى المقبرة، أي لا نزال نواصل العلم. ونسمع عن كثير من طلبة العلم أنهم يواصلون طلب العلم ليلا ونهارا ولا يملون ولا يتكاسلون، ويذكر أن أحد مشايخ مشايخنا كان طوال ليله وهو يقرأ للتحفظ أو يكتب العلم، فيجيئه بعض المحسنين بعشاء بعد صلاة العشاء ويوضع إلى جنبه ولا يتفرغ لأكله إلا بعد الأذان الأول في آخر الليل، ويجعله سحوره، يجعل عشاءه سحورا انشغالا بطلب العلم، انشغالا بالقراءة والكتابة وما أشبه ذلك.

ونسمع عن الأولين أن أحدهم يسافر مسيرة شهر وشهرين في طلب حديث أو أحاديث ويغيب عن أهله سنة أو سنتين أو سنوات كل ذلك لطلب العلم ولا يملون، ولا يقولون أضعنا أهلنا، أو هجرنا بلادنا.. لأن الدافع قوي وهو تحصيل العلم النافع، فهكذا يكون طالب العلم. سادسا: التكرار، أي تكرار ما علمه وذلك لأنه إذا تعلم فائدة ثم تغافل عنها ذهبت من ذاكرته ونسيها بسرعة، وأما إذا تذكرها مرة بعد مرة، قرأ الحديث وبعد حفظه راجعه بعد شهر وبعد أشهر حتى يرسخ ويثبت في ذاكرته فإنه يكون من حملة العلم وحفظته. لذلك كان السلف يوصون بمذاكرة العلم، يقول بعضهم: مذاكرة ليلة أحب إلي من إحيائها. يعني كوني أجلس في هذه الليلة أتذكر العلم وأتذكر ما حفظته أحب إلي من أن أقومها قراءة وتهجدا وصلاة وركوعا وسجودا، وذلك لأن هذا - أي مذاكرة العلم - نفع متعد. سابعا: كتابة ما استفاده، فكلما استفاد فائدة أثبتها معه في دفتر أو ورقة وكررها إلى أن يحفظها. يقول العلماء: " إن ما حفظ فر وما كتب قر "، أي أن ما كتبته ستجده فيما بعد.. ويشبهون العلم بالصيد، فيقول بعضهم: العلم صيد والكتابة قيده ******** قيد صيودك بالحبال الواثقة فمن الحماقة أن تصيد غزالة ****** وتتركها بين الخلائق طالقة إذا صاد الإنسان غزالة ثم أطلقها فإنها تهرب، بخلاف ما إذا قيدها بحبل وثيق، فهكذا الكتابة تثبت هذه العلوم بحيث أنك تجدها فيما بعد ويصل عليها. وقد يسر الله أيضا في هذه الأزمنة التسجيلات التي تحفظ الكلام الذي أنت تريد حفظه لتراجعه فيما بعد وتستفيد منه بعد يوم أو بعد أيام أو ما أشبه ذلك.

ثامنا: الواضع، لا سيما في مجالس العلماء، وذلك أن العالم هو الذي يتواضع لمن يعلمه، وقد ورد في الأثر: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " (1) . فالذي يتكبر ولا يتواضع لمن هو أصغر منه لا يوفق للعلم كما إذا رأى عالما أصغر منه سنا يقول كيف أتعلم من هذا الطفل؟ أو من هذا الصغير الذي أنا أكبر منه؟ نقول: إن الله تعالى شرفه وفضله بالعلم فعليك أن تصغر نفسك وتتواضع وتأخذ العلم ممن هو معه، ولو كنت أشرف وأغنى وأكبر وأرقى فإن العلم يؤخذ من منابعه ومن أهله. تاسعا: الجرأة وعدم الاستحياء، يعني أنك إذا صرت تستحي من أن تسأل بقيت على جهلك؛ ولذلك قال بعض السلف: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر "، يحمله تكبره على أن يعجب بنفسه ويبقى على جهله، وكذلك أيضا يحمله استحياؤه عن أن لا يطلب أو يستفيد ممن معه علم فيبقى على جهله. نقول إن الإنسان إذا تأدب بهذه الآداب الشرعية فإن الله تعالى يوفقه ويفتح عليه ويرزقه العلم النافع والعمل الصالح، ونذكر الخصال الستة التي أشرنا إليها حيث نظمها بعضهم: أخي لن تنال العلم إلا بستة ***** سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة **** وصحبة أستاذ وطول زمان هذه هي الوسائل التي يمكن أن ينال طالب العلمِ العلمَ بها، ولا شك أن العلم موهبة وفضل من الله تعالى، فإن الكثير من العلماء المشاهير لهم أولاد انحرفوا عن العلم وصاروا دنيويين، وكثير من الجهلة يسر الله لأولادهم فتعلموا وصاروا قادة وسادة، فهو فضل من الله تعالى، متى كان عند الإنسان نية صادقة وأحب مواصلة التعلم يسر الله تعالى له العلم. نكتفي بهذا، نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا متقبلا، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه على كل شيء قدير. الأسئلة

_ (1) الأثر عن مجاهد رحمه الله، انظر البخاري مع الفتح 1/228

س 1: ما أهم المتون التي تنصحون بحفظها في مختلف العلوم؟ - أنصح في العقيدة بالعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنها جامعة ومفيدة، وعليها شروح لكثير من العلماء، وكذلك كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد إذا تيسر حفظه أو قراءته وتكراره، والثلاثة الأصول للمبتدئين، فهذه الثلاثة بالنسبة للعقيدة كافية إن شاء الله. وهناك منظومة " سلم الوصول " للشيخ حافظ الحكمي إذا تيسر حفظها، أو حفظ ما تيسر منها أو قراءة شرحه استفيد من ذلك. وبالنسبة لعلوم الحديث: ننصح بحفظ "الأربعين النووية" وبقراءة "عمدة الأحكام من كلام خير الأنام " فإن أحاديثها صحيحة، ثم بعدها إذا تيسر قراءة بلوغ المرام والاستفادة منه. وبالنسبة لعلوم القرآن، أفضل ما أتذكر " تفسير ابن كثير" وكذلك مختصراته، كمختصر الرفاعي لا بأس به، وتحقيق أحمد شاكر اسمه " عمدة التفسير ". وبالنسبة إلى أحكام الفقه كتب ابن قدامة كالعمدة والمقنع وشروحه، والمحرر والهداية والزاد وشروحه ونحوها. وبالنسبة لعلوم الحديث هناك المنظومة البيقونية، ونخبة الفكر وما عليها من الشروح. وبالنسبة إلى الآداب ننصح بقراءة رياض الصالحين بكثرة فإن فيه الفضائل وفيه الآداب. س 2: ما علاج الفتور الذي يمر بطالب العلم؟ كثير يشتكي من هذا الفتور الذي هو كسل يحصل من آثاره أن ينقطع عن طلب العلم، ذكرنا أن هذا من الكسل والخمول، وأن الإنسان إذا عود نفسه فإنه يستمر على طلب العلم وينشط نفسه. والنفس كالطفل إن تهمله شَبَّ على ***** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فعليك أن تفطم نفسك عن الملاهي التي تكسل عن طلب العلم حتى تصل إلى رتبة تجد فيها العلم النافع إن شاء الله. س 3: من طلب العلم لأجل غرض دنيوي هل يلحقه الوعيد الوارد في الحديث؟

- لا شك أنه لا يحصل له به أجر ولا فائدة، لأن الغالب أن الذين يدرسون لطلب المؤهل فقط لا يستفيدون من علومهم، بحيث أن أحدهم إذا انتهى من تلك المرحلة أحرق كتبه، أو ألقاها في القمامة أو باعها بأبخس الأثمان؛ لأنه ما تعلم إلا لقصد، فنقول: إن مثل هؤلاء لا يبارك لهم في علومهم وربما يعاقبون عليها، فعلى الإنسان أن ينوي مع ذلك رفع الجهل عن نفسه والعمل بالعلم. س 4: هل يكتفي طالب العلم بالدراسة في المعاهد أو يحضر حلقات العلم في المساجد؟ - لا شك أن القراءة في المعاهد فيها خير كثير، وفيها علم جم، ولكن إذا كان عنده وقت فلا يحرم نفسه أن يحضر حلقات العلم، فهناك ندوة أسبوعية في الجامع الكبير – جامع الإمام تركي -، هذه الندوة كل يوم خميس ليلة الجمعة، فلا يحرم نفسه أن يحضر ليستفيد، كذلك أيضا هناك حلقات في صباح الخميس وصباح الجمعة في كثير من المساجد، فلا يحقر نفسه أن يستفيد منها، فإن مواصلة العلم خير وتفيد طالب العلم فإنه يحصل على تذكر العلم وترسيخه في ذاكرته. س هـ: هل يمكن استدراك ما بقي من العمر مع وجود الأشغال الكثيرة؟ نعم فإن المسلم لو تعلم كل يوم ساعة أو نصف ساعة بلغ المنزل، أتذكر أن بعض مشايخنا جلس مرة للمبتدئين، بعضهم عمره من الخمسين إلى الستين، ثم حثهم على طلب العلم وضرب لهم مثلا فقال: إن أحدكم لو أراد أن يعمر له بيتا ولم يتيسر له إلا أن يبني كل يوم لبنة واحدة، ففي سنة يكون قد بنى ثلاث مائة وستين لبنة، في سنتين أو في ثلاث سنين يتم البناء ويرتفع، وهكذا تستفيد كل يوم فائدة أو فائدتين تضيفها إلى معلوماتك، ولو كل يوم نصف ساعة.. ووسائل العلوم – والحمد لله – متيسرة، فالكتب متوفرة والأشرطة الإسلامية متوفرة وحلقات العلم متوفرة، وخطب الجمع فيها علوم نافعة، والإذاعة لا سيما إذاعة القرآن التي تشتمل على علم نافع يجد فيه الإنسان كل ما طلبه، فلا يتوقف الإنسان عن التعلم ويقول تجاوزت سن التعلم.

س 6: كيف يكون أدب الطالب مع شيخه؟ - لا شك أن هناك آدابا كثيرة في آداب العالم مع تلاميذه، وآداب الطالب مع مشايخه، وأهمها: التواضع: فيتواضع طالب العلم مع مشايخه ويكون محترما لمشايخه، ويكون منصتا في حلقات العلم، ويكون مستفيدا، ومحضرا قلبه ولبه، ويكون أيضا جالسا جلسة تواضع كما ورد في قصة سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، قال عمر رضي الله عنه " فأسند ركبتيه إلى ركبتيه " (1) . أي أن جلوسه كجلسة الجالس بين السجدتين مفترشا، ووضع كفيه على فخذيه، بمعنى أنه فعل فعل المتواضع وكأنه يعلمهم آداب التعلم. وهكذا السؤال عما يشكل، فإذا استشكلت مسألة طلب من الأستاذ أن يعيدها برفق، وإذا سأله المدرس طلب الاسترشاد، وإذا أفاده بفائدة حمده عليها ومدحه على هذا، كما يقول بعض الشعراء: إذا أفادك إنسان بفائدة ******** من العلوم فلازم شكره أبدا وقل فلان جزاه الله صالحة ***** أفادنيها وألق الكبر والحسدا فلذلك كله آداب، وقد ألف فيها أحد العلماء وهو ابن جماعة له كتاب مطبوع اسمه " تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ". س 7: ما هي النصيحة لبعض طلبة العلم الذين يثيرون الشبه حول الدعاة المعروفين أو يذكرون الأخطاء؟

_ (1) مسلم برقم (8)

- علينا أن ننصحهم ونبين لهم أن عليكم إصلاح أنفسكم، فإن عندكم أخطاء أكثر وأكثر، فعليكم أن تصلحوا أنفسكم، وعليكم أن تستروا عورات إخوانكم، فمن ستر مسلما ستره الله، وأن تلتمسوا لهم الأعذار كما ورد عن بعض السلف أنه قال: إذا سمعت من أخيك كلمة فالتمس له عذرا. وقال: لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، احملها على أحسن المحامل، عليك أن تذكر فضلهم، إذا كان لهم فضائل، ولا تكتم فضلهم وتبدي أخطاءهم وكأنهم ليس لهم فضل أبدا، وهذه عادة سيئة أن كثيرا من الناس يلتمس عثرات بعض العباد والعلماء ونحوهم، ويفشيها ويعلنها ويكتم فضائلهم وآثارهم وعلومهم النافعة، فيكون كما قال الشاعر: ينسى من المعروف طودا شامخا ****** وليس ينسى ذرة ممن أساء فكيف تنسى فضائلهم وآثارهم ولو كانت أمثال الجبال، ولا تنسى ذرة صدرت من أحدهم، يعني خطيئة، هذا لا شك أنه من الخطأ الكبير. س 8: "طلبنا العلم لغير الله فصار لله " يسأل عن معناها: - كان هناك بعض من العلماء طلبوا العلم إما لقصد شغل فراغ، وإما لطلب شهرة أو نحو ذلك، ولكن بعدما رأوا حلاوة العلم وذاقوا فضله أخلصوا نياتهم فيما بعد، وواصلوا تعلمهم ونفعهم الله تعالى ونفع بهم، فكان في النهاية إخلاصا لله تعالى. س 9: هل يلزم طالب العلم حفظ القرآن؟ - الأفضل الاهتمام بالقرآن حفظا وتلاوة وتعلما، ولكن هناك بعض من الناس يصعب عليهم الحفظ، أو يحفظون ولكن سرعان ما ينسى أحدهم، فنقول: إن تعلم العلم الذي أنت ملزم بالعمل به، ولا يقبل عملك إلا بتكملته لا بد من تعلمه، فليكن تعلم العلوم الفرضية لازم وإن لم يحفظ القرآن وبقية وقته يجعله في حفظ القرآن وفي التزود من العلم. س 10: طالب ينقل الواجب من زميله والمدرس ينهاه عن ذلك؛ لأن المدرس يريد كل طالب أن يقرأ الكتاب ويكتب منه. فما حكم ذلك؟

- الأصل أن الإنسان يعتمد على ما ذاكره وعلى ما حفظه من المدرس، ولا يجوز له أن يعتمد على غيره. س 11: ما حكم إطلاق كلمة المرحوم أو المغفور له على الميت؟ - أرى أنه لا بأس بذلك تفاؤلا كالدعاء كما يقال غفر الله له، فهو مغفور له بواسطة دعاء إخوانه المسلمين، وليس في ذلك جزم ولا تزكية. س 12: أسهر لطلب العلم ولكنني أعاني من الغد فهل أستمر على هذا السهر في القراءة؟ - العادة أن الإنسان إذا كان له همة تابع ولو واصل الطلب طوال الليل، ولكن قد نهي عن اتعاب النفس وإرهاقها سواء في الصلاة والتهجد، أو في التعلم وما أشبهه.. ثم نقول: إن الكثير من الناس اعتاد السهر ولكن لا في طلب علم ولا في صلاة، بل إما في قيل وقال، وإما في لهو وسهو وغناء وخمر وزمر ونظر إلى صور وأفلام وما أشبه ذلك، ومع ذلك لا يسأم أحدهم ولا يمل إلى الساعة الثانية أو الثالثة ليلا، وهو جالس أمام هذه الشاشات وأمام هذه الأصوات، ومع ذلك إذا قرأ في سورة أو نحوها كسل ومل وتعب، ولا شك أن هذا من ضعف النفس، والإنسان عليه أن يعود نفسه ما فيه خير، حتى تسهل عليه الطاعات وتخف عليه بإذن الله. س 13: هل يستطيع الإنسان أن يجمع بين طلب العلم وبر الوالدين وحقوق الزوجة والأولاد والأقارب؟ - يستطيع.. فإنه لا يستغرق أربعا وعشرين ساعة، فعليه أن يجعل لنفسه راحة، النوم مثلا كل يوم ست ساعات أو سبع ونحوها، وكذلك راحة نفسه في أكل أو نحوه ساعة أو ساعتين، وكذلك أوقات العبادة ساعة أو ساعتين، كذلك الزيارات نحو ساعة أو ما أشبهها، وهكذا أيضا أعماله التي هو منوط بها كدراسة أو تعلم أو وظيفة أو نحوها إذا استغرقت ثماني ساعات أو سبع ساعات أو ما أشبهها وبقية الوقت يجعله للتعلم ويجعله للتزود من العلوم، فالوقت واسع. س 14: ما حكم قول: حفظتك رعاية الله وقول في ذمتي؟

- في رعاية الله لا بأس بها، لكن قول " حفظتك "! نقول حفظك الله برعايته، أو رعاك الله، أو أنت في رعاية الله وفي حفظ الله، أما الحلف بالذمة فمعناه العهد، إذا قال في ذمتي معناه أتعهد لك ولك عهد أعاهدك أن أفي لك بهذا، فمن قال ذلك فعليه أن يوفي بما تعهد به. س هـ1: ما حكم قول الخطباء في نهاية الخطبة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) .. هل ورد ذلك؟ - يذكر أن الخطباء في العراق كانوا في آخر الخطبة يدعون بأمر الحجاج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويشتمونه في آخر الخطب، فبعد ذلك في سنة 99 هـ آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فأمرهم بقطع هذا اللعن وهذا السب، وأمرهم أن يختموا خطبهم بهذه الآية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] فاستمر العمل عليها إلى هذه الأزمنة؛ لأن عمر بن عبد العزيز يعتبر من الخلفاء الراشدين، ولو تركها إنسان لا تبطل خطبته. س 16: يتساهل البعض في سداد الديون سواء الأقساط أو غيرها، فما النصيحة لهؤلاء؟ - نصيحتنا بأن لا يتساهلوا في حقوق الناس، فكل يحرص على أداء حقه إليه كاملا، وكذلك أيضا الوفاء بالعهد، فإنك إذا استدنت دينا التزمت بأن تسدده أقساطا، فإن عليك عهد وميثاق فعليك الوفاء بهذا العهد لقول الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء: 34] . س 17: هل يجوز أن أحج عن والدي المتوفى وأنا لم أحج عن نفسي؟ - ابدأ بنفسك، لا يجوز أن يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه، وبعد ذلك يمكنك أن تحج عن والدك. س 18: هل عذاب القبر يقع على الروح والجسد؟ - الأصل أنه يقع على الروح، لأن الجسد يفنى ويصير ترابا، ولكن لا يستبعد أن الله تعالى يوصل إليه تألما ولو كان ترابا. س 19: هل كثرة المساجد والتقارب بينها تعد من علامات الساعة؟ - لم يرد ذلك، ولكن لا يشرع التقارب الكثير، بل لا بد أن يكون بين المسجدين مساحة كمائتي متر أو ما أشبهها، حتى لا يكون هناك مضارة.

