فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء

ابن عربشاه

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم (الحمد لله) الذي شهدت الكائنات بوجوده وشمل الموجودات عميم كرمه وجوده ونطقت الجادات بقدرته وأعربت العجمات عن حكمته وتخاطبت الحيوانات بلطيف صنعته وتناغت الأطيار بتوحيده وتلاغت وحوش القفار بتفريده كل باذل جهده وأن من شيء إلا يسبح بحمده بل المكان ومن فيه والزمان وما يحويه من نام وحامد ومشهود وشاهد تشهد بأنه إله واحد منزه عن الشريك والمعاند مقدس عن الزوجة والوالد مبرأ عن المعاند والمنادد مسبح بأصناف المحامد (أحمده) حمد تنطق به الشعور والجوارح وأشكره شكراً يصيد نعمه صيد المصيد بالجوارح (وأشهد) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب أودع أسرار بوبيته في بريته وأظهر أنوار صمديته في جواني بحره وبريته فبعض يعرب بلسان قاله وبعض يعرب بلسان حاله وتسبحه السموات باطيطها والأرض بغطيطها والأبحر بخريرها والأسد بزئيرها والحمام بهديرها والطير بتغريدها والرياح بهبوبها والبهائم بهبيبها والهوام بكشيشها والقدور بنشيشها والخيل بضجها والكلاب

بنبحها والأقلام بصريرها والنيران بزفيرها والرغود بعجيبها والبغال بشحيحها والانعام برغائها والذباب بطنينها والقسى برنينها والنياق بحنينها كل قد علم صلاته وتسبيحه ولازم في ذلك غبوقه وصبوحه وعمروا بذلك أجسادهم وأرواحهم ولكن لا تفقهون تسبيحهم (وأشهد) أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي من صدقه تم سوله أفضل من بعث بالرسالة وسلمت عليه الغزالة وكلمه الحجر وآمن به المدر وانشق له القمر ولبت دعوته الشجر واشتجار به الجمل وشكا إليه

شدة العمل وحن إليه الجذع ودر عليه يابس الضرع وسجت في كفه الحصباء ونبع من بين أصابعه الماء وصدقه ضب البرية وخاطبته الشاة المصلية صلى الله عليه صلاة تنطق بالاخلاص وتسعى بالخلاص وعلى آله أسود المعارك وأصحابه شموس المسالك وسلم تسليما وزاده شرفاً وتعظيماً (أما بعد) فان الله المقدس في ذاته المنزه عن سمات النقص في صفاته قد أودع في كل ذرة مخلوقاته من بديع صنعه ولطيف آياته ومن الحكم والعبر مالا يدركه البصر ولا تكاد تهتدي إليه الفكر ولا يصل إليه ذوي النظر ولكن بعض ذلك للبصر بالرصد ظاهر يدركه كل

أحد قال الله تعالى وجل ثناؤه جلالاً وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وقال عز من قائل في كلامه الطائل أن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وقال الشاعر: ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد لكن لما كثرت هذه الآيات والحكم وانتشرت أزهار رياضها في وهاد العقول والاكم وترادف ما فيها من العجائب والعبر وتكرر ورود مراسيمها على رعايا السمع والبصر وعادتها النفوس ولم يكترث بوقوعها القلب الشموس ولم يستهن من وجودها ولم يلتفتن إلى حدودها فكثر في ذلك أقوال الحكماء وتكررت مقالات العلماء فلم تصغ الأسماع إليها ولا عولت الأفكار عليها فقصد طائفة من الأذكياء وجماعة من حكماء العلماء ممن يعلم طرق المسالك إبراز شيء من ذلك على ألسنة الوحوش وسكان الجبال والعروش وما غير مألوف من البهائم والسباع وأصناف الأطيار وحيتان

البحار وسائر الهوام فيسندون إليها الكلام لتمثيل لسماعه الأسماع وترغب في مطالعته الطباع لأن الوحوش والبهائم والهوام والسوائم غير معتادة لشيء من الحكمة ولا يسند إليها أدب ولا فطنه ولا معرفة ولا تعرف ولا قول ولا فعل ولا تكليف لأن طبعها الشماس والأذى والافتراس والإفساد والنفور والعدران والشرور والكسر والتغريق والنهش والتمزيق فإذا أسند إليها مكارم الأخلاق وأخبر بأنها تعاملت فيما بينها بموجب العقل والوفاق وسلكت وهي مجبولة على الخيانة سبل الوفاء ولازمت وهي مطبوعة على الكدورة طرق الصفاء أصغت الآذان إلى استماع أخبارها ومالت الطباع إلى استكشاف آثارها وتلقتها القلوب بالقبول والصدور بالانشراح والبصائر بالاستبصار والأرواح بالارتياح لكونها أخباراً منسوجة على منوال عجيب وآثاراً أسديت لحتها في صنع بديع غريب لا سيما الملوك والأمراء وأرباب العدل والرؤساء والسادة والكبراء وأبناء الترفه والنعم وذو والمكارم والكرم إذا قرع سمعهم قول القائل صار البغل قاضياً والنمر طائعا لا عاصيا والقرد رئيس الممالك والثعلب وزيراً لذلك والذئب مؤرخاً أديباً والحمار منجماً طبيباً والكلب كريماً والحجل نديماً والغراب دليلاً والعقاب خليلاً والجدأة صاحبة الأمانة والفأرة كاتبة الخزانة والحية راقية والبومة ساقية وضحك النمر متواضعاً وغدا الأسد لإرشاد الذئب سامعاً ورقص الغزال في عرس القنفد وغنى الجدي فطرب

الجدجد وتصادق القط والجرذات وصار السرحات راعي الضان وعانق الليث الحمل والذئب الجمل ورفع الباشق الحمامة على رقبته وحمل ارتاحت لذلك نفوسهم وزال عبوسهم وانشرحت خواطرهم وسرت سرائرهم وأصغت إليه أسماعهم ومالت طباعهم وأدى طيشهم إلى أن طاب عيشهم ولكن أهل السعادة وأرباب السيادة ومن هو متصد لفصل الحكومات والذي رفعه الله لدرجات فانتصب لإغاثة الملهوفين وخلاص المظلومين من الطالمين والمتنبهون بتوفيق الله تعالى لدقائق الأمور وحقائق ما تجري به الدهور إذا تاملوا في لطائف الحكم والفرائد التي أودعت في هذه الكلم ثم تفكروا في نكت العبر وصفات العدل والسير والأخلاق الحسنة والقضايا المستحسنة المسندة إلى ما لا يعقل ولا يفهم وهم من أهل القول الذي يشرف به الإنسان ويكرم يزدادون ويسلكون بها الطرق المنيرة فتتوفر مسراتهم وتتضاعف لذاتهم وربما أدى بهم فكرهم وانتهى بهم في أنفسهم أمرهم أن مثل هذه الحيوانات مع كونها عجماوات إذا اتصفت بهذه الصفة وهي غير مكلفة وصدر منها مثل هذه الأمور الغريبة والقضايا الحسنة العجيبة فنحن أولى بذلك فيسلكون تلك المسالك وقد ضرب الله ذو الجلال في كلامه العزيز الأمثال فقال مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كان يعلمون

وقال سبحانه بعد ذلك وتلك الأمثال نضربها للناسوما يعقلها إلا العالمون وقال سبحانه ما أعظم شأنه يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لنم يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيأ لا يستنفذوه منه ضعف الطالب والمطلوب وقال تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها وقال تعالى وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون وقال تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوماً جهولاً وقال تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين أسند سبحانه وتعالى الأفعال والأقوال إلى الجمادات بعدما وجه الخطاب إليها وقال تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم وكل ما جاء في هذه الطريقة فأنه بالنسبة إليه تعالى حقيقة لأنه قادر على كل شيء وسواء عنده الميت والحي ولا فرق في كمال قدرته بالنظر إلى قدرته ومشيئته وتصوير كمال عظمته وهيبة بين الناطق والصامت والنامي والجامد والشاهد والغائب والآتي والذاهب كما لا فرق في هذا الكمال بين الماضي والاستقبال

وقال تعالى فما بكت عليهم السماء والأرض وقال فوجدوا فيها جداراً يريد أن ينقض وقال تعالى قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم وقال في الهدهد فقال أحطت بما لم تحط به وقال الشاعر (ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب) وقالت العرب في أمثالها قال الجدار للوتد تشقني قال سل من يدقني قل لمن ورائي يتركني ورائي وقالوا من الأسد ومن أشهر أمثالهم قالوا أن الأرنب التطقت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا إلى الضب فقالت الأرنب يا أبا الحصين قال سميعا دعوت قالت أتيناك لنختصم إليك قال عاد لا يحكما قالت أخرج قال في بيته يؤتى الحكم قالت أني وجدت تمرة قال حلوة فكليها قالت فاختلسها مني الثعلب قال لنفسه بغى الخير قالت فلطمته قال بحقك أخذت قالت فلطمني قال حر انتصر لنفسه قالت فاقض بيننا قال قد قضيت فذهبت هذه الأقوال كلها أمثالاً وقالوا اتحككت العقرب بالأفعى وقال الشاعر قام الحمام إلى البازي يهدد ... واستصرخت بأسود البر أضبعه وهذا أمره مستغيض مشهور معروف بين الأنام غير منكور والحصر في هذا المعنى يتعسر والاستقصاء يتعذر وإنتما الأوفق التمثيل

والتنظير والاستدلال بالقليل على الكثير فيتفكه السامع تارة ويتفكر أخرى ويتتقل في ذلك من الأخفى إلى الأجلى ويتوصل بالتأمل من الأدنى إلى الأعلى ومن جملة ما صنف في ذلك واشتهر فيما هنالك وفاق على نظائره بمخبره ومنظره وحاز فنون الغطنه كليله ودمنه والمتمثل بحكمة الطباع كتاب سلوان المطاع والمفحم بنظمه العجيب كل شاعر وأديب معجز الضراغم الصادج والباغم وفي غير لسان العرب ممن يتعاطى فن الأدب جماعة رضعوا أفاويقه وسلكوا من هذا النمط طريقة لكن تقادم عصرهم واشتهر أمرهم وتكرر ذكرهم وصارت مصنفاتهم مطروقة وعتاق نجائبها في ميدان التأمل عتيقة ففلذت من دهري فلذه وعملت بموجب لكل جديد لذة وسيرت فارس الأفكار في ميدان هذا المضمار وقصدت من الفائدة ما قصدوه ومن العائدة في الدارين ما رصدوه وجمعت ما بلغني عن نقله الأخبار وحملة الآثار ورواة الأسفار على لسان شيخ اللطائف ومنبع المعارف وإمام الطوائف ومجمع العوارف ذي الفضل والإحسان أبي المحاسن حسان ووضعت هذا الكتاب نزهة لبني الآداب وعمدة لأولي الألباب من الملوك والنواب والأمراء والحجاب وجعلته عشرة أبوابومن الله أسمد الصواب وأستغفره من الخطأ في الجواب أنه رحيم تواب كريم وهاب (وسميته فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء)

شعر: فان يغض بحر علمي تهدمنه على ... در ينير عيون العقل في السدف ألبسته من خلاعات النهى خلعا ... وربما ازدان عقد الدر بالخزف والفضل يحتاج في ترويج سلعته ... إلى الخرافة والمعقول للخرف فاعبر إلى البحر تجن الدر منه ولا ... يلهيك عن دره أضحوكة الصدف

الباب الأول في ذكر ملك العرب الذي كان لوضع هذا الكتاب السبب

الباب الأول في ذكر ملك العرب الذي كان لوضع هذا الكتاب السبب

(قال) الشيخ أبو المحاسن بلغني عن ذي فضل غير آسن أنه كان فيما غير من الزمان قيل من الأقيال غزير الأفضال عزيز الأمثال وارث المعارف حائز الفضائل واللطائف وافر السيادة كامل السعادة ذو حكم مطاع وجند وأتباع وممالك واسعة ذات أطراف شاسعة تحت أوامره ملوك عده ذو سطوات ونجده وله من الأولاد الذكور خمسة أنفار كل بالسيادة مذكور وبالعلم والحلم والحكم مشهور ومشكور متوشح للسلطنة متول من والده مكاناً من الأمكنة وكان أسعدهم عند أبيه وهو متميز على أخوته وذويه سمسي المنظر اياسي المخبر ذا فهم مصيب واسمه في فضله حسيب قد حصل أنواعاً من العلوم وأدركها من طريقي المنطوق والمفهوم وكان لهذا الفضل الجسيم يدعى بين الصغير والكبير الحكيم فلما دعا أباهم داعي الرحيل وعحك إلى دار البقاء أجمال التحميل استولى على السرير أكبر أولاده وأطاعه أخوته ورؤس أمرائه وأجناده وصار السعد يراقبه والملك بلسان الحال يخاطبه شعر: نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكب

ثم عش واسلم وتيقن واعلم يا ملك الزمان أن أفضل شيء حل في وجود الإنسان وأحسن جوهرة تزين بها عقد تركيبه العقل الداعي إلى كيفية تهذيبه في أساليبه وأفضل درة ترصع بها تاج العقل في تزيينه وترتيبه الخلق الحسن الذي فضل الله به خير خلقه في تعليمه وتأديبه وخاطب بذلك نبيه الكريم فقال وأنك لعلى خلق عظيم وبالخلق الحسن ينال شرف الذكر في الدارين ولا يضع الله الخلق الحسن إلا فيمن اصطفاه من الثقلين وأفضل جنس الإنسان بعد رسول الله الرفيع الشان الملك الذي يحيى أحكام شريعته ويمشي على سنته وطريقته وإذا كان الملك حسن الخلق والفعال فهو الدرجة العليا من الكمال قال الرسول النجيب صاحب التاج والقضيب محمد المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم صلاة يتمسك بأذيالها الطبيب ويترنح لنسمات قبولها الغصن الرطيب ألا أخبركم على من تحرم النار على كل هين لين سهل قريب

وروى أن ذلك السيد السديد الكامل المكمل الرشيد أتى برجل فكامه فارعد فقال هون عليك فأني لست بملك ولا جبار وأنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ومن جملة حسن الخلقالعدل والشفقة على الرعية والفضل وإذا حسن خلق الملوك العلية صلحت بالضرورة الرعية طائعة وكارهة وسعت في ميدان الطاعة فارهة فان الناس على دين ملوكهم وسالكون طرائق سلوكهم واردل عادة الملوك الطيش والخفة وأن يكون ميزان عقله خالي الكفية وأن عدم الثبات والوقار من عادة الأطفال والصغار والرجل الخفيف القليل الحيلة لا يقدر على تدبير الأمور الجليلة ولا باب يوجد له ولا طاقة للدخول في الأشغال الشاقة ولا يستطيع أن يتحمل ثقل الرياسة ويتعاطى الايالة والسياسة ولا قدرة على فصل الحكومات المشكلة والقضايا العريضة المعضلة ولا الوصول إلى إثبات السيادة ولا الدخول في أبواب السعادة فان تدبير الممالك وسلوك هذه المسالك يحتاج إلى رجل كالجبل في السكون والوقار أو أن الثبات وكالبحر الهائج والسيل الهامر أو أن الحركات وأعلم يا ذا العلا والمالك المال والدما أنه يجب على الملك الكبير اجتناب الإسراف والتبذير فانه حافظ دماء الناس وأموالهم مراقب مصالحهم في حالتي حالهم وما آلهم والمال الذي في خزائنه قد اجتمع ومن وجوه مكانه ومن خراج مملكته ومن أعدائه ومعادنه إنما هو للرعية ليذهب عنهم البلية ويصرفه في مصالحهم وما يحدث من

حوائجهم وجوائحهم فهو في يده أمانة وصرفه في غير وجهه خيانة فكما لا ينبغي أن يتصرف في مال نفسه بالتبذير كذلك لا يتصرف في أموالهم بالأسراف والتقتير ومصداق هذا المقال قول ذي الجلال جل كلاماً وعز مقاماً والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً فينبغي للملك بل يجب أن لا يسترعن الرعية ولا يحتجب وأن لا يبادر بمرسوم إلا بعد تحقيق العلوم ولا يبرز مرسومه ما لم يتحقق فيه معلومه وذلك بعد التأمل والتدبر وستر عورة القضية والتفكر وهذا الآن مرسوم السلطان على فم أبناء الزمان وهو بمنزلة القضاء النازل من السماء وإذا نزل القضاء وفتحت أبواب السماء فلا يرد ولا يصد ولا يعوقه عن مضيه عدد ولا عد ولا حيلة في منعه لأحد وأمر أولى الأمر على زيد وعمرو كالسهم الخارج من الوتر بل شبه القضاء والقدر تعجز عن أدراك سره قوى البشر فكما أنه إذا نفذ سهم القضاء والقدر لا يمنعه ترس حيلة ولا يصده درع حذر فكذلك أمر السلطان لا يثبت لوده حيوان ولا يمكن تلقيه إلا بالإمضاء والإذعان فإذا لم يتدبر قبل إبرازه في عواقب ما آله وأعجازه ربما أدى إلى الندم والتأسف حيث زلت القدم ولا يفيد التلافي بعد التلاف ولا يرد السهم إلى القوس وقد خرق الشغاف وكما أن الملك سلطان الأنام كذلك كلامه سلطان الكلام وكل ما ينسب إليه فهو سلطان جنسه فيجب عليه حفظ كلامه كحفظ نفسه. (وحسبك يا ملك الزمان لطيفة للملك أنوشروان) فبرزت المراسيم الشريفة ببيان تلك اللطيفة فقال الحكيم ذكر أهل السير ونقله الأثر أن الملك أنوشروان كان راكباً في السيران فجمع به فرسه وقوى عليه نفسه فاستخف شانه

وجبذ عنانه فهمزه ولكزه وضربه ووخزه فزاد جموحاً وماد جموحاً فتجاذبا العنان فانقطع وكاد أنوشروان أن يقع فلاطف الفرس فاستكان ونجا بعد أن كاد يدخل في خبر كان فلما وصل إلى محل ولايته واستقر راجف قلبه من مخافته دعا بسائس المركوب فلبى دعوته وهو مرعوب فلعنه وشمته وأراد أن يقطع يده وقدمه وقال تلجم هذه الداهية بلجام سيوره واهية فانقطعت في يميني وكاد الفحل يرميني ثم دعا بالمقارع وبالجلاد ليقطع منه الاكارع فقال السائس المسكين أيها الملك المكين وصاحب العدل والتمكين أسألك بالله الذي رفعك إلى هذا المقام أن تسمع لي هذا الكلام فقال قل ولا تطل قال كأن هذا العنان يقول وكلامه فصل لا فضول ومقوله قريب من العقول الملك أنوشران وأن سلطان الأنس وفرسه سلطان هذا الجنس وقد تجاذبني قوة سلطانين فاين لي طاقة هذا الثبات لهما ومن أين لا جرم ذهب مني الحبل فتمزقت بين سلطان الأنس والخيل فأعجبأنوشروان من السائس هذا البيان فانعم عليه وأطلقه ومن رق عقابه وعذابه أعتقه وإنما أوردت هذا البيان ليتحقق مولانا السلطان أن حركاته ملكه الحركات وصفاته سلطانه الصفات وكلامه ملك الكلام فلا يصرفه في كل مقام وليصنعه بالتأمل قبل القول وليحتط لبروزه ويحفظه بالصدق والطول وإذا أمر بأمر فلا يرجع فيه بل يستمر على ما أمر به لئلا يقال سفيه

ثم اعلم يا ملك الرقاب أن كلاً من الثواب والعقاب له حد ومقدار مفهوم ينبغي للملك أن لا يتعدى لذلك حداً وعلى الملك أن يصغي للنصيحة ممن مودته صحيحه وقد جرب منه الصدق وعلم منه الإخلاص في النطق لاسيما إذا كان ذا عقل صحيح وود صريح ولا ينفر من خشونة النصيحة ومرارتها فبرودة الخاطر وسلامة القلب حرقة حرارتها فان الناصح المشفق كالطبيب الحاذق فان المريض الكئيب إذا شكا إلى الطبيب شدة ألمه من مرارة يصف له دواء مراً فيزيد حرارته فلا يجد بداً من شربه وأن كان في الحال ينهض بكربه لعلمه بصدق الطبيب وأنه في الرأي مصيب وما قصد بالدواء المر الضر وإنما قصد بألمه عوداً الحلاوة إلى فمه ولا يستحقر النصيحة أن كانت صادقة صحيحة ولا الناصح خصوصاً الرجل الصالح فان سليمان وهو من أجل الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وأحد من ملك الدنيا وحكم على الجن والأنس والطير والوحش والهوام استشار نملة حقيرة فنجح في أمره وخالف وزيره آصف بن برخيا فابتلى بفقره وسلب من جميع ما ملك وصار كما قيل أجير الصياد السمك ثم قال الحكيم حسيب أيها الملك الحسيب وأنا لما رأيت أمور المملكة قد اختلت ومباشرى مصالح الرعية قلوبهم اعتلت ولعبوا بالثقيل والخفيف واستطال القوي منهم على الضعيف ومدوا أيديهم إلى الأموال بالباطل وأظهروا الحالي في حلية العاطل وخرجوا عن دائرة العدل واطرحوا أهل العلم والدين وتولى المناصب غير أهلها ونزلت المراتب إلى

غير محلها وحرم المستحقون وأبطل المحققون إلى أن وقع الاختلال وعم الفساد والضلال وقويت أعضاد الظلمة على العباد وسائر القرى والبلاد وهذا لا يليق بشرف مولانا الملك ولا بأصله ولا يجوز في شرع المروأة أن يكون الظلم طراز عدله إذ قدره العلي وأصله الزكي أعظم مقاماً من ذلك ولا يحسن أن ينتشر الأصيت رأفته في الممالك وعلى الخير مضى سلفه الكرام وانطوى على مآثرهم صحائف الأيام وقد قيل: فان الظلم من كل قبيح ... وأقبح ما يكون من التنبيه وقيل: ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام ما وسعني إلا الانحياز إلى العزلة والتعلق بذيل الانفراد والوحدة وما أمكنني أن أعمل شيا ولا أقطع دون العرض على الآراء الشريفة وامتثال ما تبرزه مراسيمها المنيفة فغد قال الناصح في بعض النصائح لا تخاطب الملوك فيما لم يسألوك ولا تقدم على ما لم يامروك فلما أذن في الكلام قمت هذا المقام فقلت قطرة من بحور وذرة من طيور ورأيت ذلك واجباً عليّ ونفعه عائداً إليّ وذكرت بعض ما وجب على سائر الناصحين ولزم ذكره جميع المسلمين من طريق واحدة ولزمني أنا من طرق متعددة أدناها طريق المروة وأعلاها بل أغلاها وثيق الأخوة التي هي أقوى الأسباب وأعظم الوصلات في هذا الباب فان لحمة القرابة عي السبب الذي لا يقطعه سيف الحدثان والبنيان الذي لا يهدمه معول الزمان وأساس الأخوة عنوان الفتوة قال الله تعالى وعز وجمالاً وتقدس كمالاً سنشد عضدك بأخيك

وقال القائل: أخاك أخاك أن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح (وناهيك يا زين الملاح بقصة الولهى مع الضحاك) قال أخبرنا أيها الحكيم بذلك الحديث القديم قال الحكيم بلغنا عن التاريخ الباذخ الشماريخ أن الضحاك كان من أحسن الناس سيرة وأصفاهم سريرةقد فاق الناس فضلاً وبلغ ذكره الآفاق عدلاً فتزياله ابليس في صورة الدهاء والتلبيس فزعم ذلك الطباخ انه طباخ وصار كل يوم يهيئ له من أطيب الأطعمة ولذيذ الأغذية ما يعجزه غيره ولا يقدر أحد أن يسير سيره ولم يأخذ على ذلك جراية فبلغت مرتبته عنده النهاية واستمر على ذلك مدة مديدة وأياماً عديدة والناس تكمره أن تخدم بغير أجرة خصوصاً في هذا الزمان رؤساء الأعيان فقال له الإمام في بعض الأيام لقد أوجبت علينا يدا وشكراً وما سألتنا على ذلك أجراً فاقترح ما تختار أكافئك يا مهار فقال تمنيت عليك أن أقبل بين كتفيك فأني لي بذاك أن يقال قبل بدن الضحاك فأعجبه ذلك وأجابه وحسر عن بدنه ثيابه وأدار ظهره إليه فاقبل لوحي كتفيه ثم غاب عن عينيه ولم يقف على أثره ولا عينه فبمجرد ما لثمه ومس فمه جسمه أخذته حكة وشكه موضع لثمه شكه ثم خرج من موضع فيه سلعة تلذعه شر لذعة وتلسعه أحر لسعة ثم صارا حيتين

أشبهتا كيتين فصار يستغيث ولا مغيث فطلب الأطباء فأعياهم هذا الداء ثم لم يقوله قرار ولم يأخذه سكون ولا اصطبار إلا بدماغ الإنسان دون سائر الحيوان فمديد الفتك ولأجل الأدمغة استعمل السفك فضجر الناس لهذا البأس وصاحوا وناحوا وغدوا مستغيثين وراحوا فوقع الاتفاق بعد الشقاق على الاقتراع لدفع النزاع فمن خرجت قرعته كسرت قرعته وأخذ دماغه وحصل لغيره فراغه فعالجوا به الكيتين وغذوا به الحيتين فيبرد الألم ويخف السقم ففي بعض الأدوار خرجت القرعة على ثلاث أنفار فربطوا بالأغلال ودفعوا إلى الشكال ليجري عليهم ما جرى على الأمثال فبينما هم في الحبس بين طالع نحس وعكس وقف للضحاك امرأة وضيعة واستغاثت به في هذه القضية فأدناها وسأل ما دهاها فقالت ثلاثة أنفار من دار لا صبر لي عنهم ولا قرار وحاشى عدل السلطان أن يرضى بهذا العدوان ولدي كبدي وأخي عضدي وزوجي معتمدي وكل مسجون يسقي كأس المنون فرق لها الضحاك وقال لا يعمهم الهلاك فاذهبي يا مغاثة واختاري واحد من الثلاثة وجهزها إلى الحبس ليقع اختيارها على من يدفع اللبس فتصدى لها الزوج وتمنى الخلاص من ذلك البوج فتذكرت ما مضى من عيشها معه وانقضى واستحضرت طيب اللذات والأوقات المستلذات فأتت إليه ومالت عليه فتحركت الأنفس الإنسانية والشهوة الحيوانية فهمت بطلبه وتعلقت بسببه فوقع بصرها على ولدها فلذة كبدها فرأت صباحة خده ورشاقة قده فتذكرت طفوليته وصباه وترتيبها إياه وحمله وإرضاعه وتناغيه وأوضاعه فعطفت عليه جوارحها ومالت إليه جوانحها فقصدت أن تختاره وتريح

أفكاره فلمحت أخاها باكيا مطرقا عانيا قد أيس من نفسه وتيقن الإقامة بحبسه لأنه يعلم أنها لا تترك زوجها وابنها ولا تختاره عليهما ولا تميل إلا إليهما فأفكرت طويلا واستعملت الرأي الصائب دليلا ثم أداها الفكر الدقيق وأرشدها التوفيق وقالت أختار أخي الشقيق فبلغ الضحاك ما كان من أمرها واختيارها لأخيها بفكرها فدعاها وسألها عن سبب اختيارها أخاها وقال إن أتت بجواب صواب وهبتها إياهم مع زيادة الثواب وإن لم تأت بفائدة قاطعة وعائدة في الجواب نافعة كانت في قتلهم الرابعة فقالت اعلم واسلم إني ذكرت زوجي وطيب عشرته وأوقات معانقته ولذته وما مضى معه من حسن العيش وانقضى من خفة الأحلام والطيش فملت إليه وعولت في الطلب عليه ثم أبصرت ابني فتذكرت مقامه في بطني وما مضى عليه من عاطفة وشفقة عامة في الأيام السالفة فهيمني حبه القديم وشكله القويم فملت إلى اختياره وخلاصه من بواره ثم لمحت أخي المتقدم عليهما فقست مقامه بالنظر إليهما فقلت إني امرأة مرغوبة قينة عاقلة مطلوبة إن راح زوجي فعنه بدل وإن حصل الزوج وجد الولد وحصل فتهيأ الغرض ووجد عنهما العوض وأما الأخ الشقيق عما عنه عوض في التحقيق لأن أبوينا ماتا وفاتا وصارا تحت الأرض رفاتا فهذا الذي أدى إليه افتكاري ووقع عليه اختياري وأنشد لسان القال فيما قال (شعر) وكم أبصرت من حسن ولكن عليك من الورى وقع اختياري قال فاستحسن الضحاك هذا الكلام ووهبها جماعتها مع زيادة الأنعام (قال الحكيم) وإنما أوردت هذا المثل لمولانا الملك الأجل وعرضته على الحضار ومسامع النظار ليعلم أن لي عن كل شيء بدلا وأما عن مولانا السلطان فلا كما قال من أجاد في المقال:

وقد تعوضت عن كل بمشبه ... فما وجدت لأيام الصبا عوضا وليس لي عوض إلا في بقاء ذاتك المحروسة ودوام حياتك العزيزة المأنوسة ثم أني أخاف والعياذ بالله تعالى أن هذه الفتن قد أقبلت والحركات الداهية التي وجوه الخلاص منها قد أشكلت تستأصل شافة أسلافنا الكرام وتقرض شرف أجدادنا الملوك العظام فاخترت العزلة لذلك فإنها أسلم الطرق والمسالك (قال الملك) لقد صدقت إذ نطقت وتحريت الصواب في الخطاب وأنا أتحقق حسن نيتك وخلوص طويتك وحسن وفائك ويمن آرائك فإنك أخ شقيق وصدوق صديق ولكن تعلم أن هذا الوزير رجل خطير ورأيه مستنير وفضله غزير وهو من أصل كبير وله علينا حق كثير وأريد أن يقع ما عزمت عليه وفوضت فكرك المصيب إليه مع محاورته ومناظرته ومشاورته فإن كلا منكما ناصح مشفق وحكيم مدقق وعالم محقق وفي مثل هذه الأشياء إذا اتفقت الآراء وطال النفس تكاشف نور القبس وسعد البخت وتمكن التخت وصح الحق ووضح الصدق لا سيما إذا كان الكلام بين عالمين والسؤال والجواب من فاضلين كاملين (قال الحكيم) أيها الملك العظيم إذا قام الإنسان في صدد المعارضة وتصدى في البحث إلى المعاكسة والمناقضة لا سيما إن كان من أهل الفصاحة واللسن وساعده في ذلك الإدراك الحسن لا يعجزان يقابل الإيجاب بالسلب والاستقامة بالقلب والعكس بالطرد والقبول بالرد ويكفي في جواب المتكلم إذا أورد مسألة لا نسلم وقد قيل في الأقاويل لا تنفع الشفاعة باللجاج ولا النصيحة بالاحتجاج

أما أنا فقد بذلت جهدي وأديت في النصيحة ما عندي وكشفت عن مخدرات التحقيق أستار السبك وكررت على محك التصديق آثار الحك فإن وعيتم كلامي يسمع حي فقد تبين الرشد من الغي وإن أعرضتم عن عين اليقين فلا إكراه في الدين فتصدى الوزير للكلام وحسر عن ثغر بيانه اللئام وبرز في ملابس الملاينة والخداع وسلك بخبث طرق الملاطفة والاصطناع ودس السم في الشهد ونزل من اليفاع إلى الوهد وقال الحمد لله الكريم الذي من على مولانا الملك بهذا الأخ الحكيم الفاضل الحليم الكامل العليم الناظر في العواقب ذي الرأي المصيب والفكر الثاقب فلقد بالغ في النصيحة بعباراته الصحيحة وإشاراته المليحة وكل شيء أبداه إلى المسامع وأنهاه هو الذي يرتضيه العقل ويرضيه العدل ويقبله الطبع القويم إذ هو المنهج المستقيم يترتب عليه الذكر الجميل ويحصل به الثواب الجزيل لكن الذي نعرفه في حفظ الرياسة وإقامة ناموس السياسة هو الذي عليه القوم في هذا اليوم وجرت عليه عادات الأكابر وانخرط في سلكه الأصاغر فإن الزمان فسد والفضل فيد كسد وزاد الحقد والحسد وتشرب المكر والأذى الروح والجسد وكل في الروغان ثعلب وفي العدوان أسد وصار هذا مقتضى الحال والمحمود من الخصال والمطلوب من الرجال والناس يدورون

بزمانهم بقدر مكانهم وإمكانهم وقد قيل الناس بزمانهم أشبه بآبائهم وبعض السياسات عند أهل الرياسات يقتضي العقوبة معاقبة من لا ذنب له فإن وضع الأشياء في محلها وزمام الأمور والمناصب في يد أهلها هو أحد قوانين الشرع والسياسة ومقتضى العقل والكياسة والعدل والرياسة والعقل والفراسة والفضل والنفاسة وناهيك أيها الحكيم الفاضل قول القائل: ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم وما قيل: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم ومن مقالات الملك أتابك أزدشير بن بابك رب إراقة دم تمنع من إراقة دم وفي أمثال العرب القتل أنفى للقتل وقيل: لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجساد بالعلل

وهذا كله مصداق قوله تعالى ولكم في القصاص حياة (وناهيك يا ذا القدر الخطير قصة قابوس بن بشكمير) قال الحكيم للوزير أخبرني أيها الدستور الكبير بكيفية ما أنت إليه مشير قال الوزير ذكر أن قابوس بن بشكمير ذاك الأسد المنير قبض على جماعة كانوا جبذوا أيديهم من الطاعة من أركان دولته وبنيان صولته ثم قيدوه وحبسوه وأقاموا ولده مقامه وأجلسوه ثم إنهم لم يأمنوا غوائله وأفكاره الصائلة فتآمروا أن يسكبوه ويعمدوا إلى دمه فيسفكوه فأرسوا إليه قاتلا فوثب إليه سائلا وقال ما سبب قتلي وما نابهم من أجلي مع كثرة إحساني إليهم وانسبال ذيل ذيل إكرامي وإنعامي عليهم وتربيتي إياهم كالأولاد وفلذ الأكباد وصوني إياهم عن آذاهم فقال كثرة إراقة الدماء أهاجت عليك الغرماء وأكثرت لك الخصماء لما تغيرت خواطرهم عليك خافوا وقبل أن تحيف عليهم حافوا فقال قابوس والله ما سبب هذا النكد والبوس وإثارة هؤلاء الخصماء الأقلة إراقتي للدماء يعني لو أراق دماء القائمين عليه لما وصل هذا المكروه إليه فلما أبقى عليهم أفنوه وحين ترك آذاهم آذوه وإنما أوردت هذا التنظير ليقف خاطرك الخطير إن أمور الرياسة

وقواعد السياسة كانت تقتضي السبك وأحرى بالعفو والترك وأما الآن فذلك الحكم قد انتسخ والفساد في قلوب العباد رسخ وقد قيل: تلجي الضرورات في الامور ... سلوك ما لايليق بالأدب ومزاج الزمان قد تغير والمعروف منه قد تنكر وقد أعرضوا عن طاعة السلطان واتبعوا مخادعة الشطان وكل منهم قد شرخ وباض الشيطان في أذنه وفرخ وتصور لخيالاته الفاسدة ومحالاته الكاسدة إنه بما يكيد يبلغ ما يريد وهيهات وشتان: لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس وهذا كما قال الله تعالى يعدهم ويمنيهم الشيطان وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وما شعروا إن الملوك والسلاطين اختاره الله تعالى وألبسه من خلع جبروته كمالا وجلالا وجعلهم بأموره قائمين وبعين عنايته ملحوظين وكما إن الرسل والأنبياء والسادة الأعلام الأصفياء هم صفوة الله من خليقته ومختاروه من خير بريته من غير كد ولا جهد ولا سعي منهم ولا جد ما برطلوا على النبوة والرسالة ولا رشوا على نيل هذه الكرامة والنبالة إنما هو محض فضل من الله تعالى وعنايته والله أعلم حيث يجعل رسالته

كذلك الملوك والسلاطين والقائمون بإقامة شعائر الدين هم ممن اختاره الله على خلقه وأجرى على يديه لهم بحار كرمه ورزقه والسلطان ظل الله في أرضه يجري بين عباده شريعة نفله وفرضه قال من له الخلق والأمر أطيوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر وقد غفل أهل هذه الممالك عن السلوك في هذه المسالك وعن درك هذه الحقائق وأعرضوا عن الدخول في أحسن الطرائق وهي طريق المحاشمة والصفح والمكارمة وعدوا المكر من أحسن الرياسة والعقل والكياسة والتحيل لأكل أموال الناس من الذكاء ومظالم العباد من خلال الصدق والصفاء وتملقهم للملوك والسلاطين من أسباب الوصول إلى الأغراض مع تحسين الظواهر وفي البواطن أمراض فظواهرهم ظواهر الإنس تشمل على المودة والإنس وما فيهم تحت الثياب إلا كلاب وذئاب ولأجل هذا سلطنا الله عليهم ومد يد بطشنا إليهم معاملهم بالفراسة ونعمل بما تقتضيه الكياسة وتصوبه الآراء السلطانية من قواعد السياسة قال الحكيم حسيب بعد ما أدركما في هذا الكلام من نكر غير مصيب اعلم أيها الوزير النافع الناصح والدستور الشفيق المصالح أن الرعية بمنزلة السرج والملك لمنزلة الشمس في البرج وإذا تلألأ على صفحات الأكوان وأنار في وجه الزمان والمكان أشعة نور الشمس الوهاج فأي شعاع ووجود يبقى للسراج وإن أنوار قلوب الرعايا وما يحصل لها من إشراق ومزايا إنما هي من فيض أشعة ملوكهم وإن الرعية تتبع الملوك في سلوكهم فإذا صفت مرآة قلب السلطان أشرقت بالطاعة قلوب الرعايا والأعوان بل الزمان والمكان تابعان لما يضمره وينويه السلطان

وقد قيل إذا تغير السلطان تغير الزمان (وهل أتاك أيها الدستور واقعة الرئيس مع بهرام جور) قال الوزير أخبرنا يا باقعة كيف كانت تلك الوقعة قال الحكيم أخبرني شيخ عليم بالفضل مشهور إن بهرام وكان ذا يد عزم على الصيد فخرج في عسكر جرار واستوى في الصحارى والقفار وبينما هم قد تفرقوا فما شعر إلا وقد حركت يد الشمال غربال المطر ثم تراكم من السحاب على وجه عروس السماء النقاب وانهل الغمام المدرار وصارت الدنيا جنات تجري من تحتها الأنهار وأقبلت سوابق السيول تجري في مضمارها الخيول فتشتت العساكر وتشوشت الخواطر فقصد بهرام جور كفرا من الكفور وطلب القرى من تلك القرى منفردا عن عسكره مخفيا من خبره فنزل بيت الرئيس وهو رجل خسيس فلم يقم من حقه بالواجب لأنه يعلم ذلك الراكب فتشوش خاطره وتكدرت ضمائره وتغيرت عليهم نيته وإن لم تتغير بشريته فلما أقبل الليل جاء الراعي وهو يدعو بالويل ويشكو كثرة المحن من قلة اللبن وذكر أن المواشي لم تدر ضرعا مع إن رعيتها كانت أحسن مرعى ولا وقف لذلك على سبب ولا درى كيف حال حالها وانقلب وكان للرئيس بنت تخجل الأقمار بخدها وتقصف الأغصان على قدها فلما سمعت كلام الراعي قالت والله أنا أعرف السبب والداعي وهو أن السلطان الذي نيته حفظ أوطاننا تغيرت نيته علينا وتقدم ضميره بالسوء إلينا فظهر النقص في ماشيتنا وسيتعدى ذلك إلى أنفسنا وحاشيتنا وقد قيل إذا هم

الحاكم بالجور على الرعايا أدخل الله النقص في أموالهم حتى الزروع والضروع قال أبوها فإذا كان الأمر كذلك فلا مقام لنا في هذه الممالك فالأولى أن نتحول عن هذا المكان إلى مقام لا يضمر فيه سوءا لرعيته السلطان ونستريح في ظل حاكمه ونرعى في مسارج مكارمه كل هذا وبهرام يصغي إلى هذا الكلام فقالت البنت إن كان ولا بد من الانتقال واقتعاد مطية الارتحال فما نصنع بهذه الأثقال والأزواد الثقال نقدم لهذا الضعيف منها يحصل التخفيف عنها ويقع بذلك فائدتان إحداهما حسن المضيف وثانيهما التخفيف فامتثل أبوها أمر ابنته ونقل إلى الضيف ما حواه بيته من طعام وشراب ونقل وكباب وبسط بساط النشاط وأخذ دواعي الانبساط وانتقل من

فتقدم بجأش صليب وقبل الأرض بين يدي الذيب وقال محبط الراعي لجنابك داعي يسلم عليك وقد أرسلني إليك يشكر صداقتك وشفقتك وحشمتك ومرافقتك ويقول قد تركت بحسن آدابك عادة أجدادك وآبائك فلم تتعرض لمواشيه وحفظت بنظرك حواشيه وقد حصل لضعافها الشبع وأمست بجوارك آمنة من الجوع والفزع وحصل لها الأمن من الجزع فالله يجعل جوارك وغياضك أحسن مجتمع لأن عجاف ماشيته شبعت ورويت واستنعشت وقويت فأراد مكافأتك وتطلب مصافاتك ومصادقتك فأرسلني إليك لتأكلني وأوصاني أن أطربك بما أغني فإني حسن الصوت في الغناء وصوتي يزيد في شهوة الغذاء فإن اقتضى رأيك السعد غنيتك غناء ينسي أبا أسحق ومعبد وهو شيء لم يظفر به آباؤك ولا أجدادك ولا يناله أعقابك وأولادك بقوى كرمك وشهوتك وقرمك وبطيب مأكلك

ويسني مأملك وإن صوتي للذيذ ألذ للجائع من جدي حنيذ بخبز سميذ وللعطشان من قدح نبيذ ورأيك أعلى وامتثالك أولى فقال الذئب لا بأس قد أجبت سؤالك فغن ما بدا لك فرفع الجدي عقيرته ورأى في الصياح خبرته وملأ الدنيا عياطا وأعقبه ضراطا وأنشد: وعصفور الهوى يهوي جراده ... كما عشق الخروف أبا جعاده فاهتز الذئب طربا وتمايل عجبا وعجبا وقال أحسنت يا زين الغنم ولكن هذا الصوت من ألم فارفع صوتك في الزير فقد أخجلت البلابل والزرازير وزدني يا مغني قولي: أقر هذا الزمان عيني ... بالجمع بين المنى وبيني وليكن يا سيدي المغني هذا من أوج الحسيني فاغتنم الجدي الفرصة وأزاح بعياطه الغصه وصرخ صرخة أخرى أذكره الطامة الكبرى ورفع الصوت كمن عاين الموت وخرج من دائرة الحجاز إلى العراق وكاد يحصل له من ذلك الانفتاق وقال: قفوا ثم انظروا حالي ... أبو مذقة أكالي فسمعه الراعي يشدو فأقبل بالمطرق يعدو فلم يشعر الذئب الذاهل

وهو لحسن السماع غافل ألا والراعي بالعصا على قفاه نازل فرأى الغنيمة في النجاة وأخذ في طريق النجاة وترك الجدي وأفلت ونجا من سيف الموت المصلت وصعد إلى تل يتلفت بعد إذ تفلت فأقعى يأكل يديه ندامة ويخاطب نفسه بالملامة وقال أيها الغافل الذاهل والأحمق الجاهل متى كان على سماط السرحان الغناء والأوزان وأي جد لك فإني وأبي مفسد جاني كان لا يأكل إلا بالأغاني وعلى صوت المثالث والمثاني فلولا أنك ما عدلت عن طريقة آبائك ما فاتك لذيذ غذائك ولا أمسيت جائعا تتلوى وبجمر فوات الفرصة تتكوى وبات يحرك ضرسه ونابه ويخاطب نفسه لما نابه ويقول: وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا وإنما أوردت هذا النظير لمولانا والوزير ليعلم أن العدول عن طرائق الأصول ليس إلا داعية الفضول ولا يساعد معقول ولا منقول وأمور ذميمة وعاقبته وخيمة وناهيك ما هو وكالعلم ومن يشابه أباه فما ظلم ويؤخذ من مفهوم هذه الحكم أن من لم يشابه أباه فقد ظلم خصوصا الملوك والسلاطين الذين اختار رفعتهم رب العالمين وذلك لئلا يدخل على قواعد المملكة من حركات الاختلال والاختلاف حركة ولله يا ذا الإحسان ما قيل في شأن الملك أنوشروان: لله در أنوشروان من رجل ... ما كان أعرفه بالوغد والسفل نهاهم أن يمسوا عنده قلما ... وأن يذل بنو الأحرار بالعمل

لنفسه المنفعة أن يرجع معه فربما ينجح ويسلب من الحمار وعيه فقال يا أخي شوقتني بهذه القضية إلى الاطلاع على تلك الوصية لاستفيد منها وآخذ حظي من الفضل عنها فلا بد من مصاحبتك والذهاب معك ومرافقتك فقال الحمار لا دافع ولا مشاقق ولا مانع أن تكون لي مرافقك فقال ابن آوى فهل في حفظك منها شيء فإن كان فألقه إلي لنتذاكر في الطريق ولا يؤثر فينا التعب والضيق فقال نصيحة واحدة هي بصدقي شاهدة وهي كلمة مجملة فوائدها فيها مجملة وهي أن أبي قال لي إياك أن تفارق هذه الوصية فإن فارقتها وقعت في بلية وسأخبرك بسائرها في المسير إذا تذكرت أيها البصير ثم سار قليلا وأفكر طويلا وقال وهذه أخرى سنحها ذكري وارتضاها فكري وهي إذا وقعت في شدة ورمت للخلاص منها عده فتصور أصعب منها يحصل لك التغصي عنها وتهن عليك وتعدها نعمة أسديت إليك فتشتغل بشكرها وتستأنس بذكرها فقال ابن آوى أحسنت يا حمار وهذا مقام الأخيار والصالحين والأبرار ثم سار سيرة رائثة وقال والله هذه نصيحة ثالثة فقال قل واسلم وطل فقال لا تحسب أن الصديق الجاهل

