فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة

ابن سفران القحطاني

مقدمات

بسم الله الرحمن الرحيم المملكة العربية السعودية رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء مكتب المفتي العام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين .. أما بعد: فقد اطلعنا على كتاب (فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة) والذي جمعه الشيخ محمد بن حسين القطحاني -وفقه الله- فألفيناه كتابا قيما نافعا في بابه؛ ذلك أنه عند حدوث الفتن ونزول النوازل بالأمة الإسلامية يتحتم على أفرادها الرجوع إلى أهل العلم الراسخين الذين يدركون بتوفيق من الله ونور منه وبما آتاهم الله من العلم والهدى يدركون الأمور على حقيقتها ويعلمون ما يصلح الأمة في حالتها الراهنة ونازلتها الحادثة، كما أنهم يسيرون بالأمة وفق شرع الله في سائر الأحوال، وهذا المنهج القويم؛ أعني رد الأمور إلى أهلها عند حدوث الفتن أصل شرعي، يقول الله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}. وما جمعه الشيخ محمد القحطاني من فتاوى وبيانات هي لعلماء نحسبهم -ولا نزكي على الله أحدا- علماء ربانيين نهلوا من العلم الصحيح فتعلموا وعلموا وبصروا الناس بما يصلحهم في أمر دينهم ودنياهم. فكان الكتاب مرجعا لمن نزلت به نازلة يعلم قول أهل في نظائرها فيسكن جنانه ويعبد ربه على بصيرة. فجزى الله جامعها كل خير، وجزى الله هؤلاء العلماء الفضلاء عن المسلمين خير الجزاء وجعل ما علموا وبينوا في ميزان حسناتهم مدخرا لهم أحوج ما يكونون إليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،، المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

مقدمة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان

مقدمة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان الحمد لله الذي من علينا بنعمة الإسلام، وأمرنا بالتمسك به ليوصلنا به إلى دار السلام، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير الأنام. وعلى آله وصحابته البررة الكرام، أما بعد: فقد اطلعت على ما جمعه الأخ الشيخ: محمد بن حسين القحطاني من كلام العلماء وفتاواهم في موضوع الأحداث الجارية من بعض الشباب المغرر بهم من أقوال وأفعال شاذة، وخروج على الآداب الإسلامية، وإخلال بالأمن، وترويع وتقتيل للأبرياء. ولا شك أن لكل حادث حديثا، فتكلم العلماء بما يقتضيه الشرع حول تلك الأحداث، واستنكروها، وبينوا حكمها وحكم القائم بها في الإسلام؛ نصيحة للأمة، وكشفا للشبهات، على ما يقتضيه الواجب عليهم نحو هذه التصرفات المشينة، فكان فيما جمعه الشيخ محمد من كلامهم وفتاواهم فيما سماه: (فتاوى الأئمة في حكم التفجيرات في البلاد الإسلامية وغيرها) خير مقنع لمن أراد الله هدايته، ومن لم يرد الله هدايته فلن تملك له من الله شيئا. فجزاه الله خير الجزاء، ونفع بمجهوده الطيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. كتبه: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

اللهم إنا نستكفي بك الافتتان بإطراء المادح، وإغضاء المسامح، كما نستكفي بك الانتصاب لإزراء القادح، وهتك الفاضح. قال الإمام الشافعي (¬1): ما ناظرت أحدا قط على الغلبة وبودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب -يعني كتبه- على أن لا ينسب إلي منه شيء (¬2) وقال رحمه الله: (¬3) "ليس إلى السلامة من الناس سبيل فانظر الذي فيه صلاحك فالزمه". ¬

(¬1) "سير أعلام النبلاء". (¬2) هذا وكتبه رحمه الله حوت فقهه المتين، وعلمه الرصين، ومذهبه السني، ونهجه السلفي، والذي بان فيها فضله، وشرف بها قدره؛ حتى غدا إماما من أئمة المسلمين؛ فليت بعض الأغمار (الأدعياء) يتبعون هذا الهدي إن كانوا في اتباعهم للسلف صادقين، قال الذهبي: "الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟ " "سير أعلام النبلاء" (11/ 321). (¬3) "سير أعلام النبلاء" (10/ 42).

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: أحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات؛ على ما يسر ووفق لهذا الكتاب من الرواج الكبير، والانتشار العريض، وما كنت أظن أن يبلغ هذا الكتاب ما بلغ؛ حتى توافرت عليه الثناءات، وأطبقت لحسنه الجماعات، وما ذاك إلا لتوفيق الله أولا، ثم لمتانة ما فيه من فقه علمائنا، ولاة أمرنا، "أئمة الأنام، وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله" (¬1) أمناء الشريعة، وعدول الأمة، "فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط الحلال من الحرام" (¬2) فقد حوى كلامهم النصائح والدرر، ودار في فقه الحديث والسور، وحمل العلم النافع بأنواعه؛ حتى غدت علومهم، وجميل فهومهم؛ بلسما شافيا، ودواء ناجعا، لمن طلب السلامة، ورام الكرامة. وهذا شأن الراسخين في العلم، الذين أفنوا فيه أزمانا وأعمارا، وحملوه يقينا واقتدارا، حتى غدوا كالجبل الأشم في وجه شبه الغالين والجافين، قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر؛ ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكا؛ لأنه ¬

(¬1) "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 9). (¬2) "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 9).

قد رسخ في العلم، فلا تستفزه الشبهات؛ بل إذا وردت عليه: ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة" (¬1). قال ابن أبي العز: "كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته، جعلهم الله بمنزلة النجوم؛ يهتدى بها في ظلمات البر والبحر" (¬2). هذا وإن من اللازم عرض فهومنا للوحيين عليهم، والصدور عن ما رأوه وقرروه؛ وذلك لتكامل علومهم، ودقة فهومهم، وإسناد فقههم، قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ -رحمه الله-: "فلو أن إنسانا قال: ما نقبل إلا بظاهر لفظ القرآن، وتعلق بظاهر لفظ لا يعرف معناه، أو أوله على غير تأويله، ولم يعرضه على العلماء؛ بل يعتمد على فهمه هو؛ فقد ضاهى الخوارج المارقين" (¬3). فلا مناص من اتباع العلماء الشيوخ الأكابر، أهل البصر الحديد، والرأي السديد، فعن أبي أمية اللخمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أشراط الساعة ثلاثة: إحداهن أن يلتمس العلم عند الأصاغر» (¬4). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل ¬

(¬1) "مفتاح دار السعادة" (1/ 140). (¬2) "شرح العقيدة الطحاوية". (¬3) "مجموع رسائل وفتاوى في مسائل مهمة تمس إليها حاجة العصر" (ص13). (¬4) "المعجم الكبير" للطبراني (22/ 361) "الإصابة في تمييز الصحابة" (7/ 22).

الكبير تابعه عليه الصغير" (¬1). قال ابن مسعود رضي الله عنه:" لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعلمائهم، فإذا أخذوا عن صغارهم وشرارهم هلكوا" (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم على عمر رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا. فقال: ابن عباس، فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة، قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه، قال: فانطلقت إلى أهلي مكتئبا حزينا، فقلت: قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة؛ فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه، قال: فرجعت إلى منزلي فاضطجعت على فراشي، حتى عادني نسوة أهلي، وما بي وجع، وما هو إلا الذي تقبلني به عمر. قال: فبينا أنا على ذلك أتاني رجل، فقال: أجب أمير المؤمنين. قال: خرجت فإذا هو قائم ينتظرني، قال: فأخذ بيدي ثم خلا بي، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا؟. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فإني أستغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت. قال: لتحدثني بالذي كرهت مما قال الرجل. فقلت: يا أمير المؤمنين متى ما تسارعوا هذه المسارعة يحيفوا، ومتى ما يحيفوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا. ¬

(¬1) "فتح الباري" (1/ 301). (¬2) "مصنف عبد الرزاق" (11/ 217) وانظر" الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 145).

فقال عمر: "لله أبوك! لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها" (¬1). هذا .. وإن في البعد عن اتباع العلماء السبب الأكيد لإدخال الوهن على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من فارق السبيل كان كمن يمشي في الصحراء بغير دليل، فهذا هلاكه أقرب إليه من نجاته". فلا تلتفت يمينا أو شمالا إلا وترى من الشرور العظيمة، والمفاسد الجسيمة؛ ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، وما هذه الفتن التي تنخر في جسد الأمة؛ من اختطاف وتفجير، واغتيال وتكفير؛ إلا أوضح دليل على ما أقول، فإن مشاكل الأمة لا تحل بقول فلان أو فلان من الصالحين أو الوعاظ؛ لمجرد أنه يحمل هم الإسلام! قال سحنون بن سعيد: "لا أدري ما هذا الرأي؟! سفكت به الدماء، واستحلت به الفروج، واستخفت به الحقوق، غير أنا وجدنا رجلا صالحا فقلدناه" (¬2). قال الشيخ سعد بن عتيق (¬3) -رحمه الله-: "ومن أعظم أسباب التفرق والاختلاف، والعدول عن طريق الحق والإنصاف؛ ما وقع فيه كثير من الناس من الإفتاء في دين الله بغير علم، والخوض في مسائل العلم بلا فهم ولا دراية، قال الله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وقد قال في هذا الصنف من الناس: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}. ¬

(¬1) "سير أعلام النبلاء" (3/ 349). (¬2) "إعلام الموقعين" (1/ 61). (¬3) "مجموع رسائل وفتاوى في مسائل مهمة تمس إليها حاجة العصر" (ص13).

وإني لأهيب بإخوتي من طلبة العلم بالسير حثيثا لخدمة علمائنا الأجلاء، وبيان أفضالهم وجهودهم، ونشر توجيهاتهم وعلومهم، فهم أخص من يوالى ويحب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله؛ موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم؛ يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها؛ إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا .. " (¬1). وبعد: فتمتاز هذه الطبعة بأمر نفيس ألا وهو تقديم إمامين كبيرين، وشيخين جليلين؛ سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ العلامة النحرير: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، وشيخي وأستاذي الفقيه العلم المربي الدكتور: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، بنى الله لهم في الجنة دارا، وأخمد لعدوهم نارا، وأعلى لهم في الدنيا منارا. ومما امتازت به هذه الطبعة زيادة عدد صالح من الفتاوى المهمة في موضوع الكتاب؛ وكان شرطي ولا يزال: هو النقل -من المعاصرين- عن أعضاء هيئة كبار العلماء، خلا فتاوى للشيخ المحدث: ناصر الدين الألباني ¬

(¬1) "مجموع الفتاوى" (20/ 232).

-رحمه الله-، وفتوى لشيخي الأول، وأستاذي المبجل، الأديب العريب، الفقيه الأريب: صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ. وأختم المقال بكلمة قالها أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك عندما ظهر في عهده رجل يقول بالقدر، وقد أغوى خلقا كثيرا. فأحضره هشام بن عبد الملك وأحضر الإمام الأوزاعي ليناظره، فغلبه الأوزاعي بالحجة والبيان، وبهت الرجل، ولم يستطع جوابا، فقال هشام بن عبد الملك: "حياة الخلق وقوام الدين بالعلماء" (¬1). وبعد: فهل من مستجيب للسداد، ونداء الحق والرشاد، في فتاوى الأئمة، الذين يربون الأمة، ويدفعون عنها -بإذن الله- في النوازل المدلهمة؟!. وكتب محمد بن حسين بن سعيد آل سفران القحطاني ¬

(¬1) "اعتقاد أصول أهل السنة" للالكائي (1333).

قال الإمام البخاري رحمه الله: باب الفتنة التي تموج كموج البحر وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن قال امرؤ القيس: الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... ولت عجوزا غير ذات حليل شمطاء ينكر لونها وتغيرت ... مكروهة للشم والتقبيل

مقدمة

مقدمة الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل؛ بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه؛ فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة؛ فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المضلين. ونشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله جل وعلا اختار محمدا صلى الله عليه وسلم لنفسه وليا، وبعثه إلى خلقه نبيا، ليدعو الخلق من عبادة العباد إلى عبادته، ومن اتباع السبل إلى لزوم طاعته؛ حيث كان الخلق في جاهلية جهلاء، وعصبية مضلة عمياء، يهيمون في الفتن حيارى، ويخوضون في الأهواء سكارى، يترددون في بحار الضلالة،

ويجولون في أودية الجهالة. شريفهم مغرور، ووضيعهم مقهور، فبعثه الله إلى خلقه رسولا، وجعله إلى جنانه دليلا، فبلغ صلى الله عليه وسلم عنه رسالاته، وبين المراد بآياته، وأمر بكسر الأصنام، ودحض الأزلام، حتى أسفر الحق عن محضه، وأبدى الليل عن صبحه، وانحط به أعلام الشقاق، وانهشم بيضة النفاق. وإن في لزوم سنته تمام السلامة، وجماع الكرامة، لا تطفأ سرجها، ولا تدحض حججها، من لزمها عصم، ومن خالفها ندم، إذ هي الحصن الحصين، والركن الركين، الذين بان فضله، ومتن حبله، من تمسك به ساد، ومن رام خلافه باد، فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل. وإني لما رأيت حاجة الناس إلى فتاوى علماء الأمة في الأمور النازلة المدلهمة؛ رأيت جمعها في كتاب واحد؛ لتكون نورا في الظلمات، ويقينا في المدلهمات، وطمأنينة في المشكلات، وليكون بها النجاة من الفتن، وسلامة الدين والعرض والبدن، في أوقات ينسى فيها العلم، ويندر الحلم، ويقل الاتباع، ويكثر الابتداع، وتنشق الألفة، وتحل الفرقة، وينزل فيها البلاء، وتراق الدماء، فيها .. يتبرأ من أهل الولاء، ويتولى أهل البراء، ولا مخرج من الفتن إلا بالاعتصام بالسنة والأثر، ومراجعة التاريخ والسير، والعلم بأن هلاك أمة محمد هو بالبعد عن الهدي النبوي وورثته، والتنكب عن العلم وحملته. قال الحق جل وعلا في محكم التنزيل: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} [الروم: آية 58 - 60].

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (¬1). وبعد: فبين يديك أخي الكريم فتاوى لعلماء أئمة، أنت مأمور باتباعهم، ولزوم هديهم، أضعها بين يديك، لم أنقص فيها أو أزد، وإنما هو النقل والتبويب. أسال الله جل في علاه أن يوفقنا لكل خير، وأن يباعدنا من كل شر، ¬

(¬1) "رواه البخاري في كتاب الفتن، باب: كيف الأمر إذا لم تكن الجماعة، حديث رقم (7084)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين، حديث رقم (3434).

وأن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وبطن، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب أفقر العباد إلى الله وأحوجهم لعفوه ومغفرته ورضاه محمد بن حسين بن سعيد آل سفران القحطاني الرياض حرسها الله ص. ب: 816 الرياض 11321

فتاوى الأئمة في حكم التفجيرات والتخريب في البلاد الإسلامية وغيرها

فتاوى الأئمة في حكم التفجيرات والتخريب في البلاد الإسلامية وغيرها

بيان من هيئة كبار العلماء حول حوادث التفجير الأخيرة

بيان من هيئة كبار العلماء حول حوادث التفجير الأخيرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والخمسين التي انعقدت في مدينة الطائف، ابتداء من تاريخ 11/ 6/ 1424هـ؛ قد استعرض ما جرى مؤخرا في المملكة العربية السعودية من تفجيرات؛ استهدفت تخريبا، وقتل أناس معصومين، وأحدثت فزعا وإزعاجا. كما استعرض ما اكتشف من مخازن للأسلحة، ومتفجرات خطيرة؛ معدة للقيام بأعمال تخريب ودمار في هذه البلاد؛ التي هي حصن الإسلام، وفيها حرم الله، وقبلة المسلمين، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن مثل هذه الاستعدادات الخطيرة المهيأة لارتكاب الإجرام؛ من أعمال التخريب، والإفساد في الأرض؛ مما يزعزع الأمن، ويحدث قتل الأنفس، وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة، ويعرض مصالح الأمة لأعظم الأخطار. ونظرا لما يجب على علماء البلاد من البيان تجاه هذه الأخطار: من وجوب التعاون بين كافة أفراد الأمة لكشفها، ودفع شرها، والتحذير منها، وتحريم السكوت عن الإبلاغ عن كل خطر يبيت ضد هذا الأمن: رأى المجلس وجوب البيان؛ لأمور تدعو الضرورة إلى بيانها في هذا الوقت؛ براءة للذمة، ونصحا للأمة، وإشفاقا على أبناء المسلمين من أن يكونوا أداة فساد وتخريب، وأتباعا لدعاة الضلالة والفتنة والفرقة، وقد أخذ

الله تعالى على أهل العلم الميثاق؛ أن يبينوا للناس، قال الله سبحانه: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} لذلك كله وتذكيرا للناس، وتحذيرا من التهاون في أمر الحفاظ على سلامة البلاد من الأخطار؛ فإن المجلس يرى بيان ما يلي: أولا: إن القيام بأعمال التخريب والإفساد -من تفجير وقتل وتدمير للممتلكات- عمل إجرامي خطير، وعدوان على الأنفس المعصومة، وإتلاف للأموال المحترمة، فهو مقتض للعقوبات الشرعية الزاجرة الرادعة، عملا بنصوص الشريعة ومقتضيات حفظ سلطانها، وتحريم الخروج على من تولى أمر الأمة فيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه» (¬1). ومن زعم أن هذه التخريبات وما يراد من تفجير وقتل: من الجهاد؛ فذلك جاهل ضال، فليست من الجهاد في سبيل الله في شيء. ومما سبق فإنه قد ظهر وعلم أن ما قام به أولئك ومن وراءهم؛ إنما هو من الإفساد والتخريب والضلال المبين، وعليهم تقوى الله عز وجل، والرجوع إليه، والتوبة، والتبصر في الأمور، وعدم الانسياق وراء عبارات وشعارات فاسدة، ترفع لتفريق الأمة وحملها على الفساد، وليست في حقيقتها من ¬

(¬1) أخرجه مسلم في "الصحيح" (1848).

الدين، وإنما هي من تلبيس الجاهلين والمغرضين، وقد تضمنت نصوص الشريعة عقوبة من يقوم بهذه الأعمال، ووجوب ردعه، والزجر عن ارتكاب مثل عمله، ومرد الحكم بذلك إلى القضاء. ثانيا: وإذ تبين ما سبق؛ فإن مجلس هيئة كبار العلماء يؤيد ما تقوم به الدولة -أعزها الله بالإسلام- من تتبع لتلك الفئة، والكشف عنهم؛ لوقاية البلاد والعباد شرهم، ولدرء الفتنة عن ديار المسلمين وحماية بيضتهم، ويجب على الجميع أن يتعاونوا في القضاء على هذا الأمر الخطير؛ لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى الذي أمرنا الله به في قوله سبحانه: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}. ويحذر المجلس من التستر على هؤلاء، أو إيوائهم، فإن هذا من كبائر الذنوب، وهو داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثا» متفق عليه (¬1)، وقد فسر العلماء (المحدث) في هذا الحديث بأنه من يأتي بفساد في الأرض، فإذا كان هذا الوعيد الشديد فيمن آواهم؛ فكيف بمن أعانهم أو أيد فعلهم. ثالثا: يهيب المجلس بأهل العلم أن يقوموا بواجبهم، ويكثفوا إرشاد الناس في هذا الشأن الخطير؛ ليتبين بذلك الحق. رابعا: يستنكر المجلس ما يصدر من فتاوى وآراء تسوغ هذا الإجرام، أو تشجع عليه؛ لكونه من أخطر الأمور وأشنعها، وقد عظم الله شأن الفتوى ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (6875) ومسلم في "الصحيح" (1978).

بغير علم، وحذر عباده منها، وبين أنها من أمر الشيطان، قال تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ويقول سبحانه: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم} ويقول جل وعلا: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا» متفق عليه (¬1). ومن صدر منه مثل هذه الفتاوى أو الآراء التي تسوغ هذا الإجرام؛ فإن على ولي الأمر إحالته إلى القضاء، ليجري نحوه ما يقتضيه الشرع؛ نصحا للأمة وإبراء للذمة وحماية للدين، وعلى من آتاه الله العلم التحذير من الأقاويل الباطلة، وبيان فسادها، وكشف زورها، ولا يخفى أن هذا من أهم الواجبات، وهو من النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويعظم خطر تلك الفتاوى إذا كان المقصود بها زعزعة الأمن، وزرع الفتن والقلاقل، ومن القول في دين الله بالجهل والهوى، لأن ذلك استهداف للأغرار من الشباب ومن لا علم عنده بحقيقة هذه الفتاوى، والتدليس عليهم بحججها الواهية، والتمويه على عقولهم بمقاصدها الباطلة، وكل هذا شنيع وعظيم في دين الإسلام، ولا يرتضيه أحد من ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (6889) ومسلم في "الصحيح" (2674).

المسلمين ممن عرف حدود الشريعة، وعقل أهدافها السامية، ومقاصدها الكريمة. وعمل هؤلاء المتقولين على العلم؛ من أعظم أسباب تفريق الأمة ونشر العداوات بينها. خامسا: على ولي الأمر منع الذين يتجرءون على الدين والعلماء، ويزينون للناس التساهل في أمور الدين والجرأة عليه وعلى أهله، ويربطون بين ما وقع وبين التدين والمؤسسات الدينية. وإن المجلس ليستنكر ما يتفوه به بعض الكتاب: من ربط هذه الأعمال التخريبية بالمناهج التعليمية، كما يستنكر استغلال هذه الأحداث للنيل من ثوابت هذه الدولة المباركة القائمة على عقيدة السلف الصالح، والنيل من الدعوة الإصلاحية التي قام بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-. سادسا: إن دين الإسلام جاء بالأمر بالاجتماع، وأوجب الله ذلك في كتابه، وحرم التفرق والتحزب، يقول الله عز وجل: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} ويقول سبحانه: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} فبرأ الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وحزبوه وكانوا شيعا، وهذا يدل على تحريم التفرق، وأنه من كبائر الذنوب. وقد علم من الدين بالضرورة وجوب لزوم الجماعة، وطاعة من تولى إمامة المسلمين في طاعة الله، يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وعن أبي هريرة رضي الله

عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك .. » أخرجه مسلم (¬1)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني» متفق عليه (¬2)، وقد سار على هذا سلف الأمة؛ من الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم في وجوب السمع والطاعة. لكل ما تقدم ذكره فإن المجلس يحذر من دعاة الضلالة والفتنة والفرقة، الذين ظهروا في هذه الأزمان، قلبوا على المسلمين أمرهم، وحرضوهم على معصية ولاة أمرهم، والخروج عليهم، وذلك من أعظم المحرمات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان» أخرجه مسلم (¬3)، وفي هذا تحذير لدعاة الضلالة والفتنة والفرقة، وتحذير لمن سار في ركابهم عن التمادي في الغي المعرض لعذاب الدنيا والآخرة، والواجب التمسك بهذا الدين القويم، والسير فيه على الصراط المستقيم، المبني على الكتاب والسنة وفق فهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، ووجوب تربية النشء والشباب على هذا المنهاج القويم والصراط المستقيم؛ حتى يسلموا بتوفيق من الله من التيارات الفاسدة، ومن تأثير دعاة الضلالة والفتنة والفرقة، وحتى ينفع الله بهم أمة الإسلام، ويكونوا حملة ¬

(¬1) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم (1836). (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (2797) ومسلم في "الصحيح" رقم (1835). (¬3) أخرجه مسلم في "الصحيح" رقم (1852).

علم، وورثة للأنبياء، وأهل خير وصلاح وهدى. ويكرر التأكيد على وجوب الالتفاف حول قيادة هذه البلاد وعلمائها، ويزداد الأمر تأكدا في مثل هذه الأوقات؛ أوقات الفتن. كما يحذر الجميع حكاما ومحكومين من المعاصي والتساهل في أمر الله فشأن المعاصي خطير، وليحذروا من ذنوبهم، وليستقيموا على أمر الله، ويقيموا شعائر دينهم، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر. وقى الله بلادنا وجميع بلاد المسلمين كل سوء، وجمع الله كلمة المسلمين على الحق والهدى، وكبت الله أعداءه أعداء الدين، ورد كيدهم في نحورهم، إنه سبحانه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين. هيئة كبار العلماء رئيس المجلس/ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ. صالح بن محمد اللحيدان. عبد الله بن سليمان المنيع. عبد الله بن عبد الرحمن الغديان. د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان. حسن بن جعفر العتمي. محمد بن عبد الله السبيل. د. عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

محمد بن سليمان البدر. د. عبد الله بن عبد المحسن التركي. محمد بن زيد آل سليمان. د. بكر بن عبد الله أبو زيد / لم يحضر لمرضه /. د. عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان. د. صالح بن عبد الله بن حميد. د. أحمد بن علي سير المباركي. د. عبد الله بن علي الركبان. د. عبد الله بن محمد المطلق.

بيان من هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في الرياض

بيان من هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في الرياض الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ محمد وآله وصحبه، أما بعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية المنعقدة في مدينة الرياض يوم الأربعاء 13/ 3/1424هـ استعرض حوادث التفجيرات التي وقعت في مدينة الرياض مساء يوم الاثنين 11/ 3/1424هـ، وما حصل بسبب ذلك؛ من قتل، وتدمير، وترويع، وإصابات لكثير من الناس من المسلمين وغيرهم. ومن المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس، وحرمت الاعتداء عليها، وهي: الدين والنفس والمال والعرض والعقل. ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة، والأنفس المعصومة في دين الإسلام: إما أن تكون مسلمة؛ فلا يجوز بحال الاعتداء على النفس المسلمة وقتلها بغير حق، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام، يقول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء:93]. ويقول سبحانه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة: 32].

قال مجاهد رحمه الله: "في الإثم" وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة» متفق عليه (¬1) وهذا لفظ البخاري. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» متفق عليه (¬2)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» (¬3). ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك). كل هذه الأدلة -وغيرها كثير- تدل على عظم حرمة دم المرء المسلم، وتحريم قتله لأي سبب من الأسباب إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية، فلا يحل لأحد أن يعتدي على مسلم بغير حق؛ يقول أسامة بن زيد رضي الله عنهما: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه؛ قال: لا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" رقم (6484) ومسلم في "الصحيح" رقم (1676). (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (1335) ومسلم في "الصحيح" رقم (20). (¬3) أخرجه النسائي في "السنن" رقم (3987).

إله إلا الله، فكف الأنصاري؛ فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله، قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها؛ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» متفق عليه (¬1)، وهذا لفظ البخاري. وهذا يدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء، فهذا رجل مشرك، وهم مجاهدون في ساحة القتال، لما ظفروا به وتمكنوا منه؛ نطق بالتوحيد، فتأول أسامة رضي الله عنه قتله على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذره وتأويله، وهذا من أعظم ما يدل على حرمة دماء المسلمين وعظيم جرم من يتعرض لها. وكما أن دماء المسلمين محرمة فإن أموالهم محرمة محترمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» أخرجه مسلم (¬2). وهذا الكلام قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم عرفة، وأخرج البخاري (¬3) ومسلم (¬4) نحوه في خطبة يوم النحر. وبما سبق يتبين تحريم قتل النفس المعصومة بغير حق، ومن الأنفس المعصومة في الإسلام: أنفس المعاهدين، وأهل الذمة، والمستأمنين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" رقم (4021) ومسلم في "الصحيح" رقم (96). (¬2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (1216). (¬3) "صحيح البخاري" (1650). (¬4) "صحيح مسلم" (1679).

معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما» أخرجه البخاري (¬1). ومن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد أمان وعهد؛ فإن نفسه وماله معصوم، لا يجوز التعرض له، ومن قتله فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يرح رائحة الجنة» وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين. ومعلوم أن أهل الإسلام ذمتهم واحدة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم» (¬2). ولما أجارت أم هانئ رضي الله عنها رجلا مشركا عام الفتح وأراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يقتله؛ ذهبت للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» أخرجه البخاري ومسلم (¬3). والمقصود أن من دخل بعقد أمان أو بعهد من ولي الأمر لمصلحة رآها؛ فلا يجوز التعرض له ولا الاعتداء لا على نفسه ولا ماله. إذا تبين هذا: فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لا يقره دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه: 1 - أن هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (2995). (¬2) رواه أحمد في "المسند" (1/ 119) والحاكم في "المستدرك" (2623) والدارقطني (3/ 131) والنسائي في "السنن الكبرى" (8681). (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (350) ومسلم في "الصحيح" (336).

2 - أن فيه قتلا للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام. 3 - أن هذا من الإفساد في الأرض. 4 - أن فيه إتلافا للأموال المعصومة. وإن مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر؛ ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، ويحذرهم من مكائد الشيطان، فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك؛ إما بالغلو بالدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته والعياذ بالله، والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر من العبد، لأن كلا طريقي الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه. وما قام به من نفذوا هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها، فهو داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة» أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" (¬1) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه. وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» (¬2) وهو في البخاري بنحوه. ¬

(¬1) أخرجه أبو عوانة في "مسنده" (1/ 44). (¬2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (109) والبخاري في "الصحيح" (5442) بنحوه.

ثم ليعلم الجميع أن الأمة الإسلامية اليوم تعاني من تسلط الأعداء عليها من كل جانب، وهم يفرحون بالذرائع التي تبرر لهم التسلط على أهل الإسلام، وإذلالهم واستغلال خيراتهم، فمن أعانهم في مقصدهم وفتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغرا لهم؛ فقد أعان على انتقاص المسلمين والتسلط على بلادهم، وهذا من أعظم الجرم. كما أنه يجب العناية بالعلم الشرعي المؤصل من الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة؛ وذلك في المدارس والجامعات، وفي المساجد ووسائل الإعلام، كما أنه تجب العناية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي على الحق، فإن الحاجة بل الضرورة داعية إليه الآن أكثر من أي وقت مضى. وعلى شباب المسلمين إحسان الظن بعلمائهم، والتلقي عنهم، وليعلموا أن مما يسعى إليه أعداء الدين؛ الوقيعة بين شباب الأمة وعلمائها، وبينهم وبين حكامهم، حتى تضعف شوكتهم، وتسهل السيطرة عليهم، فالواجب التنبه لهذا. وقى الله الجميع كيد الأعداء، وعلى المسلمين تقوى الله في السر والعلن، والتوبة الصادقة الناصحة من جميع الذنوب؛ فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. نسأل الله أن يصلح حال المسلمين، ويجنب بلاد المسلمين كل سوء ومكروه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

هيئة كبار العلماء: رئيس المجلس/ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ. صالح بن محمد اللحيدان. عبد الله بن سليمان المنيع. عبد الله بن عبد الرحمن الغديان. د. صالح بن فوزان الفوزان. حسن بن جعفر العتمي. محمد بن عبد الله السبيل. د. عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ. محمد بن سليمان البدر. د. عبد الله بن عبد المحسن التركي. محمد بن زيد آل سليمان. د. بكر بن عبد الله أبو زيد "لم يحضر لمرضه". د. عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان "لم يحضر". د. صالح بن عبد الله بن حميد. د. أحمد بن علي سير المباركي. د. عبد الله بن علي الركبان. د. عبد الله بن محمد المطلق.

بيان لهيئة كبار العلماء حول حوادث التخريب

بيان لهيئة كبار العلماء حول حوادث التخريب الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية والثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من 8/ 1/1409 إلى 12/ 1/1409 بناء على ما ثبت لديه من وقوع عدة حوادث تخريب ذهب ضحيتها الكثير من الناس الأبرياء، وتلف بسببها كثير من الأموال والممتلكات والمنشآت العامة في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها، قام بها بعض ضعاف الإيمان أو فاقديه من ذوي النفوس المريضة والحاقدة، ومن ذلك: نسف المساكن، وإشعال الحرائق في الممتلكات العامة، ونسف الجسور والأنفاق، وتفجير الطائرات أو خطفها، وحيث لوحظ كثرة وقوع مثل هذه الجرائم في عدد من البلاد القريبة والبعيدة، وبما أن المملكة العربية السعودية كغيرها من البلدان عرضة لوقوع مثل هذه الأعمال التخريبية، فقد رأى مجلس هيئة كبار العلماء ضرورة النظر في تقرير عقوبة رادعة لمن يرتكب عملا تخريبيا، سواء كان موجها ضد المنشآت العامة والمصالح الحكومية، أو كان موجها لغيرها بقصد الإفساد والإخلال بالأمن. وقد اطلع المجلس على ما ذكره أهل العلم من أن الأحكام الشرعية

تدور من حيث الجملة على وجوب حماية الضروريات الخمس، والعناية بأسباب بقائها مصونة سالمة وهي: "الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال". وقد تصور المجلس الأخطار العظيمة التي تنشأ عن جرائم الاعتداء على حرمات المسلمين في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، وما تسببه الأعمال التخريبية من الإخلال بالأمن العام في البلاد، ونشوء حالة الفوضى والاضطراب، وإخافة المسلمين وإتلاف ممتلكاتهم. والله سبحانه وتعالى قد حفظ للناس أديانهم وأبدانهم وأرواحهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم بما شرعه من الحدود والعقوبات التي تحقق الأمن العام والخاص، ومما يوضح ذلك قوله سبحانه وتعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة: آية 32]. وقوله سبحانه وتعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: آية 33]. وتطبيق ذلك كفيل بإشاعة الأمن والاطمئنان، وردع من تسول له نفسه الإجرام والاعتداء على المسلمين في أنفسهم وممتلكاتهم، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وغيرها على السواء، لقوله سبحانه: {ويسعون في الأرض فسادا}، والله تعالى يقول: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: آية 204 - 205].

وقال تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: آية 56]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح، فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد، فنهى تعالى عن ذلك". وقال القرطبي: "نهى سبحانه وتعالى عن كل فساد، قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر، فهو على العموم على الصحيح من الأقوال". وبناء على ما تقدم، ولأن ما سبق إيضاحه يفوق أعمال المحاربين الذين لهم أهداف خاصة يطلبون حصولهم عليها من مال أو عرض، وهؤلاء هدفهم زعزعة الأمن وتقويض بناء الأمة، واجتثاث عقيدتها، وتحويلها عن المنهج الرباني: فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي: أولا: من ثبت شرعا أنه قام بعمل من أعمال التخريب والإفساد في الأرض التي تزعزع الأمن، بالاعتداء على النفس والممتلكات الخاصة أو العامة؛ كنسف المساكن أو المساجد أو المدارس أو المستشفيات والمصانع والجسور ومخازن الأسلحة والمياه والموارد العامة لبيت المال؛ كأنابيب البترول، ونسف الطائرات أو خطفها ونحو ذلك: فإن عقوبته القتل، لدلالة الآيات المتقدمة على أن مثل هذا الإفساد في الأرض يقتضي

إهدار دم المفسد، ولأن خطر هؤلاء الذين يقومون بالأعمال التخريبية وضررهم أشد من خطر وضرر الذي يقطع الطريق فيعتدي على شخص فيقتله أو يأخذ ماله، وقد حكم الله عليه بما ذكر في آية الحرابة. ثانيا: أنه لا بد قبل إيقاع العقوبة المشار إليها في الفقرة السابقة من استكمال الإجراءات الثبوتية اللازمة من جهة المحاكم الشرعية وهيئات التمييز ومجلس القضاء الأعلى؛ براءة للذمة واحتياطا للأنفس، وإشعارا بما عليه هذه البلاد من التقيد بكافة الإجراءات اللازمة شرعا لثبوت الجرائم وتقرير عقابها. ثالثا: يرى المجلس إعلان هذه العقوبة عن طريق وسائل الإعلام. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. مجلس هيئة كبار العلماء عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد العزيز بن صالح عبد الرزاق عفيفي محمد بن إبراهيم جبير سليمان بن عبيد راشد بن صالح بن خنين عبد المجيد حسن صالح بن علي الغصون

عبد الله بن عبد الرحمن الغديان صالح بن محمد اللحيدان عبد الله بن سليمان المنيع محمد بن صالح العثيمين عبد الله بن عبد الرحمن البسام حسن بن جعفر العتمي د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

بيان هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في الرياض في حي العليا

بيان هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في الرياض في حي العليا الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه، وبعد: فإن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية علمت ما حدث من التفجير الذي وقع في حي العليا بمدينة الرياض قرب الشارع العام، ضحوة يوم الاثنين 20/ 6/1416 هـ وأنه قد ذهب ضحيته نفوس معصومة، وجرح بسببه آخرون، وروع آمنون، وأخيف عابرو السبيل. ولذا: فإن الهيئة تقرر أن هذا الاعتداء آثم، وإجرام شنيع، وهو خيانة وغدر، وهتك لحرمات الدين في الأنفس والأموال والأمن والاستقرار، ولا يفعله إلا نفس فاجرة، مشبعة بالحقد والخيانة والحسد والبغي والعدوان، وكراهية الحياة والخير، ولا يختلف المسلمون في تحريمه، ولا في بشاعة جرمه وعظيم إثمه، والآيات والأحاديث في تحريم هذا الإجرام وأمثاله كثيرة ومعلومة. وإن الهيئة إذ تقرر تحريم هذا الإجرام، وتحذر من نزعات السوء، ومسالك الجنوح الفكري، والفساد العقدي، والتوجه المردي. وإن النفس الأمارة بالسوء إذا أرخى لها المرء العنان ذهبت به مذاهب الردى، ووجد الحاقدون فيها مدخلا لأغراضهم وأهوائهم التي يبثونها في قوالب التحسين، والواجب على كل من علم شيئا عن هؤلاء المخربين أن يبلغ

عنهم الجهة المختصة. وقد حذر الله سبحانه في محكم التنزيل من دعاة السوء والمفسدين في الأرض فقال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: 33]. وقال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يجب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} [البقرة: آية 204 - 206]. نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يهتك ستر المعتدين على حرمات الآمنين، وأن يكف البأس عنا وعن جميع المسلمين، وأن يحمي هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد، إنه خير مسئول، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. مجلس هيئة كبار العلماء الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد بن إبراهيم بن جبير راشد بن صالح بن خنين

صالح بن محمد اللحيدان د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان عبد الله بن عبد الرحمن الغديان عبد الله بن سليمان بن المنيع حسن بن جعفر العتمي عبد الله بن عبد الرحمن البسام محمد بن صالح العثيمين محمد بن عبد الله السبيل ناصر بن حمد الراشد عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي محمد بن سليمان البدر د. عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ د. بكر بن عبد الله أبو زيد محمد بن زيد آل سليمان د. عبد الله بن عبد المحسن التركي د. صالح بن عبد الرحمن الأطرم د. عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان

بيان هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر

بيان هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه، وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في جلسته الاستثنائية العاشرة، المنعقدة في مدينة الطائف يوم السبت 13/ 2/1417 هـ استعرض حادث التفجير الواقع في مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية يوم الثلاثاء 9/ 2/1417 هـ، وما حصل بسبب ذلك من قتل وتدمير وترويع وإصابات لكثير من المسلمين وغيرهم. وإن المجلس بعد النظر والدراسة والتأمل: قرر بالإجماع ما يلي: أولا: أن هذا التفجير عمل إجرامي بإجماع المسلمين، وذلك للأسباب الآتية: 1 - في هذا التفجير هتك لحرمات الإسلام المعلومة بالضرورة؛ هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها. وما أبشع وأعظم جريمة من تجرأ على حرمات الله وظلم عباده وأخاف المسلمين والمقيمين بينهم، فويل له ثم ويل له من عذاب الله

ونقمته، ومن دعوة تحيط به، نسأل الله أن يكشف ستره، وأن يفضح أمره. 2 - أن النفس المعصومة في حكم شريعة الإسلام هي: كل مسلم، وكل من بينه وبين المسلمين أمان؛ كما قال تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء: آية 93]. وقال سبحانه في حق الذمي في حكم قتل الخطأ: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: آية 92]. فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ ففيه الدية والكفارة، فكيف إذا قتل عمدا؟ فإن الجريمة تكون أعظم والإثم يكون أكبر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة». [رواه البخاري] (¬1). فلا يجوز التعرض لمستأمن بأذى؛ فضلا عن قتله في مثل هذه الجريمة الكبيرة النكراء، وهذا وعيد شديد لمن قتل معاهدا، وأنه كبيرة من الكبائر المتوعد عليها بعدم دخول القاتل الجنة، نعوذ بالله من الخذلان. 3 - أن هذا العمل الإجرامي يتضمن أنواعا من المحرمات في الإسلام بالضرورة؛ من غدر، وخيانة، وبغي، وعدوان، وإجرام آثم، وترويع للمسلمين وغيرهم، وكل هذه قبائح منكرة يأباها ويبغضها الله ورسوله والمؤمنون. ¬

(¬1) في كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم، حديث رقم (3166).