س 20: هل يجوز دفع الزكاة لأخ فقير؟ - إذا كنت لا ترثه ولا يرثك - أي أن لكما أولاد - وهو فقير فهو أحق بزكاتك. س 21: هل الأرض كروية الشكل أو هي مسطحة؟ - الواقع أنها كروية خلقها الله تعالى على هذا، ولأجل ذلك الشمس تدور حولها. س 22: آخذ في حفاظ آيات الله وقتا طويلا، فهل أؤجر على ذلك؟ - تؤجر بقدر جهدك وبقدر ما تبذله من الوقت فلك أجر كلما كررت. س 23: هل يحمد من الطالب أن يخرج من الدرس والمدرس يشرح ليصلي سنة الضحى؟ يفضل استمراره، فإن المشايخ نسمع منهم أن طلب العلم أفضل من النافلة، وفي إمكانه إذا انتهى من الدرس أن يأتي بسنة الضحى. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

أحكام الرضاع

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية أحكام الرضاع

السؤال:- أفيدكم بأنني شاب يتيم وأرغب في إكمال نصف ديني وأتزوج من بنت عمتي، والمشكلة هنا هي أن عمتي شقيقة والدي أخبرتني بأني رضعت مع ولدها الأوسط وعمره ثلاث سنوات، وهذا الابن جاء بعده ابن ثاني ثم أنجبت الفتاة من بعدهما، وقد تمنيت من الله أن تكون هذه الفتاة من نصيبي ... ولكن عندما أختبرتني عمتي بهذا الشيء أردت أن أستفسر عن هذا، وهل يجوز الزواج من هذه الفتاة أم لا؟ علماً بأنها أرضعتني مرة واحدة والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان) . الجواب:- إذا كانت رضعة واحدة كما ذكرت فلا تحرم عليك بنت عمتك، وإنما يحرم خمس رضعات والله أعلم.

السؤال:- إنني تزوجت امرأة قريبة لي منذ خمس سنوات، ومنذ أيام عرفت أنها رضعت من أمي، فقمت بسؤال أحد العلماء فقال لي: إذا كانت الرضعات محرٍّمات فقد صارت أختاً لي ويجب علينا أن نتوجه إلى المحكمة. وعليه فقد قمت بسؤال والدتي التي أرضعتها فقال: أنها كانت في زيارة لمنزلهم (يعني منزل أهل الزوجة) بعد ولادتها ولم ينزل بعد لبن أمها واحتاجت للرضاعة فقمت بإرضاعها رضعة واحدة، وبعدها نزل لبن أمها وأقسمت بالله على ذلك، ثم رجعت إلى الشيخ الذي استفتيته أولاً فنصحني بالتوجه إلى دار الإفتاء لأخذ القول الفصل في المسألة، وعليه فإنني أعرض المسألة على فضيلتكم سائلاً الله عز وجل أن يوفقكم فيها إلى ما يحب ويرضى. الجواب:- إذا تأكدت والدتك أن الرضعة واحدة وحلفت على ذلك فالقول قولها وتصدق في ذلك ولا يؤثر هذا الرضاع وتبقى الزوجية كما هي ولا تثبت الأخوة بينك وبين هذه الزوجة والله أعلم.

السؤال:- نعم أنا فريح لديَّ ولد اسمه حباس وقد طلقت أمه وهي حامل فيه، وأرضعته حرمة أجنبية، وأم ولدي أرضعت أولاد الأجنبية، وبنتي أنا يا فريح من امرأة ثانية وتكون أختاً لابني حباس من الأب، زوجتها أحد أبناء المرأة الأجنبية وهي أم ولدي الأكبر من الرضاع، فهل هذا جائز أم فيه شك؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- إن أولاد المرأة الأجنبية الذين أرضعتهم أم حباس مع ابنها حباس يصبحون أولاداً لفريح حيث إن اللبن منه، فإن أرضعتهم بلبن زوج بعد فريح فلا يكونون أولادً له، فينظر هذا الزوج لبنت فريح هل رضع مع حباس أو مع غيره والله أعلم. السؤال: أنا امرأة أرملة ولي بنت أخت متزوجة منذ سنين طويلة ولها من العيال تسعة، أكبرهن متزوجة ولها ولد، ومشكلتي يا فضيلة الشيخ بأني يوم ولدت أرضعتني عمتي أخت أبي مع ابنها، ولما كبرت تقدم لي عمه أخو أبيه فوافقت عليه وتزوجته وصار عندي من العيال تسعة عيال، ولم نكن نعلم بموضوع الرضاع، ولم أعلم إلا بعد سنين طويلة تقارب العشرين سنة، ولم يخبرني عن موضوع الرضاعة أي أحد حيث إن المرضعة لم تعلم عدد الرضعات التي أرضعتها لي بحكم مرور زمن طويل جداً، وكنت يومها مولودة صغيرة حيث إن أُمي لم يأت حليبها بعد (أي اللبن) ولم أكن أستطيع الرضاعة لصغر سني، ولابد من وضع الثدي في فمي لإجباري على الرضاعة، نرجو توضيح الحكم الشرعي في الموضوع، وجزاكم الله خيراً. الجواب:- تعاد للاستفسار عن الزوج هل هو عم ابن المرضعة من النسب أو عم ابنها من الرضاع. وحيث إن الرضاع يغلب على الظن أنه مانع ولا نجزم بذلك لوجود الشك في عدده، فالأولى القول بالتحريم والله أعلم.

السؤال:- أفيدكم أنني قد رضعت من امرأة مع ابنتها نورة، فهل يكون إخوان نورة إخواني؟ وهل أكون محرماً لأخواتها؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- تكون المرضعة أمك وزوجها أباك ونورة أختك من الرضاعة وأخواتها أخواتك وإخوانها إخوتك وأما إخوانك فهم أجانب منها.

السؤال:- أنا رجل خطبت ابنة عمي، وقد رضعت من أمها -وهي زوجة عمي- رضعة واحدة التقمت الثدي مرة واحدة ثم تركته، وزوجة عمي أخبرتني بذلك وهي امرأة ثقة، فهل تحل لي ابنة عمي المذكورة بالرضاع المذكور؟ والله يحفظكم. الجواب:- الرضعة الواحدة لا تحرم، ولا أثر لها في الرضيع فعلى هذا تحل لك بنت عمك ولا تكون محرماً لزوجة عمك بمجرد هذه الرضعة، فإنما يحرم خمس رضعات فأكثر إذا كانت في الحولين والله أعلم.

السؤال:- يوجد بنت وولد، البنت رضعت من أم الولد، والولد رضع من أم البنت بالتناوب، وتمت الرضاعة أكثر من شهر، فهل إخوان الولد يصبحون إخواناً لأخته من الرضاعة؟ وهل يجوز للبنت أن تكشف عليهم أم لا؟ كما أن أبا الولد متزوج زوجة أخرى ولها أولاد، فهل يجوز لهم أيضا الكشف على أخت الولد من الرضاعة؟ الجواب:- هذه البنت التي رضعت من أم الولد تصبح أختاً له ولجميع إخوته الذين من أبيه أو من أمه حيث إنها بنت أمهم أو بنت أبيهم فهي تقول أمكم أرضعتني فأنا أختكم من الأم، وأخت إخوتكم من الأب حيث رضعت من اللبن الذي سببه أبوكم، وكذا هذا الولد الذي رضع من أم البنت تصبح البنت واخوتها محارم لذلك الولد لأنه رضع من أمهم ولبن أبيهم والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

السؤال:- عندي بنات خالي أربع، اثنتان رضعن من أمي، واثنتان لم يرضعن من أمي، فهل يحق لي الزواج من إحدى الاثنتين اللتين لم يرضعن من أمي؟ أفتونا مأجورين. الجواب:- نعم يحق لك الزواج من التي لم ترضع من أمك وأنت ما رضعت من أمها فهي أجنبية ولا يضرها رضاع أختيها.

السؤال:- أبو البنات منصور، والبنت الكبرى عبير رضعت من زوجة خالها أكثر من خمس رضعات مشبعات مع ابنهم الصغير إبراهيم. هل يجوز زواج البنت الصغرى ليلى من ابنهم الكبير عبد الناصر الذي لم يجتمع معها على ثدي واحد؟ الجواب:- إذا كان ابنهم الكبير عبد الناصر لم يرضع من زوجتك، وكانت بنتك ليلى لم ترضع من أم عبد الناصر ولا من زوجة أبيه حلت له ولا يضرها رضاع أختها عبير من أمه، وتكون عبير أخت عبد الناصر من الرضاع وأختها ليلى زوجته والله أعلم.

السؤال:- رجل رضع من زوجة أخيه، ويريد أن يزوج ولده من بنت أخيه التي رضع من أمها، فهل يجوز هذا شرعاً؟ الجواب:- هذا الراضع يصبح ابناً لأخيه، وبنات أخيه صاحب اللبن أخواته وعمات عياله، فلا يحل له أن ينكح ولده من أخته من الرضاع وكذا ولد ولده وإن نزلوا.

السؤال:- لقد أرضعت والدتي طفلة ليلة ونصف نهار -من المغرب إلى ظهر اليوم التالي- كلما جاعت الطفلة أرضعتها، وذلك لمرض والدة الطفلة والتي تعتبر أخت والدتي. فما موضع الطفلة مني ومن إخواني وأخواتي من الأب والأم؟ وما موضعها من إخواني وأخواتي من أمي فقط قبل زواجها من أبي صاحب اللبن؟ الجواب:- تصبح هذه الطفلة بنتاً لأمكم وبنتاً لأبيكم صاحب اللبن، وأختكم جميعاً أي جميع أولاد المرضعة من الزوجين كلهم إخوتها وأخواتها، وجميع أولاد صاحب اللبن وهو زوج المرضعة وقت الرضاع إخوة لهذه الطفلة سواء من هذه الزوجة أو من غيرها والله أعلم.

أحكام الصلاة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية أحكام الصلاة

السؤال:- عندما تصلي المرأة خلف الرجال هل تدخل معهم بنية الجماعة أم منفردة؟ الجواب:- لا يجوز للمرأة أن تَصِفَّ إلى جانب الرجل ولو كان محرماً لها، بل عليها أن تقوم خلفهم ولو كانت وحدها، فإن كان هناك نساء فإنهن يُقمن الصفوف وخير صفوف النساء آخرها لبعده عن الرجال.

السؤال:- إمام يصلي بجماعة وأمامه غرفة (حجرة) وفيها نساء هل يجوز لهن أن يصلين ويأتممن بهذا الإمام ولو حالت تلك الحجرة بينهن وبين قبلة الإمام، يعني يصلين أمام الإمام؟ الجواب:- لا يجوز للمأمومين أن يصلوا أمام الإمام سواءً من الرجال أو النساء، وسواءً كنَّ في غرفة أو في رحبة أو صحراء بل كل المأمومين يصلون خلف الإمام أو عن جانبيه ولو كان دونه جدار أو حاجز إذا كان أمامهم أو عن أحد جانبيهم.

أحكام الصيام

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية أحكام الصيام

السؤال:- هل الاستنجاء يفسد الصوم؟ الجواب:- لا يفسد الصوم بالاستنجاء الذي هو غسل الفرجين أو أحدهما بالماء ولو دلكهما بيده ولو دخل الماء أو شيء منه في المخرج فإنه معتاد ولا يصل إلى الجوف بالاستنجاء والله أعلم.

السؤال:- أنا امرأة أفطرت أربعة أشهر من أشهر رمضان، حيث إما أكون نفساء أو في الشهر الأخير من الحمل، ولم أقضها إلى الآن، لأني كنت أعتقد أن المرأة المعذورة ليس عليها قضاء للصوم كالصلاة. والآن أبلغ من العمر سبعا وأربعين سنة، فماذا أعمل الآن؟ الجواب:- لابد من قضاء هذه الأشهر الأربعة ولو متفرقة، ولابد مع القضاء من الكفارة عن التأخير وذلك بإطعام مسكين عن كل يوم أي عن كل شهر خمسة عشر صاعاً، والله أعلم.

السؤال:- أنا امرأة قد أنعم الله عليَّ بصيام ست من شوال كل عام، وفي هذا العام أردت أن أصوم كما عودت نفسي، ولكن زوجي قال لي: (الله لا يقبل منكِ إذا صمتِ) . فهل يجوز لي أن أصوم الست أم لا؟ الجواب:- لا تصومي تطوعاً إلى بإذن الزوج إلا أن يكون غائباً أو تعلمين أن الصوم لا يعوقكِ عن خدمته وأنه لا يحتاج إلى الاستمتاع معكِ في ذلك النهار، فإن صمتِ فطلب منكِ المضاجعة فاستجيبي له ولو كنتِ صائمة إذا لم يأذن في الصوم.

السؤال:- امرأة في الخمسين من عمرها لم تقضِ الأيام التي كانت تفطرها من رمضان بسبب العادة الشهرية إما تهاوناً أو جهلاً بالحكم الشرعي، علماً أن ذلك كان أيام شبابها وقبل زواجها. وهي الآن تسأل ماذا تفعل؟ هل يلزمها القضاء؟ مع العلم أنها لا تعلم كم سنة فعلت ذلك وهي الآن تصوم أيام التطوع مثل ست من شوال وتنويها عن تلك الأيام التي مضت. أفتونا مأجورين. الجواب:- لابد من القضاء والاحتياط فتصوم حتى تجزم بأنها قد قضت جميع ما أفطرته أو زادت عليه من أيام عادتها فإذا كانت تصوم الست من شوال بنية قضاء أيام عادتها السابقة أجزأ ذلك عنها بهذه النية، فعليها إكمال ما بقي ثم عليها مع الصيام إطعام مسكين عن كل يوم لأجل التأخر عدة سنين فتدفع الإطعام مرة واحدة فإذا كانت لم تصم ثلاث سنين أيام العادة وكل سنة ستة أيام فعليها إطعام ثمانية عشر مسكيناً والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- ما حكم من أتى زوجته بعد صلاة الفجر في رمضان لا يعلم الحكم الشرعي في ذلك؟ وما هي كفارة هذا الفعل؟ أفتونا مأجورين. الجواب:- إذا حصل الجماع في نهار رمضان بعد الإمساك فلابد من القضاء والكفارة، ولا تسقط بجهل الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر ذلك الأعرابي الذي واقع أهله في رمضان وهو لا يدري عن الكفارة، والكفارة هي تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

أحكام الطهارة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية أحكام الطهارة

السؤال:- امرأة يأتيها شيء قبل الحيض وهو نوع من الصفار والكدرة وأحياناً يكون أحمر فكيف تصلي؟ الجواب:- هذا دم فساد لا يمنع من الصلاة، وعليها أن تغسل فرجها وتعصبه وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي حتى يخرج الوقت ثم تتوضأ للوقت الثاني كذلك، إلا أن تتحقق أنه لم يخرج منها شيء بين الوقتين فلا يلزم إعادة الاستنجاء والوضوء.

السؤال:- امرأة جاءتها الدورة أول مرة في الشهر الماضي ولما طهرت منها جلست حوالي ثلاثة عشر يوماً، ثم خرج منها سائل أحمر غامق اللون وجلست فيها حوالي ثلاثة أيام، صحيح أنه كثير ولكنه أقل بكثير من دم الحيض المعروف، فماذا تفعل الآن هل تصلي؟ وهل تمس المصحف؟ أم ماذا تفعل؟ أفتونا مأجورين. الجواب:- هذا السائل الذي جاء قبل حينه وهو مغاير لدم العادة بلونه وقدره أرى أنه دم عرق فلا مانع من الصلاة والقراءة ومس المصحف حتى يأتي الدم العادي الذي هو دم الحيض المعروف.

السؤال:- منذ سن البلوغ أعاني من مرض يترتب عليه خروج (المذي) الطاهر باستمرار تقريباً، وفي البداية لم أكن أعرف بأن هذا ينقض الوضوء ولم أكن أعرف بأنه نجس فكنت أصلي حتى لو خرج شيء منه من غير أن أتوضأ، لم أكن أغسل المحل الذي وصل شيء منه إليه، وأصلي على هذا الحال، وأنا والله العظيم لم أكن أعرف بحكمه وعندما عرفت بحكم ذلك تحرزت منه بقدر استطاعتي وتوضأت لكل صلاة، وفي البداية لم أتداوى منه ولكنني منذ فترة ذهبت إلى الدكتورة للعلاج ولكن العلاج لم يُفِدْني وسؤالي هو: (أ) هل يجب عليَّ قضاء الصلوات التي صليتها على تلك الحال وأنا جاهلة بالحكم علماً بأنها كثيرة ولا أقدر على حصرها؟ وهل التحرز منه بحشو قطنة محل خروجه يفسد الصوم؟ وما الطريقة الصحيحة للتحرز منه؟ (ب) أحياناً عندما استيقظ من النوم أجد رطوبة ولكنني لا أغتسل منها لسببين، الأول: أني لا أعرف ما إذا كانت مذيّاً أو غيره. والثاني: أنه يغلب علي ظني بأن ما أجده هو بسبب المرض الذي ذكرته لكم. وسؤالي هو: هل عليَّ الاغتسال أم لا؟ وإذا كان الجواب نعم فهل عليَّ إثم في أنني صليت من غير اغتسال؟ وماذا عليَّ أن أفعل تجاه ذلك. الجواب:- (أ) لا يجب عليكِ قضاء الصلوات الماضية لعذر الجهالة ويكفي التحفظ بقطن ونحوه ولا يفسد به الصوم. (ب) لا يلزم الاغتسال بل يكفي الوضوء إذا لم تذكري احتلاماً ولأنه مشكوك في أنه مذي أو غيره والأصل أنه من المرض.

السؤال:- هل يشترط عند الغسل من الدورة الشهرية فرك البدن أثناء صب الماء أم أنه يجزئ القيام بفرك البدن بالصابون ثم صب الماء عليه بدون الفرك مرة أخرى؟ الجواب:- الواجب صب الماء على البدن وتعميمه بالغسل ودلك الجسم الذي يقدر على دلكه بيده، وإن لم يستطع اكتفى بوصول الماء إليه، أما الصابون ونحوه فلا يلزم لرفع الجنابة أو الحدث والله أعلم.

السؤال:- ما حكم من صلى وفي ثوبه دم، سواء كان دم إنسان أو دم حيوان؟ وهل يعيد صلاته أم لا؟ الجواب:- إذا كان الدم يسيراً كنقطة أو نقطتين أو ثلاث متفرقات فلا إعادة عليه، فإن كثرت النقط أو مواضع الدم فإنه يعيد إن كان عالماً بالدم قبل الصلاة ولم يغسله، فإن كان جاهلاً به ولم يعلم حتى فرغ من الصلاة فلا إعادة عليه لعذره بالجهل.

السؤال:- الإفرازات ما قبل العادة الشهرية، هل تصلي معها المرأة؟ وهل يلزمها أن تتطهر منها؟ وماذا تعمل إذا نزلت أثناء الصلاة؟ الجواب:- هذه الإفرازات التي تأتي قبل الدورة الشهرية والتي هي عبارة عن مياه أو كدرة أو صفرة في غير زمن العادة، أرى أنها لا تمنع من الصلاة لأنها ليست حيضاً لتقدمها قبله لكن عليها أن تتطهر منها بالوضوء لكل صلاة إذا خرجت مستمرة، ويكون حكمها حكم سلس البول والقروح السيالة ولا يضرها خروجها في الصلاة بل تتم صلاتها وتصلي كل وقتها فروضاً ونوافل ولكن يحسن أن تتحفظ حتى لا يلوث ثيابها.