خير من العدو العاقل فإن علم العدو العاقل خير لك من جهل الصديق الجاهل فقال ابن آوى ما أحلى كلامك وأعلى في اللطف مقامك وأنزه منادمتك وأفكه مكالمتك بالله شنف المسامع فإني لك بقلبي وجوارحي سامع فقال مهلا حتى أتذكرها وأتصورها كما ينبغي وأتفكرها أمر ابن آوى على تعسه وساقه القضاء إلى رمسه فوصل إلى الضيعة وقد وقع ابن آوى في ضيعة فالح على الحمار فقال أخبرني فما بقي لي اصطباري فقال قال لي أبى بكلام فصيح عربي لا تجعل مقامك ومقيلك بمكان يكون فيه ابن آوى دليلك والذب فيه جارك وخليلك وأن جعلت لك في هذا المكان ساحه فما ترى يكون لك فيه من الراحة وأن أردت أن تخلص من هذا المكان فانصب الآذان وارفع ذكر الله بالأذان فانه ينجيك من الضيق ثم رفع عقيرته بالنهيق فسمعه معارفه من الكلاب فسارت إليه مستبشرة بحسن الإياب وسارعت إليه واجتمعت حواليه فما شعر ابن آوى إلا وهو متورط في البلوى فطفر للهرب فادركه من الكلاب الطلب فاحتموشته وانتوشته واختطفته واقتطفته ووزعته ومزعته ومرشته وقرشته فلم تبق منه عيناً ولا أثر واذهب دمه في تدبير هدراً وإنما أوردت هذا المثال وعرضته على الرأي العال ليعلم أن الاغترار بالكلام والإصغاء إلى الحكايات والقول البطال من غير تنقل من ألفاظها إلى معانيها وتأمل في مآكل مقاصدها وفحاويها والأعتماد على القضايا المزخرفة والركون إلى الأمور المسفسفة لا يفيد سوى الندم وزلة القدم

والأصل في الولايات والمناصب التفكر في الخواتيم والتأمل في العواقب والأفلبس في ذلك سوى إضاعة العمر والمصير إلى المهالك وقلت شعراً:

أن صحبة الأخيار كجرة النضار بطيئة الانكسار سريعة الأنجبار وصحبة الأشرار كجرة الفخار سريعة الانكسار بطيئة الأنجبار وبالجملة فما في صحبة الناس فائدة ولا في مخالطة الناس كبير عائده وقد قيل: ولم تر من بني الدنيا سلاما ... فان تراه فابلغه سلامي وينبغي أن تكون غيبتكم وحضوركم وأجوالكم وأموركم وأجتماعاكم وفراقكم وصلحكم وشقاقكم في حالتي السراء والضراء والبؤس والرخاء على وتيرة واحدة وهي الخالية عن الأغراض الفاسدة أعني إذا رضيتم فبالحق وإذا غضبتم فالحق وإذا توجهتم فاللحق ولا تبطروا في حالة النعم ولا تضجروا في حالة النقم وعلى كل حال فلا يقع بينكم اختلال

وذلك بتفرق الكلمة واختلافها وتصادمها وعدم ائتلافها فانه قيل: إن الدليل الذي ليست له عضد ... مثل الوحيد بلا مال ولا عدد (وقيل أيضاً) : كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى ... خطب ولا تتفرقوا أجنادا تأبى القداح إذا جمعن تكسرا ... وإذا افترقن تكسرت أفرادا ولا تثقوا بأحد من الكبار والصغار إلا بعد الأختبار في الشدة والضعف والرفق والعنف والبؤس والرخاء والخوف والرجاء ولا تقدموا على قديم الأصحاب أحداً ولا على الموثوق بهم من لا جربتموه أبداً وقد قيل في المثل المشهور النحس المعروف خبر من الجيد المنكور وقيل أيضاً خير الأشياء جديدها الأصحاب قديمها وأسوأ قواعدكم أخراكم في دنياكم واغتنموا السعادة الباقية من الدار الفانية وعاملوا تجدوا وازرعوا تحصدوا وتفكروا من أول يومكم أحوال عزكم ومن أوائل عمركم أواخر دهركم ومن ليلة الهلال سرار أشهركم فكل من له صدق قدم يتفكر وهو موجود حالة العدم ومن زمان شبابه حالة الهرم كما فعل التاجر المراقب وما آل إليه العواقب فقبل الأرض الأولاد وقالوا مولانا السلطان أعظم من أفاد لو تصدق على عبيده الطائعه ببيان تلك الواقعة (قال الملك) ذكر الحكماء وذووا الفضل من العلماء أنه كان في بعض الأمصار تاجراً من أعيان التجار ذو مال جزيل وجاه عريض طويل ونعمة وافرة وجشم وخدم متكاثرة من جملتهم غلام مخابل السعادة من جبينه لائحة وروائح النجابة من أذيال شمائله فائحة قد أفتى عمره في خدمة مولاه ولم يقصر لحظة في طلب رضاه

فقال له سيده في بعض الأيام لك على حق يا غلام وأنا أريد مكافأتك وأطلب موافاتك فتوجه هذه المرة في هذه السفرة فمهما ربحت فهو لك بعد أن أعتقك من قيد رق أشغلك ثمن أوسق مركباً وفسح له في السير شرقاً ومغرباً وصاه بأشياء امتثل مرسومها والتزم منطوقها ومفهومها فقال له مولاه سأرفعك على إضرابك وأغنيك عن أمثالكوأصحابك وأجعلك كأكبر من في الدنيا ولجميع رفقتك بمنزلة المولى ثم أخذ في تعبية البضائع وأوسق مركبه المتاجر والمنافع وسلمه إلى الهواء والماء بعد أن توكل على رب السماء فسار بعض أيام وهو في أهنى مرام وخضره الملاح وموسى وفتاة حافظ الألواح وبينهما السفينة من نسف العواصف أمينه تجاري السهم والطير وتبارى الدهم في السير فإذا بالرياح هاجت والأمواج ماجت وأشباح البحر تصادمت وأطواد الأمواج على العرفاء تلاطمت فعجز ذلك الملاح والحافظ ونشر مذهب ابنه أبو الجاحظ وترك سيمة الوقار والسكينة ورقم نقش الحروف في ألواح السفينة فشاهدوا من ذلك الهواء والأهوال وغدا قاع البحر كالجبال وصار في ذلك الغراب بمن فيه من الأصحاب كأحوال الدنيا بين صعود وهبوط وقيام

وسقوط طوراً يستأمنون الأفلاك ويناجون الأملاك وينهون أخبار ظلمات صاحب الحوت إلى السماك وطوراً يهبطون الغور وينظرون قرن الثور وربما قوامنه من تحت الزور فلم يزالوا عاجزين حيارى سكارى وما هم بسكارى يتناشدون: وفلك كبناه والبحر ذو ... هواء فثار وحار ومارا فطوراً اعلونا السماء وطوراً ... رمتنا أراضيه منها انحدارا وآخر الأمر نسفت السفينة الرياح وألقى كاتب الحاصب إلى كل حرف من حروف الجبال لوحاً من الألواح وأوعر الله سهلها وخرقها فأغرقها وأهلها وذهب البحر بأموالها وأرواحها وتعلق الغلام بلوح من ألواحها واستمر تقذفه الأمواج وتصدم به أثباج البحر الهياج إلى أن وصل إلى ساحل فخرج وهو كئيب ناحل وصعد إلى جزيرة فواكهها غزيرة ووصفها عجيب ليس بها داع ولا مجيب فجعل يمشي في جنباتها إلى أن أداه التوفيق إلى فم طريق فسار تلك الجادة وهداية الله له مادة فانتهى به المسير إلى أن تراءى له سواد كبير وبلغ مملكة عظيمة ولاية جسيمة ورأى على بعد مدينة مسورة حصينه فعمد إلى ذلك البلد وتوجه نحوها وقصد فاستقبله طائفة من الرعال نساء ورجال يتبعهم جنود مجندة وطوائف محشدة مع طبول تضرب وفوارس تلعب رزمور تزعق

وألسنة بالثناء تنطق حتى إذا وصلوا إليه تراموا عليه وأكبوا بين يديه يقبلون يديه ورجليه مستبشرين برؤيته متبركين بطلعته ثم ألبسوه الخلع السنية وقدموا فرساً عليه بكنبوش ذهب وسرج مغرق ووضعوا له التاج على المفرق ومشوا في الخدمة بين يديه والجنائب في الموكب تجر لديه ينادون حاشاك واليك سلطان الناس قادم عليك حتى وصلوا إلى المدينة ودخلوا قلعتها الحصينة ففرشوا شقق الحرير ونثروا النثار والكثير وأجلسوه على السرير وأطلقوا مجامر الند والعبير ووقف في خدمته الصغير والكبير والمأمور والأمير والدستور والوزير وأشندوه: قدمت قدوم البدر بيت سعوده ... وأمرك فينا صاعد كصعوده

والنصوح الصديق جزاك الله خيرا وكفاك ضيماً وضيراً أني قد فكرت في شيء ينفع نفسي ويحيها ويدفع شر هذه البلية التي وقعت فيها وأريد معاونتك وأطلب مساعدتك فأني رأيتك في الفضل متميزاً بين أقرانك فاثقافي محاسن الشيم على أصحابك وإخوانك فقال افعل يا ذا الزعامة وحبالك وكرامه قال اعلم أيها الصاحب الأعظم أن الرجوع إلى هذاالمكان الذي كنت فيه خارج عن الإمكان والإقامة في هذا الملك المعهود إنما هي إلى أجل معدود ووقت محدود وانقضاؤه على البتات وكل ما هو آت آت وكيفية الخروج قد عرفت وطريقها قد تقررت ووصفت ولهذا قيل يا ذا الفضل الجزيل دخلنا مضطرين وأقنا متحيرين وخرجنا مكرهين ولم يتجه مخلص من هذا المقنص إلا طريق واحد وسبيل غير متعاهد وهي أن تأخذ طائفة من البنائين وجماعة من المهندسين والنجارين وتذهب بهم أيها الوزير إلى

مكان إليه نصير فتأمرهم أن يبنوا لنا هناك مدينة ويشيدوا لنا فيها أماكن مكينة ومخازن وحواصل وتملؤها من الزاد المتواصل من المآكل الطيبة والأطعمة والأشربة اللذيذة المستعذبة ولا تغفل عن الإرسال ولا تختر الإمهال والإهمال في الظهيرة والأسحار والغدوّ والآصال إذ أوقاتنا وأنفاسنا معدودة وساعة تمضي منها غير مردوده وإذا فات شيء من ذلك الوقت فلا نعوض عنه إلا الخيبة والمقت فننقل هناك ما يكفينا على حسب طاقتنا ومقدار قدرتنا واستطاعتنا فإذا تزودنا منها لم نرحل عنها بحيث إذا نقلنا من هذه الديار وطرحنا في تلك المهمة والقفار وجفانا الأصحاب وتخلى الإخلاء عنا والأحباب وأنكرنا المعارف والأوداء واحتوشتنا في تلك البيداء فنون الداء نجد ما نستعين به على إقامة الأود مدة إقامتنا في ذلك البلد فأجاب بالسمع والطاعة وأختار من المعمارية جماعة وأحضر المراكب وقطع البحر إلى ذلك الجانب وجعل الملك يمدهم بالآلات والأدوات على عدد الأنفاس ومدى الساعات إلى أن أعنى المعمارية العمارة وأكملوا حواصل الملك ودلره وأجروا فيها الأنهار وغرسوا فيها الأشجار فصارت تأوي إليها الطيور بالليل والنهار ويترنم فيها البلبل والهزار بأنواع

التسبيح والأذكار وغدت من أحسن الأمصار وبنوا إليها الضياع والقرى وزرعوا منها الوهاد والثرى ثم أرسل إليها ما كان عنده من الخزائن ونفائس الجواهر والمعادن وأرسل من ظريف التحف إليها ومن حاجاته المعول عليها بحيث لو أقام بها سنين قامت بكفايته وفضلت خزائنها عن حاجته وأكثر من إرسال ما يلزم من الأدوات والأشربة والمطعومات وجهز الخدم والحشم وصنوف الأستعدادات من النعم فما انقضت مدة ملكه ودنت أوقات هلكه إلا ونفسه إلى مدينته تاقت وروحه إلى مشاهدتها اشتاقت وهو مستوفز للرحيل ورابض للنهوض والتحويل فلما تكامل له في الملك العام لم يشعر إلا وقد أحاط به الخاص والعام ممن كان يفديه بروحه من خادمه ونصوحه ومن كان سامعاً لكلمته من أعيان خدمه وحشمته وقد تجردوا لجذبه من السرير ونزع ما عليه من لباس الحرير ومشوا على عادتهم القديمة وسلبوه الحشمة الجسيمة ومملكته العظيمة وزالت الحشمة والكلمة والحرمة وشدوا وثاقه وذهبوا به إلى الحراقة ووضعوه وقد ربطوه في المركب الذي هيئوه وأوصلوه إلى ذلك البز من البحر فما وصل إليه إلا وقد أقبلت خدمه عليه وتمثلت طوائف الحشم والناس لديه ودقت البشائر المقدمة وحل في سروره المقيم ونعمه واستمر في أتم سرور واستقر في أوفر حبور ثم قال الملك للأولاد فلذ الأكباد وإنما أوردت هذا المقال على سبيل المثال فأصغوا إلى حسن التنظير حتى أبين لكم النظير وعوامل ما أقول بآذان القبول وتأملوا رموز المعاني من هذه الألفاظ التي خجلت المثاني ثم تفكروا وتبصروا وبعد التذكير والتبصر تدبروا

أما ذلك العام المعهود فأنه الولد في أول الوجود وأما المركب الذي أودعه فهو بطن أمه الذي استودعه وانكسار السفينة هو انشقاق المشيمة والجزيرة التي خرج إليها فهي الدنيا التي دخل عليها والناس الذين استقبلوه فأقاربه وذووه وأهلوه يربونه بالملاطفة والعلال ويعاملونه بالإكرام والأفضال وذلك الشاب الذي هو وزيره فهو عقله ومن إيمانه نوره والسنة المضروبة أجله المحتوم وعمره المعدود المعلوم ونزوله عن سريره عبارة عن آخرته ومصيره وخروجه من الدنيا بالإكراه وشروعه في دخول إلى أخراه والبحر الثاني الذي طرح فيه هو أحوالما يعاينه عند الموت ويعانيه إلى سفر طويل زاده قليل قفاره يابسة وطرقه دامسه لا أنيس فيه ولا رفيق ولا مصاحب ولا صديق ولا دليل ولا خليل ولا مغيث ولا مقيل ولا ماء ولا معين ولا صاحب ولا معين فيهيئ لهذا السفر بقدر

الإمكان ما قدر من الزاد وألما والمركب والكلا ونور الطريق والمسافر والرفيق والخادم والأنيس والمنادم والجليس ويمهد المضجع للمبيت ويهيئ والمقيل ويهيئ الموضع في النزول والرحيل وبالجملة لا يترك من أفعال الخير شيئاً إلا فعله ولا مجملاً إلا فصله ولا متأخر إلا قدمه ولا معاملاً في مبايعة إلا أسلفه وأسلمه وليعلم أن كل ذلك محتاج إليه ومصروف لديه إذا نقل إلى دار البقاء وأقبل عليه فإذا جاء وقت الرحيل ونادى منادي الانتقال والتحويل وجد ما كان في عمله حاضراً وكل ما قدمه إلى رياض الخير نزها ناضراً كما قال ذو الجلال وأخبر به الصادق في الوعد والمقال أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون معنى أن لا تخافوا لا خوف عليكم فيما هو أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم فإذا دخل في قبره وجده روضته من رياض الجنة يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم وأما الشقي الغافل الغبي الذي أمهل أمره ونسي الله وذكره وأهمل ما خلق لأجله وتاه في بيداء الضلال وسبله فقد اغتر بهذه اللذة اليسيرة في تلك المدة القصيرة واستمر سكران في ميدان العصيان من خمرة الطغيان وتردى لباس الردى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فانهدمت عمارتهم ولا ربحت تجارتهم حتى إذا جاءه الوقت المعلوم ونزل به الأجل المحتوم ونظر أمام وتراءت الأعلام فإما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم نزل من دار الغرور إلى دار الشرور فندم ولا ينفعه الندم وقد زلت به القدم فخاب مآبا وقال يا ليتني كنت تراباً فانظروا يا أولادي وعدتي وعتادي حال الفريقين وتأملوا ما للطائفتين فقد بذلت في النصيحة جهدي وأستخلف الله عليكم من بعدي

فقال أكبر ولده وهو أسلك محاسنهم واسطة عقدهم جزى الله مولانا عن شفقته خيراً وأولاده على حسن النصيحة أجروا ذخراً فلقد أحييت قلوباً بزواهر حكمك وشنفت أسماعاً بجواهر كلمك ولكن أخوتي وإن كانوا من أولي العلم وأرباب النباهة والحلم والعقل الغزير والفضل الجم الكثير والرأي المصيب المنير غير أن حدة الشباب عليهم غالبه ودواعي النفس بشهواتها مطالبه لا سيما أن حصلوا على ملك عريض وكرعوا من ألبانه المخض والمخيض فان اتفق مع ذلك موافق منافق أو صاحب ممارق أو صديق خدوع أو مباطن مكار هلوع أضلهم عن سواء السبيل وصار إلى طريق المخالفة أوضح دليل فتتحول صداقتنا عداوة وتتبدل فيها بالمرارة الحلاوة الرخاء فينتزع الرخاء ويتمزع الإخاء ويبغي بعضنا على بعض وتعود الأخوة على موضعها بالنقض ويتولد من ذلك الفتن ويظهر من العداوة ما بطن فالرأي عندي أنه ما دام زمام التصرف في يد الإمكان يتصرف مولانا السلطان على مقدار جهده في مصلحة عبده بحيث لا أكون مضغة للماضغ ومشغلة لكل قلب فارغ ولا يسلمني لا سباب الحوادث ومخالب الدهر الكوارث فإنه بذلك يكفيني من نوائب الزمان ما يدهيني والعياذ بالله المنان من مفارقة مولانا السلطان جلعني الله تعالى فداءه ولا أراني فيه يوماً أساءه فليأخذ بيدي من هذه الورطة وليرحمنيمن شر هذه الخطه فانه قد قيل من لا يقبل المستقبل ولا يغيث المستغيث ولا يتقصد بمعنى الحديث ولار يدفع غصة هذه القصة ويفوت عند الأمكان الفرصة يصيبه من حوادث الزمان ما أصاب بعض الجرذان الذي لم يخلص الغزالة الواقعة في شرك الحبالة قال السلطان قل لي كيف كانت قصته وما كانت قضيته

(فقال) ذكر أن بعض الصيادين المحتالين الكيادين نصب حباله ليصيد غزاله فعلق بها مهاة من المها وطلبت مجالاً واضطربت يميناً وشمالاً فوقعت عينها على جرذ من الجرذان عنيد يتفرج عليها من بعيد فنادته بلسان زلق وأثنت عليه بلسان طلق وقالت يا فارس ميدان المروة والنجدة والفتوة والموصوف بالشطارة والقوة هذا وقت الكرم وأوان استعمال مكارم الشيم وفعل المعروف وإغاثة الملهوف وصرف الهمة إلى كشف الغمة نعم وأن كانت طرائق الصداقة بيننا معدومة ونقوش التنافر على صحف خواطرنا مرقومه ونقود المعرفة والإخاء في جنب التباين غير مبذولة ومرآة

فاشمأزت من الرشيق نفسه وزوى في رياض مصاحبته غرسه فأمر الحجار والبوابين أن يكونوا لدخوله على الملك آبين فلما أن جاء الرشيق وقصد الدخول بجاش وثيق منعوه من الدخول فرجع خائباً خاسراً وبقي حائراً بائراً ولم يشك أن هذا الضرب سهم غرب لأنه لم يعلم السبب فقضى من الزمان العجب فشرع يتفحص عن سبب البعاد ويتردد بين أغوار وانجاد ويذهب رائد فكره كل مذهب ويعزم على توابعه ليقفوا على موانع المطلب إلى أن وقف على السبب المضرم وعلم أنه الإحسان إلى ذلك المجرم وظهر لذلك البحر البر من قوله الإحسان إلى اللئيم سلف في الشر فاجتمع بجماعة من أصحابه وطائفة من خلص أحبابه وعرض عليهم

قصته واستدفع بآرائهم غصته ثم تعرى من لباسه عند الخواص من أناسه لينظروا إلى جسده وباسه فرأوا يدنا كسبائك الفضة وأطرافنا ناعمة غضه وأعضاء تحسبها من الحور غوانيها مسلمة لاشية فيها فأجمعوا على سلامتها وذكروا للملك محاسنها بعلامتها وشهدوا بحسن صفائها ورونق بهائها وأنها سليمة عن الأدواء بريئة من كل داء وكأنه في شأنه قيل: وأعجب ما شاهدت في وصله وقد ... نزعنا غلالات وثوب حياء تلألؤ نور في ترقرق مائه ... وصورة روح في مثال هواء وإنما لشدة الحسد عاب ذلك الجسد فقال الملك صدقتم وبالحق نطقتم ولكن كيف وقد قيل: قد قيل ذلك أن صدقاً وان كذباً ... فما احتيالك في شيء وقد قيلا

واطمأن خاطره واستقرت أموره واستقامت حبوره فلما هجم جيش الليل أقبلت السباع من الوادي كأنها السيل وقصدت الوحوش والهوام ما لها من مأوى ومقام وعوت الذئاب وزأرت الأسود وهمزت النمور والنسور والفهود فساورت ابن الملك الهموم وأورثته

أصناف الغموم وأحتوشته المخاوف والوجوم فلجا إلى جناب الحي القيوم جناب قاصده ولا يصدر الابنيل الأمل وأرده وصار يحسس بيديه ويصغي إلى الحيوان بأذنيه ويتمشى إلى كل جانب ويهوى بيديه إلى الأطراف والجوانب ويتعلق بحبال الهواء كالغريق الغاطس في الماء فوقعت يده على شجره فعلق فيها يديه وظفره وصعد عليها وأوى إليها وتوجه بقلبه إلى خالقه وموجده ورازقه وقطع عما سواه أسباب علائقه واشتغل بالذكر والتسبيح وفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى بأمل فسيح واستمر في هذا الويل برهة من الليل وكان طائفة من الجان المهرة كل ليلة تأوي إلى هذه الشجرة فتيذاكرون ما جرى في العالم وما صدر في عالم السكون والفساد من أعمال بني آدم ويقيمون أفراحهم ويتعاطون انشراحهم فلما اجتمعوا تلك الليلة ذكر كل قوله وما جرى من الحوادث ومن المفرحات والكربات وما وقع من العجائب واتفق من واقعات الغرائب فقال واحد من القوم ومن أعجب ما وقع اليوم من الأمر الكريه ما فعله ملك بابل بابنأخيه وذكر لهم القضية وما تضمنه من بليه وجعل يتأرق ويتحرق ويتبرم ويتضرم ويحرق الأرم ويتعجب من عدم وفاء بني آدم فقال رئيس الجان وهذا غير بديع من طبع الإنسان فانه مجبول على الغدر مطبوع على الدهاء والمكر ألم تسمع قول قائلهم في وصف فضائلهم وقبيح شمائلهم ممن أنخرط في سلك الفضل بدون منع ولا حجز إذا كان الغدر طباعاً فالثقة بكل أحد عجز ثم قال الرئيس اعلم يا نفيس اني أعلم ما يزيل هذا الألم ويطفيء هذا الضرم ويشفي هذا السقم وهو أن هذه الشجرة النجيبة لها خاصية عجيبة

اسمها شجرة النور وفضلها في ذلك مشهور إذا أخذ من عصارة ورقها ووضعها الأعمى على حدقها انجلى عماها بدقرة رب براها وخلقها فسواها ورد إليها بصرها وزاد نظرها ثم أن الخرابة الغلانية فيها حجر حية بذيه وهي تابعة ملك بابل الفاعل هذا الفعل السافل وحياته متعلقة بحياتها وموته موقوف على مماتها لأن طالعه على طالعها وطبعه اللئيم مطبوع على طابعها فبمجرد ما تموت الحية يموت وينقل من درج الملك إلى درج الملكوت كل ذلك وابن الملك يسمع هذا القول فلجأ إلى ذي القوة والحول حتى من عليه بعد شديد العقاب بهذا الطول وجعل ينادي ويبتهل ويقول متى جبين الصبح يهل وينشد: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الأصباح منك بأمثل فلما أصبح الصباح ونادى مؤذن السعد حي على الفلاح تميم ابن الملك وصلى وحمد الله على النهار إذا تجلى ورض بين حجرين من ورق الشجرة واكتحل بمائه فرد الله عليه بصره ثم وجه ذهابه إلى تلك الخرابة ورصد خروج تلك الحية اللاطئة وضربها ضربة غير خاطئة فاحاط بها نازل الهلك وفي الحال خر الملك ميتاً على سرير الملك وبينما العزاء عليه قائم وإاذا بصاحب السرير عليهم قادم وقد قصد ملك أبيه وتمكن من ملكه وذويه وتصرف فيه كما شاء وألبسه خلعة الملك من يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء وإنما أوردت هذا التمثيل خوفاً أن يكون صاحب مولانا الملك الجليل الذي بخراسان من هذا القبيل فتبدل المحبة بالبغض وترجع على موضوعها بالنقض

ثم أن بعض الصحاب والأخوان يفعل ما يفعله من الخير والإحسان على سبيل المكافاة لأعلى طريق والمصافاة فإذا كافأ بالإحسان عاد إلى ما كان عليه من العدوان فأسال الحضرة الشريفة والمراحم المنيفة ذات الفضل المشهور والإحسان المأثور التأمل في عواقب هذه الأمور لئلا يصيبنا ما أصاب المسافر ضعف الحداد المنافر من العفريت الملقى في المحافر قال أخبرني أيها الولد النجيب عن ذلك الأمر العجيب وقاك الله شر الواجيب (قال) بلغني من رواة الأخبار أن شخصاً من الأخيار لازم الأسفار وقطع القفار فجاب مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أكنافها وجوانبها وشاهد عجائبها وقاسى حر الزمان وذاق حلوه ومره وعانى خيره وشره فأداه بعض المسير إلى بلد كبير فرأى في بعض نواحيه وطرف من بعض ضواحيه طائفة من الصبيان قد اجتمعوا في مكان فوصل إليهم ذلك الفقير فوجدهم واقفين على حفير يرمون فيه بالأحجار وهم يستغيثون بالستار من العدو المكار الغدار والحسود القديم والكافر الذميم والشيطان الرجيم فسألهم ما هذه المعضلة فقالوا عفريت وقع في هذه البئر المعطلة وهو عدو قديم نريد أن نقتله فقال أفسحوا حتى أنظر إليه وأساعدكم عليه ففسحوا عن ذلك الطوى فنظر في قعر الركى فرأى في جانب منها عفريتاً منزوياً

وقد هشموه وكسروه وحطموه وكاد يهلك مما رجموه فعند ما نظر إليه رق له وعطف عليه وقال أفضل المعروف إغاثة الملهوف وإن لم يكن بيننا سابقة صداقة ولا وشيجة محبة ولا علاقة بل عداوتنا جبلية ومباينتنا أزلية لكن فعل الخير لا يبور ولله عاقبة الأمور وإذا قصد الإنسان فعل الخير فلا عليه أن فعله مع أهله أو الغير وقد قيل للتمثيل أيها الإنسان قد عداك الذمأفعل الخير وألقه ثم منع عنه الكبير والصغير وساعده على الخروج من البير واستنفذه من أيديهم وأطلقه فكان كمن اشتراه وأعتقه فلما رأى العفريت هذا الإحسان من ذلك الإنسان من غير سابقة ولا عرفان قبل يده ورجله وشكر له هذه الفعلة وقال أني عاجز عن مكافأتك يا إنسان في هذا الأوان وأنا اسمي فلان فان وقعت في ضيق أو ضللت في طريق فنادي باسمي أحضر إليك بجسمي وأنفعك في ضيقك وأرشدك إلى طريقك وأكافئك أيها اللوذعي بما فعلته معي ثم ودع كل صاحبه وخالف في السير جانبه فوصل السياح إلى بلد من البلاد له فيها صديق حداد فنزل عنده فأكرمه ورحب به وخدمه وكان لتلك البلدة عادة حسنة أنهم في يوم معين في كل سنة يقربون من يقدم عليهم فيه ولا يسألون أخامل هو أم نبيه فان لم يقدم عليهم غريب في ذلك اليوم اقترع فيما بينهم القوم فمن خرجت قرعته سحبوه وكسروا قرعته وقربوه فوافق ذلك اليوم قدوم السائح ولم يرد سواه من غاد ورائح ولا شعر به أحد من أهل تلك البلد فاخذوا في القرعة بالاجتهاد فطرقت القرعة قرعة الحداد فقبضوا عليه وعزموا على تقريبه

فقال عندي غريب لم يكن أحد يدري به فلم يدر السائح إلا وقد أحاطت به الشوائخ فهجموا عليه وربطوا عنقه ويديه صم سحبوه وحبسوه وفي أضيق مكان أجلسوه وأشهروا النداء أنه حصل للحداد الفداء فعلم السائح القضية وتحقق أنه تورط في بلية فذكر اسم العفريت وقد علقه الهم علوق النار بالكبريت فحضر لساعته ووقته فرأى السائح في هوله ومقته واطلع على جملة الشان فقال لا تخش يا ذا الإحسان أعلم أن أمير هذه البلد له ولد هو واحد أبويه وأني الآن أصرعه بين يديه ثم أنادي في النادي أن رمتم شفاء هذا العليل فهو بدعاء ذلك الرجل الجليل السيد الصالح الزاهد السائح ضيف الحداد الذي بسببه حصلت هذه الأنكاد فأطلقوه والتمسوا دعاءه فان فيه لعليلكم شفاءه ولا تطلبوا من غيره دواءه فإذا طلبوك وأعزوك وأرغبوك وأكرموك واحترموك فادع بما يرفع نكدهم فغاني إذ ذاك أترك ولدهم فإذا رأوا منك هذه الكرامة بالغوا وسلموك الزعامة وخيروك بين الرحيل والإقامة وأقل ما يفعل معك السلامة ثم ذهب إلى ابن الملك وخبط. وحل في أعضائه وربطه فتخبط الصبي وتخيل وتكسل وتخبل وكادت روحه تخرج ويدرج مع من يدرج فاشتغلوا بشأنهم عن أمر قربائهم فطلبوا الأطباء فأعياهم علاج هذا الداء ولم يقدروا على علاجه وتعديل مزاجه وتقويم اعوجاجه واشتعلت الخواطر وتنكد البادي والحاضر فعند ذلك نادى العفريت من ذلك البيت يسمعون كلامه ولا ينظرون مقامه أن زوال هذا العارض ومنع هذا الداء المعارض عند رجل قدوة مستجاب الدعوة رجل صالح زاهد سائح عالم

عامل كامل فاضل هو بركة البلاد والعباد مادة الصلاح وقاطع الفساد وهو ضيف الحداد الذي فرط منكم في حقه سوء الأدب فأدركوه بالطلب وأسرعوا نحوه والتمسوا منه دعوة وإلا فولدكم هالك عنوه وبادروا باللحوق لئلا يخرج السهم من فوق فان السهم هذا المصاب بسبب ذلك أصاب فركب الملك بنفسه وسارع إلى باب حبسه ودخل عليه وأكب على رجليه وطلب دعاءه ورام لولده شفاءه فتوضا وصلى وأعرض منهم وتولى وتوجه ودعا فحصل للولد الشفا ونهض في الحال كأنما نشط من عقال ثم أن العفريت الجائح أتى الرجل السائح وقال لا تحسب أني إذا كافيتك صادقتك أو صافيتك كيف وعداوتنا مغروزة وغروس التباغض في حدائق ذواتنا مركوزة أنا من نار وأنت من تراب شيمتك الترابية وشيمتي الإحراق والخراب ومتى استقام أعوج مع قوام أو وجد بين المتباينين التئام وإنما كان هذا الوفاء لئلا ينسب إلى الجفاء ونحن على الكدر دون الصفاء وعلى ما نحن عليه من العدوان وأن لم يصر بيننا معرفة ولا كان صار شعلة لهب وترك السائح وذهب (ثم قال ابن الملك) ومن أنواع المحبة والصداقة وما يتأكد فيها من العلاقة نوعمحبة تتوفر فيه الرغبة ينشأ من فرط الشهوة ويركب من صاحبه على الصهوة وتميل إليه النفس والطبيعة ولكن تكون استحالته سريعة فيزول بأدنى سبب ويشبه شواظ اللهب يتلهب ساعة وقد ذهب وربما أدى إلى الهلاك والعطب كما فعل بالبطة الثعلب حيث كانت محبتها

غير صادقة ومودتها بالشهوة ممازقه وشتان ما بين المحبة الخالصة والمحبة المنافقة لا جرم أدت إلى عكسها وإزهاق نفسها قال الملك أخبرني أيها الخبير كيف هو هذا النظير (قال ابن الملك) ذكر أن زوجاً من البط كان له مأوى على شط جار بين رياض ومروج وغياض أزاهيرها عطره ورياحينها نضرة وقريب من وكر البطتين مأوى لأبي الحصين فحصل لذلك الثعلب المرض المسمى بداء الثعلب فسقط وبره وتمعط صوفه وشعره وذاب جسمه وتهرى لحمه وقارب التلف واللحاق بمن سلف وصار كما قيل: أصبح في أمراضه يعذب ... كخرقه بال عليها الثعلب فلما أنحله السقم وأضناه قالت له سلحفاة لما زاد به المرض واشتط دواء دائك كبد البط فان أكلت كبد بطه نصلت من هذه البلاء البتة فقال ومن لي بهذا الدواء إذ ليس لي حراك والبط في الهواء فشفاء هذا الداء العضال من باب التعليق بالمحال وكأن الشاعر يعنيني إذ سمع أبني ورأى سكوني تحت أحمال شجوني بقوله: فقال قم قلت رجلي لا تطاوعني ... فقال خذ قلت كفى لا توانيني ثم استنهض همته واستنخى نهمته وصمم عزيمته واستعمل فكره واستورى مكره وقال لنفسه لا ينجيك من هذا الأنكال إلا التشبث بذيل

المحال لعل الله واهب العطية يظفرني بهذه الأمنية ثم توجه وهو يتشحط إلى صوب البط وصار يتلظى في جنبات الشط إلى أن لاح له بعد الأين أنثى هاتين البطتين فتخفي إلى أن قاربها ثم وأثبها فما ساعدته القوة فهوى في هوه فما وأسعه إلا أن غالط وأظهر المودة وخالط وعبرت عيناه وبالط وأرى من نفسه أن تلك الوثبة إنما هي من داعية المحبة ونهضة الاشتياق إلى الأحبة ثم بادر وقال مرحباً بالجارة الصالحة ومن نعوتها بمسك العفة فائحة وأخلاقها غادية ببشر الخير رائحة المخدرة المحببة الحبيبة النجيبة حياك الله من قرينة رضية جميلة الأوصاف بهية فما أكثر إحسانك وفضائلك وأوفر متنانك وفواضلك لقد عممت بإحسانك جميع معارفك وجيرانك وأطعت زوجك وحلالك وتحقق كل أحد لحسن الشيم جلالك وما زال ينفق عليها من حواصل هذه الخزعبلات ويفعم أردان عقلها من معادن هذه التمويهات حتى سكنت بعض السكون وركنت إليه أدنى ركون ثم أخذ في الإيناس وتمهيد قواعد الأساس حتى اطمأنت واستكانت واستنكنت ثم قال إنا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله ترين ما رأى فيك زوجك من الخلل ولاح له من عيب حتى فعل ما فعل قالت وما فعل ذلك الجعل قال لولا أن الغيبة ريبة والنمنمة مشؤمة ونقل المجالس القبيحة وإن كانت وقائعها صحيحة أمر مذموم وهذا معلوم لكنت أفصحت وأشبعت القول ونصحت ولكن الصبر

على الضرائر فعل الحرائر والورد لا يخلو عن شوك ولا الشباب عن نوع نوك فلما سمعت هذه النجوة حماتها المحبة الممزوجة بالشهوة أن ألحت عليه وسألت إيضاح ما لديه وأقسمت عليه بحق الجوار إلا ما أطلعها على هذه الأسرار فقال لولا أن الجوار ذمه لما فهمت بكلمة خصوصاً وقد ألحت بالقسم وتشفعت بالجوار والذمم وأيضاً لولا وفور الشفقة وعظم المحبة والمقه واعتمادي عليك أنك ثقة وإن صدرك مخزن الأسرار وأنك سيدة الأحرار ما أطلعتك على شيء مما كان وصار اعلمي أن زوجك المشتط قد خطب بنت ملك البط وله في هذه المكيدة مدة مديدة آخرها اليوم كان قد أرسل إلى القوم المشاية والخطابة أن يهيؤا أسبابه فلما سمعت هذا الكلام ساورها من الغيرة الضرامولا نشك في أنه صادق وذهلت عن التبين في خبر الفاسق وجميع الأخبار عن الأزواج يتوقف فيها النساء إلا خبر الزواج تم إنها تماسكت وأرت تجلداَ وتمالكت وقالت أحل الله له من الأزواج ما طاب له لا حيلة إلا الانقياد وترك المراد وموافقة السنة والجماعة والدخول تحت الأمر بالسمع والطاعة وماذا يفيد التدله والحيرة أن الحلال جدع أنف الغيرة قال والأمر كما

ذكرت وما أحسن ما افتكرت وصبرت وما يمكن الطعن في الحلال ولكن هذا دليل الملال وكل من ادعى هواك وتخلل في طريق سواك ولو بخلال من سواك فلا شك أنه قلاك وبنار الهجر والجفاء سلاك وليس هذا ساعة وتمضي ولا حادثة تقع ثم تنقضي إنما هو أمر دائم ونزاع أبد الدهر وأنا ما أخشى إلا عليك بما يصل من النكد إليك فان حقك ثابت علي وضررك عائد إلي فأنك جارة قديمة معروفة بحسن الشيمة لم أر منك الإحسان وعدم التعرض إلى إيذاء الجيران وكل منا قد اعتاد بالآخر وباهى بصحبته وجواره وفاخر وأخاف أن يتجدد لي في الجوار من يتصدى لي بالأضرار ويؤذي ولا يعرف حق الجار لا يعرفني ولا أعرفه ولا ينصفني ولا أنصفه فيتكدر لي الوقت ولا أخلو من نكد ومقت لا سيما وأنا ضعيف مبتلى نحيف فلا يستقيم الحال على الارتجال ولا زال يسدد المشارب ويفتل منها في الذروة والغارب حتى أثر فيها سمه ونفذ في سويدائها من مكره سهمه فاسترشد إلى وجه الحيلة في هذه النازلة الوبيلة فقال الرأي السديد الرشيد أنه إذا بفعله وأتبع في أذاه فرضه بنفله واختار غيرك عليك طلقيه وألف زوج لديك وأرض الله واسعة وهو المعتدي في المقاطعة وأنا أكون السفير في زوج يخجل البدر المنير يعمر دارك ويعرف مقدارك ويخدم كلبك وحمارك ويملأ وكرك خيراً وبطنك طيراً ودارك شعيراً وبراً مع كونه وافر الحشمة مسموع الكلمة قد جمع بين طرفي الأصالة والحرمة

فقالت هذا الذي تقول أكر معقول وإلى الآن ما وقع وعلى تقديران يقع أن حصل الشقاق والنفاق وترجح الأنذال المستجدة على الكرام العتاق فيكون بيننا هذا الاتفاق وأن وقعت بيننا المعادلة ولم يحصل في حقي منه مساهمله ولا للضرة عليّ مفاضلة كيف أشافقه وعلى فعل مباح أضايقه فضلاً عن أني أفارقه وكيف أخرب داري وأضر بحبي وجاري وأشمت بي الأعداء ويحتاط بي من كل جهة البلاء ولكن الرأي المحمود عندي يا ودود الصبر في كل حال على الدهر الكدود وتجرع الغصص لئلا يشمت الحسود كما قيل في التمثيل ما بي دخول جهنم ولكن بي شماتة اليهود فلما رأى الخبيث أنه لم يفده هذا الحديث ولم تتم له الحيلة وأفكاره الوبيلة قال أقول الحق الذي حصحص ولا عنه محيد ولا مخلص أن زوجك قد نقل إليه أنك اخترت غيره عليه وأنك عاشقة وصحبتك له مخادعة ومماذقه وثبت ذلك لديه وعقد اعتقاده عليه وعزمه على الزواج إنما هو تعلل واحتياج لفتح باب الشر وتعاطي أسباب النكد والضر وقد ثبت عندي أن ذاك الأفاك الأثيم السفاك يريد أن يجرعك كأس الهلاك فتيقظي لنفسك وتداركي غدك في أمسك قبل حلولك في رمسك واستقيمي قبل عكسك وأنا منذ سمعت هذه الأخبار لم يقر لي قرار وذلك لوفور المشفقة وحسن الجوار وقد زدت ضعفاً على ضعفي وكدت لهذا الغم أسقى كاس حتفي وأنت يا غرض الحاسد تعلمين أن ليس لي غرض فاسد وهذا بديهي التصور لا يحتاج إلى تدبير ولا تفكر ولقد غرت عليك والأمر في هذا كله منك وإليك

فتكدر خاطرها وتشوشت ضمائرها وضاقت بها الحيل وتاه منها العلم والعمل ومن يسمع بخل وصالت أفكارها وحالت ويدر منها إن قالت والله لو أمكنني لقتلته وأوجدت فرصة لاغتلته واسترحت من نكد الدهر المغبر وهذا العيش الوحش المكدر فالتقط الثعلب هذه الكلمة من فيها وعلم أن سهم ختله نفذ فيها لأن عقود المحبة انحلت وصورة المودة القديمة زالت واضمحلتوتلاشت الصداقة بالكلية وانمحت شهواتها بأدنى جزئية فقال لا تهتمي لذلك يا ضرة هند فعندي عقار من عقاقير الهند أحلى في المذاق منت ساعة التلاق وأمضى من السيف في حكم الفراق اسمه كسير الموت وتدبير الفوت وسم ساعة وتفريق الجماعة لو أكل منه ذرة أو شم منه نشره لقتل في الحال وفرق الأوصال من غير إمهال فان اقتضى رأيك الأسد أن تخلصني من هذا النكد ناولتك منه شذره تكفيك ذرة منه أمره فان شئت أطعمته وأن شئت أشممته ولولا أنك عزيزة علي لم أفه لك من هذه الأمور بشيء ولقد فضلتك على روحي فاكتمي هذا السر ولا تبوحي فتحملت منه جميلته وعرفت قدرته وفضيلته وطلبت منه الدوا لتذهب به عن قلبها الجوا وتقتل زوجها المسكين وتسلم من نكده وتستكين وزالت تلك المحبة القديمة ونسيت الصحبة والصداقة القويمة ووعدها الثعلب أن يأتيها بالعقار وفارقها على هذا القرار ثم أنها انتظرته

ليفي بوعدها واحترق صبرها من نار سمها ووقدها وتقاعد الثعلب عنها ينتظر ما يتأتى فحملها مثير الوجد إليه وساقها الأجل المحتوم إلى أن قدمت عليه فدخلت وكره وقبلت يده وصدره فتمكن منها ذلك الغادر ومزقها كما يريد فصارت كالأمس الغابر وإنما أوردت هذا التمثيل لئلا يكون أصحاب مولانا السلطان من هذا القبيل فيكون المعتمد عليهم والمستند إليهم كالنائم على تيار الأنهار والمؤسس بنيانه على شفا حرف هار قال الملك معاذ الله يا ولدي وقرة عيني وكبدي أن يكون صاحبي ومعتمدي من هذا النمط وسبيهاً بالعفريت والثعلب والبط بل كل من أصحابي وسائراً أوليائي وأحباني ما منهم إلا الصديق المهذب والرفيق المؤدب والشفيق المدرب والعتيق المجرب وقد جربته في المودة والإخاء والشدة والرخاء والمروأة والسخاء كما جرى ذلك للتاجر المجرب صديقه في الشدة والارتخاء قال الولد ينعم مولانا الإمام بتقرير هذا الكلام (قال الملك) بلغني أن بعض التجار الأكرمين الأخيار والكرماء الأبرار كان له جزيل وولد صالح جليل سعيد الطالع سديد المطالع عالي الهمة متوالي الحشمة ميمون الحركات جميل الصفات حسن الصورة مشكور السيرة طاهر السريرة وكان أبوه قد تخيل فيه مخايل السعادة وتفرس فيه آثار النجابة والإجادة فكان لا يصبر عن تأديبه وإرشاده إلى سبيل الخير وتهذيبه وتربيته بمكارم الأخلاق وتربيته فقال له يا بني إن الإنسان يحتاج إلى كل شيء وأعظم ما يحتاج إليه ويعول في التحصيل عليه الصاحب الصافي والصديق المصافي والرفيق المساعد في وقت الشدائد

فان المال ميال والذهب ذاهب والفضة منفضة والملبوس بوس والمأكل متآكل والخيل خيال والفواضل شواغل والدهر قاصي والعصر عاصي والأقارب عقارب والوالد معاند والولد كمد والأخ فخ والعم غم والخال خيال والدنيا وما عليها لا يركن إليها وما ثم إلا رفيق ذو وفاء مجبول على الصدق والصفاء إن غبت ذكرك وإن حضرت شكرك مأمون على نفسك ومالك وأهلك وعيالك في حالك ومالك إن غاب صانك وإن حضر زانك فهو أفضل موجود يقتني وأحسن مودود يصطفي فان ظفرت به فتشبث بسببه ثم قال يا بني قد أقمت في الحضر وانقضى لك فيه ما ذقت مما حلا ومر فلا باس أن تحيط علماً بأحوال السفر فان السفر محك الرجال ومجلبة الأموال ومكسبه التجارب ومرآة العجائب والغرائب فاعزم على بركة الله تعالى وتوكل عليه واصحب معك فيه ما تحتاج إليه ثم أفاض عليه المال وأضاف إليه صالحي الرجال وحين ودعه ووصاه واستودعه قال يا بني لا تجعل دأبك وطلبك واكتسابك الاستجلاب الصاحب النافع دون سائر المنافع فانه أوفر بضاعة وأربح تجارة وليس على الصديق أبداً خسارة واجعله في سفرك نصب عينك واشتره بنفسك ومالك ونقدك ودينك وقد قيل: أخاك أخاك إن من لا أخاً له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح والمراد به الصديق وأعلم أن الأخ الصلبي ربما يضرك وأما الصديق الصالح فأنه يسرك والصاحب الشقيق خير من الأخ الشقيق وقد قيل رب أخ لم تلده أمك