ثانيا: إن المجلس إذ يبين تحريم هذا العمل الإجرامي في الشرع المطهر، فإنه يعلن للعالم: أن الإسلام بريء من هذا العمل، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة والمتمسكين بحبل الله المتين. وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه، محذرة من مصاحبة أهله، قال الله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جنهم ولبئس المهاد} [البقرة: آية 204 - 206]. وقول الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: 33]. ونسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكشف ستر هؤلاء الفعلة المعتدين، وأن يمكن منهم، لينفذ فيهم حكم شرعه المطهر، وأن يكف البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز وحكومته وجميع ولاة

أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء: الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد بن إبراهيم بن جبير راشد بن صالح بن خنين صالح بن محمد اللحيدان د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان عبد الله بن عبد الرحمن الغديان عبد الله بن سليمان المنيع حسن بن جعفر العتمي عبد الله بن عبد الرحمن البسام محمد بن صالح العثيمين محمد بن عبد الله السبيل ناصر بن حمد الراشد

عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي محمد بن سليمان البدر د. عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ د. بكر بن عبد الله أبو زيد محمد بن زيد آل سليمان د. عبد الله بن عبد المحسن التركي د. صالح بن عبد الرحمن الأطرم د. عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان

أجوبة سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-

أجوبة سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- في إجابة سماحته على سؤال لجريدة المدينة، حول جزاء من يستهدف ترويع أمن الناس الآمنين، كما حدث في حادث التفجير بالرياض الذي قام به مجرمون تسببوا في ترويع الآمنين، وقتل الأبرياء، وتخويف عباد الله جل وعلا، وهذا نصه: لا شك أن هذا الحادث أثيم، ومنكر عظيم، يترتب عليه فساد عظيم، وشرور كثيرة وظلم كبير، ولا شك أن هذا الحادث إنما يقوم به من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا يعمل هذا العمل الإجرامي الخبيث، الذي حصل به الضرر العظيم والفساد الكبير، إنما يفعل هذا الحادث وأشباهه نفوس خبيثة، مملوءة من الحقد والحسد والشر والفساد وعدم الإيمان بالله ورسوله، نسأل الله العافية والسلامة، ونسأل الله أن يعين ولاة الأمور على كل ما فيه العثور على هؤلاء والانتقام منهم، لأن جريمتهم عظيمة، وفسادهم كبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كيف يقدم مؤمن أو مسلم على جريمة عظيمة يترتب عليها ظلم كثير، وفساد عظيم، وإزهاق نفوس، وجراحة آخرين بغير حق، كل هذا من الفساد العظيم، وجريمة عظيمة، فنسأل الله أن يعثرهم، ويسلط عليهم، ويمكن منهم، ونسأل الله أن يخيبهم ويخيب أنصارهم، ونسأل الله أن يوفق ولاة الأمر للعثور عليهم، والانتقام منهم، ومجازاتهم على هذا الحدث الخبيث، وهذا الإجرام العظيم.

وإني أوصي وأحرض كل من يعلم خبرا عن هؤلاء؛ أن يبلغ الجهات المختصة، على كل من علم عن أحوالهم وعلم عنهم أن يبلغ عنهم؛ لأن هذا من باب التعاون على دفع الإثم والعدوان وعلى سلامة الناس من الشر والإثم والعدوان، وعلى تمكين العدالة من مجازاة هؤلاء الظالمين، الذين قال الله فيهم وأشباههم سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. إذا كان من تعرض للناس بأخذ خمسة ريالات أو عشرة ريالات أو مائة ريال مفسدا في الأرض، فكيف من يتعرض بسفك الدماء، وإهلاك الحرث والنسل، وظلم الناس، فهذه جريمة عظيمة، وفساد كبير. التعرض للناس بأخذ أموالهم، أو في الطرقات، أو في الأسواق جريمة ومنكر عظيم، لكن مثل هذا التفجير ترتب عليه إزهاق نفوس، وقتل نفوس، وفساد في الأرض، وجراحة للآمنين، وتخريب بيوت ودور وسيارات، وغير ذلك، فلا شك أن هذا من أعظم الجرائم، ومن أعظم الفساد في الأرض، وأصحابه أحق بالجزاء بالقتل والتقطيع؛ بما فعلوا من جريمة عظيمة. نسأل الله أن يخيب مسعاهم، وأن يعثرهم، وأن يسلط عليهم وعلى أمثالهم، وأن يكفينا شرهم وشر أمثالهم، وأن يسلط عليهم، وأن يجعل تدبيرهم تدميرا لهم وتدميرا لأمثالهم، إنه جل وعلا جواد كريم.

ونسأل الله أن يوفق الدولة للعثور عليهم ومجازاتهم بما يستحقون. ولا حول ولا قوة إلا بالله (¬1). وقال -رحمه الله-: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد استنكر العالم الإسلامي ما حدث في مكة المكرمة من تفجير مساء الاثنين 7/ 12/1409هـ واعتبروه جريمة عظيمة ومنكرا شنيعا؛ لما فيه من ترويع لحجاج بيت الله الحرام، وزعزعة للأمن، وانتهاك لحرمة البلد الحرام، وظلم لعباد الله، وقد حرم الله سبحانه البلد الحرام إلى يوم القيامة، كما حرم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم إلى يوم القيامة، وجعل انتهاك هذه الحرمات من أعظم الجرائم وأكبر الذنوب، وتوعد من هم بشيء من ذلك في الحرام بأن يذيقه العذاب الأليم، كما قال سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: آية 25]. فإذا كان من أراد الإلحاد في الحرم متوعدا بالعذاب الأليم وإن لم يفعل؛ فكيف بحال من فعل، فإن جريمته تكون أعظم، ويكون أحق بالعذاب الأليم. وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من الظلم في أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما بينه للأمة في حجة الوداع حين قال عليه الصلاة والسلام: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في ¬

(¬1) "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (9/ 253).

بلدكم هذا، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد" (¬1). وهذا الإجرام الشنيع بإيجاد متفجرات قرب بيت الله الحرام من أعظم الجرائم والكبائر، ولا يقدم عليه من يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنما يفعله حاقد على الإسلام وأهله وعلى حجاج بيت الله الحرام، فما أعظم خسارته، وما أكبر جريمته، فنسأل الله أن يرد كيده في نحره، وأن يفضحه بين خلقه، وأن يوفق حكومة خادم الحرمين لمعرفته وإقامة حد الله عليه، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية (¬2) ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، حديث رقم (1741)، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (1679). (¬2) "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (5/ 248).

فتوى سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ -حفظه الله

فتوى سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ -حفظه الله- عند اصطدام الطائرتين بمبنى التجارة العالمي بأمريكا الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فنظرا لكثرة الأسئلة والاستفسارات الواردة إلينا حول ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أيام، وما موقف الشريعة منها؟ وهل دين الإسلام يقر مثل التصرفات أم لا؟. فأقول مستعينا بالله الواحد القهار: إن الله سبحانه قد من علينا بهذا الدين الإسلامي، وجعله شريعة كاملة؛ صالحة لكل زمان ومكان، مصلحة لأحوال الأفراد والجماعات، تدعو إلى الصلاح والاستقامة والعدل والخيرية، ونبذ الشرك والشر والظلم والجور والغدر، وإن من عظيم نعم الله علينا نحن المسلمين: أن هدانا لهذا الدين، وجعلنا من أتباعه وأنصاره، فكان المسلم المترسم لشريعة الله، المتبع لسنة رسول الله، المستقيم حق الاستقامة على هذا الدين؛ هو الناجي السالم في الدنيا والآخرة، هذا وإن ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث خطيرة راح بسببها آلاف الأنفس، لَمِنَ الأعمال التي لا تقرها شريعة الإسلام، وليست من هذا الدين، ولا تتوافق مع أصوله الشرعية، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن الله سبحانه أمر بالعدل، وعلى العدل قامت السماوات والأرض، وبه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، يقول الله سبحانه: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: آية 90]، ويقول سبحانه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} [الحديد: آية 25]. وحكم الله ألا تحمل نفس إثم نفس أخرى، لكمال عدله سبحانه: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} [النجم: آية 38]. الوجه الثاني: أن الله سبحانه حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" (¬1). وهذا عام لجميع عباد الله، مسلمهم وغير مسلمهم؛ لا يجوز لأحد منهم أن يظلم غيره، ولا ينبغي عليه ولو مع العداوة والبغضاء، يقول الله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [المائدة: آية 8] فالعداوة والبغضاء ليست مسوغا شرعيا للتعدي والظلم. ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، حديث رقم (6572).

وبناء على ما سبق؛ يجب أن يعلم الجميع دولا وشعوبا مسلمين وغير مسلمين أمورا: أولها: أن هذه الأحداث التي وقعت في الولايات المتحدة وما كان من جنسها من خطف لطائرات، أو ترويع لآمنين، أو قتل أنفس بغير حق. ما هي إلا ضرب من الظلم والجور والبغي الذي لا تقره شريعة الإسلام، بل هو محرم فيها ومن كبائر الذنوب. ثانيها: أن المسلم المدرك لتعاليم دينه، العامل بكتاب الله وسنة نبيه، ينأى بنفسه أن يدخل في مثل هذه الأعمال، لما فيها من التعرض لسخط الله، وما يترتب عليها من الضرر والفساد. ثالثها: أن الواجب على علماء الأمة الإسلامية أن يبينوا الحق في مثل هذه الأحداث، ويوضحوا للعالم أجمع شريعة الله، وأن دين الإسلام لا يقر أبدا مثل هذه الأعمال. رابعها: على وسائل الإعلام ومن يقف وراءها ممن يلصق التهم بالمسلمين ويسعى في الطعن في هذا الدين القويم، ويصمه بما هو منه براء؛ سعيا لإشاعة الفتنة وتشويه سمعة الإسلام والمسلمين وتأليب القلوب وإيغار الصدور. يجب عليه أن يكف عن غيه، وأن يعلم أن كل منصف عاقل يعرف تعاليم الإسلام لا يمكن أن يصفه بهذه الصفات، ولا أن يلصق به مثل هذه التهم؛ لأنه على مر التاريخ لم تعرف الأمم من المتبعين لهذا الدين

الملتزمين به إلا رعاية الحقوق وعدم التعدي والظلم. هذا ما جرى بيانه إيضاحا للحق وإزالة للبس، والله أسأل أن يلهمنا رشدنا ويهدينا سبل السلام، وأن يعز دينه ويعلي كلمته إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

كلام سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-

كلام سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- قال -رحمه الله- عند قوله تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} لأنذركم به: أحذركم به من المخالفة .. وفي قوله: {ومن بلغ}: إشارة إلى أن من لم يبلغه القرآن لم تقم عليه الحجة، وكذلك من بلغه القرآن على وجه مشوش فالحجة لا تقوم عليه؛ لكنه ليس كعذر الأول الذي لم تبلغه نهائيا؛ لأن من بلغته على وجه مشوش يجب عليه أن يبحث، لكن قد يكون في قلبه من الثقة بمن بلغه ما لا يحتاج معه في نظره إلى البحث. السؤال الآن: هل بلغ الدين الإسلامي لعامة الكفار على وجه غير مشوش؟. الجواب: (لا)، أبدا، ولما ظهرت قضية الذين يتصرفون بغير حكمة ازداد تشويه الإسلام في نظر الغربيين وغير الغربيين، وأعني بهم أولئك الذين يلقون المتفجرات في صفوف الناس؛ زعما منهم أن هذا من الجهاد في سبيل الله، والحقيقة أنهم أساءوا إلى الإسلام، أو ازدادوا نفرة منه؟. وأهل الإسلام يكاد الإنسان يغطي وجهه لئلا ينسب إلى هذه الطائفة المرجفة المروعة، والإسلام بريء منها، الإسلام بريء منها. حتى بعد أن فرض الجهاد ما كان الصحابة يذهبون إلى مجتمع الكفار يقتلونهم أبدا؛ إلا بجهاد، له راية من ولي قادر على الجهاد.

أما هذا الإرهاب فهو والله نقص على المسلمين، أقسم بالله؛ لأننا لا نجد نتائجه أبدا، بل هو العكس؛ فيه تشويه السمعة، ولو أننا سلكنا الحكمة فاتقينا الله في أنفسنا وأصلحنا أنفسنا أولا ثم حاولنا إصلاح غيرنا بالطرق الشرعية لكان نتيجة هذا نتيجة طيبة اهـ (¬1). ¬

(¬1) من الشريط الأول من شرح أصول التفسير "الوجه الأول" تم الشرح في الثاني من شهر ربيع الأول 1419هـ.

بيان فضيلة الشيخ / صالح بن محمد اللحيدان -حفظه الله-

بيان فضيلة الشيخ / صالح بن محمد اللحيدان -حفظه الله- (¬1) أيها المشاهدون الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: الحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله الذي كل شيء بقضائه وقدره، في خضم هذه الأحداث التي طرأت، وفي مجالات اضطرابات الرأي والفكر، وفي أمر ما حدث من كارثة على الولايات المتحدة الأمريكية، كثر السؤال والتساؤل عن حكم مثل هذه الأحداث في شريعة الإسلام؟. لا شك أن شريعة الإسلام الشريعة الكاملة التي تستوعب كل حدث، وفيها حل كل مشكلة، وفيها بيان حكم كل نازلة، فما من نازلة تنزل على البشر إلا وفي شريعة الإسلام حكمها، وبيان أبعادها، ومن ذلك هذه الأحداث التي طرأت، ومما كثر السؤال عنه من خاصة وعامة: ما هو حكم الشريعة في مثل هذه الأحداث؟ هل في ذلك جواز في شريعة الإسلام؟ وهل مثل هذا العمل يقره علماء الإسلام؟. فيقال عن بيان حكم الإسلام في ذلك ما ينبغي أن يقال؟ ولأن علماء الإسلام لا بد أن يتحدثوا عن الأحداث، ويبينوا أحكام الشريعة الإسلامية فيما يطرأ من نوازل، وما يلم في المسلمين أو في غيرهم من ملمات: ¬

(¬1) نص كلمة ارتجلها في التلفزيون السعودي عند اصطدام الطائرتين بمبنى التجارة العالمي بأمريكا.

لا شك أن كل أمر فبقضاء الله جل وعلا قدره، ومع ذلك فأحكام الشريعة تستوعب كل حدث، والله جل وعلا أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وهو الحكم العدل، حرم الظلم على نفسه وجعله بينه وبين العباد محرما، وقد ثبت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جل وعلا أنه قال سبحانه: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (¬1). إن من الظلم أن يُعتدى على غير جان، وأن يقتل غير مجرم، والنبي عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة نبي الشفقة نبي الإحسان المبعوث إلى البشرية بل إلى الثقلين الجن والإنس أوضح المعالم، وكان في الغزو والجهاد والقتال إذا جهز السرية أوصاهم: "ألا يقتلوا وليدا ولا امرأة ولا هرما ولا متعبدا في صومعته" (¬2). أي أن الإسلام لا يبيح قتل إلا من يقتل ويقاتل ويعتدي على المسلمين. ولهذا فإن مثل هذه الجرائم التي تقع ولا تفرق بين رضيع وامرأة ومسن ومسنة ومريض وصحيح وتأتي على المال وأهل المال؛ أن هذا العمل يعد من الجرائم العظام، والفواحش الخطيرة، لأن هذا ينظر إليه في شريعة الإسلام بأنه من الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل، وهذا ¬

(¬1) رواه مسلم في "صحيحه" (6572). (¬2) الشطر الأول من الوصية أخرجها مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث .. حديث رقم (4522).

أمر حرمه الإسلام، حرمه الله، وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، والنبي لما رأى امرأة مقتولة في الغزو فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» (¬1) أي أن قتلها أمر ممنوع منعا باتا. ولهذا فإن ما حدث مما شاهدته في العرض الذي عرضته وكالات البث العام مما حدث على تلك العمارات من الضرب التي تداعت له العمارة فصار الناس إثر ذلك كأنما القيامة قامت، وكأن الفزع فزع قيام الساعة، وظهر على وجوه الذين يركضون هنا وهناك الذهول -إن من يحدث مثل هذه الجرائم يعد في النظر الإسلامي من أخطر الناس جرما، وأسوأهم عملا، ومن يظن أن أحدا من علماء الإسلام العارفين بمقاصد شريعة الإسلام، المطلعين على مقاصد القرآن وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يظن أنه يجيز مثل هذه الأعمال فإنما يظن سوءا. إن المسلم لا يليق به أن يشمت حتى بالعدو إذا ظلم، فالظلم غير مقبول، والعدوان الانفرادي أمر محرم فظيع على من ليس مستحقا للعقاب، فكيف إذا وقع الجرم بالذي شوهد، وتردد صداه وأفزع النظر إليه من نظر، كيف يقال عن ذلك أن أهل الإسلام يقرون مثل هذا العمل. إنهم ومهما ادعوا من مسوغ مثل هذه الحوادث لا يصح أن تقبل، وأن تسوغ في ميزان الإسلام، إن الله جل وعلا يقول في القرآن الكريم في خطابه للمسلمين: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: آية 8]. ولذلك: العدل قامت به السماوات ¬

(¬1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في قتل النساء، حديث رقم (2669).

والأرض، وإيقاع عقوبة جماعية لا تتفق بأي وجه من الوجوه مع ميزان العدل، ولا توضع إلا في كفة الظلم والعدوان الفاحش، لأن قتل فرد بريء لا ذنب له جرم عظيم، فكيف إذا كان الجرم واقعا على فئات عظيمة، وأعداد كبيرة، ورضع وأطفال ونساء حبالى، حتى ربما وضعت المرأة حملها من هول الفزع، كأنما قامت قيامة الساعة. إن هذه المناظر المرعبة التي شوهدت من آثار ذلك الإجرام مناظر لا يقرها عقل مسلم، ولا يعتد بفعل من فعلها ولو كان نابتا منبتا إسلاميا في بلد إسلامي، العبرة بما يقوله أهل العلم، والعبرة بما تقرر في أحكام الشريعة الإسلامية في أمثال هذه الجرائم من الجرائم الخطيرة. والمملكة العربية السعودية عندما نظرت في يوم من الأيام أمر اختطاف الطائرات قبل أن يختطف للسعودية أي طائرة، قرر علماؤها تحريم هذا العمل، ولم يفرقوا بين اختطاف طائرة ركابها مسلمون وبين طائرة ركابها غير مسلمين (¬1)، بل رأوا أن الظلم أمر محرم، وأن العدوان على الناس وإرهابهم بغير حق من أعظم الفواحش في الأرض والفساد فيها. في مثل هذه الأمور لا غرابة أن تعلن المملكة العربية السعودية استنكارها وعدم رضاها عن ما حدث، وعن من أحدث، لأن المملكة العربية السعودية مملكة إسلامية ولله الحمد، وبحق يحكمها نظام الإسلام، وتحكم شريعة الإسلام، وأصول عملها وأنظمتها مقيدة بأن لا تخالف ¬

(¬1) إشارة إلى قرار هيئة كبار العلماء السابق، ص8.

الإسلام، فإذا استنكرت مثل هذا العمل فإنما تفعل ما تفعله من واقع دينها، ومن موقفها الإسلامي الذي تقف فيه، لأنها دولة الحرمين، وبلاد منبع الرسالة، فلا غرو أن تستنكر الفواحش، وأن تستهجن إجرام المجرمين، وأن تندد بإيواء كل مرتكب للإجرام، أو يرضى بجرمه. إن الإنسان المسلم العارف مقاصد الشرع، العالم بما تنطوي عليه الشريعة الإسلامية من الشفقة والرحمة لعباد الله، يرى أن هذه الأعمال من أخبث الأعمال وأشدها ضررا على بني الإنسان. ومما طرح علي من الأسئلة وهي كثيرة، قبل أن أقبل بأن أتكلم، ولكن تحت ضغط كثرة الأسئلة والرغبات في أن أتحدث، ويعرف موقف القضاء في المملكة العربية السعودية، ولأن يتكلم من هو في قمة مسئولية القضاء؛ رأيت أن أبدأ وأبين: أن هذا العمل هو عمل منكر، ولكن الحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «لا يجني جان إلا على نفسه» (¬1) أي أن إجرام المجرم أو عبث عابث لا يصح أن يشغل غيره، ومما قيل لي وقد سألتني إحدى الصحف قبل هذا الموقف أمام هذه الكاميرا وبينت أن هذا العمل الفظيع عمل لا يقر، كما أن هذا العمل الفظيع لا يمكن أن يولد إلا بغضا أو حقدا وانتقاما على المسلمين؛ الذين لم يرضوا ولم يقروا هذا العمل أو يحمدوه، لأن مقتضى العدل ونواميس العقل تستلزم أن لا يؤخذ أحد إلا بذنبه، وأن لا يحاسب إنسان أو جماعة على ذنوب غيرها، لأنه كما ¬

(¬1) رواه الترمذي في كتاب الفتن، باب تحريم الدماء والأموال، حديث رقم (2159)، وابن ماجه في كتاب الديات، باب لا يجني أحد على أحد، حديث رقم (3659).

هو مقرر في شريعة الإسلام وكما هو قول نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: «لا يجني جان إلا على نفسه» (¬1). ولأن القرآن يقول: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} [النجم: آية 38] أي لا تتحمل وازرة وزر أخرى، ولا يحمل بريء ذنب مسيء، ولا يعاقب مسالم كافا الأذى بسبب إجرام مرتكب جريمة. ومما أثير عما قد يقال أو تردد في بعض وسائل الإعلام عن الشعب الأمريكي، وما قد يكون ينظر للمسلمين المتواجدين في أمريكا من أصل أمريكي أو من وافدين إليها من العرب أو غيرهم، وهل هذا مما يقبل عقلا؟. ذكرت وأذكر هنا أنه لا يتوقع أن الشعب الأمريكي الذي يقول عن نفسه أنه من أبرز حماة الديمقراطية، وحامل لواء العدل، لا يعقل أن ينظروا إلى مواطنيهم أو ضيوفهم من العرب والمسلمين، ومن غير المسلمين من العرب أيضا، لا يمكن أن ينظر إليهم الشعب الأمريكي مع ما هو فيه من مناعة، وما يفترض فيهم العقل ومعرفة التجانس، وتذكر ما قد حدث في أيام المحن، لا يمكن أن ينظر إلى غير المسيء بنظرته للمسيء، فإنه لا يستوي المجرم مع غير المجرم، ولا يحمل مسالم ذنب وجريرة معتد ظالم. إنني أؤكد أن مثل العمل غير مقبول في الإسلام، وألمحت إلى أن الناس في القتال -في الغالب- لا يفكرون في أيام الحروب فيما يصيب من لم يشارك آثار في الحرب من أضرار وسفك للدماء، ما عدا أن الإسلام ¬

(¬1) رواه الترمذي في "السنن" (2159) وابن ماجه (3659).

يمنع من قتل من لم يشارك في الحرب، ويمنع قتل الوليد، أي الأطفال الذين لم يكونوا مقاتلين، ويمنع قتل النساء، ويمنع قتل الشيوخ، ويمنع قتل من تفرغوا للعبادة من الرهبان في صوامعهم، فدين ينظر الرسول المبعوث به لهذه الشعوب والأفراد والجماعات هذه النظرة لا يمكن أن يقر أتباع هذا الدين مثل هذا العمل الفاحش، إنه عمل خطير، وإنه عمل من النوازل النادرة التي لم تكن معروفة في الزمن القديم، وطرقها يحتاج إلى أن يعالج من جميع النواحي؛ معالجة المجرم ومن رضي بإجرامه وأقره عليه وأيده وأمده، والنظر في الأخذ بالأسباب الواقية من تكرر مثل هذا الإجرام، والأسباب يعرفها العقلاء، والباحثون عن الحلول، وتوقي الأخطار، والأخذ بأسباب منع الحوادث، ولا يعوزهم الوصول إلى الحل السليم والوقاية التامة. ولا شك أن الشريعة الإسلامية جاءت بالوقاية وأنها خير من العلاج، ولا يختص هذا بمرض الأبدان؛ بل يعم مرض الأبدان والمجتمعات والشعوب، فالوقاية من الأخطار، والأخذ بالأسباب التي لا تعرض للأخطار أيضا من مقاصد الشريعة الكاملة، ومن متطلبات أهل سداد الرأي والفكر السليم والعقول الراجحة. لا أحب أن أطيل في حديثي ولكني أؤكد أن الأمة الإسلامية بقياداتها العلمية، وقياداتها السياسية، وأذكر القيادة العلمية قبل السياسية، لأن الأمر أمر بيان حكم الشريعة: لا يمكن أن تقر مثل هذه الأعمال. كما أنني أعتقد أن المجتمع الأمريكي والغربي أجمع لا يمكن أن ينظر إلى مثل هذه

الأحداث بأن من ينتسبوا إلى أي دولة وهو خارج عن إرادة دولته في تصرفه أن تؤاخذ دولته، وتعادى لأجل عمل قام به من لم يستشرها، ولم يعلمها ولم يخبرها، لأنني لا أتوقع أن أحدا من مرتكبي هذه الجريمة الفاحشة الشنعاء أنه يمكن أن يكون أطلع أحدا من رجال دولته على أي قصد من هذه المقاصد .. وإنني أقول: إن على المسئولين في كل مكان أن يحسنوا الظن بمن يواطنوهم الآن، لا سيما وأن المواطنة في الولايات المتحدة وفي غيرها صارت لكثير من المسلمين ممن أصولهم من تلك البلاد وممن وفدوا إليها، والإسلام لا يفرق في أخوته بين جنس وجنس، ولا لسان ولسان، ولا لون ولون في هذه العقيدة. أكرر مرة أخرى أن هذا العمل الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الفظاعة والوحشية المتناهية التي هي أبعد من عمل الوحوش، وأبعد من عمل ما قد يسمى جماعات إرهاب أو فصائل إجرام، بل هو عمل بالغ الخطورة، أقول: إنه في غاية الفحش والسوء. وأسال الله جل وعلا بأسمائه وصفاته أن يقينا في دنيانا كل سوء، وأن يهدي كل ضال إلى الصواب، وأن ينصر الحق وأهله، وأن يخذل الباطل وأهله، وأن يجعل أعمالنا كلها في مرضاته سبحانه وتعالى، وأن يلطف بنا، لأن من لم يلطف به الله فلا معين له. وصلى الله وسلم على رسول الله وجميع إخوانه من الأنبياء ورسله وجميع المتبعين للحق الصادقين في اتباعه، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أجوبة فضيلة الشيخ / د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان -حفظه الله-

أجوبة فضيلة الشيخ / د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان -حفظه الله- السؤال: أحسن الله إليكم: هل القيام بالاغتيالات وعمل التفجيرات في المنشآت الحكومية في بلاد الكفار ضرورة وعمل جهادي؟. الجواب: الاغتيالات والتخريب هذا أمر لا يجوز؛ لأنه يجر على المسلمين شرا وتقتيلا وتشريدا، إنما المشروع مع الكفار الجهاد في سبيل الله، ومقابلتهم في المعارك، فإذا كان عند المسلمين استطاعة بأن يجهزوا الجيوش، ويغزوا الكفار، ويقاتلوهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وصار له أنصار وأعوان، أما التخريب والاغتيالات فهذا يجر على المسلمين شرا. الرسول صلى الله عليه وسلم يوم كان في مكة قبل الهجرة كان مأمورا بكف اليد: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة} [النساء: آية 77] كان مأمورا بكف اليد عن قتال الكفار؛ لأنه لم يكن عنده استطاعة لقتال الكفار، ولو قتلوا أحدا من الكفار، لقتلهم الكفار عن آخرهم، واستأصلوهم عن آخرهم، لأنهم أقوى منهم، وهم تحت وطأتهم وشوكتهم. فالاغتيال يسبب قتل المسلمين الموجودين في البلد الذي يعيشون فيه كالذي تشاهدون الآن وتسمعون، فهو ليس من أمور الدعوة، ولا هو من الجهاد في سبيل الله، كذلك التخريب والتفجيرات، هذه تجر على المسلمين شرا كما هو حاصل، فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عنده جيش

وأنصار؛ حينئذ أمر بجهاد الكفار. هل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يوم كانوا في مكة، هل كانوا يعملون هذه الأعمال؟. أبدا، بل كانوا منهيين عن ذلك. هل كانوا يخربون أموال الكفار حين كانوا في مكة؟. أبدا، كانوا منهيين عن ذلك، مأمورين بالدعوة والبلاغ فقط، أما الإلزام والقتال فهذا إنما كان في المدينة لما صار للإسلام دولة.

فتاوى الأئمة في حقوق الولاة وحكم الخروج عليهم

فتاوى الأئمة في حقوق الولاة وحكم الخروج عليهم

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

فتاوى الأئمة في حقوق الولاة وحكم الخروج عليهم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف؛ وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته" (¬1). قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: (قوله: "ومناصحة أئمة المسلمين" هذا أيضا مناف للغل والغش؛ فإن النصيحة لا تجامع الغل، فهي ضده، فمن نصح الأئمة؛ فقد برئ من الغل. وقوله: "ولزوم جماعتهم": هذا أيضا مما يطهر القلب من الغل والغش، فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوءه ما يسوءهم، ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم، والعيب والذم لهم، كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم، فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا، ولهذا تجد الرافضة أبعد الناس من الإخلاص، وأغشهم للأئمة والأمة، وأشدهم بعدا عن جماعة ¬

(¬1) "منهاج السنة النبوية" (3/ 390).

المسلمين) (¬1). وقال رحمه الله: والمثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجابا: إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار منكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله. وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة» (¬2) وقال: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر) و (ولا ينزعن يدا من طاعة) (¬3). ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر طلب إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه (¬4). ¬

(¬1) "مفتاح دار السعادة" (1/ 62). (¬2) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا، حديث رقم (4800). (¬3) رواه البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي: سترون بعدي أمورا تنكرونها، حديث رقم (7054)، ومسلم في كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، حديث رقم (1849). (¬4) "إعلام الموقعين" (3/ 4).

رسالة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-

رسالة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: يجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق، وننصح إخواننا إذا جرى منها شيء حتى فهموها، وسببها أن بعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران: آية 102 - 103]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» (¬1). وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث: ¬

(¬1) رواه مالك في "الموطأ" في كتاب الجامع، باب ما جاء في إضاعة المال، حديث رقم (1863)، والإمام أحمد في "المسند"، حديث رقم (8134).

أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه. ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه. صابرا على ما جاءه من الأذى. وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا، والعمل به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا، أو قلة فهمه. وأيضا يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره. فالله الله في العمل بما ذكرت لكم، والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم لا يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه. إلى أن قال: وهذا الكلام وإن كان قصيرا فمعناه طويل، فلازم لازم تأملوه، وتفقهوا فيه، واعملوا به، فإن فعلتم صار نصرا للدين، واستقام الأمر إن شاء الله. والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن ينصح برفق خفية، ما يشرف عليه أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلا يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهرا (¬1)، إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية. هذا الكتاب كل أهل بلد ينسخون منه نسخة، ويجعلونها عندهم، ¬

(¬1) يعني إذا كان على غير أمير، بدليل ما بعده. (من تعليق الشيخ صالح الفوزان) حفظه الله.

والله أعلم (¬1). ... ¬

(¬1) "تاريخ ابن غنام" (1/ 221).

بيان العلماء سعد بن عتيق، محمد بن إبراهيم، عمر بن سليم، محمد بن عبد اللطيف، عبد الله العنقري -رحمهم الله-

بيان العلماء سعد بن عتيق، محمد بن إبراهيم، عمر بن سليم، محمد بن عبد اللطيف، عبد الله العنقري -رحمهم الله- قد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن الخروج عن طاعة ولي الأمر والافتيات عليه من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد، قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 58 - 59]. قال شيخ الإسلام رحمه الله في "السياسة الشرعية": قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الآية الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم

يفعل ولاة الأمور ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله. قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: آية 2]. وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة (¬1). وفي "الصحيحين" عن عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» (¬2). وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي ¬

(¬1) "مجموع الفتاوى" (28/ 246). (¬2) رواه البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سترون بعدي أمورا تنكرونها" حديث رقم (7056)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، حديث رقم (1709).

لذي عهد عهده فليس مني ولست منه» (¬1). وعن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد كان نومه ونبهه أجرا كله، وأما من غزا رياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لا يرجع بالكفاف» رواه أبو داود والنسائي (¬2). وعن ابن عمر مرفوعا: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" أخرجاه (¬3). ولمسلم عن حذيفة مرفوعا: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع" (¬4) ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، حديث رقم (1848). (¬2) رواه النسائي في كتاب الجهاد، باب فضل الصدقة في سبيل الله، حديث رقم (3188)، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب فيمن يغزو ويلتمس الدنيا، حديث رقم (2515). (¬3) رواه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام، حديث رقم (7144)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، حديث رقم (1839). (¬4) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، حديث رقم (1847).

وفي حديث الحارث الأشعري الذي رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (¬1). قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: "وهذه الخمس المذكورة في الحديث ألحقها بعضهم بالأركان الإسلامية، التي لا يستقيم بناؤه ولا يستقر إلا بها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية من ترك الجماعة والسمع والطاعة" انتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": "يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس". إلى أن قال: فإن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب الله تعالى من الجهاد والعمل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود؛ لا يتم إلا بالقوة والإمارة. ولهذا روي: "أن السلطان ظل الله في الأرض" (¬2). ويقال: "ستون ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" حديث رقم (17344)، والترمذي في كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة، حديث رقم (2863). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 162) والشهاب في "المسند" (303) والبيهقي في "شعب الإيمان" (7375) والحكيم الترمذي (2/ 125).

سنة من إمام جائر؛ أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان" (¬1) والتجربة تبين ذلك. ولهذا كان السلف؛ كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وغيرهم يقولون: "لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان" إلى أن قال: فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات. وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال" (¬2) انتهى. وقال ابن رجب رحمه الله في "شرح الأربعين": "وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم؛ كما قال علي أبي طالب رضي الله عنه: "إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيه ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله". وقال الحسن في الأمراء: "وهم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم؛ وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم ¬

(¬1) رواه الترمذي في "السنن" (1707) وابن أبي شيبة في "المصنف" (33717) وعبد الرزاق في "المصنف" (3788) وأحمد في "المسند" (1/ 131، 409) (5/ 66). (¬2) "مجموع الفتاوى" (28/ 390).

والله لغيظ، وإن فرقتهم لكفر" (¬1) وقال ابن مفلح في "الآداب": قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله -يعني الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك- ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه فناصرهم في ذلك، وقال: "عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، لا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر. وقال: ليس هذا -يعني نزع أيديهم من طاعته- صوابا، هذا خلاف الآثار" (¬2) إذا فهم ما تقدم من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وكلام العلماء المحققين في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وتحريم منازعته والخروج عليه، وأن المصالح الدينية والدنيوية لا انتظام لها إلا بالإمامة والجماعة؛ تبين أن الخروج عن طاعة ولي الأمر، والافتيات عليه بغزو أو غيره معصية، ومشاقة لله ورسوله، ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام؛ فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في ¬

(¬1) "جامع العلوم والحكم" (2/ 117) انتهى. (¬2) "الآداب الشرعية" (1/ 137).

المجالس ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح، وأئمة الدين" (¬1). ¬

(¬1) "نصيحة مهمة في ثلاث قضايا" (23 - 30).

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- وأما النصيحة لأئمة المسلمين وهم ولاتهم: من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة، فهؤلاء لما كانت مهماتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم؛ وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم، والاعتراف بولايتهم، ووجوب طاعتهم بالمعروف، وعدم الخروج عليهم، وحث الرعية على طاعتهم ولزوم أمرهم الذي لا يخالف أمر الله ورسوله، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم، وتوضيح ما خفي عليهم فيما يحتاجون إليه في رعايتهم، كل أحد بحسب حالته، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق؛ فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم، واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم؛ فإن في ذلك شرا وفسادا كبيرا. فمن نصيحتهم الحذر والتحذير لهم من ذلك، وعلى من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سرا لا علنا، بلطف وعبارة تليق بالمقام ويحصل بها المقصود، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد؛ وبالأخص ولاة الأمور، فإن تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصدق والإخلاص. واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم: إني نصحتهم وقلت وقلت، فإن هذا عنوان الرياء، وعلامة ضعف الإخلاص، وفيه أضرار أخر معروفة" (¬1). ¬

(¬1) "الرياض الناضرة" (49، 501).

أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-

أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- بيان حقوق ولاة الأمور على الأمة الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله وخليله وأمينه على وحيه؛ نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فلا ريب أن الله جل وعلا أمر بطاعة ولاة الأمر، والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، فقال جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} (¬1) هذا هو الطريق؛ طريق السعادة، وطريق الهداية، وهو طاعة الله ورسوله في كل شيء، وطاعة ولاة الأمور في المعروف من طاعة الله ورسوله، ولهذا قال جل وعلا: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (¬2). فطاعة ولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، فإن أولي الأمر هم الأمراء والعلماء والواجب طاعتهم في المعروف، أما إذا أمروا بمعصية الله، سواء كان أميرا أو ملكا أو عالما أو رئيس جمهورية، أو غير ذلك، فلا طاعة له في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف» (¬3) والله ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: (59). (¬2) سورة النساء، الآية: (59). (¬3) رواه البخاري في كتاب الأحكام برقم (6612)، ومسلم في الإمارة برقم (3424)، والنسائي في البيعة برقم (4134)، وأبو داود في الجهاد برقم (2256)، وأحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة برقم (686).

يقول: {ولا يعصينك في معروف} (¬1) يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول الله -عز وجل-: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم} (¬2) فالله أمر بالتقوى، والسمع، والطاعة، يعني في المعروف، لذا فإن النصوص يشرح بعضها بعضا، ويدل بعضها على بعض، فالواجب على جميع المكلفين التعاون مع ولاة الأمور في الخير، والطاعة في المعروف، وحفظ الألسنة عن أسباب الفساد والشر والفرقة والانحلال، ولهذا يقول الله جل وعلا: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (¬3) أي ردوا الحكم في ذلك إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في اتباع الحق والتلاقي على الخير والتحذير من الشر، هذا هو طريق أهل الهدى، وهذا هو طريق المؤمنين. أما من أراد دفن الفضائل، والدعوة إلى الفساد والشر، ونشر كل ما يقال مما فيه قدح بحق أو باطل؛ فهذا هو طريق الفساد، وطريق الشقاق، وطريق الفتن، أما أهل الخير والتقوى فينشرون الخير، ويدعون إليه، ويتناصحون بينهم فيما يخالف ذلك؛ حتى يحصل الخير، ويحصل الوفاق والاجتماع والتعاون على البر والتقوى؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (¬4) ويقول سبحانه: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (¬5). ¬

(¬1) سورة الممتحنة، من الآية: (12). (¬2) سورة التغابن، من الآية: (16). (¬3) سورة النساء، من الآية: (59). (¬4) سورة المائدة: من الآية: (2). (¬5) سورة العصر كاملة.

ومعلوم ما يحصل من ولاة الأمر المسلمين من الخير والهدى والمنفعة العظيمة؛ من إقامة الحدود، ونصر الحق، ونصر المظلوم، وحل المشاكل، وإقامة الحدود والقصاص، والعناية بأسباب الأمن، والأخذ على يد السفيه والظالم، إلى غير هذا من المصالح العظيمة، وليس الحاكم معصوما؛ إنما العصمة للرسل عليهم الصلاة والسلام فيما يبلغون عن الله عليهم الصلاة والسلام، لكن الواجب التعاون مع ولاة الأمور في الخير، والنصيحة فيما قد يقع من الشر والنقص، هكذا فهم المؤمنون، وهكذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أمر بالسمع والطاعة لولاة الأمور، والنصيحة لهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» (¬1) الحديث، ويقول عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة" قالوا: يا رسول لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬2) وقال عليه الصلاة والسلام: "من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين برقم (8444)، ومالك في "الموطأ" في كتاب الجامع برقم (1572). (¬2) رواه الترمذي في البر والصلة برقم (1448)، والنسائي في البيعة برقم (4128)، وأبو داود في الأدب برقم (4293).

ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة" (¬1) ولما سئل عن ولاة الأمر الذين لا يؤدون ما عليهم قال صلى الله عليه وسلم: «أدوا الحق الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم» (¬2) فكيف إذا كان ولاة الأمور حريصين على إقامة الحق، وإقامة العدل، ونصر المظلوم، وردع الظالم، والحرص على استتباب الأمن، وعلى حفظ نفوس المسلمين ودينهم وأموالهم وأعراضهم، فيجب التعاون معهم على الخير، ترك الشر، ويجب الحرص على التناصح والتواصي بالحق؛ حتى يقل الشر، ويكثر الخير. وقد من الله على هذه البلاد بدعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، ومناصرة جد هذه الأسرة الإمام محمد سعود -رحمه الله- لهذه الدعوة، وحصل بذلك من الخير العظيم، ونشر العلم والحق، ونشر الهدى والقضاء على الشرك، وعلى وسائل الشرك وعلى قمع أنواع الفساد من البدع والضلالات؛ ما يعلمه أهل العلم والإيمان، ممن سبر هذه الدعوة، وشارك فيها، وناصر أهلها. فصارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والإخلاص له، والبعد عن البدع والضلالات، ووسائل الشرك، حتى جرى ما جرى من الفتنة المعلومة؛ التي حصل بسببها العدوان على هذه الدعوة وأهلها، ثم جمع الله الشمل على يدي الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود والد ¬

(¬1) رواه مسلم في الإمارة برقم (3448)، وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم (22856). (¬2) رواه مسلم في الفتن برقم (2116)، بلفظ "أدوا إليهم حقهم وسلوا الله الذي لكم" ورواه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم (3458).