السؤال:- ما حكم إفرازات الرحم؟ وهل يصح للمرأة أن تكمل صلاتها إذا أتتها وقت الصلاة؟ الجواب:- هذه الإفرازات التي تخرج بدون اختيار لها حكم دم الاستحاضة وسلس البول فتتوضأ لها وقت الصلاة ولا يضرها خروجها وهي تصلي حتى يخرج الوقت ثم تتوضأ للوقت الثاني.

السؤال:- ما الأحوال التي تغتسل فيها المرأة؟ الجواب:- تغتسل المرأة بعد الجماع الموجب له وبعد الاحتلام مع الإنزال وبعد الطهر من الحيض ومن النفاس.

السؤال:- إذا جامع الرجل لزوجته بدون إنزال هل عليها اغتسال؟ الجواب:- نعم عليها الاغتسال من الجماع الذي هو إيلاج رأس الذكر في الفرج، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) . أي ولج الذكر إلى محل الختان أي غابت الحشفة المدورة ولا يشترط الإنزال فيجب على كل منهما الاغتسال بهذا الإيلاج.

السؤال:- إذا جامع المرأة زوجها بحائل وأنزلت فهل عليها غسل؟ الجواب:- نعم إذا حصل الإنزال وجب الغسل ولو كانت المباشرة وراء حائل كما لو أولج ذكره في الفرج من وراء الثوب فحصل الإنزال أو حصل الإيلاج.

السؤال:- ما حكم المسح على الخمار؟ وهل حكمه حكم المسح على الجوارب؟ الجواب:- المسح على خمار المرأة في الطهارة يجوز في الوضوء بشرطين: أن يكون صفيقاً غير شفاف وأن يكون محكم الشد ومداراً تحت الحنك ثم إنه يأخذ حكم الجوارب في التوقيت بيوم وليلة لكن يعمم بالمسح كله والله أعلم.

أحكام الظهار

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية أحكام الظهار

السؤال:- حصل بيني وبين زوجي خلاف فقال لي: (أنتِ تحرمين عليَّ) ، ورددت عليه وقلت له: (أنتَ تحرم عليّ كما تحرم مكة على اليهود) رغم أني كنت في أشد الزعل والغضب في ذلك الوقت، فماذا عليَّ أن أفعل حين ذلك؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- التحريم من الزوج يعتبر ظهاراً، فتحرمين عليه حتى يُكَفِّر بتحرير رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، أما تحريم المرأة زوجها فإنه يمين يكفيها أن تطعم عشرة مساكين، فإن لم تجد صامت ثلاثة أيام متتابعة، ولا تمنعه من نفسها قبل التكفير، فإنه حقه واجب عليها وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- أنا امرأة قدمت لزيارة ولدي في منزله وأثناء الزيارة حصل بيننا نقاش وغضبت على إثره ولا أدري وقتها ما أقول وحلفت يمين الظهار على أن لا أبيت في منزله ليلة واحدة ولا أعود إلى زيارته مرة ثانية، ولكن كان الوقت متأخراً من الليل ولم يدعني أذهب إلى منزل بنتي، والآن أنا نادمة على ما صدر مني، وأنا الآن في منزل ولدي حيث إني علمت أنه لا يجوز تحريم الوالد لولده والعكس، لهذا أرجو إفادتي عن الحكم الشرعي والله يحفظكم. الجواب:- إذا دخلتِ منزله أو زرتِ مكانه مرة أخرى فعليكِ كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين، قوت ليلة نحو خمسة عشر كيلو من الأرز أو البر ولا تعودي لمثل هذا الحلف والله أعلم.

السؤال:- كنت عند بعض الجماعة وعزمتهم على الفطور، ولما لم يأتوا قلت: (عليّ حرام من أهلي إذا لم يأتِ هؤلاء إليَّ لا آتي بيوتهم) وقصدي هو عدم إتيانهم فقط، أرجو إفادتي وجزاكم الله خيراً. الجواب:- عليك كفارة ظهار إذا أتيت بيوتهم، فإن تحريم الأهل يعتبر ظهاراً مثل قولهم: (هي عليّ كظهر أمي) ففيه الكفارة المذكورة في سورة المجادلة على الترتيب والله أعلم.

السؤال:- أنا امرأة متزوجة منذ أحد عشر عاماً ورزقنا خلالها ستة أطفال، وقد حصل بيني وبين زوجي خلافات عديدة، كان أولها منذ ثمان سنوات حيث إنني كنت حاملاً في طفلي الثاني، فقد طلَّقني زوجي وأنا حامل وأعادني إلى عصمته دون علم أحد إلا بعد سنة ونصف من وقوع الطلاق، وذلك عندما سافرنا إلى الجنوب وأخبرت والدي بما حصل فذهب والدي وزوجي إلى القاضي وأخبروه بما حصل وحكم أنه لا شيء في ذلك، وبعد أربع سنوات وقع خلاف آخر وقال لي يومها: (أنتِ عليّ كظهر أمي) ولم أكن أعلم أن هذا ظهارٌ لجهلي بالدين، وبعد وقوع هذا التحريم منه أنجبت طفلين وهما آخر أطفالنا، وبعد علمنا بأن ما حدث يعتبر ظهاراً وأن كفارته عتق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ... إلخ، لم نقم بالتكفير عن ذلك، وبعدها حصل خلاف آخر وقال لي فيه: (تحل لي بنتي ولا تحلين لي) وبعدها أراد أن يجامعني فرفضت ولم أمكنه من نفسي، وكان ذلك الكلام منذ حوالي شهر. فلا أدري ماذا يلزمنا نحن الاثنين في ما قد حصل؟ وهل يعتبر الكلام الذي حصل في المرة الأخيرة طلاقاً أم ظهاراً؟ علماً يا فضيلة الشيخ أنني في حيرة من أمري حيث إن أطفالي ما زالوا صغار السن، وزوجي ليس بأهل لرعايتهم، حيث إنه غير متعلم وهو رجل ضيق العقل والشخصية والصبر والأَخلاق والضمير، وهو بصراحة لا يعتمد عليه في تربية أطفال صغار في مثل سن أولادي. ولا أدري هل حملي بعد الخلاف الذي حصل في المرة الثانية يعتبر حمل زنا أم يعتبر حلالاً؟ عملاً أن زوجي لا ينفق علينا النفقة الشرعية وإنما يصرف ما يسد الجوع ويستر البدن ومع ذلك أنا أريد المحافظة على الأسرة كي لا يتشرد الأطفال، أفيدونا عن الحل الأمثل وجزاكم الله خيراً. الجواب:-

أقول أما الطلاق الأول فيحسب واحدة ويعتبر وطؤه مراجعة، وأما الثاني فظهار، وحيث لم يكفر عن الثاني والثالث فإن عليه كفارة واحدة عتق رقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر أطعم ستين مسكيناً، ويكفيه كفارة واحدة، ولا يحل له الوطء إلا بعد الكفارة، وعليكِ أنتِ طلب الطلاق أو المراجعة بعد الكفارة، ولو أن تشتكي على الإِمارة أو المحاكم، فعليه حق كبير وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أحكام نشوز الزوجة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية أحكام نشوز الزوجة

السؤال:- لي زوجة خرجت من بيتي منذ أربع سنين وتركت بناتها وأولادها وعددهم ثمانية، أربع بنات وأربعة أبناء بدون رخصة مني ولا سبب شرعي يذكر، وحاولت معها بجميع الطرق الشرعية، وسبق لي أن استفتيتك بشأنها وقلت لي: إذا كان هذا حالها واستمرت على ما هي عليه فلا خير فيها وطلقها بعد المحاولة معها طلاق السنة. وفي الحقيقة لا تزال عاصية ولا تقوم بشيء من واجباتها تجاهي، وتؤذيني بلسانها على الدوام أمام أولادي وعند الناس، ولقد كررت النصح لها بعد أن أمرتني بذلك، ولكن دون فائدة، وسوف أطلب منها قريباً بإذن الله أن تخاف الله في نفسها وفي أولادها وبناتها، فإن أطاعت فذلك خير وإن أبت فسوف أخلي سبيلها، وسؤالي يا فضيلة الشيخ هو: هل لها عليَّ حق شرعاً في النفقة والسكن في المدة السابقة وحالياً، وبعد إخلاء سبيلها إذا استمرت على عنادها؟ الجواب:- فحيث إنها خرجت من بيتك بدون إذنك وبدون رضاك ولم يكن منك أذى لها ولا ضرر ظاهر ولا مضايقة ولا تقصير في النفقة حيث حاولت رجوعها فأبت وأصرت على العصيان فإنها تعتبر ناشزاً طوال هذه المدة ولا تستحق نفقة ولا كسوة ولا أجرة سكن، فإن النفقة لها تلزم مقابل تمكينها من الاستمتاع بها، فإذا امتنعت من ذلك سقط حقها على زوجها، وإذا استمرت على هذا العصيان فالفراق خير لك من إمساكها لقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) (البقرة:231) وجزيت خيراً وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

السؤال:- امرأة تزوجت برجل وهي في بلادها ورزق منها بنتاً، وهي مع زوجها إذ نشزت منه فطلقت نفسها ولم يطلقها هو، فأتت هنا المملكة وتزوجت رجلاً آخر ورزقت منه طفلاً، وزواجها من هذا الرجل الثاني بموافقة من أهلها، فما حكم زواجها من هذا الرجل الثاني قبل أن يطلقها زوجها الأول؟ وماذا على الرجل الثاني أن يفعله لها وابنها وخصوصاً أنه إن كان فعل محظوراً يريد أن يتوب إلى الله؟ الجواب:- طلاقها لنفسها خطأً وغير واقع إلا إذا وافق زوجها ورضي وتركها، فأما إن كان متمسكاً بها معتقداً أنها في عصمته فإن طلاقها غير صحيح ونكاحها للزوج الثاني باطل ولو كان بإذن أهلها، فلابد أن يفرّق بينهما وترجع إلى الأول بعد الاستبراء من الثاني بحيضة أو وضع حمل، فإن طلقها اعتدت منه وعقد لها على الثاني أو غيره، وإن أمسكها فهو أحق بها، أما ولدها من الثاني فهو ابنه لأنه نكحها بشبهة فهو صاحب الفراش والولد له.

الحديث الصحيح

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية الحديث الصحيح

السؤال:- ما مدى صحة الحديث: (إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة المرأة والدابة والمنزل) وهل ذلك يعني أن المكان المشؤوم يكون شؤماً على كل من يدخله أم يكون على شخص دون الآخر؟ حيث لاحظت منذ تعييني في هذا المكان تتابع عدة ظروف صعبة عليَّ ... وتزامن تعييني في الوظيفة سكني منزلاً جديداً، فهل لأحد المكانين علاقة فيما حصل لي؟! وأنا مؤمنة بالقضاء خيره وشره بحمد الله وأومن أن ما أصابني لم يكن ليخطئني وما أخطأني لم يكن ليصيبني لكن مع ذلك لكل شيء سبب، فماذا تنصحوني جزاكم الله خيراً؟ الجواب:- الحديث صحيح، ومعناه أن الثلاثة قد يحصل بسببها ضرر على الإنسان وهو مع ذلك مكتوب عليه ومقدر فلا يصيبه إلاَّ ما كتب له، لكنه مأمور بالبعد عن المخاطرة وأسباب الضرر، فلا مانع من مفارقة المرأة المشئومة أو الدابة أو السيارة أو الدار مع الإيمان بقضاء الله وقدره. وقد أجاب العلماء عن الحديث بعدة أجوبة ومنهم صاحب كتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد في باب ما جاء في التطير.

الحقوق الزوجية وآداب العشرة الزوجية

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية الحقوق الزوجية وآداب العشرة الزوجية

السؤال:- رجل له زوجتان وعندما تطالبه إحداهما بالبقاء في البيت مع الأولاد في أوقات الراحة مثل العصر وبعد المغرب يقول: إنه غير مطالب إلا بالمبيت عندهما فقط، أما باقي الوقت فليس لها المطالبة ببقائه عندها، وهو يستغله في اجتماعات مع أصدقاء وطلعات للبر وأشياء غير ضرورية، فبماذا توجهونه جزاكم الله خيراً؟ الجواب:- إنما عليه البقاء في المنزل وقت فراغه ووقت النوم، وله أن يجالس أصدقاءه ويزاول تجارته أو حرفته أو وظيفته وله أن يسافر متى شاء لحاجة أو لنزهة، ولكن عليه إحسان العشرة الزوجية بقدر الحاجة والله أعلم.

السؤال:- عندي زوجتان ولله الحمد فهل إذا حصل لإحداهما عذر شرعي كالولادة أو غيرها، فهل يجوز لي اعتزالها والمبيت عند الأخرى خلال هذه المدة المعينة؟ الجواب:- لا يجوز إذا كانت عندك في بيتك، بل عليك أن تبيت عندها وتؤنسها وتأكل معها وتحادثها ولو كانت حائضاً أو نفساء، أما إذا كانت عند أهلها أو سافرت عن المنزل فلك أن تبيت كل وقتك عند الأخرى والله أعلم.

السؤال:- عندي زوجتان ولله الحمد فهل إذا حصل لإحداهما عذر شرعي كالولادة أو غيرها، فهل يجوز لي اعتزالها والمبيت عند الأخرى خلال هذه المدة المعينة؟ الجواب:- لا يجوز إذا كانت عندك في بيتك، بل عليك أن تبيت عندها وتؤنسها وتأكل معها وتحادثها ولو كانت حائضاً أو نفساء، أما إذا كانت عند أهلها أو سافرت عن المنزل فلك أن تبيت كل وقتك عند الأخرى والله أعلم.

السؤال:- أنا امرأة تزوجت من رجل كنت أظن أنه من أهل الخير والصلاح ولكن لم يكن ظاهره كباطنه، فكان حاداً في التعامل سيئ الطباع بخيلاً، وكان دائماً يضربني ودائماً يشتم أهلي، ويقبحني في شكلي دائماً، حتى وقعت الكراهة بيننا وكرهته كرهاً لا يطاق، وقد وقعت بيننا خلافات مستمرة لا حدود لها، وكلما ذهبت إلى أهلي يعيدونني ويصبروني، وبعد أن زادت الخلافات وتعبت نفسي أرسلني إلى أهلي أنا وولدي الصغير، ومنذ سنتين وإلى هذا الوقت وأنا أطالبه بالطلاق ولكن دون جدوى، وهو يرفض هذا الأمر رفضاً تاماً ويقول: سوف أعلّقها لن تأخذ رجلاً بعدي. علماً بأنه متزوج من زوجة أخرى ومبسوط معها ولله الحمد وما دام أن الشرع حلل مثنى وثلاث ورباع ولا خلاف أو إشكال في ذلك، ولكنه يريد أن يذلني ويهين كرامتي، وبعد تدخل أهل الخير وكما هي عادته الكذب والخداع والمكر جاء إلى أهلي وقال: أطلقها بشرط الولد ووافقنا على ذلك بعد رفضه للعرض بدل الولد، وبعد أخذه للولد لم يفِ بوعده ولم يطلقني ويقول: سوف أجعلها معلقة طول عمري. وأخبر أنه يجد متعة في ذلك ويعلم تماماً أني لن أرجع لكنه يقول: لا لي ولا لغيري وإذا كنتِ تريدين الولد إلحقيه. وسؤالي هو: (أ) إن عدت إليه والأحوال كما تعلم بيننا كرهاً شديداً فهل يحق لي طلب الخلع منه؟ (ب) هل كذبه وخداعه لي وكراهيته لأهلي وشتمه لهم وضربه لضعف شخصيته وعدم رجولته من الصفات الذميمة لهذا تجعلني أطلب الطلاق؟ (ج) هل تعليقه لي يعتبر ظلماً والذي أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلمات يوم القيامة) كل يوم يضيع من عمري وأنا معلقة بدون زوج ولا أولاد، أرجو توجيه نصيحة له لعله يعود إلى رشده. الجواب:-

إذا كان الأمر على ما ذكرتم من شدته وقسوته وصعوبة المعيشة معه وعدم القدرة على الصبر سيما مع الضرب والشتم والعيب والثلب والقذف والتحقير وضعف الشخصية وسوء المعاملة، ثم الحبس والمنع من التخلص، فلابد من رفع القضية وإثبات ما ذكرتم عنه من هذه الصفات، وطلب الفراق ولو بعوض وهو الخلع، وعليكم قبل ذلك نصحه وتخويفه وتحذيره من العقوبة العاجلة ومن أخذ عزيز مقتدر، سيما أخذه للطفل الذي لا يصبر عليه سوى أمه، وإنما قصده الضرار المحرم، ومن ضار مسلمة عاقبه الله، ومن شاق شق الله عليه، فإن أبى فلابد من الافتداء وسيجعل الله بعد عسرٍ يسرا، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.

الخلافات وأدب العشرة الزوجية

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية الخلافات وأدب العشرة الزوجية

السؤال:- يحصل بيني وبين زوجتي شجار بسبب عدم نظافة مطبخها، فهي تترك الأواني حتى تتراكم وتكون لها رائحة كريهة، وكذلك بسبب التبذير الذي يحصل منها، فهي هداها الله- إذا عملت صنفاً من الطعام ولم يؤكل منه إلا اليسير تضعه في الثلاجة، وبعد أيام تعمل نفس الصنف من الطعام ولا تخرج الذي في الثلاجة، ونصحتها أن هذا الأمر لا يجوز ... وهذا حرام لأنه يعتبر تبذيرا، وإن الله سوف يعاقبنا على هذا الأمر، فيكون ردها إما أن تقول: هذا لا يخصك، أو تقول: أعمل هذا الأمر لأتحداك، فأخبرها أنها تتحدى الله لأنها نعمته، فتقوم بسبي أمام الأطفال بألفاظ قبيحة وتصر على أنني المخطئ عليها، مع العلم أن والدتها تعامل زوجها بقسوة وتسبه أمام أبنائه وأقربائه، وأنها لا تعطيه حقه كشخص متزوج، وقد نصحتها بأنه لا يجوز على المرأة أن تمنع نفسها عن زوجها أفيدونا عن هذا الأمر. الجواب:- لا شك أن هذا الأمر غير لائق، وبإمكانك نصحها وتوبيخها وتحذيرها من عقوبة الإسراف والإفساد والكسل، وكذا نصح أمها وبيان قبح ما تفعله، فإن لم تتأثر فتخوف بالطلاق رجاء أن ترتدع والله الموفق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- لي زوجة من خارج المملكة، وإذا منعتها عن الخروج من البيت أو نهيتها عن شيء أخذت تسبني وتلعنني وتشتمني، أريد موقف الشرع من ذلك! وهل أطلقها أم ماذا أفعل؟ الجواب:- حيث إنها من خارج المملكة ننصحك بالصبر عليها مع نصحها وتخويفها من الطلاق الذي تتضرر به، حيث تفارق زوجها وولدها، ومتى لم تقبل وطلبت الطلاق أو وافقت عليه فلك أن تطلقها إذا لم تستطع الصبر عليها.