فقبل الشاب وصية أبيه ثم توجه في حشمه وذويه بقصد جميل ومال جزيل فمكث غير بعيد ثم عاد وهو سعيد فقال له أبوه حبيت وحييت ما أسرع ما جبت قل لي أين ذهبت وماذا اكتسبت فقال يا أبت امتثلت مرسوك الكريم واكتسبت بالمال كل ولي حميم وقد جئت بهم زمراً وعدتهم خمسون نفراً كل منهم صديق صادق ورفيق موافق في الفضل بارع وإلى الخير مسارع وفي الرخاء صادق الإخاء وفي الشدة أوفى عده قال أبوه يا بني كيف تصفهم بهذه الصفة وتعرفهم بهذه المعرفة ولم تجربها في قضية ولا واقعة صعبة أو رخيه وقد قيل: لا تمدحن امرأ حتى تجربه ... ولا تذمه من غير تجريب وقد قيل أيضاً: إذا رمت تصفي لنفسك صاحباً ... فمن قبل أن تصفي له الود أغضبه فان كان في وقت التغاصب راضياً ... وإلا فقد جربته فتجنبه (وقيل أيضاً) : الناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً ... ما لم يروا عنده آثاراً حسان واعلم يا ذا اللطائف أني خائف أن يكون أصحابك وأصدقاؤك وأحبابك مثل أصحاب الرئيس المدير الخامل النفيس الذين رعوه في روض وفره وتركوه في قفر قفره قال ابنه يا أبت كيف ورد ذلك وثبت قال التاجر ذكر رواة الأخبار أنه كان في بعض الأمصار رجل رئيس كبير نفيس له أموال وافرة وجهات متكاثرة وأماكن عامرة وضياع ومزدرعات وبساتين واقطاعات وعقار له ارتفاعات فكان ولده يمد يده إلى كل معصية ومفسده ويجترئ ذلك السفيه على كل ما يلوح له

من جهات أبيه والتف عليه جماعه من عبيد البطن والمجاعة كأنهم طير قر لي أن رأى خيراً تدلى وأن رأى شراً تعلى ومديد الإسراف في التبذير والإتلاف وصار أبوه ينصحه ويردعه عن جموعه ويكبحه وقال له يا بني استعمل الارتفاق في النفاق واستخلص من الرفاق ذوي الإشفاق واعلم أن هذا المال هو لك مدخر لتصرفك فيه منتظر وإنما أنا لك خازن والله تعالى مجاز على فعالى من مساو ومحاسن وتيقن أن المال هو عزك في الدنيا وزادك إلى الأخرى وأن له وجوهاً ومصارف وعوارف ومعارف فإذا صرف في غير محله ودفع إلى غير أهله كان أثماً ووبالاً وفي الآخرة عذاباً ونكالاً وأحمق الناس المستحق لنزول الباس من اكتسب من اكتسب المال حلالاً وبذرة في الفساد يميناً وشمالاً وادخر به إثماً وخبالاً فصرفه إلى من لا يحمده وعليه حسابه ونكده وأنت إذا صرفت مالك ووزعته وفي غيره مواضعه زرعته وأنفقته على من لا يعرف فضيلتك ولا يحمل حملتك ولا يشكر صنعك ولا يقصد نفعك ولا يجلب لك خيراً ولا يكشف عنك ضيراً خرجت من عز الدنيا وفوت زاد الأخرى وهؤلاء الذين قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين ثمرة صحبتهم الندامة وعاقبة أمرهم الخيبة والملامة والبعد عنهم غنيمة وسلامة وإذا كان الأمر كذاك فإياك يا ولدي ثم إياك من صحبة هؤلاء الأحداث والمكوث بقربهم فإنهم اخباث واحتفظ بصوت ما لك ولا تنفقه إلا على نفسك وعيالك وفيما يبقى ماء وجهك في حالك ومالك ولا زال أبوه قابض عنانه بقدر طاقته وإمكانه يذكره هذه الوصية بكرة وعشية حتى أدركته المنية وخلف ذلك المال العريض لذلك الولد المريض فمد يده كما كان إلى كل مفسدة ونسي

يومه وغده وشرح في مناه متن اللهو وقرر بحديث من كتاب الزهو باب الأنجاس وسجود السهو واجتمع عليه قرناء السوء وحضروا وخلاله ولهم الجو فباضوا في الفساد وصفروا وغابوا عن الرشاد وما حضروا وصاروا يظمونه ويكرمونه ويحترمونه فإذا كذب صدقوه وإذا ضرط سمتوه وشمتوه وإذا نهق طربوا وإذا أخطأ صوبوا وإذا قعد قاموا وإذا قام ناموا يفدونه بالمهج والأرواح ويلازمون خدمته في المساء والصباح وكان له أم مدبره عاقلة مفكرة فقالت له يا بنيلا تكن صبي وتذكر وصايا أبيك وإياك ومن يليك وتأمل ما لديك واحفظ مالك وما عليك ودبر معاشك وصن ماء وجهك ورياشك وأعلم أن أصحابك وعشراءك وأحبابك وندماءك ورفقاءك وأخصاك وأصدقاءك كلهم عبيد البطن ولورقات بذي شيق أو حصن لا خير عندهم ولا مير جميعهم كسير وعوير فإياك إياك وصحبة من لا يتولاك لاتركن إلى صداقتهم ولا تعتمد على موافقتهم فانهم في الرخاء يأكلونك وفي البلاء يتركونك وإلى مخالب القضاء يسلمونك رأس مال محبتهم ما في يديك وأساس بنيان مودتهم ما يرونه من النعماء عليك فإن قلت والعياذ بالله فلوا وخلوك في عقد النوائب مربوطاً وانحلوا وأقل الأقسام يا ذا الأصل السام أن تجرب أصحابك وتختبر من يلازم بابك ويقبل بشفاه المودة أعتابك في شيء نابك أعجز عن حمله نابك من حوادث القضاء أو في حالة من أحوال الغضب

والرضاء أو السعة والضيق أو التكذيب والتصديق فمن وجدته ناصحاً صادقاً أو مطاوعاً مصادقاً وفي كل الأحوال موافقاً وفي الرخاء والشدة مرافقاً يوثق به في الغيبة والحضور وحالتي السرور والشرور يؤدي الأمانة ويجتنب الخيانة ويغار على دينك وعرضك ويساعدك على أداء مسنتك وفرضك فاركن إليه واعتمد في أمورك عليه ومن وجدته منافقاً وفي إخلاصه ممازقاً ينسج شقة الوداد بوجهين ويتكلم كخائض المداد بلسان فلا تقربه ولا تصحبه فان بعده غنيمة والخلاص منه نعمة جسيمة وانظر بعين الثبات ما في هذه الأبيات من حسن الصفات فمن كان بها متصفاً فتمسك بأذياله فانه من أهل الصفا وهي هذه: وقد قيل قول المرء يكشف عقله ... وببدي سجاياه وما كان يكتم فهذا كلامي مظهر ما أكنه ... وأكثر هذا الخلق عن عيبهم عموا فمن شيمتي أني مطيع لصاحبي ... وأصلح عن خصمي وإن كنت أخصم وأرضى لنفسي ديون ما هو حقها ... وألزمها للخل ما ليس يلزم إذا قال أصغى للمقال وأنني ... لا علم منه بالمقال وأفهم ولم أشك من خل لئلا يملني ... ومن لي بخل لا يمل ويسأم وأقطع في بحثي وأن كنت غالباً ... واسكت حتى قيل ذا ليس يعلم لا بقي وداد الناس لي لا أضيعه ... ومن لا يداري الناس يرمى ويرغم وفي كل ذا تقوى إلا له شعائري ... ولا بد من لا يتقي الله يندم ولا نقص في عقلي وأسباب نعمتي ... وأني وأنى بالكمال مكرم ولي همة يسموا لي الأوج قدرها ... ولكن خمول المرء للدين أسلم ووجه اعتقادي مثل عرضي أبيض ... وديني متين واعتمادي مقوم وحسبي من دنياي قوت وخرقة ... يبلغني آثار من قد تقدموا فهذي عزيزات لدي وإنني ... لادعو إلى هذي الخصال وأعزم

فاثر هذا الكلام فيه وتأمل ما تضمنته فحاويه ثم أراد أن يجرب ملازميه ومن بر وجه جسده يفديه فقال يوماً من الأيام وقد اجتمعوا على منادمه المدام اتفق أمر عجيب وشأن غريب وهو أنه كان عندنا هاون في زاوية مخزون زنته ربع قنطار أتى البارحة عليه الفار فقرضه وأكله وعمه بالأكل وشمله فلم يدرك من ذلك النحاس في مكانه من برادة أضراسه وأسنانه فترشفت ثغور آذانهم منطقة واستحلى كؤسها كل منهم وصدقه وقالوا هذا وقع بغير شك لأن الهاون كان فيه ودك والفار أسنانه باضعه وأضراسه لجن حرافيش بغداد قاطعه فلما رأى أنهم وافقوه وصوبوا كلامه وصدقوه ازدادت فيهم محبته وقويت إليهم رغبته حيث رفعوا رتبه وستروا في جيب عيبه وحققوا محالة وصدقوا مقاله فأسرع إلى أمه مسروراً فرحاً محبور منشرحاً وقال يا أماه انظري كلام أصحابي وأخبري مقام أحبابي ذكرت لهم كلاماً باطلاً ومن حلية الصدق والإمكان عاطلاً فحققوا بلا مريه واثبتوا حقيقته من غير فريه وصاغوا من جواهر التوجيه أبهى حلية وذكر ما جرى لهم وله من الجنون والخباط والوله فقالت أمه يا ولدي ومهجة كبدي هذا أمر يضحك منه الجاهل ويبكي على حالك الحالك منه العاقلكما قيل: أمور تضحك السفهاء منها ... ويخشى من عواقبها اللبيب

أعلم أيها الداهل الغافل أنك لست من أصحابك على طائل وهؤلاء أعداء في صورة أو داء وهم في التمثيل كما قيل: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وتيقن أن هؤلاء في النعمة خداعون وفي النقمة لذاعون وأنت شاب غرير وبأعقاب الأمور لست ببصير لا مارست الخلق ولا فرقت بين الصادق من ذوي الملق لأخبرتهم ولأسبرتهم ولا دخلت مداخلهم ولا ميرت خارجهم وداخلهم إن الصادق والرفيق الفائق من بصرك عيوبك وغفر لك بعد نصيحتك ذنوبك وأطلعك على حقائق الأشياء ونهيك على ما خفي من أمور الدنيا وأرشدك إلى ما يزينك ويصلح به دنياك وأبكاك إذا نصحك لا من أضحك وفضحك وأما الذي يدلس ويلبس ويوسوس ويهوس وبروج الباطل وبحلى العاطل فذاك بصديق على التحقيق وإنما هو عدو فلا يكن لك معه قرار ولا هدو فلم يلتفت الشاب إلى هذا الخطاب حيث كان مصادماً لغرضه غير شاف لعلته ومرضه وقال صديق من نطق وفاه بالكلام الحق من قال إفشاء السر إلى النساء فعل الأحمق ثم تركها ترغوا واستمر هو مع أقرانه بلهو وداوم على تلك الحال حتى إذا دنت لنفادها الأموال وبيع الرخيص والغال فما استفاق من سكرته واستيقظ من رقدته إلا والأموال قد ذهبت والديون قد ركبت وهو ينشد وإلى مذهبه يرشد: ليذهبوا في ملامي أينما ذهبوا ... في الخمر لا فضة تبقى ولا ذهب

إلى أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة ونفقت البيضاء والصفراء في الحمراء والخضراء وأصبح ملقى على الأرض السوداء وأتعس من فوق الغبراء وأفلس من تحت الزرقاء وتراجع عنه الأصحاب وعاداه الأصدقاء والأحباب ورجعوا عنه بعدما سئموا منه صار ناديه ينادي: كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر وصارت محبتهم له تكلفاً ورؤيتهم إياه تعسفاً فاتفق له في بعض الأيام أن قال في أثناء الكلام لذلك الجمع بعينه الذين كانوا أجمعوا على صدق منيه الفار الغدار أكل لنا في الدار البارحة رغيفاً كاملاً فاتى على أكله شاملاً فما أبقى منه لبابه ولا غادر من غدير وجوده صبابة فتنادوا للحال بالمحال والكذب في الأقوال الفار الضعيف كيف يأكل كل الرغيف وهو عاجز نحيف وتناولوه بالطعن وتناوشوه بالسنة السب واللعن وزيغوا أقواله وسفهوا أفعاله وإنما ذكرت هذا الكلام يا أيمن غلام وأحسن من البدر التمام لتعلم أن أكثر من يدعي صدق الصحابة من ذوي المعارف والقرابة إنما دعواه كذابة كسحاب صيف لا يديم انسكابه وأن الشخص مع الناس الأوغاد والأكياس بمنزلة الفقاع أن رأوا فيه حلاوة الانتفاع استلموه

وبالأيدي رفعوه وقبلوه ورشفوه وإذا مصوا محصوله وفرغوه ورموه تركوه وتحت الأقدام طرحوه ثم قال التاجر لولده راحة روحه وجسده وأن كان من صحبتهم وفي سفرك أكتسبتهم مثل هؤلاء الأصحاب فإياك أن تفتح لهم الباب وترفع بينك وبينهم الحجاب (فقال الولد) معاذ الله الواحد الأحد يا أبت عندي ثبت أنهم يدور كرام وصدور عظام يقومون لقيامي وينصتون لكلامي ويجيبون ندائي ويؤمنون على دعائي وهم أخلاء في السراء والضراء (فقال أبوه) أعلم يا ابني وقرة عيني أني عمرت سبعين وعاينت من الأمور الخشنة والحسنة وبلوت الأصحاب وتلوت الأعداء والأحباب ورأيت الدنيا وأهلها وقلبت وعرها وسهلها ولم أترك من جنس بني آدم في أكنافها الآفاق وأطراف العالم من أمم العرب والعجم نوعاً لم أخبره وصنفاً لم أسيره فلم يصف لي على التحقيق غير صديق ونصف صديق فأنت يا بني العزيز الغالي كيف قدرته بالتوالي في هذه المدة اليسيرة على جمع هذه الطائفة الكثيرة وها أنا يا إمام أريك مصداق هذا الكلام وأطلعك من بين الأصحاب على ما لهم من مقام ثم عمد إلى شاة فذبحها وبدمها في ثياب طرحها ثم دمجهاوفي كفن أدرجها وقال لأبنه قم يا ذا الارتقاء أرني هؤلاء الأصدقاء واحداً بعد واحد لتحقيق غيب عيبهم بالشاهد وتعرف طرائقهم وتتبين حقائقهم ثم وضع الشاة في عدل وأخفى كل هذا الفعل وحمل العدل على ظهر غلام وخرج ليلاً والناس نيام وقصد أحد الأصحاب وطرق عليه الباب فخرج مسرعاً إليه وترامى متواضعاً بين

يديه وأظهر البشر والسرور والابتهاج والحبور وبالغ في الاحتشام والإكرام والاحترام وشكر مساعي الأقدام ثم بادر إلى دعوته للدخول وتعاطي إنجاح ما له من سؤل ومأمول فقال له الشاب يا زين الأصحاب وعين الأحباب دع الكلام لضيق المقام فقد دهتني دهيه وعرتني بليه وأعظم بها من قضيه ويا لها من رزية فقال ما هي وقيت الدواهي فقال كان بيني وبين واحد من أهل الشقاوة خصومة قديمة وأسباب عداوة اسمه معروف وذكره موصوف لشخص مفقود لم يكن له حقيقة في الوجود وهو من أكابر الزمان وأحد الرؤساء والأعيان فتلاقينا وتداعينا ما بيننا من جفوه وتنابشنا الأسباب وتناوشنا باللعن والسباب وتناولنا في الشقاق شق الأعراض وتأذت القلوب من الأغراض بالأمراض وتنقلنا من المكالمة إلى المشاتمة ومن المواصمة للملاكمة وترقينا من الكفاح إلى الجراح فثارت النفس المشؤمة إلى إيقاع حركة ذميمة فضربته فجرحته وقتيلاً طرحته ولم يشعر بنا أحد من أهل البادية والبلد وندمت غاية الندم وأني يفيد وقد زلت القدم وجرى قلم القضاء بما حكم ثم أفكرت بمن أستعين على هذا الأمر اللعين وأدرت في خاطري كل مساعد ومعين فلم يمل القلب إلا إليك ولا استقر الخاطر في ركونه إلا عليك وقد قصدت جنابك ويممت بابك إذا أنت أعز مخدوم والسر عندك مكتوم وهاهو مقتولاً أتيتك به محمولاً فاحفر لهذه الجثة حفيره وأخفي عندك أيا ما يسره إلى أن تطفأ هذه النائرة وتسكن الفتنة الثائرة وهذا وقت المروه وزمان الفتوة والقيام بحق الصداقة والأخوة

فلما سمع الصاحب اللبق هذا الكلام القلق تضجر وتضرر وتنكد وتضور وقال يا أخي بيتي عتيق مع أنه حجر مضيق لا يسع أولادي ولا زادي وعتادي وإذا ضاق عن الأحياء فكيف بالأموات وهذه بلية من أوحش البليات وأظنها لا تخفى على الناس ويدركها أولو الفراسة والأغبياء فضلاً عن الأكياس لأن قضاياكم قبل اليوم مشهورة وبلغني أن عداوتكم قديمة مذكورة وفي التواريخ وصدور الكتب مسطورة ولكم وقعات ونوازل وله أيتام كأنهم الزغب الجوازل وأما أنا فلا يمكنني الدخول فيها ولا تعاطيها بوجه من الوجوه ولا تلافيها فاكفني شر ضيرها واندبني إلى غيرها وأني أكتم سرها فلا تخف من جهتي شرها فالح عليه فما أقاد ورده غير ظافر بما أراد فلما أيس منه تركه وانتقل عنه ودار على سائر أصحابه وذكر لهم مثل الأول وخطابه فكان جواب الجميع مثل جوابه إلى أن أتى على الجميع واستوفى شريفهم والوضيع ورأى ما هم عليه من طبع بديع كأنهم كانوا متواردين على شرب هذا الصنيع فعاد إلى دار أبيه ورجع إلى صحة بيسان التنبيه فقال له بمدير الفلك أحققت صدق ما قلت لك وتبيات ما هية أصدقائك وحقيقة أوليائك وأنهم نقش حيطان ورقش غيطان وغمام بلا مطر وأكمام بلا زهر وأجام بلا ثمر

(ثم قال) ثم يا زين الأحباب أريك ما قلت لك من حقيقة الأصحاب ثم دخلا الطرق وقصد نصف الصديق وطرقا الباب فخرج وتلقاهما بالترحاب فقال له ذلك المقال وقصد بمعونته الخلاص من ذلك العقال فقال حباً وكرامه حللتما بمنزل السلامة أنابكم نشيط وأجلبكم بي بسيط غير أني أعلمكم أن منزلي غير فسيح حتى أدفن فيه هذا الذبيح وليس لي مخبأة ولا مخدع ولا سكن في مطاويه ولا مصنع وأخاف أن أمركم لا يختفي وبهذا المقدار في أمركم لا أكتفي ويدي لا تملك غيره وقد وقعت بهذا السبب في حيرة وبالجملة والتفصيل أنا أكفيكما شر هذا القتيل فقالا لا نقنع بذلك ولكن سد عنا المسالك فقال توجهاً حيثشئتما فلا أنا سمعت ولا أنتما قلتما فتوجها إلى الصديق الكامل وذكرا له الأمر الحامل وقصدا بتلاقيه كرمه الشامل فقال لهما أو شيء غير ذلك وقاكما الله شر المهالك فقالا لا الادفن هذا المقتول وإخفاء هذا الأمر المهول وأن نكون تحت أذيالك الساترة حتى تسكن هذه الفتنة الثائرة فان أهله يطلبونا فان وجدونا يسلبونا ولا يرضون إلا بالدمار وخراب الديار ولا يقنعون بالمال والعقار وهذه قضية عظيمة وداهية جسيمة فان كنت تنهض بإطفائها وحمل أعبائها وتسعى في إخفائها فقد قصدناك ودون الأصحاب أردناك فان عجزت عن سدها فلا عتب عليك في ردها ولا تتكلف فوق طاقتك ولا تتجشم لا جلنا غير استطاعتك فقال سبحان الله وا سوأتاه هذا يوم المروأة والوفاء وتذكر وسائل إخوان الصفاء فلكم الفضل إذ قصدتموني والجميلة التامة حيث أردتموني

أما والله لو كان ألف قتيل لو أريته وكل ما كان من أمر غيره جاريته وداريته لا يسمع أبداً خبره ولا ترى عينه ولا أثره وأما أنتما فأفديكما وبروحي وأولادي وطريقي وتلادي وعندي ديار أنزه من جنان الأبرار وأفيح من كل دار فادخلوها بسلام آمنين فأنها نشرح كل قلب حزين ولو أقمتم بها سنين ما شعر بكم أحد من العالمين فيها أرغب نديم وأقرب خديم وأحسن جليس وأيمن أنيس فلن تملوا مقامها ولا تعدموا إكرامها فانتم عند من لا يمل أبداً أنزليه ولكم في ذلك الفضل والجميلة قال التاجر شكر الله سعيك وحفظ على أصحابك مودتك ورعيك ثم ودعه وانصرف وقد عرف الولد من حقيقة الأمر ما عرف (ثم قال) لولده يا بني وأعز عندي من كل شيء أن اتخذت الصديق فليكن صديقك على هذا الطريق وإلا قالا نفراد أحسن والعزلة أوفق إن أمكن كما قيل: فاق حبي كل الملاح كمالاً ... هكذا هكذا والافلالا ولقد أرشد من أنشد حيث قال هذا المقال: ما في زمانك من ترجو مودته ... ولا صديق إذا جار الزمان وفى فعض فريداً ولا تركن إلى أحد ... أني نصحتك فيما قد جرى وكفى (ثم أن الملك) قال لأولاده يا ذوي الأفضال إن غالب أصحابي من الأمراء والرؤساء الكبراء خصوصاً فلان أمير مماليك خراسان هم من هذا القبيل وأنا عودتهم هذا الجميل فكونوا في الحقيقة متمسكين بأسباب هذه الطريقة (فلما) أكمل وصيته أولاده هيا لسفره عتاده وذكراً لله وزاده ثم ودعهم من دار الشرور وأنتقل إلى دار الحبور والسرور وقد عهد إلى أكبر أولاده واستودعهم الله وهو القاهر فوق عباده من لا تضيع الودائع لديه ولا يخيب من توكل عليه فسمعوا الوصية وأطاعوا وتعلقوا بأذيال أهدابها فما ضاعوا

واستمروا تحت أمر أخيهم كما كانوا في حياة أبيهم كأن أباهم ما مات ولم يقع بينهم شتات فدام لهم السرور وانحسمت عنهم مواد الشرور وأشرقت بهم ممالكهم وأملاكهم ودارت بالسعود أفلاكهم ثم أن الحكيم حسيب انتقل من كلامه العجيب بعد فراغه من حكم الاعجام إلى فوائد ملك الأتراك الهمام فشنف المسامع وشرف كل راء وسامع وشرع في القافل والقيل وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الباب الثالث في حكم ملك الأتراك مع ختنه الزاهد شيخ النساك

الباب الثالث في حكم ملك الأتراك مع ختنه الزاهد شيخ النساك

(قال) الشيخ أبو المحاسن حسان صاحب الحسن والمحاسن والإحسان ثم نهض الحكيم حسيب الأديب الأريب ووقف في مقام حده وقبل موطئ أخيه بشفاء خده وقال لقد بلغني أيها السلطان أن في قديم الزمان كان في الترك ملك يسمى خاقان من الملوك العادلين والسلاطين الفاضلين برسم العدل معروف وبقصم الجور موصوف كسر الأكاسره وقصر الأقاصره ونحر الجبابرة وثغر فم الذعار النبالة الفاغرة ملك بلاد الختن والخطأ واستولى على ممالك المغل والحنا وأطلع أوامره الترك والتتار واستسلم لرأيهسكان الدست والقفار وكان ياجوج من جملة خدمه ومأجوج من بعض عبيده وحشمه كأنه وارث لذرية يافث قوى في أخذ الملك من ممالك الصين وأخذ إلى أطرف الشمال باليمن ولم يكن له من البنين والبنات مع كثرة السراري والزوجات سوى بنت واحدة لطلعتها الأقمار شاهده: شمس ولا كالشمس عند زوالها ... بدر ولا كالبدر في نقصانه بل بهرت الشمس جمالاً والبدر كمالاً وفاقت سلاح الدنيا شمائل وخصالاً وهي عزيزة في قلب أبيها كريمة على خواصها وذويها فصارت ملوك الأطراف يخطبونها ومن أبيها يطلبونها فكان أبوها يفوض

الأمر إليها ويعتمد في تزويجها عليها وهي لا ترغب في طالب ولا تصغي لخطبة خاطب إلى أن عنست وخطابها أيست وكان أبوها كما ذكر ذا فطنة بالغة وهيبة دامغة فخشي حوادث الزمان واختلى بها في مكان وقال أعلمي يا معدن اللطائف أن البنت في منزل أبيها الواقف إن مكثت يأسن وإن لم يستعمل أنتن ولا أقول ذلك ملالاً ولا عجزاً ولا استقلالاً بل لابد للمرأة من زوج فيسترها ويضمها ونعم الختن القبر وأحلى من البنت الصبر فإن رأيت الرغبة في الزواج طلبت لك كفؤاً من الأزواج وكان ذلك أستر لعرضك وأدنى لإقامة سنتك وفرضك وأفرغ لخاطر أبيك وأشرح لخدمك وذويك فقالت أحسن الله الرحمن إلى مولانا الخاقان وكفاه كل جان من الأنس والجان إن البنين من جملة النعم والبنات من أعداد النقم ونعم الدنيا عليها الحساب ونقمها سبب الأجر والثواب رب الأرباب فيما أنزله من الخطاب في محكم الكتاب المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً وقد جاء في بعض التفاسير أن الباقيات الصالحات هي البنات فمولانا الملك يعدو جودي نقمة عليه من معبودي واسأل الصدقات الملوكية والمراحم الوالديه أن لا يعجل في أمر تزويجي وأن لا يبادر كيفما اتفق إلى تزويجي فان التأمل في ذلك أولى وثناء في الدنيا وثواب في الأخرى وذلك لأن الكفاءة في الزواج معتبره وقد قرر ذلك الفقهاء البررة وإن لم يكن الزوج للمرأة كفؤاً فزوجها به يقع سخرية وهزؤا ولا يفيد سوى الغرامة والفضيحة والندامة

فقال الملك لا أزوجك إلا بكفء كريم يكون لك أدنى خديم وفي الناس أعلى مقام عظيم قالت يا مولانا الملك وقاك الله شر المنهمك لا تحمل اعتراضي على الإساءة وإنما أسأل عن كيفية الكفاءة فإن كانت بالملك والمال فإن ذلك في معرض الزوال وإن كانت بانشاب الإنسان فإن ذلك خطأ لا صواب قال منزل الكتاب العزيز الوهاب فإذا نفخ الصور فلا انساب وقال من لا يجوز عليه كذبه من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه وإنما الفقهاء حكموا بالظاهر والله يتولى السرائر ونحن في قيد الانقياد ولا يسعنا إلا ما أمر به الشرع وأراد وأما أنا فكفئ الكريم إنما هو الكامل الحليم الفاضل الرحيم قال الملك بارك الله في رأيك وعقلك أنا لا أزوجك إلا بملك أو ابن ملك مثل أبيك يرعاك ويكرم خدمك وذويك يعدل بالسوية ويحكم على سائر الرعية قالت أيها الملك الكبير صاحب التاج والسرير أنا ما أعرف الملك إلا من يعرف بملك الحكم على نفسه في سيره ويكون متحكماً متمكناً من الحكم على غيره فيحق أن يقال في ملكه ذي الجلال خلد الله سلطانه وشيد أركان ملكه وبنيانه قال الملك ومن هو ذاك بارك الله فيك وهداك

قالت أما الحاكم على نفسه فهو المالك الزمام جوارحه وحسه قد جعل خزائن القلب والسمع معدناً لجواهر العقل والشرع فمهما اقتضاه العقل مضاه وعمل بمقتضاه وما ارتضاه الشرع وقضاه كان فيه انقياد ورضاه قد تحلى بعقود مكارم الأخلاق ولو كان في أسمال أخلاق وشغل نفسه بتهذيبها واجتهد في خلاصها من شرك عيوبها وأهتم بعيوبه عن بعيده وقريبه ويغيضه وحبيبه فذلك الحاكم على نفسه المميز على أبناء جنسه وأما حكمه على غيره فهو أن يكون في سلوكه وسيره منعزلاً عن الناس في زوايا البأس لا يسأل عن أحوالهم وعيوبهم ولا ينظر إلى ما تحتأيديهم وجيوبهم مالكاً لزمام العز له متنعماً بهذه النعمة الجزلة قد اتخذ التقوى والقناعة أحسن حرفة وأربح بضاعه قد سلم الناس من يده ولسانه لا يدري بشأنهم ولا يدرون بشأنه فذلك الحاكم على غيره الفائز من ملك الدارين يخبره فهو الذي خلد ملكه وسلطانه واتضح للعاملين برهانه فان وجد بهذه الصفات موافي فانه لي كفء مكافي وأنه كالبدر جلى تقي الصدر لله ولي فإذا أنعم الزمان بمثل هذا منالاً فنعم نعم والافلالا فجعل ملك الختن يتطلب مثل هذا الختن وأرسل القصاد إلى أطراف البلاد يساون سكان الأكناف وقطان الأطراف عن موصوف بهذه الأوصاف واستمروا على ذلك مده كل باذل جهده حتى أرشدوا بعد زمان أن المكان الفلاني فيه فلان رجل أعرض عن العرض فلم يكن له في

الدنيا غرض وهو بحسن الصفات موصوف وفي كرخ العبادة والاجتهاد معروف جامع لهذه الصفات ليس له إلى الدنيا وأهلها التفات مشغول باكتساب الآخرة وطلب نعمتها الفاخرة وهو من نسل الملوك وقد ترك وراءهم السلوك وسلك في العلم والعمل السبيل الأقوم حتى كأنه محمد بن الحسن أو إبراهيم بن أدهم ولشدة ما هو لنفسه مجاهد سماه الناس الملك الزاهد فأجمع الخاقان على مصاهرته وجعل التقرب إليه قربة لآخرته فاخبر ابنته به وكان حبل مطلوبها ومطلوبه وعقد بينهم النكاح وحصل الفلاح والصلاح فوافق شن طبقة وصار لعين مرامها كالحدقة ومضى على ذلك برهه وهما في طيب عيش ونزهه فاشتاق الخاقان في بعض الأزمان إلى رؤية ابنته وسرور مهجته فقام لدارها بقصد مزارها لينظر حالها وما عليها وما لها فوجدها في عيش هني وأمر سنى فسألها عن أحوال زوجها الزاهد وكيف صبرها على حالها الجاهد فاتت خيراً وكفت ضراً وضيراً وقالت جميع ما يبرزه ويأتيه على حسب ما أريده وأرتضيه وارتفاعات أحوالنا بسعادة مولانا في دفاتر إلا من منضبطة وعقود حياتنا بميين صدقاته في نحور الرفاهية غير منفرطة غير أن بيتنا واحد وبسبب ذلك يتضرر هذا العابد فيه نبيت وفيه نقيل وبجوانبه مالنا من خفيف وثقيل وقوت ونقود وخادم ومولود فلا

يتفرع من الغوغاء للعبادة لأنها تستدعي عزلة العابد وانفراد، وتخيله لمناجاة معبوده ليظفر من حلاوة الطاعة بمقصود فاسأل مولانا الخاقان ذا الفضل والإحسان بيتاً يتخلى فيه للعبادة ومكاناً يضع فيه خرثي البيت وعتاده فقال حباً وكرامة وقرباً وسلامه (ثم) اجتمع الملك بصهره الذي به فاخر وذكر له أنه إعطاء بيتاً آخر أحدهما يكون لخلوته ومبيته والآخر يضع فيه ما يحتاجه من عتاده وقوته فقال الزاهد أيها الملك الماجد فعلت ذلك لتقسيم خاطري وتوزع فكري ومرائري ولا طاقة لي أن أتعلق بمكانين وما جعل الله لرجل من قلبين وإنما الزاهد من همه في الدنيا واحد فانه على عدد التعليقات يتوزع القلب الشتات وإذا تعددت الأماكن يحتاج كل منها إلى ساكن أو حافظ أو ضابط أو حارس أو رابط وأنا لا اعتماد لي بحفظ نفسي أيها الولي فكيف يكون لي اقتدار على حفظ الأغيار وإذا انقسمت أفكاري وفسد بالي فكيف أقدر على صلاح حالي وأني يصلح مع فسادي أمور معاشي ومعادي ثم أني إذا وزعت نفسي فقد نبهت راقد حرصي والحرص أفعى قاتل وأسد صائل يقتلني بسهمه بل بمجرد شمه فقال أيها الملك الكبير لا تهتم لذلك أيها الزاهد الخطير فإن لي أماكن وقصوراً مشيدة وحواصل مصونة وخزائن مكنونة الكل تحت تصرفك تصرفك واختيارك لا منازل لك فيه ولا مشارك فاجعل لكل جنس من قماشك وأثاثك ورياشك وما يقوم بأودك ومعاشك مكاناً على حده وناحية حفظ منفردة واتخذ لنفسك مقاماً خاصاً بك لا عاماً وأنا أقيم على كل مكان حارساً إن شئت راجلاً وإن شئت فارساً فعند احتياجك إلى شيء أتاك هنا مبسراً من غير كد ولا عي وتفرغ أنت لعبادتك واشتغالك بأمور آخرتك

(قال) الزاهد أيها الملك المجاهد الاغترار بالقصور من جملة القصور والاعتماد على الحصون من دواعي الجنون وإذا ورد من الملك الغفور طلب على يد القبور فإذا تجدي الدور والقصور وماذا تنفع الحصونأو يدفع كل مكان مصون وإذا آذن بالجلول ذلك الخطب الهول تود النفس لو كانت القصور الممهدة والبروج المشيدة أذل من أفحوض قطاه وأقل من عطش بزاه وقد قيل: قميص من القطن أو حلة ... وشربة ماء قراح وقوت ينال بها المرء ما يرتجي ... وهذا كثير على من يموت وأعلم أيها الخاقان أن النفس لها خادمان مطيعان مجببان ولما تأمر به سميعان وهما الشهوة والحرص الشديد الدعوه أما الشهوة فرائد الأكل الكثير والشرب وأما الحرص فعايد الرعونة والعجب وقد قيل: فهذا يقود إلى طبعه ... وهذا يسوق إلى ربعه فهما ليلا ونهارا وسرا وجهارا يزينان لها ما طبعا عليه ويجذبانها إلى ما جبلا إليه وينقاضيانهما حقهما ويطالبانها مستحقهما ولا بد للمخدوم من إقامة أود خادمه واسترضاء أنيسه ومنادمه وقد قال من أتقن المقال: أن اللبيب أخا اللبيب هو الذي ... مع تيهه يحنو على عشاقه وكذا الرئيس وأنت أكبر جنسه ... من فاض في الخدم من أرزاقه يهتم إن حضروا له بنوا له ... يغتم إن غابوا على أشواقه مع إن حشمته وفائض عمله ... ترقى بكل متنهى استحقاقه

ولكن رضا هذين الخادمين غاية لا تدرك وفقد مقصود يهما نهاية عميقة المسالك وقد قال سيد الأنام عليه الصلاة والسلام يوما وهو بين الأصحاب كالشمس ليس دونها حجاب والبدر لا يحجبه سحاب لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب والحرض مهلك والشهوة قاتلة وكل منهما في الدمار والبوار علة كاملة وناهيك يا ذخر الحق وغياثه أخبار اللصوص الثلاثة فطلب الملك من الزاهد إيضاح هذا الشاهد (فقال) : ذكر أهل الوراثة أن لصوصا ثلاثة كانوا على سبيل الاشتراك متعاطين أسباب التحرم والهلاك واستمروا على ذلك مده حتى استولوا من الأموال على عده ففي بعض الليال ظفروا بجملة من الأموال ودخلوا إلى مكان داثر خال بنية الاقتسام وكانوا محتاجين إلى الطعام فوجدوا في ذلك المكان الدائر صندوقا مملوءا من الجواهر ففرحوا وانشرحوا وتصوروا لأولئك الخاسرين أنهم ربحوا فقالوا إن اشتغلنا بقسمة هذا المجموع كلبنا وأهلكنا كلب الجوع فأولى طلب الطعام قبل الاقتسام ولو بأدنى التهام ويسير التقام ثم أرسلوا مع أحدهم إلى المدينة ورقهم ليأتيهم بما يسد رمقهم فلما انفصل عن مكانهما وغاب عن أعينهما تحركت نفسه الخبيثة بشهوة أحجبت تاريثه وقواها الحرص المشوم لشدة الشره الملوم ودعاه داعي الفساد إلى الاستيلاء على المال بالانفراد فعزم على ختلهما فوضع في الطعام

سما لقتلهما وأما هما فعلى قلته عزما واستعدا لذلك بعد ما حزما ليصير المال بينهما نصفين ويصيرا في ذلك كالأخوين الألفين ويكون ذلك كأنه وراثة لأن شر الرفقاء ثلاثة ولم يدعهما إلى ذلك غير داعي الشهوة وأكد ذلك داعي الحرص وأبخس بها من دعوه فلما فصل ذلك بالأكل بادرا إليه بالقتل ثم بعدما قتلاه عمدا إلى الطعام فأكلاه، فبردا في الحال وتركا ذلك المال، ولحقا بصاحبهما التالف وسيبا تليد المال والطارف وإنما أوردت هذه الموعظة لأنها على أحوال الدهر موقظة، وإن كان مولانا الخاقان في أموره يقظان لكن قد قال رب العالمين وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. واعلم يا مولانا الخاقان كفاك الله مكايد الشيطان وأنجح مقاصدك على ممر الزمان أن الدرجة العلية والمرتبة السنية لا تنال بقوة ولا عزمه ولا شجاعة ولا همه وإنما هي عناية ربانية وأسرار رحمانية لأقوام سبقت لهم من الله وزيادة وانتظموا في سلك أهل السعادة فهم أهل الفضل والسيادة أسبغ الله عليهم سواطع الأنوار وقطعهم عن قواطع الأشرار فهم السادة الأخيار والقادة الأبرار قاموا بأداء ما وجب عليهم وتركوا ما خلفهم واستبشروا بما لديهم فأنوارهم ساطعة وأسرارهم لجميع الأوهام قاطعة تركوا زخارف هذه الداروأرادوا دار القرار وجوار الملك الغفار فهم الهداة إلى الله الدالون على الله لا يعتريهم كدر الأوهام ولا يشتغلون عن خدمة خالقهم مدى الأيام هم العباد المكرمون، العباد المقربون، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين في كتابه المكنون: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون.

وأعلم أن أعدى عدوك بين جنبيك وهي نفسك التي قط ما ركنت إليك فاعص هواها ولا تعطها مناها فإن في اتباعها الندم عاجلا والحسرة آجلا لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع ولا تظن أنها إذا أعطيت مناها شكرت أو إذا ذكرتها من برأها ذكرت بل متى أمنتها كفرت أو آنستها نفرت أو أرخيت عنانها بطرت وأشرت وإن نالت مطلبا أو تناولت مأربا انتقلت عنه وطلبت أعلى منه فليس لها دوا إلا القمع عن دواعي الهوى كما قيل: النفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع وكما قيل أيضا: وما النفس إلا حيث يكعلها الفتى ... فإن أهملت تاقت وإلا تسلت وكما قيل أيضا: قنع النفس بالقليل وإلا ... طلبت منك فوق ما يرضيها وإياك وطول الأمل فإنه مفسدة للعلم والعمل قال الحكماء وعقلاء العلماء الأمل شبكة الشيطان وموجب الحرمان فاجهد ما دام لك على النفس ملكه أن تخلص نفسك من هذه الشبكة ولا تهتم للأوقات فكل ما قسم ما فيه فوات وكل ما هو آت آت وكل ما رقمه القلم في القدم وأثبته قضاء الله تعالى عليك وأنت في العدم سواء كان خيرا أم شرا نفعا أم ضرا فأنت ملاقيه وعلى كل حال موافيه فاقطع دواعي الطمع عمن لا يضر ولا ينفع لا عمن إن شاء نفع. ولا تجتمع إلا بمثلك في الجماعات والجمع ولا تتعب لجوع وعرى واكتساء

وشبع فقد قيل إذا شبعت فلا تهتم للجوع فكم من شبعان مات قبل أن يجوع وإذا اكتسيت فلا تهتم للعرية فكم من مكتس مات وثيابه جديدة مطوية واعلم أن طبع الدنيا بالمخالفة كأنها على المخالفة محالفة فإذا ضممت عنها يدك إليك أقبلت عليك وجاءت تهوى تحت قدميك وإذا طلبتها هربت منك وكلما ارتبطت إليها انحلت عنك وقد قيل أيها الملك الجليل: مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه مستعجلا ... وإذا وليت عنه تبعك ثم اعلم أيها الخاقان إنك وإن كنت ذا التصرف والسلطان وأن هذه الخلائق رعيتك نافذة فيها بمراسيمها منيتك إلا أنك في الحقيقة واحد منهم لا تزيد عنهم بشيء في الذات والصفات عنهم ولكن الله القديم العالم الحكيم سلطان السلاطين بل خلق الأولين والآخرين رفعك عليهم وتقدم بأمره أن يطيعوك إليهم فقال من له الخلق والأمر: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. فهم قد أذعنوا لك وأطاعوك فراعهم كما هم مراعوك واطلب لهم أسنى المراعي وأبهاها وأوردهم أعذب المشارب وأصفاها فإن الملك الذي سلمهم إليك سوف يتقدم بالسؤال عنهم إليك وقد قال من أنت خليفته على أمته: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. فكن لهم كما تريد أن يكون نوالك ودن لهم كما تحب أن يدينوا لك واعلم أيها الملك الودود أن هذه النقود إن لم تصرف في مصارفها

وترفل في وجوه الطاعة في مطارفها فإنها جمر يضرم في نار جهنم كما قال من يقول للشيء كن فيكون. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون. فاسمع أيها الملك الصالح نصيحة مشفق ناصح ولا تغتر بالدنيا وزهرتها ولا تنظر إلى حلاوتها وخضرتها وإياك والميل إلى نزهتها ونضرتها فإنك إن ملت إليها أسرتك أو جبرت على الركون إليها كسرتك وحسبك من كلام الرب الغفور ومن بيده مقاليد الأمور: إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. (قال) الراوي لهذه الحكم والفتاوي فلما وعى ما قال هذه النصائح الصادقة من الخنن أمر بها فسطرت ثم نشرت وشهرتوعلى المنابر قرئت وعلى رؤوس الأشهاد ذكرت وأبلغها ابنته وقرر لها مقدار زوجها وحكمته وميله عن الدنيا ورغبته فقالت هذا الذي كنت أردته وعلى مسامع مولانا الخاقان سردته ثم إنها أقبلت على طاعة ربها وبعلها وإصلاح أحوالها في قولها وفعلها وقضايا عمرهما في أنواع العبادة واكتسبا بطاعتهما في الدارين الحسنى وزيادة ثم اقتدى بهما الملك وعسكره حتى انتشر في آفاق المملكة بالعدل بالعدل والصلاح خبره إلى أن اندرج إلى رحمة الله تعالى ذلك الرعيل وبقي ذكره مخلدا على صفحات الأيام جيلا بعد جيل وقد قيل في ذلك ممن أحسن القيل: كانوا شموسا تضيء الدهر طلعتهم ... وفي طريق المعالي يقتدى بهم غابت فلولا سناهم كالبدور اضا ... من بعدهم أهل الفضل في الظلم

هكذا يكون طالب السعادة الأبدية والكرامة السرمدية إذا ملكه الله زمام الرعية يحسن سيره في الدنيا ويتيقظ لتحصيل السعادة الكبرى ويشتغل بما يرضي عنه المولى وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (تمت بحمد الله تعالى) نوادر ملوك العرب والعجم والأتراك ويلي ذلك مباحث زاهد الإنس العالم مع شيطان الجن الآثم الأفاك ونسأل الله المسؤول أن يحقق لنا من كرمه وإحسانه المأمول ويعصمنا بفضله من عثرات الفضول والصلاة والسلام على أعظم بني وأكرم رسول وعلى آله وأصحابه وأكرم بالصديق والفاروق وذي النورين وزوج البتول واخوانه من الأنبياء والمرسلين وسلاما يشتملان العفو هنا والقبول ويمن بالكرم والفضل على قطوعنا بالوصول آمين والحمد لله رب العالمين.

الباب الرابع في مباحث عالم الإنسان مع العفريت جان الجان

الباب الرابع في مباحث عالم الإنسان مع العفريت جان الجان

(قال) الشيخ أبو المحاسن من ماء ينابيع عمله بدن الفضل غير آسن فلما أنهى الحكيم حسيب ذو الفضل النسيب حكاية ما طرزه مما نسحبه وحاك وفصله خياط تقديره على قامة المجد من خلع حكم العرب والعجم والأتراك شكره أخوه القيل على هذا القيل وأفاض عليه من نيل نواله جزيل النيل وأدرك من ذلك الأنموذج علو علمه وسمو حلمه وجميل حكمه وجليل حكمه، ثم قال يا أستاذ بلغني أن بغداد خرج منها خارج من نار من مارج وهبط إلى مدارك الخزي عن المعارج وأصل ذلك المشوم من عفريت خلق من نار السموم وأن شخص ذلك الشيطان جبل من سخام الدخان فلهذا ركب وجهه السواد وتركب سائر جسده من الرماد فهو جني ذميم وشيطان رجيم وقد شرع ذلك الخناس في الإفساد والوسواس وتعاطى إيذاء أكابر الناس وأنه في هذه الأيام نفي إلى بلاد الشام فلم يوافقه ذلك المقام لأنه مهاجر الأنبياء الكرام وهذا مخبول على سجايا اللئام وطباع أهل الفساد والإجرام، فأقام فيها بالاضطرار والاضطرام مدة أشهر وعدة أعوام وأخذ في الإضلال والتضليل فأضل خلقا كثيرا عن سواء السبيل وتستر ذلك الجان بحجاب الانتساب إلى جنس الإنسان ولبس بشق العصا ثوب العصيان فكمن كمون الشوك تحت ورق الورد والريحان واحتمى في حمى الشقاق والنفاق بشقائق النعمان والحق أنه من نسل العفاريت وكان عند الجن مقيلة والمبيت ومن ألبانهم له غذاء تربيت فقال له الملك هديت ووقيت فإن يكن عندك من ذلك شيء فشنف من جواهر حكمه أذني فإنك حكيم الجن والإنس وكريم النوع والجنس.