الإمام فيصل بن تركي -رحمهم الله-، ثم على يد ابنه فيصل بن تركي، ثم على يد ابنه عبد الله بن فيصل بن تركي، ثم حصلت فجوة بعد موت الإمام عبد الله بن فيصل رحمه الله. فجاء الله بالملك عبد العزير، ونفع الله به المسلمين، وجمع الله به الكلمة، ورفع به مقام الحق، ونصر به دينه، وأقام به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحصل به من العلم العظيم والنعم الكثيرة، وإقامة العدل، ونصر الحق، ونشر الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- ما لا يحصيه إلا الله -عز وجل-، ثم سار على ذلك أبناؤه من بعده في إقامة الحق، ونشر العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالواجب على جميع المسلمين في هذه المملكة التعاون مع هذه الدولة في كل خير، وهكذا كل من يقوم بالدعوة إلى الله ونشر الإسلام والدعوة إلى الحق؛ يجب التعاون معه في المشارق وفي المغارب، فكل دولة تدعو للحق، وتدعو إلى تحكيم شريعة الله، وتنصر دين الله يجب التعاون معها أينما كانت. وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق، ونصر بها الدين، وجمع بها الكلمة، وقضى بها على أسباب الفساد، وأمن الله بها البلاد، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله، وليست معصومة، وليست كاملة، كل فيه نقص، فالواجب التعاون معها على إكمال النقص، وعلى إزالة النقص، وعلى سد الخلل؛ بالتناصح والتواصي بالحق، والمكاتبة الصالحة، والزيارة الصالحة، لا بنشر الشر والكذب، ولا بنقل ما

يقال من الباطل؛ بل يجب على من أراد أن يبين الحق ويدعو إليه، وأن يسعى في إزالة النقص بالطرق السلمية، وبالطرق الطيبة، وبالتناصح، والتواصي بالحق، هكذا كان طريق المؤمنين، وهكذا حكم الإسلام، وهكذا طريق من يريد الخير لهذه الأمة، أن يبين الخير والحق وأن يدعو إليه، وأن يتعاون مع ولاة الأمور في إزالة النقص، وإزالة الخلل، هكذا أوصى الله -جل وعلا- بقوله سبحانه: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (¬1) ويقول -سبحانه-: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (¬2). فالدين النصيحة، الدين النصيحة، فمن أهم الواجبات التعاون مع ولاة الأمور في إظهار الحق، والدعوة إليه، وقمع الباطل والقضاء عليه وفي نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة بالطرق الشرعية. ويجب على الرعية التعاون مع ولاة الأمور، ومع الهيئات، ومع كل داع إلى الحق، يجب التعاون على الحق وعلى إظهاره، والدعوة إليه، وعلى ترك الفساد والقضاء عليه، هذا هو الواجب على جميع المسلمين، بالطرق التي شرعها الله في قوله -سبحانه-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (¬3). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: (2). (¬2) سورة العصر كاملة. (¬3) سورة النحل، الآية: (125).

وفي قوله سبحانه: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} (¬1)، وفي قوله سبحانه: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (¬2)، وفي قوله سبحانه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (¬3)، وفي قوله -عز وجل- لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (¬4). أما ما يقوم به الآن محمد المسعري وسعد الفقيه وأشباههما من ناشري الدعوات الفاسدة الضالة؛ فهذا بلا شك شر عظيم، وهم دعاة شر عظيم، وفساد كبير، والواجب الحذر من نشراتهم، والقضاء عليها، وإتلافها، وعدم التعاون معهم في أي شيء يدعو إلى الفساد والشر والباطل والفتن؛ لأن الله أمر بالتعاون على البر والتقوى لا بالتعاون على الفساد والشر، ونشر الكذب، ونشر الدعوات الباطلة التي تسبب الفرقة واختلال الأمن إلى غير ذلك. هذه النشرات التي تصدر من الفقيه أو من المسعري -أو من غيرهما من دعاة الباطل ودعاة الشر والفرقة- يجب القضاء عليها، وإتلافها، وعدم الالتفات إليها، ويجب نصيحتهم وإرشادهم للحق، وتحذيرهم من هذا الباطل، ولا يجوز لأحد أن يتعاون معهم في هذا الشر، ويجب أن ينصحوا، ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: (33). (¬2) سورة العنكبوت، الآية: (46). (¬3) سورة آل عمران، الآية: (159). (¬4) سورة طه، الآية: (44).

وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يدعوا هذا الباطل ويتركوه. ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم: أن يدعوا هذا الطريق الوخيم، وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم، والله سبحانه وعد عباده التائبين بقبول توبتهم، والإحسان إليهم، كما قال سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} (¬1) وقال سبحانه: {وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفحلون} (¬2) والآيات في هذا المعنى كثيرة. والمقصود أن الواجب على جميع المسلمين التعاون مع ولاة الأمور في الخير والهدى والصلاح حتى يحصل الخير ويستتب الأمن، وحتى يقضى على الظلم، وحتى ينصر المظلوم، وحتى تؤدى الحقوق، هذا هو الواجب على المسلمين؛ التعاون مع الولاة، ومع القضاة، ومع الدعاة إلى الله، ومع كل مصلح في إيجاد الحق، والدعوة إليه وفي نصر المظلوم، وردع الظالم وإقامة أمر الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، والتخلص من الباطل، ويجب التعاون والتناصح لمن حاد عن الخير؛ فينصح ويوجه إلى الخير وأسباب النجاة؛ حتى يحصل الخير العظيم والمصالح العامة، وحتى يقضى على الفساد والشر ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيتان: (53 - 54). (¬2) سورة النور، الآية: (31).

والاختلاف بالطرق الشرعية، والناس في خير ما تناصحوا وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا تعاونوا على الباطل وعلى الشر والفساد؛ ساد البلاء، ونزع الأمن، وانتصر الباطل، ودفن الحق، وهذا هو الذي يحبه الشيطان والذي يدعو إليه شياطين الإنس والجن، فالواجب الحذر مما يدعو إليه شياطين الإنس والجن، والتواصي بكل أسباب الأمن، وبكل أسباب الخير والهدى، والتواصي بالتعاون مع ولاة الأمور في كل خير، ومع كل من يدعو إلى الخير، وإقامة أمر الله، وفي نصر الحق وفي إقامة المعروف، والتعاون مع كل مصلح فيما يدحض الباطل وفي التحذير من الباطل، والتحذير من أسباب الفرقة والاختلاف. هذا هو الواجب كما قال -سبحانه وتعالى-: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (¬1)، وقال -جل وعلا-: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (¬2)، وقال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (¬3)، هذا هو الذي فيه النجاة والإيمان الصادق والعمل الصالح والعاقبة الحميدة، وبهذا يكثر الخير، ويحصل التعاون على البر والتقوى، ويدحض الشر، وتأمن البلاد، ويستتب الأمن، ويحصل التعاون على الخير، ويرتدع السفيه المفسد، وينتصر صاحب الحق وصاحب الهدى. ¬

(¬1) سورة المائدة، من الآية: (2). (¬2) سورة العصر كاملة. (¬3) سورة آل عمران، الآية: (103).

ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفق الجميع للخير، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يعيذنا وإياهم من شرور النفس، وسيئات الأعمال واتباع الهوى، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن ينصر بهم الحق، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق أعوانهم للخير، وأن يعيذهم من كل ما يخالف شرع الله، وأن يجعلنا وإياهم من الهداة المهتدين. كما نسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى؛ إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (¬1). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (9/ 93).

سؤال: سماحة الشيخ، هناك من يرى أن اقتراف بعض الحكام للمعاصي والكبائر موجب للخروج عليهم ومحاولة التغيير؛ وإن ترتب عليه ضرر للمسلمين في البلد؛ والأحداث التي يعاني منها عالمنا الإسلامي كثيرة، فما رأي سماحتكم؟. الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء، الآية: 59]. فهذه الآية نص في وجوب طاعة أولي الأمر؛ وهو الأمراء والعلماء، وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن هذه الطاعة لازمة وهي فريضة في المعروف. والنصوص من السنة تبين المعنى، وتفيد بأن المراد: طاعتهم بالمعروف، فيجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصية فلا يطاعون في المعصية، لكن لا يأتي الخروج عليهم بأسبابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة» (¬1). "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات؛ مات ميتة ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 24/28) ومسلم (1855) وغيرهما من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، وأوله: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ..

جاهلية" (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (¬2). وسأله الصحابة لما ذكر أنه سيكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم" (¬3). قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه؛ فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة؛ في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» (¬4). فهذا يدل على أنهم لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور ولا الخروج عليهم؛ إلا أن يروا كفرا بواحا؛ عندهم من الله فيه برهان، وما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب فسادا كبيرا وشرا عظيما، فيختل به الأمن، وتضيع الحقوق، ولا يتيسر ردع الظالم ولا نصر المظلوم، وتختل السبل ولا تأمن، فيترتب على الخروج على ولاة الأمر فساد عظيم وشر كبير، إلا إذا رأى المسلمون كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة. أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا، أو كان الخروج يسبب شرا أكثر؛ فليس لهم الخروج، رعاية للمصالح العامة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها "أنه لا ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 296) ومسلم (1847) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (1839)، والنسائي (7/ 160) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (7052)، ومسلم (1843) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (7056) ومسلم (1709).

يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله ويخففه". وأما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفرا بواحا؛ عندها قدرة على أن تزيله، وتضع إماما صالحا طيبا، من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين وشر أعظم من شر هذا السلطان؛ فلا بأس. أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال من لا يستحق الاغتيال، إلى غير هذا من الفساد العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة الأمور والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير، هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك؛ لأن في ذلك مصالح المسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية. سؤال: سماحة الوالد: نعلم أن هذا الكلام أصل من أصول أهل السنة والجماعة، ولكن هناك للأسف من أبناء أهل السنة والجماعة من يرى هذا فكرا انهزاميا، وفيه شيء من التخاذل، وقد قيل هذا الكلام، لذلك يدعون الشباب إلى تبني العنف في التغيير؟. الجواب: هذا غلط من قائله وقلة فهم؛ لأنهم ما فهموا السنة ولا عرفوها كما ينبغي، وإنما تحملهم الحماسة والغيرة لإزالة المنكر على أن

يقعوا فيما يخالف الشرع، كما وقعت الخوارج والمعتزلة، حملهم حب نصر الحق أو الغيرة للحق، حملهم ذلك على أن يقعوا في الباطل حتى كفروا المسلمين بالمعاصي، أو خلدوهم في النار بالمعاصي كما تفعل المعتزلة. فالخوارج كفروا بالمعاصي وخلدوا العصاة في النار، والمعتزلة وافقوهم في العاقبة وأنهم في النار مخلدون فيها، ولكن قالوا: إنهم في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وكله ضلال. والذي عليه أهل السنة هو الحق؛ أن العاصي لا يكفر بمعصيته ما لم يستحلها، فإذا زنا لا يكفر، وإذا سرق لا يكفر، وإذا شرب الخمر لا يكفر، ولكن يكون عاصيا ضعيف الإيمان فاسقا، تقام عليه الحدود، ولا يكفر بذلك؛ إلا إذا استحل المعصية وقال: إنها حلال، وما قاله الخوارج في هذا باطل، وتكفيرهم للناس باطل، ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهم يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون فيه» (¬1). "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" (¬2). هذه حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم. فلا يليق بالشباب ولا غير الشباب أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنة والجماعة على مقتضى الأدلة الشرعية، فيقفون مع النصوص كما جاءت، وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص وقعت منه، بل عليهم المناصحة بالمكاتبة ¬

(¬1) بعض حديث أخرجه مسلم (1067) وابن ماجه (1/ 170). (¬2) رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064)، وأبو داود (4764)، والنسائي (5/ 87).

والمشافهة بالطرق الطيبة الحكيمة، بالجدال بالتي هي أحسن حتى ينجحوا وحتى يقل الشر أو يزول ويكثر الخير. هكذا جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: آية 159]. فالواجب على الغيورين لله وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا بحدود الشرع، وأن يناصحوا من ولاهم الله الأمور؛ بالكلام الطيب والحكمة والأسلوب الحسن، حتى يكثر الخير ويقل الشر، وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن لا بالعنف والشدة، ويناصحوا من ولاهم الله بشتى الطرق الطيبة السليمة، مع الدعاء لهم في ظهر الغيب: أن الله يهديهم ويوفقهم ويعينهم على الخير، وأن الله يعينهم على ترك المعاصي التي يفعلونها، وعلى إقامة الحق، هكذا يدعو الله ويضرع إليه أن يهدي الله ولاة الأمور، وأن يعينهم على ترك الباطل، وعلى إقامة الحق بالأسلوب الحسن بالتي هي أحسن، وهكذا مع إخوانه الغيورين، ينصحهم ويعظهم ويذكرهم حتى ينشطوا في الدعوة بالتي هي أحسن لا بالعنف والشدة، وبهذا يكثر الخير ويقل الشر، ويهدي الله ولاة الأمور للخير والاستقامة عليه، وتكون العاقبة حميدة للجميع. سؤال: يظن البعض من الشباب أن مجافاة الكفار ممن هم مستوطنون في البلاد الإسلامية أو من الوافدين من الشرع، ولذلك البعض

يستحل قتلهم وسلبهم إذا رأوا منهم ما ينكرون؟. الجواب: لا يجوز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمنا، ولا قتل العصاة، ولا التعدي عليهم؛ بل يحالون للحكم الشرعي، هذه مسائل يحكم فيها بالحكم الشرعي (¬1). سؤال: وإذا لم توجد محاكم شرعية؟. الجواب: إذا لم توجد محاكم شرعية فالنصيحة فقط، لولاة الأمور، وتوجيههم للخير والتعاون معهم، حتى يحكموا شرع الله، أما أن الآمر والناهي يمد يده أو يقتل أو يضرب؛ فلا يجوز، لكن يتعاون مع ولاة الأمور بالتي هي أحسن، حتى يحكموا شرع الله في عباد الله، وإلا فواجبه النصح، وواجبه التوجيه إلى الخير، وواجبه إنكار المنكر بالتي هي أحسن، هذا هو واجبه، قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: آية: 16]، ولأن إنكاره باليد بالقتل أو الضرب يترتب عليه شر أكثر، وفساد أعظم بلا شك ولا ريب لكل من سبر هذه الأمور وعرفها (¬2). سؤال: هل من منهج السلف نقد الولاة من فوق المنابر، وما منهج السلف في نصح الولاة؟. ¬

(¬1) لما صح من رواية أبي داود (2760) والنسائي (4761) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة». (¬2) "المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" (ص 7 - 16).

الجواب: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر، لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به؛ حتى يوجه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنا وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر أن فلانا يفعلها، لا حاكم ولا غير حاكم، ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: "ألا تكلم عثمان"؟ فقال: "إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه" (¬1). ولما فتحوا الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان جهرة؛ تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان بأسباب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني؛ وذكر العيوب علنا، حتى أبغض الناس ولي أمرهم؛ وقتلوه، نسأل الله العافية (¬2). سؤال: ما المراد بطاعة ولاة الأمر في الآية، هل هم العلماء أم الحكام ولو كانوا ظالمين لأنفسهم ولشعوبهم؟. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد حديث رقم (547). (¬2) "وجوب طاعة السلطان" (ص42).

الجواب: يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وأولو الأمر هم: العلماء والأمراء، أمراء المسلمين وعلماؤهم، يطاعون في طاعة الله؛ إذا أمروا بطاعة الله، وليس في معصية الله. فالعلماء والأمراء يطاعون في المعروف؛ لأن بهذا تستقيم الأحوال، ويحصل الأمن، وتنفذ الأوامر، وينصف المظلوم، ويردع الظالم. أما إذا لم يطاعوا فسدت الأمور، وأكل القوي الضعيف، فالواجب أن يطاعوا في طاعة الله؛ في المعروف، سواء كانوا أمراء أو علماء: العالم يبين حكم الله، والأمير ينفذ حكم الله، هذا هو الصواب في أولي الأمر؛ هم العلماء بالله وبشرعه، وهم أمراء المسلمين؛ عليهم أن ينفذوا أمر الله، وعلى الرعية أن تسمع لعلمائها في الحق، وأن تسمع لأمرائها في المعروف، أما إذا أمروا بمعصية -سواء كان الآمر أميرا أو عالما- فإنهم لا يطاعون في ذلك؛ إذا قال لك أمير: اشرب الخمر، فلا تشربها، أو إذا قال لك: كل الربا، فلا تأكله، وهكذا مع العالم؛ إذا أمرك بمعصية الله فلا تطعه، والتقي لا يأمر بذلك، لكن قد يأمر بذلك العالم الفاسق. والمقصود: أنه إذا أمرك العالم أو الأمير بشيء من معاصي الله فلا تطعه في معاصي الله، وإنما الطاعة في المعروف؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (¬1) ولكن لا يجوز الخروج على الأئمة ¬

(¬1) رواه الترمذي في "السنن" (1707) وابن أبي شيبة في "المصنف" (33717) وعبد الرزاق في "المصنف" (3788) وأحمد في "المسند" (1/ 131، 409) (5/ 66).

ولو عصوا، بل يجب السمع والطاعة في المعروف مع المناصحة، ولا تنزعن يدا من طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة في المنشط والمكره، وفيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة» (¬1)، ويقول عليه الصلاة والسلام: "من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة، فإنه من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" (¬2) وقال عليه الصلاة والسلام: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم وأن يشق عصاكم، فاقتلوه كائنا من كان" (¬3). والمقصود: أن الواجب السمع والطاعة في المعروف لولاة الأمور؛ من الأمراء والعلماء، وبهذا تنتظم الأمور، وتصلح الأحوال، ويأمن الناس، وينصف المظلوم، ويردع الظالم، وتأمن السبل، ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور وشق العصا؛ إلا إذا وجد منهم كفر بواح، عند الخارجين عليه من الله برهان، ويستطيعون بخروجهم أن ينفعوا المسلمين، وأن يزيلوا الظلم وأن يقيموا دولة صالحة. أما إذا كانوا لا يستطيعون؛ فليس لهم الخروج، ولو رأوا كفرا بواحا؛ لأن خروجهم يضر الناس، ويفسد الأمة، ¬

(¬1) رواه البخاري (2796)، ومسلم في "الصحيح" (1839) والترمذي في "السنن" (1707) وأبو داود في "السنن" (2626) والنسائي في "السنن" (4206) وابن ماجه في "السنن" (2864). (¬2) رواه أحمد في "المسند" (6/ 24) ومسلم في "الصحيح" (1855) والدارمي في "السنن" (2797) وأبو عوانة في "المسند" (7184). (¬3) رواه مسلم في "الصحيح" (1852) وأبو عوانة في "المسند" (7140) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 169) والطبراني في "الكبير" (362).

ويوجب الفتنة والقتل بغير الحق، ولكن إذا كانت عندهم القدرة والقوة على أن يزيلوا هذا الوالي الكافر فليزيلوه، وليضعوا مكانه وليا صالحا ينفذ أمر الله؛ فعليهم ذلك، إذا وجدوا كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان، وعندهم قدرة على نصر الحق، وإيجاد البديل الصالح، وتنفيذ الحق (¬1). ... السؤال الثاني: هل عجزهم يعتبر براءة للذمة؛ أي ذمتهم؟ الجواب: نعم يتكلمون بالحق ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويكفي ذلك، والمعروف: هو ما ليس بمعصية؛ فيدخل فيه المستحب والواجب والمباح، كله معروف؛ مثل الأمر بعدم مخالفة الإشارة في الطريق، فعند إشارة الوقوف؛ لأن هذا ينفع المسلمين، وهو في الإصلاح، وهكذا ما أشبهه (¬2). السؤال الثالث: ما حكم سن القوانين الوضعية؟ وهل يجوز العمل بها؟ وهل يكفر الحاكم بسنه هذه القوانين؟ الجواب: إذا كان القانون يوافق الشرع فلا بأس به، مثل أن يسن قانونا للطرق ينفع المسلمين، وغير ذلك من الأشياء التي تنفع المسلمين ¬

(¬1) " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (7/ 121). (¬2) " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (7/ 123).

وليس فيها مخالفة للشرع، ولكن لتسهل أمور المسلمين؛ فلا بأس بها، وأما القوانين التي تخالف الشرع فلا يجوز سنها، فإذا سن قانونا يتضمن أنه لا حد على الزاني، أو لا حد على السارق، أو لا حد على شارب الخمر؛ فهذا قانون باطل، وإذا استحله الوالي كفر؛ لكونه استحل ما يخالف النص والإجماع، وهكذا كل من استحل ما حرم الله من المحرمات المجمع عليها فهو يكفر بذلك (¬1). السؤال الرابع: كيف نتعامل مع هذا الوالي؟ الجواب: نطيعه في المعروف، وليس في المعصية، حتى يأتي الله بالبديل (¬2). السؤال: تحدثتم سماحة الشيخ في اللقاء المفتوح الذي عقد في جدة مؤخرا عن نعم الله تعالى على هذه البلاد: نعمة الإسلام، ونعمة الأمن، ¬

(¬1) " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (7/ 124). (¬2) " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (7/ 124).

ونعمة تطبيق شرع الله، فكيف يحافظ المجتمع على هذه النعم؟ الجواب: الواجب على المسلمين حكومة وشعبا في هذه البلاد أن يشكروا الله سبحانه وتعالى على ما من به عليهم من نعمة الإسلام، ونعمة الأمن، وأن يتواصوا بذلك دائما، ويكون الشكر؛ بأداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند حدود الله، هذا هو الشكر، كما قال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} وقال سبحانه وتعالى: {اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور} فالواجب هو الشكر الحقيقي؛ قولا وعملا وعقيدة، فيشكر كل فرد الله بقلبه وقوله وعمله، ويخافه ويرجوه، ويتحدث بنعمه جل شأنه، كما قال تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} كما يجب الشكر بالعمل، وذلك بأداء الفرائض، وبترك المحارم التي حرمها الله من الزنى والسرقة والعقوق وقطع الأرحام والربا والغيبة والنميمة .. إلى غير ذلك من المعاصي، فهذا كله من الشكر (¬1). السؤال: لقد قامت الدولة في المملكة العربية السعودية منذ أن تأسست على تطبيق شرع الله وعلى إقامة حكمه فما الواجب علينا جميعا تجاه هذه المسئولية؟ الجواب: من الواجب على الرعية مساعدة الدولة في الحق، والشكر لها على ما تفعل من الخير، والثناء عليها، كما يجب عليهم معاونة ¬

(¬1) " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (7/ 129).

الدولة في إصلاح الأوضاع فيما قد يقع فيه شيء من الخلل؛ بالأسلوب الطيب، والكلام الحسن، لا بالتشهير، وذكر العيوب بالصحف وعلى المنابر، ولكن بالنصيحة، والمكاتبة، والتنبيه على ما قد يخفى، حتى تزول المشاكل، وحتى يحل محلها الخير والإصلاح، وحتى تستقر النعم، ويسلم الناس من حدوث النقم، ولا سبل إلى هذا إلا بالتناصح، والتواصي بالخير. والواجب على الدولة - وفقها الله - أن تجتهد فيما يكون قد وقع من خلل في إصلاحه، وأن تجتهد في كل ما يرضي الله عز وجل ويقرب إليه، وفي إزالة كل ما نهانا عنه الله عز وجل، وأن تقوم بواجبها في إصلاح ما هو مخالف للشرع، وأن تجتهد في إزالة ذلك بالتعاون مع العلماء والموظفين والمسئولين الطيبين والصالحين ومع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬1). ... السؤال: عندما تقع بعض السلبيات أو المنكرات في المجتمع فما السبيل الأمثل - في نظر سماحتكم - نحو معالجة هذه السلبيات وإنكار المنكرات؟ الجواب: السبيل أوضحه الله - عز وجل - حيث يقول: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ويقول سبحانه: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} ¬

(¬1) " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (7/ 130).

ويقول جل وعلا: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} ويقول سبحانه وتعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} هذا هو السبيل وهو التعاون على البر والتقوى؛ والتواصي بالحق، والنصيحة، ودعوة الناس إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ بالأسلوب الحسن، والكلمات الطيبة، والرفق؛ حتى يعم الخير ويكثر، وحتى يزول الشر ويندثر، وهذا هو المطلوب من الجميع؛ من الدولة، ومن العلماء، ومن أهل الخير، ومن أعيان المسلمين، ومن العامة كل بحسب طاقته ولكن بتحري العبارات الطيبة، والأسلوب الحسن، حتى يحصل الخير ويزول الشر (¬1). وسئل رحمه الله: هناك من يرى حفظك الله، أن له الحق في الخروج على الأنظمة العامة التي يضعها ولي الأمر: كالمرور والجمارك والجوازات ... إلخ) باعتبار أنها ليست على أساس شرعي، فما قولكم حفظكم الله؟ الجواب: هذا باطل، هذا منكر، وقد تقدم أنه لا يجوز الخروج ولا التغيير باليد، بل السمع والطاعة في هذه الأمور التي ليس فيها منكر، بل نظمها ولي الأمر لمصالح المسلمين؛ مثل إشارات المرور، يجب ¬

(¬1) " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (7/ 131).

الخضوع لذلك، والسمع والطاعة في ذلك، لأن هذا المعروف الذي ينفع المسلمين. وأما الشيء الذي هو منكر؛ كضريبة يرون أنها غير جائزة؛ هذا يرجع فيها ولي الأمر بالنصيحة إلى الله، بالتوجيه إلى الخير لا بيده، يضرب هذا ويسفك دم هذا، أو يعاقب هذا دون حجة ولا برهان، لا، لا بد أن يكون عنده سلطان، عنده ولاية يتصرف فيها، وإلا فحسبه النصحية، حسبه التوجيه، إلا فيمن هو تحت يده من أولاد وزوجات ونحو ذلك ممن له السلطة عليهم.

أجوبة فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -

أجوبة فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - سؤال: هناك شبهة عند كثير من الشباب، استحكمت في عقولهم، أثارت عندهم مسألة الخروج، وهي: أن هؤلاء الحكام المبدلون وضعوا قوانين وضعية من عندهم، ولم يحكموا بما أنزل الله فحكم هؤلاء الشباب بردتهم وكفرهم، وبنوا على ذلك: أن هؤلاء ما داموا كفارا فيجب قتالهم، ولا ينظر إلى حالة الضعف؛ لأن حالة الضعف قد نسخت - كما يقولون - بآية السيف (¬1) فما عاد هناك مجال للعمل بمرحلة الاستضعاف، التي كان المسلمون عليها في مكة. الجواب: لا بد أن نعلم أولا: هل انطبق عليهم وصف الردة أم لا؟ وهذا يحتاج إلى معرفة الأدلة الدالة على أن هذا القول أو الفعل ردة، ثم تطبيقها على شخص بعينه، وهل له شبهة أم لا؟ يعني: قد يكون النص قد دل على أن الفعل كفر، وهذا القول كفر، لكن هناك مانع يمنع من تطبيق حكم الكفر على هذا الشخص المعين، والموانع كثيرة، منها: الظن - وهو جهل - ومنها: الغلبة. ¬

(¬1) آية السيف هي قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) سورة التوبة، الآية: (5).

فالرجل الذي قال لأهله: إذا مت فحرقوني واسحقوني في اليم، فإن الله لو قدر علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين (¬1) هذا الرجل ظاهر عقيدته الكفر والشك في قدرة الله، لكن الله لما جمعه وخاطبه قال: يا رب إني خشيت منك أو كلمة نحوها، فغفر له، فصار هذا الفعل منه تأويلا (¬2). ومثل ذلك الرجل الذي غلبه الفرح، وأخذ بناقته قائلا: اللهم أنت عبدي وأنا ربك (¬3) كلمة كفر، لكن هذا القائل لا يكفر؛ لأنه مغلوب عليه، فمن شدة الفرح أخطأ، أراد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! والمكره يكره على الكفر فيقول كلمة الكفر، أو يفعل فعل الكفر، ولكن لا يكفر بنص القرآن (¬4) لأنه غير مريد، وغير مختار. وهؤلاء الحكام، نحن نعرف أنهم في المسائل الشخصية - كالنكاح والفرائض وما أشبهها - يحكمون بما دل عليه القرآن على اختلاف المذاهب، وأما في الحكم بين الناس فيختلفون .. ولهم شبهة يوردها لهم بعض علماء السوء، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أنتم أعلم بأمور ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (3291)، ومسلم برقم (2754) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) أي غير مقصود له، ولا مراد منه. (¬3) أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2747) عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬4) وذلك في قوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [سورة النحل، الآية: 106].

دنياكم " (¬1) وهذا عام، فكل ما تصلح به الدنيا فلنا الحرية فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " أنتم أعلم بأمور دنياكم "!! وهذه - لا شك - شبهة؛ لكن هل هو مسوغ لهم في أن يخرجوا عن قوانين الإسلام في إقامة الحدود، ومنع الخمور وما شابه ذلك؟ وعلى فرض أن يكون لهم في بعض النواحي الاقتصادية شبهة، فإن هذا ليس فيه شبهة. وأما تمام الإشكال المطروح فيقال فيه: إذا كان الله تعالى بعد أن فرض القتال قد قال: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} (¬2)؛ فكم هؤلاء؟! واحد بعشرة، ثم قال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} (¬3). وقد قال بعض العلماء: إن ذلك في وقت الضعف، والحكم يدور مع علته، فبعد أن أوجب الله عليهم مصابرة العشرة قال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} ثم نقول: إن عندنا نصوصا محكمة تبين هذا الأمر، وتوضحه؛ منها ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2362) عن رافع بن خديج رضي الله عنه. (¬2) سورة الأنفال، الآية: (65). (¬3) سورة الأنفال، الآية: (66).

قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (¬1) فالله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها وقدرتها. والله سبحانه يقول - أيضا -: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬2). فلو فرضنا أن الخروج المشار إليه على هذا الحاكم واجب، فإنه لا يجب علينا ونحن لا نستطيع إزاحته، فالأمر واضح، ولكنه الهوى يهوي بصاحبه (¬3). وقال رحمه الله عن حال الناس بالنسبة لولاتهم: " ... فإن بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه؛ الكلام في ولاة الأمور، والوقوع في أعراضهم، ونشر مساوئهم وأخطائهم، معرضا بذلك عما لهم من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلا ولا يرفع مظلمة، وإنما يزيد البلاء بلاء، ويوجب بغض الولاة وكراهتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها، ولا نشك أن ولاة الأمر قد يسئيون وقد يخطئون كغيرهم من بني آدم؛ فإن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولا نشك أيضا أنه لا يجوز لنا أن نسكت على أي إنسان ارتكب خطأ حتى نبذل ما نستطيعه من واجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإذا كان كذلك؛ فإن الواجب علينا إذا رأينا خطأ من ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (286). (¬2) سورة التغابن، الآية (16). (¬3) فتنة التكفير ص (37).

ولاة الأمور أن نتصل بهم شفويا أو كتابيا ونناصحهم، سالكين بذلك أقرب الطرق في بيان الحق لهم وشرح خطئهم، ثم نعظهم ونذكرهم فيما يجب عليهم من النصح لمن تحت أيديهم ورعاية مصالحهم ورفع الظلم عنهم، ونذكرهم بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه " (¬1)، وقوله: " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة " (¬2)، ثم إن اتعظ بواعظ القرآن والحديث فذلك هو المطلوب، وإن لم يتعظ بواعظ الحديث والقرآن وعظناه بواعظ السلطان؛ بأن نرفع الأمر إلى من فوقه ليصلح من حاله، فإذا بلغنا الأمر إلى أهله الذين ليس فوقهم ولي من المخلوقين فقد برئت بذلك الذمة، ولم يبق إلا أن نرفع الأمر إلى رب العالمين، ونسأله إصلاح أحوال المسلمين وأئمتهم. وقال - رحمه الله -: " ومن حقوق الولاة على رعيتهم: السمع والطاعة بامتثال ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه، ما لم يكن في ذلك مخالفة لشريعة الله، فإن كان في ذلك مخالفة لشريعة الله؛ فلا سمع لهم ولا طاعة " (¬3) " لا طاعة لمخلوق ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق، حديث رقم (1828). (¬2) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، حديث رقم (142)، ونحوه البخاري في كتاب الأحكام، باب من استرعي رعية فلم ينصح، حديث رقم (7151). (¬3) أي فيما خالفوا فيه دون غيره؛ لأن ولايتهم لا تسقط نهائيا بتلك المخالفة. (من تعليق، الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله -).

في معصية الخالق " (¬1). وقال أيضا - رحمه الله -: " إن من طاعة ولاة الأمر التي أمر الله بها: أن يمشي المؤمن على أنظمة حكومته المرسومة إذا لم تخالف الشريعة، فمتى تمشى على ذلك كان مطيعا لله ورسوله، ومثابا على عمله، ومن خالف ذلك؛ كان عاصيا لله ورسوله، وآثما بذلك. وأما حقوق الرعية على ولاتهم فالمسئولية كبيرة، والأمر خطير، فليس المقصود بالولاية بسط السلطة ونيل المرتبة، إنما المقصود بها تحمل مسئولية عظيمة تتركز على إقامة الحق بين الخلق بنصر دين الله، وإصلاح عباد الله دينيا ودنيويا " (¬2). وقال - رحمه الله -: " وقد بين الله أن من تمام الاجتماع: السمع والطاعة لمن تأمر علينا؛ بيانا شافيا كافيا شرعا وقدرا. وأما بيانه قدرا: فإنه لا يخفى حالة الأمة الإسلامية حين كانت متمسكة بدينها، مجتمعة عليها، معظمة لولاة أمورها، منقادة لهم بالمعروف كانت لها السيادة والظهور في الأرض كما قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا} (¬3)، ¬

(¬1) بوب عليه الترمذي قبل (1707) في كتاب الجهاد باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. (¬2) " رسالة حقوق الراعي والرعية ". (¬3) سورة النور، الآية: (55).

وقال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (¬1). ولما أحدثت الأمة الإسلامية ما أحدثت، وفرقوا دينهم، وتمردوا على أئمتهم، وخرجوا عليهم، وكانوا شيعا، نزعت المهابة من قلوب أعدائهم، وتنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم، وتداعت عليهم الأمم، وصاروا غثاء كغثاء السيل. وصار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم والغيرة على دين الله وترك العمل به، ورأى كل فرد من أفراد الرعية نفسه أميرا، أو بمنزلة الأمير المنابذ للأمير. فالواجب علينا جميعا - رعاة ورعية أن نقوم بما أوجب الله علينا؛ من التحاب والتعاون على البر والتقوى، والاجتماع على المصالح لنكون من الفائزين، وعلينا أن نجتمع على الحق ونتعاون عليه، وأن نخلص في جميع أعمالنا، وأن نسعى لهدف واحد هو إصلاح هذه الأمة إصلاحا دينيا ودنيويا بقدر ما يمكن، ولن يمكن ذلك حتى تتفق كلمتنا ونترك المنازعات بيننا والمعارضات التي لا تحقق هدفا، بل ربما تفوت مقصودا، وتعدم ¬

(¬1) سورة الحج، الآيتان: (40 - 41).

موجودا. إن الكلمة إذا تفرقت، والرعية إذا تمردت؛ دخلت الأهواء والضغائن، وصار كل واحد يسعى لتنفيذ كلمته، وأن تبين أن الحق والعدل في خلافها وخرجنا عن توجيهات الله تعالى حيث يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمة إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (¬1). فإذا عرف كل واحد منا ما له وما عليه، وقام به على وفق الحكمة؛ فإن الأمور العامة والخاصة تسير على أحسن نظام وأكمله (¬2). ... ¬

(¬1) سورة آل عمران الآيتان (102 - 103). (¬2) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - (7/ 127).

أجوبة الشيخ المحدث/ناصر الدين الألباني - رحمه الله -

أجوبة الشيخ المحدث/ناصر الدين الألباني - رحمه الله - سؤال: هل يجوز الخروج على الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله؟ الجواب: أي حاكم اليوم من حكام المسلمين الذين لم يظهر منهم الكفر الصريح فلا يجوز الخروج عليه، ولو لم يكن بويع مبايعة بالشروط التي سبق ذكرها آنفا. فنقول نحن: أي حاكم اليوم مسلم لم يعلن الكفر البواح الصريح؛ لا يجوز لطائفة المسلمين أن يخرجوا عليه، ذلك أنه وقع في التاريخ الإسلامي أن كثيرا من البغاة بغوا على الحكام المبايعين، ثم لما استقر لهم الحكم مع بغيهم وعدوانهم؛ لم يجز علماء المسلمين الخروج عليهم؛ وذلك كله من باب المحافظة على دماء المسلمين أن تسفك - هكذا - هدرا. بل أنا أقول اليوم: حتى لو كان هناك حاكم مسلم - ولو جغرافيا أو في شهادة النفوس - فرأيي الشخصي: أنه لا يجوز الخروج عليه إلا بشروط كثيرة جدا. أولها وأهمها: أن يكون المسلمون قد أعدوا أنفسهم للخروج عليه، وهذا له بحث مفصل، وأظن أنه مذكور في بعض الأشرطة تحقيق ما نكني عنه بكلمتين موجزتين: التصفية والتربية، أي حينما يجتمع المسلمون في بلد ما في إقليم ما على التصفية والتربية. ومن التربية العمل بكل النصوص التي أمروا بها؛ كتابا وسنة، ومن ذلك قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}

فحينما نجد مثل هذه الجماعة التي قامت على تطبيق الإسلام المصفى، وربيت على هذا الإسلام المصفى، وقامت بإعداد العدة المعنوية والمادية، حينئذ نقول: يجوز الخروج على هذا الحاكم المعلن بالكفر الصراح، ولكن أيضا على شرط وهو: إنذاره، وعدم الغدر به، بطريقة ما يسمى بثورات أو بانقلابات عسكرية أو ما شابه ذلك، هذا أيضا في اعتقادي وفي ما أفهم من كتاب الله ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نجيزه إلا بهذا الشرط. وأنا أعتقد: أن فيما وقع من ثورات من بعض الجماعات الإسلامية في بعض البلاد الإسلامية، بدءا من جماعة الجهيمان في الحرم المكي، وجماعة التكفير والهجرة في مصر، وجماعة مروان حديد في سوريا، ثم الآن في الجزائر أيضا نقول نحن: إن هذا لا يجوز؛ لأنهم كما قال تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} إذا نهاية هذا السؤال: نحن لا نجيز الخروج إطلاقا في هذا الزمان، لما يترتب من ورائه من سفك دماء المسلمين دون أي فائدة تذكر، بل بأضرار تنشر ويظهر آثارها في المجتمعات الإسلامية (¬1). وقال - رحمه الله -: " وليس طريق الخلاص ما يتوهم بعض الناس، وهو الثورة بالسلاح على الحكام بواسطة الانقلابات العسكرية، فإنها مع كونها من بدع العصر ¬

(¬1) كيف نعالج واقعنا الأليم (78).

الحاضر؛ فهي مخالفة لنصوص الشريعة ". وسئل - رحمه الله -: يحتج البعض بما وقع في التاريخ الإسلامي؛ كما في فتنة ابن الأشعث وخروج كثير من القراء وعلى رأسهم سعيد بن جبير ومن كان معهم، وأيضا ما وقع من عائشة رضي الله عنها والزبير وطلحة مع علي رضي الله عنهم أجمعين، وأن هذا قد وقع، وأن هذا يعد خروجا؛ ولكن حقق لهم الهدف المطلوب، لكن هذا الخروج مما يجوز، فهل هذا الاستدلال بتلك القصص التي وقعت في العهد الأول صحيح؟ وما الجواب؟ لأن هذا يثار كثيرا من أجل تبرير قضية الخروج. الجواب: الخروج لا يجوز، وهذه الأدلة هي على من يحتج بها وليست لصالحه إطلاقا. هناك حكمة تروى عن عيسى عليه السلام - ولا يهمنا صحتها بقدر ما يهمنا صحة معناها - أنه وعظ الحواريين يوما؛ وأخبرهم بأن هناك نبيا يكون خاتما الأنبياء، وأنه سيكون بين يديه أنبياء كذبة، فقالوا له: كيف نميز الصادق من الكاذب؟ فأجاب بالحكمة المشار إليها، وهي قوله: (من ثمارهم تعرفونهم). فهذا الخروج وذلك الخروج - ومنه خروج عائشة رضي الله عنها - نحن نحكم على الخروج من الثمرة، فهل الثمرة كانت مرة أم حلوة؟ لا شك أن التاريخ الإسلامي الذي حدثنا بهذا الخروج وبذلك: ينبئ بأنه كان شرا، فقد سفكت دماء المسلمين، وذهبت هدرا بدون فائدة، وبخاصة ما يتعلق بخروج السيدة عائشة رضي الله عنها، فالسيدة عائشة قد

ندمت على خروجها، وكانت تبكي بكاء مرا، حتى يبتل خمارها، وتتمنى أن لا تكون قد خرجت ذلك الخروج. إن الاحتجاج بمثل هذا الخروج: أولا: هذا حجة عليهم؛ لأنه لم يكن منه فائدة. ثانيا: لماذا نتمسك بخروج سعيد بن جبير ولا نتمسك بعدم خروج كبار الصحابة الذين كانوا في عصره؛ كابن عمر، وغيره، ثم تتابع علماء السلف كلهم بعدم الخروج على الحاكم. فإذا هناك خروجان: * خروج فكري، وهذا هو الأخطر. * وخروج علمي، وهذا ثمرة للأول. فلا يجوز مثل هذا الخروج. والأدلة التي ذكرتها آنفا فهي - طبعا - عليهم وليست لهم.