السؤال:- حدث خلاف بين شخص وزوجته وذلك بسبب طلب الزوجة أن تسكن في بيت خاص بها، فحدث عن هذا الخلاف أن ذهبت المرأة وطفلها إلى بيت أهلها وهم في منطقة بعيدة، وهي بعيدة عن مواعيد المستشفى وليس هناك من يذهب بالطفل لمواعيده وهي عند أهلها، فمن هو أحق برعاية الطفل الأب أم الأم؟ مع العلم أن الطفل صغير، أرجو توجيه النصح وجزاكم الله خيراً. الجواب:- ننصح الزوجة أن تطيع زوجها وأن لا تكلفه ما يشق عليه وذلك لما يترتب على الخلافات والمنازعات من الأضرار والمفاسد، وعلى هذا فإن الأب أحق بالطفل لعصيان الزوجة ولبعد الطفل عن المستشفى وما يحصل عليه من الضرر في ذلك والله أعلم.

السؤال:- لقد تزوجت امرأة وهي -والحمد لله- ملتزمة ومكثت معها أكثر من ستة أشهر، ولكوني عندي زوجة قبلها ونحن ولله الحمد على خير ما يرام، فقد ألحت عليَّ الزوجة الأولى بطلاق الثانية، وتحت هذا التأثير فعلاً قمت بطلاق الزوجة الثانية دون أن يحصل منها أي تقصير، ولما علمت بذلك انزعجت كثيراً وتأثرت من ذلك وكتبت لي رسالة قالت فيها: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون) (إبراهيم: 42) لقد ظلمتني بدون ذنب ولا تقصير وقلبت حياتي رأساً على عقب، وكنت قبل أن أتزوجك محل أنظار الشباب وكانت الفرصة أمامي في ارتباطي بشاب مثلي كبير، ولكني فضلتك على غيرك لدينك رغم أنك متزوج ولك أربعة أولاد ومع هذا قبلتك فكان جزائي منك هذا فعليك من الله ما تستحق ولن أسامحك أبداً وسهام الليل لا تخطئ) أنقل كلامها حرفياً لأن رسالتها هذه أقلقتني كثيراً وقد حاولت كثيراً استرضاءها بالمال وغيره فرفضت ذلك وتريد أن أخطبها من جديد، والذي أريده منكم هل أنا فعلاً ظلمت هذه المرأة بطلاقها دون أي ذنب جنته؟ وبماذا تنصحوني؟ الجواب:- لقد أخطأت حيث تزوجتها بدون رضى زوجتك الأولى، وحيث سمعت كلام زوجتك الأولى في شأنها، وحيث أوهمت بطلاقها عدم صلاحها للزوجية، فما ذكرته صحيح فأنا أشير عليك أن تعيدها حيث لم يصدر منها ضرر ولا نقص، وإنما طلقتها إرضاءً لزوجتك الأولى التي قد وافقت على الزواج بها، إلا إذا سمحت عنك ورضيت بالفراق والتزمت أنها لا تدعو عليك بسهام الليل فلك ذلك، والله الموفق.

السؤال:- امرأة موظفة في أحد المستشفيات كخادمة، ورفض زوجها أن ترسل لأهلها في مصر أي مبلغ من الراتب، علماً أنه لا يأخذ منه شيئاً، وقد هددها بالطلاق إذا هي أرسلت شيئاً من الراتب. فهل يجوز أن ترسل لأهلها شيئاً من راتبها؟ وإن أرسلت فهل يقع الطلاق؟ أرجو التوضيح والإِفادة وجزاكم الله خيراً. الجواب:- إذا كان زوجها لا يأخذ راتبها وأنه زائد عن حاجتها فلا يجوز له منعها من إرساله لأهلها، وحيث إنه هددها بالطلاق فإنا ننصحه أن لا يطلقها ولو أرسلت، فإذا كان تهديده أن قال لها: (إن أرسلتِ شيئاً طلقتكِ) فعليه أن لا يطلق ولو أرسلت، فإن كان قد علق الطلاق على الإِرسال بأن قال: (إن أرسلتِ شيئاً فأنتِ طالق) وقصد بذلك تهديدها وتخويفها دون قصد الطلاق فلا يقع الطلاق بالإِرسال، لكن عليه كفارة يمين لاعتباره بمنزلة الحلف على ترك شيء أو فعله والله أعلم.

الطلاق وموقف الشرع منه وبعض فتاوى الطلاق

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية الطلاق وموقف الشرع منه وبعض فتاوى الطلاق الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وبعد: فلا شك أن النكاح الشرعي من ضرورات هذه الحياة لما فيه من المصالح العامة والخاصة، ثم إن الله تعالى أباح الطلاق الذي هو حل لعقدة النكاح وذلك عندما تسوء العشرة ويشتد الخلاف ويحصل الضرر من هذا الاجتماع على الطرفين أو على أحدهما، ومع إباحته فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبغض الحلال إلى الله ولعل ذلك لما فيه من فك رباط الزوجية وتحريم الحلال وتفريق الأسر ووقوع العداوة والبغضاء بين الزوجين وأهليهما فلأجل ذلك جاء الشرع بتضييق الطريق التي تؤدي إلى الطلاق وشرع من العلاج للصلح والألفة والمحبة ما عرف به كراهيته الطلاق والمنع منه إلا في الحالات الحرجة التي لا يطاق معها التحمل والصبر، وقد أمر الله بالعلاج مع المرأة عندما يبدو منها بعض المقت أو الكراهية في قوله تعالى: (واللآّتي تخافون نشوزهن فعضوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) (النساء:34) ، فإذا رأى الرجل من زوجته تكرهاً أو تثاقلاً عند حاجته أو عصياناً أو بذاءة لسان وخاف منها النشوز وهو الخروج عن الطاعة بدأ بوعظها وتخويفها وتحذيرها من غضب الله وسخطه وعقابه وذكرها بحق الزوج وما ورد فيه من الأدلة وعظم حقه عليها، فإن انصاعت وارتدعت اكتفى بذلك وعادت الألفة بينهما، فإن لم تتأثر وبقيت على العصيان والتمادي في النشوز هجرها في الكلام ثلاثة أيام وفي المضجع بأن يوليها دبره رجاء أن تتوب وتترك المخالفة والمعصية، ثم إن لم يؤثر ذلك فيها ضربها ولكن ضرباً غير مبرح أي غير شديد وذلك لتأديبها وزجرها عن النشوز، ثم إذا تأزمت الأمور واشتد الخلاف فإن القاضي يبعث حكمين من أهله وأهلها ليصلحا بينهما فإن لم يقبلا فلا بد من الفراق بعد أن يؤمر كل منهما أن يتنازل عن بعض حقه وأن يعتبر نفسه هو المخطئ

فلعل ذلك مما تعود به الألفة بينهما ومتى عزم الزوج على الفراق فلا بد أن يتأنى ويتريث فربما صلحت الأحوال واصطلحا بينهما، وهكذا لو رأت المرأة ما يسوءها من شراسة وسوء خلق ومضايقة أو حيف وجور فإن عليها التصبر والتحمل قبل أن تسأل الطلاق، فقد ورد في الحديث: (أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) . وإذا نفد صبرها ولم تطق البقاء معه جاز لها طلب الطلاق واستحب له أن يطلقها حتى يخلصها مما هي فيه من الضيق والحرج، فإن لم يفعل فلها طلب الخلع بأن تبذل له مالاً أو منفعة على أن يخلي سبيلها لتعيش في راحة وطمأنينة، ثم إن الشرع لما أباح الطلاق جعله في أضيق الأحوال وأقلها وجوداً، فإن طلاق السنة هو أن يطلقها في طهر لم يطأها فيه أو بعدما يتبين حملها ويكون الطلاق واحدة فقط، وتبقى معه في منزله حتى تنقضي عدتها، وإذا تأملت ذلك وجدته يهدف إلى تقليل الطلاق والتحذير من إيقاعه حيث نهى عن الطلاق في الحيض فإن النفس قد تكرهها في تلك الحال فإذا أوقع الطلاق حال كراهتها فقد يندم ويتمنى عدم إيقاعه، ثم نهاه عن إيقاع الطلاق في طهر جامعها فيه وذلك أنه إذا صبر عنها مدة حيضها ثم طهرت فإن نفسه تندفع نحوها فإذا واقعها أمسكها حيث نهى عن الطلاق في ذلك الطهر، فإذا أمسكها حتى تحيض عرف أنه لا يجوز إيقاع الطلاق حالة الحيض فإذا طهرت لم يصبر عن مواقعتها غالباً فيبقى هكذا حتى يزول الخلف ويخف ما في النفس، وهكذا أباح طلاقها في حالة الحمل لأن إقدامه على ذلك دليل واضح على عدم رغبته في إمساكها، وهكذا إذا صبر عن مواقعتها بعد الطهر فطلقها فإن صبره دليل عزمه على الطلاق وعدم إطاقة الصبر معها، ثم أنه إنما أباح الطلاق مرة واحدة وذلك ليتمكن من المراجعة في العدة لقوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) (البقرة:228) أي في زمن العدة، كما أنه منعه من إخراجها ونهاها عن الخروج من منزله بقوله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن

ولا) إلى قوله: (اسكنوهن من حيث سكنتم) (الطلاق:1-6) ، وحيث إن المعتدة لها حكم الزوجة فإن بقاءها معه وتجملها أمامه وكلامها وعرضها نفسها عليه من الأسباب التي تدفعه إلى المراجعة، وهكذا سعيها في الصلح واعتذارها عما صدر منها فإذا دفعته نفسه إلى مواقعتها كان ذلك رجعة عليها فتعود الحالة الزوجية إلى ما كانت عليه أو أحسن، فإذا تحمل الصبر وكفّ نفسه عنها كان دليلاً واضحاً على بغضه لها وعزمه على الطلاق والفراق، ولكن قد تصلح الأحوال فيما بعد ويعتذر أحدهما على الآخر ولو بعد زمن طويل فيتمكن من نكاحها بعقد جديد حيث إن الطلاق واحدة أو اثنتان وذلك مما يتمكن به من تجديد العقد وكل هذا يهدف إلى تقليل الطلاق والحد من إيقاعه وكم نلاقي يومياً من الوقائع بين الزوجين والتي تؤدي إلى الطلاق والفراق ثم يحصل فوراً الندم والتراجع، ولكن بعد فوات الأوان، وبالتأمل نجد أن أسباب الطلاق متنوعة وأغلبها وقوع نزاع وشقاق وخصومة ولو يسيرة تثير حفيظة الزوج فلا يتمالك أن يتلفظ بالطلاق ومتى راجع نفسه اعترف بخطئه وتمنى تلافي الأمر فنقع في حرج مع الكثير من هؤلاء، وننصح الزوج أن يتأنى ويتحمل فلا يسرع بالتلفظ بالطلاق مع علمه بأنه سوف يندم ويحب إرجاع زوجته إلى عصمته فلو تمالك نفسه لما حصل منه ما حصل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ، وهكذا ننصح الزوجة أن تتغاضى عن التقصير وعن الأخطاء التي تقع من زوجها عليها أو على ولدها فتملك نفسها أو تكتم غيظها وتصبر على ما أصابها حتى لا تحفظ زوجها بأقل انتقاد أو تعقب أو عتاب، سيما إذا عرفت منه الشراسة وسوء الخلق وضعف التحمل، فربما تراجع أو اعترف بالخطأ وربما نصحه غيره وعاتبوه بالتي هي أحسن حتى يراجع رشده ويذهب غيظه ويعرف عذر زوجته وأن هذا الخطأ لا يبلغ أن يصل إلى الفراق الذي يهدم البيت ويفرق الأسرة ويعرض الأولاد إلى التفرق والضياع،

وهكذا ننصح كلا الزوجين عن إيقاع خلل أو نقص في الواجب من الحقوق فإن بذلك تدوم العشرة وتصلح وبالتساهل في حق الزوجة من النفقة أو الكسوة أو السكنى أو العشرة الطيبة يقع منها الضجر والقلق سيما إذا كان قد تعمد بخسها حقها، أو جار في القسم بين الضرتين، أو مال مع إحداهما، وقد أوجب الله العدل بين الزوجات وأمر من خاف الجور أن يقتصر على واحدة، ولا شك أن الزوج قد يجد في نفسه ميلاً إلى إحدى الزوجتين ولكن عليه تحري العدل الظاهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) يعني القلب، والجور المحرم هو المذكور في قوله تعالى: (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) (النساء:129) ، فعلى كلا الزوجين مراقبة الله والعلم باطلاعه ومحاسبته على ما فعل مما يجوز أو لا يجوز، وعليهما الحرص على الوئام والملاطفة وحسن العشرة ولين الجانب والتغاضي عن الزلات والهفوات والتخلق بالفضائل والتنزه عن الأدناس ومساوئ الأخلاق وعن الكذب والبهت والظلم والشقاق والنزاع ورفع الأصوات والتشدد في الطلبات وما يثير الأحقاد ويوقع فيما لا تحمد عقباه حتى تدوم الألفة وتصلح الأحوال والله يتولى السرائر وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- أنا امرأة ملتزمة بحدود الله ومتزوجة ولديَّ أربعة أطفال، وقد حصل بيني وبين زوجي كلام حاد وعنيف فغضب ورمى عليَّ الطلاق، وكتب ذلك في ورقة وهذه الطلقة الثانية، وبعد أن هدأت نفوسنا وزال الغضب نريد الرجوع إلى بعضنا على سنة الله ورسوله، وقد طلقني في حالة طهر ليس عليَّ نجاسة، ولكن نزل عليَّ دم فجأة بعد الطلاق على غير موعده وظل معي أربعة أيام ثم توقف، ثم نزل مرة أخرى يومين فذهبت إلى المستشفى لأني يمكن أن أكون حاملاً وعملت الفحص اللازم للحمل ولكن لم يكن حمل ولا حيض على قول الدكتورة لأنه دم على غير موعده، وكنت قد اغتسلت من الحيض قبل الطلاق بأسبوع، ومع ذلك شككت في الأمر ولكن ليس حملاً، وقالت الدكتورة إنه تعب الحالة النفسية وكثرة التفكير وقلة النوم فنزل الدم وأعطتني العلاج اللازم فتوقف والحمد لله، وبعد فترة نزل دم الحيض المعتاد في وقته ومدته سبعة أيام ولون الدم دم الحيض بعكس الذي نزل قبل ذلك كان لونه أحمر فتاحاً، وقد حضت الحيضة الأولى في شهر جمادى الأولى وحضت الحيضة الثانية في شهر جمادى الثانية والحيض معي منتظم في كل شهر وفي موعد محدد ومدته سبعة أيام كل شهر، والآن أريد من فضيلتكم إفادتي عن نزول هذا الدم هل هو حيض أم استحاضة؟ وهل يفسد عليَّ عدة الطلاق خصوصاً وأنني من النساء اللاتي يحضن ثلاثة شهور بثلاث حيضات وهل عليَّ كفارة؟ حيث أنني تركت فريضة الصلاة شكاً بالأمر. الجواب:- يقع هذا الطلاق وعدّته ثلاث حيض، فالدم الأول أربعة أيام ثم يومان هو الحيضة الأولى ثم بعدها حيضتان فإن حصل بعده حيضتان انقضت العدة وحرمتِ عليه إن لم يكن راجع في العدة فلابد من عقد جديد فإن تراجع في العدة صحت الرجعة والله أعلم.

السؤال:- لنا قريب يقول إِنه طلق عدة مرات وفي أوقات مختلفة، أي حلف بالطلاق من زوجته أنه لن يدخل منزلنا ويرضى علينا إلا بعد إعادة مبلغ من المال سبق أن دفعه لوالدنا مقابل إنهاء موضوع اتهام ابنه بسرقة بندقية تخص والدنا -وهو الآن نادم على ذلك الطلاق ويرغب مصالحتنا، والسؤال هو: ما هو الحكم الشرعي تجاه طلاق المذكور حتى ننهي هذه القطيعة بيننا وبينه علماً بأنه زوج شقيقتنا وابن عمتنا؟ أفيدونا مأجورين. الجواب:- إن كانت نيته منع نفسه من الدخول إلى منزلكم ولم يعزم على الطلاق اعتبر ذلك يميناً مكفره بإطعام عشرة مساكين، فإن كان عازماً على الطلاق راغباً فيه فلا يدخل فإنها تطلق زوجته طلقة واحدة والله أعلم.

السؤال:- حصل بيني وبين زوجتي سوء تفاهم وأردت أن أنهي سوء التفاهم هذا بأي حال ولكن حضر الشيطان بيننا ووصل الأمر إلى الطلاق وقلت لها في سماعة التلفون عندما اتصلت عليها في منزل أهلها أنتِ طالق طالق طالق، وكنت حينها نفسيتي تعبانة ولم أتمالك نفسي عندها، وعندما أغلقت سماعة التلفون ندمت ندماً لا يعلمه إلا الله، وعندما ذهبت إليها لأصلح الحال بيننا قالت لي أريد فتوى الشيخ، أفتونا مأجورين. الجواب:- هذا التكرار يرجع فيه إلى نيّة المتكلم فإن كنت تنوي واحدة فقط وقعت واحدة، وإن كنت تريد إيقاع الثلاث وقعت، ولك مراجعة المفتي العام للنظر في أمرك مرة أخرى.