(قال الحكيم) : نعم أيها الملك العظيم أنا جهينة الأخبا ومزينة الأخيار وحكم الحكم ولي في البيان أعلى علم أما هذا الشخص المذكور فإنه بالفسق والفساد مشهور ورق شره في البلاد منشور وكتاب عناده بين العباد مسطور وبيت جسده لنعم الله تعالى على خلص أوليائه بالفجور معمور وله صفات تعيسة وأخلاق خسيسة تأنف مردة الشيطان منها وتستنكف العفاريت عنها وكم له من دواهي شرها غير متناهي لا يفي بذكرها هذا الخطاب ولا يتسع سردها هذا الكتاب يل ولا يقوم بذلك دفتر ولا حسابولكن البعرة تدل على البعير فقس من هذا التقدير الكثير على اليسير وقد كان أراد نشر الفساد ببلاد العراق وبغداد فعاكسه القدر وأحاد فنفي من تلك البلاد فوصل إرم ذات العماد وتعاطى أسباب ما هو عليه من الزندقة والإلحاد أصناف الفتن وأنواع العناد وابتدع من الشر والبدع ما يخرج عن حصر التعداد وهو على ما هو عليه من المناكدة والمجاحدة وقصده الأعوج من تعديل أقوال الرافضة والملاحدة وسيوضع لذلك مصنف متسع على حده ولقد بلغني أيها الملك الهمام أنه حصل له في ذلك المقام مع عالم من علمائها الأغلام قضايا كبته على خيشومه وأظهر بها ذلك العالم دسائس خبثه وشومه مثل ما اتفق لعالم الإنسان مع شيطان العفاريت وجان الجان في غابر الدهر وماضي الزمان فقال القيل العظيم أخبرنا بذلك أيها الحسيب الكريم

فقال ذكر أن في الأزمان الغابرة كانت صنوف الجن للإنس ظاهرة تتراءى بأشكال مختلفة وتنزيا بأمثال غير مؤتلفة وتظهر لهم الخيالات العجيبة والصور المموهة الغريبة فتضلهم ضلالا مبينا وتأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم شمالا ويمينا وتخاطبهم مشافهة وتوفيهم مواجهة. ففي بعض الأيام ظهر ببلاد الشام مهبط الوحي ومهاجر الأنبياء الكرام ومحط رحال الرجال من أهل الفضل والأفضال رجل من العباد وأفراد الزهاد فاق الأقران بالصلاح وساد أهل الزمان بالورع والفلاح وحاز طرفي العلم والعمل فكمل كثيرا منهم بعدما كمل واستمر يدعو الخلق إلى خالقهم ويحثهم في الإنابة والتوكل على رازقهم ويرضونه ويرضيهم في الطاعة واتباع السنة والجماعة ويقبح الدنيا في أعينهم ويحذرهم غدراتها في مكمنها عند مأمنهم وكان لنفسه المبارك نقوش في النفوس يجذبها إلى ما يريد جذب الحديد المغناطيس ففي مدة يسيرة تبعه طوائف كثيرة وانتشر صيته إلى الآفاق وصفا للعباد وقت الطاعة وراق وضربت إليه أكباد الإبل وامتلأت به الدنيا من العلم والعمل واضطرب أمر المردة والشياطين الغندة وتعطلت أسواق الفسوق وخرج عرق المعاصي من العروق وتخملت العفاريت وتنكست أعلام الجن المصاليت وضل سبيل الضلال كل مارد خربت وبطلت زخارفهم وتموياتهم وعطلت وساوسهم وتشويهاتهم وأهانهم الناس وكسد الوسواس وفسد فعل الخناس فلما ضل سعيهم وكاد يقع نعيهم اجتمع العفاريت العتاة والشياطين

الطغاة والمردة العصاة إلى إبليسهم العنيد وهو شيطان مريد صورته من أقبح الصور له أظلاف كأظلاف البقر ووجه كالتمساح وشكل كالرماح وخرطوم طويل ورأس كالفيل وعيون مشققة بالطول وأنياب كأنياب الغول وشعر كالشهيم وجلد كالأرقم وهو يلهث كالكلاب ومن ورائه عدة ذئاب فشكوا إليه حالهم وأطالوا في الشكوى قالهم وقالوا يا شيخ التلبيس وابن عم إبليس لقد عرت المدارس وبطلت منها الوساوس وتعمرت المساجد بكل راكع وساجد وقائم وقاعد وقارئ وجاهد فطرد كل شيطان مارد وتمشي سنن الحلال فوقف منا الاحتيال وأمر بالمعروف فوقعنا على الأمر المخوف وكثرت الحجاج فتقطعت منا الأوداج وأديت الزكوات والحقوق فطرد منا كل عقوق وقام الحق فنام الفسق وعبد الله في المغارات والكهوف واشتد علينا السبيل فعلى من نطوف ولم يبق لنا على بني آدم سلطة وصرنا في بحارهم أقل من نقطة وعند جهرهم بأذكارهم أذل من ضرطة لا وساوسنا تؤثر في أفكارهم ولا مجالسنا تعطل من أذكارهم ولا تخيلاتنا تتراءى لأبصار أسرارهم فإن استمر الحال على هذا المنوال لا يبقى لنا في الدنيا مقام ولا بين الجن والإنس كلام (فلما وعى) العفريت فحوى هذه الشكوى وتأمل ما في مطاويها من نازلة أحاطت بهم وبلوى اشتعلت نيران غضبه وتأججت شواظات لهبه ثم قال أمهلوني أتلوى واتركوني أتلوم وأتروى وأفتكر في هذه البلية وأكشفها عن جلية فإن الأمور لا تنتج لمعانيها ما لم يتأمل من فراغها في جوانبها ونواحيها وتحقيق المسائل إنما يوجد من محكميها وحاكميها.

وكان هذاالغفريت العاتي المارد الغير المواتي تحت يده وأمره من مقتبسي تلبيسه ومكره والشياطين المرده وأغوال العفاريت العنده طوائف شتى وأمم لا تحصى وممن فاقهم في المكر والمراء أربعة أشخاص كبراء زراء كل منهم في الشيطنة والموالسة ومعرفة طقوس الوسوسة كأبي علي بن سينا في علم الهندسة غاية لا تدرك ونهاية لا تستدرك فاجتمع هذا الغول بوزراءه ورؤساء أشياعه وكبرائه ثم قال لهم أفتوني في أمري وساعدوني على فكري وسكري. ووجه الخطاب لكبيرهم الذي علمهم السحر المشار إليه في الدهاء والمكر وقال له ما رأيك في هذه القضية والمواقف الردية والداهية الدهية فقال الوزير يا مولانا الأمير وصاحب المكر والتدبير إن العقلاء وذوي التجارب من الحكماء تفرسوا بأمر قاطع من الوقائع القواطع فقالوا شيئان لا بقاه لهما الروح في الجسد والسعد في الطالع وهذا هو الصواب ولكل أجل كتاب وما دام الأجل باقيا والسعد راقيا ومنادم السلامة ساقيا وحافظ العوارض واقيا لا ينفع الجد ولا يدفع الجد ولا يرفع الجهد ما أثبت السعد فإذا تم الأجل وبطل من السعد العمل انتكس السعد وانقلب وفارقت الروح بلا سبب وإذا كان كذلك فهذا الرجل الناسك سعده عمال وطالعه في إقبال فكل سهم مكر فوقناه إلى نحو حياته يعود علينا وكل رمح فكر صوبنا سنانه إلى شاكلة بقائه يرجع إلينا فالرأي عندي أن نتربص حين تدور به الدوائر ولا نهتم باحتيال محتال ولا مكر ماكر إلى أن تنقضي مدته ويسقط من سعد طالعه قوته فعند ذلك يفيد سعينا ولا يضيع كدنا.

(فقال) العفريت للوزير الثاني يا أفضل جاني أنت ماذا تقول وكيف تشير أن نصول في ميدان هذا الأمر ونجول فقال رأي مولانا الوزير سديد وكل ما أشار به فهو أمر مجيد ولكن كيف يهمل أمر يهمل أمر العدو ويركن مع وجوده إلى قرار وهدو وإذا كان طالعه في قوة فاهماله يزيد في قوته والتهاون في أمره مساعدة في معاونته ومعاونة في مساعدته وهذا من سلامات العجز والانكسار ومن أقوى الأدلة في الانحطاط والصغار وأن رب الأرباب وضع عالم الكون والفساد على الأسباب فلا بد من تعاطيها في هذا الباب وبذل المجهود في معاملات الأعداء والأحباب ولم يقتصر الشارع على التقدير والطالع إذ فيه حسم مادة الشرائع والتعرض لأبطال حكم الصانع فعندي أن نبذل الجهد في حسم مادتهم وتعاطي كسر شوكتهم وبذل الجهد والجد بما تصل إليه اليد وثبات الأقدام في إثبات الأقدام كما قال الشاعر وهو سلم الخاسر في ثبت الجاسر: من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور وهذا الشاعر المسمى أخذه من أخينا بشار الأعمى من لنا بوجوده أنس وهو شيطان الأنس حيث يقول ذلك الغول: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج فاعزموا على هدم ما يبنون وصدم ما يعنون والأخذ في تمزيق جلدتهم وتفريق كلمتهم إذ لا اطلاع لنا على مساعدة الطالع ولا حد لبقاء الأجل فضلاً عن أن نقول هذا الحد جامع مع أو مانع وهذا الرأي عندي أولى ورأيك يا رئيس التلبيس يا غول هذا القول: إذا كانت الأعداء نملاً فآتهم ... إذا لم تطأهم وأصبحوا مثل ثعبان

ومن هذا المقال يا أبا الأغوال: واللص ليس له دليل ساتر ... نحو الذي يبغي كنوم الحارس (والأصل) في هذا كله حسم مادتهم ورد جادّتهم وذلك بإهلاك مرشدهم وإفساد زاهدهم فان قدرنا على إهلاكه وتمزيق حبائله واشراكه تشتت شمائلهم وثبتت جلهم وقلهم (فقال) العفريت للوزير الثالث وكان أمحس عابس قل لي أيها الوزير ما سنح لك من التدبير في هذا الأمر المبير والخطب الخطير وماذا ترى فيه وتشير فقال لا شك أن الطباع تميل إلى ما تسمعه وما يلقى إلى النفس لا بد أن يؤثر موقعه وما أشار به ودبره الوزيران وهما نعم المشيران فهو لا يخلو عن فوائد بل هو متحل بعقود الفرائد وأني لاعلم أنهأثر في الخواطر كما يؤثر في الرياض السحب المواطر وبالجملة فللكلام تأثير في النفس كما تظهر آثاره الحس ولهذا ترى رقيق الشعر يفعل مالا يفعله دقيق السحر وجليل العبارة فيه من الإثارة ما يشجع الجبان وينشط الكسلان ويسخي البخيل وينجي الذليل ويسحر الأرواح ويسخر الأشباج ويعطف القلوب ويؤلف بين المحب والمحبوب ويصير العدو وصديقاً وغليظ الأحرار رقيقاً وتأمل يا بنيه ما قيل في البديه: حديث إذا نادمت دهري انتخى ... وكف عن الايذا وعاد إلى الأخا أذكره أخلاق مالكه الذي ... تعلم منه العلم والحلم والسخا أنال به مالا ينال بقوة ... وأرواح أشباح أنت بعدما شمخا

وهذه قضية تحتاج إلى أعمال الرويه وإمعان النظر وتدقيق الفكر وعندي الرأي السعيد السديد والفكر الحميد المجيد أن التعرض إلى هذا الرجل الدين الداعي إلى طريق الحق البين ليس بمحمود ولا طالع قاصده بمسعود فانه على الحق متشبث بأذيال الصدق ومن قصد مصادمة الحق اصطدم وفي مهاوي الهلاك ارتدم وقد كان في بني إسرائيل من أهل التسجيل عاملاً بالتوراة والإنجيل مشغولاً بالعبادة باذلاً في إقامة الحق اجتهاده فتعرض له جماعة من أهل الفسق والخلاعة فتعاطوا إهلاكه وفجعوا به نساكه فقتلوه بغير حق فغار له الدين ورق فاخبرني من لا يتهم بكذبه أنه قتل سبعمائة ألف نفس بسببه فذهب بسبب ذلك الصالح من بني إسرائيل الصالح بالطالح ومن كان مع الحق هادياً إلى الصدق فان الله تعالى معه ومن كان معه منعه وحرسه وما ضيعه ومن تصدى لضياع ما حفظ الله وعزم على ابتذال من أعزه مولاه وكلاه فقد قصد خراب عمره وعمارته وباع رأس مال تجارته وربحه بخسارة وجنى بيده على نفسه وحفر بيد تدبيره مهواة رمسه واسمع يا نعم العون ما جرى لمؤمن آل فرعون حيث كان على السداد داعياً إلى سبيل الرشاد وقصدا هلاكه أهل الفساد فقال وأفوض أمري إلى الله أن الله بصير بالعباد فغلبوا هنالك وانكسروا ووقاه الله سيآت ما مكروا وأيضاً لو قتلنا هذا الرجل وكان على أيدينا له حمام الأجل فلا شك أنه يقوم مقامه من يلم عظامه ويزم زمامه ويحيي بعده أيامه فيقيم شعاره ويكتب ما قدم وآثاره

فإن تلامذته كثيرة وطوائف جماعاته غزيرة فينتظم لهم بعده الأمر ولا يضرم لنا من كيدنا الجمر وإذا علموا أن ذلك منا واشتهر ذلك الكيد عنا أخذوا منا حذرهم وصوبوا إلينا عداوتهم ومكرهم ثم عملوا على استئصالنا واستعدوا لقتالنا لأنا أهلكنا معتقدهم وهدمنا عمادهم ومعتمدهم ولا يمكننا بعد ذلك طلب الملامة والسلامة وتستمر العداوة بيننا وبينهم إلى يوم القيامة، مع إن عداوتنا قديمة وبالجملة فعاقبة من عادى أولياء الله وخيمة إذا تقرر هذا القول وثبت بطرق المعقول فاعلم أيها الغول والشيطان المهول أن الرأي الصواب في هذا المصاب أن نبادر إلى هذا الرجل وجماعته بإفساد طاعتهم وطاعته وحيث لا يتيسر لنا المواجهة ولا الخطاب والمشافهة ولا الإضلال في الظاهر بصورة المتجاهر فنزين لهم حب الدنيا وشهوائها والميل إلى زينتها ولذاتها والركون إليها والاعتماد عليها ونلقي إليهم طول الأمل وبعد الأجل فنثبطهم بذلك العمل وندعوهم إلى التهاون والكسل ثم بعد ذلك نجلو خدود عرائس الحرص على أبصار أفكارهم وقدود موائس الشج وحب المال على أعين خيالاتهم وبصائر أسرارهم فإذا ذاقت ألسنة عقولهم حب الدنيا وتمكنت في أدمغة سويدائهم الرغبة في الآباء والأبناء سلبوا حب الطاعة وتفرقت منهم الجماعة وزاغوا عن الطريق الأقوم وراغوا عن السبيل الأمم فنتوصل إذ ذاك منهم إلى مقاصدنا ونوقعهم كيفما اخترنا في مصايد مراصدنا لأنهم هبطوا من سماء المنازعة إلى الأرض وأهلكوا بأيديهم أنفسهم إذ بغى بعضهم على بعض فتحاسدوا وتحاشدوا وتدابروا وتفاخروا وتضاربوا وتناهبوا وتسالبوا

وتقابلواوتقاتلوا وتفرقوا وتمزقوا وتحرقوا وانحاز كل منهم إلى ناحية وأعجب كل برأيه فلا تعرف منهم الفرقة الناجية إذ تفرقت أهوائهم وتصادمت آراؤهم وجذبت أغراضهم إلى الانحناء وجلبتهم أمراضهم مع الأهواء ومال كل منهم إلى صوب وأيس منهم الصواب الاوب وتعدد الخلق الذمر ولبس كل لصاحبه جلد النمر ثم بعد ذلك زلوا وأزلوا وضلوا وأضلوا فتمكنا فيهم كما نريد وتصرفنا فيهم تصرف السادات في العبيد وسلطنا عليهم دواعي الغضب والشره ولعبنا بشيوخهم لعب الصبيان بالكره فنصوب لهم أقوالهم ونزخرف أفعالهم كما قال من خلقهم وأحوالهم: وزين لهم الشيطان أعمالهم ولا نقصد بذلك إلا كبراءهم وفضلاءهم وعلماءهم وزهادهم ورؤساءهم وحكامهم وحكماءهم ولا نفتر عن مكابدتهم ولا نميل عن مكايدتهم ونجري في عروقهم ونسكن في فروقهم ونحركهم في رعودهم وبروقهم فإن تحركوا إلى خير سكناهم وإن سكنوا عن شر حركناهم وإن عزموا على الآخرة صددناهم وإن حزموا إلى مواطن رددناهم وإن أموا مفسدة قدناهم أو هموا إلى معصية سقناهم ولا بد لهذا العمل الكثير من تأثير ولبيدق جد في المسير أن يصير وبالجملة فنبذل في كل عامة جهدنا وجدنا ولا غضاضة في ذلك علينا لأنه صنعة أبينا وجدنا وقد أخبر بذلك جدنا اللعين لما خالف رب العالمين كما أخبرنا في الكتاب المبين قوله: فبعزتك لأغوينهم أجمعين.

فإذا رآهم الناس وقع بينهم البأس وحصل لهم منهم اليأس وتراجعوا عنهم وهبروا منهم وفسد اعتقادهم فهم بل قتلوهم بأيديهم فإذا ظهر فسوقهم وكسد سوقهم فإن شئنا أوقفنا حالهم وإن رمنا إلى الهلاك نسوقهم وأوثق ما يتصل به إليهم من الأسباب هي حالة الانفراد والإعجاب وحالة الاجتماع للكذاب فإن الإعجاب يهوي في النار والكذب يخرب الديار. وناهيك قضية التاجر مع عبده الكذاب الفاجر فسأله شيخ الجن عن بلية ذلك القن (فقال) : ورد في الخبر عن شخص معتبر قال كان بمكان تاجر ذو مال وزوجة ذات جمال كل يهوى صاحبه ويرعى جانبه ويفديه بروحه ويترشف رضابه في غبوته وصبوحه كأنهما زوج حمام وفي بذمام ففي بعض الأيام قال أحدهما لرفيقه وهو يرشف من كأس عقيقه شهد رضابه بخمرة ريقه لو كان لنا عبد يتعاطى مالنا من حاجة ويخلصنا من جميلة عمر وزيد فذهب التاجر إلى سوق الرقيق فوجد مع النخاس عبدا ذا قد رشيق ينادي عليه أبيعه بكذا على ما فيه من أذى فقال وما عيبه قال كذبه لا على الدوام وإنما هو مرة في عام فقال عيب هين وشين لين فاشتراه وأتى إلى داره وارتضاه فاستمر في خدمة حسنة حتى أتى عليه سنة ونسى سيده عيبه وأمن ريبه بالأمانة وجرب بالأمانة يده وبالطهارة جيبه فلما مضى عليه عام كان سيده في الحمام فأتى البيت في بعض الحوائج في صورة الجمل الهائج شاهقا باشرا صائحا ثائرا صارخا واويلاه واسيداه وامولاه فسئل مالك لا أحسن الله حالك ولا أنعش بالك

فقال رمح البغل بسيدي فما تمالك أن تهالك وسلم الروح لخالقها وقال لوارثه تسلم مالك فأقيم العزاء والسخام وتركهم وأتى للحمام وهو يبكي وينوح ويصرخ ويصيح فسأله مولاه ما دهاه فقال وقع البيت على كل من أويت ولم يبق في الدار نافخ نار فهلك الكبير والصغير ونهب ما فيها من جليل وحقير فخرج وهو يستغيث من حديث ذلك الخبيث فوجد أهل البيت سالمين ورأوه من الناجين فعزم على خباطه فذكر له ما سلف من اشتراطه ثم أنه استقام ونسي هذا الكلام ومضى عليه عام فاستأنف ذلك الخبيث أمره العبيث وقال لامرأة مولاه يا هنتاه إن كنت نائمة فاستيقظي وخذي حذرك وتيقظي واعلمي أن نية صاحبك أن يلقي حبلك على غاربك لأنه قد عشق عليك ونبذ حبل حلك إليك وتعلق قلبه ببنت رجل كبير ولا ينبئك مثل خبير وقد حملني على نصيحتك الشفقة وما أسديت إلي من إحسان وصدقة فبادري قبل حلول البأس ونزول الفأس في الرأس فأثر فيها هذا الحديث فاستشارت ما تفعله ذلكالخبيث فقال لو ظفرت بشيء من شعره لكفيتك مؤنة مكره وفكره فإن لي صاحبا منجما وأستاذا معلما يرقي الشعور ويجعلها في النحور وإذا وجد لي خيشومه مساغه ودخل البخور دماغه صار عبدا لك على الدوام وحظيت عنده بالمراد وارتقيت إلى أعلى مقام ولكن ينبغي أن يكون من شعر لحيته النابت على ترقوته قالت وأنى لي أن أصل إلى ذاك وقاك الله شر أذاك فقال إذا نام وغرق في المنام فاحلقي منه بموسي لتكفي الضرر والبوسي وأنا آتيك بموسي يحلق الشعور فافعلي ذلك من غير أن يكون له شعور فاتفقا على ذلك الاتفاق وأتاها بموسي حلاق ثم توجه إلى مولاه وقد أضمر له ما دهاه وقال أشعرت يا ذا الفضائل أن زوجتك البديعة الشمائل تغير خاطرها عليك وتقدمت بالإساءة إليك ولولا أنك شفيق علي وعزيز ومكرم لدي ما أنبأتك من أخبارها بشيء فإني أريد أن يكون ما أنهيته إليك مكتوما إلى أن يصير عندك محققا معلوما وقد أرسل إليها من يخطبها وأمالها عنك بما يرغبها واتفق معها أنها تقتلك وتستريح وتصبح في فراشك وأنت ذبيح وذلك يقوم بديتك وقد أرسل إليها من الجواهر والأموال أضعاف قيمتك فإن أردت مصداق هذا الكلام فتثاقل عندها في المنام ليزول الشك باليقين وتتحقق من الصادقين فأثر هذا الكلام فيه وخاف من مكر النساء ودواهيه فلما أقبل العشاء وأحضروا العشاء تناول من ذلك الطعام ونهض إلى الفراش لينام وأظهر بين القوم أنه غرق في النوم وغمض عينه وانط وسال لعابه فنهضت الزوجة إليه وفتحت الموسي ودخلت عليه ومدت يدها إلى لحيته ووضعتها على ترقوته

ففتح عينيه فرأى آلة الموت متوجهة إليه فما تمالك أن وثب عليها وجثم إليها وخرج زمام تفكره عن يد تأمله وتدبره وخطف الموسي من كفها وسقاها كأس حتفها فلما فوران الدم أدركه لاحق الندم وقد تبدل الوجود بالعدم ووقع القال والقيل واشتهر أمر القتيل وعلق في شر الاقتناص وعومل في صاحبه بالقصاص. وإنما أوردت هذا الكلام لتعلم أن ما أهلك الأنام وأوقعهم في شرك الآثام والكفر والفسوق والحرام مثل الكذب في الكلام وهولنا أوثق زمام

ولجذبهم إلى ما قصدنا من المرام أحكم خطام وأعظم حزام فاستحسن العفريت هذا الرأي واستصوبه وأعجبه ما تضمنه من معان واستغربه ثم قال رأيت يا أصحاب من الرأي الصواب أن أجتمع بهذا العالم الزاهد العامل العابد في محافل غاصة وأسأله عن مسائل عامة وخاصة وعن أسرار رقيقة أطالبه فيها بمجازها والحقيقة وأنا أعرف أنه يفحم عن جوابي ويلجم عند أول خطابي فإذا عجز عن جواب المسائل في تلك الجموع والمحافل تحقق الحاضرون جهله فنبذوه من أول وهلة واعترفوا لنا بالفضل الوافر والعلم الغزير المتكاثر فصاروا لنا أوداء والفضل ما شهدت به الأعداء ورجعوا عن اعتقاده ونفضوا أيديهم من محبته ووداده وربما سعوا في دماره وخراب دياره فيكفونا أمره ويزيحون عنا شره وأقل الأقسام أن جماعة ذلك الإمام إذا رأوا ما لنا في الفضل من تجارة وعلموا أن رأس مال إمامهم الخسارة التهوا بالسهو وسهو باللهو وانفضوا عنه وتركوه وهذا إن لم يكونوا سفكوه وسكبوه كما فعل صاحب البستان بالمزرعة من الغدر والتفتخيذ مع غرمائه الأربعة فسأل الوزراء عن غدير ذلك الغدر كيف جرى (قال العفريت) : كان من تكريت رجل مسكين ينظر البساتين ففي بعض السنين قدم قرية منين وسكن في بستان كان قطعة من الجنان فاكهة ونخل ورمان ففي بعض الأعوام أقبلت الفواكه بالأنعام ونثرت

للثمار ملابس الأشجار من الأذيال والأكمام فألجأت الضرورة ذلك الإنسان أن خرج من البستان ثم رجع في الحال فرأى فيه أربعة رجال أحدهم جندي والآخر شريف والثالث فقيه والرابع تاجر ظريف قد أكلوا وسقوا وناموا واتفقوا وتصرفوا في ذلك تصرف الملاك وأفسدوا فسادا فاحشا خادشا وما رشا وناوشا وناكشافأضر ذلك بحاله ورأى العجز في أفعاله، إذ هو وحيد وهم أربعة وكل عتيد فسارع إلى التأخيذ وعزم على التفخيذ فابتدأ بالترحيب والبشاشة والإكرام والهشاشة وأحضر لهم من أطايب الفاكهة وطايبهم بالمفاكهة وسامح بالممازحة ومازح بالمسامحة إلى أن اطمأنوا واستكانوا واستكنوا ودخلوا في اللعب ولاعبوه بما يجب فقال في أثناء الكلام أيها السادة الكرام لقد حزتم أطراف المعارف والطرف فأي شيء تعانون من الحرف فقال أحدهم أنا جندي وقال الآخر وأنا رسول الله حدي وقال الثالث أنا فقيه وقال الرابع أنا تاجر نبيه فقال والله لست بنبيه ولكن تاجر سفيه وقبيح الشكل كريه أما الجندي فإنه مالك رقابنا وحارس حجابنا يحفظنا بصولته ويصون أنفسنا وأموالنا وأولادنا بسيف دولته ويجعل نفسه لنا وقاية وينكي في أعدائنا أشد نكاية فلو مد يده إلى كل منا ورزقه فهو بعض استحقاقه ودون حقه وأما الشريف فإن جده هدانا ومن النار أنجانا وقد ملكنا كرامة وحبا لقوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى. وقد تشرف به اليوم مكاني وحلت به البركة علي وعلى بستاني وأما سيد العالم فهو مرشد العالم وهو سراج ديننا الهادي إلى يقيننا فإذا شرفونا بإقدامهم ورضوا أن نكون من خدامهم فلهم الفضل علينا والمنة الواصلة إلينا وأما أنت يا

رابعهم وشر جان تابعهم بأي طريق تدخل إلى بستاني وتتناول سفرجلي ورماني هل بايعتني بمسامحة وتركت لي المرابحة أو لك على دين أو عاملتني نسيئة دون عين ألك علي جميلة وهل بيني وبينك وسيلة تقتضي وسيلة، تقتضي تناول مالي والهجوم على ملكي ومنالي، ثم مد يده إليه فلم يعترض من رفقائه أحد عليه لأنه أرضاهم بالكلام واعتذر عما يتطرق إليه من ملام فأوثقه وثاقا محكما وتركه مغرما ثم مكث ساعة وهو على الخلاعة مع الجماعة وغامز الجندي والشريف على الفقيه الظريف فقال يا أيها العالم الفقيه والفاضل النبيه أنت مفتي المسلمين وعالم بمنهاج الدين على فتواك مدار الإسلام وكلمتك الفارقة بين الحلال والحرام بفتواك تستباح الدماء والفروج فمن أتاك بالدخول في هذا والخروج أفتني يا عالم الزمان محمد بن إدريس أفتاك بهذا النعمان أم أحمد بن حنبل أم مالك فسح لك بذلك أما سمعت قول معز العلماء ومجلها

ومذل الجهلاء لجهلها: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها. وإذا ارتكب مثلك هذا المحظور وتعاطى العلماء والمفتون أقبح الأمور فلا عتب على الأجناد والأشراف ولا على الجهلاء الأجلاف ثم مد يده إلى جلابيبه وأوثقه بتلابيبه فأحكمه وثاقا وآلمه رباقا فاستنجد بصاحبيه إلى جانبيه فما أنجده ولا رفداه ثم جلس يلاهي الجندي الساهي وغامزه على الشريف ذي النسب الظريف ثم قال أيها السيد الأصيل النجيب الجيد الحسيب لا تعتب كلامي ولا تستثقل ملامي أما الأمير فإنه رجل كبير ذو قدر خطير له الجميلة التامة والفضيلة اللامة وأنت يا ذا النسب الطاهر والأصل الباهر والفضل الزاهر سلفك الطيب أذن لك في الدخول إلى ما لايحل لك أم جدك الرسول أفتاك باستباحة الأموال أم زوج البتول أنباك أن أموالنا لآل البيت حلال وإذا كنت يا طاهر الأسلاف لا تتبع سنة آبائك الأشراف من الزهد والعفاف فلا عتب على الأوباش والأطراف ثم وثب إليه وكتف يديه ولم يعطف الجندي عليه ولم يبق إلا الجندي وهو وحيد فانتصف منه البستاني كما يريد وأوثقه رباطا وزاد لنفسه احتياطا ثم أوجعهم ضربا وأشبعهم لعنا وسبا وجمع عليهم الجيران واستعان بالجلاوذة وأصحاب الديوان وحملهم برباطهم وعملتهم تحت آباطهم إلى باب الوالي وأخذ منهم ثمن ما أخذوه ومن رخيص وغالي

وإنما أوردت ما جرى لتعلموا أيها الوزرا أن التفخيذ بين الأعداء بالتأخيذ أمر من السهام في تنفيذ الأحكام وأحكام التنفيذ وهذا قبل تعاطي أسباب البيلسة وفتح أبواب الوسوسةفانه يقال في الأمثال عقدة تنحل باللسان لا يؤخر حلها إلى الأسنان ما أرشد من أنشد: فكم عقدة أغنى اللسان بحلها ... تراخت وقد أعيت نواجذ أسنان (ثم قال العفريت) للوزير الرابع ما ترى في هذا الأمر الواقع فقال حيث تردد الأمرين آراء مختلفة وأقوال متفاوتة غير مؤتلفة وأقيم على كل قتيل برهان ودليل فنعدد النقل وتبلد العقل وعميت وجوه الترجيح ودرست طرق التصحيح فلا يمكن القول بأحدها ولا الميل إلى مفردها فإن ذلك ترجيح بلا مرجح وتصحيح بلا مصحح فربما يتصور الشيء خيراً وتكون عقباه شراً ويتوهم شراً فتظهر قصاراه خيراً وقد قال منزل الفرقان على أشرف جنس الإنسان وعسى أن تكرهوا شيءً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم وكم من قضية يتصورها الفكر صواباً ويذهل عما تتضمنه من خطا مآبا وكذلك النفس تتصور شيء بصفة وهو بالعكس ولذلك شاهد من وقائع الحس فليس على ذلك معول وشاهده قضية المضيف وع ولده الأحوال فقال العفريت وكيف ذلك أيها الخريت (قال الوزير) أخبرني شخص فاضل أنه كان رجل كامل كريم الشمائل محبوب الخصائل مرغوب الفضائل غزير الثراء يحب الفقراء عذب الموارد مترصد للصادر والوارد لا يسال الضيف من أين ولا كيف وهو كما قيل للضيف والسيف ورحلة الرجال في الشتاء والصيف فنزل في بعض الأيام ضيف من أصحابه الكرام فزاد في إكرامه وأحضر ما طاب من طعامه

فلما رفع السماط ووضع للبسط بساط قال لضيفه الصديق عندنا قارورة من الشراب العتيق كنت ادخرته لنزلك وأعددته لمثلك وما عندي سواها فإن رأيت أحضرناها وتعاطينا الراح لطلب الانشراح فإنها مادة الأفراح كما قيل: وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام فسمع الضيف مقاله وتحمل جميلته ودعا له وأجاب سؤاله فأشار المضيف المفضل إلى ولده الأحوال وقال اذهب إلى المقصورة فإن هناك قارورة وإياك أن تنكسر فإن صدع الزجاج لا يجبر وما بناها ضيرها ولكن ما عندنا غيرها فتوجه إلى ذلك المكان فتراءى له قارورتان فرجع من وقته ونادى لمقته أيها الأب المفيد هناك قارورتان فإليهما تريد فخجل من ضيفه وغضب لئلا ينسب إلى اللؤم والكذب فقال لابنه يا ابن البظرا اكسرا حداهما وهات الأخرى فاخذا العصا وعبر وضرب أحد ما كان تراء للبصر فلم يكن غير وعاء واحد وقد انكسر فخرج إلى أبيه وهو من الفكر في تيه وقال امتثلت ما أمرت وأخذت العصا وضربت فانكسرت إحدى القارورتين ولا أدري الأخرى ذهبت إلى أين فقال يا بني إن الخطأ منك واليك والخطأ في ذلك كان من نظر عينيك وإنما أوردت هذا المقول لتعلم أيها الغول المهول أن أقوى طرق العلم العين وإذا حصل في إدراكها الخلل والشين تراءى الصدق بصورة المين والشيء الواحد بشكل اثنين وهذا أمر محسوس لا تنكره النفوس فكيف ترى تكون عين الفكر المصون وهي بأنواع الحجب محجوبة وبتخيلات الوهم وقضاياه مشوبة ومرآتها إنما هي المعاني دون المحسوسة المشاهدة المباني

(فعلى هذا) ينبغي التأمل في عقبى هذه الحوادث والتدبر في قصارى هذه الأمور الكوارث ثم الأخذ في تعاطيها والشروع في أسباب تلافيها إنما يكون بعد إمعان الأنظار وأنعام التدبر والأفكار (ثم اعلم) أيها الرئيس الداهي النفيس شيخ المكر والتلبيس والبيلسة والتدليس إن الله القديم القادر الحكيم لم يخلق في الموجودات ولم يوجد في المخلوقات أعز جوهراً من الإنسان فانه فضله على جنسي الملك والجان واختصه بدقيق النظر وعميق الفكر وسرعة الإدراك فهو مع عدم الحراك بحكم وهو ساكن على ما تحت الثرى وفوق الأفلاك وشمله بعوائد وعوده بفوائده ولطف به في مصادره وموارده فهو أرحم به من والدته لمشفقة ووالده ووكل بحفظه الكرام الكاتبين وملائكته المقربين ورباه في حجر نعمته علىموائد لطفه وكرمه ورحمته كما ترى بي الوالدة الشفيقة والظئر الرقيقة الرفيقة وألهمهم العلم الغزير والقدر الخطير والرأي والتدابير وأطلعهم على غامض الأسرار ودقائق الأفكار وأن علمنا بالنسبة إلى علمهم وحلمنا في القياس إلى ثباتهم وحملهم كنيسة علم الفلاح المغتر إلى علم الطبيب المعبر بحسن النظر قال العفريت أخبرني بذلك يا شيخ المصاليث (قال الوزير) أخبرني شيخ كبير انه رأى في منامه فلاح كأنه خرج من بطنه مفتاح فلما أصبح الصباح جاء إلى رجل من أهل الصلاح يعبر المنامات وكان ذا كرامات فقص عليه رؤياه وطلب منه تعبير ما رآه فقال له يا رئيس هذا منام نفيس لا أذكر ما فيه من تعبير إلا بدينار كبير فحصل له بشارة فناوله ديناره فقال بولد لك ولد ذكر يكون سبباً للفتوح

والظفر وكان له زوجة حامل بقي لها أيام قلائل فولدت أيمن غلام بعد ثلاثة أيام فاستبشر الفلاح بالظفر والنجاح ثم بعد مده حصل الفلاح شده من مرض آلمه وأصاب قدمه فجاء إلى معبر المنام وشكا إليه الآلام وقال ألمي في قدمي ضاعف همي وأضعف هممي فقال له الطبيب لا بأس يا حبيب هذا داء هين وعلاجه بين أعطني ديناراً ثانياً أصف لك دواء شافياً فأعطاه ما اشتهى واستوصفه الدواء فقال ضمده بعجة بيض كثيرة الإبراز وضع عليه عسلاً مسخناً على النار ففعل ذلك فبرئت قدمه وزال بالكلية ألمه ففكر الفلاح في فعل المعبر الطبيب وقوله المصيب وأمره العجيب فأنه بأدنى عبارة عير المنام وبأوهى إشارة أزال الآلام فرأى الراحة في ترك الفلاحة والاشتغال بعلم الطب والتعبير فانه أمر هين يسير وبأدنى أمر حقير يحصل المال الكثير فباع آلات الزراعة وعزم على تعاطي ما في الطب والتعبير من صناعه وجمع كتباً ودفاتر وكراريس محزمة مناثر ووسع أكمامه ووضع على رأسه عمامة كغمامة وجميع عقاقير وأوراق وبسط بسطه في بعض الأسواق وأشار على لسان مخبر أن المكان الفلاني فيه طبيب معبر وهو أستاذ الزمان وعلامة الأوان وتلامذة في الطب حكماء اليونان وفي التعبير ابن سيرين وكرمان وتصدر كابي زيد وساسان عاملاً بما قاله شيخ البيان وهو:

الطب أهون علم يستفاد فطر ... بين الأنام به طير الزنابير واجمع لذاك كراريساً منثرة ... وجملة من حشيش من عقاقير رضع على الرأس بقياراً تدوره ... كقبة النسر في وزن القناطير واجمع معاجين من رب تخلطها ... واسحق سفوفاً واكحال العواوير وسم ما شئت من أسماء مغربة ... كالسند والهند والسرحا وخنفور وقل من الهند جا هذا ومن عدن هذا وهذا أتى من ملك فغفور وذا من البحر بحر الصين معدنه ... وذا من البربر المدعو وبيربور فإن رأيت بالاستسقاء ذا ورم ... فقل تورم من لسع الزنابير إن أقشعر فقل برد عراه وأن يحم قل حره وهج التنانير وإن أتاك مريض لا تخف وأشر ... بما ترى من دواء دونه البوري فأن يعش قل دوائي كان منعشه ... وإن يمت قل أتاه حكم مقدور كذلك الرمل والتنجيم خذه على ... هذا المثال وخض في علم تعبير فإن أصبت فقل علمي ومعرفتي ... وفي التخالف قل ذد المقادير وإن رأيت فقيها فر منه ولا ... تنطق يخطئك في فسق وتكفير وأنت تحتاج في هذا وذاك إلى ... ذوق ومعرفة مع حسن تدبير فاتفق أن زمام خليفة الأنام رأى في المنام شيأ هاله وغير حاله فحصل له في رأسه صداع وفي فؤاده أوجاع فسمع بهذا الربع الجديد وأنه أستاذ مفيد فأرسل إليه وعرض ما رآه عليه فقال هذا منام يدل على

خير وأنعام وبقاء ذكر الزمام على الدهر والأعوام ولكن لا أعير هذه الأحلام إلا بدينار تمام فناوله ديناراً وأظهر استشاراً فقال له يولد لك غلام بعد ثلاثة أيام فضحك الزمام من هذا الكلام وقال يا أمام أنا رئيس الخدام ظواشي بلا شي لا زوجة ولا سرية ولا آلة ولا شهية فمن أين لي هذه السعادة ولا فرحت بحسن الحسنى فأنى تحصل هذه الزيادة فلا تسخر مني وكف كلامك عني وأخبرنيبتعبير هذا المنام ودع عنك الملام فقال حقاً أقول وأنا جربت هذا المقول وقد عبرت لك هذا التعبير ولا ينبئك مثل خبير فقال الزمام يا أخي دع هذا المقال فإن وجود الولد مني محال وأنا رجل بي وجع وما بقي في منتجع فقال وماذا تشكو وألمك في أي مكان هو فقال في فؤادي أوجاع وفي رأسي صداع فقال يا زين من فاخر أعطني ديناراً آخر أصف لك أيسر دواء يحصل لك منه العافية والشفاء فدفع إليه الدينار وطلب منه دواء الدوار وما بفؤاده من ألم أورثه الوهج والضرم فقال يا أبا الفيض ضمد رجلك بعجة بيض مضافاً إليها عسل مشتار وليكن ذلك كشتار وليكن ذلك مسخناً بالنار فاستشاط الطواشي غضباً وفار كالنار شواظاً ولهباً وعرف أنه جاهل وعن طرق العلم غافل فأدبه التأديب البالغ ورده إلى ما كان عليه مكن منادمة السالغ واستمر على كلاحته بعد رجوعه إلى فلاحته (وإنما أوردت) هذا المثال يا غول الأغوال لتعلم أننا إذا اشتغلنا بمناظرتهم اشتظنا في محاورتهم لأنه في دقيق الأسرار وعميق الأفكار وتحقيق الأنظار لا يقاوم أحد جنس الإنسان فكيف يستطيع الجان معارضة من أيده الله تعالى برفيع المعاني وبديع البيان فإذا فقابلناهم في المباحث بالمعارضة تعود مسئلتنا علينا بالمناقضة

فلما رأى العفريت خور ذلك الصفريت وأنه نكل عن المقاومة ونكص عن المصادمة خاف أن تكون آراء الوزراء تبعاً لرأيه في عدم لقائه وظنهم مستحسنين لدهائه مستصوبين لآرائه فأرخى عنان الكلام ليقف على ما عندهم من مرام وكان عزمه المباحثه والمعابثة والتصدي للأقدام وإلقاء المسائل بحضرة الخاص والعام لكن مشى مع إمام الوزراء ليرى ما هم عليه من الآراء (فقال للوزير) نعم ما قلت أيها الوزير والرأي ما سرت من الرأي والتدبير فإن الله تعالى خلقنا من النار وطبعها الإهلاك والدمار وإحراق كل رطب ويابس وبارد وحار والظلم والخسار والإفناء والجهل والبوار وطلب الرفعة وعدم القرار وافساد ما تجده من غير فرق بين نفاع وضرار وخلقهم من تراب وإليه الأياب وطبعه الحلم والسكون والترابية والركون والعلم والعدل والإحسان والفضل ومع هذا فلو خرجوا عن مادة ما جبلوا عليه وتلبسوا بغير ما ندبوا إليه ولو أدنى الخروج ورعوا ما للمارج من مروج لتحكمنا فيهم كما نختار وللعبنا بهم كما يلعب بالكرة الصغار ونحن إذا خرجنا عن دائرة طبعنا وتخالفت أوصاف أصلنا وفرعنا ونقلنا إلى دائرة الخبر عن جادة الشر أقدام صنعنا لا يقع لنا منهم صيد ولا يؤثر لنا فيهم سيف كيد فإذ عجزنا عن الإيذاء في الظاهر لم يبق إلا الأغواء من باطن الضمائر والتعلق بأسباب ما نصل إليه من الحيل البواطن والظواهر فقد قال الحكماء وأهل التجارب ومن ابتلى من مكايد الدهر بالنواثب ومنى من ذلك بالعجائب والغرائب إذا تصدى الإنسان وقصد غريمه وعجز

عن مقاومته في الحكومة والخصوصه فعليه يهدم ذلك الجبل بمغناطيس الخداع ومعاويل الحيل ويستعين في ذلك بأهل النجدة وذوي البطش الشديد لشدة فيتوصل بهم إلى حسم ذلك الداء ولو كانوا أعداء غير أو داء فتسلط بعض الأعداء على بعض من أيمن سنة بل من أحسن فرض ولقد أحسن من قال: تغرقت غنمي يوماً فقلت لها ... يا رب عليها الذئب والضبعا ولا يوجد في هذا الباب لجمع شمل الأعداء أوثق من تفريق الأحباب ومصداقه قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً وما قويت أعضاد الإسلام إلا باجتماع كلمة الأنصار والالتئام ولهذا قصد من نافقوا لما ترافق الأنصار وتوافقوا أن يتشاققوا ويتفارقوا فأنزل عليهم واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وهذا الفن يحتاج إلى فكر عميق ومكر دقيق وعقل كبير وفعل كثير ومصيب رأي وتدبير وسلوك في طريق اصطناع كما فعلت الفأرة من الخداع فقال الوزير ينعم مولانا الباقعة بتحقيق هذه الواقعة (فقال) سمعت أن بعض التجار كان له بستان في دار وإلى جانبه حاصل فيه المغل المتواصل وفي ذلكالحاصل وكر لشاطر من شطار الفار له عدة منافذ وإلى الجهات طرق ومآخذ أحدها إلى جهة البستان والبستان كأنه جنة رضوان فكانت الفاره ذات الشطارة والمهارة تأخذ من الغلات وأطايب الطعامات ما يكفيها غداء وعشاء صيفاً وشتاء

وفي وقت المصيف تخرج من ذلك المنزل اللطيف إلى جهة البستان فتتمشى بين الغدران وتترقى إلى أعلى الأغصان وتتمرغ في المروج والرياض وتتبخر في ظلال الدوح والغياض ثم تعود إلى وكرها وتأرز إلى حجرها وكان عيشها هيناً وأمرها رضياً ومضى على ذلك دهرها وانقضى في أرغده عيش أمرها ففي بعض الأحيان خرجت على العادة للتنزه في البستان فمر بسكنها أفعوان فرأى مكاناً مكيناً وسكنا حصيناً بالأطعمة محفوفاً وبطيب الأغذية مكنوفاً فدخله واستوطنه وترك ما سواه من الأمكنة فلما رجعت الفارة إلى مكانها المألوف وجدت به العدو الظالم العسوف فأحاط بها من الأمر المخوف مما يحصل من الذئب إذا عانق الخروف فأسرعت إلى أمها وشكت إليها نوائب غمها وما دهمها من نوازل همها فقالت أمها لا شك أنك ظلمت أحداً أو وضعت على ما ليس لك يداً أو تعديت الحدود أو عاملت مغرماً بالصدود فجوزيت بإخراجك من وطنك وإبعادك عن مقرك وسكنك ومن ظلم ضعيفاً عاجزاً سلط الله عليه قوياً لاكزا وقد رأيت يا أنسي في حديث قدسي اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصر أغيري فلا تطيلي الكلام ولا تتصوري أنك ترجعين إلى مالك من مقام ولا طاقة لك على مقاومة الثعبان فدعى تعب الخاطر واطلبي لك مأوى غير هذا المكان فتوجهت إلى ملك الفار والجرذان وشكت ما بها من ذلك الشيطان وقالت أنا في خدمتك ومعدودة من رعيتك