أجوبة فضيلة الشيخ/د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - حفظه الله -

أجوبة فضيلة الشيخ/د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - حفظه الله - سؤال: فضيلة الشيخ، هناك للأسف من يسوغ الخروج على الحكام دون الضوابط الشرعية، ما هو منهجنا في التعامل مع الحاكم المسلم وغير المسلم؟ الجواب: " منهجنا في التعامل مع الحاكم المسلم: السمع والطاعة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء، آية: 59]، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث يقول: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) (¬1)، هذا الحديث يوافق الآية تماما. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني) (¬2) إلى غير ¬

(¬1) رواه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم (4607)، والترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم (2676). (¬2) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب يقاتل من وراء الإمام ويتقي به، حديث رقم (2957)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، حديث رقم (1835).

ذلك من الأحاديث الواردة في الحث على السمع والطاعة. ويقول صلى الله عليه وسلم: (تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) (¬1) فولي أمر المسلمين يجب طاعته في طاعة الله؛ فإن أمر بمعصية فلا يطاع في هذا الأمر، يعني في أمر المعصية، لكنه يطاع في غير ذلك مما لا معصية فيه. وأما التعامل مع الحاكم الكافر فهذا يختلف باختلاف الأحوال، فإن كان في المسلمين قوة وفيهم استطاعة لمقاتلته وتنحيته عن الحكم وإيجاد حاكم مسلم؛ فإنه يجب عليهم ذلك، وهذا من الجهاد في سبيل الله، أما إذا كانوا لا يستطيعون إزالته فلا يجوز لهم أن يتحرشوا بالظلمة والكفرة، لأن هذا يعود على المسلمين بالضرر والإبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم عاش في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة والولاية فيها للكفار، ومعه من أسلم من أصحابه ولم ينازلوا الكفار، بل كانوا منهيين عن قتال الكفار في هذه الحقبة، ولم يؤمروا بالقتال إلا بعد ما هاجر صلى الله عليه وسلم وصار له دولة وجماعة يستطيع بهم أن يقاتل الكفار، هذا هو منهج الإسلام. فإذا كان المسلمون تحت ولاية كافرة ولا يستطيعون إزالتها؛ فإنهم يتمسكون بإسلامهم وبعقيدتهم، ولكن لا يخاطرون بأنفسهم ويغامرون في مجابهة الكفار، لأن ذلك يعود عليهم بالإبادة والقضاء على الدعوة، أما إذا كانت لهم قوة يستطيعون بها الجهاد فإنهم يجاهدون في سبيل الله على ¬

(¬1) رواه مسلم في " صحيحه " (1847) والبيهقي في " السنن " (8/ 157) والطبراني في " المعجم الأوسط " (3893) والبيهقي في " شعب الإيمان " (7501).

الضوابط الشرعية المعروفة. سؤال: هل المقصود بالقوة هنا القوة اليقينية أم الظنية؟ الجواب: القوة معروفة، فإذا تحققت فعلا وصار المسلمون يستطيعون القيام بالجهاد في سبيل الله، عند ذلك يشرع جهاد الكفار، أما إذا كانت القوة مظنونة أو غير متيقنة فإنه لا تجوز المخاطرة بالمسلمين والزج بهم في مخاطرات قد تؤدي بهم إلى النهاية غير الحميدة، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة خير شاهد على هذا. ... فضيلة الشيخ: الدين النصيحة، والنصيحة أصل من أصول الإسلام، ومع هذا نجد بعض الإشكالات فيما يتعلق بمعنى النصيحة لولاة الأمر، وحدودها، وكيف تبذل؟ وكيف يتدرج بها؟ ومن أبرز الإشكالات تلك المتعلقة بالتغيير باليد، هل لكم إيضاح هذه المسألة؟ الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم وضح هذا وقال: " الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (¬1)، النصيحة لأئمة المسلمين تكون بطاعتهم بالمعروف، وتكون بالدعاء لهم، وبيان الطريق الصحيح لهم، وبيان الأخطاء التي قد تقع منهم من أجل تجنبها، وتكون النصيحة لهم بالسرية بينهم وبين الناصح، وتكون النصيحة لهم أيضا بالقيام بالأعمال التي يوكلونها إلى موظفيهم وإلى من تحت أيديهم؛ بأن يؤدوا أعمالهم بأمانة وإخلاص، هذا من النصيحة لولي أمر المسلمين. وكذلك ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين نصيحة، حديث رقم (55).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه " (¬1)، ومعنى ذلك أن المسلمين على ثلاثة أقسام: القسم الأول: من عنده العلم والسلطة فهذا يغير المنكر بيده، وذلك مثل ولاة الأمور، ومثل رجال الهيئات والحسبة؛ الذين نصبهم ولي الأمر للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء يغيرون بأيديهم بالطريقة الحكيمة المشروعة. القسم الثاني: من عنده علم وليس عنده سلطة؛ فهذا يغير بلسانه، بأن يبين للناس حكم الحلال والحرام والمعروف والمنكر، ويأمر وينهى ويرشد ويعظ وينصح، هذا من الإنكار باللسان. القسم الثالث: من ليس عنده علم وليس عنده سلطة، ولكنه مسلم، فهذا عليه أن ينكر المنكر بقلبه، بأن يكره المنكر ويبعد نفسه عن الاجتماع بأهل المنكر؛ لئلا يؤثروا عليه. هذه هي درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬2). سؤال: ما هو المنهج الصحيح في المناصحة، وخاصة مناصحة الحكام، أهو بالتشهير على المنابر بأفعالهم المنكرة؟ أم مناصحتهم في السر؟ أرجو توضيح المنهج السلفي في هذه المسألة؟ ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، حديث رقم (49). (¬2) " مراجعات في فقه الواقع السياسي " (53).

الجواب: العصمة ليست لأحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحكام بشر يخطئون، ولا شك أن عندهم أخطاء وليسوا معصومين، ولكن لا نتخذ أخطاءهم مجالا للتشهير بهم ونزع اليد من طاعتهم، حتى وإن جاروا وإن ظلموا، حتى وإن عصوا، ما لم يرتكبوا كفرا بواحا، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان عندهم معاص وعندهم جور وظلم، فإن الصبر على طاعتهم جمع للكلمة ووحدة للمسلمين وحماية لبلاد المسلمين، وفي مخالفتهم ومنابذتهم مفاسد عظيمة أعظم من المنكر الذي هم عليه لأنه يحصل ما هو أشد من المنكر الذي يصدر منهم، ما دام هذا المنكر دون الكفر ودون الشرك. ولا نقول: إنه يسكت على ما يصدر من الحكام من أخطاء، لا ... بل تعالج، ولكن بالطريقة السليمة، بالمناصحة لهم سرا والكتابة لهم سرا. وليست بالكتابة التي تكتب بالإنترنت أو غيره، ويوقع عليها جمع كثير، وتوزع على الناس، فهذا لا يجوز، لأنه تشهير، هذا مثل الكلام على المنابر، بل هو أشد، فإن الكلام ممكن أن ينسى، ولكن الكتابة تبقى تتداولها الأيدي، فليس هذا من الحق. قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (¬1). ¬

(¬1) رواه مسلم في " الصحيح " (55) والبخاري في " الصحيح " (56) والترمذي في " السنن " (1826) وأبو داود في " السنن " (4944).

وفي الحديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) (¬1). وأولى من يقوم بالنصيحة لولاة الأمور: هم العلماء وأصحاب الرأي والمشورة، وأهل الحل والعقد، قال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه} [النساء: آية 83]. فليس كل أحد من الناس يصلح لهذا الأمر، وليس الترويج للأخطاء والتشهير بها من النصيحة في شيء، ولا هو من منهج السلف الصالح، وإن كان قصد صاحبها حسنا وطيبا، وهو إنكار المنكر بزعمه، لكن ما فعله أشد منكرا مما أنكره، وقد يكون إنكار المنكر منكرا، إذا كان على غير الطريقة التي شرعها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو منكر، لأنه لم يتبع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم الشرعية التي رسمها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) (¬2). فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الناس على ثلاثة أقسام: منهم من يستطيع أن يزيل المنكر بيده؛ وهو صاحب السلطة؛ ولي ¬

(¬1) رواه ابن حبان في " الصحيح " (3388). (¬2) رواه مسلم (49) ومالك في " الموطأ " (2/ 990) وأحمد في " المسند " (2/ 367) وأبو عوانة في " المسند " (6385) والبيهقي (8/ 163).

الأمر؛ أو من وكل إليه الأمر من الهيئات والأمراء والقادة. وقسم ينكر المنكر بلسانه؛ وهو من ليس له سلطة وعنده قدرة على البيان. وقسم ينكر المنكر بقلبه؛ وهو من ليس له سلطة؛ وليس عنده قدرة على البيان. ... سؤال: ما رأي فضيلتكم في بعض الشباب الذين يتكلمون في مجالسهم عن ولاة الأمور في هذه البلاد بالسب والطعن فيهم؟ الجواب: هذا الكلام معروف أنه باطل، وهؤلاء إما أنهم يقصدون الشر وإما أنهم تأثروا بغيرهم من أصحاب الدعوات المضللة الذين يريدون سلب هذه النعمة التي نعيشها. نحن ولله الحمد على ثقة من ولاة أمرنا، وعلى ثقة من المنهج الذي نسير عليه، وليس معنى هذا أننا قد كملنا، وأننا ما عندنا نقص ولا تقصير؛ عندنا نقص، ولكن نحن في سبيل إصلاحه وعلاجه إن شاء الله بالطرق السليمة. في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجد من يسرق، ووجد من يزني، ووجد من يشرب الخمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقيم عليهم الحدود، نحن ولله الحمد تقام عندنا الحدود على من تبين وثبت عليه ما يوجب الحد، ونقيم القصاص في القتلى، هذا ولله الحمد خير ولو كان هناك نقص، فالنقص لا بد منه؛ لأنه من طبيعة البشر.

ونرجو الله تعالى أن يصلح أحوالنا، ويعيننا على أنفسنا، وأن يسدد خطانا، وأن يكمل نقصنا بعفوه. أما أننا نتخذ من العثرات والزلات سبيلا لتنقص ولاة الأمور، أو الكلام فيهم، أو تبغيضهم إلى الرعية، فهذه ليست طريقة السلف أهل السنة والجماعة. أهل السنة والجماعة يحرصون على طاعة ولاة أمور المسلمين، وعلى تحبيبهم للناس، وعلى جمع الكلمة، هذا هو المطلوب. والكلام في ولاة الأمور؛ من الغيبة والنميمة، وهما من أشد المحرمات بعد الشرك، لا سيما إذا كانت الغيبة للعلماء ولولاة الأمور فهذا أشد؛ لما يترتب عليه من المفاسد من: تفريق الكلمة، وسوء الظن بولاة الأمور، وبعث اليأس في نفوس الناس والقنوط (¬1). ... سؤال: فضيلة الشيخ الدين النصيحة، والنصيحة أصل الإسلام ومع هذا نجد بعض الإشكالات في ما يتعلق بمعنى النصيحة لولاة الأمر، وحدودها، وكيف تبذل، وكيف يتدرج بها، ومن أبرز الإشكالات تلك المتعلقة بالتغيير باليد، هل لكم إيضاح هذه المسألة؟ الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم وضح هذا وقال: " الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (¬2) النصيحة لأئمة ¬

(¬1) " الأجوبة المفيدة ". (¬2) رواه مسلم في " الصحيح " (55) والبخاري (56) والترمذي في " السنن " (1926) وأبو داود في " السنن " (4944).

المسلمين تكون: بطاعتهم بالمعروف، وتكون بالدعاء لهم، وبيان الطريق الصحيح لهم، وبيان الأخطاء التي قد تقع منهم من أجل تجنبها، وتكون النصيحة لهم سرية، بينهم وبين الناصح، وتكون أيضا بالقيام بالأعمال التي يوكلونها إلى موظفيهم، وإلى من تحت أيديهم؛ بأن يؤدوا أعمالهم بأمانة وإخلاص، هذا من النصيحة لولي أمر المسلمين. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه " (¬1). ومعنى ذلك أن المسلمين على ثلاثة أقسام: القسم الأول: من عنده العلم والسلطة فهذا يغير المنكر بيده، وذلك مثل ولاة الأمور، ومثل رجال الهيئات والحسبة؛ الذين نصبهم ولي الأمر للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهؤلاء يغيرون بأيديهم بالطريقة الحكيمة المشروعة. القسم الثاني: من عنده علم وليس عنده سلطة؛ فهذا يغير بلسانه، بأن يبين للناس حكم الحلال والحرام والمعروف والمنكر، ويأمر وينهى ويرشد ويعظم وينصح، هذا من الإنكار باللسان. القسم الثالث: من ليس عنده علم وليس عنده سلطة، ولكنه مسلم، فهذا عليه أن ينكر المنكر بقلبه، بأن يكره المنكر وأهل المنكر ويبعد نفسه ¬

(¬1) رواه أحمد في " المسند " (3/ 10، 20، 49، 52، 54، 92) ومسلم في " الصحيح " (49) وابن حبان في " الصحيح " (306) وأبو عوانة في " المسند " (98) والترمذي في " السنن " (2172) وأبو داود في " السنن " (4340) وابن ماجه في " السنن " (4013).

عن الاجتماع بأهل المنكر؛ لئلا يؤثروا عليه. هذه هي درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬1). سؤال: ما حكم طاعة ولي أمر المسلمين؟ وما حكم الخروج على الأنظمة التي يسنها وهي لا تخالف الشريعة؟ " تجب طاعة ولي الأمر في النظام الذي لا يخالف الشريعة ولا يجوز الاحتيال عليه ومخالفته قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} والخروج على أنظمة يقع فيه البعض من الناس اليوم؛ إما بالاحتيال، أو بالواسطة، أو بالرشوة، أو بالتزوير أو بالاستهتار وعدم المبالاة، ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه يؤدي إلى الفوضى وإخلال الأمن. كما أن الخروج على الأنظمة قد يكون ناتجا عن بعض الأفكار السيئة المستوردة والدخيلة على دين الإسلام، وهو اعتقاد بعضهم أن هؤلاء الحكام لا يحكمون بشرع الله، وهذه الأنظمة لا توجد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهي أنظمة وضعية، فإنه لا يجوز حينئذ طاعة الولاة في هذه الأنظمة، وهذا لا شك أنه سوء في الفهم والتصور، وبسبب البعد عن فهم الكتاب والسنة كما فهمهما سلف هذه الأمة (¬2). ... ¬

(¬1) " مراجعات في الفقة الواقع السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة " (ص53). (¬2) كتاب الدعوة (7)، فتاوى الشيخ صالح الفوزان (1/ 125).

جواب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

جواب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما حكم الدعاء على الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله؟ الجواب: تدعو له بالهداية والتوفيق، وأن يجعل الله على يده إصلاح رعيته؛ فيحكم بينهم بشريعة الله. الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬1). عضو: عبد الله بن قعود. عضو: عبد الله بن غديان. عضو: عبد الرزاق عفيفي. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، (1/ 791).

فتاوى الأئمة في حكم الشائعات واستماعها

فتاوى الأئمة في حكم الشائعات واستماعها

توجيه سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -

توجيه سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في إجابة لسماحته حول ما ينبغي للمسلم إزاء الإشاعات والأخبار المتداولة قال سماحته: ينبغي للمسلم ألا يتحدث إلا بالشيء الثابت عنده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " (¬1)، فإذا شك فليقل: يروى أو يذكر ولا يجزم بذلك، ولكن إذا كان لدية شيء ثابت قد شاهده أو علمه بطريق ثابتة، أو سمعه من جهة يوثق بها فلا بأس أن يحدث بذلك إذا رأى المصلحة في الحديث به. وأضاف سماحته قائلا: مع الحرص على تطمين المسلمين وحثهم على حسن الظن بالله، وإشاعة الأخبار السارة بينهم، وترك الأخبار التي تحزنهم إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا وبشرو ولا تنفروا " (¬2). ومن أقوى وسائل الأعداء في هذا وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وما تبثه من الأخبار الكاذبة والمحرفة التي تزرع الشر والفتن وأسباب الكراهية والحقد والفرقة بين المسلمين. ومن أهم الواجبات على المسلمين جميعا ولا سيما العلماء ورجال الإعلام المنصفون: التصدي لهذه الحملات الحاقدة التي تستغل الأحداث ¬

(¬1) رواه مسلم في (المقدمة) باب النهي عن الحديث بكل ما سمع برقم (5). (¬2) رواه البخاري في " العلم " باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة برقم (69)، ومسلم في (الجهاد والسير) في الأمر بالتيسير وترك التنفير برقم (1734).

لإثارة الشكوك وإزالة الثقة بين الناس المسلمين أفرادا وجماعات، حكاما ومحكومين. ومما يلاحظ في هذا العام بشكل خاص أن كثيرا من وكالات الأنباء العالمية التي تخدم مخططات أعداء الإسلام وتخضع لمراكز التوجيه النصراني والماسوني تخطط بأسلوب ماكر لإثارة العالم كله ضد ما يسمونه (الأصوليين) وهم يقصدون بذلك الذم والقدح في المسلمين المتمسكين بالإسلام على أصوله الصحيحة، الذين يرفضون مسايرة الأهواء والتقارب بين الثقافات والأديان الباطلة. وقد وقع بعض الإعلاميين المسلمين في مصيدة الأعداء، وأخذوا ينقلون تلك الأخبار المعادية للإسلام، وأصبحوا يتداولونها عن جهل بمقاصد أصحابها، أو غرض في نفوس بعضهم، فكانوا بفعلهم هذا أعوانا للأعداء على الإسلام والمسلمين بدلا من قيامهم بواجب التصدي لأعداء الإسلام، وإبطال كيدهم ببيان أهمية الرابطة الدينية والأخوة الإسلامية بين الشعوب الإسلامية، وأن الأخطاء الفردية التي لا يسلم منها أحد لا ينبغي أن تكون مبررا للتشنيع على الإسلام والمسلمين والتفريق بينهم. كما أوصى العلماء وجميع الدعاة وأنصار الحق أن يتجنبوا المسيرات والمظاهرات التي تضر الدعوة ولا تنفعها وتسبب الفرقة بين المسلمين والفتنة بين الحكام والمحكومين. وإنما الواجب سلوك السبيل الموصلة إلى الحق، واستعمال الوسائل التي تنفع ولا تضر، وتجمع ولا تفرق، وتنشر الدعوة بين المسلمين، وتبين

لهم ما يجب عليهم بالكتابات، والأشرطة المفيدة، والمحاضرات النافعة وخطب الجمع الهادفة؛ التي توضح الحق وتدعو إليه وتبين الباطل وتحذر منه، مع الزيارات المفيدة للحكام والمسئولين، والمناصحة كتابة أو مشافهة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن، عملا بقول الله عز وجل في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (¬1) الآية. وقوله - عز وجل - لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما أرسلهما إلى فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (¬2)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا، وتطاوعوا ولا تختلفوا " (¬3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه) (¬4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من يحرم الرفق يحرم الخير كله " (¬5)، وكل هذه الأحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬6). سؤال: سماحة الشيخ هل الكلمة تؤثر في الأمن وتزعزعه؛ مثل الأوراق التي بالفاكسات من خارج هذه البلاد، من بعض الحاقدين ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: (159). (¬2) سورة طه، الآية: (44). (¬3) رواه البخاري في " العلم " باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة برقم (69)، ومسلم في (الجهاد والسير) في الأمر بالتيسير وترك التنفير برقم (1734). (¬4) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب فضل الرفق برقم (2594). (¬5) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب الرفق برقم (2592)، وأبو داود في (الأدب) باب في الرفق برقم (4809) واللفظ له. (¬6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (18/ 279، 376 - 380).

على هذه البلاد وولاتها وعلمائها؟ الجواب: توزيع الأشرطة الخبيثة التي تدعو إلى الفرقة والاختلاف وسب ولاة الأمور والعلماء، لا شك أنها من أعظم المنكرات. والواجب الحذر منها، سواء كانت جاءت من لندن من الحاقدين والجاهلين الذين باعوا دينهم، وباعوا أمانتهم على الشيطان؛ من جنس محمد المسعري ومن معه، الذين أرسلوا الكثير من الأوراق الضارة المضلة، والمفرقة للجماعة، يجب الحذر منهم، ويجب إتلاف ما يأتي من هذه الأوراق؛ لأنها شر وتدعو إلى الشر، وما هكذا النصيحة. فالنصيحة تكون بالثناء على ما فعل من الخير، والحث على إصلاح الأوضاع، والتحذير مما وقع من الشر، هذه طريقة أهل الخير الناصحين لله ولعباده. وأوصي بالحذر من دعاة الهدم، من دعاة الضلالة، فيجب الحذر منهم والتحذير، يجب الحذر والتحذير من دعاة الضلالة، مثل هؤلاء الذين يرسلون دعواتهم الضالة المضللة من لندن، ومن بلاد الكفرة كـ (المسعري) وأشباهه ومن يتعاون معه على التخريب والفساد وتضليل الناس، هذا شر عظيم وفساد كبير. قد سمعتهم من كلمة الشيخ صالح: بيان ما جاء في بعض نشراتهم من سب لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأنه ساذج، وأنه ليس بعالم، وأنه وأنه، هذا الكلام لا يقوله من في قلبه أدنى محبة للخير، ومن في قلبه أدنى غيرة ومن مسلم حقيقة يحب الله ورسوله، كيف

يرمي دعاة الهدى الذين أنقذ الله بهم من الشرك وعبادة القبور وعبادة الأصنام وعبادة الشجر والحجر إلى توحيد الله وطاعته؟! فيجب القضاء على هذه النشرات، والتحذير منها، وإتلافها مهما كانت، فالمصلح: هو الذي يدعو إلى الله ويدعو إلى التمسك بالدين، يدعو إلى التناصح، يدعو إلى التعاون مع ولاة الأمور في الخير، يدعو لهم بالتوفيق والهداية، وأن الله يعينهم على الخير، وأن الله يهديهم ويصلح لهم البطانة، وأن الله يوفقهم لإقامة الحق. (¬1). نصيحة من سماحته بعدم قراءة نشرات ما يسمى بـ: (لجنة الحقوق الشرعية). نصح سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء عموم المسلمين: بالإعراض عن النشرات التي تصدرها اللجنة التي يتزعمها محمد المسعري، والتي تسمى: بـ (لجنة الحقوق الشرعية) وقال: نصحيتي للجميع ألا يقرءوها ولا ينظروا إليها. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في محاضرة ألقاها بالرياض في مطلع الأسبوع الماضي: أن مصدري النشرة أرادوا بذلك التفرقة بين المسلمين، والتفرقة بين ولي الأمر والرعية، وإثارة الفتن، والخروج على ولي الأمر، وهذا شر عظيم وبلاء كبير، وهم ساعون في شق ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (8/ 415).

عصا المسلمين. وأضاف سماحته: أن الذي يرد من أوربا من المسعري وغير المسعري من هذه الأشياء يريدون به شق العصا والفتنة، يجب طرحه وعدم الالتفات إليه، وعدم قراءته والتحذير منه. وأشار سماحته، إلى أن هؤلاء فتحوا باب شر .. باب فتن. والواجب على المسلم أن يبتعد عن أسباب الفتنة وشق العصا والفتن بين المسلمين والاختلاف بين الراعي والرعية، وأن يكون مجمعا لا مفرقا ولا فاتنا، بل يسعى للم الشمل مع النصيحة والتوجيه والكلام الطيب؛ من دون شق العصا، ومن دون عبارات تسبب الشر والفساد، وأساليب تفتح باب الشر والعداء والانقسام. مؤكدا سماحته على أن ذلك يجب أن يكون في المحاضرات وغيرها. مردفا قوله: يجب على المسلم، أن يتحرى في محاضراته، وفي أشرطته الأسلوب الذي ينفع الأمة ولا يفتح باب الفتنة (¬1). وقال - رحمه الله -: " أما ما يقوم به الآن محمد المعسري وسعد الفقيه وأشباههما من ناشري الدعوات الفاسدة الضالة فهذا بلا شك شر عظيم، وهم دعاة شر عظيم، وفساد كبير، والواجب الحذر من نشراتهم، والقضاء عليها، ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (8/ 418).

وإتلافها، وعدم التعاون معهم في أي شيء يدعو إلى الفساد والشر والباطل والفتن؛ لأن الله أمر بالتعاون على البر والتقوى لا بالتعاون على الفساد والشر، ونشر الكذب، ونشر الدعوات الباطلة التي تسبب الفرقة واختلال الأمن إلى غير ذلك. هذه النشرات التي تصدر من الفقيه، أو من المعسري أو من غيرهما من دعاة الباطل ودعاة الشر والفرقة يجب القضاء عليها وإتلافها وعدم الالتفات إليها، ويجب نصيحتهم وإرشادهم للحق، وتحذيرهم من هذا الباطل، ولا يجوز لأحد أن يتعاون معهم في هذا الشر، ويجب أن ينصحوا، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يدعوا هذا الباطل ويتركوه. ونصيحني للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن يدعوا هذا الطريق الوخيم، وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم، والله - سبحانه - وعد عباده التائبين بقبول توبتهم، والإحسان إليهم، كما قال - سبحانه -: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} (¬1). وقال - سبحانه -: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} (¬2) والآيات في هذا المعنى كثيرة. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيتان: (53 - 54). (¬2) سورة النور، الآية: (31).

والمقصود أن الواجب على جميع المسلمين التعاون مع ولاة الأمور في الخير والهدى والصلاح؛ حتى يحصل الخير ويستتب الأمن وحتى يقضى على الظلم، وحتى ينصر المظلوم، وحتى تؤدى الحقوق، هذا هو الواجب على المسلمين؛ التعاون مع الولاة، ومع القضاة ومع الدعاة إلى الله، ومع كل مصلح في إيجاد الحق، والدعوة إليه وفي نصر المظلوم، وردع الظالم وإقامة أمر الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتخلص من الباطل، ويجب التعاون والتناصح لمن حاد عن الخير فينصح ويوجه إلى الخير وأسباب النجاة حتى يحصل الخير العظيم، والمصالح العامة، وحتى يقضى على الفساد والشر والاختلاف بالطرق الشرعية، والناس في خير ما تناصحوا وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا تعاونوا على الباطل وعلى الشر والفساد ساد البلاء ونزع الأمن وانتصر الباطل، ودفن الحق وهذا هو الذي يحبه الشيطان والذي يدعو إليه شياطين الإنس والجن، فالواجب الحذر مما يدعو إليه شياطين الإنس والجن، والتواصي بكل أسباب الأمن، وبكل أسباب الخير والهدى، والتواصي بالتعاون مع ولاة الأمور في كل خير، ومع كل من يدعو إلى الخير، وإقامة أمر الله، وفي نصر الحق وفي إقامة المعروف، والتعاون مع كل مصلح فيما يدحض الباطل وفي التحذير من الباطل، والتحذير من أسباب الفرقة والاختلاف. هذا هو الواجب كما قال - سبحانه وتعالى -: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (¬1)، ¬

(¬1) سورة المائدة، من الآية: (2).

وقال - جل وعلا -: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (¬1)، وقال - سبحانه -: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (¬2)، هذا هو الذي فيه النجاة والإيمان الصادق والعمل الصالح والعاقبة الحميدة، وبهذا يكثر الخير ويحصل التعاون على البر والتقوى، ويدحض الشر، وتأمن البلاد، ويستتب الأمن، ويحصل التعاون على الخير، ويرتدع السفيه المفسد وينتصر صاحب الحق وصاحب الهدى .. (¬3). ¬

(¬1) سورة العصر، كاملة. (¬2) سورة آل عمران الآية: (103). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، (9/ 93 - 102).

فتاوى فضيلة الشيخ/صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

فتاوى فضيلة الشيخ/صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (الواجب علينا التثبت وعدم التسرع، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالتثبت فيما يختص بالعامة من الأمة، وجعل أمور السلم والحرب والأمور العامة جعل المرجع فيها إلى ولاة الأمور وإلى العلماء خاصة، ولا يجوز لأفراد الناس أن يتدخلوا فيها؛ لأن هذا يشتت الأمر ويفرق الوحدة، ويتيح الفرصة لأصحاب الأغراض الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر) (¬1). ¬

(¬1) " وجوب التثبت في الأخبار وبيان مكانة العلماء " (ص 21) بواسطة كتاب قواعد في التعامل مع العلماء (ص 122) للشيخ الدكتور: عبد الرحمن بن معلا اللويحق.

أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -

أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - سؤال: هل المظاهرات الرجالية والنسائية ضد الحكام والولاة تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة؟ وهل من يموت فيها يعتبر شهيدا أو في سبيل الله؟ الجواب: لا أرى المظاهرات النسائية والرجالية من العلاج، ولكن أنا أرى أنها من أسباب الفتن، ومن أسباب الشرور، ومن أسباب بغض الناس، والتعدي على الناس بغير حق، ولكن الأسباب الشرعية: المكاتبة، والنصيحة، والدعوة إلى الخير بالطرق الشرعية، شرحها أهل العلم، وشرحها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه بإحسان: بالمكاتبة، والمشافهة؛ مع الأمير ومع السلطان، والاتصال به، ومناصحته والمكاتبة له، دون التشهير على المنابر بأنه فعل كذا، وصار منه كذا، والله المستعان (¬1). وقال - رحمه الله -: " .. كما أوصي العلماء وجميع الدعاة وأنصار الحق أن يتجنبوا المسيرات والمظاهرات التي تضر الدعوة ولا تنفعها وتسبب الفرقة بين المسلمين والفتنة بين الحكام والمحكومين. وإنما الواجب سلوك السبيل الموصلة إلى الحق واستعمال الوسائل التي تنفع ولا تضر وتجمع ولا تفرق وتنشر الدعوة بين المسلمين، وتبين ¬

(¬1) كيف نعالج واقعنا الأليم (ص 147).

لهم ما يجب عليهم بالكتابات والأشرطة المفيدة والمحاضرات النافعة، وخطب الجمع الهادفة التي توضح الحق وتدعو إليه، وتبين الباطل وتحذر منه، مع الزيارات المفيدة للحكام والمسئولين، والمناصحة كتابة أو مشافهة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن، عملا بقول الله عز وجل في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (¬1)، الآية. وقوله عز وجل - لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما أرسلهما إلى فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (¬2)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا، ولا تطاوعوا ولا تختلفوا) (¬3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه " (¬4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من يحرم الرفق يحرم الخير كله " (¬5)، وكل هذه الأحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬6). وقال - رحمه الله - في معرض رده على الشيخ: عبد الرحمن عبد الخالق: ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: (159). (¬2) سورة طه، الآية (44). (¬3) رواه البخاري في " العلم " باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة برقم (69)، ومسلم في (الجهاد والسير) باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير برقم (1734). (¬4) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب فضل الرفق برقم (2594). (¬5) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب الرفق برقم (2592)، وأبو داود في (الأدب) باب في الرفق برقم (4809) واللفظ له. (¬6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (18/ 379).

سادسا: ذكرتم في كتابكم: " فصول من السياسة الشرعية " (ص 31، 32): أن من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة التظاهرات (المظاهرة). ولا أعلم نصا في هذا المعنى، فأرجو الإفادة عمن ذكر ذلك، وبأي كتاب وجدتم ذلك؟ فإن لم يكن لكم في ذلك مستند، فالواجب الرجوع عن ذلك؛ لأنني لا أعلم في شيء من النصوص ما يدل على ذلك، ولما قد علم من المفاسد الكثيرة في استعمال المظاهرات، فإن صح فيها نص فلا بد من إيضاح ما جاء به النص إيضاحا كاملا حتى لا يتعلق به المفسدون بمظاهراتهم الباطلة. والله المسئول أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (¬1). وقال - رحمه الله -: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الابن المكرم صاحب الفضيلة الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الخالق وفقه لما فيه رضاه ونصر به دينه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (8/ 245).

فقد وصلني كتابكم الكريم، وسرني كثيرا ما تضمنه من الموافقة على ما أوصيتكم به، فأسأل الله أن يزيدكم من التوفيق، ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم. وما ذكرتم حول المظاهرة فقد فهمته وعلمت ضعف سند الرواية بذلك كما ذكرتم، لأن مدارها على إسحاق بن أبي فروة وهو لا يحتج به، ولو صحت الرواية فإن هذا في أول الإسلام قبل الهجرة وقبل كمال الشريعة. ولا يخفى أن العمدة في الأمر والنهي وسائر أمور الدين على ما استقرت به الشريعة بعد الهجرة، أما ما يتعلق بالجمعة والأعياد ونحو ذلك من الاجتماعات التي قد يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، فكل ذلك من باب إظهار شعائر الإسلام وليس له تعلق بالمظاهرات كما لا يخفى. وأسأل الله أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا المزيد من العلم النافع والعمل به، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (¬1). ¬

(¬1) " مجموع فتاوى ومقالات متنوعة " لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (8/ 246).

أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - سؤال: الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر قولتكم أنكم تؤيدون ما تقوم به من اغتيالات للشرطة وحمل السلاح عموما، هل هذا صحيح؟ وما حكم فعلهم مع ذكر ما أمكن من الأدلة جزاكم الله خيرا؟ فأجاب رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آل وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فقد نصحنا إخواننا جميعا في كل مكان - أعني الدعاة - نصحناهم أن يكونوا على علم وعلى بصيرة، وأن ينصحوا الناس بالعبارات الحسنة والأسلوب الحسن والموعظة الحسنة وأن يجادلوا بالتي هي أحسن، عملا بقول الله سبحانه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: آية 125]، وقوله سبحانه: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت: آية: 46]، فالله جل وعلا أمر العباد بالدعوة إلى الله، وأرشدهم إلى الطريقة الحكيمة، وهي الدعوة إلى الله بالحكمة؛ يعني بالعلم: قال الله، قال رسوله، وبالموعظة الحسنة، وجدالهم بالتي هي أحسن، عند الشبهة يحصل الجدال بالتي هي أحسن والأسلوب الحسن حتى تزول الشبهة. وإن كان أحد من الدعاة في الجزائر قال عني أني قلت لهم: يغتالون

الشرطة، أو يستعملون السلاح في الدعوة إلى الله؛ هذا غلط ليس بصحيح؛ بل هو كذب. إنما تكون الدعوة بالأسلوب الحسن: قال الله، قال رسوله، بالتذكير والوعظ، والترغيب والترهيب هكذا الدعوة إلى الله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة المكرمة قبل أن يكون لهم سلطان؛ ما كانوا يدعون الناس بالسلاح، يدعون الناس بالآيات القرآنية والكلام الطيب والأسلوب الحسن؛ لأن هذا أقرب إلى الصلاح وأقرب إلى قبول الحق. أما الدعوة بالاغتيالات أو بالقتل أو بالضرب؛ فليس هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا من سنة أصحابه، لكن لما ولاه الله المدينة وانتقل إليها مهاجرا؛ كان السلطان له في المدينة، وشرع الله الجهاد وإقامة الحدود، جاهد عليه الصلاة والسلام المشركين وأقام الحدود بعد ما أمر الله بذلك. فالدعاة إلى الله عليهم أن يدعوا إلى الله بالأسلوب الحسن: بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وإذا لم تجد الدعوة، رفعوا الأمر للسلطان، ونصحوا للسلطان حتى ينفذ السلطان هو الذي يرفعون الأمر إليه، فينصحونه بأن الواجب كذا والواجب كذا؛ حتى يحصل التعاون بين العلماء وبين الرؤساء من الملوك والأمراء ورؤساء الجمهوريات، الدعاة يرفعون الأمر إليهم في الأشياء التي تحتاج إلى فعل: إلى سجن، إلى قتل، إلى إقامة حد، وينصحون ولاة الأمور، ويوجهونهم إلى الخير بالأسلوب الحسن والكلام الطيب، ولهذا قال جل وعلا: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت: آية 46].

فلو ظلم أحد من أهل الكتاب أو غيرهم؛ فعلى ولي الأمر أن يعامل بما يستحق، أما الدعاة إلى الله فعليهم بالرفق والحكمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه " (¬1). ويقول عليه الصلاة والسلام: " من يحرم الرفق يحرم الخير كله " (¬2). فعليهم أن يعظوا الناس ويذكروهم بالآيات والأحاديث ومن كان عنده شبهة يجادلونه بالتي هي أحسن: الآية معناها كذا، الحديث معناه كذا، قال الله كذا، قال رسوله كذا، حتى تزول الشبهة وحتى يظهر الحق. هذا هو الواجب على إخواننا في الجزائر وفي غير الجزائر، فالواجب عليهم أن يسلكوا مسلك الرسول عليه الصلاة والسلام حين كان في مكة والصحابة كذلك، بالكلام الطيب والأسلوب الحسن؛ لأن السلطان ليس لهم الآن بل لغيرهم، وعليهم أن يناصحوا السلطان والمسئولين بالحكمة، وحتى يتعاون الجميع في ردع المجرم وإقامة الحق. فالأمراء والرؤساء عليهم التنفيذ والعلماء والدعاة إلى الله عليهم النصيحة والبلاغ والبيان. نسأل الله للجميع الهداية. سؤال: قامت هذه الجماعة بقتل بعض النساء اللاتي أبين ارتداء الحجاب فهل يسوغ لهم هذا؟ ¬

(¬1) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب فضل الرفق برقم (2594). (¬2) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب فضل الرفق، حديث رقم (2595).

الجواب: هذا أيضا غلط لا يسوغ هذا، الواجب النصيحة؛ النصيحة للنساء حتى يحتجبن، والنصيحة لمن ترك الصلاة حتى يصلي، والنصيحة لمن يأكل الربا حتى يدع الربا، والنصيحة لمن يتعاطى الزنى حتى يدع الزنى، والنصيحة لمن يتعاطى شرب الخمر حتى يدع شرب الخمر، كل ينصح، ينصحون: قال الله وقال رسوله: بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويحذرونهم من غضب الله وعذاب يوم القيامة. أما الضرب أو القتل أو غير ذلك من أنواع الأذى فلا يصلح للدعاة، هذا ينفر من الدعوة، ولكن على الدعاة أن يتحلوا بالحلم والصبر والتحمل والكلام الطيب في المساجد وفي غيرها؛ حتى يكثر أهل الخير ويقل أهل الشر، حتى ينتفع الناس بالدعوة ويستجيبوا. ... سؤال: بماذا تنصحون من تورط في هذه الاغتيالات أو شيء من هذا يا شيخ؟ الجواب: أنصحهم بالتوابة إلى الله، وأن يلتزموا الطريقة التي سار عليها السلف الصالح بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، الله يقول: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} [فصلت: آية 33]، فلا يورطون أنفسهم في أعمال تسبب التضييق على الدعوة وإيذاء الدعاة وقلة العلم، ولكن إذا كانت الدعوة بالكلام الطيب؛ والأسلوب الحسن كثر الدعاة، وانتفع الناس بهم، وسمعوا كلامهم، واستفادوا منهم وحصل في المساجد وفي غير المساجد الحلقات

العلمية والمواعظ الكثيرة حتى ينتفع الناس. الله يهدي الجميع، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق. (¬1). سؤال: ما حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية؟ الجواب: هذا لا يجوز، الاعتداء لا يجوز على أي أحد، سواء كانوا سياحا أو عمالا؛ لأنهم مستأمنون، دخلوا بالأمان، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ولكن تناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم، بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور؛ لأن التعدي عليهم تعد على الناس قد دخلوا بالأمان فلا يجوز التعدي عليهم، ولكن يرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر. أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين فهذا مطلوب، وتعمه الأدلة الشرعية، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (¬2). ... ¬

(¬1) " فتاوى العلماء الأكابر " (61 - 68). (¬2) " مجموع الفتاوى " (8/ 239).