السؤال:- نعرض على سماحتكم حالة زواج وطلاق -الزوجان قريبان لي- وشاء الله أن يتزوجا في بلاد الغُربة في إيطاليا، حيث يُقيمان هناك، ونظراً لصلة القرابة هذه بينهما فقد تم عقد الزواج على الشكل التالي: عند كتابة المقدم والمؤخر في عقد الزواج فقد تم كتابة المقدم بأنه مقبوض نظراً لصلة القرابة ولإنهاء بعض الإجراءات بالشكل السريع وكذلك لوجود الثقة بين الأقارب، وبالتالي تم كتابة المقدم بأنه مقبوض على الورق فقط، ولم يتم استلام أي مبلغ نقدي أو شيك أو سند أو أي ورقة على شكل أمانة، وكذلك تم كتابة المؤخر بأنه غير مقبوض أيضاً، والسؤال هنا لسماحتكم: هل تستحق الزوجة المطلقة مبلغ المقدم من الزوج بالرغم من كتابته بأنه مقبوض على الورق وهو غير مقبوض بالفعل؟ الجواب:- إذا حصل الطلاق لزم الزوج دفع جميع الصداق المسمى في العقد، فلها أن تطالبه بالمقدم حيث لم تقبضه للثقة بينهما، فإن جحدها وادعى أنها قبضته بموجب الإقرار المكتوب في الوثيقة، فعليه إحضار بينة بذلك، فإن لم يحضرها، فعليها اليمين أنها ما قبضته، وأن توقيعها على القبض لأجل إنجاز الإِجراءات النظامية ولأنها وثقت به للقرابة والأمانة، فمتى حلفت استحقت ما تدّعي من المؤخر والمقدم والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- رجل طلق زوجته وهو صغير السن طلقتين ولم يفارقها منذ أن طلقها حتى الآن، وقد مضى على الطلاق ما يقارب العشر سنوات وله أبناء منها بعد الطلاق، ما الحكم الشرعي في مثل هذه الحالة؟ وإذا كان الحكم الشرعي مفارقتها فما طريق العودة الشرعي لرجوعهما لبعض؟ الجواب:- إذا لم يفارقها وبقي معها كزوج ينام معها كزوجة طلقت ثم روجعت في العدة ويستمتع بها فإنها تحل له، والطلقتان تصح الرجعة بعدهما وقد راجعها ولو بالفعل وهو ردها والاستمتاع بها حتى ولدت بعد المراجعة، فعليه البقاء معها ما دم له رغبة فيها فإن كانت المراجعة بعد العدة فلا بد من تجديد العقد بين وليها وزوجها بحضور شاهدي عدل وفرض صداق المثل ولو بعد طول المدة والله أعلم.

السؤال:- حلفت يمين طلاق مضطراً، طلبت مني زوجتي أن أعود للسعودية وإنهاء جميع أعمالي والعودة خلال شعبان، وإذا لم أعد حتى نهاية الشهر تكون طالقاً، وحلفت اليمين كما هو: (يمين بالله سوف أعود قبل نهاية شهر شعبان وإنهاء عملي وإذا لم أعد تكوني طالقاً) هذا هو اليمين. عدت للسعودية ولكن طلبت مني الشركة لا بد أن أستمر حتى نهاية شهر شوال وإعطائي حقوقي وحفاظاً على يمين الله الذي حلفته سافرت قبل نهاية شهر شعبان ولم أعد إلا في شهر رمضان، فهل تعتبر زوجتي مطلقة أم لا؟ وهل العودة تسقط اليمين أم لا؟ أفيدونا بارك الله فيكم. الجواب:- هذا الطلاق المعلَّق على عدم العودة إذا لم تقصد الطلاق وإنما قصدت إلزام نفسك بالعودة فيعتبر يميناً مكفره بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ولا يقع الطلاق.

السؤال:- حصلت بعض المشاكل بين أفراد قبيلتي وبعض الأقارب بشأن من يتزوج أخواتي من أبي.. أبناء عمي ترفضهم زوجة أبي، وأقاربي الآخرين تقبل بهم لتزوجهم من بناتها، علماً بأن والدي على قيد الحياة، حينها تدخلت لفض هذه النزاعات ثم قمت بلفظ الطلاق حيث قلت: (عليَّ الطلاق إنهم ما يعرفون خواتي -أقصد أقاربي الآخرين الذين يقبل بهم والدي وزوجته وأخي شقيق البنت- وبعد ذلك بفترة حوالي ثلاث أو أربع سنوات قام أقاربي المقبول بهم وذهبوا إلى أبناء عمي وطلبوهم بأن يسمحوا لهم بالزواج من أخواتي وسمحوا لهم جميعاً، ووعدوا بعدم التدخل في شؤونهم ... وذهبوا وتملكوا لدى المأذون من أختي لأحدهم.. ونتيجة لذلك غضبت غضباً شديداً لأنهم لم يسألوني ولم يأخذوا بخاطري، فاستدعيت المعرس وقلت له: (عليَّ الطلاق بالثلاثة الحارمة إنك ما تعرفها جزاء لك لأنك تجاهلتني) والمقصود من هذا الطلاق عدم إتمام الزواج وليس طلاق زوجتي، أفيدونا مأجورين. الجواب:- إذا كان هذا ما قصدت به الطلاق فعليك كفارة إطعام عشرة مساكين ولا تردهم عن الزواج ولا تطلق زوجتك.

السؤال:- أنا شخص متزوج منذ عام تقريباً، وحالياً أرغب فسخ نكاح زوجتي -أي تطليقها- لظروف صحية، فهل يلزمني معرفة ما إذا كانت في صحة طهر من عدمه؟ علماً أنه لم يتم دخولي بها، ولم يحدث اختلاء حيث أن زوجتي لدى أهلها في مدينة حائل وأنا أسكن لدى أهلي في مدينة الرياض، علماً أنني سبق وأن سمعت فتوى من أحد مشائخنا الأفاضل -ولا أتذكره حالياً- مفادها أن من تم طلاقها دون المساس فلا تعتد. الجواب:- يجوز طلاقها في أي وقت، ولا يشترط طهارتها، ولا عدة عليها حيث لم يحصل دخول، والأفضل أن تطلقها واحدة وهو طلاق السنة بشاهدين أو في صك شرعي.

السؤال:- أعلنت أن أتوب من شرب الدخان وحلفت بالله قائلاً: (طلاق بالثلاث من ظهر زوجتي) وكررت هذه الجملة ثلاث مرات، ثم قلت في نفس الوقت (تحرم عليَّ زوجتي) وكررت هذه الجملة تقريباً مرتين أو ثلاث مرات -علماً أن زوجتي حامل- بأنني لم أعد أشرب الدخان طيلة حياتي كرهاً له وطاعة لله غير قاصداً طلاق زوجتي، ووثقت من نفسي تماماً بأنني لم أعد أشرب الدخان، ثم قمت في الحال ورميت الدخان في الزبالة، ثم قلت مرة ثانية بعد رمي الدخان في الزبالة: (يحرم عليَّ شرب الدخان) وكررت هذه الجملة مرتين أو أربع مرات، لكني وللأسف الشديد بعدة فترة ستة أشهر تقريباً غلبت نفسي والشيطان اللعين ورجعت لشرب الدخان وأنا كاره، وأخذت عليه فترة لمدة شهر واحد ثم تركته وتبت منه والحمد لله، وأنا قلق وخائف مما بدر مني من أيمان وطلاق، وهل زوجتي حلال أم تعتبر طالقاً؟ فما الحكم والحل؟ وماذا أعمل جزاكم الله خيراً؟ الجواب:- هذا الطلاق غير مقصود ولا يريد فراق زوجته، وإنما يريد منع نفسه من شرب الدخان، وعلى هذا يعتبر الطلاق يميناً يكفرها بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، ولو كرر الطلاق، فأما التحريم فالراجح أنه يعتبر ظاهراً يكفره بتحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وعليه صدق التوبة والبعد عن المدخنين.

السؤال:- يوجد عندي زوجة ذات أخلاق سيئة جداً، وأريد أن أؤدبها حيث أنني أطلقها طلقة واحدة وأرسلها إلى بيت أهلها، ثم أقوم بمراجعتها قبل انتهاء العدة بشهادة شاهدين وإثبات ذلك في ورقة وأن عملي هذا كان القصد منه تأديبها فقط، فهل هذه الطريقة صحيحة أم لا؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً. الجواب:- السنَّة لمن أراد الطلاق أن يطلق واحدة ويتركها في بيتها مع تجنب مسها، وهي لا تحتجب عنه، فإن بدا له راجعها في العدة، فإن انتهت العدة قبل الرجعة حلت لغيره، أما إرسالها إلى بيت أهلها كتأديب مع الطلاق فجائز، لكن لا بد من رجعتها قبل انتهاء العدة بشهادة شاهدين، ولا بد من إخبارها قبل العدة حتى لا تتزوج قبل علمها بالرجعة، ولا بأس أن يؤخر الرجعة إلى قُبَيل انتهاء العدة، والأولى كتابة الرجعة في ورقة مع توقيع الشاهدين والله أعلم.

السؤال:- حدث خلاف بيني وبين زوجتي في أحد المواضيع البسيطة جداً، وللأسف فقد سيطر الغضب على الموقف فقلت لها: (اعلمي أنكِ لو فتحتِ هذا الموضوع مرة أخرى أو عارضتيني في تربية أولادي إنكِ مطلقة، وهذا أخر إنذار لكِ وآخر طلقة) ثم أتبعتها ثانية وهي كالتالي: (واعلمي أن فراشكِ عليَّ حرام مدة شهر من الآن) ، وفي الحقيقة أني أريد هذه الزوجة وهي تريدني، ولنا ستة أولاد ولكني عند الخلافات ولو كانت بسيطة يغلب علينا الغضب، وخاصة أن الزوجة شديدة الغضب والتعصب حتى إني أحياناً أشك من شك عقلها، أفيدونا ما رأي الشرع وجزاكم الله خيراً. الجواب:- ننصحك بحسن الخلق وحسن المعاملة والغض والعفو عند الغضب، ولين الجانب والصفح عن الهفوات، وأما قولك: لو فتحتِ هذا الموضوع مرة أخرى إنكِ طالق فهذا يمين يكفي فيها الكفارة بإطعام عشرة مساكين، أما تحريم الفراش مدة شهر فالأولى أن تتجنب الفراش حتى ينقضي الشهر، فإن لم تصبر فعليك كفارة ظهار، وهو صيام شهرين متتابعين من قبل أن تتماسا، فإن لم تستطع فإطعام ستين مسكيناً، وعليك أن تملك نفسك عند الغضب ولا يتكرر منك مثل هذا الحلف والتحريم حتى لا توقع نفسك في الحرج، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- أود إحاطة فضيلتكم أنه منذ ست سنوات تقريباً: حصل بيني وبين زوجتي خلاف بسيط وعلى إثره حلفت عليها قائلاً: (عليَّ الطلاق أن أقوم بتسفيركِ خلال أسبوع) ولم يتيسر لي تسفيرها خلال هذه المدة إلا بعد انقضائها، وكانت نيتي من هذا الحلف هو تسفيرها وليس طلاقها، وبعد ذلك راجعتها وتمت الأمور على خيرا ما يرام. وحيث إنني متزوج منذ ما يقارب اثني عشر عاماً، ولم نرزق خلالها بمولود بسبب زوجتي فقد قامت هي بدورها بالبحث عن امرأة وقامت بخطبتها لي وبعد إِنها أغلب الإِجراءات وقع فيها ما يحدث لكثير من النساء من الغيرة فأوقعت بين المرأة المخطوبة وأهلها وحدثت بعض المشاكل كان من أهمها وأبرزها امتناع هذه الزوجة الجديدة عن إتمام الزواج، فغضبت لذلك غضباً شديداً وقلت لها: (عليَّ الطلاق أنكِ أنتِ سبب كل هذا) . وقد اعترفت بعد ذلك أنها سبب هذه المشاكل وكان ذلك مما يقارب أربعة أشهر. ومنذ ما يقارب شهرين عقدت على امرأة أخرى وتزوجتها ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم ما زلنا في مشاكل وشجار دائمين، ولقد أوصلتني هذه المشاكل إلى حد لم أعد قادراً على مسك أعصابي، ودخلت من مدة أسبوع إلى المنزل فوجدتهما قد تشاجرتا، فحاولت أن أصلح بينهما ولكن من كثرة النقاش لم أحتمل أعصابي وقد خرجت من وعيي، فوجهت الخطاب إلى كل واحدة على حدة قائلا: (إنتِ طالق ... أنتِ طالق) قلت هذا الكلام إلى كل واحدة منهما رغبة مني لإِنهاء النقاش وإِنها هذه الخلافات بالخلاص منهما جميعاً، والآن وبعد هذا كله أرجو يا فضيلة الشيخ إفادتنا عن الطلاق الحاصل مني تجاه الزوجة الأولى في الطلاق الأول والثاني والثالث؟ وهل يقع الطلاق على الزوجة الثانية؟ علماً كما ذكرت أنني لم أكن في وعيي في الطلقات الثلاث المذكورة. الجواب:-

أما قولك: عليَّ الطلاق أن أقوم بتسفيركِ خلال أسبوع بنية التسفير، فهذا يمين تجزيء فيه الكفارة، إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم. وأما قولك: عليَّ الطلاق أنكِ أنتِ السبب في كل هذا. وقد كانت هي السبب فلا شيء عليك في هذا لأنه حق مطابق ما حلفت عليه. أما قولك لكل واحدة منهما على حدة: أنتِ طالق أنتِ طالق، فيقع بكل واحدة منهما طلقة، وتحل مراجعتهما زمن العدة ويبقى لك طلقتان، فراجعهما ولا تعد إلى مثل هذا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- أفيدكم أنه قد حصل مني طلاق لزوجتي حيث قلت لها: طالق طالق طالق، وكنت في حالة غضب شديد، أرجو التكرم فتواي هل تحل لي بعد هذا؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب:- تحل لك إذا كنت قاصداً التأكيد بهذا التكرار، فإن كنت تقصد العدد الثلاث الطلقات فلا تحل لك إلا بعد زوج والله أعلم.

السؤال:- حدث بيني وبين زوجتي جدال حول إمكانية تسديد قيمة فاتورة التلفون وكان جدالاً شديداً أفقدني السيطرة على أعصابي، وقد تلفظت عليها بيمين الطلاق، حيث قلت لها: (أنتِ طالق بالثلاثة إذا رن التلفون في بيتي مرة ثانية) والآن مضى أربعة أشهر على الواقعة ولم أتمكن من إعادة جهاز التلفون للمنزل بسبب هذا اليمين، علماً بأن الأسرة كلها بحاجة ماسة لهذا التلفون، أفيدونا مأجورين. الجواب:- حيث كان قصدك إبعاد التلفون وليس الطلاق فإن هذا كاليمين، فعليك كفارتها وهي إطعام عشرة مساكين بنحو خمسة عشر كيلو من الأرز وما يصلحها من اللحم أو نحوه واحفظ لسانك.

السؤال:- حدث خلاف بيني وبين زوجتي وقد ألقيت عليها يمين الطلاق وكانت طلقة واحدة من غير شعور، وقد كنت بعدها في غيبوبة بعدما حدث، والآن وأنا نادم على ما حدث مني وأرغب أن أبلغكم أني أريد مراجعة زوجتي وأراجعها، نرجو منكم تبيين الحكم الشرعي تجاه ذلك والله يحفظكم. الجواب:- لك مراجعتها ما دامت في العدة إذا كان هذا الطلاق لأول مرة أو كان وقوعه في زمن غيبوبة أو إغماء، بحيث لا يشعر بما يقول ولا بد من شاهدي عدل على الرجعة. والله أعلم.

بعض مخالفات الأفراح وحكم الغناء فيها

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية بعض مخالفات الأفراح وحكم الغناء فيها

السؤال:- ظهرت لدينا بعض العادات السيئة في الزوجات مثل: 1- إحضار الكوافيرة. 2- دخول أقارب العريس إلى صالة النساء. 3- تشغيل الموسيقى والأغاني. وقد اجتمع أهل الخير وقرروا عقوبة من يفعل مثل هذه الظواهر ووضعوا عقوبات مالية على مرتكبيها فهل هذه القرارات تعد مخالفة لشرع الله أو فيها الحكم بغير ما أنزل الله؟ أفيدونا عن حكم ذلك والله يحفظكم ويرعاكم. الجواب:- لا يجوز عمل الكوافيرة لأنه من وصل الشعر وتغيير خلق الله تعالى وقد ورد اللعن لفاعله، وكذا دخول أقارب العريس ونظرهم إلى العروس سواء في ليلة الزفاف أو بعد ذلك إلا ّ أبوه وولده، والأغاني حرام وفيها فتنة وبلاء ودعاية للفساد، وأما العقوبة المذكورة فأرى عدم فعلها لكن في الإمكان هجر من يفعل ذلك والبعد عنه وإظهار بغضه ومقته حتى ينزجر وينزجر أمثاله والله أعلم.

السؤال:- أرفع إلى فضيلتكم سؤالي حول بعض العادات التي تحصل في الزواج وقد انتشرت عندنا في المنطقة الجنوبية وهي: أولاً: عندما يعقد الزوج على زوجته يعمل والد الزوجة مناسبة يدعو إليها الأقرباء، وتقوم النساء بضرب الدفوف. ثانياً: عندما يريد أن يدخل الزوج بزوجته يعمل الزوج وليمة أيضاً يكون فيها من التبذير ما الله به عليم، وتجتمع النساء ويضربن بالدفوف لمدة ساعة أو ساعتين أو أكثر في يوم الزواج واليوم الثاني. ثالثاً: عندما تجلس الزوجة في بيت زوجها أسبوعاً أو أسبوعين أو أكثر يعمل والد الزوجة وليمة أيضاً، ويدعو إليها الزوج، وتجتمع النساء ويضربن بالدفوف. فما حكم ضرب الدفوف في هذه الحالات الثلاث؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- أولاً: عمل الولي مناسبة وقت العقد من العادات وتعتبر كرامة للحاضرين وضيافة للوافدين وفرحاً وابتهاجاً بهذه المناسبة الطيبة ولكن بدون إسراف أو تبذير بل بقدر الحاجة، وأما ضرب الدفوف فلا حاجة إليه وإنما رخص فيه ليلة الزفاف ولو كان دليل الفرح والاغتباط. ثانياً: حفل ليلة الزواج هو عمل وليمة العرس المشروعة بمناسبة الزفاف واجتماع الأقارب والأحباب وهنا يشرع ضرب الدف عملاً بحديث: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) . وكذا سماع شيء من الصوت المباح في المديح والترحيب والتهنئة ولكن ذلك بقدر المعتاد فلا يجوز الإسراف والتبذير في الطعام وإفساد المال في ذلك ولا يجوز الإطالة في السهر والتمادي في الضرب بالدف الزائد عما تحصل به الكفاية. ثالثاً: أما زيارة الزوجة لأهلها بعد أسبوع وعمل وليمة، فلا بأس به وهو معروف باسم الزيارة، لكن لا حاجة إلى ضرب الدفوف في هذه المناسبة بل فعله يعتبر منكراً، فالعمل المعتاد إنما هو وليمة للزوج وأقارب الزوجين كفرح واغتباط بمرور هذه المدة مع الاستقامة والله أعلم.

السؤال:- في الأفراح يقوم أهل الزوج أو الزوجة باستئجار نساء مهنتهن الضرب على الدفوف بمبلغ كبير من المال يزيد على الخمسة آلاف ريال لليلة الواحدة ويستعملن مكبر الصوت أثناء الضرب على الدفوف والغناء بالصوت المرتفع فما حكم ذلك؟ الجواب:- ورد الحديث بلفظ: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) . فدل على شرعية الضرب بالدف وحيث أن ضربه خاص بمن يحسن ذلك ومن يعرف تلك الصيغة فلا بأس بمنحه أجرة أو هدية فيكون بقدر ما يسمع الحاضرين ولا يتجاوزهن وإلا حرم، وأما الغناء فيباح بما يتضمن التحية أو المديح المباح وبدون مبالغة في رفع الصوت مخافة الفتنة والله أعلم.