عمري على ذلك مضى وزماني في إخلاص العبودية انقضى وأبي كان في خدمة أبيك وجدي عبد جدك وذويك لم نزل في رق الطاعة متمسكين بحبل سنة الولاء مع الجماعة كل ذلك لأمر يدهم أو نازلة تقدم فنستدفع ذلك الخطيب بخطابكم ونستكفي هول ذلك النازل بجنابكم والآن لقد وقعت حادثه بالباب عابثة وبالأفكار عائثة وللأرواح كارثة وذلك أني خرجت من مسكني لطلب قوتي ثم رجعت إلى مبيتي ذو فوجدت ظالماً قد استحوذ عليه وغاصباً قد دخل إليه وهو ثعبان مالي به يدان وقد تراميت على جنابك أستدفع هذا البلاء بك فقال ملك الفار يا سائبة الأشفار من ترك ماله سائباً فقد جعله ذاهباً وقال ذوو الأعتبار وأولو الأبصار ينبغي بل يجب على الدزدار وحافظ القلعة والحصار أن تكون رجله ذات عرج وانكسار لئلا يكون دينار وجوده خارج الدار وأنت أيتها الفارة فرطت في أمرك والمفرط أولى بالخسارة وقد خاب منك المسعى لأنهم قالوا ظلم من أفعى ومن ظلم الأفعوان أنه لا يكد نفسه في حفر مكان وتهيئة مبان ومغان ولكنه حيث وجد مسكناً اتخذه لنفسه مقاماً وطناً وهذا قد عرف مكانك النزه وهو جبار شره فلا يزايله ولا يقابله ومن أين يلتقي مثل هذا المأوى وفي المثل عرف الكلب بيت العميا فالأولى أن ترتادي لك موضعاً فتتخذ به مقاماً ومرتعاً فقالت الفارة وقد تأثرت لهذه العبارة يا أيها السلطان وملك الفار والجرذان فما فائدة خدمتي وانقياد أبي وطاعة جدي الكبير الأبي وإذا كنتم في الدنيا لا تنفعونهنا وفي الآخرة لا تشفعون لنا ولا تدفعون في الأولى صدامات الدواهي والبلا ولا تحمون الأوداء عن مواطئ أقدام الأعداء

ولا تدفعون في الأخرى نوائب الطامة الكبرى ولا تحلونا بما لكم من الاستيلاء غرف الدرجات العلى فأي فائدة لكم علينا ونعمة منكم تسدي إلينا وهل أنتم إلا كما قيل في الأقاويل: إذا لم يكن لي منك عز ولا غنى ... ولا عندما يغتالني الدهر موئل فكل التفات لي إليك تكرم ... وكل سلام لي عليك تفضل فقال ملك الفار يا قليلة الاستبصار العديمة العقل والأفتكار إذا اجتهدنا في ردك إلى مكانك وكنا على الثعبان كجندك وأعوانك فهل تشكين يا مسكينة وبنت مسكين في أن الأفعى تتوجه إلى سلطانهموتخبره بشأنها وأنها أخرجت من مكانها وتستنصر بأعوانه وتنتصر على سلطاننا بقوة سلطانه وتستجيش وتستغيث وتغري علينا ذلك الخبيث كما فعل الرافضي العادي العلقمي البغدادي حين دعا التتار الطغام لخراب مدينة السلام ومن بعده الذميم نابذة الإمام وقصد دمار ديار الشام ولا طاقة لنا بعساكر الحيات ونحن في أحيائهم كعساكر الأموات فتذهب الأموال والأرواح وتتعب القلوب والأشباح ومع هذا الأمر المعلوم حصول القصد والظفر موهوم فبالله اتركيني واذهبي واطلبي لك مسكناً غيره ولا تتعبي فقالت هذا منزلي القديم وميراثي عن سلفي الكريم وأين أذهب وفيمن أرغب أن لم تغثني هلكت وانذهلت وانسلبت فقال لا تطيلي القول فلا قوة لنا ولا حول فلما أيست الفارة الغدارة تركت سلطانها

وذهبت وسلكت طريقها وانقلبت وأنشدت فأرشدت: أبعين مقتفر إليك نظرتني ... فحقرتني وقد فتني من خالق لست الملوك أنا الملوك لأنني ... أنزلت آمالي بغير الخالق ثم غاصت في بحر الفكر وتشبثت بأذيال المكر واستعرضت على مرآة أفكارها وجوه الحيل واستورت من زناد آرائها سرر النظر في الجدل وأخذت تطوف في أكناف البستان فعثرت في طوافها على ذلك الأفعوان نائماً تحت ورده متطوقاً في أهنى رقدة فرقت غصناً من الأغصان فلاح لها الباغيان قد سقى البستان وهو تعبان متكئاً في الرياض على مسكبة ريحان فاغتنمت الفرصة ونزلت إليه وقربت منه ودارت حواليه ثم وثبت على وجهه وكان نائماً فانتهض مرعوباً قائماً فذهبت واختفت وبذا القدر اكتفت فرجع ونام وغرق في المنام فدخلت في قميصه ورقصت فاستيقظ متعجباً منزعجاً فرآها فهربت ونكصت ثم عاد وأتكا بعدما وغضب وانتكى فوثبت على وجهه وأدخلت ذنبها في أنفه فنهض مستيقظاً مجداً فرآها واقفة لا تتعدى فقصدها فهربت ثم رجع فآبت وأتت فنام في مسنده فقربت منه وعضته في يده فانكته وآلمته وهجته بما أضرمته فطفر من مرقده وأخذ غصناً بيده وقصدها وقد ذاق نكدها فهربت غير بعيد فرأى وجهها من حديد فتبعها فمشت ثم وقفت وارتعشت تطمعه في صيدها وهو غافل عن كيدها فتبعها وهي قائده حتى انتهت به إلى الحية الراقدة فعندما رأى الثعبان نسي أفعال بنت الجرذان فقتل تلك الأفعى ولم يخب للفأرة مسعى (وإنما أوردت) هذه الحكاية لتقفوا منها على طريق النكاية وليعلم الضعيف إذا كان له أعدا كيف يوقعهم في مصايد الردى وإذا استعمل اللبيب العقل المصيب والفكر النجيب وساعده في ذلك قضاء وقدر نال ما أمل وأمن ما حذر وأفلح أمره ونجح فكره وهذا إذا كان الضعيف

مظلوماً والقوى ظالماً غشوماً كما أنتم عليه مما توجهتهم إليه من معاداة شيخ الشام المستحق للتجبيل والإكرام والتعظيم والاحترام فانه على الحق وأنتم ظالمون وقاصد الصدق وأنتم كاذبون يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون فهذا أمر مشكل وداء معضل فأني تصح أبدانكم وقلوبكم مرضى ومن يحبكم وأنتم محسوبون من البغضا وكيف تقتفون وأنتم على الباطل وفي أي ذوق يحلى ما منكم من عاطل وأنا أخاف أي أجلاف أن تسفر هذه القضايا بعد ارتكاب البلايا وتحمل المشاق والتعب باقتحام موارد الهلاك والنصب عما هو وأشد وأنكى وأحر لعينكم وأبكى كما أصاب مضيف العراق مر زوجته بيدة ذات النطاق حين بدا منها الزنبور على حافة التنور فقال الوزير للعفريت أفدنا هذا الصوت يا ذا الصيت (قال) نزل في بعض الرستاق من بلاد العراق فقير نحيف على مسكن ضعيف وكان بعض أيام الخريف والبرد الشديد يقطع الحديد فبعدما طبخوا وتعشوا سجروا النار ليتدفوا فبقي كل من الحضور يتدفأ على جانب التنور فقعد الضيف مقابل زوجة المضيففظهر من تحت نطاقها وجه ذلك الحر الظريف ولاح من تحت السجيف كأنه قرص أو رغيف أو قند عسلي نظيف أو خد جندي نتيف أو القمر شق نصفين أو بدر لاح من تحت ذيل حنين

فلما أحس بحرارة النار وظهر على وجهه الاحمرار صار يتلمظ ويتحلى ولسانه من الحر والدف تدلى فلمحه الضيف وهو يتثائب فتمطى قائم رمحه ونحوه قام وتصاوب وقد قيل في الأقاويل عضوان متعاونان وهما اليدان وعضوان مختلفان وهما الرجلان وعضوان متتابعان وهما العينان وعضوان متصاحبان وهما اليد والفم وعضوان متباغضان وهما الأست والأنف وعضوان متوافقان وهما العين والأبر وكان الضيف يسارقه النظر وبترشف شفاهه بلسان الفكر ويود في مطالعة جبينه لو أتبع العين بالأثر وجعل يتغنى ويترنم ويهيم بما يتكلم: ليس في العاشقين أقنع مني ... أنا أرضى بنظرة من بعيد فتنبه أمام هواء الهاجد وجعل يقوم ويقع وهو راكع ساجد ويسلم على محرابه أحسن التحيات ويتشهد رافعاً إصبعه بالسلام والصلوات ثم غلبته الحيرة فاخذ يجلد عميره فنظر صاحب البيت فرأى الضيف غارقا في ذيت وذيت مشغولاً بكيت وكيت متأملاً معنى هذا البيت: وعند الملتقى انكشف المغطى ... تثاءب كسها أيرى تمطى فأراد أن ينبه ربة البيدار على هذا العثار لتستر حالها وتغطي مالها بطريقة لا يؤبه إليها ولا يقف ضيفها عليها فمد يده إلى سفود وحرك به

النار ذات الوقود فعلق من النار به في الطرف وما شعر بذلك أحد وما عرف ثم لعب ساعة بذلك العود وأوصل في خفية طرفه إلى ذلك الشق المعهود لتيقظ فتتحفظ فشوظها وأجرها وأحرق رأس السفود بظرها فالتأمت وانضبطت واحترقت واختبطت وتحركت بزعجة فضرطت فزادت فضيحة الأنف والأذن ولم يحصل من تلك الحركة إلا الخجالة والغبن (وإنما أوردت) هذه الحكاية لتتأملوا في الغايات والنهايات فإن من لا يراقب ما يأتي في العواقب ما الدهر له بصاحب وهذا الرجل الصالح القيم الراجح ما فاق أقرانه وساد أصحابه وإخوانه إلا بشيء تقدم به عليهم وتحقق موجب تقدمه لديهم وذلك درجات العلم والعمل فبذاك ساد الرجل وكمل وقال منزل الآيات وخالق البريات يرفع الله الذين آمنوا ومنكم والذين أوتوا العلم درجات وقد برع في أنواع العلوم وأطلع على حقيقتها من طريقي المنطوق والمفهوم وأنتم عن طريقه غافلون وعن حقيقة ما هو عليه ذاهلون واعلموا أن طريقه واحدة وهي الحق وطرقكم متعددة وكلها فسق وأتباعه على اتباعه متحالفون وأنتم في طرائقكم القدد متخالفون فقد قال الله تعالى في محكم تنزيله وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال بعض أهل الفضل وكلامه في بيان الحق فصل ما ناظرت ذا فنون إلا غلبته وما ناظرني وذو فن إلا غلبني وإنما أخشى أن ناظرت هذا الرجل الكامل الفاضل أن لا أحصل منه على طائل ويظهر فضله قصوري فينهدم بنيان قصوري

فقال الوزراء بعد أن اتفقت الآراء كلمة واحدة متفقة متعاضدة نعم ما رأى مولانا الرئيس صاحب التدليس وإسناداً التلبيس وأنجب أولاد إبليس ونحن أيضاً يا باقعه نخشى عاقبة هذه الواقعة ولقد جرى مثل هذا المجرى بين بزر جمهر ومخدومه كسرى في قضية فاق فيها الوزير مخدومه الكبير فسأل العفريت وزراء عن بيان ذلك الشبان كيف كان (فقالوا) بلغنا أيها الخنس الملقى الوسواس في صدور الناس أن بزر جمهر الوزير كان ذا علم غزير ورأى وتدبير وبديهة جواب تفحم الكد والتفكير وكان حكيم زمانه وعليم أوانه وممن فاق في الفضل والحكم سائراً أترابه وأقرانه وكان مقرباً عند مخدومه يزيد في كل وقت في تكريمه وتعظيمه وتوقيره وتفخيمه ويصغي إلى نصائحه ويعد قربه من أعظم مناجحه ويصبر على كلامه الصادعووعظه القارع ونصحه القارع لما فيه من الفوائد والمنافع والحكم والبدائع وقد قيل من أحبك نهاك ومن أبغضك أغواك فكان الوزير يبادر قبل سائر الخدم في وظائف الخدم ويعجل من الليل والظلم حتى كأنه يوافق النجم أو يسابقه في الرجم ومع ذلك كل يوم يجد مخدومه راقداً في النوم فيقرعه بالغفلة وينقم عليه هذه الفعلة ويعلن بالندا وينادي في الملا فيقول أفق يا محجوب وتيقظ حتى تظفر بالمطلوب فمن باكر نجح ومن فلس المطلوب أفلح ومن تخلف في النوم سبقه إلى المنزل القوم وفاته المطلوب ولا يدرك المحبوب واترك لذة الكرى فعند الصباح بحمد القوم السرى وكان كسرى يجد لهذا الكلام أنواعاً من الآلام لأنه كان يطيل السهر إلى وقت السحر عاكفاً على

المدام وسماع الأنغام ومغازلة الغزلان ومعاقرة الندمان وإحياء الليل عمر ثان فإذا نام واستراح امتد نومه إلى الصباح فلا يوقظه إلا عياط الوزير وصراخ ذلك الصائح النذير فلما طال عليه المطال وغلب عليه من ذلك الملال أرصد للوزير في الطريق من منعه عن التبكير بالتعويق فتصدى له الرصد وأعروا رأسه والجسد وأخذوا قماشه وسلبوا رياشه فرجع إلى بيته مكرهاً ولبس ثياباً غيرها فأبطأ في ذلك اليوم وتخلف في الخدمة عن القوم ولم يجيء إلا وقد استيقظ كسرى من النوم وهو جالس في صدر الإيوان وحواليه مباشر والديوان وسائر الوزراء والأركان وعامة الجند والأعوان كل في مقامه ضابط زمامه فأدى بزر جمهر وظائف الخدمة على عادته ووقف في مكانه مع جماعته فقال كسرى ما دعا مولانا الوزير في هذا اليوم المنير إلى التخلف والتأخير وترك التبكير وإنشاده بالتبكير قول الشاعر الكبير: بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير فقال إن الحرامي عارضني أمامي وقصدني في ظلامي فأخذ شاشي وسلبني قماشي ورياشي فرجعت إلى كناسي وجددت زينتي ولباسي فهذا سبب تأخيري وعدم تبكيري وموجب تخلفي عن وعظي وتذكيري فقال كسرى ما أفادك التذكير إلا الغرامة في التبكير ولولاه ما سلب القماش ولا ذهب الرياش ولا قام الحرامي بالمعاش فأين الفلاح في القيام قبل الصباح فقال بزرجمهر في الحال وقد أصاب في الجواب ليس ذلك كذلك يا إمامي وإنما بكر قبلي الحرامي ولم أباكر أنا بالنسبة إليه فرجع فائدة تبكيره مني عليه فعجب كسرى من خطابه وسرعة بديهته في جوابه

(وإنما أوردت) هذا القول بين يدي إمامنا الغول أو شيخ المردة الهول ليعلم أن كسرى وإن كان عالماً وفاضلاً وحاكماً كما أذعن لكلام وزيره واتبع رأي مشيره وانصف من نفسه إذ أدرك الوزير بفهمه ما لم يدركه هو بحسه فاسترسل معهم العفريت فيما هم عليه والتخلف عما ندبهم إليه وقال فبأي الحبائل نصيدهم وبماذا نكيدهم فقال أحد الوزراء بالنساء فإنهن زمارة المحن وطبل الفتن والطبل لا يضرب تحت الكساء هن أعظم وسائلنا وأحكم أوهاقنا وحبائلنا وناهيك ما قاله العزيز العليم الذي جبلهن على غير تقويم وفطرهن على الكيدان كيدكن عظيم وجعل كيدنا بالنسبة إلى كيدهن سخيفاً فقال أن كيد الشيطان كن ضعيفا وقال سيد السادات ورئيس الرؤساء ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وقال الولي ومن قدره الرفيع على: إن النساء شياطين خلقن لنا ... نعوذ بالله من شر الشياطين وقال من أجاد في المقال المسامع بالأقوال حيث قال: وما حز أعناق الرجال سوى النسا ... وأي بلاء جاء لسن له أهلا فكم نار شر أحرقت كبد الورى ... ولم يك إلا مكرهن لها أصلا وإنهن أشرك الأشراك وأوهاق الأزهاق واسواق الغساق ومصائد المصائب ومراصد النوائب وحسبك يا ذا الدها مأوى ذلك الحكيم حين سها وأعن لزوجة لرئيس إذ نبهته على ما عنه لها فسألالعفريت عن تلك الحالة وبيان ما فيها من المقالة

(فقال) ذكر أن حكيماً من العلماء وعالماً من الحكماء أولع بضبط مكر النساء وشرع في تدوينه صباحاً ومساءً وصار يجول البلدان ويطالع لذلك على كل ديوان ويكتب ما يكون وما كان ويحرر من ذلك الأوزان بالمكيال والميزان فنزل في بعض الآناء على حي من الأحياء فصادف ذلك التعس بنت الرئيس فتلقته امرأة ظريفة ذات شمائل لطيفة وحركات رشيقة خفيفة وقابلته بالترحاب وفتحت للدخول الباب فاقبل عليها وترامي لديها فأنزلته في صدر البيت وأخذت معه في كيت وكيت كأنها معرفة قديمة وحديثة كريمة وكان زوجها غائباً قد قصد جانباً فشرعت في نزل الضيف لئلا تنسب إلى بخل وحيف فأخذ يطالع في ديوانه ويسرح سوائم طرفه في ظرف بستانه يشغل أوقاته ويتفكر ما فاته ليتعاطى إثباته فقالت له ضرة الريم ما هذا الكتاب العظيم أيها الفاضل الحكيم فقال شيء صنعته وكتاب ألفته وهو في الغربة أنيسي وفي الوحدة جليسي فقالت يا ذا الحكم والحلم ما فيه من فنون العلم فقال سر مصون وأمر مخزون ودر مكنون لا يجوز إبداؤه ولا يحل إفشاؤه فقالت يا ذا الشكل الظريف والصوف اللطيف والعلم المنيف هذا التعريف لا يليق بالتصنيف فإن فائدة التصنيف الاشتهار وثمرة العلم الانتشار ودونك ما قاله الكئيب في مخاطبة الحبيب: أذقني من رضابك يا حبيبي ... فما للشهد دون الذوق لذة وما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن أن يعلموا

فقال الأمر كذلك يا زين الأمور ولكن هذا علم يصان عن ربات الخدور فقالت إن الله الجليل الذات الجميل الصفات ذكر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وما منع نساء الأنصار الخيرات الأطهار أن يسألن المصطفى المختار عليه أفضل الصلاة والسلام عن غسل المرأة في الاحتلام ولا أن يلجن معه المخاضة في السؤال عن الحائض والمستحاضة فجمع في ميدان الامتناع وأصر على الممانعة والدفاع وقال يا حصان هذا سر يصان لا سيما عمن في دينه وعقله نقصان فأغراها هذا المقال على الإلحاح في السؤال وزادت في اللجاج ومارت في الاحتجاج وترامت لديه وأقسمت بدلالة الدال عليه فقال هذا علم ما أسبق إليه جمعت فيه مكر النساء ومن أجاد منهم ومن أساء ومن تعاطت لطائف الحيل وخفي الفعل وخفيف العمل ومن دعت بدعاها حتى بلغت مناها ومن وقعت في الشدائد فاحتالت بدقيق فكرها لتلك المكايد وتخلصت من شرك المصايد فلما سمعت ما قال ووعت سكت وجهها وأعربت تقهقها وتمايلت تمايل القضيب وقالت سر غريب وأمر عجيب وضيعة عمر حاصل

فيما لا تحته طائل وشغل سر وبال في جمع أمر محال لقد ركبت المشاق وكلفت نفسك ما لا يطاق ونسفت الرمل بالكربال وغرفت البحر بالغربال فإن مكر ربات الخدور لا يدخل ضبطه بسفر تحت مقدور فقال لها أنت غبية وعن هذا الكلام غنية وإن كنت فاضلة ذكية أنا قد بلغت في ذلك الغاية وأحطت به بداية ونهاية ووقفت على نجمله ومفصله فلم يشذ عني شيء من آخره وأوله فسلمت وما تكلمت وغالطت وما بالطت في هذا المقام شيءً فريا ونسياً منسيا ثم نزلت من برج المنازلة وأخذت تلك الغزالة في المغازلة وانتهى بها المقال إلى هذا السؤال فقال أيها اللبيب الماهر ما معنى قول الشاعر: يهددني بالرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالثفالرمح الواحد قامته والرمح الثاني ما حوته راحته. وقل يا أبا الحارث ما هو الرمح الثالث فقال: ذلك النبيه قبل ما يظهر من تثنيه فإن هزلين أعطافه وسرعة انعطافه تراه العينان كأنه رمحان وقيل ما يظهر ذلك المهفهف عند هزه الرمح المثقف فإنه

يتراءى للعين الشكل الواحد اثنين ولهذا نظير في اليوم المطير وأحسن مثال عند رشق النبال وفي تدوير المحجن وفتل الصولجان عند سرعة الدوران. وقيل كأن معه رمحان فعده واحداً وهما اثنان وعندي يا دمية القصر أنه ليس المراد الحصر وإنما المراد التكثير يا ضرة البدر المنير لأن عطفه كلما انهز هزه حصل في صدر المتيم وخزه ورمح قامته يثنى ويتقصف فتارة يميل وأخرى في بتثقيف ولطعن العشاق يخطر ويتهفهف فالمتيم لا يبرح من قده في طعنات كما لم يزل من سهام جفنه في محزات ووخزات وهو من المجاز المرسل إذ المراد الطعن من ذلك الاسل وكأن قصده أن يسرد الأعداء إلى غاية ويبلغ ما لا نهاية فيقول ثان وثالث ورابع وخامس وسادس وسابع فلم تسع القافية: يا من بوصلها شافيه ... ورضابها عافيه ونظير هذا يأجره إن تستغفر لهم سبعين مرة، وليس المراد الحصر يا رقيقة الخصر ويا عين العين في السبعين حتى لو زاد على هذا العدد لغفر لهم الواحد الصمد بل المراد أنه لا يغفر لهم ولو زاد فقالت: يا صاحب البيان وربه إنما عنى بالرمح الواحد زبه فأفصحت له بالكلام عما لها من مرام كأنها ثالثة بنات همام فخجلت عين الرجل واستحت لما أفصحت عن مقصودها وأوضحت

فقالت: حبيت وحييت لا تستح واصنع ما شئت فحركت بهذا الكلام العابث من الشيخ الحكيم الرمح الثالث فمد إليها يد الفاجر العائث وذهب لب ذلك الرجل الحازم، وراودها مراودة العازم الجازم، وصارت تلك اللاعة بين الأطماع والمناعة تنثني وتنقصف فتارة تتثقف وأخرى تتخسف وبينما هما في المجاذبة جاء زوجي وهو عنيف عنيد فسلب الفرار وطلب الغرار ووقع ذلك الحكيم النبيه في فتنة فيها الحليم سفيه ودهمه ما هو أهم مما هو فيه من دواهي العشق ودواعيه ونسى العشق والعشيق وطلب الخلاص من المضيق وأظهر صورة حاله ما عناه الشاعر في قاله: سألت مجربا طبا عليما ... خبير بالوقائع مستعاذا وقلت الشهد أحلى أم رضاب ... أم النيك الذي للروح حاذي فقال وحق ربي النفس أولى ... إذا جر الجزا هذا وهذا واشتغل الحكيم بنفسه وخاف حلول رمسه وكان في طرف البيت صندوق مقفل عليه ستر مسبل ففتحت له الصندوق ورعت له بإخفائه عن زوجها الحفوق وأمرته بولوجه ليكفي من زوجها شر خروجه فشكر لها صنعها وامتثل وانسل إلى ذلك اللحد الضيق فأقفلت عليه أغلاقه وأحكمت وثاقه ثم تلقت زوجها بالترحاب ودخلت معه في الأطعمة من كل باب وقدمت له ما أكل وانسدحت له فركب ووكل

ثم قالت أخبرك يا حبيب بوقوع أمر غريب وحادث بديع عجيب وهو أنه قدم حكيم فاضل حليم عالم عظيم فأكرمت نزله، وبوأت منزله، وكان معه كتاب فيه العجب العجاب فسألته عما حوى فقال مكر النسا فقلت له هذا شيء لا يحصى ولا يحصر ولا يجمعه ديوان ولا دفتر فلم يسلم إليّ ولم يعول علي وذكر أنه أنهاه ولم يدع من مكر النسا فنا لا أوعه إياه فما وسعني إلى أني غازلته وداعبته وهازلته فطمع من لين محاورتي في حسن مزاورتي وطلب مني ذلك العقوق ما هو أعز من بيض الأنوق، وبينما نحن في العيش الرغيد وإذا بك أقبلت من بعيد كل ذلك والحكيم يسمع قولها وما تخبر به بعلها فلما سمع الزوج هذا الكلام اضطرب وزمجر فلم يبق الحكيم مفصل إلا ارتجف فقال هاهو في الصندوق مختفي فخذ ثارك منه واشتفي فنهض وصاح هاتي المفتاح فعلم الحكيم أن عمره ذهب وراح، وكان سبق من زمان، بين الزوجينعقد رهان أنه من فتح منهما الصندوق غلب وأقام لصاحبه بما طلب فلما ذكرت له حكاية الحكيم تذعنه عقد الرهن القديم وذهل لشدة الغيرة ووفور الحيرة وتوجه إلى الصندوق فبمجرد ما فتح القفل المغلوق صاحب عليه غلبتك يا معشوق فأد ما ثبت لي عليك من الحقوق فتذكر عقد المراهنة ولم يشك أن كلامها كان مداهنة فضحك بعد ما كان عبس وألقى المفتاح من يده وجلس ولعنها ومكرها ولعبها وفكرها ثم اصطلحا وانشرحا وزاد انشاطاً ومرحاً ثم خرج في ضروراته وتوجه إلى حاجاته فأقبلت تلك العروس إلى الحكيم

المحبوس وأفرجته من الاعتقال وذكرت له هذه المناقلة والانتقال وقالت أيها الحكيم العظيم هل كتبت هذه المناقلة كتابك الكريم فقال لا والله الرحمن الرحيم وإني قد سلمت إليك وتبت إلى الله علي يديك (وإنما أوردت) هذا المثال لأعرض على شيخ السعالى وإمام الأغوال أن النساء في هذه الحركة أعظم متشبث وأقوى شبكة وهن لسلب اللب من الرجال أضعاف فتنة المسيح الدجال خلقهن أعوج وخلقهن أهوج ورأيهن غير سديد والرجال لهن أذل عبيد وإن كن ناقصات عقل ودين، فهن الكاملات في سلب العقل المتين والفكر الرزين وأذهب للب الرجل الحازم والعقل السديد الجازم وهل أخرج آدم من جنة المأوى إلا قصة صدمته من قبل حوا وما قتل هبيل قابيل إلا بفتنة الزوجة كما قيل وكذلك قصة من أوئى الآيات فانسلخ منها وقد عرف كل ذلك إبداء وإنها وغالب من عصى الله وأسا إنما كان سبب كفره واخزائه النسا فلا تعترضوا على هذا الرأي المتين ولا تتعرضوا لهذا الرجل فإنه على الحق المبين ولا تقصدوا لمعارضته وسؤاله فربما يكون مجالكم أضيق من مجاله وإنا لا نقدر على مناقشته ويظهر جهلنا وعجزنا عند مباحثته فقال سائر الوزراء هذا الرأي أصوب الآراء فإنا إلى الآن ما بارزناهم بالمخاشنة وإنما كنا نأتيهم بالمخادعة والمحاسنة فنزين لهم الباطل ونجلي لهم العاطل ونشوه وجه الحق ونسود طلعة الصدق إلى أن ظهر هذا الرجل ونحن على ذلك فوقف في طريقنا وأراهم الدرب السالك وعلا شأنه ووضح برهانه ونحن على ما نحن عليه من الإغواء وإلقائهم في

مهاوي الأهواء والحرب بيننا وبينهم سجال فلو كاشفناهم بسوء الفعال انكشف لهم زيف نقدنا وبطل ما كنا نسوله بجهدنا فإذا ظهر الحق من الباطل وتميز الحالي من العاطل أخذوا حذرهم وضبطوا أمرهم وداروا بالعداوة ومروا بالملوحة من الحلاوة ثم ظفرنا بهم موهوم ونصرنا عليهم غير معلوم فما نظفر إلا بالندامة ونرضى إذ ذاك بغنيمة السلامة ويستمر هذا العار علينا إلى يوم القيامة وقد قيل: لا تسع في الأمر حتى تستعد له ... سعي بلا عدة قوس بلا وبر فعند ذلك استشاط العفريت غضباً وطار شراراً لهذا الاشتعال ولهباً، وقال: لقد عظمتم من شأن الإنسان وأوهنتم بل أهنتم جانب إخوانكم الجان وضيعتم حقوق الإخوان وأبطلتم حكاية السعالى والغيلان ونسيتم فتن جدكم الأعلى الباقية على ممر الزمان ونحن أدق حيلة، وأجل جماعة وقبيلة، وأوسع ذكراً وأسرع مكراً وأقدم وجوداً، وأعظم جنوداً، وأغزر علماً، وإدراكاً وفهماً، ولا أرى لكم همة صادقة ولا عزيمة موافقة وأنا ما قلت لكم ما تقدم من القول إلا لأخبر ما في فرائض علمكم من الرد والعول فلا أقوالكم سديدة ولا أفعالكم رشيدة، ولقد حل بكم الصغار وسطا بكم من الأنس الصغار وأما أنا فلا بد لي من المباحثة والمناقشة والمنابثة والإلقاء للمسائل والأبحاث في الرسائل من غير وسائط ولا وسائل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينه فأعلموا ذلك وتحققوه ثم أمعنوا النظر فيه ودققوه وهذا هو الرأي الذي الذي صممت عليه فليتوجه كل منكم بقلبه وقالبه إليه ويقل في ذلك غثه وسمينه ويلق هجان قوله وهجينه ولا يدخر شيئاً من آرائه فلا بد لي من إلقائه

وأعلموا أن الولي الخرار الذي هو إلى جهة جار لو اتفقت الآراء على صرف جريانه إلى جهة أخرى وأن يسد عن هذه الجهة المجرى فإنهم لو قصدوا ذلك من أسفل الواديلسخر منهم الحاضر والبادي، ولا يتهيأ لفاعله ما يتمناه حتى يسد طريق الماء من أعلاه. وأنتم إن قصدتم معالي الأمور وإهلاك رؤوس الجمهور ثم تعمدتم الأراذل وتبدلتم الأكابر بالأوغاد والأسافل فإنكم إذاً أغمار وقد ضيعتم في غير حاصل الأعمار وقد قيل: إذا كنت لابد مستتربا ... فمن أعظم التل فاستترب وما اللجين كالرصاص والجروح قصاص ولا يكافأ الربيس إلا بالربيس ولا يقابل النفيس بالخسيس وأي فخر للملوك إذا نازلوا السوقة والصعلوك وقد قيل: ألم تر أن السيف بقدره ... إذا قلت هذا السيف أمضى من العصا وما أكتفى صناديد قريش يوم بدر بدون اكفائهم في النسب والقدر وماذا تفيد بيلستكم وتجدي شيطنتكم ووسوستكم وأنتم أولوا الزعاره وذوو الشطارة والدعارة إذا قهرتم من الأنس وعلاكم أضعف جنس وهم أقصر أعماراً ونحن أطواراً لم نزل نصادم الجبال ونقتحم الأهوال ونظهر

كما شئنا في باب الخيال ومن قبل جدنا اللعين جادل رب العامين فقال في حق جدهم أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وقال لأغوينهم أجمعني. وقال ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثر شاكرين. وهم يموتون وهو من امنظرين وعلى كل جال نحن أقوى منهم وأجرأ وأعرف بطريق الخبث والمكر وأدرى بالجملة الحكم على الشيء فرع عن تصوره والشخص لا يحكم على شيء إلا بعد تصوره وتقرره وهذا الإنسان إلى الآن لا سبرناه ولا خبرناه ولا عرفناه ولا عرفناه فكيف فكيف تقطعون له بالغلبة وتفضلون علينا مسيره ومنقلبه، وإن لم تفصحوا بالعبارة فقد دللتم على ذلك بالإشارة وكنيتم عنه بالتلميح والكناية أبلغ من التصريح هذا ونحن كم قد أضللنا من حكيم وأذللنا من عليم وأفسدنا من عقائد وعقدنا من فسائد ونصبنا لهم من مصايد وأرصدنا عليهم من مراصد وأبطلنا من طاعات وعطلنا من خيرات وأخللنا من صلوات وأحبطنا من زكوات ومنعنا من حجات وصدقات وضيعنا من ميراث ونفقات وأسقطنا من أعمال الصالحات وكم لنا في الشر من سوق ومن سوق إلى فسوق وإلقاء في حرام وتسربل بمظالم وآثام وكم لنا من إحكام أحكام على القضاة والحكام يستحلون بها السحت والحرام ويأكلون بها أموال الأيتام ويستبيحون بها الدماء والفروج وكم دخلنا فيهم فأخرجنا منهم الإسلام أخفى خروج وكم لنا فيهم من مصائب لعصائب وحواصب

مناصب وكتائب نوائب وعجائب نواهب وغرائب نوادب نسلبهم بها دينهم ونمنعهم اعتقادهم الحق ويقينهم وكم لنا في سكونهم إلى الطاعات من حركات وفي ركونهم إلى الخيرات من سقطات وكم لهم إلى الطاعات من همم فبردتها وساوسنا فحصل منها في أحشائهم الضرم وفي وجود خيرهم العدم وفي صحة إيمانهم السقم وفي شباب صدقهم الهرم وفي سكون أمانهم الضر بان والآلم في دائرة حلالهم الحرام وكم وكم وكم وكم ونحن الآن على ما كنا عليه وهو الذي طبعنا عليه وندبنا إليه دأبنا عن الحق أضلالهم وعن الصراط المستقيم إزلالهم وإلى الباطل دلالتهم وإطلالهم نزين لملوكهم الاجتراء ولكبرائهم الافتراء ولرؤسائهم الازدراء ولعلمائهم المراء ولزهادهم الرياء ولتجارهم الربا ولأمرائهم سفك الدما ولنسائهم السلاطة والزنا ولخواصهم الغيبة والغميمة وعوامهم الخوض في كل جريمة وللمشايخ قول الزور ولنسائهم الوقاحة والفجور وهذا دأبنا ودأبهم. ولم نزل أوهاقنا ورقابهم فإن قلنا نصل هذا الواصل فإن هذا تحصيل الحاصل وإن قلنا نستأنف عملاً جديداً فإنا لم نترك في ذلك ما يبقى مزيداً وقد بلغنا في ذلك كله الغاية وهانحن ملابسون منه ما ليس وراءه نهاية ولم يبق إلا المقابلة في المقاتلة والمباشرة بالمكاثرة والمفاتحة في المقابحة والمكالحة في المناكحة فلما سمع الوزراء هذا الكلام عرفوا أن أسباب دولتهم آذنت بانصرام غير أنهم لم يقدروا على المخالفة فما وسعهم إلا المطاوعة والمؤالفة لئلاينسبهم إلى غرض فيصيبهم منه عرض أو مرض. فحسنوا له رأى المصادمة ومباحثة العالم والمقاومة

واتفقت الآراء أن يرسلوا للعالم أولاً وانتخبوا من يصلح أن يكون مرسلاً فيحمله العفريت في الرسالة ما تتضمنه من الحماسة والبسالة حسب ما يراه رأيه التعيس وفكره المدبر الخسيس. وكان في سياطينه المردة وغيلانه العتاة العندة عفريت من الجن مارد مسن اسمه صن بن مصن، قد أضل عقائد وأزل قواعد وأشرب بغض بني آدم وغمس طائفة منهم في نار جهنم بعدما غهم من المعاصي في يم لا يمنعه وجوم عن الهجوم ولا يخاف الرجوم من النجوم طالما أطال العوائق في المغارب والمشارق. وأضرم نيران الإفساد بين الخلائق وملأ ما بين الخافقين من مواقع الصواعق وفوح نتانة النوساوس وفساء الظربان في المجالس وانقض للشر والفتن على كل قائم وجالس فكم له توفيق بين الحرامين وتغريق بين الحلالين وسفك دماء بين الأخوين وإلقاء للبغضة بين المحبين والعداوة بين الألفين والعربدة بين السكارى والحروب بين المسلمين والنصارى. وبالجملة فقد أوتي من الوسوسة والتلبيس صنوفاً كثيرة فاق بها على ذرية أبليس فانتدبه العفريت الملم إلى هذا الأمر المهم، وأمهلاه إلى أن انسلخ أهاب الضو ثم طار في عنان الجو حتى وصلا إلى سفح الجبل، متعبد ذلك العالم البطل الذي ملأ الدنيا بالعلم والعمل ثم كمن العفريت في مغارة وأرسل رسوله بالسفارة يقول أبلغ عالم الأنس صاحب الكرامات والأنس ومقرب حظيرة القدس، عن شيخ العفاريت الطغاة المصاليت أني من قديم الزمان وبعيد الحدثان أضللت كثيراً من الناس، بالمكر والخداع والوسواس وفي أمثالي نزلت قل أعوذ برب الناس، وابن عمي هو الوسواس الخناس، وكان من جنس بني آدم كذا كذا ألف عالم

خدامي ومعي وجندي وتبعي منهم رؤس الزهاد وعلماء العباد، وعلى محبتي مضوا، وباتباع أوامري قضوا فأنا فتنة العالم وأعدى أعداء بني آدم الشيطان الرجيم، وأبليس الذميم اسم ذاتي ووصف صفاتي، أنا مقتدى الشياطين ورأس العفاريت المتمردين ومحل غضب رب العالمين خلقت من مارج من نار، وطبعت على إلقاء البوار والدمار رجوم النجوم إنما أعدت لأجلي، وعتاة الغواة لا تصل رؤوسها إلى مواطئ رجلي إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب آية منعتي، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم طراز خلعتي، أأسجد لمن خلقت طيناً مقام مقالي لاحتنكن ذريته إلا قليلاً مجال جدلي، لعنه الله، وقال لاتخذن من عبادك نصيباً مفروضا منشوري القديم يعدهم ويمنهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، مرسومي الكريم، الشياطين تستمد من زواخر مكري والأعور اللعين يقتبس من ضمائر فكري، لم تمر قضية في الزمان الغابر إلا ولي الشركة فيها ولا حدثت محنة لنبي ولا ولي إلا وأنا متعاطيها، جدي إبليس، نهض لجدي التعيس، وغلى نحو آدم هوى، فعصى ربه فغرى، وأنا قضيت بالتسويل، حتى قتل قابيل هابيل، وحلت بقوم نوح عن النصوح وأرشدت المجوس إلى عبادة النار ووضعت الناقوس، وأضللت عاداً وثمود، وشداداً ونمرود، وبعثت على عبادة الأصنام في البيت الحرام، وعلى كيفية إلقاء إبراهيم في

نار الجحيم، وهديت قوم لوط إلى الخوض في التلوط ومحافر القلوط، وسولت لأولاد يعقوب وحاولت في قضية ايوب، وتصديت لابن إسماعيل وعارضت ابنها وهو مع الخليل، وأنسيت يوشع قصة الحوت، وساعدت على صاحب الحوت، وجلست بالعصيان على تحت سليمان، وحضرت وقعة طالوت، وساعدت عليه جالوت، وأنا كنت العون لهامان وفرعون، وبحسن ضبطي قتل موسى القبطي، وأنا فتنت داود، وأغويت قارون اليهود، وسلطانهم على الوالدة والمولود، ودللت على نشر زكريا، وذبح يحيى، وجرأت على قتل الأنبياء والأولياء، وتوصلت بتزيين الوسواس لقاتلي الذين يأمرون بالقسط من الناس، ودعوت على عبادة العجل قوم موسى، وساعدت في التفريق، والإظلال بين أمة عيسى، وكم أغويت من رهبان، بما زخرفت من صلبان، وقد بلغني من جميع مسترقي السمع وطن على أذني، ووعاه خاطري ووقر في ذهني، وأنا أشارفالتخوم واسارق النجوم وأسابق الرجوم، إن لي أسماء تذكر في السماء منها الغيظ الرقبة، وشيخ نجد وأزب العقبة، والمقيم في الدست البيضة، والغوي على نقض عهد بني قريظة، والمحرض على أحد وبدر من الصناديد كل جليل القدر والمشهور في أحد بالندا، والملقي العرب بالردة إلى الردى، وأنا المتسبب في قتل عمر وعثمان، وإهلاك على أمير الشجعان، والغوي في وقعتي الجمل وصفين، والملقي الفتن بين جنود المسلمين، وإن شري سرى إلى يزيد وفاض للحجاج والوليد، وبي تكثر البدع بين الجماعات والجمع، ويظهر من الفتن ما يطن، ويغلب من التتار وأهل البوار والخسار أنواع الشرور والجدال إلى حين يظهر الدجال، وتستمر هذه الأمور إلى يوم البعث والنشور،

وبالجملة والتفصيل أنا شيخ التكفير والتضليل، وتلك صنعتي من الابتداء، وحرفتي إلى الانتهاء، ثم إنك نبعت في هذا الزمان، وظهرت في هذا المكان، تريد أن تهدم ما بنيته، وتعوج بصلاحك ما بفسادي سويته، وترد كلامي وتعاكسني في مرامي، وأنا كنت في قديم الزمان، من قبل أن توجد أنت في هذا المكان ناديت بين بنيه وشهرت في ذوقه قولي: كلوا واشربوا وازنوا ولوطوا وقامروا ... وهيا اسرقوا وخوضوا والدما جهرا ولا تتركوا شيئاً من الفسق مهملا ... مصيركم عندي إلى الجنة الحمرا وكانوا قد سمعوا وأجابوا وأطاعوا وأنابوا وشملي بهم منتظم، وأمري بتفريق كلمتهم ملتئم، وأسهم مرامي المشومة نافذة في المشارق والمغارب، وسيوف مناشري المسمومة قاطعة في الأعاجم والأعارب، كم لي في الأطراف والآفاق والاكناف من قاض ونائب ومانع من الخير حاجب وأمير وصاحب، ووزير وكاتب، ومشير وحاسب، وجليس ونديم، وتابع وخديم، وناظر وعامل، وناقص وكامل، وكم لي من جابي منوط بتفريق قلوبهم وجمع سويدائها إلى بابي، وكم لي في المدارس ذو وساوس، وفي الجوامع والبيع والصوامع من مذكر وواعظ وإمام وحافظ، ومقرئ وعابد، وشيخ وزاهد، وكم لي في الزوايا من خبايا، وفي أصحاب الروايات من درايات، وفقيه في النادي فاق الحاضر والبادي، يعلم في الشيطنة أولادي، وفي البيلسة حفدتي وأجنادي، وأما سائر الفساق في الآفاق، وسكان الأسواق، وقطان الجبال والرستاق، ورجال الحاري والأوراق، فكلهم لي عشاق وإلى ديني مشتاق، وسل عني أرباب الحانات، وسكان الخانات، وبالجملة غالب الطوائف وأرباب الوظائف على باب خدمتي واقف، وعلى طاعة مراسيمي ليلاً ونهاراً عاكف، مناي مناهم، ورضاي رضاهم، وأن خالف بعض سري نجواهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل

ما هم، وأنت الآن جئت برايتك وسالوسك، وطامتك وناموسك تبدد عني عساكري، وتشرد من بني الأنس عشائري، وتشتت جموعي، وتخلي من الفسق والفساق ربوعي، من غير أن تشاورني، ولا تخبرني ولا تحاورني، ولا تبحث معي، ولا تناظرني، وهاأنا قد جئت إليك، ونزلت كالقضاء المبرم عليك، أريد أن أناظرك في أنواع من العلوم، وأسألك عن حقائقها من طريق المنطوق والمفهوم بحضرة من الجن والأنس، وسائر نوع الحيوان والجنس، فيظهر إذ ذاك جهلك فينبذك قومك وأهلك، ويتركك معتقدوك، ويتراجع عنك مريدوك، وأفسد بين العالم صيتك وأتلفه فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه. فلما وصل رسول العفريت الكافر الصفريت إلى الشيخ العاد والعالم الزاهد الجاهد المجاهد فعندما وقع نظر الشيخ عليه ووصلت سهام لحظاته إليه، كاد أن يذوب مالملح، وأن لا يقوم الفساد للصلح، فبهت الذي كفر، وأخذته الدهشة والخور، وغلب عليه الانبهار وكاد يحترق من الأنوار، واستولى عليه الرجيف، وسقط من الوجيف، فما أبدى ولا أعاد ولا قام للصلاح ذلك الفساد. فقال له الشيخ مالك: وما أحالك وغير حالك؟ وما موجب دخولك علي وأنت غير منسوب إليّ؟ فقال: كف عني أنوارك واطوعني أسرارك حتى أقول فإني رسول فمالي طاقة برؤيتك ولا سواغوما على الرسول إلا البلاغ.

فقال: رسول أي طغين وسيطان لعين. فقال: أنا رسول محبك العفريت المشقوق الحوافر، الواسع المناخر، المسلوب المفاخر، أبي السعالى الكافر العالي، قد أقبل إليك في جمع كثير، وعدد من الجن غزير، ومعه رؤوس العفاريت والعتاة المصاليت، والطغاة المفاليت، وقد حملني إليك رسالة، تتضمن من الخبث شجاعة وبسالة، إن شئت أديتها، وإن أبيت رديتها، فقال: قل ما تريد وأبلغ ما معك عن ذلك العنيد وأوجز ما تقول، ولعن الله المرسل والرسول. فأبلغ الرسالة وأداها وأسال في أوديتها مؤداها. فقال الزاهد وكان بالأحوال خبيراً: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. والله ما لكم شبه في هذا الكيد إلا الحمار في الوحل والحمام في شبكة الصيد. قل لمرسلك أرى قدمك أراق دمك وهواك أهواك وأفعالك أفعالك لم وسؤالك أسوا لك وخيالك أخبى لك فأولى لك أولى لك، ولعن الله أولى لك لا شك أن الله تعالى أراد دماركم وأن يمحوا آثاركم ويخلي دياركم فتستريح البلاد من فسادكم والعباد من عنادكم أما أنا فأذل الخلق وأحقر الداعين إلى الحق، ولكن بعون الله وقدرته وإلهامه وقوته لي من اعلم والفضل ما أجيبه ويقتله من خوفه به وجيبه وسيظهر في الجمع على رؤوس الأشهاد عويله ونحيبه وسيبين اللع في سنن الخلق فروضه، ويكشف صحيح الحق ومريضه، وإذا أدعى بدعاوى طويلة عريضة فإن الله تعالى قتل نمرود العاتي ببعوضة، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.