أجوبة الشيخ المحدث/ناصر الدين محمد الألباني - رحمه الله -

أجوبة الشيخ المحدث/ناصر الدين محمد الألباني - رحمه الله - سؤال: هناك داعية ألف كتابا يدعي فيه بأن الاغتيالات من السنن المهجورة، يحتج بقصة قتل كعب بن أبي الأشرف، وقتل اليهودي الذي اطلع على عورة امرأة مسلمة، فما رأي فضيلتكم بذلك؟ الجواب: ليت هذا المؤلف الذي تشير إليه يعرف السنن المهجورة ويشاركنا في إحيائها حقا، أما هذه التي زعم أنها سنة مهجورة، وأنه ينبغي إحياؤها في زمننا هذا؛ فهذا من جملة ما نشكو منه: الجهل بهدي النبي صلى الله عليه وسلم نحن نفهم الحادثة الأولى من القتل، وهي صحيحة، ونشك في صحة الحادثة الأخرى، ولكن سواء صحت هذه أو لم تصح، فالجواب عن الحادثة الأولى الصحيحة يشملها أيضا. نحن نقول: إن القتل بتلك الطريقة - التي قد يجوز في عرف بعض الناس أن يسميها اغتيالا - لم يكن قبل كل شيء قد وقع والمسلمون ضعفاء، وفي عهد الضعف، والمشركون يعذبونهم ألوان العذاب، وإنما كان والدولة الإسلامية قد بدأت تقوم قائمتها في المدينة المنورة التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أولا، وخلاصة ما أريد من ذلك أن أقول: إن هذا كان في وقت القوة والوحدة، وليس في وقت الضعف والتفرق. ثانيا: لم يكن عملا فرديا يندفع إليه صاحبه بعاطفة، ولو أنها عاطفة إسلامية، ولكنها ليست عاطفة مقرونة بالعلم الإسلامي الصحيح؛ وذلك لأن الذي باشر ذلك القتل إنما كان بتوجيه من الحاكم المسلم، وهو

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك فنحن نقول لهذا الذي يسمي ذلك القتل بالسنة المهجورة: اتخذ الأسباب الشرعية؛ التي أشرت إليها في أثناء كلامي السابق من التصفية والتربية؛ ليأخذ المسلمون طريقة البدء بإقامة دولة مسلمة في أرض من أراضي الله الواسعة، ويوم تقوم قائمة المسلمين، ويقوم عليهم رجل مسلم تتوفر فيه الشروط ليكون أميرا على جماعة مسلمة؛ فإذا هذا الأمير أمر بذلك الأمر وجب تنفيذه. أما أن ينطلق كل فرد يتصرف برأيه دون أن يكون مأمورا ممن يجب إطاعة أمره؛ فهذا ليس من السنة إطلاقا، بل هذا مما يدخل في القاعدة التي ندندن حولها دائما وأبدا، وهي من الحكمة بمكان عظيم، تؤكدها الحوادث التي نسمع عنها الشيء الكثير المؤسف، تلك القاعدة هي التي تقول: من استعجل الشيء قبل أوانه ابتلي بحرمانه. ذلك لأن الذي يسلك سبيل اغتيال رجل من الكفار، ولو له صولة وله دولة، فسيكون عاقبة ذلك أن ينتقم الكفار، ولأنهم أقوى من هذا المسلم ومن حوله؛ فستكون العاقبة ضعفا في المسلمين على ضعف، بينما تلك الحادثة كانت عاقبتها نصرا للمسلمين، فشتان بين هذه العاقبة وبين تلك العاقبة. والأمر كما قال عليه السلام، ولو في غير هذه المناسبة " إنما الأعمال بالخواتيم " (¬1) هذا جوابي عن هذه السنة المهجورة المزعومة (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (6128) وابن حبان في " الصحيح " (340) والترمذي في " السنن " (2137) وأحمد في " المسند " (5/ 33) وأبو عوانة في " المسند " (140). (¬2) " فتاوى الشيخ الألباني " لعكاشة عبد المنان (254).

أجوبة فضيلة الشيخ/صالح بن علي الغصون - رحمه الله -

أجوبة فضيلة الشيخ/صالح بن علي الغصون - رحمه الله - سؤال: في السنتين الماضيتين نسمع بعض الدعاة يدندن حول مسألة وسائل الدعوة وإنكار المنكر، ويدخلون فيها المظاهرات في باب الجهاد الإسلامي. أ - نرجو بيان ما إذا كانت هذه الأمور من الوسائل الشرعية أم تدخل في نطاق البدع المذمومة والوسائل الممنوعة؟ ب - نرجو توضيح المعاملة الشرعية لمن يدعو إلى هذه الأعمال ومن يقول بها ويدعو إليها؟ الجواب: الحمد لله: معروف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والإرشاد من أصل دين الله جل وعلا قال في محكم كتابه العزيز: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [النحل: آية 125] ولما أرسل عز وجل موسى وهارون إلى فرعون قال: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: آية 44]، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحكمة، وأمر بأن يسلك الداعية الحكمة، وأن يتحلى بالصبر، هذا في القرآن العزيز في سورة العصر، بسم الله الرحمن الرحيم {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: آية 1 - 3].

فالداعي إلى الله عز وجل، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ عليه أن يتحلى بالصبر، وعليه أن يحتسب الأجر والثواب، وعليه أيضا أن يتحمل ما قد يسمع، أو ما قد يناله في سبيل دعوته، وأما أن الإنسان يسلك مسلك العنف، أو أن يسلك مسلك - والعياذ بالله - أذى الناس، أو مسلك التشويش، أو مسلك الخلافات والنزاعات وتفريق الكلمة، فهذه أمور شيطانية، وهي أصل دعوة الخوارج؛ هذه أصل دعوة الخوارج، وهم الذين ينكرون المنكر بالسلاح، وينكرون الأمور التي لا يرونها وتخالف معتقداتهم، بالقتال، وبسفك الدماء، وبتكفير الناس، وما إلى ذلك من أمور، ففرق بين دعوة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح وبين دعوة الخوارج ومن نهج منهجهم وجرى مجراهم، دعوة الصحابة بالحكمة وبالموعظة، وببيان الحق، وبالصبر، وبالتحلي واحتساب الأجر والثواب، ودعوة الخوارج؛ بقتال الناس، وسفك دمائهم، وتكفيرهم، وتفريق الكلمة، وتمزيق صفوف المسلمين، هذه أعمال خبيثة، وأعمال محدثة. والذين يدعون إلى هذه الأمور: يجانبون، ويبعد عنهم، ويساء بهم الظن، هؤلاء فرقوا كلمة المسلمين، الجماعة رحمة، والفرقة نقمة وعذاب والعياذ بالله، ولو اجتمع أهل بلد واحد على الخير واجتمعوا على كلمة واحدة؛ لكان لهم مكانة وكانت لهم هيبة. لكن أهل البلد الآن أحزاب وشيع، تمزقوا، واختلفوا، ودخل عليهم الأعداء من أنفسهم ومن بعضهم على بعض، هذا مسلك بدعي، ومسلك خبيث، ومسلك مثلما تقدم: أنه جاء عن طريق الذين شقوا العصا، والذين

قاتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من الصحابة وأهل بيعة الرضوان، قاتلوه يريدون الإصلاح؛ وهم رأس الفساد، ورأس البدعة ورأس الشقاق، فهم الذين فرقوا كلمة المسلمين، وأضعفوا جانب المسلمين، وهكذا أيضا الذي يقول بها، ويتبناها، ويحسنها؛ فهذا سيئ المعتقد، ويجب أن يبتعد عنه، لأنه شخص ضار لأمته ولجلسائه ولمن هو من بينهم، والكلمة الحق أن يكون المسلم عامل بناء، وداعيا للخير؛ وملتمسا للخير تماما، ويقول الحق، ويدعو بالتي هي أحسن، وباللين، ويحسن الظن بإخوانه، ويعلم أن الكمال منال صعب، وأن المعصوم هو النبي صلى الله عليه وسلم وأن لو ذهب هؤلاء لم يأت أحسن منهم، فلو ذهب هؤلاء الناس الموجودون؛ سواء منهم الحكام أو المسئولون أو طلبة العلم أو الشعب، لو ذهب هذا كله - شعب أي بلد - لجاء أسوأ منه، فإنه لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، فالذي يريد من الناس أن يصلوا إلى درجة الكمال أو أن يكونوا معصومين من الأخطاء والسيئات، هذا إنسان ضال، هؤلاء هم الخوارج، هؤلاء هم الذين فرقوا كلمة الناس، وآذوهم، هذه مقاصد المناوئين لأهل السنة والجماعة بالبدع؛ من الرافضة والخوارج والمعتزلة وسائر ألوان أهل الشر والبدع (¬1). ¬

(¬1) " مجلة سفينة النجاة "، العدد الثاني يناير 1997.

أجوبة فضيلة الشيخ/د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - حفظه الله -

أجوبة فضيلة الشيخ/د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - حفظه الله - سؤال: هناك داعية من الجزائر ألف كتابا يدعي فيه بأن الاغتيالات من السنن المهجورة!! ويحتج بقصة قتل كعب بن الأشرف، وقتل اليهودي الذي اطلع على عورة المرأة المسلمة. فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ الجواب: ليس في قصة قتل كعب بن الأشرف دليل على جواز الاغتيالات، فإن قتل كعب بن الأشرف كان بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ولي الأمر، وكعب من رعيته بموجب العهد، وقد حصلت منه خيانة للعهد؛ اقتضت جواز قتله كفا لشره عن المسلمين، ولم يكن قتله بتصرف من آحاد الناس؛ أو بتصرف جماعة منهم من دون ولي الأمر؛ كما هو حال الاغتيالات المعروفة اليوم في الساحة، فإن هذه فوضى لا يقرها الإسلام؛ لما يترتب عليها من المضار العظيمة في حق الإسلام والمسلمين. سؤال: أحسن الله إليكم: هل القيام بالاغتيالات وعمل التفجيرات في المنشآت الحكومية في بلاد الكفار ضرورة وعمل جهادي؟ الجواب: الاغتيالات والتخريب هذا أمر لا يجوز؛ لأنه يجر على المسلمين شرا وتقتيلا وتشريدا، إنما المشروع مع الكفار الجهاد في سبيل الله، ومقابلتهم في المعارك، فإذا كان عند المسلمين استطاعة بأن يجهزوا الجيوش، ويغزوا الكفار، ويقاتلوهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وصار له أنصار وأعوان، أما التخريب والاغتيالات؛ فهذا يجر على

المسلمين شرا. الرسول صلى الله عليه وسلم يوم كان في مكة قبل الهجرة كان مأمورا بكف اليد، {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [النساء: آية 77] كان مأمورا بكف اليد عن قتال الكفار؛ لأنه لم يكن عنده استطاعة لقتال الكفار، ولو قتلوا أحدا من الكفار، لقتلهم الكفار عن آخرهم، واستأصلوهم عن آخرهم؛ لأنهم أقوى منهم، وهم تحت وطأتهم وشوكتهم. فالاغتيال يسبب قتل المسلمين الموجودين في البلد الذي يعيشون فيه كالذي تشاهدون الآن وتسمعون، فهو ليس من أمور الدعوة، ولا هو من الجهاد في سبيل الله، كذلك التخريب والتفجيرات، هذه تجر على المسلمين شرا كما هو حاصل، فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عنده جيش وأنصار؛ حينئذ أمر بجهاد الكفار. هل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يوم كانوا في مكة، هل كانوا يعملون هذه الأعمال؟ أبدا، بل كانوا منهيين عن ذلك. هل كانوا يخربون أموال الكفار حين كانوا في مكة؟ أبدا، كانوا منهيين عن ذلك. مأمورين بالدعوة والبلاغ فقط، أما الإلزام والقتال، فهذا إنما كان في المدينة لما صار للإسلام دولة.

وسئل - حفظه الله -: هل التنظيمات السرية مشروعة في الإسلام؟ وخاصة في البلاد التي يهاجم فيها الإسلام وأهله؟ الجواب: يقول الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ويقول جل وعلا: {فاتقوا الله ما استطعتم}، والمسلمون مع أعدائهم لهم حالتان: الحالة الأولى: أن لا يكون للمسلمين دولة تحميهم، ولا قوة تمنعهم من عدوهم، ففي هذه الحالة يجب على المسلمين الدعوة إلى الله والبيان باللسان فقط؛ كحالة المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، ولا يجوز لهم في هذه الحالة أن يقوموا بالاغتيالات والتنظيمات السرية؛ التي تجر عليهم الضرر، وتسلط العدو عليهم؛ لأن المضرة في هذه الاغتيالات والتنظيمات أرجح من المصلحة. الحالة الثانية: أن يكون للمسلمين دولة، ولهم قوة ومنعة؛ ففي هذه الحالة يجب عليهم شيئان: الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله؛ من غير غدر ولا خيانة، كالحالة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعد الهجرة إلى المدينة. وهذا التقسيم الذي قلته مستفاد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم القدوة للمسلمين إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (¬1). ¬

(¬1) جريدة المسلمون العدد (32) بواسطة: كيف نعالج واقعنا الأليم (102).

فتاوى الأئمة في حكم اختطاف الطائرات وبني الإنسان

فتاوى الأئمة في حكم اختطاف الطائرات وبني الإنسان

بيان من مجلس هيئة كبار العلماء حول حوادث التخريب

بيان من مجلس هيئة كبار العلماء حول حوادث التخريب الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية والثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من 8/ 1/1409 إلى 12/ 1/1409 بناء على ما ثبت لديه من وقوع عدة حوادث تخريب ذهب ضحيتها الكثير من الناس الأبرياء، وتلف بسببها كثير من الأموال والممتلكات والمنشآت العامة في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها، قام بها بعض ضعاف الإيمان أو فاقديه من ذوي النفوس المريضة والحاقدة، ومن ذلك: نسف المساكن، وإشعال الحرائق في الممتلكات العامة، ونسف الجسور والأنفاق، وتفجير الطائرات أو خطفها، وحيث لوحظ كثرة وقوع مثل هذه الجرائم في عدد من البلاد القريبة والبعيدة، وبما أن المملكة العربية السعودية كغيرها من البلدان القريبة والبعيدة، وبما أن المملكة العربية السعودية كغيرها من البلدان عرضة لوقوع مثل هذه الأعمال التخريبية، فقد رأى مجلس هيئة كبار العلماء ضرورة النظر في تقرير عقوبة رادعة لمن يرتكب عملا تخريبيا، سواء كان موجها ضد المنشآت العامة والمصالح الحكومية، أو كان موجها لغيرها بقصد الإفساد والإخلال بالأمن. وقد اطلع المجلس على ما ذكره أهل العلم من أن الأحكام الشرعية

تدور من حيث الجملة على وجوب حماية الضروريات الخمس، والعناية بأسباب بقائها مصونة سالمة وهي: (الدين والنفس والعرض والعقل والمال). وقد تصور المجلس الأخطار العظيمة التي تنشأ عن جرائم الاعتداء على حرمات المسلمين في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، وما تسببه الأعمال التخريبية من الإخلال بالأمن العام في البلاد، ونشوء حالة الفوضى والاضطراب، وإخافة المسلمين وإتلاف ممتلكاتهم. والله سبحانه وتعالى قد حفظ للناس أديانهم وأبدانهم وأرواحهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم بما شرعه من الحدود والعقوبات التي تحقق الأمن العام والخاص، ومما يوضح ذلك قوله سبحانه وتعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة: آية 32]. وقوله سبحانه وتعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: آية 33]. وتطبيق ذلك كفيل بإشاعة الأمن والاطمئنان، وردع من تسول له نفسه الإجرام والاعتداء على المسلمين في أنفسهم وممتلكاتهم، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وغيرها على السواء، لقوله سبحانه: {ويسعون في الأرض فسادا}.

والله تعالى يقول: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: آية 204 - 205]. وقال تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: آية 56]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح، فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد، فنهى تعالى عن ذلك ". وقال القرطبي: " نهى سبحانه وتعالى عن كل فساد، قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر، فهو على العموم على الصحيح من الأقوال ". وبناء على ما تقدم، ولأن ما سبق إيضاحه يفوق أعمال المحاربين الذين لهم أهداف خاصة يطلبون حصولهم عليها من مال أو عرض، وهؤلاء هدفهم زعزعة الأمن وتقويض بناء الأمة، واجتثاث عقيدتها، وتحويلها عن المنهج الرباني: فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي: أولا: من ثبت شرعا أنه قام بعمل من أعمال التخريب والإفساد في الأرض التي تزعزع الأمن، بالاعتداء على النفس والممتلكات الخاصة أو العامة؛ كنسف المساكن أو المساجد أو المدارس أو المستشفيات والمصانع والجسور ومخازن الأسلحة والمياه والموارد العامة لبيت المال؛ كأنابيب البترول، ونسف الطائرات أو خطفها ونحو ذلك: فإن عقوبته

القتل، لدلالة الآيات المتقدمة على أن مثل هذا الإفساد في الأرض يقتضي إهدار دم المفسد، ولأن خطر هؤلاء الذين يقومون بالأعمال التخريبية وضررهم أشد من خطر وضرر الذي يقطع الطريق فيعتدي على شخص فيقتله أو يأخذ ماله، وقد حكم الله عليه بما ذكر في آية الحرابة. ثانيا: أنه لا بد قبل إيقاع العقوبة المشار إليها في الفقرة السابقة من استكمال الإجراءات الثبوتية اللازمة من جهة المحاكم الشرعية وهيئات التمييز ومجلس القضاء الأعلى؛ براءة للذمة واحتياطا للأنفس، وإشعارا بما عليه هذه البلاد من التقيد بكافة الإجراءات اللازمة شرعا لثبوت الجرائم وتقرير عقابها. ثالثا: يرى المجلس إعلان هذه العقوبة عن طريق وسائل الإعلام. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. مجلس هيئة كبار العلماء الرئيس عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد العزيز بن صالح عبد الرزاق عفيفي محمد بن إبراهيم جبير سليمان بن عبيد راشد بن صالح بن خنين

عبد المجيد حسن صالح بن علي الغصون عبد الله بن عبد الرحمن الغديان صالح بن محمد اللحيدان عبد الله بن سليمان المنيع محمد بن صالح العثيمين عبد الله بن عبد الرحمن البسام حسن بن جعفر العتمي د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان د. عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

أجوبة سماحة/عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -

أجوبة سماحة/عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - الحمد لله، والصلاة السلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فمن المعلوم لدى كل من له أدنى بصيرة أن اختطاف الطائرات، وبني الإنسان من السفارات وغيرها، ومن الجرائم العظيمة العالمية، التي يترتب عليها من المفاسد الكبيرة والأضرار العظيمة، وإضاقة الأبرياء، وإيذائهم ما لا يحصيه إلا الله. كما أن من المعلوم أن هذه الجرائم لا يخص ضررها وشرها دولة دون دولة ولا طائفة دون طائفة، بل يعم العالم كله، ولا ريب أن ما كان من الجرائم بهذه المثابة؛ فإن الواجب على الحكومات والمسئولين من العلماء وغيرهم: أن يعنوا به غاية العناية، وأن يبذلوا الجهود الممكنة لحسم شره، والقضاء عليه، وقد أنزل الله كتابه الكريم تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وبعث نبيه محمدا رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، وأوجب على جميع الثقلين: الحكم بشريعته، والتحاكم إليها، ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: آية 65]، وقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: آية 50]، وقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء، آية: 59].

وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه الكريم، وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وقال سبحانه: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: آية 10]. فهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها: كلها تدل على وجوب رد ما تنازع فيه الناس إلى الله سبحانه، وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك هو الرد إلى حكم الله عز وجل، والحذر مما خالفه في جميع الأمور. ومن أهم ذلك: الأمور التي يعم ضررها وشرها كالاختطاف، فإن الواجب على الدولة التي يقع في يدها الخاطفون: أن تحكم فيهم شرع الله، لما يترتب على جريمتهم الشنيعة من الحقوق لله، والحقوق لعباده، والأضرار الكثيرة، والمفاسد العظيمة، وليس لذلك حل يقطع دابرها، ويحسم شرها؛ إلا الحل الذي وضعه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، في كتابه الكريم وبعث به أنصح الخلق وأفضلهم، وأرحمهم سيد الأولين والآخرين، محمدا عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وهو الحل الذي يجب أن يفهمه الخاطفون والمخطوفون، ومن له صلة بهم وغيرهم، وأن تنشرح له صدورهم إن كانوا مؤمنين، فإن لم يكونوا مؤمنين فقد أمر الله

نبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم الشرع فيهم، كما في قوله سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة: آية 49]، وقوله عز وجل: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: آية 42]. وبناء على ما ذكرنا فإن الواجب على كل دولة يلجأ إليها الخاطفون: تكوين لجنة من علماء الشرع الإسلامي، للنظر في القضية، ودراستها من جوانبها، والحكم فيها بشرع الله، وعلى هؤلاء العلماء أن يحكموا في القضية على ضوء الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يستضيئوا في ذلك بما ذكره علماء الشرع عند آية المحاربة من سورة المائدة، وما ذكره العلماء في كل مذهب في: " باب حكم قطاع الطريق "، ثم يصدروا حكمهم؛ معززا بالأدلة الشرعية، وعلى الحكومة التي لجأ إليها الخاطفون تنفيذ الحكم الشرعي، طاعة لله، وتعظيما لأمره، وتنفيذا لشرعه، وحسما لمادة هذه الجرائم العظيمة، ورغبة في تحقيق الأمن ورحمة المخطوفين وإنصافهم. أما القوانين التي وضعها الناس لذلك من غير استناد إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فكلها من وضع البشر، ولا يجوز لأهل الإسلام التحاكم إليها، وليس بعضها أولى بالتحاكم إليه من بعض؛ لأنها كلها من حكم الجاهلية، ومن حكم الطاغوت الذي حذر الله منه، ونسب إلى المنافقين الرغبة في التحاكم إليه، كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء: آية 60 - 61].

فلا يجوز لأهل الإسلام أن يتشبهوا بأعداء الله المنافقين؛ بالتحاكم إلى غير الله، والصدود عن حكم الله ورسوله. ولا يجوز أن يحتج بما وقع فيه أغلب المسلمين اليوم من التحاكم إلى القوانين الوضعية، فإن ذلك لا يبرره ولا يجعله جائزا، بل هو من أنكر المنكرات؛ وإن وقع فيه الأكثرون، وليس وقوع الأكثر في أمر من الأمور دليلا على جوازه، كما قال سبحانه: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [الأنعام: آية 116]. وكل حكم يخالف شرع الله فهو من حكم الجاهلية، قال سبحانه: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: آية 50]. وأخبر سبحانه أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر وظلم وفسق، فقال سبحانه في سورة المائدة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: آية 44]، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45]، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47]. وهذه الآيات وما جاء في معناها، توجب على المسلمين: الحذر من الحكم بغير ما أنزل الله، والبراءة منه، والمبادرة إلى حكم الله ورسوله، وانشراح الصدر به، والتسليم له، وإذا كانت الحادثة يعم ضررها:

كالخطف، كان وجوب رد الحكم فيها إلى الله ورسوله آكد من غيرها، وأعظم في الوجوب لأن الله سبحانه هو الحكيم الخبير، وهو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وهو العالم بما يصلح عباده، ويدفع عنهم الضرر، ويحسم عنهم الفساد في حاضرهم ومستقبلهم، فوجب أن يردوا الحكم فيما تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأن فيهما الكفاية، والمقنع، والحل لكل مشكل، والقضاء على كل شر؛ لمن تمسك بهما، واستقام عليهما، وحكم بهما وتحاكم إليهما، كما سبق بيان ذلك في الآيات المحكمات. ولعظم هذه الجريمة وخطورتها، رأيت أن من الواجب تحرير هذه الكلمة نصحا للأمة، وبراءة للذمة، وتذكيرا للعموم بهذا الواجب العظيم، وتعاونا مع المسئولين على البر والتقوى. والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين ويهديهم صراطه المستقيم، ويوفق حكوماتهم للحكم بالشريعة الإسلامية، والتحاكم إليها، والتمسك بها في جميع الأمور، إنه جواد كريم. وصلى الله على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (¬1). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (1/ 272)

فتاوى الأئمة في حكم الإضرابات والاعتصامات

فتاوى الأئمة في حكم الإضرابات والاعتصامات

أجوبة سماحة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -

أجوبة سماحة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - سؤال: ما حكم الإضراب عن العمل في بلد مسلم؛ للمطالبة بإسقاط النظام العلماني؟ فأجاب حفظه الله قائلا: " هذا السؤال لا شك أن له خطورته بالنسبة لتوجيه الشباب المسلم، وذلك أن قضية الإضراب عن العمل؛ سواء كان هذا العمل خاصا أو بالمجال الحكومي؛ لا أعلم لها أصلا من الشريعة يبنى عليه، ولا شك أنه يترتب عليه أضرار كثيرة حسب حجم هذا الإضراب شمولا، وحسب حجم هذا الإضراب ضرورة. ولا شك أنه من أساليب الضغط على الحكومات، والذي جاء في السؤال أن المقصود به إسقاط النظام العلماني، وهنا يجب علينا إثبات أن النظام علماني أولا، ثم إذا كان الأمر كذلك؛ فليعلم أن الخروج على السلطة لا يجوز إلا بشروط ... " (¬1). وسئل فضيلته أيضا: بعد الإضراب يقدم الذين أضربوا مطالبهم وفي حالة عدم الاستجابة لهذه المطالب، هل يجوز مواجهة النظام بتفجير ثورة شعبية؟ فأجاب رحمه الله تعالى قائلا: لا أرى أن تقام ثورة شعبية في هذه الحال؛ لأن القوة المادية بيد الحكومة كما هو معروف، والثورة الشعبية ¬

(¬1) " الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات " (168).

ليس بيدها إلا سكين المطبخ وعصا الراعي، وهذا لا يقاوم الدبابات والأسلحة، لكن يمكن أن يتوصل إلى هذا من طريق آخر إذا تمت الشروط السابقة، ولا ينبغي أن نستعجل الأمر؛ لأن أي بلد عاش سنين طويلة مع الاستعمار لا يمكن أن يتحول بين عشية وضحاها إلى بلد إسلامي، بل لا بد أن نتخذ طول النفس لنيل المآرب. فالإنسان إذا بنى قصرا فقد أسس؛ سواء سكنه أو فارق الدنيا قبل يسكنه، فالمهم أن يبنى الصرح الإسلامي؛ وإن لم يتحقق المراد إلا بعد سنوات، فالذي أرى ألا نتعجل في مثل هذه الأمور، ولا نثير أو نفجر ثورة شعبية غالبها غوغائية لا تثبت على شيء، لو تأتى القوات إلى حي من الأحياء وتقضي على بعضه لكان كل الآخرين يتراجعون عما هم عليه " (¬1). ¬

(¬1) " الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات " (170).

فتاوى الأئمة في العمليات الانتحارية

فتاوى الأئمة في العمليات الانتحارية

من أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -

من أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - السؤال: وهذا يقول: ما حكم من يلغم نفسه ليقتل بذلك مجموعة من اليهود؟ الجواب: الذي أرى وقد نبهنا له غير مرة: أن هذا لا يصح؛ لأنه قتل للنفس، والله تعالى يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم}، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة " (¬1). يسعى في حماية نفسه، وإذا شرع الجهاد جاهد مع المسلمين، فإن قتل فالحمد لله، أما أنه يقتل نفسه يضع اللغم في نفسه حتى يقتل معهم: غلط لا يجوز، أو يطعن نفسه معهم، ولكن يجاهد إذا شرع الجهاد مع المسلمين، أما عمل أبناء فلسطين فهذا غلط، لا يصلح، إنما الواجب عليهم الدعوة إلى الله والتعليم والإرشاد والنصيحة من دون العمل (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (108) والبخاري (5700) وابن حبان في " صحيحه " (4366) والدارمي في " السنن " (3261) والشافعي (1/ 198) وأبو داود في " السنن " (3257) والنسائي في " السنن الكبرى " (4755). (¬2) شريط: " أقوال العلماء في الجهاد " الناشر: تسجيلات منهاج السنة بالرياض.

أجوبة سماحة/محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -

أجوبة سماحة/محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - قال رحمه الله في شرح حديث أصحاب الأخدود (¬1)، محددا الفوائد المستنبطة منه: " إن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه؛ وهو أن يأخذ سهما من كنانته .. قال شيخ الإسلام: " لأن هذا جهاد في سبيل الله، آمنت أمة وهو لم يفتقد شيئا لأنه مات، وسيموت آجلا أو عاجلا ". فأما ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار، ثم يفجرها إذا كان بينهم؛ فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله، ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام (¬2). لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام؛ لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مائة أو مائتين، لم ينفع الإسلام بذلك، فلم يسلم الناس، بخلاف قصة الغلام، وبهذا ربما يتعنت العدو أكثر ويوغر صدره هذا العمل، حتى يفتك بالمسلمين أشد فتك. ¬

(¬1) القصة أخرجها مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود، حديث رقم (3005). (¬2) إشارة للحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه، حديث رقم (5778).

كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين، فإن أهل فلسطين إذا مات الواحد منهم بهذه المتفجرات وقتل ستة أو سبعة؛ أخذوا من جراء ذلك ستين نفرا أو أكثر فلم يحصل في ذلك نفع للمسلمين، ولا انتفاع للذين فجرت المتفجرات في صفوفهم. ولهذا نرى أن ما يفعله بعض الناس من هذا الانتحار، نرى أنه قتل للنفس بغير حق، وأنه موجب لدخول النار والعياذ بالله، وأن صاحبه ليس بشهيد، لكن إذا فعل الإنسان هذا متأولا ظانا أنه جائز، فإننا نرجو أن يسلم من الإثم، وأما أن تكتب له الشهادة فلا، لأنه لم يسلك طريق الشهادة، ومن اجتهد واخطأ فله أجر (¬1). سؤال: ما الحكم الشرعي فيمن يضع المتفجرات في جسده، ويفجر نفسه بين جموع الكفار نكاية بهم؟ وهل يصح الاستدلال بقصة الغلام الذي أمر الملك بقتله؟ الجواب: الذي يجعل المتفجرات في جسمه من أجل أن يضع نفسه في مجتمع من مجتمعات العدو، قاتل لنفسه، وسيعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم، خالدا فيها مخلدا، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه في شيء يعذب به في نار جهنم. وعجبا من هؤلاء الذين يقومون بمثل هذه العمليات، وهم يقرءون قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29] ¬

(¬1) " شرح رياض الصالحين " (1/ 165 - 166).

ثم يفعلوا ذلك، هل يحصدون شيئا؟ هل ينهزم العدو؟ أم يزداد العدو شدة على هؤلاء الذين يقومون بهذه التفجيرات، كما هو مشاهد الآن في دولة اليهود، حيث لم يزدادوا بمثل هذه الأفعال إلا تمسكا بعنجهيتهم، بل إنا نجد أن الدولة اليهودية في الاستفتاء الأخير نجح فيها (اليمينيون) الذين يريدون القضاء على العرب. ولكن من فعل هذا مجتهدا ظانا أنه قربة إلى الله عز وجل فنسأل الله تعالى ألا يؤاخذه لأنه متأول جاهل. وأما الاستدلال بقصة الغلام، فقصة الغلام حصل فيها دخول في الإسلام، لا نكاية في العدو، ولذلك لما جمع الملك الناس؛ وأخذ سهما من كنانة الغلام؛ وقال: باسم الله رب الغلام؛ صاح الناس كلهم، الرب رب الغلام، فحصل فيه إسلام أمة عظيمة، فلو حصل مثل هذه القصة لقلنا: إن هناك مجالا للاستدلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قصها علينا لنعتبر بها، لكن هؤلاء الذين يرون تفجير أنفسهم إذا قتلوا عشرة أو مائة من العدو، فإن العدو لا يزداد إلا حنقا عليهم وتمسكا بما هم عليه. وسئل - رحمه الله -: بعضهم يقول: إنه يقوم بعملية جهادية على شكل انتحاري، وكمثال على ذلك: ما يفعله أحدهم من تلغيم سيارته بالمتفجرات، واقتحام العدو، وهو يعلم أنه سيموت في هذا الحادث لا محالة؟ فأجاب رحمه الله: رأيي في هذا أنه قاتل نفسه، وأنه سيعذب في جهنم بما قتل به نفسه، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

لكن الجاهل الذي لا يدري، وفعله على أنه حسن مرضي عند الله، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه، لكونه فعل هذا اجتهادا. وإن كنت أرى أنه لا عذر له في الوقت الحاضر؛ لأن هذا النوع من قتل النفس اشتهر وانتشر بين الناس، وكان على الإنسان أن يسأل عنه أهل العلم، حتى يتبين له الرشد من الغي. ومن العجب أن هؤلاء يقتلون أنفسهم مع أن الله نهى عن ذلك وقال: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}، وكثير منهم لا يريدون إلا الانتقام من العدو على أي وجه كان؛ سواء كان حراما أم حلالا، فهو يريد أن يشفي غليله فقط، ويروي غليله. ونسأل الله أن يرزقنا البصيرة في دينه والعمل بما يرضيه إنه على كل شيء قدير (¬1). ... ¬

(¬1) مجلة الدعوة العدد (1598).

فتاوى الأئمة في حكم التطرف والتكفير وشيء من صفات الخوارج

فتاوى الأئمة في حكم التطرف والتكفير وشيء من صفات الخوارج

قال الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - رحمه الله -

قال الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - رحمه الله -: " فما ينبغي لك يا فقيه أن تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله، وانهتك باطنه وزندقته، فلا هذا ولا هذا، بل العدل: أن من رآه المسلمون صالحا محسنا فهو كذلك؛ لأنهم شهداء الله بأرضه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة، من رآه المسلمون فاجرا أو منافقا أو مبطلا فهو كذلك. وأن من كان طائفة من الأمة تضلله، وطائفة من الأمة تثني عليه وتبجله، وطائفة ثالثة تقف منه وتتورع من الحط عليه، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه، وأن يفوض أمره إلى الله، وأن يستغفر له في الجملة؛ لأن إسلامه أصلي بيقين، وضلاله مشكوك فيه، فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغل للمؤمنين. ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم، مؤمنهم وفاسقهم، وسنيهم ومبتدعهم - سوى الصحابة - لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصديق فرد الأمة وقد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر، وكذلك عثمان، وكذلك علي، وكذلك ابن الزبير، وكذلك الحجاج، وكذلك المأمون، وكذلك بشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل، والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جرا من الأعيان من الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة

المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في التجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له ويذبون عنه ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول الجمهور؛ الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم، فتدبر - يا عبد الله - نحلة الحلاج الذي هو من رءوس القرامطة، ودعاة الزندقة وأنصف وتورع، واتق ذلك، وحاسب نفسك، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل أو بحق؛ فتبرأ من نحلته، وإن تبرهن لك والعياذ بالله أنه كان - والحالة هذه - محقا هاديا مهديا فجدد إسلامك، واستغث بربك أن يوفقك للحق، وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك ولم يسألك الله عنه أصلا (¬1) ". ¬

(¬1) " سير أعلام النبلاء " (14/ 343).

بيان من هيئة كبار العلماء في التكفير والتفجير

بيان من هيئة كبار العلماء في التكفير والتفجير الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء - في دورته التاسعة والأربعين - المنعقدة بالطائف، ابتداء من تاريخ (2/ 4/1419هـ) ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها، من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت. ونظرا إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة وإخافة للناس، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم: فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك؛ نصحا لله ولعباده وإبراء للذمة، وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق: أولا: التكفير حكم شرعي، مرده إلى الله ورسوله؛ فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب: إلى الله ورسوله؛ فكذلك التكفير. وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفرا أكبر مخرجا عن الملة. ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله: لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة؛ فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة.

وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات - مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير - فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات. ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: " أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه " (¬1). وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم من أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به، لوجود مانع يمنع من كفره. وهذا الحكم كغيره من الأحكام؛ التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها، كما في الإرث؛ سببه القرابة - مثلا - وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين، وهكذا الكفر: يكره عليه المؤمن؛ فلا يكفر به. وقد ينطق المسلم كلمة الكفر؛ لغلبة فرح، أو غضب، أو نحوهما: فلا يكفر بها لعدم القصد؛ كما في قصة الذي قال: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطا من شدة الفرح " (¬2). والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة؛ من استحلال الدم ¬

(¬1) البخاري في كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، حديث رقم (6104)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر، حديث رقم (60). (¬2) رواه مسلم في كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، حديث رقم (2747).

والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتب على الردة. فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة؟!. وإذا كان هذا في ولاة الأمور: كان أشد، لما يترتب عليه من التمرد عليهم، وحمل السلاح عليهم، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد. ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من منابذتهم، فقال: " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان (¬1). فأفاد قوله: " إلا أن تروا " أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة. وأفاد قوله: " كفرا " أنه لا يكفي الفسوق ولو كبر، كالظلم، وشرب الخمر، ولعب القمار، والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: " بواحا " أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح، أي: صريح ظاهر. وأفاد قوله: " عندكم من الله فيه برهان " أنه لا بد من دليل صريح بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة؛ فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة. وأفاد قوله: " من الله " أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة، إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح؛ من كتاب ¬

(¬1) رواه مسلم (1709) والبخاري (6644) وأحمد في " المسند " (5/ 314) وأبو عوانة في " المسند " (7124).

الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه القيود تدل على خطورة الأمر. وجملة القول: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عز وجل: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: آية 33]. ثانيا: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات وتخريب المنشآت: فهذه الأعمال وأمثالها محرمة شرعا بإجماع المسلمين لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها. وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم، وأعراضهم، وأبدانهم، وحرم انتهاكها، وشدد في ذلك؛ وكان من آخر ما بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، فقال في خطبة الوداع: " فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد " متفق عليه (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، حديث رقم (1741)، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (1679).

وقال صلى الله عليه وسلم: " كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه " (¬1). وقال عليه الصلاة السلام: " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " (¬2). وقد توعد الله سبحانه من قتل نفسا معصومة بأشد الوعيد، فقال سبحانه في حق المؤمن: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} [النساء: آية 93]. وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: آية 92]، فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قتل عمدا؟! فإن الجريمة تكون أعظم والإثم يكون أكبر. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة " (¬3). ثالثا: أن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس؛ بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخطورة إطلاق ذلك؛ لما يترتب عليه من شرور وآثار، فإنه يعلن للعالم: أن الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن ¬

(¬1) في كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، حديث رقم (2564). (¬2) رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، حديث رقم (2578). (¬3) البخاري في كتاب الجزية، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم، حديث رقم (3166).

والمركبات، والمرافق العامة والخاصة وتخريب للمنشآت: هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه. وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه؛ وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف، وعقيدة ضالة، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنة، المستمسكين بحبل الله المتين؛ وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة بتحريمه؛ محذرة من مصاحبة أهله: قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: آية 204 - 206]. والواجب على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحق والتناصح، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [المائدة: آية 2]. وقال سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} [التوبة: آية 71].

وقال عز وجل: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: آية 1 - 3]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " (¬2). والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ أن يكف البأس عن جميع المسلمين، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين، إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن ينصر بهم الحق. إنه ولي ذلك، والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. هيئة كبار العلماء رئيس المجلس ¬

(¬1) رواه مسلم في " الصحيح " (55) والبخاري (56) والترمذي في " السنن " (1926) وأبو داود في " السنن " (4944). (¬2) البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، حديث رقم (6011)، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، حديث رقم (2586).

عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد بن إبراهيم جبير راشد بن صالح بن خنين صالح بن محمد اللحيدان د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان عبد الله بن عبد الرحمن الغديان عبد الله بن سليمان المنيع حسن بن جعفر العتمي عبد الله بن عبد الرحمن البسام محمد بن صالح العثيمين محمد بن عبد الله السبيل ناصر بن حمد الراشد عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي محمد بن سليمان البدر د. عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ د. بكر بن عبد الله أبو زيد محمد بن زايد آل سليمان د. عبد الله بن عبد المحسن التركي د. صالح بن عبد الرحمن الأطرم د. عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان

أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -

أجوبة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - سؤال: إذن شيخنا كيف نعالج مشكلة التطرف؟ الجواب: بالتعليم والتوجيه من العلماء، إذا عرفوا عن إنسان أنه يزيد ويبتدع بينوا له، مثل الذي يكفر العصاة وهذا دين الخوارج، الخوارج هم الذين يكفرون بالمعاصي، ولكن يعلم أن عليه التوسط؛ العاصي له حكمه، والمشرك له حكمه، والمبتدع له حكمه، فيعلم، ويوجه إلى الخير؛ حتى يهتدي، وحتى يعرف أحكام الشرع وينزل كل شيء منزلته، فلا يجعل العاصي في منزلة الكافر، ولا يجعل الكافر في منزلة العاصي، فالعصاة الذين ذنوبهم دون الشرك، كالزاني، والسارق وصاحب الغيبة والنميمة، وآكل الربا؛ هؤلاء لهم حكم، وهم تحت المشيئة إذا ماتوا على ذلك، والمشرك الذي يعبد أصحاب القبور، ويستغيث بالأموات من دون الله له حكم؛ وهو الكفر بالله عز وجل، والذي يسب الدين، أو يستهزئ بالدين له حكم، هو: الكفر بالله. فالناس طبقات وأقسام، ليسوا على حد سواء، لا بد أن ينزلوا منازلهم، ولا بد أن يعطوا أحكامهم، بالبصيرة والبينة، لا بالهوى والجهل، بل بالأدلة الشرعية، وهذا على العلماء. فعلى العلماء أن يوجهوا الناس، وأن يرشدوا الشباب الذين قد يخشى منهم التطرف أو الجفاء والتقصير، فيعلمون؛ لأن علمهم قليل، فيجب أن يوجهوا إلى الحق (¬1). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (8/ 236).

أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

أجوبة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ أشار سماحته في رده على سؤال في درسه بالمسجد الحرام في كيفية التعامل مع من ينتهج هذا النهج فقال: إن الكثير ممن اعتنق هذا الفكر هم جهلة غرر بهم؛ لقلة علمهم وبصيرتهم، فقبلوا هذه الآراء التكفيرية من قبل فئة اتخذوا هذا النهج لتحقيق غاياتهم المشبوهة، فجاءوا بهذه الأفكار ليخدعوا بها قليلي العلم والفهم والبصيرة. ولكن الواجب على كل إنسان يعرف من يعتقد هذا المعتقد أن يذكره بالله، ويبين له بطلان معتقده ومنهجه، فإن ارتدع وعاد إلى رشده؛ فهذا المطلوب، وإن استمر في باطله ولم ينزجر؛ فلا يترك هؤلاء يفسدون على شبابنا دينهم، ففكرة التكفير خطيئة سيئة، ويوجد وراءها من يريدون الإضرار بالأمة فيسلكون كل سبيل ليحققوا أغراضهم. فأنصح إخواني بالحذر من الدعوات التي تكفر المجتمعات المسلمة، وتدعو إلى الخروج على الأئمة وحمل السلاح على المسلمين، كما أنني أنصح من يفتي هؤلاء بأن يتقي الله في نفسه، ويتقي الله في عباده المسلمين، ويتقي الله في المجتمعات المسلمة، وليعلم أن هذه الجادة جادة أهل البدع. فالسف الصالح أبعد وأسلم عن هذه الجادة الخاطئة، بل كانوا يحثون على السمع والطاعة، والصبر على الأئمة، حتى وإن جاروا أو

ظلموا، وينهون عن الخروج على الأئمة حقنا لدماء المسلمين وجمعا لكلمتهم، وتوحيدا لصفهم. فاتقوا الله في المسلمين، واحذروا سخط الله وعقابه، ومن لم يتب من هؤلاء المفتين (بغير علم) فيجب على أهل الإسلام الحذر والتحذير منهم والبعد منهم. وقى الله المسلمين الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن (¬1). ويقول سماحة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله -: من المعلوم أن الحكم بالتكفير يحتاج إلى شيئين مهمين: الأول: دلالة النص على أن هذا كفر، وكفر مخرج من الملة، لأن في النصوص ما يطلق عليه كفر وليس بكفر مخرج عن الملة، فلا بد أن تعلم أن النص دل على أن هذا العمل كفر، أو هذا الترك كفرا مخرجا عن الملة. الثاني: تطبيق هذا النص على من صدر منه الفعل الذي دل النص على أنه كفر؛ لأنه ليس من فعل المكفر يكون كافرا، كما دلت عليه النصوص من القرآن والسنة. أما الكتاب: فقال الله - عز وجل -: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} (¬2). ¬

(¬1) جريدة عكاظ 776 بتاريخ 4/ 6/1424. (¬2) سورة النحل الآية: (106).

فإذا أكره الإنسان على الكفر قولا كان أو فعلا ففعل ما أكره عليه فقد دل الكتاب العزيز على أنه لا يكفر، مع أن الفعل كفر. مثال ذلك: إنسان أكره على أن يسجد لصنم فسجد، فالسجود للصنم كفر لا إشكال فيه، لكنه مكره وقلبه مطمئن بالإيمان، يؤمن بأن هذا الصنم لا يستحق أن يسجد له، وأن السجود له كفر، فلا شيء عليه. وإنسان أكره على أن يقول كلمة الكفر، فيقول: إن الله ثالث ثلاثة، أيكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؟ الجواب: لا يكفر. وأما السنة: فقد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن فرح الله تعالى بتوبة العبد، وأخبر أن الله أشد فرحا بتوبة العبد من رجل أضل ناقته وعليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، واضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا هو بناقته قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح (¬1). هل هو كافر؟ الجواب: لا. كذلك الرجل الذي كان مسرفا على نفسه، وخاف من عقوبة الله فقال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني وذروني في اليم، فوالله لئن قدر علي ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2747). من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

ربي لعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، ففعلوا - فجمعه الله عز وجل - ثم سأله، وأخبره أنه فعل ذلك خوفا من الله - ظن أن الله لا يقدر عليه - فغفر الله له (¬1)، مع أن الشك في قدرة الله كفر؛ لأنه لم يرد أن يصف الله بالعجز، ولكن خوفا من الله عز وجل -، فظن أن هذا الفرار من الله يمكنه أن ينجو به من عقابه. إذا يا إخواني لا بد من أمرين هامين في التكفير: الأمر الأول: دلالة النصوص على أن هذا كفر وكفر مخرج عن الملة. الثاني: انطباق هذا الحكم على الشخص المعين؛ لأنه قد تكون هناك موانع تمنع من التكفير؛ وإن كان القول أو الفعل كفرا، والموانع معروفة من الشريعة والحمد لله. فإذا لم يتم الشرطان؛ فمن كفر أخاه صار هو الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من دعا رجلا بالكفر، أو قال: يا عدو الله وليس كذلك، فإنه يعود إليه فيكون هو الكافر، وهو عدو الله. فإذا قال إنسان: كيف يكون هو كافرا، وهو إنما كفر هذا الرجل غيرة لله عز وجل؟ قلنا: إنه كفر حيث اتخذ نفسه مشرعا مع الله، وحكم على هذا بالكفر والله تعالى لم يكفره، فجعل نفسه ندا لله عز وجل في التكفير، هذا من جهة، ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (6480). ومسلم برقم (2756). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -.

ومن جهة أخرى: قد يطبع على قلبه والعياذ بالله، وتكون نهايته أن يكفر بالله كفرا صريحا واضحا، فالمسألة خطيرة جدا. فليس لنا أن نكفر من لم يكفره الله ورسوله. كما أنه ليس لنا أن نحرم شيئا لم يحرمه الله ورسوله، ولا أن نبيح شيئا لم يبحه الله ورسوله، ولا نوجب شيئا لم يوجبه الله ورسوله. ثم إن الأمر يكون أشد خطرا إذا نسب التكفير إلى ولاة الأمور - وولاة الأمور هم العلماء والأمراء - لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (¬1)، وأولو الأمر كما قال علماء التفسير هم: العلماء والأمراء؛ لأن العلماء يتولون أمور المسلمين في بيان الشريعة والدعوة إليها، والأمراء يتولون أمور المسلمين في تنفيذ الشريعة وإلزام الناس بها. فإذا وقع التكفير لهؤلاء فليس جناية عليهم لأشخاصهم، إذ هذا لا يضر بأشخاصهم، لأنهم يعرفون أنفسهم ولا يهمهم القول، وقد قيل أشد من هذا لمن هو أفضل بكثير من هؤلاء: قيل للأنبياء - ما أخبر الله عنه في قوله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} (¬2). وتكفير ولاة الأمور يتضمن مفسدتين عظيمتين: مفسدة شرعية، ومفسدة اجتماعية. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: (59). (¬2) سورة الذاريات، الآية (52).

أما المفسدة الشرعية: فهي أن العلماء الذين أطلق عليهم الكفر لن ينتفع الناس بعلمهم، وعلى الأقل أن يحصل التشكيك أو الشك في أمورهم، وحينئذ يكون هذا الرجل الذي كفر العلماء يكون هادما للشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة الإسلامية تتلقى من العلماء؛ ولأن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر من ميراثهم (¬1). أما تكفير الأمراء فإنه يتضمن مفسدة اجتماعية عظيمة: وهي الفوضى والحروب الأهلية، التي لا يعلم مدى نهايتها إلا الله عز وجل، ولذلك فيجب الحذر من مثل هذا، ويجب على من سمع أحدا يطلق هذا القول أن ينصحه ويخوفه بالله عز وجل، ويقول له: إذا كنت ترى أن شيئا من الأفعال كفر من عالم من العلماء؛ فالواجب عليك أن تتصل به وأن تناقشه في الموضوع، حتى يتبين لك الأمر (¬2) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود برقم (3641). والترمذي برقم (2682). وابن ماجه برقم (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. (¬2) فتنة التكفير ص 65 إعداد: علي بن حسين أبو لوز.

جواب الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله

جواب الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله سؤال: فضيلة الشيخ: لا يخفى عليكم ما احتوته الساحة الأفغانية في ذلك الوقت من الجماعات والفرق الضالة، التي كثرت في ذلك الحين في صفوفها، والتي استطاعت وللأسف أن تبث أفكارها الخارجة عن منهج السلف الصالح في شبابنا السلفي الذي كان يجاهد في أفغانستان، ومن هذه الأفكار تكفير الحكام، وإحياء السنن المهجورة، كالاغتيالات -كما يدعون- والآن وبعد رجوع الشباب السلفي إلى بلادهم بعد الجهاد؛ قام بعضهم ببث هذه الآراء والشبه بين الشباب في مجتمعاتهم، وعلمنا أنه قد حصل بينكم وبين أحد الإخوان مناقشة طويلة في مسألة التكفير، ولرداءة التسجيل لهذه المناقشة نود من فضيلتكم البيان في هذه المسألة، وجزاكم الله خيرا. الجواب: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد: فالحقيقة أن مسالة التكفير -ليس فقط للحكام بل وللمحكومين أيضا- هي فتنة قديمة تبنتها فرقة من الفرق الإسلامية القديمة، وهي المعروفة " بالخوارج" والخوارج، طوائف مذكورة في كتب الفرق، وبعضها لا تزال موجودة الآن باسم آخر وهي: " الإباضية"، وهؤلاء الإباضية كانوا

إلى عهد قريب منطوين على أنفسهم، ليس لهم نشاط دعوي كما يقال اليوم، ولكن منذ بضع سنين بدءوا ينشطون وينشرون بعض الرسائل وبعض العقائد التي هي عين عقائد الخوارج القدامى، إلا أنهم يتسترون بخصلة من خصال الشيعة ألا وهي التقية، فهم يقولون نحن لسنا بالخوارج، وأنتم تعلمون جميعا أن الاسم لا يغير من حقائق المسميات إطلاقا، وهؤلاء يلتقون في جملة ما يلتقون مع الخوارج في تكفير أصحاب الكبائر؛ فالآن يوجد في بعض الجماعات الذين يلتقون مع دعوة الحق في اتباع الكتاب والسنة، والسبب في ذلك يعود إلى أمرين اثنين في فهمي ونقدي: أحدهما: هو ضحالة العلم وقلة التفقه في الدين. والأمر الآخر -وهو مهم جدا-: أنهم لم يتفقهوا بالقواعد الشرعية، والتي هي أساس الدعوة الإسلامية الصحيحة التي يعد كل من خرج عنها من تلك الفرق المنحرفة عن الجماعة التي أثنى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غير ما حديث، بل والتي ذكرها ربنا عز وجل، وبين أن من خرج عنها يكون قد شاق الله ورسوله أعني بذلك قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: آية 115]، فإن الله عز وجل -لأمر واضح جدا عند أهل العلم- لم يقتصر على قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}، وإنما أضاف إلى مشاقة الرسول اتباع غير سبيل المؤمنين فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

إذا فاتباع سبيل المؤمنين أو عدم اتباع سبيل المؤمنين أمر هام جدا إيجابا وسلبا، فمن اتبع سبيل المؤمنين فهو الناجي عند رب العالمين، ومن خالف سبيل المؤمنين فحسبه جهنم وبئس المصير، من هنا ضلت طوائف كثيرة جدا قديما وحديثا؛ لأنهم لم يلتزموا سبيل المؤمنين، وإنما ركبوا عقولهم، بل اتبعوا أهواءهم في تفسير الكتاب والسنة، ثم بنوا على ذلك نتائج خطيرة جدا، وخرجوا بها عما عليه سلفنا الصالح، وهذه الفقرة من الآية الكريمة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}، أكدها عليه الصلاة والسلام تأكيدا بالغا في غير ما حديث نبوي صحيح، وهذه الأحاديث التي أشير إليها الآن وسأذكر بعضا منها مما تساعدني عليه ذاكرتي، ليست مجهولة عند عامة المسلمين، فضلا عن خاصتهم، لكن المجهول فيها هو أنها تدل على ضرورة التزام سبيل المؤمنين في فهم الكتاب والسنة، ووجوب ذلك وتأكيده. وهذه النقطة يسهو عنها كثير من الخاصة فضلا عن هؤلاء الذين عرفوا بجماعة: (التكفير)، أو بعض أنواع الجماعات التي تنسب نفسها للجهاد، وهي في حقيقتها من فلول التكفير. فهؤلاء وأولئك قد يكونون في قرارة أنفسهم صالحين، ومخلصين، ولكن هذا وحده غير كاف ليكون صاحبه عند الله عز وجل من الناجين المفلحين، إذ لا بد للمسلم أن يجمع بين أمرين: الإخلاص وحسن الاتباع لما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يكفي إذا أن يكون المسلم مخلصا وجادا في ما هو في صدده من العمل بالكتاب والسنة والدعوة إليهما، بل لا بد -بالإضافة إلى ذلك- من أن يكون منهجه منهجا سويا سليما، فمن تلك الأحاديث المعروفة التي أشرت إليها حديث الفرق الثلاث والسبعين، وهو قوله

عليه الصلاة والسلام: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة" (¬1) وفي رواية: " ما أنا عليه وأصحابي " (¬2) فنجد أن جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتقي تماما مع الآية السابقة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}، فأول ما يدخل في عموم الآية هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يكتف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث بقوله: "ما أنا عليه .. " وقد يكون ذلك كافيا في الواقع للمسلم الذي يفهم حقا الكتاب والسنة، ولكنه عليه الصلاة والسلام كتحقيق عملي لقوله عز وجل، في حقه أنه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: آية 128]، فمن تمام رأفته وكمال رحمته بأصحابه وأتباعه: أن أوضح لهم أن علامة الفرقة الناجية أن تكون على ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى ما كان عليه أصحابه من بعده، فإذا لا يجوز أن يقتصر المسلمون عامة والدعاة خاصة في فهم الكتاب والسنة ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه برقم: (3992)، وصححه الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم: (203). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" حديث رقم (11798)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم حديث رقم (3993)، ونحوه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، حديث رقم (2641).

على الوسائل التي لا بد منها: كمعرفة اللغة العربية، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك، بل لا بد أن يرجع قبل كل ذلك إلى ما كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنهم كما تبين من آثارهم، ومن سيرتهم أنهم كانوا أخلص لله عز وجل، في العبادة، وأفقه منا في الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي تخلقوا بها، ويشبه هذا الحديث تماما، من حيث ثمرته وفائدته- حديث الخلفاء الراشدين الذي ذكر في السنن من رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه، حيث قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مودع، فأوصنا يا رسول الله فقال: " عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، وسترون من بعدي اختلافا شديدا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة" (¬1) وذكر الحديث. والشاهد من هذا الحديث، هو الشاهد من جوابه عليه الصلاة والسلام عن السؤال السابق، حيث حض أمته في أشخاص أصحابه أن يتمسكوا بسنته، ثم لم يقتصر على ذلك بل قال: " وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، إذا لا بد لنا من أن ندندن دائما وأبدا حول هذا الأصل الأصيل إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا، وأن نفهم أخلاقنا وسلوكنا، ولا محيد عن العودة إلى منهج سلفنا الصالح لفهم كل هذه الأمور التي لا بد ¬

(¬1) رواه مسلم في "الصحيح" (1838). والبخاري في "الصحيح" (2796) وأبو داود في "السنن" (4604) وابن ماجه في "السنن" (42).

منها للمسلم، ليتحقق فيه أنه من الفرقة الناجية. ومن هنا ضلت طوائف قديمة وحديثة حينما لم يلتفتوا إلى مدلول الآية السابقة، وإلى مغزى حديث سنة الخلفاء الراشدين، فكان أمرا طبيعيا جدا أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم عن كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنهج السلف الصالح، ومن هؤلاء المنحرفين: الخوارج قديما وحديثا، فإن أصل التكفير الذي ذكرناه في هذا الزمان هو آية يدندنون حولها، ألا وهي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: آية 44]، ونعلم جميعا أن هذه الآية قد تكررت وجاءت خاتمتها بألفاظ ثلاثة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، فمن تمام جهل الذين يحتجون بهذه الآية في اللفظ الأول منها {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، أنهم لم يلموا على الأقل ببعض النصوص التي جاء فيها ذكر لفظة الكفر، فأخذوها على أنها تعني الخروج من الدين، وأنه لا فرق بين الذي وقع في الكفر وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام، بينما لفظة الكفر في لغة الكتاب والسنة لا تعني-دائما- هذا الذي يدندنون حوله، ويسلطون هذا الفهم الخاطئ على كثيرين وهم بريئون منه، فشأن لفظة "الكافرون" من حيث إنها لا تدل على معنى واحد شأن اللفظين الآخرين " الظالمون" و"الفاسقون" فكما أن من وصف أنه ظالم أو فاسق لا يعني بالضرورة أنه مرتد عن دينه، فكذلك من وصف بأنه كافر سواء

بسواء. وهذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي تدل عليه اللغة ثم الشرع الذي جاء بلغة العرب: لغة القرآن الكريم، فمن أجل ذلك كان الواجب على كل من يتصدى لإصدار الأحكام على المسلمين -سواء كانوا حكاما أو محكومين- أن يكون: على علم بالكتاب والسنة على ضوء منهج السلف الصالح، والكتاب والسنة لا يمكن فهمهما -وكذلك ما ضم إليهما- إلا بطريق اللغة العربية وآدابها، فإن مما يساعده في استدراك ذلك الرجوع إلى فهم من قبله من الأئمة والعلماء، خاصة إذا كانوا من أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية. نعود الآن إلى هذه الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة أو غير ذلك؟ هنا الدقة في فهم هذه الآية، فإنها قد تعني الكفر العملي، وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام، ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة وترجمان القرآن ألا وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لأنه من الصحابة الذين اعترف المسلمون جميعا إلا من كان من تلك الفرق الضالة- على أنه إمام فريد في التفسير، وكأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماما، أن هناك أناسا يفهمون الآية على ظاهرها دون تفصيل، فقال رضي الله عنه: " ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، هو كفر دون كفر" (¬1) ولعله يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 313)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال ليس الأمر كما قالوا أو ظنوا، وإنما هو كفر دون كفر، هذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي ألمحت إليها آنفا في مطلع كلمتي هذه (¬1). ¬

(¬1) قال الشيخ ابن العثيمين في تعليقه على كلمة العلامة الألباني: احتج الشيخ الألباني بهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك غيره من العلماء الذين تلقوه بالقبول .. لصدق حقيقته على كثير من النصوص، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" ومع ذلك فإن قتاله لا يخرج الإنسان من الملة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} لكن لما كان هذا لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتفكير، صاروا يقولون: هذا الأثر غير مقبول، ولا يصح عن ابن عباس. فيقال لهم: كيف لا يصح؛ وقد تلقاه من هو أكبر منكم وأفضل وأعلم بالحديث، وتقولون لا نقبل؟ فيكفينا أن علماء جهابذة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -وغيرهما- تلقوه بالقبول ويتكلمون به وينقلونه، فالأثر صحيح. ثم هب أن الأمر كما قلتم أنه لا يصح عن ابن عباس فلدينا نصوص أخرى تدل على أن الكفر قد يطلق، ولا يراد به الكفر المخرج عن الملة، كما في الآية المذكورة، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت" وهذه لا تخرج عن الملة بلا إشكال، لكن كما قال الشيخ الألباني -وفقه الله- في أول كلامه: قلة البضاعة من العلم، وقلة فهم القواعد الشرعية العامة، هي التي توجب هذا الضلال. ثم شيء آخر نضيفه إلى ذلك: وهو سوء الإرادة التي تستلزم سوء الفهم؛ لأن الإنسان إذا كان يريد شيئا؛ لزم من ذلك أن ينتقل فهمه إلى ما يريد، ثم يحرف النصوص على ذلك، وكان من القواعد المعروفة عند العلماء أنهم يقولون: (استدل ثم اعتقد)، لا تعتقد ثم تستدل فتضل فالمهم أن الأسباب الثلاثة هي: الأول: قلة البضاعة من العلم الشرعي. الثاني: قلة الفقه في القواعد الشرعية العامة. الثالث: سوء الفهم المبني على سوء الإرادة.

ثم إن كلمة الكفر ذكرت في كثير من النصوص القرآنية والحديثية ولا يمكن أن تفسر على أنها تساوي الخروج من الملة، ومن ذلك مثلا الحديث المعروف في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬1) فالكفر هنا هو المعصية، وهو الخروج عن الطاعة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام باعتبار أنه أفصح من نطق بالضاد تفنن في التعبير بقصد المبالغة في الزجر فقال: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬2). ومن ناحية أخرى فهل يمكن أن نفسر الفقرة الأولى من هذا الحديث " سباب المسلم فسوق" بالفسق المذكور في اللفظ الثالث في الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]؟ الجواب: قد يكون فسقا مرادفا للكفر الذي بمعنى الخروج عن الملة، وقد يكون الفسق مرادفا للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة، وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن أنه كفر دون كفر، وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى، لماذا؟ ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر حديث رقم (48)، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان قول النبي -صلى الله عليه وسلم- سباب المسلم فسوق .. حديث رقم (64). (¬2) رواه البخاري في "الصحيح" (48) ومسلم في "الصحيح" (64).

لأن الله عز وجل، ذكر في القرآن الكريم الآية: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: آية 9] إذ قد ذكر هنا ربنا عز وجل، الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة المحقة المؤمنة، ومع ذلك فما حكم عليها بالكفر مع أن الحديث يقول: " ... قتاله كفر ". إذا فقتاله كفر دون كفر كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة، فقتال المسلم للمسلم بغي واعتداء، وفسق وكفر، ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفرا عمليا، وقد يكون كفرا اعتقاديا، من هنا جاء هذا التفصيل الدقيق الذي تولى بيانه وشرحه الإمام بحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتولى ذلك من بعده تلميذه البار ابن قيم الجوزية، حيث لهما الفضل في الدندنة على تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة، فابن تيمية رحمه الله وتلميذه وصاحبه ابن قيم الجوزية يدندنان دائما حول ضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي، وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديما وبعض أذنابهم حديثا. فإذا قوله صلى الله عليه وسلم: " فقتاله كفر" لا يعني -مطلقا- الخروج عن الملة. والأحاديث في هذا كثيرة جدا لو جمعها المتتبع لخرج منها برسالة نافعة في الحقيقة، فيها حجة دامغة على أولئك الذين يقفون عند فهمهم القاصر للآية السابقة، ويلتزمون بتفسيرها بالكفر الاعتقادي، فحسبنا الآن هذا

الحديث؛ لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر بمعنى الكفر العملي، وليس الكفر الاعتقادي. فإذا عدنا إلى جماعة التكفير، أو من تفرع عنهم -وإطلاقهم على الحكام وعلى من يعيشون تحت إمرتهم- بالأولى- وينتظمون تحت إمرتهم وتوظيفهم، فوجهة نظرهم هي أن هؤلاء ارتكبوا المعاصي فكفروا بذلك. ومن جملة الأمور التي يذكرني بها السائل آنفا أنني التقيت ببعض أولئك الذين كانوا من جماعة التكفير ثم هداهم الله عز وجل، فقلت لهم: ها أنتم كفرتم بعض الحكام، فما بالكم مثلا تكفرون أئمة المساجد، وخطباء المساجد، ومؤذني المساجد وخدمة المساجد؟ وما بالكم تكفرون أساتذة العلم الشرعي في المدارس وغيرها؟ قالوا: لأن هؤلاء رضوا بحكم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. فأقول: إذا كان هذا الرضى رضى قلبيا بالحكم بغير ما أنزل الله فحينئذ ينقلب الكفر العملي إلى كفر اعتقادي، فأي حاكم يحكم بغير ما أنزل الله وهو يرى أن هذا الحكم هو الحكم اللائق بتبنيه في هذا العصر، وأنه لا يليق تبنيه للحكم الشرعي المنصوص في الكتاب والسنة، لا شك أن هذا الحاكم يكون كفره كفرا اعتقاديا وليس كفرا عمليا، ومن رضي مثله أيضا فيلحق به، فأنتم أولا لا تستطيعون أن تحكموا على كل حاكم يحكم

بالقوانين الغربية الكافرة أو بكثير منها أنه لو سئل عن الحكم بغير ما أنزل الله؟! لأجاب: بأن الحكم بهذه القوانين هو الحق والصالح في هذا العصر، وأنه لا يجوز الحكم بالإسلام؛ لأنهم لو قالوا ذلك لصاروا كفارا دون شك ولا ريب، فإذا انتقلنا إلى المحكومين وفيهم العلماء، وفيهم الصالحون .. إلخ، فكيف تحكمون عليهم بالكفر بمجرد أن تروهم يعيشون تحت حكم يشملهم كما يشملكم أنتم تماما؟ ولكنكم تعلنون أن هؤلاء كفار بمعنى مرتدين، والحكم بما أنزل الله هو الواجب، ثم تقولون معتذرين لأنفسكم: إن مخالفة الحكم الشرعي بمجرد العمل لا يستلزم الحكم على هذا العامل بأنه مرتد عن دينه. وهذا عين ما يقوله غيركم، سوى أنكم تزيدون عليهم -بغير حق- الحكم بالتكفير والردة. ومن جملة المناقشات التي توضح خطأهم وضلالهم قلنا لهم: متى يحكم على المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقد يصلي كثيرا أو قليلا، متى يحكم عليه بأنه ارتد عن دينه؟ أيكفي مرة واحدة، أو أنه يجب أن يعلن بلسان حاله أو بلسان مقاله أنه مرتد عن الدين؟ كانوا كما يقال لا يحيرون جوابا، فأضطر لأن أضرب لهم المثل التالي: أقول: قاض يحكم بالشرع، هكذا عادته ونظامه، لكنه في حكومة واحدة زلت به القدم فحكم بما يخالف الشرع، هل هذا حكم بغير ما أنزل الله أو لا؟ قالوا: لا. قلنا: لم؟ قالوا: لأن هذا صدر منه مرة واحدة، قلنا:

حسن، صدر نفس الحكم مرة ثانية، أو حكم آخر لكنه خالف الشرع أيضا، فهل كفر؟ أخذت أكرر عليهم ثلاث مرات، أربع مرات، متى تقولون أنه كفر؟ لن يستطيعوا أن يضعوا حدا بتعداد أحكامه التي خالف فيها الشرع، ثم لا يكفرونه بها. في حين يستطيعون عكس ذلك تماما إذا علم منه أنه في الحكم الأول استحسن الحكم بغير ما أنزل الله -مستحلا له- واستقبح الحكم الشرعي، فساعتئذ يكون الحكم عليه بالردة صحيحا ومن المرة الأولى. وعلى العكس من ذلك لو رأيت منه عشرات الحكومات في القضايا المتعددة خالف فيها الشرع، وإذا سألته لماذا حكمت بغير ما أنزل الله عز وجل؟ فرد قائلا: خفت وخشيت على نفسي، أو ارتشيت مثلا، وهذا أسوأ من الأول بكثير، فلا تستطيع أن تقول بكفره حتى يعرب عما في قلبه بأنه لا يرى الحكم بما أنزل الله عز وجل، وحينئذ فقط تستطيع أن تقول إنه كافر كفر ردة. وخلاصة الكلام الآن أنه لا بد من معرفة أن الكفر كالفسق والظلم ينقسم إلى قسمين: كفر وفسق وظلم يخرج عن الملة، وكل ذلك يعود إلى الاستحلال القلبي. وخلاف ذلك يعود إلى الاستحلال العملي. فكل المعاصي -بخاصة ما فشا في هذا الزمان من استحلال عملي للربا والزنا وشرب الخمر وغيرها- كل هذا كفر عملي. فلا يجوز أن نكفر العصاة لمجرد ارتكابهم معصية واستحلالهم إياها

عمليا إلا إذا بدا لنا منهم ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله "عقيدة"، فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة، أما إذا لم نعلم ذلك فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم لأننا نخشى أن نقع في وعيد قوله عليه الصلاة والسلام: " أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه" (¬1)، والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة جدا، ونذكر بهذه المناسبة بقصة ذلك الصحابي الذي قاتل أحد المشركين فلما رأى المشرك أنه صار تحت ضربة سيف المسلم الصحابي قال: "أشهد أن لا إله إلا الله"، فما بالاها الصحابي فقتله، فلما بلغ خبره النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر عليه ذلك أشد الإنكار، فاعتذر الصحابي بأنه ما قالها إلا خوفا من القتل، وكان جوابه صلى الله عليه وسلم: " هلا شققت عن قلبه" (¬2). إذا الكفر الاعتقادي ليس له علاقة بالعمل، له علاقة بالقلب، ونحن لا نستطيع أن نعلم ما في قلب الفاسق والفاجر والسارق والزاني والمرابي ... إلخ، إلا إذا عبر عما في قلبه بلسانه، أما عمله فينبئ أنه خالف الشرع مخالفة عملية، فنحن نقول: إنك خالفت، وإنك فسقت وفجرت، لكن لا نقول: إنك كفرت وارتددت عن دينك، حتى يظهر منه شيء يكون لنا عذرا عند الله عز وجل، في الحكم بردته، وبالتالي الحكم المعروف ¬

(¬1) رواه مسلم في "الصحيح (60) والبخاري في "الصحيح" (5752) وأبو عوانة في "المسند" (2211). (¬2) رواه أحمد في "المسند" (5/ 207) ومسلم (96) وأبو داود في "السنن" (1694) والبيهقي في "السنن" (5/ 176) وابن ماجه (3930) نحوه.

في الإسلام ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" (¬1). ثم قلت -وما أزال أقول- لهؤلاء الذين يدندنون حول تكفير حكام المسلمين: هبوا أن هؤلاء كفار كفر ردة، وأنهم لو كان هناك حاكم أعلى عليهم واكتشف منهم أن كفرهم كفر ردة لوجب على ذلك الحاكم أن يطبق فيهم الحد؛ فالآن ما تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلمنا جدلا أن كل هؤلاء الحكام كفار كفر ردة؟ ماذا يمكن أن تعملوه؟ هؤلاء الكفار احتلوا من بلاد الإسلام، ونحن هنا مع الأسف ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين؛ فماذا نستطيع نحن وأنتم أن نعمل مع هؤلاء حتى تقفوا أنتم -وحدكم- ضد أولئك الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار؟ (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد، حديث رقم (6922). (¬2) قال فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: هذا الكلام جيد، يعني أن هؤلاء الذين يحكمون على الولاة المسلمين بأنهم كفار، ماذا يستفيدون إذا حكموا بكفرهم؟ أيستطيعون إزالتهم؟ لا يستطيعون، وإذا كان اليهود قد احتلوا فلسطين قبل نحو خمسين عاما، ومع ذلك ما استطاعت الأمة الإسلامية كلها، عربها وعجمها أن يزيحوها عن مكانها، فكيف نذهب ونسلط ألسنتنا على ولاة يحكموننا؟ ونعلم أننا لا نستطيع إزالتهم، وأنه سوف تراق دماء، وتستباح أموال، وربما أعراض أيضا، ولن نصل إلى نتيجة. وإذا ما الفائدة؟ حتى لو كان الإنسان يعتقد فيما بينه وبين ربه أن من هؤلاء الحكام من هو كافر كفرا مخرجا عن الملة حقا، فما الفائدة من إعلانه وإشاعته إلا إثارة الفتن؟ كلام الشيخ الألباني هذا جيد جدا. لكنا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حل ذلك، هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأننا نقول: من حكم بحكم الله وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى فهو كافر -وإن حكم بحكم الله- وكفره كفر عقيدة، لكن كلامنا على العمل، وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونا مخالفا للشرع يحكم فيه عباد الله إلا وهو يستحله، ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي، فهو كافر، هذا هو الظاهر. وإلا فما الذي حمله على ذلك؟ قد يكون الذي حمله على ذلك خوفا من أناس أقوى منه إذا لم يطبقه، فيكون هنا مداهنا لهم، فحينئذ نقول: إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي. وأهم شيء في هذا الباب هو مسألة التكفير الذي ينتج عن العمل، وهو الخروج على هؤلاء الأئمة، هذا هو المشكل.

هلا تركتم هذه الناحية جانبا وبدأتم بتأسيس القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة، وذلك باتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي ربى أصحابه عليها ونشأهم على نظامها وأساسها، وذلك ما نعبر عنه في كثير من مثل هذه المناسبة بأنه لا بد لكل جماعة مسلمة من العمل بحق لإعادة حكم الإسلام ليس فقط على أرض الإسلام بل على الأرض كلها تحقيقا لقوله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: آية 9]. وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أن هذه الآية ستحقق فيما بعد؛ فلكي يتمكن المسلمون من تحقيق هذا النص القرآني هل يكون الطريق بإعلان ثورة على هؤلاء الحكام الذين يظنون أن كفرهم كفر ردة. ثم مع ظنهم هذا -وهو ظن خاطئ- لا يستطيعون أن يعملوا شيئا، ما هو المنهج؟ وما هو الطريق؟ لا شك أن الطريق هو ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدندن حوله ويذكر أصحابه به في كل خطبة: " وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم " (¬1). فعلى المسلمين كافة وبخاصة منهم من يهتم بإعادة الحكم الإسلامي ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، حديث رقم (867).

أن يبدأ من حيث بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ما نكني نحن عنه بكلمتين خفيفتين: " التصفية والتربية" ذلك لأننا نحن نعلم حقيقة يغفل عنها أو يتغافل عنها في الأصح أولئك "الغلاة" الذين ليس لهم إلا إعلان تكفير الحكام، ثم لا شيء وسيظلون يعلنون تكفير الحكام ثم لا يصدر منهم إلا "الفتن" والواقع في هذه السنوات الأخيرة التي تعلمونها بدءا من فتنة الحرم المكي إلى فتنة مصر وقتل السادات وذهاب دماء كثيرة من المسلمين الأبرياء بسبب هذه الفتنة ثم أخيرا في سوريا ثم الآن في مصر، والجزائر مع الأسف، كل هذا بسبب أنهم خالفوا كثيرا من نصوص الكتاب والسنة وأهمها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: آية 21]. إذا أردنا أن نقيم حكم الله في الأرض هل نبدأ بقتال الحكام ونحن لا نستطيع أن نقاتلهم؟ أم نبدأ بما بدأ به الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لا شك أن الجواب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. ولكن؛ بماذا بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ تعلمون أنه بدأ بالدعوة بين الأفراد الذين كان يظن فيهم الاستعداد لتقبل الحق، ثم استجاب له من استجاب كما هو معروف في السيرة النبوية، ثم التعذيب والشدة التي أصابت المسلمين في مكة، ثم الأمر بالهجرة الأولى والثانية إلى آخر ما هنالك، حتى وطد الله عز وجل، الإسلام في المدينة المنورة، وبدأت هناك المناوشات، وبدأ القتال بين المسلمين والكفار من جهة، ثم اليهود من جهة أخرى، إذا لا بد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام كما بدأ الرسول عليه

الصلاة والسلام؛ لكن نحن الآن لا نقتصر على مجرد التعليم فقط، لأنه دخل الإسلام ما ليس منه، وما لا يمت إليه بصلة من البدع والمحدثات، مما كان سببا في تهدم الصرح الإسلامي، فلذلك كان من الواجب على الدعاة أن يبدءوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه، والشيء الثاني أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفى. ونحن إذا درسنا الجماعات الإسلامية القائمة الآن منذ نحو قرابة قرن من الزمان أفكارها وممارساتها، لوجدنا الكثير منهم لم يستفيدوا ولم يفيدوا شيئا يذكر، رغم صياحهم ورغم ضجيجهم بأنهم يريدونها حكومة إسلامية، فسفكوا دماء أبرياء كثيرين بهذه الحجة الواهية دون أن يحققوا من ذلك شيئا، فلا نزال نسمع منهم العقائد المخالفة للكتاب والسنة، والأعمال المنافية للكتاب والسنة. وبهذه المناسبة نقول: هنالك كلمة لأحد الدعاة كنت أتمنى من أتباعه أن يلتزموها وأن يحققوها، وهي " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم"؛ لأن المسلم إذا صحح عقيدته بناء على الكتاب والسنة فلا شك أنه من وراء ذلك ستصلح عبادته وستصلح أخلاقه وسلوكه .. إلخ، لكن هذه الكلمة الطيبة مع الأسف لم يعمل بها هؤلاء الناس، فظلوا يصيحون بإقامة الدولة المسلمة دون جدوى، وصدق فيهم قول ذلك الشاعر: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس لعل في هذا الذي ذكرته كفاية جوابا على هذا السؤال (¬1). ¬

(¬1) فتنة التكفير إعداد علي بن حسين أبو لوز ص44.

تعقيب سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله-

تعقيب سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله- الحمد لله، الصلاة السلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد اطلعت على الجواب المفيد القيم، الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وفقه الله، المنشور في صحيفة المسلمون، الذي أجاب به فضيلته من سأله عن "تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل" فألفيتها كلمة قيمة أصاب فيها الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح -وفقه الله- أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من سلف الأمة. ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: آية 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: آية 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: آية 47]، هو الصواب، وقد أوضح -وفقه الله- أن الكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان، أكبر وأصغر. فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنى أو الربا أو غيرها من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفرا أكبر، وظلم ظلما أكبر،

وفسق فسقا أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرا أصغر، وظلمه ظلما أصغر، وهكذا فسقه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬1)، أراد بهذا -صلى الله عليه وسلم- الفسق الأصغر والكفر الأصغر، وأطلق العبارة تنفيرا من هذا العمل المنكر، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة للميت" أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" (¬3) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فالواجب على كل مسلم ولا سيما أهل العلم التثبت في الأمور والحكمة فيها على ضوء الكتاب والسنة وطريق سلف الأمة، والحذر من السبيل الوخيم الذي سلكه الكثير من الناس لإطلاق الأحكام وعدم التفصيل، وعلى أهل العلم أن يعتنوا بالدعوة إلى الله سبحانه بالتفصيل، وإيضاح الإسلام للناس بأدلته من الكتاب والسنة، وترغيبهم في الاستقامة عليه، والتواصي والنصح في ذلك، مع الترهيب من كل ما يخالف أحكام الإسلام، وبذلك يكونون قد سلكوا مسلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسلك خلفائه الراشدين، وصحابته المرضيين في إيضاح سبيل الحق والإرشاد إليه والتحذير مما يخالفه عملا بقول الله سبحانه: ¬

(¬1) رواه البخاري في "الصحيح" (48) ومسلم في "الصحيح" (64). (¬2) في كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب، حديث رقم (67). (¬3) رواه البخاري في كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء، حديث رقم (121).

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: آية 33] وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: آية 108] وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: آية125] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " (¬1) وقوله صلى الله عليه وسلم: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا "، أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬2). وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه- لما بعثه إلى اليهود في خيبر: "ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم"، متفق على صحته (¬3). وقد مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى توحيد الله والدخول في الإسلام بالنصح والحكمة والصبر والأسلوب الحسن، حتى هدى الله على يد أصحابه من سبقت له السعادة، ثم هاجر إلى المدينة عليه ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، حديث رقم (1893). (¬2) في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، حديث رقم (2574). (¬3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل، حديث رقم (3009) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، حديث رقم (2406).

الصلاة والسلام، واستمر في دعوته إلى الله سبحانه هو وأصحابه -رضي الله عنهم- بالحكمة والموعظة الحسنة، والصبر والجدال بالتي هي أحسن، حتى شرع الله له الجهاد بالسيف للكفار، فقام بذلك عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه -رضي الله عنهم- أكمل قيام؛ فأيدهم الله ونصرهم وجعل لهم العاقبة الحميدة، وهكذا يكون النصر وحسن العاقبة لمن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم القيامة. والله المسؤول أن يجعلنا وسائر إخواننا في الله من أتباعهم بإحسان وأن يرزقنا وجميع إخواننا الدعاة إلى الله البصيرة النافذة، والعمل الصالح، والصبر على الحق حتى نلقاه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين (¬1). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز (9/ 124).

تعليق فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين

تعليق فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين على كلام الشيخين ابن باز والألباني رحمهم الله الذي فهم من كلام الشيخين: أن الكفر لمن استحل ذلك، وأما من حكم على أنه معصية ومخالفة: فهذا ليس بكافر؛ لأنه لم يستحله، لكن قد يكون خوفا أو عجزا، أو ما أشبه ذلك، وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث منزلة على أحوال ثلاث: من حكم بغير ما أنزل الله: مستبدلا به دين الله، فهذا كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لأنه جعل نفسه مشرعا مع الله عز وجل. من حكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه، أو خوفا عليها، أو ما أشبه ذلك فهذا لا يكفر، ولكنه ينتقل إلى الفسق. من حكم بغير ما أنزل الله عدوانا وظلما، وهذا لا يتأتى في حكم القوانين، ولكن يتأتى في حكم خاص، مثل أن يحكم على إنسان بغير ما أنزل الله لينتقم منه فهذا يقال إنه ظالم. فتنزل الأوصاف على حسب الأحوال. ومن العلماء من قال: إنها أوصاف لموصوف واحد وأن كل كافر ظالم وكل كافر فاسق، واستدلوا بقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وبقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} وهذا هو الفسق الأكبر ومهما كان الأمر، فكما أشار الشيخ الألباني وفقه الله ورحمه أيضا في الدنيا والآخرة أن الإنسان ينظر ماذا تكون النتيجة ليست المسألة نظرية،

لكن المهم التطبيق العملي، ما هي النتيجة؟ (¬1). وقال- رحمه الله- جوابا على سؤال: من سوء الفهم: قول من نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: إذا أطلق الكفر فإنما يراد به كفر أكبر، مستدلا بهذا القول على التكفير بآية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} مع أنه ليس في الآية أن هذا هو الكفر. وأما القول الصحيح عن شيخ الإسلام: فهو تفريقه -رحمه الله- بين (الكفر) المعرف بـ (أل) وبين (كفر) منكرا، فأما الوصف فيصلح أن نقول فيه: (هؤلاء كافرون)، أو (هؤلاء الكافرون)، بناء على ما اتصفوا به من الكفر الذي لا يخرج من الملة، ففرق بين أن يوصف الفعل، وأن يوصف الفاعل. وعليه، فإنه بتأويلنا لهذه الآية على ما ذكر: نحكم بأن الحكم بغير ما أنزل الله ليس بكفر مخرج عن الملة، لكنه كفر عملي؛ لأن الحاكم بذلك خرج عن الطريق الصحيح ولا يفرق في ذلك بين الرجل الذي يأخذ قانونا وضعيا من قبل غيره ويحكمه في دولته، وبين من ينشئ قانونا ويضع هذا القانون الوضعي، إذ المهم هو: هل هذا القانون يخالف القانون السماوي أم لا؟ (¬2). ¬

(¬1) كيف نعالج واقعنا الأليم (73). (¬2) فتنة التكفير إعداد علي بن حسين أبو لوز (ص25).