السؤال:- ما حكم الغناء بالطار للنساء بمفردهن في الزواجات؟ وما حكمه للرجال؟ الجواب:- الطار اسم لنوع من آلات اللهو ولعله ما يُعرف بالطبل أو الدف، وإذا كان هو الطبل الذي هو مختوم الجانبين فالصحيح أنه من المعازف المحرمة، فلا يجوز الغناء به لا في الزواج ولا غيره لا للنساء ولا لغيرهن، وإن كان الدف الذي هو مفتوح أحد الجانبين فلا بأس باستعماله في أفراح الزواج بل هو مندوب إليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) ولا بأس معه بشيء من الصوت والغناء المباح بمدح أو ترحيب أو نحو ذلك، والأصل أنه للنساء وإن فَعَلَه الرجال أحياناً فلا بأس والله أعلم.

حكم إلقاء المرأة السلام على الرجال الأجانب

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية حكم إلقاء المرأة السلام على الرجال الأجانب

السؤال:- هل يجوز للمرأة أن تلقي السلام على رجال أجانب من غير المحارم، ولو كانوا معروفين؟ الجواب:- يظهر لي أنها لا تسلم عليهم بالقول المسموع وهم أجانب منها، بل تقتصر على الإشارة أو النية، فإن كلام المرأة قد يكون فتنة لبعضهم، ولذلك نهيت عن رفع صوتها عند الرجال، وفي الصلاة لا تسبح للإمام بل تصفق بيديها، وفي التلبية لا ترفع صوتها بها، ولا تتولى وظيفة الأذان ونحو ذلك، فإن كن نساء سلمت عليهن بقدر ما تسمعهن ورددن عليها السلام المسموع، وكذلك إن مرت بمحارم لها كإخوة وبنين ونحوهم، ولا يشرع للرجل أن يرفع صوته بالسلام على المرأة الأجنبية عند الفتنة والله أعلم.

حكم زكاة الحلي المستعمل

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية حكم زكاة الحلي المستعمل

السؤال:- هل حٌلي المرأة التي تلبسه فيه زكاة أم لا؟ الجواب:- قد اختلف العلماء في زكاة الحلي الملبوس، فروي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليها فتخات من فضة فقال: (أتؤدين زكاتها؟) (الحديث أخرجه أبو داود والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني رحمه الله. قالت: لا. قال: (هي حظكِ من النار) . وهو صحيح، وحمل على أن زكاته إعارته أو لبسه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد بنتها مسكتان من ذهب فقال: (أتزكين هذا؟) قالت: لا. قال (أتحبين أن يسوّركِ الله بهما بسوارين من نار؟) فألقتهما (الحديث آخرجه أبو داود والنسائي والترمذي) . وهو صحيح، ولعل زكاته عاريته أو ضمّه مع غيره، وعلى هذا فالأحوط إخراج زكاة الحلي الملبوس، وإن لم يخرجها واكتفى بعاريته أو لبسه فلا بأس لوجود الخلاف، فقد كانت عائشة تحلي بنات أخيها ولا تخرج عنه زكاة، ولأنه مال مستعمل فهو كاللباس.

حكم سماع القرآن وقت انشغال المرأة عنه

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية حكم سماع القرآن وقت انشغال المرأة عنه

السؤال:- هل يجوز للمرأة أن تجعل الراديو يقرأ القرآن في نفس الوقت الذي تؤدي فيه عملها في المطبخ؟ الجواب:- يجوز ذلك حيث أن الإذاعة تحكي ما فيها من قرآن أو غيره، ومن استمع له استفاد ومن اشتغل فقد يستفيد ولو قليلاً.

حكم منع الحمل وأحكام توليد الرجل امرأة أجنبية

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية حكم منع الحمل وأحكام توليد الرجل للمرأة الأجنبية

السؤال:- أنا امرأة عندي ستة أولاد، وأكثرهم يتم الحمل به قبل أن تتم رضاعة أخيه -قبل انتهاء الحولين- فأردت أن أركِّب ما يسمى باللولب، وهو مانع للحمل لمدة عامين فقط، فما حكم الشرع في ذلك؟ مع العلم أنه يتم تركيبه عند امرأة طبيبة، أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- لا مانع من ذلك إذا تراضى عليه الزوجان وتأكدتما أن لا ضرر فيه على الرحم ولا على قطع النسل ونحوه والله أعلم.

السؤال:- هل توليد الرجل للمرأة جائز؟ مع العلم أن نسبة الطبيبات في المستشفيات الحكومية وغيرها قليلة جداً، وطبيعة العمل موزع على دوريات ومناوبات، والولادة في علم الغيب فقد يذهب الرجل بزوجته في وقت لا يوجد فيه إلا أطباء من الرجال. الجواب:- اعلم أن الولادة أمر طبيعي موجود منذ خلق الله البرية، لم يزل النساء يلدن ولا يحتاج بعضهن إلى مولدة، وكثيراً ما تلد المرأة وتضع ولدها معها بلا مشقة كما حكى الله عن مريم قوله: (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) إلى قوله (فأتت به قومها تحمله) (مريم: 23-27) فقد ولدت وحدها وحملت ولدها بعد ذلك، وهذا يقع كثيراً كما نعرفه، وعلى هذا فلا يجوز للرجل الأجنبي أن يتولى توليد المرأة حيث يحتاج إلى كشف عورتها والنظر إلى فرجها، ولمس بشرتها كبطنها وأسكيتها وشفريها، لا شك أن هذا لا يجوز إلا للضرورة ولا ضرورة هنا والحمد لله، وليس التوليد مختصاً بالطبيبات فما عرفن إلا من زمن قريب، فإن وجدت طبيبة مأمونة موثوقة تحسن تولي الولادة ولا تلحق الضرر بالمرأة ولا بالمولود فلا بأس بتولي ذلك، وإلا تولى ذلك غيرها من غير الطبيبات، وهن النساء الكبيرات اللاتي عَرفن التوليد وتولين ذلك بدون تعلم طب أو نحوه، وكون الطبيبات في الولادة قليلات في المستشفيات لا يضر، فليس التوليد مقصوراً عليهن، وإذا كان العمل في المستشفى موزعاً على دوريات ومناوبات فعلى من أحست بالولادة أن تتصل بالمستشفى فإن كان فيه امرأة حاذقة وإلا ذهبت إلى غيره أو إلى امرأة عارفة ولو لم تكن طبيبة دون أن تذهب إلى رجل يكشف عورتها.

السؤال:- معلوم أنه إذا توافرت الطبيبات المسلمات فلا يجوز توليد الرجال، ولكن الواقع الآن ندرة الطبيبات، ويوجد طبيبات كافرات فهل نقدمهن على الرجال المسلمين مع عدم ثقتنا بهن، أم أنه يجوز توليد الرجال المسلمين لثقتنا بهم في مثل هذه الأحوال؟ الجواب:- قد عرفت أن التوليد لا يختص بالطبيبات حيث يتولاه غيرهن من النساء المعتادات دون أن يحصل ضرر على المرأة ما عدا العملية القيصرية، وعلى هذا فلا يجوز الذهاب إلى الرجال المولدين ولو كانوا مسلمين ولو كانوا موثوقين، ولا يجوز أيضاً الذهاب إلى المولدات الكافرات لعدم الثقة بهن، فقد تبينَّ أنهن يعاملن المرأة والجنين بقسوة، وكثيراً ما يولد الجنين ميتاً أو يحصل به عيب كفصل عضو منه وانخلاع يد أو رجل أو أدرة في الخصيتين بسبب القسوة وعدم الأمانة حتى من طبيبات مسلمات، لكنهن أجنبيات ومن رجال أجانب، فكيف نعدل عن المولدات المعروفات من غير الطبيبات إلى مثل هؤلاء غير الموثوقين؟ وعلى هذا فإن تيسر طبيبات مأمونات مسلمات فهن أولى وإلا فلا يجوز تولي الرجال ولو كانوا مسلمين إلا عند الضرورة وكذا الكافرات لا يجوز توليدهن للنساء المسلمات إلى عند الضرورة والله أعلم.

السؤال:- تتوافر الآن الطبيبات في تخصص النساء والولادة في المستشفيات الخاصة، فهل يجوز أن أذهب للمستشفيات الحكومية التي لا يعلم هل يولَّدهن رجال أم نساء؟ علماً أن المستشفيات الخاصة تتطلب مبلغاً من المال يقارب خمسة آلاف ريال في الولادة الطبيعية ويتضاعف في حالة وجود عملية أو مرض الطفل، فيزيد إلى عشرة آلاف ريال، وهذا مبلغ مكلِّف على أواسط الناس. الجواب:- قد عرفنا أن النساء لم يزلن يلدن بدون طبيبات وتوليد المرأة للمرأة أمر معتاد معروف، وإن لم يتعلمن بالدراسة لكن تعلمن بالتمرن والاعتياد، ومع الأسف في هذه الأزمنة صار الناس يذهبون إلى الطبيبات أو المولدين من الرجال وتركوا ما كانوا عليه من قبل، وبكل حال لا يجوز للرجل أن يتولى توليد النساء الأجنبيات إلا في الضرورة القصوى، فإن وجد مولدات في المستشفيات الحكومية ذهبت إليهن وإلا تولى توليدها أمهاتها أو نساؤها العارفات بذلك قديماً، فإن لم يوجدن فلها الذهاب إلى العيادات الأهلية ولو بأجرة كثيرة، فإن لم تقدر وتعذر ذلك كله واضطررت إلى الرجال جاز ذلك بقد رالضرورة عند انسداد الأبواب، وقد ذكرنا أن كثيراً من النساء تلد في بيتها وحدها.

السؤال:- هل يجوز للطبيب أن يباشر الولادة مع وجود طبيبة في نفس الوقت والفترة؟ علماً أن بعض أولياء الأمور يطلبون توليد المرأة. وهل يجوز للطبيبة أن تمتنع كذلك بحجة توزيع العمل بينهما وبين الطبيب الموجود؟ الجواب:- قد عرفنا أنه لا يجوز توزيع العمل بين رجل وامرأة وهو من أمراض النساء أو من أمراض الرجال، فليس للمرأة أن تتولى علاج الرجل سيما إذا دعى ذلك إلى كشف العورة كعلاج الأدرة أو البروستات ونحوها، وليس للرجل أن يتولى علاج المرأة سيما الولادة وعلاج الرحم والكشف الداخلي.

السؤال:- هل يأثم الزوج عندما يرفض توليد الرجال ويخرج بزوجته إلى مستشفى آخر وقد تلد المرأة في سيارته ويحصل لها ضرر أو للطفل؟ الجواب:- إذا رفض الزوج أن يولِّد الرجل امرأته وخرج بها فولدت في السيارة فلا إثم عليه ولو حصل عليها مشقة أو على الطفل ضرر لأنه امتنع من فعل محرم، وهو كشف الرجل الأجنبي لعورة زوجته ولمسه لها، ثم إن كونها ولدت في السيارة دليل على سهولة الولادة واعتيادها والضرر الحاصل تتحمله، ولو قدر موت الطفل أو عيبه فهو بقضاء الله وقدره فيرضى ويسلم، وقد عرفنا أن الولادة أمر عادي يتولاه النساء منذ خلق نوع الإنسان ويعرف أغلبهن كيفية التوليد وإن كان الطب الحديث توصل إلى ما يسمى بالعملية القيصرية التي ما كان الأولون يعرفونها وهي أمر نادر قليل وقوعه والنادر لا حكم له والله أعلم.

حكم نظر الغفلة وحكم الركوب مع غير المحارم

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية حكم نظر الغفلة وحكم الركوب مع غير المحارم وحكم مصافحة أخي الزوج

السؤال:- أنا امرأة أسكن مع أهل زوجي ويسكن معنا إخوة زوجي، ويحصل كثيراً من الأوقات من نظرة فجائية، فهل يصيبني لفحة من النار أم لا؟ ملحوظة: تكررت النظرة من أحد إخوة زوجي حتى لاحظت أنه يسرق النظر إليَّ وأنا في بيت الخلاء، ولقد أخبرت زوجي بذلك ولكنه لم يصدق في أخيه ذلك، فما الحكم في ذلك؟ وما هي نصيحتكم لي؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب:- ورد الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك) . ومعناه: أن النظر إذا كان وقع على امرأة أجنبية بدون قصد فإنه يصرف بصره في تلك اللحظة ولا يحدق النظر، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) . وبكل حال عليكِ أولاً الحرص على التستر وتغطية الوجه ونحوه عند إخوة الزوج ونحوهم من الأجانب، وعليكِ أن تخبري زوجكِ ليقوم بنصحهم عن تحديق النظر وعن التحسس للغفلة، أو إذا رأيتِ من يتعمد هذا النظر ويظهر منه القصد للغفلة فلا بد من الابتعاد عنه حيث فعل ما لا يحل له والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصبحه وسلم.

السؤال:- ما حكم ركوب المرأة مع أختها من الرياض إلى الدّلم مع وجود زوجته وأولاده الصغار دون العاشرة؟ ومتى تباح الضرورة في ذلك؟ أفيدونا مأجورين. الجواب:- ورد في الحديث: (ما خلا رجل بامرأة إلاَّ كان الشيطان ثالثهما) . لكن هذا يختص بالخلوة وحدهما، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) . فهاهنا لا توجد الخلوة لوجود زوجة الرجل وأولاده ولو كانوا صغاراً فإنها تزول الخلوة، ولا يطلق على هذا سفراً لقصر المدة وأمن الطريق وانتفاء الخلوة ووجود الحاجة مع القرابة والأمانة والثقة ونحو ذلك فهذه الأمور لها اعتبارها والله أعلم.

السؤال:- أنا من إخوانكم في الله، ومنَّ الله عليَّ بالإِستقامة ولله الحمد، وأسكن أنا وأخي في بيت واحد، وكلٌ منا متزوج، فهل يجوز أن أصافح زوجة أخي مع حضور المحرم كزوجها أو زوجتي أو أطفالنا؟ وهل يجوز أن أجلس معها مع حضور المحرم وهي بلباس الرداء المعتاد عندنا والنقاب المعروف عندنا بالبرقع بدون أن تضع على وجهها خماراً؟ وهل يجوز أن أُعَلمَهَأ أمور الدين كذلك هل يجوز أن أسألها عن نواقص البيت؟ وجهوني جزاكم الله خيراً. الجواب: لا يجوز أن تصافح زوجة أخيك فأنت غير محرم لها، فلا يحل لمس امرأة أجنبية ولو كان بحضور زوجها أو أحد محارمها أو نساء غيرها أو أطفال عندكم، فأما الجلوس معها فلا يجوز مع الخلوة والانفراد، ولو كانت متحجبة متسترة، فإن كان هناك محرم أو نساء زالت الخلوة بشرط التستر الكامل للوجه والبدن أي البرقع ضيق الفتحات والرداء الساتر للبدن كله، فأما تعليمها ومناقشتها في أمور الدين وسؤالها عن نواقص البيت فيجوز ذلك بشرط التستر الكامل وعدم الخلوة ويكون بكلام معتاد بقدر الحاجة والله أعلم.

السؤال:- طلَّق والدي والدتي منذ ما يقارب 30سنة، وتزوجت وأنجبت من الزوج الثاني وطلقها من مدة وهي تنتقل بين أبناء زوجها الثاني وإذا طلبت منها الجلوس عندي في البيت ترفض بحجة أن والدي في البيت وهذا لا يجوز، مع العلم أن والدي متزوج وعنده أبناء وهو كبير في السن ومقيم عندي في الفلة، فهل يجوز لها الجلوس والإقامة عندي في البيت؟ وهل يجوز الجلوس مجتمعين بوجودنا في مكان واحد وهي متحجبة؟ أرجو الإفادة. الجواب:- لا مانع من جلوسها في منزلك ولو كان أبوك موجوداً وقد طلَّقها، فأنت محرمها وهي تحتجب عن غير المحارم.

السؤال:- امرأة ذهبت مع أخيها وزوجته للاعتكاف في العشر الآواخر من شهر رمضان المبارك لهذا العام، وهذه المرأة قد توفي عنها زوجها، وعندها اثنان من الأبناء أعمارهما ما فوق سن الخامسة عشرة -أي قد بلغا- ولديها خادمة في المنزل، فذهبت إلى الحرم المكي بقصد الاعتكاف وتركت الأبناء والخادمة وحدهم في المنزل، علماً أن لها ابن من غير هؤلاء الأبناء متزوج، فما حكم ذهاب هذه المرأة؟ وما توجيه فضيلتكم لها ولمثيلاتها من النساء؟ وما توجيهكم لأخيها؟ أفيدونا مأجورين. الجواب:- لا يجوز لها أن تترك هذه الخادمة في المنزل ومعها هؤلاء الشباب البالغون، فإنه يؤدي إلى الخلوة المحذورة، ولو كان قصدهم الاعتكاف في العشر الأواخر، وعلى أخيها أن لا يلبي طلبها بل هو مسؤول عنها وعن سفرها وتركها لهؤلاء الشباب يخلون بهذه الخادمة الأجنبية ويتعرضون للفتنة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- ما حكم سفر المرأة وحدها في الطائرة لعذر، بحيث يوصلها المحرم إلى المطار ويستقبلها محرم في المطار الآخر؟ الجواب:- لا بأس بذلك عند المشقة على المحرم كالزوج أو الأب إذا اضطرت المرأة إلى السفر ولم يتيسر للمحرم صحبتها فلا مانع من ذلك بشرط أن يوصلها المحرم الأول إلى المطار فلا يفارقها حتى تركب الطائرة ويتصل بالبلاد التي توجهت إليها ويتأكد من محارمها هناك أنهم سوف يستقبلونها في المطار ويخبرهم بالوقت الذي تَقْدُمُ فيه ورقم الرحلة، وذلك لعدم الخلوة المنهي عنها ولعدم المحذور من سفرها وحدها الذي تكون عرضة للضياع أو لاعتراض أهل الفساد، وأيضاً فالمدة قليلة إنما هي ساعة أو بضع ساعات، هذه المدة قد لا تسمى سفراً أصلاً، لأن السفر هو الذي يسفر عن أخلاق الرجال، فلا ينطبق على المدة القصيرة ولأن الضرورات لها أحكامها، والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حكم وطء الزوجة وهي حائض

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية حكم وطء الزوجة وهي حائض

السؤال:- ما حكم وطء الزوجة وهي حائض سواء أكانت الزوجة راضية أم غير راضية وهل يلزمها كفارة؟ نرجو التوضيح وجزاكم الله خيراً. الجواب:- يحرم وطء الزوجة في زمن الحيض في الفرج، فإن فعل فالصحيح أنه يكفر فيتصدق بدينار، ويُقَّدرُ بأربعة أخماس الجنيه السعودي، فإن كان في أول الحيض فعليه دينار، وإن كان في آخره فنصف دينار، وأما المرأة فالأظهر أنه لا كفارة عليها ولو كانت راضية والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- كنت أمزح مع أحد الزملاء فقلت حالفاً: (والله العظيم بأن أجامع زوجتي وهي حائض) وقلت: (بالثلاث بأن أجامعها وهي حائض) ولم تكن عندي النية بفعل ذلك، وكان القصد منه التفاخر، وقد سألت أحد المشايخ فقال: ليس عليك شيء، وسألت آخر فقال: يلزمك كفارة وهي إطعام عشر مساكين، وقد قمت بإطعام عشرة مساكين ولكن الوسواس لم يفارقني، أرجو إفادتي ونصحي بما يجب أن أفعله جزاكم الله خيراً. الجواب:- لا يلزمك شيء غير الكفارة وهي إطعام عشرة مساكين، وإذا كنت قد أطعمت سقط عنك إثم الحلف، وننصحك أن تحفظ نفسك عن مثل هذا الكلام الذي فيه التعدي على المحرمات والجرأة على ذلك فإنه ذنب كبير والله أعلم.