أما سمع ذلك الملعون، وعلم الشقي المغبون، أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون. فمتى أراد يحضر ويسير نفسه وخصمه ويخبر ويصحب معه من يريد من كل جني عنيد وشيطان مريد فإن الحق يحق فيبطل الباطل، ويتميز في حلبة السباق الحالي من العاطل، فرد هذا الجواب الرسول، وكشف حقيقة المقول. ثم إن العفريت المخذول سأل الرسول عن أوضاع الشيخ الزاهد وأحواله في المساجد والمشاهد وما شاهده من أموره وحكاياته وحركاته وسكناته وأخلاقه ومعاملاته وكيف هيئته وصورته وما شاع عنه في قومه من سيرته. فقال: رأيت رجلاً سعيد الحركات كامل البركات صورته جميلة وأوصافه نبيلة، وهيئته جليلة، بدنه نحيل وفضله عريض طويل، وكلامه الصادع في أمثالنا ثقيل قاطع. فقذف الله في قلبه الفزع، وأخذته نوافض الرعب والهلع. فقال: أما والله إن هذه الأوصاف لصعبة الأعراق والأعراف، وستطرحنا وراء جبل قاف وإنها لسيمة الصلاح وعلامة الفوز والنجاح، وإنهم لهم المنصورون، وحزب الله هم الغالبون، ولقد ندمت على مراسلته، وكان الأولى سلوك طريق مجاملته ولكن الشروع ملزم ولابد أن أتم ما عليه أعزم، فواعده إلى وقت معلوم، ثم إنه أحضر وأحضر معه من جنده كل جني ظلوم وعفريت غشوم، ومتمرد مشوم ومخلوق من قبل من نار السموم.

واجتمع من بني آدم عند الشيخ تلامذته وأصحابه الصالحون وجماعته وكانوا الجم الغفير والجمع العزيز، واشترطوا بعدما خبطوا واختبطوا وحلوا وارتبطوا أنه أن أجاب الشيخ سؤالات العفريت، وسرى في نارهم سريان النار في الكبريت، لا يظهر بعد ذلك اليوم لبني آدم أحد من أولئك القوم بل يكونون عن الأبصار مختفين وتحت الأرض في الجزائر والخرائب كزنادقة بغداد منتفين. وإن عجز الشيخ عن جواب سؤاله يهلكه العفريت مع خيله ورجاله ثم شرع العفريت في الرسائل، وإلقاء المسائل فقال العالم: على كم بالعرض والجسم وهل للعالم موجد وهل هو واحد أو متعدد؟ فقال الزاهد الإمام العالم على ثلاثة أقسام (الأول) مفردات العناصر كالتراب والماء والنار والهواء، وتسمى الإستقصاآت وأصول الكائنات والمركبات من هذه الأجزاء المفردة لا تستمر على حالة واحدة ولا تخلو من حركة وانتقال ودأبها التغير من حال إلى حال (الثاني) الأجرام العلوية كالسماوات وكواكبها المضية، وهي متحركة بالبروج ولحركتها دائرة ما لها من مركزها خروج فهي متحركة من بعض الجهات ساكنة كالفصوص في المرصعات وتوصف في حركتها بالصعود والهبوط والارتفاع والسقوط والرجوع والإقبال واستقامة الحال والاحتراق والانصراف والانحطاط إلى الحضيض والإشراف ويحكم عليها بالافتراق والاقتران والتربيع والتثليث والتسديس في السيران والمقابلة في الرجعة وبطئ السير والسرعة وينسب إليها ما يحدث في

العالم السفلي من جزئي الوقائع والكلي ومن نحوسة وسعادة ونقص وزيادة وخير وشر ونفع وضر وتأثر وتأثير وقليل وكثير وانحراف واعتدال وحدوث وزوال وصحة وسقم وسكون وألم ووجود وعدم فبعض من لم يعرف الطريقة يسند هذه الأشياء على الحقيقة، وذلك لقصور فهمه وقلة العقل كقول الجاهل أنبت الربيع البقل. وبعض من لم يكن له إدراك يزعم أن هذا إشراك ولا يسند هذه الحوادث إليها ولا يعول في ذلك أبداً عليها لا بالحقيقة ولا بالمجاز ولا يسلك في ذلك إلى طريقة المجاز والمحققون من العلماء والراسخون في العلم من حكماء الفقهاء يسندون هذه الحوادث والتأثير إلى قدرة اللطيف الخبير الصانع القدير الفاعل المختار الذي يخلق ما يشاء ويختار فإذا نسبوا هذه الأفعال إلى غير ذي الجلال فإنما يجعلونها في ذلك الباب كالآلات والأسباب كتأثير الخبز في الإشباع والنار في الإحراق والإيجاع وكفعل الماء في الإرواء والدواء في الأدواء وإنما ذلك كله بتقدير صانعها وما أودعه فيها من خواص بدائعها وصفات ودائعها كخاصية الإسهال المودعة في السقمونيا وخواص التصبير وغيره الكامنة في الموميا والإسكار في الخمر والإحراق في الجمر وقد رأينا القوة النامية عقيب الأمطار الهامية والشمس حامية تهيج وتنمو وتموج وتزكو وهذا الصنيع البديع إذا حلت الشمس في برج الحمل وقت الربيع وإذا نقلت إلى برج الأسد احترق ذلك الجسد وعند نقلها إلى الميزان ينقلب هذا الزمان، وكذا إذا تحولت الغزالة إلى برج الجدي فكأنه بلغ إلى محل الهدى فتموت إذ ذاك قوة الزمان، ويضعف لذلك غالب الحيوان

وهذا كله مشاهد محسوس لا يمكن أن تنكره النفوس خواص وضعها خالق الكون، يستفاد بعضها من الطعم والريح واللون، وبعضها لا يدرك ما أودع فيه الابارشاد خالقه ومنشيه، هكذا جرت سنة العزيز الوهاب أن الأحكام والوقائع تناط بالأسباب، وقد يختلف منها الأثر عن المؤثر ليعلم من ذلك وجود سنة القاهر المدبر وأنها مقهورة تحت الأمر ومقسورة فسر العقل مع الخمر ولولا أن ذلك من سر جسيم لما تخلفت النار عن إحراق إبراهيم ولما ولدت مريم ولا أغرق البحر القبط وأنجى بني إسرائيل وموسى وكم من آكل وهو جيعان وشارب وهو عطشان ومتدثر يتدفأ بالنار وهو بردان والفلك الأعظم محيط بهذه الأجرام ونسبتها إليه كنقطة للبحر الطام متأثرة بتأثيره دائرة بتدويره يتصرف فيها على حسب ما شاء باريها وصرفه فيها منشيها فاطر السماوات والأرض جامع الخلائق ليوم العرض وكما هي محاطة بالدائرة الفوقانية كذلك هي محيطة بالكرة لتحتانية (القسم الثالث) العقول والنفوس الملكية وهي أشرف من الأجرام العلوية ومقام هذه العقول في مقام عزيز الوصول يسمى أعلى عليين وجواهرها لا توصف بتحريك ولا تسكن ولا بهذه البساطة والتركيب وأمرها بديع وشأنها عجيب وأما العرض فما لا يقوم بذاته، وهو في العالم كالألوان والطعوم وأصواته والروائح والقدر وإراداته وأما الجسم فما تركب من جوهرين فأكثر وما قام بنفسه يسمى الجوهر

(وأما) الموجد للعالم فهو واحد لا ينثني واحد لا يتجزأ ولو لم يكن للعالم صانع لكان العالم أضيع ضائع وهل رأيت مصنوعاً بلا صانع وسقفاً مرفوعاً بلا رافع وهل نفي الصانع إلا مكابر. وما يجحده إلا النفوس الكافره فقال العفريت: فما لدليل على وجود الصانع العقل والنقل أم أحدهما متبوع والآخر تابع فقال العالم الزاهد: قد أطبقت العقلاء وأجمعت الحكماءأن العقل دليل على وجود الصانع وبه الدلالة والشرع له تابع وكما هو الدليل على وجود الذات كذلك هو الدليل المستقل على إثبات الصفات وهي صفات الكمال، ونعوت الجلال. فقال العفريت: فما الدليل على وحدانيته فقال الزاهد كل من العقل والشرع كاف في دلالته. قال العفريت: فما المراد من عالم الكون والفساد؟ فقال العالم: معرفة أمور المبدأ والمعاد. قال العفريت: فما أفضل العقل أم النقل؟ فقال العالم: كل منهما حجة الله قد أسند له من عباد من يراه وذلك إن الله لما أرشدنا إلى الدين القويم، وثبت أقدام توحيدنا على الصراط المستقيم، نبهنا إلى أن المقصود من الدخول في دائرة الوجود معرفة موجودنا المعود، كما قال من يقول للشيء كن فيكون، وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ثم طلب مراضيه بما تبرز به أوامره وتقتضيه وذلك هو الرشاد ياذا المكر والعناد

إلى المعارف الإلهية وما به نظام المعاش ونجاة المعاد وليس لنا دليل في العلم والتعريف سوى طريقتين مرشدتين إلى التوقيف على أمور المبدأ والمعاد وما بينهما في دار التكليف إحداهما ما جبلنا عليه وما اكتسبناه من العقل وثانيتهما ما بلغنا من الأخبار الصحيحة والنقل فالعقل لا يدخل في إثبات المعارف الإلهية ولا في هذا الباب المقدم من الأمور المعاشية والمعادية وهو حجة الله القاطعة البالغة وأصل براهينه الساطعة الدامغة وبواسطته استعبد عباده الكملة وإلى من خصه به أرسل رسله ثم العقل جوز إرسال الرسل ولا يرد ما تقوى به لتوضيح السبل والنقل لا يأتي بما يناقض العقل وإنما يرد بما يزكي قضاياه وبصقل مرائي أحكامه أحسن صقل ونظير ما حصل للعقل بالشرع من الاستئناس ما حصل للكتاب من معاضدة السنة والإجماع والقياس ولو ورد المنقول بما يناقض المعقول لأشبه فرعاً يوجد ماله من أصول إذا أقبلت مواكب الأوامر الإلهية على لسان الرسول خضعت جماجم العقول منقادة بزمام الانقياد والقبول سامعة لما يرد منها مطيعة لما يصدر عنها فتارة يظهر للعقل ما للأوامر الشرعية من الحكم كنار على علم وتارة يعجز عن الإطلاع على ما تضمنته الأحكام النقلية من الحكم فإذا ورد الشرع بحكم وكان للعقل في حكمته إدراك آثره وأكده واستمسك به في تصرفاته أقوى استمساك وإن لم يكن له في إدراكه مدخل نادي بلسان العجز والتسليم سبحان من لا يسئل عما يفعل والحاصل أن سلطان العقول في ممالك خليفة الشرع وولايته معزول ومن جملة ما ورد على لسان السمع على لسان عدوك صاحب الشرع الصادق في المقال مما ليس للعقل فيه مجال أحوال المعاد ومبدؤها ما يطرأ على العباد في حد هذا الكون من الفساد

فقال العفريت أخبرني يا ذا الإنسان مخلوق مماذا وما الآدمية والنفس الإنسانية وهل هي واحدة أو متعددة ومآلها إلى أين بعد وقوع البين فقال العالم: الإنسان مخلوق يا مصفعه من هذه العناصر الأربعة التي مر ذكرها وتبين أمرها التراب والماء والنار والهواء فإذا تمازجت واعتدلت إذا تزاوجت حصل لها من التركيب أمزجة ثمانية لا على الترتيب والآدمية عبارة عن القوة المميزة بين الحسن والقبيح والفاسد والصحيح والحق والباطل والخالي والعاطل والخير والشر والنفع والضر والمميزة لهذه الأشياء الفارقة، يقال لها النفس الناطقة وهي ثلاثة أنواع يا خارج الطباع إحدها الروح الطبيعة القائمة بالكبد وهي من الأغذية تستمد الثانية الروح الحيوانية ومقامها لقلب أي كلب وللأبد إن منها حراك واستمدادها من حركات الأفلاك الثالثة لروح النفسانية ومقامها في الدماغ ومنها الحركات الذهنية والقوة التامة القوية تطلب غذاءها الروح الطبيعية والقوة المميزة تطلب ما يسعدها في الدارين من الروح النفسانية ويبعدها في المقامين عن الأسباب الشقية واستمدادها وقوتها من الأجرام العلوية وأعلى مقامات هذه النفس الحكمة والحكمة أوفى منحة وأوفر نعمة وقد قال تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقدأوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب ومصير هذه الأرواح إلى عالم الغيب لأجل الثواب والعقاب وقيل حقيقة نفس الإنسان أيها المارد الشيطان لطيفة روحانية ودقيقة ربانية لها تعلق رباني بقلبه وقالبه الجسماني وهي المدركة العالمة

العارفة الفاهمة بها يتكلم الإنسان وتبصر العينان وتسمع الإذنان وتبطش اليدان وتمشي الرجلان وهي المخاطبة والمعاتبة والمثابة المعاقبة والمطلوبة والمطالبة ويطلق عليها لفظ القلب تارة ولفظ القلب تارة ولفظ الروح أخرى ويقال لها النفس مرة ولفظ العقل أيضاً وابن آدم هو المخصوص بهذه الكرامات وبهذه النفس دون سائر الحيوانات وإن كان يطلق على الجميع إن لها نفساً بالاشتراك لكن هذه النفس الناطقة والنطق هو الإدراك واختلف أيضاً وتحيرت الألباب في صنع رب الأرباب وتاهت الأفكار والفطن في كيفية تعلقها بالبدن ولا يحصل لأحد على هذا وقف إلا بطريق الولاية والكشف وهذه النفس لما كثرت صفاتها وتضادت نعوتها تخالفت أوصافها وازداد في صفاتها اختلافها حتى قسموها فقالوا أنواعها ثلاثة ناطقة وشهوانية وغضبية رضية فالناطقة مسكنها الدماغ ولها مساغ والكبد مسكن الشهوانية والقلب مسكن الغضبية الرضية فأية نفس غلبت أختيها جذبت أحوالهما وصفاتهما إليها، وهذه يا أتعس زوبعة كالعناصر الأربعة فإنها إذا فسد مزاجها وعدل عن الاعتدال ازدواجها عسر علاجها واستحال إلى المطلوب الطالب وعجز عن المعالجة الطابب ففسد البيان وانهدمت الأركان وقيل هما روح ونفس بغير لبس وهما ضدان بل ندان لا يجتمعان ولا يرتفعان وطبع النفس باللئيم طبعك طبع الشيطان الرجيم كالنار في جوهرها وخاصة عنصرها تنسب إليها الصفات الذميمة والخلال غير المستقيمة كالجهل والغضب والحدة والصخب واللؤم والسفه والطيش والشره والحمية والشهوة والقسوة

المشؤومة والحيانة والفجور وعدم الأمانة والترفع والرياء والمخاصمة والمراء وسائر الأخلاق الذميمة والأوصاف المشؤومة الملومة والملكات الخبيثة الردية والحركات الشيطانية فهي كالنار في إحراقها وحدتها واستشاطتها وشدتها ودخانها ولهيبها وإهلاكها وتعذيبها وإقدامها في إعدامها وأكل ما تجده وما تصل إليه تفسده وطلب العلو والغليان وطبع والغلو وطبع الروح يا أنحس مجروح طبع الماء في النشور والنماء ينسب إليه كل خلق كريم وطبع سليم صافي الجوهر ما لامسه تطهر شيمته الحياء والعلم والصدق والحلم والتفويض والتوكل والتسليم والتجمل والاحتمال والأناة والصبر والموافاة والتودد والإسداء والسكون والإعطاء والركون والبذل والرضا والفضل والحياء والعدل والتواضع والعفة وعدم الترفع والخفة والسلامة والسهولة وسرعة الانقياد واللين والوداد والرقة والصفاء والكرم وعدم الجفاء إلى سائر الأخلاق المحمودة والأوصاف المطلوبة المودودة وأيتهما قويت غلبت وجذبت الأخرى إليها وسلبت وسيرتها على طبعها واستخدمتها على ربعها فكم من شيطان يرى في صورة إنسان ومن إنسان غلبت عليه أخلاق الجان ومن جان في صورة إنسان ونظير هذا الروح والبدن يدركه ذو العقل والفطن فإن الروح من عالم نوراني لطيف سماوي والبدن من عالم ظلماني كثيف أرضي فأيهما غلب على صاحبه جذبه إلى مركزه في جانبه قال الله تعالى وعز كمالاً وجل جلالاً يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وقال جل عليا ورفعناه مكاناً علياً وقال ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فالأنبياء عليهم السلام صارت أجسادهم أرواحاً والكفار مثلك صارت أنفسهم ظلمانية أشباحاً

وقيل يا زوبعة الأنفس أربعة إمارة وهي نفس مثلك الكفار الطغاة ولوامة وهي أنفس العصاة وملهمة وهي أنفس المخلصين ومطمئنة وهي أنفس الأنبياء والمقربين والحق يا جاحده ما عي إلا نفس واحدةلكن لما تجلت في ملابس الصفات وتكثرت لها الأخلاق والسمات نوعوها وبمقتضى التنويع فرعوها تنزيلاً للتنويع بالصفات منزلة التنويع في الذات فيقال كانت نفس هذا شيطانية فتاب فصارت رحمانية وكانت نفس ذاك أبية فصارت دنية قال من براها ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها قال العفريت أخبرني أيها الباصر كيف تركيب هذه العناصر فقال الزاهد بحسب الخفة واللطافة والثقل والكثافة ولما كان عنصر التراب أثقل كان ركد من غيره وأنزل ومن فوقه عنصر الماء وفوق الماء عنصر الهواء ومن فوق هذه الثلاثة عناصر عنصر النار وهو بها محيط دائر وكذلك كل عنصر محيط بما تحته وقد حققت هذا وعلمته قال العفريت أخبرني عن أقرب الأشياء إليك قال العالم الأجل أقرب الأشياء الأجل قال أخبرني عن أبعد الأشياء عنك قال العالم الأكبر ما لم بقسم ولم يقدر قال أخبرني عن الشيء الممكن عوده قال الدولة إن زالت وتغيرن واستحالت يمكن ردها ولا يستحل عودها

قال أخبرني عن الشيء المستحيل عوده قال الشباب بغير شك ولا ارتياب قال أخبرني عما لا يمكن بالاكتساب ولا ينال إلا بتوفيق الوهاب قال العقل الغريزي فإنه وهبي عزيزي قال أخبرني عما لا يمكن ضبطه ولا ينضبط ربطه قال الدهر إذا ولى والسعد إذا تجلى قال أخبرني يا ذا الجد عن الهزل الذي براديه الجد قال إبراز حكم الأمثال والآيات على لسان الحيوانات والجمادات قال أخبرني عما لا يمكن الإحاطة به ولا الوقوف على معرفة كنهه قال عظمة صانع الكائنات خالق الموجودات تعالى أن يحاط به علماً وتقدس أن تدرك عظمته معرفة وهماً ولهذا قال سيد المرسلين وحبيب رب العالمين لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال سبحانك ما عرفناك حق معرفتك وهذا مصداق قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره. فلما طالت المقاولة وانتهت إلى هذا الكلام المجادلة أقبل الليل وحل بالعفريت وجنده الويل وتصدع المجلس وقام العفريت وهو مبلس وتواعدوا إلى الصباح عند قول حي على الفلاح أن تجتمع الوجوه الصباح

لرد جواب الشياطين القباح فتفرقوا وقد أحاط بالعفريت لوهم ونفذ في أحشائه من سهام الذل أقطع سهم وبات لا يقر له قرار ولا يأخذه اصطبار وساوره الافتكار وثاوره الهم والدمار والغم والبوار: إلى أن أضاء الصبح كالحق مقبلاً ... وولى ظلام الليل كالجهل مدبراً فاجتمع من كان بالأمس حاضراً ومن سمع بحضورهم ولم يكن ناظراً من جموع الأنس والجن وطوائف الجن والبن وأخذ كل مقامه وابتدأ العفريت كلامه وقال ما منبع الصفات الحميدة والشمائل السعيدة المار ذكرها القار أمرها وهي يا هذا نتيجة ماذا؟ فقال العالم المحقق العامل المدقق هي ثمرة العقل القويم الهادي إلى الصراط المستقيم. ويكفي العقل الشريف أنه مناط التكليف له الله يخاطب وبه يثيب ويعاقب وبه يأخذ وبه يعطي وتابعه يصيب ولا يخطي وكلما كان العقل أتم كانت محاسن الأخلاق أعم وكلما كان رأي العقل أصوب كان في اقتناء مكارم الأخلاق أرغب قال العفريت: فهل هو نوع متحد أو طريقة متعدد؟ قال الشيخ: العقل نوعان وحكمه واحد لا يختلف فيه اثنان أحدهما العقل الغريزي اللطيف، وهو مناط التكليف يحدثه الرحمن ويتدرج إلى بلوغ الإنسان فيكمل أما بالسن أو الاحتلام، ويجري عليه إذ ذاك قلم الأحكام ويدخل في حيز المخاطبين من ذوي الأحلام ويترتب عليه الحساب والعقاب من الحلال والحرام والثاني يحصل بالاكتساب والتجربة في كل باب ولهذا

يقال أن الشيوخ أكمل عقلاً من الشباب وقيل من بيضت الحوادث سواد لمته وأخلقت التجارب لباس جدته وأرضعه الدهر من وقائع الأيام إخلاف ذريته، وأراه الله تعالى لكثرة ممارسته تصاريف أقداره وأقضيت كان جديراً برزانة العقل ورجاحته فهو في قومه بمنزلة النبي في أمته. قال بعض الحكماءكفى بالتجارب تأدباً وبتقلب الأيام عظة وقالوا التجربة مرآة العقل وقال: ألم تر أن العقل زين لأهله ... ولكن تمام العقل طول التجارب (قال) العفريت فائدة العقل (قال العالم) فائدته الإرشاد في بيداء الجهالة إلى جادة الرشاد والإعانة في الشدائد والوقوع في مصايد المكايد وحصول الخلاص من شرك الاقتناص وإجابة الإغاثة عند الاستعانة والاستغاثة ومد المعونة إذا انكسرت من الجبل السفينة في بحر الملامة والخلاص إلى بر السلامة والإغناء من كنز السعادة والصبر عند استيلاء نوائب الفقر. قال فمن العاقل في العالم ومن يطلق عليه هذا الاسم من بني آدم قال العالم: العاقل من يحتمل إذا ضيم ومن هو في الغضب حليم فإذا أعطي شكر وإذا منع صبر ويعفو إذا قدر ويستهين بأمور الدنيا ولا يغفل عن أمور الآخرة (قال العفريت) ما الفائدة في حب الدنيا والرغبة إلى ما فيها من الأشيا ولأي معنى غلب الحرص والهوى والرغبة فيها على أهلها وبنيها (قال العالم) لأجل قيام العالم وانتظامه على المنهج الأقوم وبقائه

المطلوب إلى الأجل المضروب الذي قدره موجده القديم الذي أنشأه أول مرة وهو بكل خلق عليم ولابد من أن تتم كلمته وتنفذ مشيئته ولولا الحرص والأمل لبطل العلم والعمل فإنهما لحجاب الغفلة يغشيان أعين البصائر ويغطيان طرق الاستدلال والضمائر فلذلك ذهلت العقول عن التأمل في العواقب واستغلت بالتهائها عما يجب عليها أن تراقب ولولا طول الأمل لما رجي العمل ولما انتظم أمر المعاش ولا أهتم لادخار قوت ورياش ولا افتكر صاحب اليوم في أحوال غد ولارتفعت المعاملات وما داين أحد ولا زرع زارع ولا غرس غارس ولا بنى بان ولا اخضر يابس ولانقرض إذ ذاك ظلم العالم وبانقراضه تنقرض أمور بني آدم (قال العفريت) أخبرني عن أصل الإنسان ومم جوهره جوهر الملك والجان (قال) الشيخ أما جوهر الملك فمن العقل المحض براه رب السماوات والأرض ولذلك لا يصدر من الملائكة إلا الشيم المباركة من الطاعات لمولاهم والانقياد لأوامر من أنشاهم وامتثال ما أمر من أمر مروم وما منا إلا له مقام معلوم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأما جوهر الجان وأصلك يا أخس شيطان فمن الأخلاق الذميمة والصفات المشومة فلهذا لا يوجد منكم إلا المكر والبيلسة والشيطنة والوسوسة وأنحس بصفاتكم من صفة ولم يكن بينكم وبين الحق معرفة فأنتم يا أنحس بغيض وأنجس نهيض مع الملائكة في طرفي نقيض وأما جوهر الإنسان فما اشتملت عليه صفتا الملك والجان فمن غلب عقله شهوته ألبس من مكارم الشيم خلعته واضمحلت ظلمات نفسه في أنواع الطاعة وتجلت صفات ذاته من سنن الأبرار في جماعة وخط

رسم اسمها قلم الكرام الكاتبين كلا إن كتاب أبرار لفي عليين وما أدرك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون فهو وإن كان بجسمانه مع الأنس له حضور وأنس لكن بسره في عالم الملكوت حضرة القدس فهو بصفاته المباركة أشرف من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله واستولت على قلبه حجب الغفلة فانغمس في بحر الشهوات واستحوذتم أنتم عليه بذميم الصفات وأشقاه القدر السابق ولم يعقكم عن التصرف فيه عائق فهو بالنهار ساه وبالليل لاه استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون فهو أخسر من أرذل الحيوانات وأدنى من أدك الجمادات فقد خاب مآباً وتعس انقلاباً وبقول يوم القيامة يا ليتني كنت تراباً (قال الراوي) فلما انتهى الكلام إلى هذا المقام أمسك العفريت عنانه وأخرس الله لسانه وظهر فضل الزاهد وعلمه ووفور حكمه وفهمه وإنه أصاب فيما أجاب ولزم العفريت ومن معه من الجن والعفاريت وطوائف المردة والشياطين والعندة المتمردين وذوي الإبلاس والوسواس الخناس ما شرطوه على أنفسهم من التخفي وعدم الظهور والتفرق في الخرائب والكفور فتفرقوا واختفواومصلمين ومجدعين انتفوا وسكنوا الخرائب والحمامات والحانات والخانات فلم يظهروا بعد ذلك للأنس وحصل منهم بذلك للأنس الأنس واستراحوا من مشاهدة طلعتهم القبيحة واستمرت إلى يوم القيامة من تلك القبائح مستريحة. وهذا آخر الباب والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الباب الخامس في نوادر ملك السباع ونديمه أمير الثعالب وكبير الضباع

الباب الخامس في نوادر ملك السباع ونديمه أمير الثعالب وكبير الضباع

(قال) الشيخ أبو المحاسن المرتوي من بحار الحكمة بماء غير آسن فلما أنهى الحكيم هذا الباب العظيم عن عالم الإنس والشيطان الرجيم تنبه الملك لغزارة حكمه فأفرغ عليه خلع إحسانه وكرمه وغمسه في غدير فضله ونعمه ثم أمر أن يقوي الطباع ويذكر نوادر الوحوش والسباع لتنبسط النفس وترتاض وتتحلى بعقود عقيدة هذه الأحماض فقبل أرض العبودية بشفاه الأدب وانتهض لأداء ما عليه من المراسيم وجب وقال كان في بعض الغياض أسد رباض عظيم الصورة كريم السريرة والسيرة وافي الحشمة عالي الهمة كثير الأسماء والألقاب عزيز الأصحاب كبير بين الأمراء والحجاب والوزراء والنواب يدعى في جوانب مملكته وأطراف ولايته بحيدرة وبيهس والدوكس والغضب والضرغام والعنبس والطيشار والهندس الغضنفر والهرماس والغضبان وأبي العباس إلى سائر الأسماء والألقاب والكنى وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى وهو مطاع في مماليكه وولاياته وأقاليمه مترشف ثغور الامتثال بشفاه أمثلته ومراسيمه، وكان له ومن خواص الندماء وكبراء الجلساء نديمان كندماني جذيمة يلازمان حضرته ويلجان حريمه أحدهما ثعلب يدعى أبا نوفل والآخر ضبع يسمى أخا نهشل، طبعهما ظريف وشكلهما لطيف ومحاضرتهما مرغوبة وصحبتهما مطلوبة. وكان في خدمته دب هو وزيره ومعتمده ومشيره كافل أمور مملكته ومدبر مصالح رعيته والملك مفوض أمور الرعية إليه ومعتمد لما يعلم

من كفايته عليه ومشغول ليلا ونهارا بمعاشرة نديميه فاتسع خيال الوزير وأخذ في مجال التفكير إلى النديمين لكونهما ناصحين قديمين ربما يصدر منهما عند الملك ما يحط منزلته ويفسدان للحسد الذي لم يخلو منه جسد صولته واستحوذ عليه هذا الخيال واتسع في ميدانه المجال فكان خائفا على وظيفته ومنصبه مترقبا ومنهما ما يكون عزله بسببه. فنشأ من ذلك في خاطره جساوة أورثته قساوة وجذبته إلى عداوة ووقر في قلبه ذلك وتأكد وطال عليه من الدهر الأمد فكان يترقب لهما الفرص ليوقعهما من الغصص في قفص ويسابقهما قبل انتيابه ويتغدى بهما قبل أن يتعشيا به ويقول لا بد من تنظيف الطريق قبل حصول التعويق. وقد أحسن من قال واتقن في المقال: ومن لم يزح عن دربه الشوك قبل أن ... يطأه فلا يعتب إذا شاك رجليه وأقل الأقسام أن يبعدهما عن حضرة الملك الهمام، فاتفق أن في بعض الأسحار تجاذب الملك ونديماه أطراف الأسمار فأثر فيهم السهر لطيب السمر في ضوء القمر وحلاوة ما جنوا منه من ثمر عاملين بما قيل: متى ما أصادف من أحب بخلوة ... أصرح بما أرجوه منه متكتما يقول فأصغي أو أبث فينثني ... ليسمع قولي كالمشوق المتيم أسامره لا إن أمل حديثه ... وآمره كل الأمور سوى نم فأخذت الملك عيناه فاستند إلى متكاه فأنحل من طرفه وكاه فلم يتمالك أبو نوفل أن ضحك لما غنت زمارة الملك فتنبه من ضحكه وتعجب

من جرائته وفتكه ثم استمر متناوما ينظر من يصدر منهما، فابتدره أخو نهشل وزجره فقال: ويلك ماذا رأيت وأي عجب سمعت ووعيت حتى ترتبك في الضحك أما قرأت وفهمت وسمعت وعلمت أن الضحك بلا سبب من قلة الأدب وإن الحشم وسائر الخدم ومن نادم الملوك وجالسهم يحترم أمورهم ويعظم مجالسهم سواء غابوا أو حضروا ناموا أو سهروا قامواأو قعدوا استيقظوا أو رقدوا وقد قيل رفع قلم الحساب والضبط والعتاب عن الصبي والمجنون والعاشق والمفتون وكذلك السكران والنائم لا سيما السهران وعذر النائم يا مسكين أعظم من عذر الباقين فإن النوم أخو الموت وفيه ما ليس في غيره من الفوت وقد قال صاحب الشرع الذي زكى منه الأصل والفرع حفظه الله بجنود الصلاة والسلام وحرسه يعتذر عن النائم وكاء السه وقال ذو الصدق والتصديق رفع قلم التكليف عن النائم حتى يفيق وإنما اعتبر الشرع أحوال النيام وساواهم في اليقظة صونا لبعض الأحكام في نحو من خمس وعشرين مسألة ضبطها من الفقهاء الكملة ولقد طالعت في كتاب الأخلاق إن الله الكريم الخلاق حيث جعل جنسا من الأمم في طبائع وصفات متساوي القدم فلا يعتب أحد أحدا ولا يزدريه ولا ينقم عليه عيبا هو فيه وعلى الخصوص إذا صدر من الملوك شيء يعاب فلا

يحمل ذلك منهم إلا على الفضل والصواب وكل ما كان في غير الملوك معتبه فإنه إذا صدر من الملوك يعد منقبه ويجب على من يجالس الملوك وكان له في خدمتهم سلوك واختص بمحاضرتهم واستعد لمناظرتهم أن لا يبصر منهم إلا المحاسن ولا يخبر عنهم إلا بالأحاسن وقد قيل من جالس الملوك بغير أدب حبسه فإنه خاطر بروحه وعرض للبلاء نفسه وقال الله الأعظم في كتابه المحكم لنبيه صلى الله عليه وسلم: فاستقم كما أمرت. ولهذا قال عليه السلام: شيبتني هود وأخواتها وما ساد العجم والعرب إلا بسلوك طريق الأدب وقال عليه الصلاة والسلام: أدبني ربي فأحسن تأديبي، فقال المغفل أبو نوفل إذا طهر القلب من الخيانة وعاملت اليد بالأمانة وتنقى العرض من العيوب وكان اللسان غير كذب وزكت النفس بالحلم وعريت عن الجهل بلباس العلم يصلح لها أن تسخر بكل أحد وتفخر على أكبر من يكون ولو أنه الأسد وأنا إذا طار بهذه الصفات طيري فلا علي إذا ضحكت على غيري، فقال أخو نهشل لا تقل ذلك لا واستعذ بالله من الجهل والخيلا وأعلم يا ذا الكرامات أن الجاهل يعرف لثلاث علامات إحداها يا محبوب أن يرى نفسه عارية عن العيوب الثانية يا رفيق الخير أن يرى نفسه أعلم

من الغير الثالثة أن يرى أنه انتهى في فنون العلم والنهى وبلغ أعلى المراتب وهذا أكبر المعايب وقالت الحكماء إذا رأيت نفسك عارية عن العيوب وتصديت لتتبع عثرات الناس بالغيوب وفتشت عن عيوبهم الجيوب فأنت حينئذ غارق في بحر العيوب وبالذي أنت طالبه مطلوب وانظر يا ذا السكينة ماذا قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه حبر المدينة ليكن جل مطلوبك حرصك على تفقد عيوبك وقم بذلك عن نفسك وذاتك مقام حسادك ورقبائك وعداتك وقال ذو هدى وقال سدى: لكل فتى خرج من العيوب ممتلئ ... على كتفه منه ومن أهل دهره فعين عيوب الناس نصب عيونه ... وعين عيوب النفس من خلف ظهره فقال أبو نوفل صدقت ونصحت إذا نطقت فجزاك الله عني خيراً ووقاك شراً وضيراً ولكن يا أخي وقعت هفوة على سبيل السهوة وحصلت على غفلة واللفظ عن غير نظر كالسهم إذا رمى عن الوتر لا يمكن رده ولا وقوفه وصده كما قيل: القول كاللبن المحلوب ليس له ... رد وكيف يرد الحالب اللبنا ولكن الذنب والاجترا إذا لم يشتهر إلا بتوجه عليهما العتاب ولا يستحق مرتكبهما العقاب إذا استغفر وأناب وأنا وإن وقع مني الخطا آمن بحمد الله من شر الجزا ومن المؤاخذة بالجريمة وإن كانت عاقبتها وخيمة لأنها بينك وبيني وأنت بمنزلة روحي وعيني وفيقي وصاحبي ومراعي حقي وجانبي فسرى عندك مصون وأمري عن الإشاعة مخزون وقد قال الحكماء ذو التجارب لا تودع السر إلا عند صاحب صدوق صديق

ومحب شفيق وأنت هو ذاك الموثوق فاطرحه سويداء قلبك في أسفل الصندوقفإن استمر عندك ساكناً صرت وبال أمره آمناً ولا يبعد ذلك من شفقتك وسابق صداقتك ووفائك بالمروة وقيامك بحقوق الأخوة وأسأل إحسانك أن تجيب لصاحبك القديم مرجوة قال أخو نهشل أعجب لأبي نوفل كيف يغفل أما سمعت يا عاقل قول القائل من علامات الجاهل أن يقرض ماله باللطف ثم يتقاضاه بالفظاظة والعنف وأن يودع سره وخفاياه وأمره عند من يحتاج أن يتضرع إليه ويقسم في إخفائه واكتتامه عليه ثم يحلفه أن لا يبديه ولا يذكره لأحد ولا ينهيه وقد قالت الحكماء لا تودع أحداً سراً فإن فعلت فاتك السر لأن كتمانه قيدهم وعناء وإبداءه كيد هلاك وبلاء وقد قيل: وكل سر جاوز الاثنين شاع ... كل علم ليس في القرطاس ضاع ولم يقصد بالاثنين إلا الشفتين وقال الشاعر: إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق (وقال أيضاً) : لا تودعن ولا الجماد سريرة ... فمن الحجارة ما يسر وينطق وإذا المحك أضاع سر أخ له ... وهو الجماد فمن به يستوثق (وقال أيضاً) : صن السر عن كل مستخبر ... وحاذر فما الحزم إلا الحذر أسيرك سرك أن صنته ... وأنت أسر له إن ظهر

وكل ما تحرك به اللسان انتشر في الكون والمكان وناهيك يا تامر قضية الحرامي مع الطامر قال أبو نوفل: كيف تلك يا أخا نهشل (قال) بلغني إن رجلاً من الحرامية واللصوص الكرارية كانت نفسه ذات الخيانة تحرضه على الدخول من حواصل الملك إلى الخزانة وإنها رؤية الخزانة مشتاقة ولمعانقة فاسق التحرم عشاقه وكان جاهداً في أن يعطيها من مناها ما يرضيها ولكن كانت نجوم احراس بالرصد ولرجوع ذلك الشيطان كل بعد وكتم ذلك السر عن الإخوان ومضى عليه برهة من الزمان وهو يكابد اكتتامه ويخاف من السوء ختامه والقدر كائن والكائن حائن إلى أن طفح عليه ما قصد وغلا خمر سره في قلبه وقذف بالزبد فطلب صاحباً يتلفظ به إليه ويعتمد في اكتتام سره عليه واختلافي حجرته فقرصه برغوث في حنجرته فمد يده إليه وأفشى سره معتمداً عليه وقال في خاطره عند إفشاء سرائره لا لهذا لسان يقدر على البيان وعلى تقدير أن لو كان فهو مثل ولدي تربى من دم كبدي ولحم جسدي واطلع على عورتي فلا يقصد عترتي ولا يكشف سري ولا يهتك ستري ثم أدنى فاه حتى وافاه وقال يا أبا طامر وكاتم السر في السرائر إني عزمت كالمنهمك على الدخول إلى خزائن الملك لأستصفيها وآخذ ما فيها فاكتم هذا السر عني وامصص ما شئت من الدم مني ثم طرحه في سراويله واستمر في نيته على أباطيله ثم قصد في بعض الليالي ما كان يخلو به على التوالي ويرصده في

المكامن من الدخول إلى الخزائن فلاحت له فرصة فانتهزها واستعمل دقائق صنعه وأبرزها وانتقل من ذلك إلى المبيت ولطئ تحت سرير الملك كالعفريت والملك نائم فوق السرير على فراش الحرير معانق الظبي الغرير وخرزة التاج عند رأسه فقد كأنها سراج متقد فقصد اللص أخذها واقتطاعها وفلذها فاسهل القوم إلى أن استغرقوا في النوم وبينما هو متفكر فيما به إذ خرج البرغوث من ثيابه ودخل إلى جسد السلطان وقص عليه بلسان القرص كل ما كان من شأن اللص فنهض الملك من مرقده فرأى نقطة على جسده فطلب النور لينظر الأمور فرأى برغوثاً طار ونزل تحت السرير فقصوا أثره على المسير فوجدوا الحرامي الكسير فربطوه كالأسير ووقع في الأمر العسير بالأمر اليسير فصار كما قيل: مشى برجليه عمداً نحو مصرعه ... ليقضي الله أمراً كان مفعولا (وإنما أوردت هذا المثل) لتعلم يا أبا نوفل أن سراً في الفؤاد لا يؤمن عليه الجماد فضلاً عن متحرك منحيوان ونعوذ بالله إن كان من جنس الإنسان وقد قيل للحيطان آذان ومن أمثال العجم الأوباش للديوان أكواش فلما انقضى هذا الكلام وكان الأسد قد استوفاه على التمام وقد أثار في أحشائه لهباً نهض من مرقده غضباً واستحال وتحرك وأمر بأبي نوفل فقبضوا عليه ووضعوا الغل ف رقبته والسلاسل في يديه ورجليه وأمر إلى السجن برفعه بعد التنكيل به وصفعه فتشوش خاطر صديقه وجليسه ورفيقه ثم انقض المجلس النظيم ودخل الملك إلى الحريم

فتوجه أخو نهشل إلى السجن المقفل ولأم صاحبه أبا نوفل وزاد في التعنيف وقال أيها الأخ الظريف ألم تعلم أن الشخص إذا تكلم يضبط كلامه عليه ويعود محصول ما يلفظ به إليه وقد قال الرب المجيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وإن كثرة الكلام تضر بالنفس أكثر مما يضر بالبدن الطعام وكل هذا المصاب إنما جاء من قبل الإعجاب وكثرة الكلام والغرور وعدم التأمل في عواقب الأمور قال الشاعر: ما أن ندمت على سكوتي مرة ... ولقد ندمت على الكلام مراراً قال حكماء الهند وفضلاء السند ما دام الكلام في الفؤاد ولم يبد منه على اللسان باد ولم يصب منه سائل حرف في صدفة الآذان أو وعاء الطرف فهو كالبنت البكر المشهورة الذكر كل أحد يخطبها ويميل إليها ويطلبها ويتمنى أن يراها ويترشف لساها فإن ألقى إلى المسامع ووعاه كل ناظر وسامع فهو كالعجوز الشوها إذا سلوها وقلوها وهي تلازم صباحاً ومساء ويفر منها الرجال والنساء ويحيد كل أحد عنها فإذا تكلمت أسكتت وإذا سلمت أعرض عنها وقال بعض الحكماء اللسان أسد وهو حارس الرأس والجسد إن حبسته حرسك وإن أطلقته حبسك وإن سلطته افترسك وقالوا الكلام أسيرك ما لم تبده فإن تكلمت به فأنت أسيره قال بعض الحكماء أنا على ما لم أقل أقدر مني على ما قلت وقال عيسى صلوات الله عليه العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله وواحد منها في ترك مجالسة السفهاء

وقال نبي الحرمين وإمام الثقلين صلوات الله وسلامه عليه الصمت حكمة وقال عليه الصلاة والسلام البلاء موكل بالمنطق وقال الحكماء السكوت يسترعب الجهل ويعظم حرمة الملوك ولقد آذيت نفسك وتسبب فيما أوجب حبسك وأقلقت ودودك وأشمت حسودك ولقد كانت حصتي من بلائك ومما دهاني من شدة عنائك أعظم من كل حصة وقصتي في ذلك أعجب من كل قصة إذ أنت رفيقي وزميلي وفي حضرة الملك ومنادمته عديلي نشأنا على ذلك وسلكنا في الموافقة والمرافقة أقوم المسالك وكنت المرحو لمخافي وأيابي في مطافي ومشتكى حزني ومشتفى شجني ومخزن أسراري وأعظم أستاري وراوية أخباري في أحباري وراوية أسفاري في أسفاري ومن أين ألقى مثلك وفيقاً أو أجد صديقاً شفيقاً وأنت صاحب السراء ومصاحب الضراء وأنشد: ومن أين ألقى بعد سبعين حجة ... رفيقاً كمن أرضعته قهوة الصبا أديباً أريباً لم أمل مقامه ... ولا ملني يوماً حكيماً مهذباً ويعز علي ويعظم لدي أن أراك في هذه الحالة ثم أجرى سحائب دموعه الهطالة وقال: وما على الحر أنكى أن يرى حزناً ... في محنة ضاق عنها دونه الحيل

ولقد تحيرت في هذا الأمر المهول وما أدري قصاراه إلى ماذا يؤول وليلة الغم الصراح عماذا يسفر فيها الصباح فأنكئ لذلك أبو نوفل وبكى وتضرع إلى الله وشكا وقال يا أعز الأصحاب وأحب الأحباب لقد أثر عندي ما قلت من الكلام أكثر مما أصابني من الآلام كيف يغتفر لأحد الجانبين ويطلق أحد القيدين وأني يعتذر بالقضاء والقدر لإحدى الغصتين وهل شيء في عالم السكون والفساد جاء خارجاً عما قدره الله وأراد وكلنا في هذا سويه والعبد مقهور مع المنية ولكن الجداد إذا أقبل ولاحظ بسعدهوتفضل فكل حركة تصدر من الغبي العاجز يعجز عن مقاومتها البطل المبارز وكل قول يتفوه به الجاهل يدع دليل معانيه أدلة العقلاء في مجاهل ومذاهل ودعاميص ذوي الآراء المنضبطة المناهل تلقى من عقنقل الحيرة في مجاهلها مناهل فيصير كل وجه إليها مائل وكل إنسان بها قائل وقوام كل سعد وقبول إليها قابل كما قيل: وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان ونعوذ بالله من ليل السعد إذا أدبر وصبح الخمول إذا أسفر فإن اللبيب إذ ذاك يخطئ ما كان يصيب ويفعل العاقل ما لا يرتضيه بأقل فيكون جهد النفس زيادة في العكس:

وإذا تولى الجد يحتاج الذكي ... في رأيه قبل الزوال مراحاً وانقلاب الدهر وانعكاس الزمان شيمة معهودة وخصلة معدودة كما قيل: ومن ذا الذي ما غره صرف دهره ... فأضحكه يوماً ولم يبكه سنه وأنا كنت غافلاً وإن لم أكن جاهلاً وقد يكون الشخص عما تحققه ذاهلاً وذلك لما كان عودني الزمان وألفته من سالف الدوران وإرخاء العنان ونيل الأماني والأمان وأسبال ذيل النعم والإحسان الدائم والكرم فمشيت على ما كنت أعهده وفي نفسي أجده وأيضاً كانت لذة عشرتك ونعيم صحبتك وحسن موافقتك وعز مرافقتك أنساني كل بليه وأمنت بذلك كل رزية فألهاني عن التنكد ودهتني غفلة عن التوزع والتبدد مثل ما أصاب ذلك الهدهد قال أخو نهشل أسرد ذلك المثل (فقال) ذكروا إن الله مجري الخير علم بعض عبيده الصلحا منطق الطير فصاحب منها هدهداً وازداد ما بينهما تودداً ففي بعض الأيام مر بالهدهد ذلك الإمام وهو في مكان عال ملتفت إلى ناحية الشمال وهو مشغول بالتسبيح يسبح الله بلسانه الفصيح فناداه يا صاحب التاج والقباء والديباج لا تقعد في هذا المكان فإنه طريق كل فتان ومطروق كل صائد شيطان ومقعد أرباب البنادق ومرصد أصحاب الجلاهق فقال الهدهد أني عرفت ذلك وإنه مسلك المهالك قال فلأي شيء عزمت على القعود فيه مع علمك بما فيه من دواهيه