مقال فضيلة الشيخ/ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

مقال فضيلة الشيخ/ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا، محمد وآله وصحبه، وبعد: فلا شك أن توفر الأمن مطلب ضروري، والإنسانية أحوج إليه من حاجتها إلى الطعام والشراب، ولذا قدمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعائه على الرزق فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} لأن الناس لا يهنئون بالطعام والشراب مع وجود الخوف، ولأن الخوف تنقطع معه السبل، التي بواسطتها تنقل الأرزاق من بلد لآخر، ولذلك رتب الله على قطاع الطرق أشد العقوبات فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وجاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس، وهي الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، ورتب حدودا صارمة في حق من يعتدي على هذه الضرورات، سواء كانت هذه الضرورات لمسلمين أو معاهدين، فالكافر المعاهد له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة" (¬1)، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}. ¬

(¬1) رواه البخاري في "الصحيح" (2995) وابن حبان في "الصحيح" (4880) والترمذي في "السنن" (1403).

وإذا خاف المسلمون من المعاهدين خيانة للعهد؛ لم يجز لهم أن يقاتلوهم حتى يعلموهم بإنهاء العهد الذي بينهم، ولا يفاجئوهم بالقتال بدون إعلام، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}. والذين يدخلون تحت عهد المسلمين من الكفار ثلاثة أنواع: المستأمن: وهو الذي يدخل بلاد المسلمين بأمان منهم، لأداء مهمة ثم يرجع إلى بلده بعد إنهائها. والمعاهد: الذي يدخل تحت صلح بين المسلمين والكفار، وهذا يؤمن حتى ينتهي العهد الذي بين الفئتين، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليه كما لا يجوز له أن يعتدي على أحد من المسلمين. والذمي: الذي يدفع الجزية للمسلمين ويدخل تحت حكمهم. والإسلام يكفل لهؤلاء الأنواع من الكفار الأمن على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ومن اعتدى عليهم فقد خان الإسلام، واستحق العقوبة الرادعة. والعدل واجب مع المسلمين ومع الكفار، حتى لو لم يكونوا معاهدين أو مستأمنين أو أهل ذمة قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. والذين يعتدون على الآمن: إما أن يكونوا خوارج، أو قطاع طرق، أو

بغاة وكل من هذه الأصناف الثلاثة يتخذ معه الإجراء الصارم، الذي يوقفه عند حده، ويكف شره عن المسلمين والمستأمنين والمعاهدين وأهل الذمة. فهؤلاء الذين يقومون بالتفجير في أي مكان، ويتلفون الأنفس المعصومة، والأموال المحترمة -لمسلمين أو معاهدين- ويرملون النساء، وييتمون الأطفال، هم من الذين قال الله فيهم: {ومِن النّاسِ منْ يُعْجِبُك قوْلُهُ فِي الْحياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ الله على ما فِي قلْبِهِ وهُو ألدُّ الْخِصامِ} {وإِذا تولّى سعى فِي الْأرْضِ لِيُفْسِد فِيها ويُهْلِك الْحرْث والنّسْل واللهُ لا يُحِبُّ الْفساد} {وإِذا قِيل لهُ اتّقِ الله أخذتْهُ الْعِزّةُ بِالْإِثْمِ فحسْبُهُ جهنّمُ ولبِئْس الْمِهادُ}. ومن العجيب أن هؤلاء المعتدين الخارجين على حكم الإسلام يسمون عملهم هذا جهادا في سبيل الله، وهذا من أعظم الكذب على الله، فإن الله جعل هذا فسادا ولم يجعله جهادا، ولكن لا نعجب حينما نعلم أن سلف هؤلاء من الخوارج كفروا الصحابة، وقتلوا عثمان وعليا رضي الله عنهما، وهما من الخلفاء الراشدين ومن العشرة المبشرين بالجنة قتلوهما، وسموا هذا جهادا في سبيل الله، وإنما هو جهاد في سبيل الشيطان، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} ولا يحمل الإسلام فعلهم هذا كما يقول أعداء الإسلام -من الكفار والمنافقين- إن دين الإسلام دين إرهاب، ويحتجون بفعل هؤلاء المجرمين، فإن فعلهم هذا ليس من الإسلام، ولا يقره إسلام ولا دين، إنما هو فكر خارجي قد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على قتل

أصحابه، وقال " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " (¬1) ووعد بالأجر الجزيل لمن قتلهم، وإنما يقاتلهم ولي أمر المسلمين، كما قاتلهم الصحابة بقيادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وبعض المنافقين أو الجهال يزعم أن مدارس المسلمين هي التي علمتهم هذا الفكر، وأن مناهج التدريس تتضمن هذا الفكر المنحرف، ويطالبون بتغيير مناهج التعليم. ونقول: إن أصحاب هذا الفكر لم يتخرجوا من مدارس المسلمين، ولم يأخذوا العلم عن علماء المسلمين؛ لأنهم يحرمون الدراسة في المدارس والمعاهد والكليات، ويحتقرون علماء المسلمين ويجهلونهم ويصفونهم بالعمالة للسلاطين ويتعلمون عند أصحاب الفكر المنحرف، وعند حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام من أمثالهم، كما جهل أسلافهم علماء الصحابة وكفروهم. والذي نرجوه بعد اليوم أن يلتفت الآباء لأبنائهم فلا يتركوهم لأصحاب الأفكار الهدامة يوجهونهم إلى الأفكار الضالة، والمناهج المنحرفة، ولا يتركوهم للتجمعات المشبوهة، والرحلات المجهولة، والاستراحات التي هي مراتع لأصحاب التضليل، ومصائد للذئاب المفترسة، ولا يتركوهم يسافرون إلى خارج المملكة وهم صغار السن، وعلى العلماء أن يقوموا بالتوجيه السليم، وتعليم العقائد الصحيحة في ¬

(¬1) رواه مسلم (1066) والبخاري في "الصحيح" (3415) والنسائي في "السنن" (4104) وابن ماجه في "السنن" (175) وأحمد في "المسند" (1، 81، 13، 131).

المدارس والمساجد ووسائل الإعلام؛ حتى لا يدعوا فرصة لأصحاب الضلال الذين يخرجون في الظلام وعند غفلة المصلحين. وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (¬1). ¬

(¬1) جريدة الرياض الخميس 21/ 3/1424هـ

أجوبة فضيلة الشيخ: د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان حفظه الله

أجوبة فضيلة الشيخ: د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان حفظه الله سؤال: فضيلة الشيخ، من الملاحظ اليوم بروز ظاهرة الغلو واتجاه العامة للتجاوب مع هذا الغلو، ما السبيل للحد من هذه الظاهرة ومن المسئول؟ الجواب: النبي -صلى الله عليه وسلم- حذر أمته من الغلو، قال عليه الصلاة والسلام: " إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" وقال عليه الصلاة والسلام: " هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون" قالها ثلاثا، والمتنطعون: هم المتشددون المغالون في دينهم. قال سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: آية 171]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: آية 77] والواجب هو الاستقامة من غير غلو ومن غير تساهل، قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ولأتباعه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} [هود: آية 112]، يعني لا تزيدوا ولا تتشددوا، فالمطلوب من المسلمين الاستقامة، وهي الاعتدال بين التساهل والتشدد هذا هو منهج الإسلام وهو منهج الأنبياء جميعا وهو الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى، من غير تشدد، ولا تنطع وغلو، ومن غير تساهل وتفسخ (¬1). سؤال: مما يلاحظ على الثقافة الإسلامية المعاصرة اليوم أنه يشوبها شيء من فكر بعض الفرق الضالة مثل الخوارج والمعتزلة، فتجد في بعضها ¬

(¬1) "مراجعات في الفقه الواقع السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة" (ص48).

تكفير المجتمعات والأفراد وتسويغ العنف ضد العصاة والفساق من المسلمين، فما توجيهكم؟ هذا منهج خاطئ؛ لأن الإسلام ينهى عن العنف في الدعوة يقول تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: آية 125]، ويقول لنبيه موسى وهارون عليهما السلام تجاه فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: آية 44]، والعنف يقابل بالعنف ولا يفيد إلا عكس المطلوب، وتكون آثاره على المسلمين سيئة، فالمطلوب الدعوة بالحكمة وبالتي هي أحسن، وباستعمال الرفق مع المدعوين، أما استعمال العنف مع المدعوين والتشديد والمهاترات فهذا ليس من دين الإسلام، فالواجب على المسلمين أن يسيروا في الدعوة على منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى حسب توجيهات القرآن الكريم. والتكفير له ضوابط شرعية، فمن ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام التي ذكرها علماء السنة والجماعة حكم بكفره بعد إقامة الحجة عليه، ومن لم يرتكب شيئا من هذه النواقض فليس بكافر، وإن ارتكب بعض الكبائر التي هي دون الشرك (¬1). سؤال: هناك من يطلق لفظ الجاهلية على المجتمعات المسلمة؛ لما فيها من فساد، ويرتب على هذا اللفظ ما تعرفون، فهل هذا الاتجاه صحيح ¬

(¬1) "مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري" ص 49

يا فضيلة الشيخ؟ الجاهلية العامة انتهت ببعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولله الحمد وجاء الإسلام وجاء العلم وجاء النور، وسيبقى ويستمر إلى يوم القيامة، فليس بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- جاهلية عامة، ولكن هناك بقايا من الجاهلية، لكنها جاهلية جزئية وجاهلية بمن قامت به، أما الجاهلية العامة فقد انتهت ببعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولن تعود إلى قيام الساعة. أما وجود الجاهلية في بعض الأفراد أو الجماعات أو بعض المجتمعات فهذا أمر واقع؛ لكنها جاهلية خاصة بمن وجدت فيه وليست عامة. فلا يجوز إطلاق الجاهلية على وجه العموم، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم (¬1). سؤال: يلاحظ على من يطلق لفظ الجاهلية على المجتمعات الإسلامية أنه يريد تكفير تلك المجتمعات وبالتالي الخروج؟ ليس من حق كل أحد أن يطلق التكفير أو أن يتكلم بالتكفير على الجماعات أو على الأفراد. التكفير له ضوابط فمن يرتكب ناقضا من نواقض الإسلام فإنه يحكم بكفره. ونواقض الإسلام معروفة، أعظمها الشرك بالله عز وجل، وادعاء ¬

(¬1) مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري" ص 49.

علم الغيب، والحكم بغير ما أنزل الله. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: آية 44] فالتكفير خطير، ولا يجوز لكل أحد أن يتفوه في حق غيره، إنما هذا من صلاحيات الحاكم الشرعي، ومن صلاحيات أهل العلم الراسخين في العلم الذين يعرفون الإسلام ويعرفون نواقض الإسلام، ويعرفون الأحوال ويدرسون واقع الناس والمجتمعات فهم أهل الحكم بالتكفير وغيره، أما الجاهل، وأما أفراد الناس وأنصاف المتعلمين، فهؤلاء ليس من حقهم إطلاق التكفير على الأشخاص أو على الجماعات أو على الدول؛ لأنهم غير مؤهلين لهذا الحكم (¬1). سؤال: يلاحظ على بعض طلبة العلم التساهل في إطلاق لفظ الردة على المسلم، بل قد يطالب هذا البعض المسلمين بانتداب من يرون لإقامة حد الردة في المحكوم بردته عندهم إذا لم يقم به السلطان؟ إقامة الحدود من صلاحيات سلطان المسلمين، وليس لكل أحد أن يقيم الحد؛ لأن هذا يلزم منه الفوضى والفساد، ويلزم منه تفكك المجتمع وحدوث الثارات وحدوث الفتن، فالحدود من صلاحيات السلطان المسلم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تعافوا الحدود فيما بينكم، فإذا أبلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع" (¬2). ¬

(¬1) مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري" ص50 (¬2) رواه النسائي في كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون، حديث (4886)، وبنحوه مالك في "الموطأ" في كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان، حديث رقم (1580).

ومن وظائف السلطان في الإسلام ومن صلاحياته: إقامة الحدود بعدما تثبت شرعا لدى المحاكم الشرعية على من وقع في جريمة رتب الشارع عليها حدا كحد الردة وحد السرقة ... إلخ فالحاصل أن إقامة الحدود من صلاحيات السلطان، وإذا لم يكن هناك في المسلمين سلطان فإنه يكتفى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن ولا يجوز للأفراد أن يقيموا الحدود؛ لأن هذا كما ذكرنا يلزم منه الفوضى، ويلزم منه حدوث الثارات والفتن، وفيه مفسدة أعظم مما فيه من المصلحة، ومن القواعد الشرعية المسلم بها: " أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" سؤال: فضيلة الشيخ، من هو المرتد؟ نرجو تحديده بشكل واضح فقد يحكم بردة شخص لديه شبهة. الحكم بالردة والخروج من الدين من صلاحيات أهل العلم الراسخين في العلم؛ وهم القضاة في المحاكم الشرعية، والمفتون المعتبرون، وهي كغيرها من القضايا، وليس من حق كل أحد أو من حق أنصاف المتعلمين أو المنتسبين إلى العلم الذين ينقصهم الفقه في الدين ليس من صلاحياتهم أن يحكموا بالردة؛ لأن هذا يلزم منه الفساد، وقد يحكمون على المسلم بالردة، وهو ليس كذلك، وتكفير المسلم الذي لم يرتكب ناقضا من نواقض الإسلام فيه خطورة عظيمة، ومن قال لأخيه يا

كافر أو يا فاسق، وهو ليس كذلك، فإن هذا الكلام يعود على قائله، فالذين يحكمون بالردة هم القضاة الشرعيون والمفتون المعتبرون والذين ينفذون هذا الحكم هم ولاة أمر المسلمين، وما عدا هذا فهو فوضى. (¬1). سؤال: نقطة أخيرة أريد أن استوضحها في هذه المسألة وهي تتعلق بالمفتئت (المتعدي) على حق السلطان في الحكم فيمن نفذ حدا على أحد من الناس فهناك من يدعي أن ليس للسلطان أكثر من السجن؟ الجواب: لا يجوز الافتئات على السلطان والتعدي على صلاحيات سلطان المسلمين، ومن قتل أحدا بغير حكم شرعي، وإنما قتله بموجب رأيه هو، فهذا يقام عليه القصاص إذا طلب ولي المقتول، إلا إذا أثبت شرعا أن المقتول مرتد عن الإسلام، فلا قصاص عليه، ولكن للسلطان أن يؤدبه للتعدي على صلاحياته بما يراه (¬2). ¬

(¬1) "مراجعات في فقه الواقع" (ص49). (¬2) مراجعات في فقه الواقع".

صفات الخوارج قال فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان تكلم شيح الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رسالة له تسمى (قاعدة أهل السنة والجماعة) بعد أن أورد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬1) إلى قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬2) وذكر قول ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. قال: " وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخوارج " أنهم كلاب أهل النار" (¬3) وقرأ هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال الإمام أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج عن عشرة أوجه خرجها مسلم في "صحيحه". وخرج البخاري طائفة منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية " (¬4) ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: (102). (¬2) سورة آل عمران، الآية: (106). (¬3) رواه الترمذي (3000) وحسنه، وابن ماجه (176)، وأحمد (5/ 352)، وصححه الحاكم (2/ 163) (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (3610) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد، والرواية من حديثه عند البخاري (3344)، ومسلم.

وفي رواية: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان". (¬1). ثم بين الشيخ- رحمه الله- من هم الخوارج فقال: " والخوارج هم أول من كفر المسلمين، يكفرون بالذنوب-يعني التي هي دون الشرك- ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع، يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها". هذا ما قاله الشيخ في بيان حقيقة الخوارج. أقول بهذه المناسبة: لما كانت حقيقة الخوارج أنهم يكفرون من المسلمين من ارتكب كبيرة دون الشرك، فإنه قد وجد في هذا الزمان من يطلق هذا اللقب: لقب الخوارج على من حكم بالكفر على من يستحقه من أهل الردة ونواقض الإسلام، كعباد القبور وأصحاب المبادئ الهدامة، كالبعثية والعلمانية وغيرها، ويقولون: أنتم تكفرون المسلمين فأنتم خوارج؛ لأن هؤلاء لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا يعرفون نواقضه، ولا يعرفون حقيقة مذهب الخوارج، بأنه الحكم بالكفر على من يستحقه بأن ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام هو مذهب أهل السنة والجماعة. كما يؤخذ من اتصاف الخوارج بكثرة العبادة والتلاوة والزهد مع عدم الفقه في الدين، أن كثرة العمل من غير اتباع للكتاب والسنة، ومن غير فقه في معانيهما، لا تفيد الإنسان شيئا، ولا يجوز الاغترار بمن هذه صفته، ¬

(¬1) انظر "صحيح البخاري" (3610) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد، والرواية من حديثه عند البخاري (3344)، ومسلم.

وأنه لا يجوز الحكم بالكفر على كل من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، إلا أن تكون هذه الكبيرة من نواقض الإسلام المعلومة، كدعاء غير الله، والذبح، والنذر للقبور، وما أشبه ذلك. ثم قال الشيخ رحمه الله: " وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق. وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعاقب الطائفتين؛ أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر. وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" ورواه عنه البخاري في "صحيحه" (¬1). قال الشيخ: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات، ولا يدعون الجمعة والجماعة؛ كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم. فإن كان الإمام مستورا لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وحصلت الصلاة ¬

(¬1) رواه البخاري (3671).

خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق -مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر، وليس هناك جمعة أخرى، فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم. وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد: إنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله. إلى أن قال: فالصلاة خلف المستور: جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال: إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد" انتهى كلام الشيخ. ومقصوده أن الصلاة تصح خلف المسلم، ولو كان فاسقا، خصوصا

إذا كان من ولاة الأمور من أجل اجتماع الكلمة، أو لم يكن هناك غيره من أئمة المساجد الصالحين؛ وترتب على عدم الصلاة خلفه ترك الجمعة أو الجماعة، أما من ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام كالاستغاثة بالأموات والذبح لهم والطواف بقبورهم تقربا إليهم وطلبا للحوائج منهم، فهذا لا تصح الصلاة خلفه، لأنه كافر مرتد عن دين الإسلام والصلاة إنما تصح خلف المسلم. وهذا التفصيل لا بد منه خصوصا في هذا الزمان الذي كثرت فيه عبادة القبور، وربما يكون بعض أئمة المساجد من عباد القبور، فهذا لا تصح الصلاة خلفه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (¬1). ويقول فضيلته حفظه الله: يمضي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "فتاواه" في بيان منهج أهل السنة، ويتعرض لمسألة خطيرة طالما زلت فيها أقدام، وضلت فيها أفهام، وصدرت فيها أوهام، ألا وهي مسألة تكفير المسلم، وبيان موقف أهل السنة والجماعة من هذه المسألة فيقول رحمه الله: "ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬2) ¬

(¬1) "أضواء من فتاوى شيخ الإسلام من ابن تيمية" لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان (1/ 269). (¬2) سورة البقرة، الآية (285)

وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم (¬1). والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم (¬2) قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم. ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خطبهم في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم ¬

(¬1) انظر "صحيح مسلم" (125)، من حديث أبي هريرة. (¬2) "انظر: "صحيح البخاري" (3344) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد.

هذا في بلدكم هذا" (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله" (¬3) وقال: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: " إنه أراد قتل صاحبه" (¬4) وقال: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" (¬5) وقال: " إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما " (¬6) وهذه الأحاديث كلها في الصحاح. وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"؟! وهذا في (الصحيحين) (¬7) وفيها أيضا من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن ¬

(¬1): "رواه البخاري" (105) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة. (¬2) رواه مسلم (2564). (¬3) "رواه البخاري" (391) من حديث أنس بن مالك. (¬4) "رواه البخاري" (31) ومسلم (2888) من حديث أبي بكرة (¬5) "رواه البخاري" (4405) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة. (¬6) "رواه البخاري" (6104) من حديث ابن عمر. (¬7) "رواه البخاري" (3007) ومسلم (2494) من حديث علي.

عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين! (¬1) واختصم الفريقان فأصلح النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق ولم يكفر النبي -صلى الله عليه وسلم- لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة، وكذلك ثبت في "الصحيحين" عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعدما قال: لا إله إلا الله، وعظم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لما أخبره، وقال " يا أسامة! أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ " وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ (¬2) ومع هذا لم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة؛ لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا. فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوه، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬3) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض أخوة مؤمنون، وأمر بالتصالح بينهم بالعدل، ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، ولا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون، ¬

(¬1) انظر: "صحيح البخاري" (2661) ومسلم (2770) من حديث عائشة. (¬2) رواه" البخاري (4269). ومسلم (96) من حديث أسامة ابن زيد. (¬3) سورة الحجرات، الآية (9).

ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال. وقد ثبت في الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل ربه أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم، فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم، فلم يعط ذلك (¬1) وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم، حتى يكون بعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا. وثبت في "الصحيحين" لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال (أعوذ بوجهك)، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال (أعوذ بوجهك)، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: (هاتان أهون) (¬2). هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة" (¬4). وقال: "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" (¬5). وقال: (الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، والذئب إنما يأخذ القاصية ¬

(¬1) رواه مسلم (2889) من حديث ثوبان. (¬2) "رواه البخاري" (7313) وحده من حديث جابر بن عبد الله. (¬3) سورة الأنعام الآية (159) (¬4) رواه الترمذي (2165) وقال حسن صحيح غريب، والنسائي (2165) من حديث عمر. (¬5) رواه الترمذي (2165) وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي (2165) من حديث عمر.

والنائية من الغنم) (¬1) (¬2). ¬

(¬1) (رواه أحمد 5/ 232)، والطبراني (20/ 344 - 355). وضعفه العراقي، كما في "الفيض" للمناوي (2/ 350)، ولكن له شاهد عند البيهقي في الشعب" (2860) لعله يتقوى به. (¬2) "أضواء من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان (1/ 273).

جواب معالي الشيخ/ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ حفظه الله

جواب معالي الشيخ/ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ حفظه الله سؤال: يقول أجلس مع بعض الناس ويقولون: إن العلماء الكبار كفار؛ لأنهم يظاهرون المشركين ويوالونهم، ويعلمون هذا لصغار السن ويربونهم عليه، لا سيما بعد صدور الفتاوى في تحريم التفجيرات في بلاد الكفار؟ جواب: أولا: الواجب على كل مؤمن بالله جل وعلا يرجو لقاءه ويخشى لقاءه: أن يحذر أتم الحذر أن يقول بلا علم، وأن يجترئ على ما ليس له به حجة، سيما في مسائل الاعتقاد، ومسائل الإيمان والتكفير، ومسائل الحلال والحرام، وإذا كان في الحلال والحرام قال الله جل وعلا: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: آية 116 - 117]. هذا فيما يقوله بعض من ليس له حجة بلفظ هذا حلال وهذا حرام وليس عنده بينة، وجميع مسائل القول على الله بلا علم في مسائل: العمليات، والفقهيات، ومسائل العقيدة وهي أشد، تدخل في هذا السبيل ولهذا حرم الله جل وعلا أن يقفو المرء ما ليس له به علم، وأن يقول ما ليس له به علم كما قال جل وعلا: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: آية33]، وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: آية 36]، وفي

الحديث: " من أفتي لفتوى من غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه" (¬1) ومن أعظم ما وقع في الأمة من الانحراف عن الحق: تكفير المسلم الذي ثبت إسلامه، وعدم الاستبيان منه، وهذا كان له بوادر في زمن الصحابة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف تعالج هذه البوادر، كيف ينظر في هذا الأمر؟ فهذا عمر قال في شأن حاطب: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا عمر، أرسله" ثم التفت إلى حاطب وقال: " يا حاطب ما حملك على هذا؟ " فأجاب بجوابه المعروف (¬2) وأسامة بن زيد رضي الله عنهما، لما قتل رجلا يقول: لا إله إلا الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟! " قال: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا. قال: " فما تفعل بلا إله إلا الله؟ " (¬3) وهذا فيه النكير على عدم قبول أسامة إسلام الرجل بقول لا إله إلا الله. واعترض معترض على النبي -صلى الله عليه وسلم- في قسمته المال لما قسم المال بعد إحدى الغزوات فقال: يا رسول الله، اعدل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟ " فأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- مالا كثيرا، ثم قال: ¬

(¬1) الحديث رواه أبو داود في كتاب العلم، باب التوقي في الفتيا، حديث رقم (3657)، وابن ماجه في المقدمة، باب اجتناب الرأي والقياس، حديث رقم (53). (¬2) قصة حاطب رواها البخاري في الجهاد والسير، باب الجاسوس، حديث رقم (3007)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر، حديث رقم (2494). (¬3) قصة أسامة أخرجها البخاري في كتاب المغازي، باب بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، حديث رقم (4269).

" يخرج من ضئضئ هذا أقوام، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية" (¬1) وهم الخوارج. وفي عهد عثمان رضي الله عنه، ظهر هؤلاء الخوارج، وكان أساس انحرافهم هو نظرهم في أن الوالي أو أمير المؤمنين لم يقم بما أوجب الله عليه، فمنهم من كفره، ومنهم من أوجب قتله، حتى قتل بسبب تصرفاته كما يزعمون!. وكفروا طائفة أيضا في ذلك الزمان حتى قام علي رضي الله عنه، وحصل منه ما حصل بالنسبة لهم ثم كفروه، وسار إليهم ابن عباس وكانوا نحوا من مائة وعشرين ألفا ووعظهم وحاجهم، وكان أساس كلامهم في مسألتين: في مسألة: الحكم بما أنزل، وتحكيم الرجال في كتاب الله جل وعلا. وفي مسألة: تكفير من ارتكب المعصية. ومنهم من رجع بعد نقاش ابن عباس لهم، ومنهم لم يرجع، واستمر ذلك في الأمة، فعثمان رضي الله عنه، كفر، وعلي رضي الله عنه، كفر، وهكذا سادات الأمة كفرهم معارضوهم بسبب أو بآخر. والتكفير معناه: الحكم بالخروج من الدين، الحكم بالردة، والحكم بالردة على مسلم ثبت إسلامه لا يجوز إلا بدليل شرعي يقيني بمثل اليقين ¬

(¬1) الحديث أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، حديث (3610)

الذي حصل بدخوله في الإيمان، والأصل في ذلك قول الله جل وعلا في سورة براءة في ذكر المنافقين: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: آية74] وفي آية أخرى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: آية66]، وفي آية سورة آل عمران قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل العمران: آية 90]، ونحو ذلك في أن المؤمن أو من أسلم أو آمن قد يخرج من الدين، ولكن ضبطها أهل السنة والجماعة بضوابط كثيرة معلومة، ثم إن أهل السنة يفرقون ما بين الكلام على الفعل والقول والعمل بأنه كفر، وقيام هذا العمل بمكلف هل هو يخرج به من الدين أم لا؟ لأن المكلف قد يكون جاهلا ببعض المسائل، وقد يكون متأولا، وقد يكون لم تبلغه الحجة التي يصير بها قد قامت عليه الحجة، وقد يكون معذورا، وقد لا يكون، وهذه تحتاج إلى توفر شروط وانتفاء موانع. فأهل السنة وسط في هذا الباب بين: الخوارج: الذين يكفرون بالذنب، ويكفرون بمطلق الحكم بغير ما أنزل الله، وبمطلق الموالاة للكفار ونحو ذلك وأشباهه. وما بين: المرجئة: الذين لا يرون من ثبت إيمانه أنه يخرج من الإيمان بفعل أو بقول أو باعتقاد. وأهل السنة: بين هذا وهذا، ويقولون: إن من ثبت إيمانه بيقين لا يجوز أن يخرج من هذا الإيمان إلا بحجة وظهور الشروط وانتفاء الموانع.

فإذا كان كذلك، فإن الذي يقيم الحجة وينظر في الشروط والموانع هو المؤهل لها شرعا، وهم القضاة الذين عندهم معرفة بما فيه التأويل وما ليس فيه التأويل، وما يكون من أحوال الناس، وبعض طلبة العلم قد لا يحسن منه الدخول في هذا؛ لعدم معرفته بوسائل الإثبات والبينات، وما يحصل به إثبات الشيء من عدمه شرعا، ومسائل القضاء هي التي تترتب عليها الأحكام، وهذه تحتاج فيها إلى حكم قاض يثبت فيه الكفر على المعين؛ لأنه إذا ثبت الكفر على معين فإنها ستترتب آثار الردة عليه، وهي كثيرة. إذا تبين هذا، فإن أعظم من يحذر من النيل من إيمانه، والنيل من صحة إسلامه وصحة اعتقاده هم علماء أهل السنة والجماعة، القائمون بأمر الله، فعلماء المسلمين عموما هم القائمون بأمر الديانة وهم الذين يؤخذ عنهم الدين وهم الذين يبصرون الناس بالحق من غيره، ومن توجه إليهم بالتكفير فأول ما يتجه له قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما" (¬1). ولا بد، إما أن يبوء بها القائل، أو يبوء بها الآخر، هذا خطر عظيم على قائل تلك الكلمة، خطر عظيم جدا على دينه؛ لأنه إما أن يكون الآخر كما قال، وإما أن ترجع عليه بهذا الحكم، وهذا يوجب الحذر الشديد من مثل هذه الكلمة. ¬

(¬1) رواه مسلم في "الصحيح" (60) والبخاري في الصحيح (5752) وأبو عوانة في "المسند" (1/ 22).

والعلماء -لا شك- أن عندهم من البصر بالشريعة والبصر بالكتاب والسنة والدلائل الشرعية ما يجعلهم ينظرون في المسائل نظرا واسعا والمسائل الشرعية في فقهها مبنية على مقدمتين: أما المقدمة الأولى فهي: ورود الدليل، وهو محل الاستدلال، وهو ورود الدليل من الكتاب أو السنة على المسألة التي فيها تنازع، ثم فهم هذا الدليل- يعني هذه في المقدمة الأولى، وفهم الدليل من قبلهم فهما يجعل عندهم ظهور بأن معنى هذه الآية هو كذا، ومعنى هذا الحديث هو كذا. والمقدمة الثانية: أن يكون هناك تحقيق للمناط في تنزيل هذا الحكم على هذا الدليل، أو في إلحاق هذه المسألة بالدليل ليؤخذ منه الحكم. وتنقيح المناط صنعة اجتهادية كما قرره الشاطبي رحمه الله في كتابه " الموافقات" وأهل العلم يختلفون عن سائر القراء أو طلبة العلم أو من عنده قراءة في قيام هذه الفتوى عندهم على هاتين المقدمتين، وكثير من طلبة العلم قد يعلم الأولى، لكن لا يعلم الثانية، وهي: فقه تنزيل النازلة على وجه الدليل لينظر فيها بالحكم. هذا يقتضي أن يقي طالب العلم نفسه في أنه ينظر إلى تبرئة ذمته بأن يجعل كلام أهل العلم الذين اجتمعوا على قول ما أن يجعله مانعا له من أن يخوض في المسألة بغير علم؛ لأن المرء ينظر إلى أنه إذا خالفه واحد ممن هو أعلم منه قد يشك في ما اتجه إليه؛ فكيف إذا كان جمع كبير من علماء المسلمين أو من العلماء الربانيين، ينظرون إلى هذا الأمر ويخالفونه أو

يقولون فيه بقول. لهذا فالقول- أي ما ذكره السائل بقوله: إن العلماء الكبار كفار؛ لأنهم يظاهرون المشركين- هذا من الخطر العظيم من أن يقول قائل بمثل هذه الكلمة: أولا: لأن العلماء الكبار يبينون الحق، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم في زمن الخوارج يبينون الحق، وإذا اتهمهم أحد أو رماهم بالكفر لأجل تبيينهم الحق فلا يعني أن رمي هذا الرامي أنه موافق للصواب، بل جنايته على نفسه، ويجب أن يؤخذ على يده، وأن يعزر تعزيرا بليغا من قبل القضاة بما يحجزه عن ذلك، ولما فات التعزير الشرعي في مثل هذه المسائل كثر القول، وكثر الخوض فيها، وقد كان القضاة فيما مضى يعزرون في قول المسلم لأخيه: يا كلب! أو يا كذا بما فيه انتقاص له، فكيف إذا كان فيه رمي بمثل هذا الرمي العظيم الذي لا يجوز لمسلم يخشى الله أن يتفوه به فضلا على أنه يعتقده. ثم ما يتعلق بمظاهرة المشركين وتولي الكفار، فإن هذه المسألة بحثناها في عدة مجالس وفي عدة شروح، وبينا فيها أن عقد الإيمان يقتضي موالاة الإيمان والبراءة من الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: آية 55 - 56]، وعقد الإيمان يقتضي البراءة من المعبودات والآلهة الباطلة المختلفة ومن عبادتهم لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: آية 26 - 28]

فأساس الإيمان هو الولاء للإيمان والبراءة من الكفر وعبادة غير الله جل وعلا، ويتضمن ذلك موالاة أهل الإيمان والبراءة من أهل الكفر على اختلاف مللهم. هذه الموالاة منها ما يكون للدنيا، ومنها ما يكون للدين فإذا كانت للدنيا، فليست بمخرجة من الدين، ومما قد يكون في بعض الأنواع من الموالاة في الدنيا: من الإكرام أو البشاشة أو الدعوة أو المخاطبة ما قد يكون مأذونا به ما لم يكن في القلب مودة لهذا الأمر، من مثل ما يفعل الرجل مع زوجته النصرانية، ومن مثل ما يفعله الابن مع أبيه غير المسلم، ونحو ذلك مما فيه إكرام وعمل في الظاهر، ولكن مع عدم المودة الدينية في الباطن، فإذا كانت الموالاة للدنيا فإنها غير جائزة إلا في ما استثني، كما ذكرنا في حال الزوج مع الزوجة والابن مع أبيه مما يقتضي معاملة وبرا وسكونا، ونحو ذلك. أما القسم الثاني: فأن تكون الموالاة للدنيا، ولكن ليس لجهة قرابة وإنما لجهة مصلحة بحتة في أمر الدنيا، وإن فرط في أمر دينه، فهذه موالاة غير مكفرة، لأنها في أمر الدنيا وهذه التي نزل فيها قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]، وهنا أثبت أنهم ألقوا بالمودة وناداهم باسم الإيمان، قال جمع من أهل العلم:

مناداة من ألقى المودة باسم الإيمان دل على أن فعله لم يخرجه من اسم الإيمان. هذا مقتضى استفصال النبي صلى الله عليه وسلم من حاطب رضي الله عنه، حيث قال له في القصة المعروفة " يا حاطب، ما حملك على هذا؟ " يعني أن أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن حمله عليه الدنيا وليس الدين. والقسم الثالث: موالاة الكافر لدينه، يواليه ويحبه ويوده وينصره لأجل ما عليه من الشرك ومن الوثنية ونحو ذلك، يعني محبة لدينه، فهذا مثله، هذه موالاة مكفرة لأجل ذلك، والإيمان الكامل ينتفي مع مطلق موالاة غير المؤمن بمودته ومحبته ونحو ذلك منافية للإيمان الواجب لقول الله جل وعلا: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: آية 22] أما مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين هذا من نواقض الإسلام، كما هو مقرر في كتاب فقه الحنابلة وذكره العلماء ومنهم: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في النواقض العشر، الناقض الثاني. وهذا الناقض مبني على أمرين: الأول: المظاهرة. والثاني: الإعانة. قال: " مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين". والمظاهرة: أن يتخذ أو أن يجعل طائفة من المسلمين أنفسهم

ظهرا للكافرين، يحمونهم فيما لو أراد طائفة من المؤمنين أن يقعوا فيهم يحمونهم، وينصرونهم، ويحمون ظهورهم وبيضتهم، هذه مظاهرة، بمعنى أنه صار ظهرا لهم. قول الشيخ رحمه الله: " مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين" مركبة من أمرين: المظاهرة، بأن يكون ظهرا لهم بأي عمل، أي يكون ظهرا يدفع عنهم ويقف معهم ويضرب المسلمين لأجل حماية هؤلاء. وأما الثاني: فإعانة المشرك على المسلم، فضابطها أن يعني قاصدا ظهور الكفر على الإسلام؛ لأن مطلق الإعانة غير مكفر؛ لأن حاطب رضي الله عنه حصل منه إعانة لهم، إعانة للمشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من العمل، والإعانة بكتابة سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسير إليهم، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- استفصل منه، فدل على أن الإعانة تحتاج إلى استفصال، والله جل وعلا قال في مطلق العمل هذا: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: آية 1] لكن ليس بمكفر إلا بقصد، فلما أجاب حاطب بأنه لم يكن قصده ظهور الكفر على الإسلام، قال يا رسول الله ما فعلت هذا رغبة في الكفر بعد الإسلام، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا له يد يدفع بها عن أهله وماله، وليس لي يد في مكة، فأردت أن يكون لي بذلك يد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" (¬1). ¬

(¬1) رواه أحمد في "المسند" (2/ 295) ومسلم في "الصحيح" (2494) والبخاري في " الصحيح " (2845) والترمذي في "السنن" (3305) وأبو داود في "السنن" (2650) والنسائي في "الكبرى" (8419).

وحاطب فعل أمرين: الأمر الأول: ما استفصل فيه، وهي مسألة: هل فعله قاصدا ظهور الكفر على الإسلام، ومحبة للكفر على الإسلام؟. لو فعل ذلك لكان مكفرا ولم يكن حضوره لأهل بدر غافرا لذنبه، لأنه يكون خارجا عن أمر الدين. الأمر الثاني: أنه حصل منه نوع إعانة لهم، وهذا الفعل فيه ضلال وذنب، والله جل وعلا قال: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: آية 1] إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} إلى قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الممتحنة: آية 6] أي في إبراهيم ومن معه. وهذا يدل على أن الاستفصال في هذه المسألة ظاهر، فالإعانة فيها استفصال، وأما المظاهرة بأن يكون ظهرا لهم ويدفع عنهم ويدرأ عنهم ما يأتيهم ويدخل معهم ضد المسلمين في حال حربهم لهم هذا من نواقض الإسلام التي بينها أهل العلم. فهذه المسائل اقتضى الجواب فيها إطالة الجواب فيها للسؤال ومع الأسف إنه على كثرة ما جاء من بحوث في هذه -من قديم- من وقت سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز والشيخ محمد بن عثيمين وكثرت هذه المسائل ورددت لكن نخشى أن يكون المنهج التكفيري يمشي في الناس. والخوارج سيبقون، ومعتقدات الخوارج ستبقى، والناس إن لم

يتداركوا أنفسهم قد يكون فيهم خصلة من خصال الضلال؛ إن لم يحذروا من ذلك. والواجب علينا جميعا أن نحذر ونتنبه للحق، وأن نتواصى به، وأن نكون حافظين لألسنتنا من الوقوع في ورثة الأنبياء وهم العلماء، ولقد أحسن ابن عساكر رحمه الله إذا قال في فاتحة كتابه: " تبيين كذب المفتري" قال: " ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في منتقصيهم معلومة" وهذا ظاهر بين، والتجربة تدل عليه ورؤية الواقع تدل عليه. وقانا الله وإياكم من زلل الأقوال، ومن زلل الأعمال، وسوء المعتقدات، وهدى ضال المسلمين، وبصرنا وإياهم بالحق. وبالمناسبة نحتاج إلى أن نفقه كيف يرد على من خالف في مثل هذه المسائل والمخالفين في التكفير أو في التضليل أو في ذكر الأمور على غير ما هي عليه، يجب: أولا: أن لا يرد الباطل بباطل، وأن الباطل يرد بحق، من كفرنا لا نكفره لأجل تكفيره لنا، ومن بدعنا لا نبدعه لأجل تبديعه لنا، وإنما هذه مسائل تحتاج إلى رد الباطل بالحق. هذا هو منهج السلف الصالح، منهج أئمة أهل السنة والجماعة. ثانيا: أن يحرص على هداية هؤلاء، وينظر إليهم في الهداية بما يناسبهم إذا كانوا يحتاجون إلى نصيحة ينصحون، أو إلى إجابة للشبهات يجاب عليهم، فقد يهدي الله جل وعلا بعض أولئك كما هدى طائفة من الخوارج مع ابن عباس رضي الله عنهما.