عدة المرأة المتوفى عنها زوجها

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية عِدة المرأة المتوفى عنها زوجها

السؤال:- رجل توفي وفي عصمته ثلاث نساء -أي زوجاته- اثنتان منهن حوامل وواحدة غير حامل، فكيف يكون حداد هؤلاء الزوجات؟ الجواب:- عدة الحوامل وإحدادهن مدة الحمل سواء طالت المدة أو قصرت، فإذا وضعت الحامل حملها انقضى إحدادها وحلت للأزواج، أما غير الحامل فإحدادها أربعة أشهر وعشرة أيام، فبعدها تتزوج إن شاءت والله أعلم.

فتاوى الخطبة والزواج

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية فتاوى الخطبة والزواج

السؤال:- ما الطريقة الصحيحة للتقدم لخِطبة امرأة؟ وما الطريقة إذا عرفت موافقة البنت ولم يدر أبوها وأمها عن هذه المسألة فكيف التقدم لإِخبارهم بذلك؟ الجواب:- عليك أولاً السؤال عنها، وعن أخلاقها وصلاحها ومناسبتها، ثم بعد ذلك لك أن تتقدم إلى أهلها وترسل إليهم من يطلب منهم ذلك ثم إذا وافقوا فقد وافقت المرأة، ولك بعد ذلك طلب رؤيتها في غير خلوة، وأما الاتصال بها هاتفياً فيجوز إذا كان الكلام عادياً ليس فيه غزل ولا معاكسة ولا طلب خلوة بل سؤالها عن الموافقة والرغبة دون استطراد في الكلام.

السؤال:- هل الأفضل العقد على المرأة مباشرة بعد الخِطبة أو تأخيرها قليلاً حتى يُكْمِل الشخص ما يحتاجه من مستلزمات الزواج؟ الجواب:- يجوز العقد عليها مباشرة بعد الموافقة، ثم الاستعداد لإعداد مستلزمات الزواج، فإن خفت أن لا تقدر على المهر أو علمت بطلباتهم الكثيرة فلابد من الإِمهال حتى تعرف من نفسك القدرة على الدفع المطلوب مخافة العجز بعد العقد فيطلبون منك مهراً لا تقدر عليه والله أعلم.

السؤال:- تقدم أخي لخِطبة فتاة، ولكني أرى أنه لا توجد بها صفة من الصفات الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة ... الحديث) (الحديث في الصحيحين) . وكذلك لم تنل شيئاً من التعليم لا شرعي ولا غيره فهل يجب عليَّ أن أنصح أخي أم لا وذلك بترك خِطبة هذه الفتاة؟ علماً بأن أخي مدرس تخرّج حديثاً هذا العام. الجواب:- إذا لم يكن قد عقد عليها فلكِ أن تنصحيه وتبيني له ما تعلمينه عن هذه الفتاة من النقص والخلل والعيب وقلة الدين وقلة العلم وعدم الحسب والجمال والمال فلا خير فيها، فإن كان عقد عليها وتم ذلك فلا تعترضي عليه لما يترتب على الطلاق والفسخ من الضرر عليهما فإذا تم الزفاف فربما تناسب وتتأدب وتصلح معه والله أعلم.

السؤال:- سبق وأن عقد أخي النكاح على زوجتي ولم يدخل بها، وله أولاد من زوجة أخرى، فهل هم محارم لزوجتي أم لا؟ ولها بنات مني فهل هن يحللن لأولاد أخي أم لا؟ أفيدونا أثابكم الله. الجواب:- أولاد أخيك يعتبرون محارم لزوجة أبيهم ولو لم يدخل بها إذا حصل العقد، وأما بناتها من غيره فيحلون لهم ولو قد دخل بها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- كنت مسافراً إلى إحدى البلاد العربية، فأردت الزواج لأحفظ فرجي من الحرام، فذهبت إلى رجل عرض عليَّ فتاة للزواج فوافقت ... فذهبت إلى رجل آخر كتب بيننا عقد زواج شرعي، وبعد أن أخذت الزوجة إلى البيت وبعدها بيومين اتضَّح لي عدة أمور: الأمر الأول: أن الزواج تمَّ بغير موافقة وليها. الأمر الثاني: أن الشاهدين لم يكونا موجودين في مجلس العقد على الرغم من وجود ثلاثة أشخاص -غير الشاهدين- ساعة كتابة العقد. الأمر الثالث: أنهم كانوا يتخذون هذه المسألة تجارة فتتزوج هذا اليوم بشخص وبعد أسبوع تتزوج بشخص آخر. وكنت جاهلاً بطريقتهم هذه، وعندما أقدمت لهذا الزواج كنت أعتقد أنه زواج صحيح، وبعد أن أخبرتني الفتاة بأن هذه الطريقة للكسب المادي توقفت عن الجماع ودعوتها إلى أن تتوب إلى الله وتترك هذا الشيء وتتجه إلى الله وتصلي، فوافقت ولكن طلبت أن نجدد عقد الزواج عن طريق وليها، والسؤال هو:- (أ) هل عقد الزواج باطل أم صحيح؟ (ب) هل أكون قد اقترفت الزنا بجهلي بهذا الشيء؟ (ج) هل يصح لي أن أجدد العقد إذا كان العقد الأول باطلاً؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب:- (أ) هذا العقد فاسد إذا كانت هي التي زوجت نفسها، ولا يصح عند الجمهور، لكن إذا وقع عند من يجيزه كالحنفية فلا مانع من اعتباره. (ب) : وحيث إن الحنفية يجيزونه بلا ولي وأنك جاهل بمذهب الجمهور وبحديث: (لا نكاح إلا بولي) (الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الألباني رحمه الله) . فأنت معذور ولا يكون نكاحك حراماً بل هو وطء بشبهة يعفى عنه.

(ج) ولابد من تجديد العقد بحضور الولي وشاهدي عدل يشهدان على الإيجاب والقول حتى يكون النكاح صحيحاً عند الجمهور. ولا بد أيضاً من تحقق براءة رحمها بانقضاء عدتها من الزوج السابق أو استبرائها من وطء الشبهة ونحوه. والله أعلم.

السؤال:- رجل تزوج امرأة ومكثت معه حوالي سنتين، واتضح أنها أخته من الرضاعة، وسأل أحد العلماء فقال له: يلزمك أن تفارقها. وبعد حوالي أسبوع من المفارقة تزوجت، فهل هذا الزواج صحيح أم عليها العِدَّة؟ أفيدونا أثابكم الله. الجواب:- إذا فارقها وابتعد عنها بعد علمه بتحريمها عليه فلابد لها من الاستبراء، وذلك بأن تمكث حتى تحيض حيضة واحدة ليعلم بذلك براءة رحمها، فزواجها قبل الاستبراء فاسد، فعلى الزوج الثاني تجنبها حتى تستبرئ ويجدد العقد والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- ما الزواج العرفي؟ وما حكمه في الإسلام؟ الجواب:- الزواج العرفي يظهر أنه اتفاق بين الزوج والأولياء على العقد واسم الزوجية لكن لا يمكنونه من الزوجة وإنما يقصدون أمراً معيناً كولاية أو حصول صك طلاق بعده أو نحو ذلك ولا شك أنه لا يجوز لأن النكاح جده جد وهزله جد.

السؤال:- ما زواج المتعة؟ وما حكمه في الإسلام؟ الجواب:- نكاح المتعة هو أن يتزوجها ويحدد المدة كشهر أو شهرين كل يوم بكذا أو كل شهر بكذا فإذا انتهت المدة فارقها، وقد شرع هذا النكاح في غزوة الفتح لضرورة المسلمين الجدد ثم حرم إلى يوم القيامة.

السؤال:- شخص سافر إلى أمريكا بغرض الدراسة هل يجوز له أن يتزوج وهو بنيته الطلاق بعدما ينهي دراسته؟ علماً بأن المرأة غير مسلمة. الجواب:- الزواج في أمريكا يجوز ولو لكتابية كالنصرانية، وإذا أضمر أنه يطلقها بعد أنتهاء الدراسة جاز له ذلك، لكن لا يشترط في العقد ولا يحدد المدة ولا ينقص من المهر لأجل هذا الغرض ولا يضره كونه يضمر الطلاق في قلبه فربما تتغير نيته، فإن طلق فهو الخاسر والله أعلم.

السؤال:- في بعض الأوقات والأحيان أجامع زوجتي من الخلف ولكن بدون إيلاج الذكر في الدبر، فما حكم ذلك؟ الجواب:- يحرم الوطء في الدبر، أي الإيلاج في محل الأذى وهو مخرج الغائط، لكن يجوز الإستمتاع من الخلف بدون إيلاج كجعله بين الفخذين أو بين الإِليتين ونحو ذلك كما لو كانت حائضاً أو نفساء ونحو ذلك ولم تنكسر شهوته إلا بذلك والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- هل يجوز للمرأة تقبيل فرج زوجها والعكس؟ الجواب:- يجوز ذلك مع الكراهة، فإن الأصل أن كلاً من الزوجين يستمتع من الآخر بجميع البدن إلا ما ورد النهي عنه، فيجوز مس كل منهما فرج الآخر بيدنه والنظر إليه ولكن النفس تكره ذلك لأنه خلاف المألوف الذي يعبر عنه بالاستمتاع.

فتاوى اللباس والزينة

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية فتاوى اللباس والزينة

السؤال:- ما موقف الشرع من البرقع الذي يلبسه كثير من النساء في بلادنا؟ وبعضهن يظهرن وجناتهن وحواجبهن وتصبح المرأة فتنة بهذا اللباس، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب:- لا شك أن النقاب الذي هو البرقع جائز إلا في الإحرام، ويشترط فيه أن يكون ضيق الفتحات لا يخرج من العين إلى قدر النظر، فإذا تجاوز ذلك وصار لافتاً للأَنظار فلا يجوز، ولا شك أن إبداء الوجنتين والحاجبين من العورة، فلا يجوز للمرأة لبسه بهذه الكيفية، وعلى المرأة أن تغطي وجهها بخمار ساتر فوق النقاب إذا كان واسع الفتحات ويكون الخمار على العين لا يمنع نظرها لكن يستر بشرة الوجه والله أعلم.

السؤال:- لقد انتشر في الآونة الأخيرة لبس البنطلون بين النساء بأشكاله المختلفة، وإذا أُنكر عليهن احتججن بأنهن بين النساء، فهل يجوز لبس البنطلون بصفة عامة؟ مع العلم أنه قد يظهر هذا اللباس من أسفل العباءة محدداً حجم الساقين، أفتونا عن الحكم الشرعي في لبسه. وجزاكم الله خيراً؟ الجواب:- لا يجوز هذا اللباس للمرأة ولو كانت في محيط النساء أو المحارم لأنه يصبح عادة متحكمة يصعب التخلص منها حتى مع الرجال الأجانب وفي الأسواق والنوادي والمدارس ونحوها ... وذلك مما يلفت الأنظار ويسبب الفتنة ولو لُبس فوقه عباءة أو نحوها ولأنه أيضاً يبين تفاصيل البدن ظاهراً حيث تبدو معه الثديان والإليتان والفخذان ونحو ذلك، والمرأة مأمورة بالتستر ولبس الواسع من الثياب، فعلى أولياء الأمور المنع من هذا البنطلون وقصر المرأة على اللباس المعتاد بين المسلمين دون هذه الأكسية المستوردة التي يقلدن فيها الكافرات من النصارى واليهود وأشباههم والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- ما حكم لبس البنطلون للفتيات عند غير أزواجهن؟ الجواب:- لا يجوز للمرأة عند غير زوجها مثل هذا اللباس لأنه يبين تفاصيل جسمها، والمرأة مأمورة أن تلبس ما يستر جميع بدنها لأنها فتنة وكل شيء يبين من جسمها يحرم إبداؤه عند الرجال أو النساء والمحارم وغيرهم إلا الزوج يحل له النظر إلى جميع بدن زوجته، فلا بأس أن تلبس عنده الرقيق أو الضيق ونحوه والله أعلم.

السؤال:- ما حكم استعمال المرأة للحناء في الرأس مما يؤدي ذلك إلى تغيير السواد؟ الجواب:- إذا كان الشعر أبيض فلا بأس بغييره بالحناء والكتم لينقلب إلى الحمرة والسمرة، فأما الشعر الأسود فلا حاجة إلى استعمال الحناء فيه بل يترك على حاله.

السؤال:- انتشر في وسط النساء ما يلي: (أ) قص شعر الرأس. (ب) تغيير لون شعر الرأس باللون الأحمر والأصفر أو لون آخر. (ج) لبس البنطلون أو ما يسمى (الجنز) . (د) لبس الحذاء المرتفع (الكعب) . (هـ) لبس الثياب الضيقة أو القصيرة أو المشقوقة من إحدى الجوانب أو القصيرة الأيدي. فما هو الحكم في تلك الفقرات المذكورة؟ علماً بأن النساء يعللن أن لبسهن إنما يكون أمام النساء أو المحارم. مع توجيه نصيحة إلى أولياء أمورهن. الجواب:- (أ) أما قص المرأة شعر رأسها فلا يجوز فإن زينتها في توفير هذا الشعر وهو مما يمتدح به في الجاهلية والإسلام ولا زال نساء المسلمات يربين شعرهن منذ الطفولة ويحرصن على تسريحه وتضفيره وإطالته ويفتخرن ويتجملن به، حتى جاء وفد الغرب فأظهر نساؤهم قص الشعر من الأمام أو الخلف، وادَّعى من قلدهن أن ذلك جمال وزينة مع أنه غاية في التشويه وقبح المظهر، وقد ورد نهي المرأة عن حلق رأسها بعد التحلل من الإحرام وأن عليها أن تأخذ من كل ضفيرة قدر أنملة فقط، مع مدح أهل التحليق في حديث (رحم الله المحلقين.. الخ) ، وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في أضواء البيان كلام طويل على هذه المسألة في سورة الحج على قوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقضُوا تَفَثَهُمْ..) (الحج:29) وهو مما يهم الاطلاع عليه والله أعلم. (ب) وأما تغيير المرأة لون شعر رأسها بألوان متنوعة فهو أيضاً موضة جديدة كما يُقال ويعبرون عنه بالميش، وقد تلقوه عن الوافدات من نساء الغرب اللاتي يبدون أمام الرجال حاسرات عن الرأس والوجه، وقد صبغن الشعر بعضه بأحمر وبعضه بأصفر وبعضه بأزرق.. إلخ.

والقصد أن يلفتن الأنظار وأن يفتن الشباب، ومع أن هذا تمثيل وتقبيح فقد قلدهن نساء من أهل الوطن وقد ألزمهن أزواجهن بذلك لّما رأوا أولئك النساء بتلك الصورة تعلقت نفوسهم بها فأحبوا أن يظهروها في زوجاتهم رغم أن هذا التمثيل والتلوين يقبح المنظر ويشوه المظهر، وقد ورد في الحديث النهي عن التمثيل بالشعر، والنهي عن وصل الشعر، والنهي عن الصبغ بالسواد إذا كان الشعر أبيض، والرخصة في صبغ الشيب بالحمرة أي: بالحناء والكتم فقط، فيقتصر على الوارد والله أعلم. (جـ) وأما لبس المرأة للبنطلون فلا يجوز ولو كانت خالية ولو كانت أمام النساء أو أمام زوجها إلا في غرفة مغلقة مع زوجها فقط، فأما سوى ذلك فلا يجوز فإنه يبين تفاصيل البدن ويعوّد المرأة على هذه اللبسة حتى تألفها وتصبح عندها مستساغة، فلا تجوز هذه اللبسة بحال. (د) وأما لبس الحذاء المرتفع (الكعب العالي) فلا يجوز أيضاً وهو من التقليد الأعمى لنساء الغرب بما لا فائدة فيه ولا زينة، وإنما قصدهن لفت أنظار الشباب وتكرار النظر إلى تلك المرأة لتعجب الناظرين، ويمكن أن من قصدهن تحديب المرأة حتى تظهر عجيزتها أو بعض بدنها ونحو ذلك من المقاصد السيئة فتقليدهن في ذلك لا يجوز والله أعلم.

(هـ) وأما الثياب الضيقة التي تبين تفاصيل البدن فلا تجوز للمرأة، فإن ظهورها بذلك يلفت الأنظار حيث يتبين حجم ثديها أو عظام صدرها أو إليتها أو بطنها أو ظهرها أو منكبيها أو نحو ذلك، فاعتياد مثل هذه الأكسية يعودها على ذلك، ويصير دينها، ويصعب عليها التخلي عنه مع ما فيه من المحذور، وهكذا لبس القصير أو المشقوق الطرف بحيث يبدو الساق أو القدم أو قصير الأكمام ولا يبرر ذلك كونها أمام المحارم أو النساء لأن اعتياد ذلك يجر إلى الجرأة على لبسه في الأسواق والحفلات والجمع الكثير كما هو مشاهد، وفي لباس النساء المعتاد ما يغني عن مثل هذه الألبسة والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- ما هو الحكم في صبغ رأس المرأة بغير الأسود وذلك للتجمل؟ وهل هناك صبغة محرمة مثل الميش؟ وهل تمنع وصول الماء إلى قشرة الرأس؟ وهل هي مضرة بالرأس؟ مع العلم أن الصبغ يمكث أربعة أو خمسة أشهر بإحدى الألوان غير الأسود، وهل هي من تغيير خلق الله؟ الجواب:- لا يجوز مثل هذا الصبغ حيث إنه من تغيير خلق الله، وهو من تقليد الغرب بدون فائدة، ولا شك أن السواد أحسن الألوان في الشعر فتغييره بهذه الأصباغ من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولكن إذا ابيّض الشعر وصار شيباً جاز صبغه بالحناء ونحوه، ولا يمنع وصول الماء إلى البشرة فإنه يختص بالشعر والله أعلم.