قال أرى صبباً وأظنه غوياً نصب لي فخاً يروم لي فيه زخاً وقد وقفت على مكايده وماصب مصايده وعرفت مكيدته أين هي وإلى ماذا تنتهي وأنا أتفرج عليه وأتقدم بالضحك إليه وأتعجب من تضييع أوقاته وتعطيل ساعاته فيما لا يعود عليه منه نفع ولا يفيده في قفاه سوى الصفع وأسخر من حركاته وأنبه من يمر على خزعبلاته فتركه الرجل وذهب وقضى حاجاته وانقلب فرأى الهدهد في يد الصبي يلعب به لعب الخلى بالشجى ولسان حاله يلهج بمقاله: كعصفوره في يد طفل يهينها ... تقاسي حياض الموت والطفل يلعب فلا الطفل ذو عقل في يد طفل لحالها ... ولا الطير مطلوق الجناح فيهرب فناداه وقال: يا أبا عباد كيف وقع في شرك الصياد وقلت لي أنك وعيت ورأيت ما رأيت؟ فقال: أما سمعت أن الهدهد إذا نقر الأرض يعرف مسافة ما بينه وبين الماء ولا يبصر شعرة الفخ وذلك لينفذ ما كتبه الله تعالى وقدره من قضائه وقدره وناهيك في قضية القضاء والقدر قضية آدم أبي البشر مع موسى الكليم عليهما الصلاة والتسليم لما جرت عليه أحكام القضاء والقدر فتمت مشيئة الله تعالى السابقة في عمله وجرى ما لم تدركه عقول الفحول في ميدان إرادته من سوابق حكمه وحكمته وأنشد الهدهد:

يا سائلي عما جرى ... والعين مبصرة القدر أو ما سمعت بأن إذا ... جاء القضا عمى البصر وقال أيضاً: إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر ... إن القضاء إن أتى يعمى البصر واسمع أيها العاقل قول القائل: إذا أراد الله أمرا لامرئ ... وكان ذا عقل وسمع وبصر وحيلة يفعلها في دفع ما ... يأتي به محتوم أسباب القدر أصم أذنيه وأعمى قلبه ... وسل منه عقله له سل الشعر فلا تقل فيما جرى كيف جرى ... فكل شيء بقضاء وقدر وأنا لما اغتررت بحدة بصري ذهلت عما يجول في فكري فتغطت حدة استبصاري فوقعت في فخ غنراري أما سمعت يا همام قول الإمام إذا حلت المقادير ضلت التدابير ثم قال أبو نوفل وقد أثر فيه كلام أخي نهشل: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... رداوني بالتي كانت هي الداء وإنما أوردت هذه الحكاية لتخفف عني ما في تقريعك وتوبيخك من نكاية وتعلم إن الأمور كلها جلها وقلها جارية على وفق ما قضاه الله تعالى وقدره وأثبته في سابق عمله في اللوح المحفوظ وسطره وإن كانت الأحكام في هذا الباب تضاف إلى العلل والأسباب ولا شك في هذا ولا ارتياب فقد مر أن الذهول شغلني عن الفضل بالفضول وإن العذر غير مقبول فإن الجهل لا يكون حجة ولا مخلص لسالك لا سوأ المحجة وقد طال الكلام والحق بيدك والسلام

وأما الآن فجل المقصود من لطفك المعهود وبذل المجهود وتذكر سابق العهود وقديم الصداقة وأكيد المحبة والعلاقة عطف الخواطر الملكية ورجوعها على ما كانت عليه من الصدقات السنية والعواطف الملوكية وأقل الأقسام الخلاص من هذه البلية وعلمك قد أحاط بأوثق مناط أني شخص وحيد بين ملازمي الخدمة فريد لم يكن لي أخ سواك وأنت مشتكاي وأنا مشتكاك وهذا أو إن الفتوة وزمان المروة وعدم التخلي عن الإخوان والانبعاث بالهمة الثابتة الأركان والسعي في خلاص الصاحب القديم من هذا البلاء العظيم وأسألك بسالف الخدمة والمودة ذات القدمة أن لا تذكر ما سلف من التقصير الموجب للتلف فإني معترف أني للذنب مقترف وأنشد: جاوزت في اللوم حداً قد أضر به ... من حيث قدرت أن اللوم بنفعه وإني إذا تفكرت وتصورت ما وقع إذا تذكرت وإن كان قد مضى يضيق بي الفضا وأغرق في عرق الحيا وتسود في عيني الدنيا فكأنه في هذا القبيل عني قيل: كأن فؤادي في مخالب طائر ... إذا ما ذكرت الحب يشتد بي قبضا وهذا القدر من الإعلان يكفي وأني أستحلي إذا مر بخاطري غصص حتفي ثم علا زفيره وشهيقه وبدا من لهيب قلبه بريقه ومن وادي دمعه عقيقة حتى خيف عليه غريقة وحربقه ورق له ورق له عدوه وصديقه وبكى لبكائه رفيقه قال أخو نهشل اعلم أيها الأخ المفضل أني لم أقل ذاك الكلام للعدوان

فضلاً عن أيحاش قلب وإيلام ولكن تألم حناني أجرى الله ذلك على لساني ولم يكمن لذلك الحديث باعث ولا قصد عابث أو عائث ولكن صفو المحبة ووفور الصدق أوجبا التلفظ بذلك النطق وكيف لا أدرك دقائق المعاني وأنالها من ثمار فضائلك جاني وأما بذل الاجتهاد من أهل الوداد فهل يخطر ببالك غير ذلك ويأبى الله والأخلاق الكريمة وما عملته من همة وشيمه وفواضل فضائل من موانح خصائلك اقتباستها ومطارف معارف على منوال سحاياك نسجتها أن أتخلف عن التعلق بأهدابها وأغلق أبواب مقاصدها في وجوه طلابها وأنا إن لم أبذل مجهودي وأصرف موجودي في مساعدة خلي وصديقي وصاحبي ورفيقي بما تقتضيه المروءة والفتوة والصداقة القديمة والأخوة وإلا فأي فائدة في وجودي لوالدي ومولودي وطارفي وتليدي وصديقي وودودي. وقد قيل أربعة أشياء فرض عين في شريعة المروءة على المحبين وكذلك الإخوان وسائر الصحاب والخلان الأولى المشاركة في النوائب وتعاطي دفعها من كل جانب الثاني إذا ضل أحدهم عن طريق السداد يردونه إلى سبيل الرشاد ولا يتركونه على غير الصواب بل يستلطفونه بألطف خطاب الثالث إذا صدر من أحدهم نوع جفاء يلاقونه بالوفاء والصفا ولا يتركونه على شفا ولا ينسون الوفاء القديم بالجفاء الحادث فربما يتفرع على ذلك ما يؤكده من العوائث

الرابع لا يؤاخذون المقصر في حال الغضب بل يرجئون عقوبته إلى أن يطفأ اللهب فربما يتعدى بواسطة الغضب الحد فيقع بسبب ذلك بين لأصحاب نكد ثم أن أبا نوفل قال لأخي نهشل المبادرة أولى إلى التلافي لئلا يسابق الجنود إلى تلافي وهذا المصاب إنما جاء بغتة وأخذ قلوبنا وأسماعنا بهتة فاستعمل فكرك القويم وتوجه إلى التدارك بقلب سليم فقال هاأنا أذهب على الفور لهذا المطلب النافع وأقوي العزيمة واجتهد في دفع الموانع فأول ما ابتدئ بقصد الملك وانظر ما يصدر منه قولاً وفعلاً في هذا الأمر المشتبك فأبني على ذلك ما يناسبه وأجاريه فيما يميل إليه خاطره ولا أجاذبه ثم توجه إلى الأسد ودخل عليه فوجد الدب جالساً بين يديه وقد بلغه قضية النديم وأنه حل به العذاب الأليم فاغتنم الفرصة وبادر ليتم على أبي نوفل الغصة ويتعاطى في أمره قصة وخصة فأراد أخو نهشل أن يفتتح الكلام ثم أفكر في أنه ربما يعاكسه الدب في المرام وأنه إذا قام في المناقضة لا يمكنه مقابلته المعارضة وإن سكت فالسكوت رضاً وإن وافق فعلى غير مراده مضى فأمسك عن الكلام ورأى السكوت مقتضى المقام ثم أمعن النظر وأجال قداح الفكر فرأى أنه إن انفصل المجلس من غير أن يفصح بشيء وينبس ربما يفوت المقصود أو يسابقه بالمعاكسة عدو أو حسود لا سيما مثل الوزير الرفيع الخطير صاحب الرأي والتدبير وهو عدو قديم وفي طرق الخزي نظيره عديم فإذا بادر بالكلام ربما يقع منه فلتة بمقام كما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا

فتلقاه الملك بقبول فيصول كما يختار في ميدان الفتك ويجول فتنعقد الأمور وتتقصد وتنعقف الأخلاق الأسدية وتتعرد فرأى الأولى المبادرة بالكلام والوقوف في مقام الشفاعة أنسب بالمقام فإن عارض أحد عرف أن جوهر كلامه عرض ولا تصدى إلا لغرض وكان الملك قد سمع كلامه بعد معرفة سلامته وإلقائه على أبي نوفل عذله وملامه وكلامه معه وينهمك مقبول وما لأحد عنه عدول، وكان الدب منتظراً خروجه من عند الملك حتى يختلي بالكلام معه وينهمك فأدرك أخو نهشل هذا المرام فوقف في مقام الدعاء وبادر بالكلام ثم قال بعد وظائف الدعاء والقيام بما يجب من مراسيم الثناء العلوم الشريفة والآراء المنيفة محيطة أن من عادة الملوك العظام وأخلاق السلاطين الكرام العفو عن الجرائم والاغضاء عن العظائم لا سيما إذا صدر ذلك من أحد المخلصين والعبيد المتخلصين على سبيل السهو والخطأ لا على سبيل العمد والأبترا: من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسني فقط وأن العبد الأقل أبا نوفل الواقع في الخطر الخطير المعترف بالذنب والتقصير متوقع غفرها من صدقات الحضرة الملوكية ومراحمها وما اعتاده من حملها الشامل ومكارمها ومحتم على الملوك القيام بقبول الشفاعة دون سائر الخدم والجماعة خصوصاً وقد كان رفيقاً نديماً ومصاحباً قديماً ولا يقصد المملوك بذلك الأسواق الحسنات الكثيفة إلى دفائر الصدقات الشريفة وقصد الخير وذهاب الاسي والضير وانتشار صيتها في الآفاق والأطراف بالعلم والحلم والعفور والصفح والفضل والعدل والألطاف فلان الأسد من هذا

الخطاب وعرف أن قصد الشافع من هذا إنما هو الثواب والصواب فاطرق ملياً ولم يحرمن الأجوبة شيا فتأثر الدب الخبيث والعد والقديم لهذا الحديث وخاف أن يكون الكوت رضا وأن هو رضي يفوت منه المنى والأطراق علامة الحلم والسكوت في الحرب دليل السلم ومن فوت الفرصة وقع في غصه ومتى بقع أبو نوفل المختال في مثل هذا العقال وما أطراف مقال من قال: وإن رأيت غراب البين في شرك ... فاذبح وكل وذر الأفراخ في عنقي (وقد قيل) : إذا صارت أعداء نملاً فانهم ... إذا لم تطأهم أصبحوا مثل الثعبان وكم ذا يقاسي من أذاه وقرصه ... على ضعفه أن صار داخل آذانفانبرى وانبرم وتصدى للمعاكسة ذلك البرم وغطى دسائس لؤمه بنقوش الكرم وقال أعلم أيها النديم القديم ومن هو للملك أو في خديم أن الواجب على جميع الخدام أن يكونوا في الصدق متساوي الأقدام ولا يقدموا على نصيج الملك غرضاً ولا يطلبوا سوى رضاه على النصيحة عرضاً فلا يصادقوا الخائن ولا يصدقوا المائن ولا يواطؤا الخاطي ولا المذنب المتعاطي ولو بالكلام الواطي ولا يخفوا الخيانة والجنابه ولا يرعوا في ذلك أدنى الرعاية فساعد السارق سارق ومعاضد المارق مارق والقيام مع الجاني جناية وإخفاء الخيانة نكاية وفي هذا الكلام كفاية ومن اعتذر من حناية جان لا سيما أن كانت في حق ملك أو سلطان فهو شريك فيها بل أعظم جرماً من متعاطيها لأن عظم الجناية يا ذا الدراية إنما هو بحسب المجني عليه وأن ذلك لوهن عائد إليه لا على مقدار الجاني وأنت

لا تجهل هذه المعاني ولهذا قال بعض أهل الافضال أن تعاطي الفساد يا ذا الرشاد ليس فيه صغبره وأن كل ما يخالف الأمر كبيره وذلك بالنظر إلى الجناب الأقدس القاهر تعالى وتقديس فقال أخو نهشل كلام مولانا الوزير هو المفضل وما أشار به هو الصواب المعدل يا مولانا الوزير علمك الخطير خبير باننا كلنا محل الخطأ والتقصير ولا يسع الكبير منا والصغير إلا الحلم الغزير والعفو عن كثير وقل لي من هو البرئ عن الهفوة والذي لا يتوقع من مولانا الملك عفوه وأن لم تقع الشفاعة في الجاني وذي الخلاعه ومخالف سنة الجماعة فالمحسن لا يحتاج إلى شفاعه ومن لم يجير المكسور ويأخذ بيد المحقور فما يجد عند انكساره جابراً ولا يؤخذ حين بيد حين يصير عاثراً وقد قيل من مثلك الفضيل وصاحب الأدب الجزيل: إذا أصبحت فينا ذا اقتدار ... وأمرك في رقاب الخلق جاري أقل وأقبل عثارا واعتذارا ... فمن يقبل يقل عند العثار فما زال الصغار ثروم عفوا ... وغفران الكبائر من كبار وأحسن العفو يا ذا السلوك عفو السلاطين والملوك لا سيما إذا عظم الجرم وكبر الأثم فإن العفو إذ ذاك صادر من ملك ذي سلطان قادر مع قوة الباعث على المؤاخذة والقدرة الشاملة النافذه وغير الملوك من العاجز والصعلوك عفوهم إنما هو عجز خشيه أو لتمشية غرض مشيه والملوك إنما عنهم الخلال الحميدة والخصال الشريفة السعيدة وإلا كابر يعفون والاصاغر يهفون وقد قسم الحكماء والحكام ما يقع من الذنب والآثام أربعة أقسام فاسمع

يا كبير هفوة وتقصير وخيانة ومكروه وحرروا ذلك وضبطوه وذكروا لكل جزءاً قروره فجزاء الهفوة العتاب وبه نطق الكتاب وجزاء التقصير الملامه على ما أورث من ندامة وجزاء الخيانة العقوبة فإن في ارتكابها للعاقل صعوبة وأعظم بعقابها مثوبة وما يرتكب المكروه إلا الغافل المعتوه وجزاؤه أيضاً بمثله وهذا على مقتضى العقل وعدله والذي صدر في سابق القدر من المخلص أبي نوفل إنما هي هفوة بها زل وجزاؤه على هذا الحساب إنما هو العقاب وقد استوفاه وزيادة وفي هذا لمولانا الملك الإرادة فإن شاء عاقب على الذنب الصغير وإن شاء عفا عن الجرم الكبير والهفوة لا يكاد يسلم منها الخواص فضلاً عمن هو في شرك العبودية والأقتناص ولأن يؤثر الفضل عن الملك وعلى طريق عفوه يسلك الدرب للستلك خير من أن يؤثر عنه لنفسه انتقام ويخلد ذلك على صفحات الأيام ولا شك أن سيرة العفو والفضل أفضل من القصاص والعدل وذلك هو اللائق بالحشمة والأوثق للحرمة والأجدر لناموس السلطنة والأبقى على ممر الدهور والأزمنة وقد قال سيد المرسلين وحبيب رب العالمين ينادي مناد يوم القيامة من كان له عند الله يد فليقم فلا يقوم إلا من عفا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله ولقد كان جماعة من عظماء الملوك والأكابر يبحثون عمن تعاطى

الذنوب والأجرام من الأصاغر لا سيما لمن يتعرض لذات الملك ونفسه ويستعين بطوائف على فساده من أبناء جنسه فإذاقدروا عليهم وتلذذوا بالعفو والإحسان واستعفوا وحسبك يا أبا جهينه ومن فضله أعذب مزينه واقعة ابن سليمان المخلدة على ممر الأزمان وما تضمنت من مكارم الأخلاق التي تعطرت بها الآفاق فتوجه الأسد إليه ومال وقال أخبرنا يا أخا نهشل كيف كان هذا المثال (قال) لها انتهت أيام بني أمية وتطرزت خلع الأيام بأعلام الدولة العباسية وأشرق بطلعة أبي العباس السفاح في ديار جير الدهر أيمن صباح بأحسن فلاح اختفت نجوم أفلاك بني أمية وكواكب من بقي من تلك الزواهر المضيه وكان منهم إبراهيم ابن سليمان بن عبد الملك بن مروان وجعل السفاح يتطلبهم ويرغب من يدري بهم ويرهبهم إلى أن ظهر ابن سليمان وكان من أمره ما كان فحكى أنه كان بالحيرة مختفياً في هم وحيره قال ففي بعض الأيام تراءت لي على سطح سواد أعلام فوقع في نفسي وغلب على حدسي أنها قد جاءت لطلبي راغبة في عطبي فتنكرت في الحال واختفت وخرجت من الحيرة وإلى الكوفة أتيت فدخلتها خائفاً أترقب ولم يكن لي فيها مترصد ولا مترقب ولا صديق أركن إليه ولا صاحب أعول عليه فصرت في تلك البلاد مثل المنشد ببغداد:

بغداد دار لآهل المال منعمة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق فأداني المسير إلى باب كبير منظره جليل وداخله دهليز طويل ليس فيه أحد من الحجاب والرصد فدخلت إليه وبه مكان فجلست عليه وإذا برجل جسيم الشكل وسيم على فرس جواد مع طائفة من الأجناد فدخل إلى دهليز الباب وفي خدمته غلمانه والأصحاب إلى أن نزل عن دابته وانفرد عن جماعته فلما رآني في وجيف ووجل قال من الرجل فقلت خلالك الذم مختف على دم واستجرت بجوارك ونزلت في ديارك فقال أجارك الله لا تخف من سواه ثم أدخلني في حجرة لطيفة تشتمل على أشياء ظريفة قد جعلها مضيفة ينزلها كل من قصده جهله أو عرفه فمكثت عنده حولا أصول في نعمه صولا ولا يسألني فعلا ولا قوة بل كان يركب من الأسحار وينزل إذا انتصف النهار وذلك كل يوم لا تأخذه عن ذلك سنة ولا نوم فسألته في بعض الأيام ونحن في أهنى مقام وقد صرت عيبة سره ومرآة قلبه وصدره عن ركوبه ونزوله وموجب تنقله وحلوله فقال أن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك بن مروان قتل أبي صبرا وأورثني بذلك نكدا أو ضرا وأوهج في فؤادي لهبا وجمرا وقد دارت على بني أمية الدوائر وبلغني بقتله من كربه فآخذ بثاري وأكشف عني عاري وأطفئ لهبي وآخذ ثار أبي

قال ابن سليمان فعجبت من قضاء الرحمن وكيف ساقتني أرجلي إلى شبكة مقتلي وأمشاني القضاء برجلي إلى من هو دائر على قتلي فاستحييت منه ومن الله وكرهت عند ذلك الحياة فسألته عن اسم أبيه لا تحقق ما يبديه وينهيه فأخبرني فعرفته إني أنا قتلته فقلت يا هذا وجب على حقك وأنا غريمك ومسترقك وقد قرب الله خطاك وأنا لك متمناك فقال وما ذاك فقلت أنا إبراهيم الذي على طلبه تهيم وأنا قاتل أبيك فافعل بي ما يرضيك وخذ ثارك وأطفئ نارك فقال كأنه طال بك الجفاء وأضر بك الاختفاء فأردت بالموت الخلاص واستندت لدعوى القصاص فقلت لا والله الذي علم السر وأخفاه بل قلت الحق وفهت بالصدق وخلاص الذمة في الأولى أخف من قصاص الأخرى وأولى أنا فعلت بأبيك الأذى في يوم كذا ومكان كذا قال فلما علم ذلك مني وتحقق أنه صدر عني احرت عيناه وانتفخت شفتاه وقامت عروقه ولمعت بروقه وأزبدت شدوقه وأطرق إلى الأرض وكاد يأكل بعضه البعض وجعل يرجف ويرعد ويزأر كالأسد ويتململ كريشة تقلبها الريح في قاع البلد واستمر على ذلك زمانا يتأمل فيما يفعله بي إساءة وإحسانا إلى أن سكنت رعدته وبردت همته فأمنت سطوته وقهر جديسورته ثم أقبل على رفع رأسه إلي وقال أما أنت

فستلقى أبي غدا فيقتص له منك جبار السما وأما أنا فلا أخفر ذمتي ولا أضيع جواري وحرمتي ولا يصل إليك مكر ومضى. ولكن قم واخرج عني فلست آمن نفسي عليك ولا أقدر بعد اليوم أنظر إليك ثم دفع إلى ألف دينار وقال استعن بها على ما تختار فلم آخذها ولا نظرت إليها وخرجت من داره ولم أعرج عليها ولم أر أكرم من ذلك الرجل ولا أحلم ولا أعظم مكارم منه ولا أجسم. (وإنما أوردت) هذه الحكاية وقى الله مولانا شر النكاية ليعلم أن الذنب الكبير يستدعي العفو الكثير ممن قدره عظيم وحسبه جسيم ونسبه كريم كما قيل في محكم الكتاب الحكيم: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. فقال الوزير ناموس السلطنة وحشمتها وهيبة الملك وحرمتها له شروط كل منها محرر مضبوط وبالمحافظة عليه محوط ولا بد من إقامة أركانها وتشييد بنيانها ويجب الوفاء بها على المملوك والمالك ويفترض القيام بها على سلاطين الممالك والإخلال برعايتها وهن في الولاية فلا غنى عن العمل بها ورعايتها أحسن رعاية فمن ذلك أن لا يسامح جماعة ولا يغفل عنهم وعن كيدهم ساعة فساعة ولا يركن إليهم في إقامة ولا سير حيث لا يصدر عنهم للملك ولا للملكة خير فمنهم من يعزل الإنسان عن منصبه من غير وقوف لعزله عن سببه ومنهم من يوالي أعداء الملك وهو ذو اجتراء منهمك ومنهم من يراعي مصلحة نفسه ويقدمها على مصلحة مخدومته في حالتي رخائه وبأسه ومنهم من يفشي سره ولا يراعي خيره وشره ومنهم من يتعرض لسقطه وغلطه لتغيير خاطره وسخطه ومنهم

من ينتقص حرمته وينتهك عظمته وحشمته ومنهم ذو الطبع اللئيم المفسد في الحريم ولا شك أن أبا نوفل المهمل المغفل قد ارتكب بعض هذه الصفات وهو متلبس بأشنع الحركات وهذا يدل على لؤم أصله وشؤم محله وسوء طوبته وفسداد نيته ومن أكرم اللئيم فهو الملوم وهذا أمر معلوم وقد قيل: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فقال أخو نهشل الفقير لا تقل ذلك أيها الوزير فإن أبا نوفل عبد خديم ومخلص قديم وظريف نديم ومحب صديق وودود شفيق أمين ثقة ذو وفاء ومقه محب ناصح وجليس صالح لم يعلم مولانا الملك عليه إلا الخير ولم يزل يسير في طريق العبودية أحسن سير ولم يطلع منه على شيء يعينه ولا يشينه في الدارين ولا يريبه بل هو ملازم لوظائف عبوديته مباشر لما يجب عليه من شرائط خدمته لم يصدر أبدا غش لمخدومه ولا خروج عن امتثال أوامر مرسومه فإن منه هفوة نادرة أو سهوة بادره أو جفوة سادره فحلم مولانا الملك لا يقتضي بل ولا يرتضي إطراح هذه الأوصاف المتعاضد لأجل هذه الزلة الواحدة كما قيل: فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا ... فأفعاله اللاتي سررن ألوف مع أنه حصل له من كسر الخاطر وإحراق القلب وإغراق الجفن الماطر ما لا يجبره إلا العواطف السلطانية والمراحم الشريفة الملوكية ونظرة من الحنو والعطف وذرة من الشفقة واللطف تكفيه ومن أليم الجفاء تنجيه وبعد شدة الممات تحييه وإلا فلا نعرف أحداً يجبر كسر ذلك الوهن أبداً إلا الآلاء السلطانية من يد العلو تعالى مقامها إلى درجات السمو والعطف والحنو

ثم عطف على الدب وقد حفر لإيقاعه الجب وقال أما أنا مع قلة البضاعة واحتقار مقامي بين الجماعة فقد أقمت نفسي لما وجب عليها في مقام الشفاعة فلا أقصر فيها ولا أرجع عنها ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها وأسال صدقات مولانا أبي اللماس المساعدة في إنجاز هذا الالتماس وأن يكون هذا شريكاً لي في إحراز هذا الجعل والوصول إلى أنواع الفضل من هذا الفصل فإنه يرد عنا فئة ومن يشفع شفاعة سيئة وأرجو من وزير الممالك أن لا يقع منه مخالفة في ذلك فإن من سكن الكرم في ربعة لا يصدر منه ما يلبق بكرم طبعه اللئيم بتكلفبل يحسد عليه ويتأسف إذا شرع في مكارم الأخلاق وتعاطى فيها ما لم يقسمه له مقسم الأرزاق ترى وجوه محاسنها في مكانها تتستر منه بانقاب النشوز وأبكار خدورها في قصورها تتراءى لعينه في صورة شوهاء عجوز فلا يطاوعه لسانه في طيب المقام إلى طيب المقال ولا يبعثه جنانه إلى مباشرة حسن الفعال فيصير كما قيل: يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل والناس على دين ملوكهم سالكون طريق سلوكهم وحيث كان مولانا الملك مجبولاً على الشفقة الكاملة والمراحم الشاملة فكلنا يجب على ذمتنا ويلزم دائرة همتنا أن نتخلق بإخلافه العلية ونتشبث بأهداب شمائلها الرضية ونتعاون جميعاً على التزين بملابسة ملابسها البهية ونستضيء بل نهتدي في دياجير المعاش بدراري أفلاك صفاتها الزكية فإن العبد فيما يتعاناه مجبول من طينة مولاه وإن الله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً

قال فالجم الدب ذو الساقطة بما فعله من المغالطة ثم أمسكوا عن الكلام وانتظروا ما يصدر من الضرغام فلم يبد خطاباً ولا أنهى جواباً سوى أن قال صلوا في الرحال ولا تبدوا ولا تعيدوا ولا تنقصوا في هذه القضية ولا تزيدوا حتى أمعن فيها النظر واستشير فيها مشير الفكر فمهما أشار إليه الرأي وأرشد إلى اتباعه الهدى فيما يتعلق بحاله تقدمت إليكم بامتثاله فلما انصرفوا توجه أخو نهشل إلى الحبس وذكر لأخيه ما جرى بينه وبين ذلك النحس ثم قال: أبشر بالنجاح والفلاح والصلاح فقد رأيت في جبين الفوز نور صباح ولا شك أن الله الغفور يجري على يدي ولساني من الأمور ما يجلب السرور ويذهب الشرور فكن أوثق سبور وإن حصل في الطريق عقبة تعويق فلا يكن في صدرك حرج فإن وراءها باب الفرج فإن الظفر مقرون بالصبر والصبر مشفوع باليسر وقد أجاد صاحب الإنشاد: أصبر على ما جرى من سابق قدما ... فمركب الصبر بالإمهال تلحفه فشكر له جميل سعيه ثم عرض على مشير وعيه فقال: كنت أرى إن هذه القضية تؤخر ويرجا السعي في أمرها ولا يذكر وسبب ذلك أن الطالع قد أدبر والحظ عن المساعدة قد تأخر وإذا تحرك الشخص والسعد ساكن وتبسم الدهر والزهر باك وطلب شكر مسالمته وهو شاك فهو كقاطع البحر بالمراكن والباني على ثبجه أماكن لا يصلح له عمل ولا ينجح له أمل فيشبه إذ ذاك الحمار المعصوب العينين في المدار يقطع بالمسير زمانه ولا يفارق مكانه كذلك من يتعاطى الأعمال والسعد غير

عمال فلا يستفيد إلا التعويق والتبعيد ففي تلك الحال ينبغي الإمهال لا الإهمال إلى أن يتوجه السعد بالإقبال فعند ذلك مد الشباك وصيد السماك فإن السعد أتاك والدهر واتاك وناهيك قصة كسرى القديم مع وزيره بزرجمهر الحكيم فسأل أخا نهشل بيان ما نقل من المثل أخوه أبو نوفل (فقال) بلغني أن كسرى أراد التنزه فثنى إلى حديقة عنان التوجه وطلب الحكيم بزرجمهر وجلسا تحت دوحة زهر على بركة ماء أصفى من دموع العشاق وأنقى من قلوب الحكماء ثم طلب طائفة من البط لتلعب قدامه في البركة وتنغط وجعل ينادم وزيره ويتلقف منه حكمه المنيره ويتعرج على البط وهو يلعب ويتأمل في أنواع حكم الصانع الخاتم من أصبعه وهو ساه وشاهد بزرجمهر هذا الأمر فما أبداه ولا أنهاه فالتقمته بطة وغطت في الماء غطة وكان فيه فص ثمين وكسرى به من المغرمين فلما سود قلم الاقتدار بياض النهار وأكمل مشقة على قرطاس الأقطار أذن كسرى للوزير بالانصراف وقد أسبغ عليه خلع الأنعام والإسعاف ودخل كسرى إلى الحرم وافتقد من أصبعه الخاتم فلم يتذكر ما جرى له ولا وقف على كيفية هذه الحالة فأرسل يطلب الوزير البارع وسأل منه عن خاتمة الصائغ وكان الوزير قد نظر في الطالع فرأى أن الكلام فيأمر الخاتم غير نافع فلو تكلم بصورة الواقع ذبح جميع البط وما وجد لأن الطالع مانع فكتم أمره وكلمه بكلام الحقيقة الحد جامع مانع ثم أنصرف وذهب واستمر كسرى على الطلب

ولم يزل بزرجمهر يراقب الأوقات وينظر في أحوال الساعات إلى أن استقام الطالع وزال من السعد المانع وتيمن الفال وحسن البال وحال الوبال فتوجه بزرجمهر إلى خدمة مخدومه وأخبره بما كان مخفياً من أمر الخاتم في جيب مكتومه وأنه سقط من أصبعه وهو على البركة في موضعه فبادرت بطة إلى الغطة فاختطفته وابتلعته بعد ما التقمته فأحضروا البط جميعه وذبحوا من عرضة واحدة بديعة فوجدوا الخاتم في حشاها ولم تحوج إلى ذبح سواها ثم سأل كسرى الحكيم الأديب لمَ لم يخبره بهذا الأمر الغريب في أول وقوعه وصدوره وما موجب تأخيره فقال: كان إذ ذاك الجد في انعكاس والسعد في انتكاس والطالع في سقوط والنجم في هبوط وأما الآن فالطالع واستقام والسعد كالخادم أقام ونجم السعود قد حال عنه الهبوط والوبال وفي استقامة السعد وإقباله من بعد يفعل الشخص ما شا فالدهر معه جار سواء جاري أو ماشي (وإنما أوردت) هذا النظير لتعلم أن معاندة التقدير أمر خطير وخطب عسير فربما يفرغ الإنسان جهده في المبالغة ويكون الأمر فيه ممانعة ومراودة فينعكس المرام ولم يحصل سوى إضاعة أيام ولم أذكر هذه المفاوضة إلا على سبيل العرض لا المعارضة لما علم منك من وفور الفضيلة وإن مقاصدك على كل حال جميلة فقال أخو نهشل الأمر كما زعمت وأشرت به ورسمت ولكن خشيت أن لم أبادر يسبقني عدوة غادر أو حسود ماكر أو مبغض مكابر فينهى المسامع ما ليس بواقع فلم نشعر أيها البطل إلا وقد ولج قلب الملك أنواع من مكر ودخل فيصير كما قيل: أناني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا

لا سيما وقد تقرر في الأمثال عند غالب الرجال أن الدعوى لمن سبق لا لمن صدق وبالجملة يا أبا عويله إذا كانت مقاصد الشخص جميلة فإن الله تعالى ينجحها ولا يفضحها ويدبرها ولا يدمرها وإن كان في الظاهر وعند البادي والحاضر يظهر في بعض القضايا نوع هم وغم لكن ذاك السر لم يطلع عليه إلا مدبر العالم وإذا فوض الشخص الأمور إلى العزيز الغفور الذي هو مدبر الطالع والغارب وفي الحقيقة رب المشارق والمغارب وعلم أن مقاليد الأمور بيد تدبيره وإن ملوك الأرض تحت تصريف تقديره وتسخيره استراح في كل المطالع وأخلص التوكل فنجاه الله من كل الوقائع وأوصله إلى ما رام من المطامع (وحسبك) قضية الناصح الأستاذ الأمين الدمشقي مع الخائن جاسوس بغداد وهي طويلة طائلة في مجلدة كاملة وأيضاً لم أبادر بمفاتحة السلطان في أمرك يا أعز الإخوان إلا لئلا أنسب إلى نهاون وتوان وما من شروط المروة والصداقة والأخوة أن يتخلف الفطن في مثل هذا الموطن عن مساعدة الأصحاب ومعاونة الأحباب لا سيما صديق مثلك وحبيب متسم بفضلك وإني لا أدع من أنواع الاجتهاد وما يحسن ببالي في الإصدار والإيراد شيئاً إلا فعلته ولا أمر إلا قدمته ولا فكر إلا استعملته ولو بذات في ذلك روحي ومالي وخيلي ورجالي وإني مباكر باب الملك وملازمه كأحسن من سدك فإن رايته مكرماً مقامي مصغياً إلى كلامي خاطبته بما يليق وسلكت في الشفاعة وحلو العبارة أوضح طريق وإن شاهدت في خلقه شكاسه وفي طبعه شراسة وصعوبة وشماسة سلكت سبيل حسن السياسة وفي الجملة استعمل علم الفراسة وفي كل حكم نظيرة وقياسة وأستعين بالأقرباء والأولاد وأغالط المناقض والمعارض من الأعداء وأقصد النحج وأراقبه وارتقب السعد وأخاطبه وأسلك مع كل

أحد ما يناسبه فالعدو أقتله والحسود أختله والعذول أفتله والمحب أحتله والمبغض أبتله ومن تصلب في المدافعة أمثلة إلى أن ينقضي هذا الأمر وينطفي منه الجمر ويقبل مبشر الأماني بالطبل والزمر ثم أنه بات مفكراً وبادر إلى الصباح مبكراً وأم أبواب السلطان قبل سائر الخدم والأعوانفوجد الدب قد سبقه وجلس من عين المكروه في الحدقة وقد فوق سهم الكبد وصوبه إلى شاكلة الصد ولم يبق إلا إطلاقه ليشد من المرمى وثاقه فقبل النديم الأرض وأعلن سلامه وقطع على أبي حميد كلامه وعارض ملامه وناقص مرامه وقال أدام الله أيام السعادة وأعوام الحسنى وزيادة المستمدة من بقاء مولانا السلطان وعمر دهره المخلد على تعاقب الزمان وأطأ قمم الأمم مواطئ قدمه وأطاب بطيب حياته معايش عبيده وخدمه كانت المواعيد الشريفة والآراء المنيفة سبقت بالتأمل في أمر عبدها القديم وخديمها الفقير النديم وجالب سرورها أبو نوفل النديم مع ما كان لائحاً وعلى صفحات الرضا واضحة من شمائل الأخلاق الملوكية ومكارم الشيم السلطانية إن مراحمها ستأخذ بيد العائر وتقبل عثرته بحسن المآثر بحيث يشرح الحاسر ويربح الخاسر والمملوك يسأل مراحمها ويرجو مكارمها أن لا تخيب ظنه وأن تجبر بتحقيق ظنه وهنه وأن تجري مماليكها وعبيدها على ما عودها من الصدقات قديمها وجديدها ثم أنشد وإلى الرضا أرشد: أرجو بالعباس أن يروي لنا ... عن ثغرة الضحاك نوراً يقتبس فأقرأ تبسم ضاحكاً من قولها ... متهللا نحوي ولا تقرأ عبس

فتبسم أبو العباس ابتسامة ظهرت منها للرضا علامة فاشتعل الدب من القيظ وكاد يتمزق من الغيظ وعلم أن عقد أمره انفرط ونجم سعده من فلك السعد سقط وأنه لم يكتسب من مكايد القساوة إلا هاتيك العداوة وانكشف عند مالكه ما وطاه من مغطى وقرأ كل أحد حديث ذلك الموطأ وغلب عليه الوجد في الحال فخرج عن دائرة الاعتدال وسكر من خمرة العداوة فطفح وعربد وشطح فقال: كل من ستر على أعداء الملك فهو في الخيانة والجناية مشترك وكل من شفع في الجاني فهو في قيد العصيان عاني بل هو أشد من المباشر إذ هو معاشر للمتعاطي ومكاثر والإبقاء على المعصية شر منها والرضا بكفر الكافر فتنة يفر عنها وما أظنك أيها النديم العارف القديم لمعرفة هذا القدر عديم فإن أبيت إلا الإصرار ومساعدة الفجار ومعاونة الأشرار فأنت حينئذ مستخف لهيبة ولي نعمتك مستنقص حرمة مالك رقبتك طالب لابتذاله مستهين بمقام جلاله راض بتسليط الأنذال والأوغاد الأراذل على انتهاك حرمته وابتكاك أستار حشمته ونحن لا نرضى بذاء الذمامة ولا كيد للمخالف ولا كرامة فعند ذلك استشاط الغضنفر وتأثر لكلام الوزير وتغير وزأر وهمر وزفر زفرة وزمجر وكاد أن يثب على أبي جمهر ثم أنه تماسك وتناسى الغدر وتناسك وقال يا أبا سلمة كبرت كلمه غيمة الأصحاب والنميمة بين الأحباب وساءت حركة وبئست ملكه تناسى الحقوق وتحاشى العقوق

وإطراح جانب الصديق الصدوق والرفيق الشفوق وإضاعة خدمة الخديم لا سيما النديم القديم ولم تزل الأصاغر تستمطر مراحم الرؤساء والأكابر ولم تبرح الملوك تعطف على مسكينها الصعلوك أنسيت ما قلت لك في حقيقة من ملك وهو: ليس المليك الذي تشقى رعيته ... وإنما الملك مولى يحفظ الخدما وأيضاً لم تزل الأصحاب تساعد أصحابها وتستعطف عليها ملوكها وأربابها وترفع بحسن السفارة من ستائر الدهشة حجابها ويثبتون بذلك الأجر العظيم والثواب الجسيم والثناء العاجل والجزاء الآجل في صحائف مخاديمهم ويعدون ذلك أربح معاليمهم ويبذلون في ذلك الجهد ويبلغون فيه غاية الكد وذلك مما يجب عليهم ويتقدم بالمحافظة عليه إليهم كما قيل: يستعطفون الأكابر يستعبدون الأساغر يحبون رسم الأوائل يعملون الأواخر وأي فائدة واستفادة أيها الوزير أبا قتادة في رعية ملك لا تتفق قلوبهم ولا تستر بينهم عيوبهم ولا تطهر بالصفاء جيوبهم ولا تتجافى عن مضاجع الجفاء جنوبهم ولا يتساوى في الوفاء حضورهموغيوبهم تراهم في الغيبة يفت بعضهم بعضاً فتاً ويرعون لحومهم قتا كبهائم لاقت في مرعاها قتاً وفي الحضور تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ثم إن كان أخو نهشل يساعد أخاه أبا نوفل فذاك شيء يجب عليه ويندب فإنه صاحبه القديم وجليسه القويم وإن تخلى عنه فماذا يرجى منه وحجر النوائب هو محك الأصحاب وجمر المصائب يظهر من تبر الصداقة اللباب وقد قام في هذه

النوائب بعدة أشياء كلها عليه واجب أولها القيام بحق أخيه والسعي في خلاصه من هذا الأمر الكريه ثانيها ساق إلى صحائفي الحسنات وقصد لي رفع الدرجات ثالثها طلب رضا خاطري وما يشرح صدري ويسر سرائري رابعها مباعدتي عن الآثام وخلاص ذمتي من الوقوع في الحرام فربما يحملني العنود والخلق الشرود على التعدي في الحدود خامسها اشتهار أسمي بالفضل وعدم المؤاخذة بالعدل فيشيع في الآفاق عني مكارم الأخلاق سادسها انتشار صيتي بحسن الوفاء بحقوق الإخوان وعدم الجفاء سابعها أنه غرس في قلوب الأماثل محبته وزرع في أوراح الأفاضل مودته وإن كان صدر من أبى نوفل ما صدر فإنه اعترف بالذنب وعنه اعتذر فنعمل معه بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر كما قيل: اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن بر عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من أرضاك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا ولو بلغت هذه الحكاية غاية الشر ونهاية النكاية ماندني واقعة الملك الصافح عن عدوه المؤذي السافح فقبل الدب الأرض وقام في مقام العرض وسأل الملك بيانها ليعلم بحسن التصريف فرزاتها ويقيس عليها أوزانها (فقال) ذكر أن بعض السلاطين تصدى له عدو من الشياطين يحرض عليه الأعادي ويفسد عليه الحاضر والبادي ويجتهد في إقامته ومسيره في إزالة الملك عن سريره ويغري به العساكر فيقابله ظاهراً بالنواكر باطناً بالمواكر وما فسد منه إلا بدواعي الحقد والحسد فجعل الملك يسترضيه بالهبات فلا يرضى ويستدنيه بالصلات فلا تزيد صلاته إلا بعداً ونقضاً كما قيل: إلى كم يداري القلب حاسد نعمة ... إذا كان لا يرضيه إلا زوالها

فاضطر الملك من أموره واشتغل لإيقاعه بنذوره وجعل ينصب له شرك الوقائع ويجتهد ف إيقاعه بكل دان وشاسع وذلك الباغي أحذر من الغراب وأسهر من طالع الكلاب والملك لا يقر له قرار ولا يطيب له عيش لا بالليل ولا بالنهار فكان من أحسن الاتفاق أن علق ذلك الباغي ببعض الأوهاق فحمل إلى حضرة الملك وهو في قيد البلاء مشتبك فلما رآه في قيد النكد بادر إلى الأرض فسجد وقال الحمد لله المغيث حيث أمكن منك أي خبيث أترى هذا المنام فهو أضغاث أحلام أم سمح الزمان بأهل العدوان وأنا يقظان ثم شرع في السب والتجديع والتوبيخ والتقريع وأقسم بالفالق الأصباح وخالق الأرواح والأشباح ليفعلن بذلك النباح من النكال والجراح ما فعل المصطفى عليه الصلاة والسلام مع سراق اللقاح وليذيقه كأس البأس وليجرعنه من خمر المنية أمر كأس ثم أمر الجلاد أن يأتيه بماله من القطع والسيف والعتاد فعلم ذلك الزنديق أنه وقع في الضيق وأنه لا ينجيه أخ ولا صديق ولا افتداء بشقيق ولا حميم وشفيق فضلاً عن مال ومنال أو خيل ورجال فلما غسل يده من العيش استهوته الخفة والطيش فشرع في السباب ودخل في الشتم من كل

باب ورفع بفاحش الكلام الصوت وقال ما بعد الموت موت فسأل الملك أحد الوزراء ماذا يقول من الافتراء هذا الظالم المجتري الباغي المفتري فقال يدعو بدوام البقاء ورفعة مولانا الملك والارتقاء ويقول ما أحسن العفو عند المقدرة واللطف والكرم أيام الميسرة وإن لم ثم مجال للمعذرة ولو جعل العفر شكر المقدرة لكان أولى وأعلى مقاماً في مكارم وأحلى كما قيل: ما أحسن العفو من القادر لا سيما لغير ذي ناصر ويترجم على أسلاف مولانا السلطان الذين كان شيمتهم العفو عن ذوي العصيان وكان ذلك منتهى لذتهم وغاية أمنيتهم وما أجدر مولانا الملك أن يحيي مكارم سلفه ويجعل العفو كلمة باقية في خلفه ولا زال يقول من هذا المقول حتى لان له القلب القاسي ورق له قلب الملك الجاسي فأمر بإطلاقه ومن عليه بإعتاقه وكان أحد الوزراء وأركان الأمراء شخص يعاكس هذا الوزير ويناقضه فيما يراه ويشير وبينهما مرت أسباب عداوة أحلى في مذاق طبعهما من الشهد والحلاوة كل مترصد للآخر زلة متوقع لإيقاعه في شبكة البلاء غفلة فحين رأى شقة الحال نسجت على هذا المنوال وجد فرصة للمقال فتقدم وقال ما أحسن الصدق وأيمن كلام الحق خصوصاً في حضرة المخدوم وهذا أمر معلوم عدو مبين وحسود مهين لم يترك من أنواع العداوة شيئاً إلا تعاطاه ولا من الإفساد والشر صنفاً إلا هياه قد أهلك الحرث والنسل وبدل جنتي الصلاح من الفساد بخمط وأثل إلى أن أمكن الله تعالى منه وحان تفريغ الخواطر الشريفة عنه ثم أنه في

مثل هذا المقام بين الخواص والعوام يثلب الأعراض من الأمراض ويجهر بالسوء من القول ويصرف في الخنى والسب ما له من قوة وحول كيف يحل السكوت عن جرائمه وتغطية مساويه وعظائمه فضلاً عن أن تتجلى سيئاته في خلع الحسنات وتتحلى شوهاء سواخط أدعيته بملابس أحسن الدعوات ومع هذا يطلب له التوقع والخلاص والإطلاق من شرك الاقتناص وهو على ما هو عليه من الإساءة المنسوبة إليه أما والله يا مولانا الهمام وسلطان الأنام ما قال إلا كذا كذا من قبيح الكلام وتناول العرض المصون بالسب والدعاء والملام فتغير خاطر الملك وتعكر وتشوش صافي خاطره وتكدر ثم قال أيها الوزير ذو الصدق في التحرير والله وحقك إن كذب هذا الوزير عندي خير من صدقك فإنه بكذبه أرضاني وإلى طريق الحق هداني وأصفى خاطري من الكدر وأطغا ما كان تلهب في غيظي من شرر ونجاني من دم كنت أريقه ولا يهتدي إلى كيفية استحلاله طريقة فأصلح بذلك ذات البين وأصار المتعادلين أحسن محبين وخلد ذكري بجميل الصفات وسلك بي طريقة أجدادي الرفات وأما أنت فكدرت عيشي وآثرت غضبي وطيشي وأسمعتني الكلام المر وقد سنى منك الضر وأما أنا فقد أعتقت هذا وأطلقته فلا أرجع في إيذائه وقد أعتقته وقد ثبت لهذا الوزير على حقوق لا ينكرها إلا ذو عقوق ولا تسعها الأوراق والرقوق فكذبه عندي خير من صدقك وباطله أحلى على قلبي من حقك ولهذا قال ذو الأفضال ما كل ما يعلم يقال