ثم الدعاء في مثل هذه الأزمات والفتن والمصائب التي تقع ليس للمرء منجى ولا ملجأ إلا بربه جل جلاله، فمن ترك الصلة بينه وبين ربه بالدعاء وبسؤال الإعانة والبصيرة فإنه يؤتى، وإذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد من الله جل وعلا وهو صاحب الشريعة، وهو المهدي بالوحي من الله جل وعلا للحق يقول في دعائه: " اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" فكيف بحالنا؟ وحال أمثالنا؟ لا شك أننا أحوج إلى السؤال والدعاء في ذلك، الدعاء لأنفسنا، والدعاء أيضا لمن نعلمه قد خالف الحق في ذلك، وإذا خالف وكفر وضل واعتدى على الإنسان في دينه أو في عرضه أو تكلم، لا يعني ذلك أن تقابل إساءته بمثلها بل تصبر عليه، تدعو له؛ لأن طالب العلم همه إصلاح الخلق، قد يستجيبون وقد لا يستجيبون، ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء (¬1) ¬

(¬1) "شرح مسائل الجاهلية" لمعالي الشيخ: صالح آل الشيخ، بتاريخ 21/ 10/1422هـ، (مسجل في شريط شرح المسألة: 64، 63، 62، 61).

رسالة الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله

رسالة الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد العزيز الخطيب. السلام على من اتبع الهدى، وعلى عباد الله الصالحين، وبعد: فقرأت رسالتك، وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار. ولكن أسأت في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق، واعتقاد أصابتكم أنه لم يصدر منكم. وتذكر أن إخوانك من أهل "النقيع" يجادلونك، وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور. وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالبا على سبيل القدح في العقيدة والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير، فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن سبيل الرشد والعمى. وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء، قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين. وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده (¬1) الذي رد دعوة الشيخ محمد، ولم يقبلها، وعاداها. قالا: ومن لم يصرح ¬

(¬1) جد ابن فيروز المذكور، هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز، ولد سنة 1142هـ بالأحساء وتوفي سنة 1216هـ بالبصرة، ودفن في بلدة الزبير -كان- عفا الله عنه- ألد أعداء الدعوة السلفية، له في محاربتها: رسائل وقصائد، وأجوبة. وأبوه عبد الله يكون ابن عمة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى

بكفره، فهو كافر لم يكفر بالطاغوت، ومن جالسه فهو مثله. ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام. فرفع إلي أمرهم، فأحضرتهم، وتهددتهم، وأغلظت لهم القول. فزعموا أولا أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم. فكشفت شبهتهم، وأدحضت حجة ضلالتهم بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسوله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا له فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية. وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك. وقد أفرد ابن حجر (¬1) هذه المسألة بكتاب سماه: "الإعلام بقواطع الإسلام". وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، ودعا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من ¬

(¬1) الهيثمي.

مشايخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور. وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعادات والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب. والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب- وفي غيره- لمن جهلها وأعرض عنها وعن تفاصيلها فإن الإجمال والإطلاق وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن، قال ابن القيم في كافيته رحمه الله تعالى فعليك بالتفصيل والتبيين ... فالإطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبطا ... الأذهان والآراء كل زمان وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام، فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب -أمير المؤمنين- ومن معه من الصحابة. فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا:

حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية وعمرا، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت " براءة" وطال بينهما النزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي. فحينئذ شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان بعد الإعذار والإنذار. والتمس المخدج المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكرا على توفيقه، وقال لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل. هذا وهم أكثر الناس عبادة وصلاة وصوما.

فصل ولفظ الظلم، والمعصية، والفسوق، والفجور، والموالاة، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها: مسماها المطلق، وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة. والأول هو الأصل عند الأصوليين. والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية. وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقي، يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي. ألا ترى أن الزاني والسارق والشارب ونحوهم يدخلون في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}. ولا يدخلون في مثل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} الآية. وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر. وفي الحديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن " (¬1)، وقوله: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه" (¬2). لكن نفي الإيمان هنا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله. وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة، ونحوهم من أهل الأهواء. فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام. وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة في الدور الثلاث. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في مواضع من "صحيحه" منها: كتاب المظالم باب النهبى بغير إذن صاحبه: (5/ 119 - 120)، ومسلم في كتاب الإيمان من "صحيحه" رقم: (57) عن أبي هريرة رضي الله عنه (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب من " صحيحه" باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه: (10/ 443)، ومسلم في كتاب الإيمان، رقم (46) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ولذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة. فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد. وكان عبد الله حمار (¬1) يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله) مع أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها ومعتصرها وحاملها، والمحمولة إليه. وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة (¬2) وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أن كتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله ومسيره لجهادهم؛ ليتخذ بذلك يدا عندهم، تحمي أهله وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير في طلب الظعينة، وأخبرهما أنهما يجدانها في روضة خاخ، فكان ذلك، وتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: (ما هذا؟) فقال: يا رسول، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما ¬

(¬1) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه": كتاب الحدود: باب ما يكره من لعن شارب الخمور وأنه ليس بخارج من الملة: (8/ 14) ط التركية، عن عمر رضي الله عنه أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا .. إلخ. (¬2) انظرها في "صحيح البخاري" في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين: (12/ 304).

أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي فقال صلى الله عليه وسلم " صدقكم خلوا سبيله". واستأذن عمر في قتله، فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق (¬1). قال: " وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم؟ ". وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآيات. فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل. لكن قوله: " صدقكم خلوا سبيله" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك؛ إذا كان مؤمنا بالله ورسوله، غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قال: " خلوا سبيله". ولا يقال: قوله صلى الله عليه وسلم "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " (¬2) هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو ¬

(¬1) جاء في بعض الروايات أن عمر قال: يا رسول الله، أمكني منه، فإنه قد كفر" قال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 309): وردت بسند صحيح. اهـ. (¬2) رواه أحمد في "المسند" (2/ 295) ومسلم في "الصحيح" (2494) والبخاري في "الصحيح" (2845) والترمذي في "السنن" (3305) وأبو داود في "السنن" (2650) والنسائي في "الكبرى" (8419).

كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ما قبله؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع، فلا يظن هذا. وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فقد فسرته السنة وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة. وأصل الموالاة هي: الحب والنصرة والصداقة ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب حظه، وقسطه من الوعيد والذم. وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفي غيره، وإنما أشكل الأمر وخفيت المعاني والتبست الأحكام على خَلُوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن. ولهذا قال الحسن رضي الله عنه: "من العجمة أُتُوا". وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد أن هذا وعد، والله لا يخلف وعده -بشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود، فقال له ابن العلاء: "من العجمة أتيت، هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول

الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره: إن من سعادة الأعجمي والعربي إذا أسلما أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا، وييسرا لصاحب هوى وبدعة. ونضرب لك مثلا: وهو أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله، أحدهما خارجي، والآخر مرجئ. قال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها، إذ لا قائل: إنهم من عباد الله المتقين. قال المرجئ: هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك يقبل منه عمله لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} قال الخارجي: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} يرد ما ذهبت إليه. قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله، واتخاذ الأنداد معه لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. قال الخارجي: قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} دليل على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها. قال له المرجئ قوله في آخر الآية {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}

دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان. ومن وقف على هذه المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى. وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله؛ لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم واجب. وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم وأذواقهم. وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} على بعض ما يجري من أمراء الوقت من مكاتبة، أو مصالحة، أو هدنة لبعض الرؤساء الضالين والملوك المشركين (¬1)، ولم تنظروا لأول الآية، وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}، ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر المعروف المذكور في هذه الآية الكريمة. وفي قصة صلح الحديبية، وما طلبه المشركون واشترطوه، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم، ودحض أباطيلكم. ¬

(¬1) هذا الاستدلال الخاطئ، هو نفس استدلال بعض أهل زمننا بهذه الآية وأشباهها على تكفير الدولة المسلمة.

فصل وهنا أصول: أحدها: أن السنة والأحاديث النبوية: هي المبينة للأحكام القرآنية وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن، والكافر، والمشرك، والموحد والفاجر، والبر، والظالم، والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود. كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها. وكذلك الزكاة، فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة، معرفة النصاب، والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته: إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك أبواب الربا وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي. وكل هذا البيان أخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان ومعرفة معاني التنزيل والقرآن.

الأصل الثاني: أن الإيمان أصل له شعب متعددة، كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعا، كشعبة الشهادتين. ومنها ما لا يزول بزواله إجماعا، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب. والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. وكذلك الكفر -أيضا- ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر. والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام. وفرق بين من ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف، وبين من يسرق، ويزني أو يشرب، أو ينهب أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب. فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. الأصل الثالث: أن الإيمان مركب من قول وعمل.

والقول قسمان: قول القلب وهو: اعتقاده. وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو قصده، واختياره، ومحبته ورضاه، وتصديقه. وعمل الجوارح: كالصلاة، والزكاة والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة. فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه؛ زال الإيمان بالكلية. وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله؛ فهذا محل خلاف، هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة والحج والزكاة والصيام، أو لا يزول؟ وهل يكفر تاركه، أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها، أو لا يفرق؟ فأهل السنة مجمعون على أنه من عمل القلب، الذي هو محبته ورضاه وانقياده. والمرجئة تقول: يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا. والخلاف في أعمال الجوارح، هل يكفر أو لا يكفر واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج.

والقول الثاني: أنه لا يكفر إلا من جحدها. والثالث: الفرق بين الصلاة وغيرها. وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه، وما دون ذلك وبين ما سماه الشارع كفرا، وما لم يسمه. هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها. الأصل الرابع: أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله جحودا وعنادا، من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له. وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل، فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" (¬1) وقوله: " من أتى كاهنا فصدقه، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (¬2) فهذا من الكفر العلمي، وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر. وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه، مؤمنا بما عمل به، وكافرا بما ترك العمل به، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الآية. فأخبر تعالى أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم. ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب. وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الفتن من "صحيحه" (13/ 26) ومسلم في الإيمان رقم: (119) عن ابن عمر. (¬2) أخرجه الترمذي في "سننه" بأبواب الطهارة: (1/ 242ص -243)، وابن ماجه: (1/ 209)، بهذا اللفظ وأخرجه أبو داود في سننه (4/ 225 - 226)، بلفظ: "برئ مما أنزل على محمد" كلهم من طريق حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة .. وقد صحح الحديث من المعاصرين الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي والشيخ الألباني في "الإرواء (7/ 68).

تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي. والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي. وفي الحديث الصحيح" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (¬1) ففرق بين سبابه وقتاله، وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفرا، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي. وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان. وهذا التفصيل قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم. والمتأخرون لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين: فريق أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار. وفريق جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان. فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك وظلم دون ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الفتن من "صحيحه" (13/ 26)، ومسلم رقم (64) عن عبد الله بن مسعود.

ظلم. فعن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: "ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه" رواه عنه سفيان وعبد الرزاق. وفي رواية أخرى "كفر لا ينقل عن الملة" (¬1). وعن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وهذا بين في القرآن لمن تأمله، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما ¬

(¬1) هذا الأثر صحيح عن ابن عباس، ورد عنه من طرق عديدة: منها ما رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (6/ 256) عن هناد بن السري قال: حدثنا وكيع بن الجراح-وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي- عن سفيان عن معمر بن راشد عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله. هناد ووكيع وسفيان ومعمر .. إلخ أئمة ثقات، فالسند صحيح في غاية الصحة. وقال ابن جرير: حدثني الحسن، قال: ثنا أبو أسامة عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه، قال: قال رجل لابن عباس في هذه الآيات: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) فمن فعل هذا فقد كفر. قال ابن عباس: " إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا، أبو أسامة هو: حماد بن أسامة، ثقة إلا أنه رمي بالتدليس. وأخرج الحاكم في "المستدرك" (2/ 313) من جهة هشام بن حجير عن طاوس قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: " إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " كفر دون كفر" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

أنزل الله كافرا، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا، وليس الكفران على حد سواء. وسمى الكافر ظالما في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما، فقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، وقال آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}، وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وسمى الكافر فاسقا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ}، وسمى العاصي فاسقا في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنبأ فَتَبَيَّنُوا}، وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وقال: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، وليس الفسوق كالفسوق. وكذلك الشرك شركان: شرك لا ينقل عن الملة وهو: الشرك الأصغر، كشرك الربا. قال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} الآية. وقال تعالى في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.

وفي الحديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) (¬1) وفي الحديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك) (¬2) ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" (¬3) فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عن الملة. وكذلك النفاق نفاقان: نفاق اعتقادي. ونفاق عملي. والنفاق الاعتقادي مذكور في القرآن في غير موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار والنفاق العملي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقا ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند": (5/ 428 - 429) عن محمود بن لبيد. قال الحافظ في "بلوغ المرام": إسناده حسن. اهـ (¬2) أخرجه الإمام أحمد في "المسند": (2/ 34 - 86) وهو صحيح، وقد خرجته في رسالة "الرد على شبهات المستعينين بغير الله " لابن عيسى. (¬3) أخرجه أبو يعلى في "مسنده": (1/ 60 - 63) عن أبي بكر رضي الله عنه ومداره على ليث بن أبي سليم. وأخرج نحوه الإمام أحمد: (4/ 403) عن أبي موسى رضي الله عنه وفي إسناده أبو علي -رجل من بني كاهل - ذكره ابن حبان في "الثقات". وأخرجه الحكيم الترمذي عن ابن عباس. وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع": رقم (3730 - 3731).

خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان" (¬1) قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم، وكمل، فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا. انتهى. الأصل الخامس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا، وإن كان ما قام به كفر. كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه أن يسمى عالما أو طبيبا أو فقيها. وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في الحديث: "اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت (¬2) وحديث: " من حلف بغير الله فقد كفر" (¬3) ولكنه لا يستحق اسم الكفر على ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/ 89) ومسلم (58) عن عبد الله بن عمرو. (¬2) أخرجه مسلم: (67) عن أبي هريرة. (¬3) رواه ابن حبان في "الصحيح" (4358) والحاكم في المستدرك" (45) وأبو عوانة في "المسند" (5967) والترمذي في "السنن" (1535) وأبو داود في "السنن" (3251).

الإطلاق. فمن عرف هذا عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم. قال ابن مسعود: (من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ". وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما: الغلو، ومجاوزة الحد والإفراط. والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط. قال ابن القيم لما ذكر شيئا من مكائد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر. وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم الثابت على الصراط الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وأصحابه. وعد -رحمه الله- كثيرا من هذا النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلا عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة (¬1)، (¬2) ¬

(¬1) انتهى كلام ابن القيم من "إغاثة اللهفان" (1/ 116 - 117) (¬2) رسالة أصول وضوابط في التكفير للعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ -رحمه الله- وكافة الحواشي على هذه الرسالة من صنع الشيخ الدكتور: عبد السلام بن برجس العبد الكريم.

سئلت اللجنة الدائمة:

سئلت اللجنة الدائمة: من لم يحكم بما أنزل الله هل هو مسلم أم كافر كفرا أكبر وتقبل منه أعماله؟ فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وصحبه .. وبعد. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬1)، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3) لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزا فهو كفر أكبر، وظلم أكبر وفسق أكبر يخرج عن الملة. أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم، يعتبر كافرا كفرا أصغر، وظالما ظلما أصغر، وفاسقا فسقا أصغر لا يخرجه من الملة، كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (¬4) ¬

(¬1) [المائدة: الآية 44] (¬2) [المائدة: الآية 45] (¬3) [المائدة: الآية 47] (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة فتوى رقم (5741). وانظر كذلك الفتوى رقم (5226).

فتاوى الأئمة في حكم الطعن في العلماء

فتاوى الأئمة في حكم الطعن في العلماء

قال عبد الله بن المبارك رحمه الله

قال عبد الله بن المبارك رحمه الله (حق على العاقل أن لا يستخف بثلاثة: العلماء، والسلاطين، والإخوان، فإنه من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالسلطان ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته. (¬1). قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله: (واعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء -رحمة الله عليهم- مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم التناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنشر العلم خلق ذميم. (¬2) ¬

(¬1) "سير أعلام النبلاء (17/ 251). (¬2) "تبيين كذب المفتري" (28).

قال العلماء سعد بن عتيق محمد بن إبراهيم، عمر بن سليم، محمد بن عبد اللطيف، عبد الله العنقر

قال العلماء سعد بن عتيق محمد بن إبراهيم، عمر بن سليم، محمد بن عبد اللطيف، عبد الله العنقري " ومما ينبغي التنبيه عليه ما وقع من كثير من الجهلة من اتهام أهل العلم والدين بالمداهنة، والتقصير، وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه، وكتمان ما يعلمون من الحق والسكوت عن بيانه. ولم يدر هؤلاء الجهلة أن اغتياب أهل العلم والدين، والتفكه بأعراض المؤمنين، سم قاتل، وداء دفين، وإثم واضح مبين، قال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: آية 58]. أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من اللوم ... أو سدوا المكان الذي سدوا فإذا سمع المنصف هذه الآيات، والأحاديث والآثار، وكلام المحققين من أهل العلم والبصائر، وعلم أنه موقوف بين يدي الله ومسئول عما يقول ويعمل، وقف عند حده، واكتفى به عن غيره. وأما من غلب عليه الجهل والهوى، وأعجب برأيه، فلا حيلة فيه، نسأل الله العافية لنا، ولإخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه" (¬1). ¬

(¬1) نصيحة مهمة في ثلاث قضايا.

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله " الواجب على المسلم أن يحفظ لسانه عما لا ينبغي، وألا يتكلم إلا عن بصيرة. فالقول بأن فلانا لم يفقه الواقع، هذا يحتاج إلى علم، ولا يقوله إلا من عنده علم، حتى يستطيع الحكم بأن فلانا لم يفقه الواقع. أما أن يقول هذا جزافا. ويحكم برأيه على غير دليل، فهذا منكر عظيم لا يجوز، والعلم بأن صاحب الفتوى لم يفقه الواقع يحتاج إلى دليل، ولا يتسنى ذلك إلا للعلماء" (¬1). ¬

(¬1) مجلة رابطة العالم الإسلامي العدد (313) بواسطة الكتاب القيم النافع قواعد في التعامل مع العلماء للشيخ الدكتور: عبد الرحمن بن معلا اللويحق.

مقال فضيلة الشيخ / د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

مقال فضيلة الشيخ / د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإنه لما حصل التفجير والتخريب من جماعة من الشباب غرر بهم، ولقنوا أفكارا فاسدة من قبل أعداء الإسلام والمسلمين، أجمع كل المحللين على أن سبب هذا العمل الإجرامي هو بعد الشباب عن العلماء الراسخين الموثقين، وقال بعض هؤلاء المحللين: إن العلماء مقصرون في توجيه هؤلاء الشباب وتحصينهم من تلك الأفكار الهدامة. وأقول: لا شك أن على العلماء واجبا عظيما في هذا المجال، ولكني أقول: أولا: هؤلاء الشباب الذين تلقنوا تلك الأفكار الهدامة ينفرون من العلماء ومن المجتمع كله، بل من والديهم وأقاربهم ولا يرون في المساجد ولا في ملتقى الناس وتجمعاتهم، وإنما يفرون إلى أمكنة مجهولة، يتلقون فيها التوجيهات من قادتهم وزملائهم، فكيف يتمكن العلماء من اللقاء بهم!! وهم يفرون ويتحاذرون منهم. ثانيا: هناك من يسقط منزلة العلماء في المجتمع من خلال الفضائيات ومن خلال بعض الصحف، فهناك من يسب الأئمة القدامى، كالإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيرهم، ويفضل علماء الضلال عليهم، كعلماء الجهمية، والمعتزلة، والباطنية،

وهناك من يقلل من شأن العلماء المعاصرين، ويصفهم بالتشدد، والسطحية في التفكير، وقصور النظر، وأنهم لا يفهمون فقه الواقع، وأنهم علماء جزئيات، وأصحاب مناصب، أو علماء سلاطين، أو عملاء، وغير ذلك من الألقاب المنفرة عنهم، ويلمعون للشباب أصحاب المناهج الجديدة، والمفكرين، الذين ليس عندهم علم بالأحكام الشرعية، وإنما عندهم ثقافة عامة، لا تفرق بين صحيح وسقيم في العقيدة، فكيف يلقى باللائمة مع هذه المعوقات على العلماء؟! أو يقال إنهم في بروج عاجية لا يلتقون بالشباب ولا ينزلون في الميادين .. ثالثا: هناك من يقولون إذا أفتى العلماء بخلاف ما يهوون فإن العلم ليس مقصورا على علماء المملكة، فهناك علماء يرون غير هذا الرأي الذي رآه علماء المملكة، وكأن الشريعة في نظر هؤلاء تؤخذ من آراء الرجال والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: آية 59]. فالله لم يكلنا عند الاختلاف إلى آراء العلماء، وإنما أمرنا بالرد إلى كتابه وسنة رسوله، والأخذ بالذي يعضده الدليل من أقوال العلماء، فإن لم يظهر الدليل مع أحدهم وصارت الأقوال متساوية، فإن العمل على ما عليه القضاء والفتوى في البلد، على القاعدة التي تقول: (حكم الحاكم يرفع الخلاف) فالأمور الشرعية ولله الحمد منضبطة، وليست فوضى بحسب الأهواء والرغبات. والذين يقولون هذه الأقوال في حق العلماء يريدون نزع الثقة بهم،

وفصل المجتمع وخصوصا الشباب عنهم، وهذا هدم وتضييع، والشاعر يقول: متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم ويقول الآخر: أرى ألف بان لا تقوم لهادم ... فكيف ببان خلفه ألف هادم وإذا لم ترد الأمور إلى أهل العلم الراسخين، وأهل الرأي الحصيف من العقلاء؛ ضاعت الأمور، واختلطت المعايير، كما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة ... لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا والله تعالى يقول: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: آية 83]. فالواجب ألا يتدخل في القضايا العامة وحل المشكلات المعضلة إلا أهل العلم، وساسة الأمة، ولا يتدخل في ذلك أصحاب الأهواء والنزعات. نسأل الله أن يوفق علماءنا وولاة أمورنا لما فيه الخير والصلاح، وأن يجعلهم هداة مهتدين، وأن يصلح بطانتهم، ويبعد عنهم بطانة السوء والمفسدين، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (¬1). ¬

(¬1) جريدة الجزيرة 12/ رجب /1424.

فتاوى الأئمة في بعض أحكام الصلح والجهاد

فتاوى الأئمة في بعض أحكام الصلح والجهاد

قال الشيخ سعد بن عتيق - رحمه الله

قال الشيخ سعد بن عتيق - رحمه الله -: "ومما انتحله بعض هؤلاء الجهلة المغرورين: الاستخفاف بولاية المسلمين، والتساهل بمخالفة إمام المسلمين، والخروج عن طاعته، والافتيات عليه بالغزو وغيره، وهذا من الجهل والسعي في الأرض بالفساد بمكان، يعرف ذلك كل ذي عقل وإيمان، وقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة وإن الخروج عن طاعة ولي أمر المسلمين من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد والعدول عن سبيل الهدى والرشاد " (¬1). وقال الشيخ عمر بن محمد بن سليم - رحمه الله -: " ... ولا يجوز الافتيات عليه بالغزو وغيره وعقد الذمة والمعاهدة إلا بإذنه، فإنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، فإن الخروج عن طاعة ولي الأمر من أعظم أسباب الفساد في البلاد والعباد" (¬2). ¬

(¬1) "الدرر السنية" كتاب الجهاد (2/ 302). (¬2) "الدرر السنية" كتاب الجهاد (7/ 313).

جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -

جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - سائل يسأل عن تفسير الآية الرابعة من السورة الكريمة: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (¬1). الجواب: الذين لهم عهد أمر الله رسوله أن يتم عهدهم لهم، ما لم يغيروا، أو ينقضوا العهد، أو يظاهروا أعداء المسلمين، فإن ظاهروهم وجب قتالهم، وإن نقضوا العهد فكذلك، ولذلك لما ساعدت قريش بني بكر على خزاعة، انتقض عهد قريش وبني بكر، وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ودخل مكة وفتحها عنوة عام ثمان من الهجرة، لنقضهم العهد؛ لأن خزاعة كانت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم وكانت بنو بكر في حلف قريش وعهدهم، فهجدت بنو بكر خزاعة، يعني: تعدت عليهم، وأتوهم بغتة -أي: فجأة- وقاتلوهم وهم في حلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستنجدوا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وطلبوا منه أن ينصرهم، ووعدهم النصر، وكانت قريش قد ساعدتهم بالمال والسلاح؛ فلهذا غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح الله عليه مكة؛ لنقضهم العهد، وكان قد عاهدهم عشر سنين، فلما نقضوا العهد بمساعدتهم بني بكر انتقض عهدهم، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح الله عليه (¬2). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: (4) (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (8/ 290).

سؤال: إنني أحب الجهاد وقد امتزج حبه في قلبي. ولا أستطيع أن أصبر عنه، وقد استأذنت والدتي فلم توافق، ولذا تأثرت كثيرا ولا أستطيع أن أبتعد عن الجهاد. سماحة الشيخ: إن أمنيتي في الحياة هي الجهاد في سبيل الله وأن أقتل في سبيله وأمي لا توافق. دلني جزاك الله خيرا على الطريق المناسب؟ الجواب: جهادك في أمك جهاد عظيم، الزم أمك وأحسن إليها، إلا إذا أمرك ولي الأمر بالجهاد فبادر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا" (¬1). وما دام أن ولي الأمر لم يأمرك، فأحسن إلى أمك، وارحمها، واعلم أن برها من الجهاد العظيم، قدمه النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله، كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قيل: (يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها. قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله. فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني) [متفق على صحته]. فقدم برهما على الجهاد. عن عبد الله بن عمرو، قال: جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: " أحي والداك؟ قال: نعم. قال: " ففيهما فجاهد". [متفق على صحته]. وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: " قال: ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما" (¬2)، فهذه الوالدة: ارحمها وأحسن إليها، حتى تسمح ¬

(¬1) رواه البخاري (1737). (¬2) رواه أبو داود (2530).

لك، وهذا كله في جهاد الطلب، وفي ما إذا لم يأمرك ولي الأمر بالنفير، وأما إذا نزل البلاء بك فدافع عن نفسك وعن إخوانك في الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا إذا أمرك ولي الأمر بالنفير فانفر ولو بغير رضاها، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: آية 38] (¬1). س: هل يعتبر عمل المتطوعين في التعاون مع رجال الأمن من الرباط، أم لا؟ ج: عمل المتطوعين في كل بلد ضد الفساد مع رجال الأمن يعتبر من الجهاد في سبيل الله لمن أصلح الله نيته، وهو من الرباط في سبيل الله؛ لأن الرباط هو لزوم الثغور ضد الأعداء، وإذا كان العدو قد يكون في الباطن، واحتاج المسلمون أن يتكاتفوا مع رجال الأمن ضد العدو الذي يخشى أن يكون في الباطن يرجى لهم أن يكونوا مرابطين، ولهم أجر المرابط لحماية البلاد من مكائد الأعداء الداخليين. وهكذا التعاون مع رجال الهيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يعتبر من الجهاد في سبيل الله في حق من صلحت نيته، لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان ¬

(¬1) "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (18/ 256). (¬2) سورة العنكبوت، الآية (69).

له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (¬1). سؤال: يسأل بعض الأطباء والعاملين في النفط، هل إذا أخلصوا النية، وأنهم يقومون بعملهم من أجل الله تعالى، وحدث أن قتلوا بالصواريخ التي يطلقها حاكم العراق، هل يعتبرون من الشهداء؟ الجواب: إذا كانوا مسلمين فهم شهداء، إذا ضربوا بالصواريخ أو غيرها مما يقتلهم حكمهم حكم الشهداء، وهكذا كل مسلم يقتل مظلوما في أي مكان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (¬2)، ولما ثبت في صحيح مسلم: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل فقال: يا رسول الله يأتيني الرجل يريد مالي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تعطه مالك". فقال الرجل: يا رسول الله فإن قاتلني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتله) فقال الرجل: يا رسول الله فإن قتلني؟ قال صلى الله عليه وسلم: (فأنت شهيد) قال الرجل: فإن قتلته؟ قال صلى الله عليه وسلم: (هو في النار) (¬3)، وهذا الحديث عظيم يدل على أن من قتل من المسلمين مظلوما فهو شهيد. فلله الحمد والمنة على ذلك. ¬

(¬1) رواه الإمام مسلم في "صحيحه" (50)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه الترمذي في (الديات) باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد برقم (1421). (¬3) رواه مسلم في (الإيمان) باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه برقم (140).

قال الشيخ / محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -

قال الشيخ / محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - "ولهذا قال العلماء: يجب القتال ويكون فرض عين في أمور أربعة: الأول: إذا حضر الصف لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: آية 15 - 16]. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من كبائر الذنوب، من الموبقات، إلا أن الله تعالى خفف عن عباده، وأذن للمسلمين إذا كان العدو أكثر من مثليهم أذن لهم أن يفروا لقول الله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] ولهذا أجاز العلماء الفرار من العدو إذا كان أكثر من الضعف. الثاني: إذا استنفره الإمام، يعني إذا قال الإمام: "اخرج وقاتل" فإنه يجب على المسلمين أن يخرجوا ويقاتلوا، لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: آية 38] يعني ملتم إليها بثقل، معلوم أن الذي يختار الأرض على السماء أنه ضائع: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: آية 38]. الثالث: إذا حصر العدو بلده، وهذا هو الشاهد لما قلناه قبل قليل،

إذا حصر بلده صار الجهاد واجبا؛ لأنه جهاد دفاع لأن العدو إذا حصر البلد معناه أن أهلها يكونون عرضة للهلاك، لا سيما في مثل وقتنا الحاضر، إذا حصر العدو البلد، وقطع الكهرباء والمياه وقطع مصادر الغاز، وما أشبه ذلك، معناه أن الأمة سوف تهلك، فيجب الدفاع؛ ما دام عندهم ما يمكن أن يدافعوا به يجب أن يدفعوا. الرابع: إذا كان محتاجا إليه: يعني إذا احتيج إلى هذا الرجل بعينه، وجب أن يقاتل." فهذه أربعة مواضع ذكر العلماء رحمهم الله أن الجهاد فيها يكون فرض عين، وما عدا ذلك فرض كفاية، لأمر الله تعالى به في آيات كثيرة من القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: "الجهاد ذروة سنام الإسلام" (¬1) يعني أن المجاهدين يعلون على أعدائهم، ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بذروة السنام، لأنه أعلى ما في البعير، فالجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقي، وإن لم يقم به من يكفي، تعين عليه، ولكن اعلموا أن كل واجب لا بد فيه من شرط القدرة، والدليل على ذلك النصوص من القرآن والسنة ومن الواقع أيضا، أما القرآن فقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: آية 16]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: آية 78]، يعني حتى لو ¬

(¬1) رواه أحمد في "المسند" (5/ 245) والحاكم في "المستدرك" (2408) والطبراني في "المعجم الكبير" (303).

أمرتم بالجهاد، ما فيه حرج، إن قدرتم عليه فهو سهل، وإن لم تقدروا عليه فهو حرج مرفوع، إذ لا بد من القدرة والاستطاعة، هذا من القرآن. ومن السنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا عام في كل أمر؛ لأن قوله: (بأمر) نكرة في سياق الشرط فيكون للعموم، سواء أمر العبادات أو الجهاد أو غيره. وأما الواقع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله، وبقي على هذا ثلاث عشرة سنة لم يؤمر بالجهاد، مع شدة الإيذاء له ولمتبعيه عليه الصلاة والسلام، وقلة التكاليف، فأكثر أركان الإسلام ما وجبت إلا في المدينة، ولكن هل أمروا بالقتال؟ الجواب: لا. لماذا؟ لأنهم لا يستطيعون، وهم خائفون على أنفسهم. إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة خائفا على نفسه، وهذا معروف ولذلك لم يوجب الله عز وجل القتال إلا بعد أن صار للأمة الإسلامية دولة وقوة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: آية 39] (¬1). وقال -رحمه الله- في معرض حديثه عن الجهاد: "لا بد فيه من شرط: وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة، ولهذا لم يوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين القتال وهم في مكة لأنهم عاجزون ضعفاء، فلما هاجروا إلى ¬

(¬1) "شرح بلوغ المرام" (الشريط الأول)

المدينة وكونوا الدولة الإسلامية وصار لهم شوكة، أمروا بالقتال، وعلى هذا فلا بد من هذا الشرط وإلا سقط عنهم، كسائر الواجبات؛ لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: آية 16]، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: آية 286] (¬1) اهـ. ¬

(¬1) "شرح بلوغ المرام" (الشريط الأول).

أجوبة فضيلة الشيخ/ د. صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله

أجوبة فضيلة الشيخ/ د. صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله السؤال: إذا كان لوالدي أخوة غيري وهو ليس بحاجتي، ولو احتاج شيئا فإخوتي سيقومون به بدلا عني وليس له مبرر في عدم ذهابي إلى الجهاد إلا خوفا من أن أقتل في سبيل الله، فما الحكم في ذلك؟ الجواب: الحكم أنك تطيعه؛ ولو كان له مائة ولد ولو كانوا يقومون بما يحتاج إليه ما دام أنه قال لك لا تروح، تجب عليك طاعته والبر به إذا كنت تريد الأجر، أما إذا كنت تريد أنك تركب رأيك فهذا راجع لك، لكن إن كنت تريد الأجر والثواب؛ فأطع والدك، ولا تخرج عنه وهو غضبان، أو أنه لم يأذن لك؛ لأن حقه مقدم بعد حق الله سبحانه وتعالى، لكن بعض الناس يحتقر والده ويقول: والدي ما له رأي، ولا عنده فكر، ولا يعرف شيئا، يحتقرون والديهم والعياذ بالله، ولا يرجعون لهم، ويعتبرون أنفسهم أنهم أحسن رأيا من آبائهم، هذا لا يجوز، احتقار الوالد وتنقصه وأنه ليس بشيء ولا عنده رأي ... هذا لا يجوز، هذا عقوق. سؤال: هل يجوز الخروج للجهاد بدون إذن ولي الأمر مع وجود رضا الوالدين؟ الجواب: الجهاد مع من؟ ومن هو الإمام الذي تريد أن تجاهد تحت رايته، وأيضا الدول بينها معاهدات، فلا بد أنك تأخذ إذن من الإمام بالخروج لتلك الدولة. المسائل لها أصول ما هي المسائل فوضى، فإذا أذن

لك ولي الأمر وأذن لك والداك وعندك استطاعة فلا بأس. السؤال: ما حكم الذهاب إلى الجهاد دون إذن ولي الأمر مع أنه يغفر للمجاهد من أول قطرة من دمه وهل يكون شهيدا؟ الجواب: لا يكون مجاهدا إذا عصى ولي الأمر وعصى والديه وذهب، لا يكون مجاهدا يكون عاصيا. السؤال: هل يجب الجهاد في وقتنا هذا؟ وما الرد على من استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬1) الجواب: إذا كان للمسلمين قوة ويقدرون على الجهاد وعلى الغزو في سبيل الله، فهذا يجب على ولي الأمر، هذا من صلاحيات ولي الأمر أنه يكون جيوشا للغزو، ويقود الجيوش بنفسه أو يؤمر عليها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، أما إذا كان المسلمون لا يستطيعون قتال الكفار فهم يؤجلون الجهاد إلى أن يقدروا على القتال وعلى الجهاد ولكن يكون قتالهم في هذه الحالة من باب الدفاع، فمن أراد بلادهم أو غزاها فإنهم يقاتلونهم دفاعا عن حرماتهم. ¬

(¬1) رواه أحمد في "المسند" (2/ 24، 84) والبيهقي في "السنن الكبرى " (10484) وأبو داود في "السنن" (3462) وأبو يعلى في "المسند" (5659).

وأما إذا كان فيهم قوة فإنهم يقاتلون قتال طلب، لنشر الإسلام، وهذا يكون تحت راية يعقدها ولي أمر المسلمين ويتولاها بنفسه أو يؤمر عليها من ينوب عنه، وهذا شيء معروف في كتب الجهاد وكتب العقائد، أن يكون مع الأمراء ويكون مع الأئمة فهم الذين يتولون أمور الجهاد وتحت راية واحدة، ما يكون هناك رايات وجماعات، هذا يحصل فيه -كما جرب- اختلاف وتناحر بين الجماعات، ولا يتوصلون إلى شيء فلا بد من توحيد القيادة، قيادة الجهاد ولا بد من توحيدها تحت راية واحدة بإشراف ولي أمر المسلمين. السؤال: ما رأيكم فيمن يوجب الجهاد في وقتنا الحاضر، ولو خرج أحدهم مجاهدا فهل يأثم؟ الجواب: الجهاد إذا توفرت ضوابطه وشروطه، وجاهد المسلم هذا طيب، أما ما دامت لم تتوفر شروطه ولا ضوابطه، فليس هناك جهاد شرعي؛ لأنه يترتب عليه ضرر بالمسلمين أكثر من المصلحة الجزئية، أنت ضربت الكافر، لكن الكافر سينتقم من المسلمين وسيحصل ما أنتم تسمعون، هذا لا يجوز ما دام ما توفر الجهاد بشروطه وبضوابطه ومع قائد مسلم وراية مسلمة، فلم يتحقق الجهاد، وإن كان قصد الإنسان حسنا ويريد الجهاد ويثاب على نيته لكن هو مخطئ في هذا.

السؤال: ذكرتم حفظكم الله أنه يجب أن يراعى أحوال المسلمين ويعرف الكفار الذين يجب قتالهم، والكفار الذين يكف عنهم، فأرجو من فضيلتكم مثالا للذين يكف عنهم، وكم هي المدة التي يكف عنهم، وما هي الأحوال التي يكف فيها؟ الجواب: الذين يكف عنهم هم الذين لا نستطيع قتالهم، وكذلك الذين لهم عهد وهدنة بين المسلمين، فهؤلاء أيضا لا يجوز قتالهم، حتى تنتهي الهدنة، أو أنهم يغدرون بالعهد، أما ما دام العهد باقيا وهم مستقيمون عليه فلا يجوز للمسلمين أن يقاتلوهم، قال جل وعلا: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 7]. {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: آية 58] يعني إذا كانوا معاهدين {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: آية 58] إذا أردت أن تنهي العقد الذي بينك وبينهم، فإنك تعلمهم -تعلن هذا لهم- حتى يكونوا على بينة، فالعهود ليست بالأمر السهل أو الهين، يقول الله جل وعلا: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: آية 34] فلا يجوز نقضها إلا بمبرر شرعي، ويكون هذا بأمر الإمام الذي عقد معهم هذا العقد، فهو الذي يتولى العقد وهو الذي يتولى النقض، فهو من صلاحية الإمام وليس من صلاحية أي أحد سواه حتى لا يصير الأمر فوضى. السؤال: ما حكم الجهاد في هذا الوقت مع منع ولي الأمر؟ الجواب: لا جهاد إلا بإذن ولي الأمر، هذا من صلاحيته،

والجهاد بدون إذنه افتيات عليه، فلا بد من رأيه وإذنه، وإلا فكيف تقاتل وأنت لست تحت راية، ولا تحت إمرة ولي أمر المسلمين؟ السؤال: لو أن رجلا خرج للجهاد ووالداه غير راضيين عن جهاده فمات، فهل يعتبر شهيدا؟ الجواب: يعتبر عاقا لوالديه، وعقوق الوالدين كبيرة من كبائر الذنوب، وأما شهادته فالله أعلم بها، لا أدري، ولكنه يعتبر عاقا لوالديه، وربما يكون خروجه غير مأذون فيه شرعا، فلا يكون شهيدا. السؤال: ما هي شروط الجهاد، وهل هي متوفرة الآن؟ الجواب: شروط الجهاد معلومة: أن يكون في المسلمين قوة، وإمكانية لمجاهدة الكفار، أما إن لم يكن عندهم إمكانية ولا قوة، فإنه لا جهاد عليهم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا في مكة قبل الهجرة، ولم يشرع لهم الجهاد؛ لأنهم لا يستطيعون. وكذلك لا بد أن يكون الجهاد تحت قيادة مسلمة، وبأمر ولي الأمر؛ لأنه هو الذي يأمر به، وينظمه، ويتولاه، ويشرف عليه فهو من صلاحياته، وليست من صلاحيات أي أحد أو أي جماعة تذهب أو تغزو بدون إذن ولي الأمر.

السؤال: هل من جاهد بدون إذن ولي الأمر ثم قتل فهل يكون شهيدا أم لا؟ الجواب: يكون غير مأذون له في هذا القتال، فلا يكون قتاله شرعيا، ولا يظهر لي أن يكون شهيدا (¬1).

_ (¬1) من دروس الشيخ صالح الفوزان من "شرح بلوغ المرام" كتاب الجهاد. .

§1/1