السؤال:- ما رأيكم فيما يفعله بعض النساء من وضع الصبغة على الشعر وكذلك؟ وضع ما يسمى الميش على الشعر أيضاً؟ وماحكم استعمال الطيب للمرأة وذلك عند ذهابها إلى المدرسة؟ الجواب:- لا شك أن هذا تغيير لخلق الله، فلا يجوز وضع هذه الأصباغ على الشعر إذا كان لونه أسود، فإنه أحسن الألوان فهذه الأصباغ التي تلون الشعر إلى أحمر وأخضر وأبيض ونحوه ... من تغيير خلق الله، ثم هو تقليد غربي ما كان المسلمون يعرفون ذلك قبل وفود نساء الكفار ومن تشبه بقوم فهو منهم، ويقال في وضع الميش الذي هو أصباغ ملونة متعددة أو موحدة تغيرّ لون الشعر عما هو عليه، فهو أيضاً تقليد غربي ويستثنى من ذلك إذا ابيّضَّ الشعر وأصبح كُلَّهُ شيباً، فإنه يجوز صبغه بالحناء الأحمر لورود الأمر بتغيير الشيب بغير السواد، وأما استعمال الطيب للمرأة فلا يجوز أن تمس طيباً له رائحة سيما إذا كانت سوف تخرج إلى السوق أو المستشفى أو العمل في المدرسة أو نحوها وأيضاً فإن طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه كالورس والصفرة في الخدين والذراعين ونحوهما والله أعلم.

السؤال:- انتشرت بين النساء والرجال ظاهرة قص الشعر بحيث يكون له فروة طولها 10سم أو 13سم ثم تقص حواف شعر الرأس فقط من جهة اليمين إلى الخلف ثم إلى الشمال بالكلية أو حلاقتها باستثناء جهة الأمام. فما حكم ذلك وما دليله؟ وهل هو من القزع أم لا؟ ولماذا؟ الجواب:- لا شك أن هذا الفعل من المنكر ومن التقليد الأعمى، وأنه داخل في القزع فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع ورأى صبياً قد حلق بعض رأسه فقال: (احلقوه كله أو اتركوه) . ثم إن هذا الفعل ليس فيه زينة ولا جمال للرجل ولا للمرأة، بل هو تغيير لخلق الله وتشويه للمنظر، وتقليد للغرب بما لا فائدة فيه مع ما به من التكلفة والشغل الشاغل، وكثرة العمل وصرف المال فيما فيه مضرة بما هو معروف، فننصح الرجل أن لا يعتاد مثل هذا التقليد الغربي، والمرأة أن تتوقف على ما كانت عليها أمها وجداتها من توفير الشعر وتضفيره فهو الغاية في الجمال والله المستعان وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- ما حكم إزالة شعر اليدين والساقين حيث إنَّه انتشر عند كثير من النساء؟ وهل النمص المقصود به إزالة شعر الحاجبين فقط أم أَنه يشمل الساقين وغيرهما حيث أن الحديث مطلق؟ الجواب:- لا مانع من حلق شعر اليدين والساقين أو إزالته بما يزيله من أدهان أو نحوها وذلك أن هذا الشعر قد يؤذي ويحدث خشونة في الجسد، وأَما النمص المنهي عنه فهو إزالة شعر الحاجبين بالحلق أو النتف أو القص، ولا يلحق به إزالة شعر الساق أو الذراع فلا يدخل هذا في النمص المحرم بقوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله النامصة والمتنمصة) . وعلى المرأة التقيد بما ورد وترك ما لا يجوز فعله من النمص والوشم والوشر والفلج في الأسنان وتغيير خلق الله تعالى.

السؤال:- ما حكم حلق المرأة لشعر الحاجب الذي بحذاء -بجانب- الأنف؟ الجواب:- الأصل أنه لا يجوز، لدخوله في شعر الحاجب، ولأن إزالته تدخل في النمص، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم النامصات والمتنمصات.

السؤال:- ما حكم لبس بعض النساء للعدسات اللاصقة الملوَّنة بقصد الزينة؟ كأن تلبس لباساً أخضر فتضع عدسات خضراء، أفتونا مأجورين. الجواب:- لا يجوز هذا إذا كان لقصد الزينة فإنه من تغيير خلق الله، ولا فائدة فيه للبصر، وربما قلل بصر العين حيث تُعَرَّضُ للعبث بها بالإلصاق وما بعده، ثم هو تقليد للغرب بدون فائدة، ولا جمال أحسن من خلق الله وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

فتاوى عن الحجاب الشرعي

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية فتاوى عن الحجاب الشرعي

السؤال:- انتشر بين نساء المسلمين ظاهرة لبس بعض النساء العباءة على الكتفين وتغطية الرأس بالطُرَح، والتي تكون زينة في نفسها، وهذه العباءة تلتصق بالجسم وتصف الصدر وحجم العظام ويلبسن هذا اللباس موضة أو شهرة، ما حكم هذا اللباس؟ وهل هو حجاب شرعي؟ وهل ينطبق عليهن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما ... ) ؟ أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً. الجواب:- لقد أمر الله نساء المؤمنين بالتستر والتحجب الكامل فقال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن..) (الأحزاب:59) . والجلباب هو الرداء الذي تلتف به المرأة ويستر رأسها وجميع بدنها ومثله المشلح والعباءة المعروفة، والأصل أنها تلبس على الرأس حتى تستر جميع البدن، فلبس المرأة للعباءة هو من باب التستر والاحتجاب الذي يقصد منه منع الغير من التطلع ومد النظر، قال تعالى: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) (الأحزاب:59) ولا شك أن بروز رأسها ومنكبيها مما يلفت الأنظار نحوها، فإذا لبست العباءة على الكتفين كان ذلك تشبهاً بالرجال وكان فيه إبراز رأسها وعنقها وحجم المنكبين وبيان بعض تفاصيل الجسم كالصدر والظهر ونحوه، مما يكون سبباً للفتنة وامتداد الأعين نحوها وقرب أهل الأذى منها ولو كانت عفيفة. وعلى هذا فلا يجوز للمرأة لبس العباءة فوق المنكبين لما فيه من المحذور ويخاف دخوله في الحديث المذكور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي من أهل النار ... ) إلى قوله: (ونساء كاسيات عاريات مميلات روؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.. الخ) (أخرجه مسلم وأحمد وذكره الألباني في الأحاديث الصحيحة) . والله أعلم.

السؤال:- قام المركز الإسلامي في مدينتنا بتنظيم محاضرة للنساء، وقام المحاضر بإلقاء المحاضرة مباشرة من دون حاجز أو حجاب رغم معارضة بعض النساء لذلك وعدم رضاهن، ورغم وجود نساء كاشفات لوجوههن وأيديهن، وكان بالإمكان إلقاء المحاضرة من وراء ستار، ونتيجة لذلك حدثَ نقاش طويل بين بعض المسلمين عندنا، خصوصاً وأن إدارة المسجد ممثلة في اللجنة المنظمة رفضت أن يقوم أحد طلبة العلم في نفس اليوم بإلقاء محاضرة من وراء حجاب، وقد زاد من الخصومة أن المحاضر قال: (إن آية (وإذا سألتموهن متاعاً فسئلوهن من وراء حجاب) (الأحزاب:53) خاصة نزولاً وحكماً بزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز تطبيقها على غيرهن؟ ‍ وقال أيضاً إجابة على سؤال حول الاختلاط: (إن المحرَّم شرعاً هو الخلوة فقط، ولذلك لا مانع من استضافة المرأة للرجل الأجنبي في حال عدم الخلوة؟ ‍) وقال أيضاً: (إنه لا يرى أن تنتقب المرأة في البلاد الغربية حتى لا تعطي صورة غير مقبولة عن الإسلام) ؟ ‍‍‍ السؤال: ما رأيكم فيما حدث؟ وهل يجوز ذلك شرعاً؟ وما رأيكم فيما قاله المحاضر حول الاختلاط والنقاب؟ وهل يجوز الإنكار عليه؟ أفيدونا مأجورين. الجواب:-

لا شك أن ما فعله هذا المحاضر لا يجوز في الإسلام، فإن وقوف الرجل أمام النساء المتبرجات من أعظم أسباب الفتنة ولو أمنه هذا الرجل لم يأمنه غيره، ومتى فتح الباب لهم توصلوا إلى المحظور من النظر المحرم وما يجره من الفواحش، وقد نهى الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن التبرج بقوله: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) (الأحزاب:33) وهذا الخطاب يعم كل المؤمنات لأن الله ذمّه بإضافته إلى الجاهلية، والتبرج هو إبداء الزينة ولا شك أن الوجه هو مجمع محاسن المرأة وبه تحصل الفتنةو يحصل التقارب، فإن بقية جسدها قد لا يحصل به تفاوت بين النساء ولا شك أن النساء فتنة لكل مفتون، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) (أخرجه أحمد وهو عند مسلم) ، ولّما أذن لهن في الصلاة في المسجد قال: (وليخرجن تفلات) (أخرجه أحمد وأبو داود) .

وقال: (وبيوتهن خير لهن) وذكرت عائشة أنه يشهد صلاة الفجر نساء متلفعات بمروطهن (أخرجاه في الصحيحين) ، وقالت عائشة: (لو شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) (أخرجه الشيخان) . ولما أمرهن بالخروج لصلاة العيد قلن: (إحدانا ليس لها جلباب) قال: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) ، والجلباب هو الرداء الذي تلتف به امتثالاً لقوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) فالمرأة إذا تسترت واحتشمت عرفت بصفتها وحيائها ودينها فلا يتجرأ أحد أن يؤذيها معاكسة أو مكالمة أو ممازحة، ولذلك نهيت المرأة عن السفر بدون محرم حتى لا تتعرض لأذى من ذوي النفوس الرديئة، وأما قوله تعالى: (فاسألوهن من وراء حجاب) (الأحزاب:53) فهو وإن كان خطاباً لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وذلك لوجود العلة التي في قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرضٌ) (الأحزاب:32) . فإذا كان هذا الطمع في أمهات المؤمنين فلابد أن يكون في غيرهن بطريق الأولى، فإن الله اختار لنبيه أفضل النساء وأعفهن ومع ذلك أمرهن بالحجاب ونهاهن عن الخضوع بالقول صيانة لهن، فغيرهن أولى بالصيانة والتحفظ والبعد عن أسباب العهر والفتنة، وعلى هذا فيحرم أن تستضيف المرأة رجلاً أجنبياً ولو كان معه رجال أو معها نساء إذا كان هناك سفور وتبرج وعدم محرم للمرأة، وقد وردت الأدلة على النهي عن خلوة الرجل بالمرأة إلا مع ذي محرم، ولم يفرق بين وجود النساء أو الرجال الأجانب، وعلى هذا فإذا احتيج إلى إلقاء محاضرة للنساء فلا بد من حاجز وستار قوي يمنع من النظر حتى لا تحصل الفتنة، ويلزم المرأة أن تستر جميع بدنها بما في ذلك الوجه واليدان أمام الرجال الأجانب، ولو كانت في بلاد الكفار حتى تظهر شعائر الإسلام وذلك يعطي صورة حسنة عن الإسلام وأهله، ولا عبرة بمن استغرب

ذلك وأنكره ممن قد يرون المنكر معروفاً والمعروف منكراً، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- لديّ ولد يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً ومتزوج حديثاً، ويعمل في دولة الكويت، ولقد أمرته بأن يأمر زوجته أن تستر وجهها أمام أخيه الذي يسكن معه في نفس البيت وأخوه يصغره بقليل، وكذلك أمام الناس جميعاً، فردَّ عليَّ وبوجهي بأعلى صوته قائلاً: لا أسمح لك ولا لأحد أن يتدخل في هذا الأمر، ولقد سألت العلماء هنا في الكويت بخصوص هذا الأمر فأباحوا كشف المرأة وجهها واليدين. فأخبرته في الحال أنه لا يجوز شرعاً وهذا محرم وأعطيته صورة من فتواكم لي بهذا الخصوص، وأورد هنا ما قاله لي نصاً: (لا أسمح لك ولا لأحد أن يتدخل في شؤوني وزوجتي) ولقد حاولت معه ومع زوجته بالنصح ويردّ عليَّ بخشونة وبدون تقبل لما أمرته به من خير لدينه ودنياه، ولقد جرح شعوري بأفكاره وعدم تقبله لطاعتي ونكرانه للجميل، وأنا كنت أسكن في الكويت ولي فيها بيت ملك، وهو يسكن الآن فيه وزوجته وأخوه وأمه، علماً بأنهما موظفان ولهما دخل جيد، والآن يا فضيلة الشيخ وبعد ما ورد أعلاه هل يجوز لي شرعاً أن أخرجه من بيتي وأهجره من السلام وأمنع بناتي وأولادي من الدخول عليه في بيته الذي يخصه مستقبلاً، وذلك خشية تاثير زوجته على بناتي، حتى يغيرّ المنكر الذي هو عليه الآن؟ وهل يعتبر هذا الابن فيما عمله معي في حكم العاق أم يعتبر مرتكب إثم؟ وهل لي الحق أن أحرم زوجته من الدخول على بناتي ولا في بيتي الذي أنا أسكنه إذا لم تخف الله وتستر وجهها؟ فبماذا تنصحونني وتنصحون هذا الأبن؟ وبماذا تنصحون زوجته؟ وبماذ تنصحون أخاه الذي يسكن معه في البيت وهو على هذا الحال وعمره قرابة الثانية والعشرون سنة؟ أرجو إفادتي ولفضيلتكم جزيل الثواب والأجر من الله. الجواب:-

عليك تكرار النصح له وتخويفه وتحذيره من المفسدة وإذا أصر وامتنع من التقبل فهو عاص لله عاق لأبيه، فلك أن تخرجه من منزلك وأن تهجره في ذات الله وأن تمنعه من الدخول على بناتك مخافة التأثير عليهن، فإذا تاب وأناب وتراجع وكلَّف زوجته بالتستر والاحتشام فهناك تتقبله وتفسح له الزيارة وعليك أن تنصح أخاه الذي أصغر منه عن الجلوس معه وتأمره بهجره ومقاطعته ما دام مصراً على المعصية وجزيت خيراً.

السؤال:- ما الحجاب الإسلامي الكامل؟ الجواب:- الحجاب الإسلامي للمرأة أن تقر في منزلها ولا ترى الرجال الأجانب ولا يرونها، لقوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) (الأحزاب:33) ، أمر بالقرار في البيت وعدم الخروج إلا لضرورة وإذا احتاجت للخروج والبروز أمام الرجال نهيت عن التبرج: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) (الأحزاب:33) والتبرج إبداء شيء من البدن كالوجه أو اليد أو القدم بل عليها أن تستر بدنها كله بثياب صفيقة ساترة واسعة لا تبين شيئاً من تفاصيل الجسم بل تستر بدنها كله ولا تظهر شيئاً من الزينة كالثياب الجميلة والحلي والبدن لقوله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) (النور:31) فهذا هو الحجاب الكامل، أي: ستر الوجه والبدن كله وتوسيع الثوب والمشالح والأردية والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

فتاوى عن حد الزنا

فتاوى الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله الفتاوى النسائية فتاوى عن حد الزنا

السؤال:- رجل يطأ أخت زوجته منذ مدة طويلة حتى تبين حملها. والسؤال هو: هل تبقى زوجته بذمته؟ وما مصير المولود ولمن ينسب؟ وما الحد الشرعي على هذا الرجل والمرأة علماً أن هذه المرأة مطلقة؟ الجواب:- هذا جرم كبير حيث إنه زنا وإنه مع من يحرم عليه نكاحها وإن كان مؤقتاً، وعلى هذا فإذا اعترف بالزنا وأن الحمل منه فعليه الرجم بالحجارة حتى يموت، وكذا على المرأة التي مكنته من نفسها وهي ثيّب ولم تكن مكرهة عليها الرجم، ولا يتسامح معها لبشاعة فعل الفاحشة، ولا ترجم المرأة حتى تلد ويوجد من يحضن الولد، وينسب الولد لأمه ولو اعترف به الزاني أو أولاده فإنه لا يلحق بالزاني ولا كرامة، وعليه قبل الرجم اجتناب زوجته حتى تلد أختها لئلا يجتمع ماؤه في رحم أختين، وكذا يبتعد عن زوجته إن ادَّعى شبهة وقامت قرينة به والمرجع في ذلك إلى القاضي الشرعي وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

السؤال:- هل يجوز للأرملة أن تزني إذا لم تجد عملاً ولم تجد الزوج يتزوج بها ولم يوجد من يعولها ولم تجد من يعطيها ولو بالتسول وأولادها معرّضون للمجاعة؟ الجواب:- لا يجوز لها الزنا بأية حال، فهو من أعظم المحرمات، وعليها بذل السبب في الزواج أو التسول والصبر على الشدّة إلى أن يرزقها الله: (سيجعل الله بعد عسر يسرا) (الطلاق:7) .

السؤال:- قدم رجل إلى ألمانيا وحصلت له علاقة مع ألمانية -والعياذ بالله- وكانت هذه العلاقة علاقة محرمة، حصل منها زنا -نسأل الله العافية- وعلى إثرها أنجبت هذه الألمانية طفلاً من هذا الرجل الجزائري علماً أن هذه المرأة غير مسلمة وهو مسلم (اسماً فقط) ، وبعد عام من عمر الطفل أسلمت الألمانية ولله الحمد، ولكن أبا الطفل ما زال على حاله من شرب للخمر والرقص.. الخ -والعياذ بالله- وقد نصحه غير واحد من الإخوة ولكن لم يرجع ولم يتغير شيء من حاله -هدانا الله وإياه-، ثم إن هذه المرأة الألمانية رفضت أن يرى الأب ابنه وأقامت عليه دعوة في المحكمة، وحكمت المحكمة بأن هذا الرجل ليس بأب صالح للابن فلا يحق له رؤية ابنه، ثم بعد ثلاث سنوات طلب الأب رؤية ابنه وذلك بوساطة بعض جماعة المسجد فوافقت الألمانية على أن يرى الطفل كل خمسة عشر يوماً، مرة واحدة لمدة ساعة، ثم بعد مرتين رفضت أن يراه مرة أخرى وعزمت على أن يكون الطفل باسم زوجها الحالي، والذي تزوجها قبل عام وهو رجل ملتزم، كذلك نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً، والآن هل يأخذ الطفل اسم أمه أم اسم أبيه أم اسم زوج أمه؟ وهل لوالده رؤيته وهو مقيم على تعاطي الخمر وارتياد أماكن الفساد؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله. الجواب:- هذا الولد ينسب إلى أمه، فعصبتها هم عصبته ولا ينسب إلى أبيه الزاني ولا إلى زوج أمه الذي تزوجها بعد ولادته، فليس هو ابناً للزاني ولا كرامة لحديث: (الولد للفراش وللعاهر الحَجَر) أي للزاني الخيبة أو العقوبة، والولد لا يضره عمل أبويه إذا أصلح حاله، وحيث إن أمه قد تابت وتزوجت رجلاً صالحاً فعليها أن تنسب هذا الولد إليها وإلى أبيها وهي التي تعصبه، وكذا عصبتها كأبيها وإخوتها ونحوهم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

§1/1