(وإنما أوردت) هذا الكلام يا كرام لتعلموا إن السلطان بمنزلة الإمام وأركانه له تبغ في القعود والقيام ولا يتم الإئتمام إلا بالاتفاق بين الرفاق فإذا كان الجماعة مجمعين طائعين لإمامهم مستمعين استقام القيام وانتهوا من جميل التحيات إلى السلام ولا يقع لهم انتظام مع مخالفتهم لحال الإمام هذا قائم وهذا قاعد وهذا راكع وهذا ساجد وهذا نائم وهذا هاجد وأيضاً السلطان بمنزلة القلب والرأس وبمنزلة الأعضاء رؤساء الناس وباقي الرعية خدم للرأس والأعضاء منتظرين لما تبرز به المراسيم من الزجر والإمضاء فإذا اتفقت الأعضاء واصطلحت انتظمت أمور كل من الرأس والرعية وانصلحت وإذا وقع اختلاف وتباين في الأعضا صار كل من الرأس والقلب والرعية مرضى ولقد صدق من قال وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضى المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وخلاصة هذا الكلام أن قصدي أن تكون أحوال رعيتي على النظام لا يقع بينهم شقاق ولا تنافر ولا نفاق وأما أبو نوفل فيكفيه حياؤه وخجلته فقد انتهت وتمت عقوبته وأخذ حده حده ولا يليق بكرمي أن أرده وهذا الذي ورثته عن أسلافي وهو الحق اللائق بمحاسن شيمي وأوصافي فلما سمع الوزير هذا الكلاموجرح فؤاده نصل هذا الملام ندم غاية الندم وعلم أنه قد زلت به القدم وأنه لا حاجته قضى ولا على صديقه أبقى ولم يستفد مما أبداه من فجم سوى إظهار معاداة أبي التجم وإنه إذا تخلص من حبسه وكربه ورجع عند الملك إلى منادمته وقربه لابد أن يتصدى لمعاداته وسلبه ولا يفيده بعد ذلك أفعاله ولا يسمع في أبي نوفل أقواله فانصرف من

عند الملك الطيثار لا يدري أين يضع قدمه من الإفتكار حتى وصل إلى منزله واختلى في فكره بعمله وفرغ للمخلص من هذه الورطة طرقاً وتفرقت رواد أفكاره في منازل الخلاص فرقاً فأدى نصيب الرواد من الآراء ومفيد القصاد من الشورى إلى السعي في مصالحة أبو نوفل وإزالة ما وقع من الغبر في وجوه الصداقة وتخلل ثم أدى إفتكاره وأورى من زند رأيه شراره إلى أن الذي وقع منه قد اشتهر وعلم به أصحاب البدو والحضر فإذا طلب من بعده الصلح فذلك في غاية القبح إذ كل من في حجره حجز يتحقق إن ذلك خور وعجز فصار يتردد بين هذه الأفكار ويتأمل ما فيها من تحقيق الأنظار وتدقيق الأسرار فبينما هو في بحر الافتكار يلطمه الموج ويصدمه التيار دخل عليه صفي له صافي الوداد وهو ظبي أغر يدعى مبارك الميلاد ذكي الجنان فصيح اللسان دقيق النظر عميق الفكر ذو رأي صواب وشفقة كاملة على الأصحاب فرآه مطرقاً إلى الأرض في فكر ذي طول وعرض فسلم عليه وتقدم بالسؤال إليه عن نشور باله وتوزع حاله فطلب الوقوف على ما ناله لينظر عاقبة أمره ومآله فأخبره بموجب ذلك وأنه قد سدت في وجهه المسالك فقال مبارك الميلاد يا صحيح الوداد أنت قد زعمت أن مولانا السلطان قد ترك أبا نوفل الندمان وطرحه إطراحاً لا رجعة فيه وأنه بعد اليوم لا يذكره ولا يدينه وإن عثرته لا تقال وغصته لا تزول وقصته لا تزال هيهات هيهات يا أبا الترهات الملوك إن لم يعرفوا حقوق خدمهم ولم يثبتوا في ديوان إحسانهم قدم قدمهم خصوصاً هذا الملك العظيم الذي أنفاس شيمه تحيي العظم الرميم ونحن قد وجينا عمرنا في خدمة وأذاقنا برد

عفوه وحلاوة كرمه وغذاء أرواحنا إنما هو غوادي حمله ورائح نعمه مع إن أبا نوفل لم يقع في محذور معضل يوجب تناسي ذممه وابتذال حرمته وحرمه وإنه استغفر وأناب واعتذر وتاب وأعلم أيها الوزير الأكرم إن ذوي النهي والحجر إذا أرادوا الشروع في أمر تأملوا في مبداه غايته ومنتهاه وهذا التقرير كالجلوس المقصود من عمل السرير فإنما تنبعث لصنعته النفوس إذا علمت بحصول الرفعة عليه من الجلوس كما قيل: فإياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك مصادره أما بلغك يا أخي وأكرم سخي حكاية التاجر البلخي؟ قال الوزير: أخبرني بكيفية هذا التنظير! (قال) مبارك الميلاد بلغني من أحد العباد الذين طافوا البلاد أنه كان في مدينة بلخ تاجر كثير العروض والمتاجر عريض المال والجاه غزير الضياع والمياه تكاثر نقوده الرمال وتباهي خزائنه معادن الجبال وتفاخر جواهره در البحار وتسامي بضائعه تلال القفار تراجع عنه الحظ وعامله الزمان بعادة طبعه الفظ وأدبرت عنه من الدنيا القوابل ونزلت بساحة موجوده بالإعدام النوازل وولت وفود معايشه فكادت تقد السلاسل فصار كلما عامل معاملة انعكست عليه حتى نفد جميع ما بين يديه فلم ير لنفسه أوفق من التغرب عن وطنه والإقامة في سكن غير سكنه فأخذ بعضاً من المال وخرج من بلاد الشرق إلى بلاد الشمال وداوم في الأرض على

الضرب حتى انتهى إلى بلاد الغرب فأقام بها دهراً يتعاطى معاملة وتجراً إلى أن زاد ماله وأثرى ورجع إليه بعض ما ذهب من يديه ثم اشتاق إلى بلده ورؤية زوجته وولده فتجهز إليها وسار حتى نزل عليها وأراد الدخول إلى داره فأوقفه مشير افتكاره إلى أعمال النظر في حادث القضاء والقدر وأنشده الزمان بلسان البيان: للكون دائرة من قبلنا صنعت ... لا بي تضيق ولا من أجلك اتسعتوالسر في جيب غيب الله مكتتم فلست تدري يد التقدير ما صنعت فرأى أن يدخل متنسياً متنكراً متخفياً ويتوصل إلى داره ويتجسس أحوال كباره وصغاره وما حدث عليهم من الحوادث وتقلبات الزمان العائث فتوجه لما أظلم إلى داره وهو يترنم: بالله قل لي خبرك ... فلي زمان لم أرك إلى أن وصل إلى الباب وما عليه حاجب ولا بواب فرأى الباب مقفلاً والقنديل عليه مسبلاً وكان يعرف للسطوح درباً خفياً فاستطرق منه وارتفع مكاناً علياً وأشرف من اكوة فرأى ربة البيت المرجوة فوق سرير الأمان معانقة فتى من الفتيان كأنهما لفرط العناق كانا ميتين من ألم الاشتياق فبعثتهما قيامة التلاق فتلازما والتفت الساق بالساق ولسان حال كل منها يروي عنهما: عانقت محبوب قلبي حين واصلني ... كأنني حرف لام عانقت ألفا فتبادر إلى وهلة لغيبوبة عقله أن ذلك الشاب الظريف معاشر حريف أفسد زوجته مغتنماً غيبته وأنه في تلك الليلة استعمل قوله: لا تلق إلا بليل من تواصله ... فالشمس نمامة والليل قواد

فسل السكين وقصد قتل ذلك المسكين وصمم على النزول إلى البيت وإثارة الفتن بكيت وكيت ثم استناب وهله واستراب عقله وأخذ يتفكر ويتأمل ويتدبر واحتضر أحوال قرينته وأنها في العفة مجبولة من طينته وأنه لم يعلم عليها إلا الخير وعدم ميلها عن حلالها إلى الغير فطلب قبل الفضيحة لزوجته طريقة مندوحة ظريفة ممدوحة فإن مدة غيبته طالت وزوجته إن كانت حالتها حالت فلابد أولاً من الوقوف عليها كيف استحالت ثم كف عن الذبح ونزل عن السطح وقصد جارة داره ودارة جارة وطرق بابها واستنبح كلابها فخرجت إليه عجوز كانت إلى داره تجوز فسألت من هو وما مراده ومن أين إصداره وإيراده فقال: إني رجل غريب ليس لي بهذه البلدة خليل ولا قريب وبلادي أرض مكة كنت أتردد هذه السكة وأعامل التجار وكان لي في هذه المحلة مجير وجار من التجار الكبار كنت آوي إليه وأنزل في قدومي عليه اسمه فلان وقد مر علينا زمان وعاقني عنه نوائب الحدثان والآن قدمت إلى هذا المكان وقد قصدت داره ولا أدري أي جراه عاره ولم أعرف له خبراً ولا رأيت عيناً ولا أثراً فهل تعرفين كيف حاله وإلى ماذا آل مآله؟ فقال: نعم. زالت عنه النعم وألجأته الحال إلى الترحال فرحل منذ سنين وكنا في جواره من الآمنين وانقطع عنا خبره وعن زوجته عينه وأثره وطال عليها منظره ففسخت نكاحها واعتدت وطلبت تصيبها واستدت ولقد أوحشنا فرقاه وآلمنا اشتياقه غير أن زوجته قامت مقامه وأفاضت علينا إحسانه وإنعامه وهي متشوقة إلى رؤيته متشوفة إلى مطالع طلعته متلهفة على أيام وصاله متأسفة على ترشف زلاله فلما وقف على صورة الحال سجد شكر الله ذي الجلال وحمد الله على الثبات في مثل هذه النائبات

(وإنما أوردت) هذا المثال لتعلم فضيلة التأمل في المآل والتفكر في عواقب الأحوال قال الدب دعنا من هذا الكلام والأخذ في الملام وأسعدني في التدارك فإنك نعم المشارك قبل انفلات العنان وانقلاب الزمان وخروج زمان التلافي من أنامل الإمكان وانتقال حل عقدته من اللسان والبنان إلى الأسنان فقال مبارك الميلاد الرأي عندي يا أبا قتاد المبادرة إلى الصلح والاصطلاح ليحصل النصح والفلاح والأخذ في المصافاة وسلوك طريق الموافاة والعمل به باطناً وظاهراً والاستمرار عليه أولاً وآخراً ومحوا آثار العداوة وتناسي أسباب الجفا والقساوة واستئناف المودة الصافية والمحبة الوافية وصرف القلب نحو دروس فقه الحلة الشافية والكافية حتى يقول من رأى وسمع الحمد لله آلت العاقبة إلى العافية ثم أعلم إنه لا يصفو لك صاحب وخاطرك عليه للتكدرمصاحب ولا يخلص لك صديق ولبن خلوص محبتك إياه مذيق وقاطع بغضك في الطريق وشوك سعيك راكب التعويق والقلوب في المحبة تتجازى إن حقيقة فحقيقة وإن مجازاً فمجازاً وكل شيء بمقدار وميزان وكما ندين ندان وقلما تجد من تحبه ويبغضك وتربه ويرفضك وتصفو له ويتكدر ولا تتغير عليه ويتغير ودونك يا ذا الكرامات ما قال صاحب المقامات: وكلت للخل كما كال لي ... على وفاء الكيل أو بخسه

وقال من أحسن من المقال: والعين تعرف من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها وأنا أقول هذا الكلام إلا من قول خير الأنام عليه أفضل التحيات وأكمل السلام أرواح أجناد مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وإنما يقع التعارف من الجهتين والتناكر من الطرفين ولا تغالط نفسك وتكابر حسك أن يحيك من تكرهه ويزينك من تشوهه ويقربك من تقصيه ويقيمك من ترميه ويرفعك من تضعه ويأخذ بيدك من تدفعه كما قيل في الأقاويل: والناس أكيس من أن يمد حوار جلا ... ما لم ير واعنده آثار إحسان وأعلم أن غالب الإخوان في هذا الزمان مسلوب الإنسانية وإن كان في زي الإنسان من أحسنت إليه أسا ومن ترفقت له قسا ومن نفعته ضرك ومن أمنته غرك ومن سكنت أوامه بزلال فضلك جرك وقد أجاد صاحب الإنشاد: جزى الله عنا الخير من ليس بيننا ... ولا بينه ود ولا نتعارف فما سامنا خسفاً ولا شفنا أذى ... من الناس إلا من نود ونألف وإذا كان هذا فيمن تحسن إليه وتسبغ ملابس أفضالك عليه فكيف يكون حال من تضمر له النكال ونتمنى وقوعه في شرك العقال أني تراه يصفو لك ويتقاضى سؤلك ومأمولك وهو مترقب غيله غولك متوقع منك أن يصير مقتولك فماذا عسى أن تبلغ منه سؤالك ومسؤلك أو ترى من محبته ومودته مأمولك ومحصولك

(وإنما أوردت) هذه المقامات وإن كانت من فضلات علمك ورشحات قلمك أتتنا متقدمات إلا لتعاطي أسباب الصلح أولا في نفسك ثم تستعمل الوسائط من أبناء جنسك فينتج المقصود ويصفو الورد المورود كما قيل: فإن القلوب مرائي الصفات ... كما السيف مرآة وجه الذوات قال الدب أنا ألقي الزمام في هذا المقام لنيل هذا المرام إلى يد تدبيرك واكتفي في رعى رياضه برائد رأيك وتقديرك فإن فكرك نجيب وسهم رأسك مصيب فافعل ما تختار وأذقنا من رائق رأيك المشتار فقال: نقسم أولاً: باللطيف الخبير أنك أصفيت الضمير من الغش والتكدير وكرعت من وارد الصفاء الزلال النمير ونفضت يد المحبة والإخاء من علاقات البغضاء والشحناء حتى تجيب دعي ولا يخيب سعيي وأبذل مجهودي في نيل مقصودي وأبني على أساس وأسلك مع الناس مسلك الناس فبادر باليمين إلى اليمين المباينة وأنه يكتفي من غدير الغدير بما جرى ويطوي حديث الشحناء فلا سمع الواشي بذاك ولا درى فليبذل مبارك الميلاد جهده في السعي في إصلاح الفساد وعقد أعلى ذلك العهد وتوجه مبارك الميلاد من بعد وقصد منزل أخي نهشل فرآه فيمن ثار همومه في مشغل وقد غرق في بحر الأفكار هائماً لا يقر له قرار فسلك عليه وتقدم بالسؤال عن حاله إليه وآنسه بالمحادثة وذكر له الدهر وحوادثه وتذاكر لما وقع من الدب وكيف أظهر نواقص الحب وبارز بالعداوة وأبرز

بأدني حركة موجبات القساوة ثم أخذ أخو نهشل في العتاب وفتح لمبارك الميلاد من جهة صاحبه وعتابه الباب فاعترف بإن فعله حالك ولم يسعه إلا الاعتذار وجبر ما وقع لأبي نوفل من الإنكار بالسعي في مساعدته والقيام معهفي جماعته والتوجه إلى حضرة المخدوم والتلافي بمرهم التصافي ما سبق من جراحات الكلام والكلوم ثم إذا حصل من الخواطر الشريفة الإغضا وأثمر في رياض العفو لجاني الخدم فواكه الرضا يستأنف شوق المحبة عقود المبايعة ويروج تاجر الصداقة على مشترى الحشمة في مظان رغباتها بضائعه إلى أن يتزايد الوداد ويتأكد بين الجميع عالم الاتحاد فانهض يا رئيس الأصحاب وأنيس الأحباب: فالعمر أقصر مدة ... من أن يدنس بالعتاب ثم نهضا جميعاً وأتيا أبا نوفل سريعاً فوجده في أحرج مكان وأوهج زمان محفوفاً بالأحزان مكنوفاً بالأشجان وما حال من جفاه أحباه وأقصاه مولاه وصار وهو جان غريمه السلطان فلما سلما عليه وجلسا إليه واعتذر مبارك الميلاد بعد إظهار تباشير الوداد أن موجب تقصيره في السؤال عنه وتأخيره أن قلبه الوامق وطرفه الوادق لم يطاوعا على رؤيته في تلك الحال ولا سمحت قدمه بالتقدم إليه وهو مشغول البال ثم تفاوضا في أسباب الصلح وقصد أبواب النجح فتجاذبوا أطراف الطرائف وتفكهوا على

موائد التحف واللطائف وما زالوا ينسجون خلع الوفاق ويمزقون شقق الشقاق إلى أن انعقدت أهداب المحبة والوداد وانحلت عقوداً الحقود والكباد وتحقق كل أحد من كبير وصغير ومأمور وأمير وجليل بحصول خالص المودة بين النديم والوزير: ولما أن تراءى الفجر يحكي ... جبين الحب أو رأى اللبيب توجه الوزير ومبارك الميلاد وأخو نهشل ورؤوس الأجناد مع سائر الأمراء والوزراء والأعيان والكبراء حتى انتهوا إلى السدة العلية والحضرة الملكية السلطانية فقبلوا أرض الطاعة ووقفوا في مواقف الشفاعة ونشروا من الدعاء والثناء ما يليق بجناب الملوك والعظماء وذكروا النديم أبا نوفل بما يستعطف به الخاطر المفضل حتى عطفت عليه مراحمه وانمحت من جريدة لانتقام جرائمه وسمح بإحضاره لديه ليسبل ذيل الكرم والعفو عليه ثم يشمله ثوب الرضا وخلع العفو عما مضى فأسرع نحوه البشير بما اتفق من الجماعة مع الوزير ثم وصل القاصد وهو له مراصد فتوجه منشرح البال منبسط الآمال حتى دخل على حضرة ذي الدولة والإقبال وقبل الجدالة ووقف في موقف الخجالة لا يرفع طرفاً ولا ينطق حرفاً فرسم بالتشريف والخلع ليرفع عنه التخويف والهلع فتضاعفت الأدعية الصالحة والأثنية الفائحة: بغادية من ذكره قد تمسكت ... بطيب ثنا يحيي الزمان ورائحه وأقيمت حرمته واستمرت عليه وظيفته ثم إن الملك انتقل من المجلس الغاص إلى مجلس خاص واجتمع بالخواص وعم الخطاب لكل ناص ومحدث وقاص

فقال ليعلم الوزير والنائب والأمير والحاجب والصديق والصاحب والجندي والكاتب والمباشر والحاسب والراجل والراكب والآتي والذاهب وليبلغ الشاهد الغائب إن مقتضى الرياسة في الشرع والسياسة على ما قدره حكماء الملوك وسلكوا بعباد الله تعالى أحسن السلوك أن كل واحد من الغني والصعلوك لا سيما من له من الأمر شيء أو نوع مباشرة على ميت أو حي له مقام معين لا يزايله ومكان مبين لا يقابله قال الحي القيوم ذو الملك الديموم حكاية عن متصرفي ملك الديوم وما منا إلا له مقام معلوم وعلى هذا جرت سنته وورد كلامه ولاه أو سلطان علاه أن يلازم مقامه ويلاحظ في صف جماعته إمامه ويراقب ما يصدر عنه قيل إياك وما يعتذر التفكر ويعيره بمعيار التأمل والتبصر ثم يسبكه في بوتعة الفصاحة ويسكبه في قالب الملاحة ويصوغه بالآلات حسن الانسجام ويرصعه بجواهر المقام فإذا صيغ على هذه الصياغة وقعدت علىصورة سبكه نقوش البلاغة وأخرج له غواص الفكر من بحر المعاني والبيان فرائد أفكار لم تظفر بها أصداف الآذان وخرائد أبكار لم تفترعها فحول الأذهان ازدانت بها من حور جنان الجنان ومقصورات خيام الدهور والأزمان آنسات لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان فاختلب بيهائه القلوب والأرواح واستلب بروائه الأموال والأشباح واستمال الخواطر وسحب الأيادي المواطر وصار الدهر من بعض رواته وأشناف ما يرويه عنه

معلقة بآذان نياته وإن وقع والعياذ بالله منه ما يورث الندم والحزن وأخرج سهم الكلام من قوس العجلة لا اكتال ولا أتزن حصل في سوق ظاهره وباطنه الغبن والغين وأصابه نديم فغفور الختن فنهض الجماعة وللأرض قبلوا وعن كيفية هذا الخبر سألوا (فقال) الملك ذكر المخبرون وأخبر المذكرون أنه في قديم الزمن كان عند فغفور الختن ندمان كامل المعاني في البيان ذو نعمة جزيلة وصورة جميلة وفضائل فضيلة مبرز في العلم كامل المودة والحلم محبوب الصورة مشكور السيرة طاهر السريرة ثقيل الرأس خفيف الروح والحواس قد جال وجاب وبلا الأعداء والأصحاب وترشح لمنادمة الملوك والأمراء ومجالسة السلاطين والوزراء وهو خصيص بملك الختن والصين مقبول عند الملوك والسلاطين اتفق له في بعض الليالي أنه كان عند جناب ملكه الغالي وعنده جماعة من العلماء وطائفة من الإخصاء والندماء وهم يتعاطون كؤوس اللطائف ويتواطون على ما في الدنيا من طرف وطرائف ويتذكرون عجائب الأقطار يشنفون المسامع بخصائص الأمصار فقال النديم رأيت في بعض الأقاليم من الأراضي الحامية والبلاد القاصية حيواناً كبيراً سريع السير متردد أشكله بين شكلي الجمل والطير يضرب به في الدبدبة المثل فيتعاطى التعلل في الكسل إن قيل له أحمل يقول أنا طير وإن قيل له طر يقول أنا جمل وذكر إن اسمه النعام وسائر أوصافه وأعضائه على إتمام فتعجب الحاضرون من هذه الصفات والأشكال البديعة والهيآت ثم

قال وأعجب من هذه الصفات أن هذه الدابة تأكل الجمرات وتلتقط الحصيات وتختطف الحديدة المحماة من النار تزدردها ولا يتألم لذلك فمها ولا جسدها وتذيب كل ذلك معدتها ولا يتأثر بها لسانها ولا ترقوتها فأنكر بعض الحاضرين هذا المقال لكونه لم يشاهد هذه الأحوال ولا رأى ولا سمع خبر طير يأكل النار ويبلع الأحجار ونسبوه إلى المخارقة في الأخبار فتصدى لإثبات ما يقول بطريقي المنقول والمعقول فلم يسعف كلامه القبول على ما ألفته منهم العقول لأن الحيوان بل وسائر الجمادات إذا اتصلت بها النار محت منها الآثار وهذا طير من الأطيار من لحم ودم فكيف لا تحرقه النار فاتفق الجمهور على تكذيب هذه الأخبار وقالوا المثل المشهود إنما هو موضوع على لسان الطيور فيمن تردد بين الأمور فيقال هذا الفقير كالنعامة لا يحمل ولا يطير ومثل هذا المضرب يا شيخ المشرق والمغرب قولهم طارت به عنقاء مغرب فقال النديم الفاضل الحكيم أنا رأيت هذا بالعين فلم يزدهم إلا تأكيد المين من الخجالة والندم أمر عظيم واستمر في حصر حتى منعه السلطان من الدخول إلى القصر وصار بين الأصحاب يشار إليه بيا كذاب فلم يسع ذلك الأستاذ إلا السفر من تلك البلاد والتوجه إلى العراق وبغداد وأخذ من الطير النعام عده واستعمل عليها رجلاً مستعدة ونقلها إلى الصين في عدة سنين تارة في البحر وأخرى في البر وقاسى أنواعاً من البؤس والضر وتكلف حملاً من الأموال وتحمل مع المشاق منن

الرجال فما انتهى به السير إلا وقد مات غالب تلك الطير فوصل إلى حضرة ملك الخطا واشتهر في المملكة أن النديم الفلاني أتى فاجتمع الناس لينظروا وأمر الملك للخاص والعام فحضروا وأحضروا النعام في ذلك المحفل العام وطرح لها الحديد المحمي فخطفته والجمر والحصى فالتقفته فتعجب الناس لذلك وسبحوا لله مالك الممالك وعلم الصغار والكبار أنه يخلق ما يشاء ويختارفشمله الملك بمزيد الإنعام واعتذر إليه عما مضى من ملام وزادت رفعته ونفذت كلمته إذ قد أثبت مدعاه وحقق بشاهد الحس معنى ما ادعاه ففي بعض الأوقات تذاكروا ما فات وانجر بهم الكلام ما مر من حديث النعام فقال النديم أيها الملك الكريم إني تكلفت على هذه الأطيار كذا وكذا ألف دينار وقاسيت من المشقة في الأسفار وعاينت من شدائد الأخطار ما لا تقاسيه عيدان النار واستمريت في هذا العذاب الأليم المهين وفي سجن المشاق سنين حتى بلغت تحقيق مرامي وتصديق كلامي ولولا عناية مولانا السلطان لما ساعدني على مقصودي الزمان ولما زال عني اسم الكذاب إلى يوم الحساب فتبسم السلطان وقال لقد أتيت بمحاسن وما قصرت ولكن كما يحتاج في إثبات تصديقها والخروج عن عهدة تحقيقها إلى صرف المال الجزيل وتجشم مشقة السفر العريض الطويل وتحمل منن الرجال وركوب الأخطار والأهوال وإزعاج الروح والبدن وإضاعة جانب كبير من العمر والزمن لأي معنى يتفوه بها العاقل ولماذا ينطق بها مستمع أو ناقل (وإنما أوردت) هذا المقول ليعلم أرباب المعقول من جلساء الملوك والعظماء ورؤساء الأمراء والزعماء خصوصاً خواص القدماء وعوام الندماء أن شيا يحتاج فيع إلى تعب النفس وقيد ونكال وحبس ثم استعمال ممن جماعة وأصحاب يتقدمون إلى الشفاعة لا ينبغي للعاقل أن يحوم حوله ولا يعقد أبداً عليه فعله وقوله

فتقدم مبارك الميلاد وبذل في أداء وظائف الدعاء الاجتهاد وقال إنما كان عاقبة هذا الأمر وإطفاء ناثرة هذا الجمر وأداؤه إلى انتظام عقود السعد واشتماله على جمع الخواطر من بعد بميامن الخواطر الشريفة وشرف ملاحظتها المنيفة وتوجه مساعدتها لخدمها وشمول عواطفها على عبيدها وحشمها وإقبال طالعها السعيد ولولا ذلك لما انتظم لنا شمل أيها العبيد فالمنة في هذا كله للصدقات الشريفة والجميلة لعواطف مننها المنيفة ونظير هذا الشأن ما جرى للخارج على الملك أنشروان فسأل الملك المطاع عن هذا المضاع (فقال) ذكر أهل التاريخ بأعالي الشماريخ أن كسرى أنوشروان جاهره أحد الملوك بالعصيان وانتدب لمحاربته طائفة من الأعوان فتوجه كسرى إليه ووثب وثوب الأسد الضاري عليه ورأى التواني في أمره والتأخير من جملة الإخلال والتقصير فقابله قاتلاً وقاتله قائلاً: إذا استحقرت أدنى من تعادي ... بمالك من يد وندي وطاقة فما استحقرت أن أهمك إلا ... أمورك وهو ذا عين الحماقة فلما توافقا واصطدما وتثاقفا انكسر ذو الطغيان وانتصر أنوشروان وقبض على العدو وحصل الأمان والهدو وقص طائره وتفرقت عساكره وحمل وقد سين خسفاً وكسراً إلى الملك العادل كسرى فتقدم بالإحسان إليه وجعل العفو شكراً لقدرته عليه والغ معه في اللطف والإحسان وأنزله عنده في بستان ترتع النزاهة في ميادين رياضه وتكرع الفكاهة من رياحين حياضه وأفاض عليه من خلع الأنعام وإدرارات الفضل والإكرام ما أزال دهشته وأحال وحشته وأبدى استعباده وأبعد استبعاده فلما حصل أنسه وهدأت نفسه أخذ في تنجيزه وإبلاغه إلى مأمنه وتجهيزه فأبي إلا الإقامة والتلبث بدار الكرامة وسأل الصدقات وما لها من عميم الشفقات مجاورة مخلها والإقامة تحت ظلها واغتنام مشاهدتها

والتشرف بميامن طلعتها مدة أيام فإنها محسوبة من العمر العزيز بأعوام فأجابت مسؤولة واستنجزت مأموله وكان في ذلك البستان نخلة كنخلة مريم قد يبست من الهرم ولما تعاورتها يد القدم فلم تصلح إلا للضرم فأرسل يسأل الصدقات الجزلة أن تهبه تلك النخلة فاستزل كسرى عقله وأجاب قصده وسؤله وهبة تلك النخلة فكان كل يوم يتوجه إليها ويسند ظهره ويعتمد عليها وهو أرغد حال وأيمن مآل فبعد عدة شهور طلب إلى التوجه الدستور فاستدعاه وأكرم مثواه وأجاب قصده ومتمناه واسبغ عليه نعمة وفضلهوسأله عن موجب سؤاله النخلة وسبب طلبه الإقامة ثم سؤاله التوجه بالسلامة فقال أما سبب الإقامة بهذا البلد فلجوار الملك الأمجد والاستسعاد بمشاهدة وجهه الأسعد فان طالعه قوى سعيد ومجاورته للسعادة تفيد ويحصل منه لمجاورها المزيد فأردت أن يكون لي منها نصيب ويلاحظني منها سهم مصيب: فان تلمم بقفر عاد روضاً ... وإن تمرر بملح صار شهدا وإن يخطر ببالك نحس نجم ... يعد في الحال من رياك سعدا فصرت مشمولاً بميامن ظلها مغموراً بفائض وابلها وطلها وأما طلبي النخلة اليابسة فإني تفاءلت بها من حظي مساعدة ومناحسه فكنت أتردد إليها وأعول في ذلك عليها فما دامت في قحول كان جدي وسعدي في نحول إلى أن رأيتها قد خضرت وأطلعت واستبكرت فاقبل سعدي وعاد بعد أن مات حياً وساقطت نخلة سعدي من ثمرات السعادة رطباً جنياً فعلمت أن طالعي الهابط عاد إلى الأوج ورسول حظي دخل في دينه

ناس الإيناس فوجا بعد فوج وأرمل جدي ازدوج ببكر الآمال وكان لها أحسن زوج كل ذلك أي أعظم مالك بسعد فالك وجوار دار جلالك ومشاهدة أنوار جمالك واستماع كلامك وانتجاع كمالك فمن بعد إسعاد السعد كل سهم أمل فوقته ونحو شاكلة قصد أطلقته أصبت الغرض وحزت جوهره بلا عرض فإذا أسعف السعد النفس لا بعيقها معه نحس (وإنما أوردت) هذا القول يا ذا الكرامة والطول ليعلم الحضار والسادة النظار أن استقامتنا وإقبال سعدنا وانتظام أمورنا وجدنا إنما هو بالتفات الخواطر الشريفة وشمول أحوا لنا بملاحظتها المنيفة واستدامة بركاتها وميامن حركاتها كما قيل في ذا القبيل: تلقى الأمان على حياض محمد ... تولاء مخرفة وذئب أطلس لا ذي تخاف ولا لهذا جرأة ... تهدي الرعية ما استقام الريس وكما أن الرعية لا يستقيم حالها إلا بالملك الراعي فإنها كالراعية لا ينتظم لها أمر إلا بالراعي كما قيل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لها ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا كذلك الملك يا ذا الدرجات العلية لا يصير ملكاً لا بالرعية ولو لم يكن العاشق مشوقاً لم يكن المعشوق معشوقاً ولو لم يوجد الرامق بالأمل مسوقاً لم يصر الملك المأمول موقاً وقد عني هذا المعنى من في رياض المعاني أعني: وأحقر صب فيك يهدي سناؤه ... كأعظمهم إذ من هواك تعظما فلا تحتقره إن تملكت قلبه ... فلولا الهوى ما كنت ملكاً مفخماً ففي موقف العشاق منك وظيفة ... لكل فلا يبغي لها منقدما وكل له وجد يليق بحاله ... وكل له يوافيك مغرما ألم تر أن الله أوجد حكمة ... ذباباً وعقباناً وبقا وضيعاً وكل له نفع وضر مخصص ... فسبحان من قد خص طوراً وعمما

والله تعالى لكمال قدرته وإسبال ذيل رحمته خلق الكبير الأعلى محتاجاً لخدمة الصغير الأدنى وجعل الحقير الأدنى محتاجاً لرجمة الكبير الأعلى ولهذا أعظم الخلق من خلق الخلق وأحوج الخلق إلى الخلق وهو غني عن الخلق وقيل أيها الملك السني الإنسان بطبعه مدني وبمقدار كثرة الرعية واشتراكهم في الصفات المرضية وانقيادهم لأوامر ملكهم السنيه تصير درجة الملك عليه كما كان في زمن نبي الله سليمان صلوات الله عليه وسلامه وتحيته وإكرامه ولقد جرى في عصره بين الطيور مفاوضة بين اللقلق والعصفور فسأل ملك الآساد عن تلك المفاوضة مبارك الميلاد (فقال) بلغني يا سلطان الأسود أن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام كان في سيرانه مع خواص أركانه فمر بذلك الطلب على شجرة دلب للقلق فيها عش قد بناه كأحسن حش وقد استوكر في عشه عصفور واحتمى بجواره من مؤذيات أبي مذعور فكانا يتخاصمان ويتقاولان ويتواصمان ويتصاولان فوقف النبي الكريم واستوقفالجند العظيم ليسمع ما يقولان وينظر كيف يجولان فسمع اللقق يقول وهو يجول ويصول ويخاطب العصفور بمجمع من الطيور أشكر لي حسن الصنيع حيث أنزلنا في حصني المنيع لا حية ترقى إليك ولا جارح ينقض عليك لولا أن لك عندي مناخاً ما أبقيت لك الحية ذاتاً ولا فراخاً وإنما سلمتم بجواري وبقربكم من داري

فوئب أبو محرز وتوسط الجمع وهو يجمز ونادى بين الأطيار أنسيت أبا خديج أي جار وأنا في المدار حول هذه الديار آناء الليل وأطراف النهار ألقط النمل الكبار والصغار ولولا أنا حارس مناخك ما أبقى لك النمل أثراً ولا لفراخك فكل منا محتاج إلى جاره مغتبط بجواره آمن به في سريه ومطاره فارفع من بيننا هذا النكد ولا يمن منا أحد على أحد فالحقوق ما تضع بين الجيران كما تراعى بين الأصحاب والأخوان وكما تدين تدان ومع هذا فكلنا نصلي على نبي الله سليمان ملك الأنس والجان وسلطان الطيور وسائر الحيوان فانه بحسن عدله اعتدل الزمان وبيمن فضله صلح الكائن والمكان ونحن أيضاً كذلك نشكر الله رب الممالك إذ من علينا بهذا السلطان المالك ملك الوحوش الأكابر وكاسر السباع الكواسر المشفق على الضعفاء والأصاغر فلم يخل من فضله سبع ولا طائر ثم نهضوا فوقفوا ودعوا للملك وانصرفوا هذا آخر الباب والله أعلم بالصواب والحمد به رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الباب السادس في نوادر التيس المشرقي والكلب الافرقي

الباب السادس في نوادر التيس المشرقي والكلب الافرقي

(قال) الشيخ أبو المحاسن من ماء معارفه غير آسن ومن لممدود أرض الفضل من فضائله رواس وفي مشحون بحر العلم من فواضله مواس فابتهج الملك بهذا الكلام وارتاح لما تضمنه من الحكم والأحكام واستزاد أخاه من عقود هذا النظام فقبل الأرض في مقام الخدام وقال بلغني يا ملك الأنام إن راعياً كان يرعى ثلة من الأغنام وحميلة من المعز الجسام وفي ماشيته تيس مطاع كلها له أتباع وهو قديمها وقائدها وزعيمها وأبو نتاجها وحمو نعاجها وأصله من الشرق لم يكن بينه وبين ابليس في الشيطنة فرق اسمه الذميم التيس الزنيم وكان بواسطة الفحول والكبر والتقدم في الحضر والسفر يستطيل ويصول وينطح الكباش والوعول ويكسر أصحاب القرون من الفحول فيجرح ضعيفها ويطرح نحيفها ويضرب بخالصها لفيفها إلى أن أباد أعيانها وأعجز رعيانها وطال منه العقوق فذهب به الراعي إلى السوق ليبيعه ويستريح ويخلص الماشية من شره ويريح فبينما هو يطوف إذا برجل مهول مخوف طويل القامة كبير الهامة كأنه زبنى القيامة شثن اليدين أزرق العينين أسود الخفين بثوب وسخ وطرطور سنخ وسطه محزوم بسير مبزوم فصادف الراعي وهو في السوق ساعي فمد يده إلى التيس وقال بكم هذا يا أبا الكيس فوقع بينهما الاتفاق ووقع الزنيم في شبكة الرباق فتأمل شكل القصاب وصورته القاضية بالعجاب فرأى رجلاً كأنه من الشياطين معلقاً في وسطه عدة سكاكين فدخله الرعب ورجف من الرهب وأدرك بالفراسة أنه سيهلكه ويحذف رأسه وقال ظني والظن يخيب

ويصيب أني وقعت مع هذا في يوم عصيب وأنه قاصد هلاكي ومقيم على البواكي فالأولى الاحتراز والتأهب قبل زمان الجزاز فان حصل خير فما في الاحتراز ضير وإن وقع على الإهلاك العزم فأتلقى سيفه بما أعددته من ترس الحزم فوزن الجزار الثمن وشحط الزنيم بالرسن وأتى به مطابخ فقطعها إلى مسالح فشم رائحة لزومه وأحس من الجزار نكده وشومه فلما دخل المسلخ ورأى القصابين هذا يذبح وهذا يسلخ واللحم شقات على الجدران معلقات وأنهر الدماء كدموع العشاق جاريه ورؤوس الغنم وجلودها وأكارعها كل كاشيه هذه الكاشية في ناحية وهذه الكاشية في زاوية فرجف قلبه وازداد رعبه والتجأ إلى الله تعالى وتاب إليه عما عليه من الذنوب مالا فما واطأ القصاب المصارع أن شد من المشرقي الاكارع وجدله على الجداله وأخرج لذبحه الآلة فلما رأى هذه الحالة تحقق ما كان ظنه فاستحضر باله وأيقن أنه هالك لا محالة فنظر إلى القصاب وذكر ما قيل في حق الساب: نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر التيموس إلى شفار الجازر فوجد السكين كليله ليس للذبح بها حيله فطلب المسن ليحدها ويريح ذبيحته أن حدها فتركه وذهب للمسن وقد تحقق الزنيم ما كان ظن فتنفس له البلاء وارتخى عنه القضاء فتمطى في رباط الأكارع فمزقه قاطع ثم وثب وقصد الهرب وخرج من الباب وصاحوا عليه هرب فلم يلتفت إلى الصوت وفر فرار من عاين الموت وطلب الخلاء وطريق الفضاء

فادى به الذهاب إلى بستان بجوار بيت القصاب فدخل البستان وامتد في الجريان والقصاب وراءه بهيئته المهولة والسكين في يده مسلولة وكان قبل هذا الزمان بين زوجة القصاب وصاحب البستان ما يكون بين الحرفاء والأخدان وكانت كلما وجدت فرصه جعلت للبستاني من نفسها حصة تنزل من بيتها إلى بيته وتغمس سراجها من فتيلة قنديله وزبته فاتفق أن في تلك الحال طلب كل من المحبين الوصال وكان زمان اشتعال اللحام بالمعاملة مع الخاص والعام فلاشتغال وهله لا يتردد فيه إلى أهله فاغتنمت الزوجة غفلة الرقيب ونزلت من بيتها إلى بيت الحبيب فكان المحبان آمنين وقد تعانقا تحت دوحة ياسمين فاتفق أن الهارب من الموت ودواهيه أخذ على مكان هما فيه والقصاب يتبعه رافعاً يده والسكين في يده مجردة فلم تشعر إلا وزوجها رافع الصوت واقف على رأسهما وبيده آلة الموت وما شعر بدواهيهما حتى عثر عليهما فقفز كلاهما من مكانهما مفتضحين في مكانهما فاشتغل القصاب بنفسه والتهى بنعجته عن تيسه وكان الناس تابعيه فوقفوا على ما وقع فيه وقامت الغوغاء وقعدت للعار من البلاء فتفرس النجاة من الردى فلم يزل في ميدان الجرى ذاهلاً عما جرى حتى وصل إلى ثغرة خرج منها إلى الصحراء فانقطع عن ذلك الجنى تابعه ولم يوجد من شياطين الأنس رائيه وسامعه فانتهى التيسار في تلك الصحاري والقفار إلى جبل فأوى فيه إلى غار كان يأوي إليه مع المواشي أو أن الأمطار فأمسى فيه تلك الليلة إلى وقت الأسفار: فلما رأى الليل العبوس صنيعه ... تبسم فافترت تباشير فجره فلما أصبح الصباح خرج إلى السراح وهو في نشاط ومراح وجعل يرتاد أنيساً ليكون له جليساً أو رفيقاً صالحاً أو صديقاً ناصحاً يتأنس به في

الغربة ويمسح بأنامل مؤانسته ثقل الكربة وما يحصل على جبين راحته من عرق القرية وبينما هو ينشر البيداء ويطوي إذ سمع نباح كلب يعوي فترجى الخير وزوال ثم قصد نحوه فرآه مقبلاً من فجوه فناداه أهلاً بأحب الأحباب وأعز الأصحاب المفضل على كثير ممن لبس الثياب فلما دنا منه وتباكى لأليم فراقه فتعانقا تعانق المحبين وتبانا مباثة من مضه البين ثم قال له اعلم يا لطيف الحركات وكثيف البركات أن كلاً منا غريب وكل غريب للغريب نسيب وأنا قد تفرست فيك وما تكاد فراستي تخطيك أنك رفيق صالح وشقيق ناصح وأحسن مليح مما لح وفي طريقه أخوان الصفاء قيم وراجح وأن كانت الجنسية بيتنا مختلفة لكن القلوب بحمد الله تعالى مؤتلفة وكم لك من أياد سابقه وصدقات متناسقة وكم حططنا في المراعي وبتنا في الحظائر نائمين وأنت لحفظنا ساعي تحرسنا من الغداة إلى الروح ومن المساء إلى الصباح فاخبرني ما شأنك وأين مكانك وما اسمك وما صنعتك ورسمك ومجيئك من أين وما حاجتك في البين قال أما اسمي فيسار وأما مكاني فبلاد التتار وصنعتي راعي وسبب مجيئي ضياعي ولي صاحب اسمه أقرق من دشت قفجاق بن شقرق كنت في خدمته راعي مشيته فأضللت رعيتي وضيعت حق حرمتي فإذا أطلب ولي نعمتي لا محو من وصمة الجفاء سميتي فهذا شأني وجل بغيتي قال الزنيم أنا من حين شاهدت في وجهك الأنوار علمت أنك يسار

وأنك معدن الذكاء والألقاب تنول من السماء وأما طلبك لصاحبك ورعيتك فانه دال على كمال مروأتك ولا ينكر لكم الرفاء فان بينك وبينه الوفاء مقام الصدق والصفاء ولم يقع بينكما قط بعد ولا جفاء وشهرتك بحمد الله بجميل الصفات التي قلما يجتمع في زكى الذوات ولا تصفوا إلا للأولياء والبررة المبرزين الأصفياء من المسكنة والقناعة والجراءة والشجاعة وحفظ العهود والوفاء وكسر النفس والصفاء وعدم الحقد والحسد واطراح العجب والنكد والحراسة والسهر وقيام الليل إلى السحر والتودد إلى الناس حتى قال فيك ابن عباس كلب أمين خير من صديق خؤن وعندك من التهذيب وقبول التعلم والتأديب ما يصير صيدك مذكى وسنك كالشفرة مركى وفي شأنك يا ذا الوفاء والمنفعة قال الحرث بن صعصة: وما زال يرعى ذمتي ويحوطني ... ويحفظ عرسي والخليل يخون فيا عجبا للخل يهتك حرمتي ... ويا عجباً للكلب كيف يصون ومن هذا الضرب ما رواه أحمد بن حرب عن ذي العتاب منادم الكلاب أن الكلب يكف عني أذاه ويكفيني أذى سواه ويشكر قليلي ويحفظ مبيتي ومقيلي فهو من بين الحيوان خليلي ثم قال أحمد ابن حرب تمنيت والله أن أكون مثل هذا الكلب لأحوز هذه الصفات وأرقى هذه الدرجات وأرجو الله تعالى أن يعطفك علي ويقلب قلبك ووجهك إلي بحيث

ترغب في صحبتي وتميل إلى صداقتي فترى إذ ذاك مني بحمد الله تعالى من الأخوة والصداقة والمروأة والرفاقه ما تنسى به كل صديق وتفضل به الصاحب الجديد على العتيق فتترك سائر أصحابك وتلتهي بي عن أعز أوليائك وأحبابك خصوصاً بني آدم الذين أنت يهم أعلم من أذهبت عمرك في خدمتهم والقيام بحقوقهم وحفظ حرمتهم وحراسة مواشيهم ودورهم وكمال فضلك في حياطة بيوتهم وقصورهم ورعاية رعيانهم وصيانة أهلهم وجيرانهم مع قناعتك منهم بما يفضل عنهم من كسرة خبز شعير أو عظم يابس كسير أو فضلة مرقه قد ير وأضعتهم حقوق خدمتك ونسيانهم موجبات شفقتك حتى لو وصل فمك إلى زادهم أو إلى شيء من عتيد عتادهم رموك بالحطب وضوا رأسك بالحجارة والخشب ولو ولغت في إنائهم أو شربت من مائهم ما قنعوا في تنظيفه وتطهيره وتشطيفه بمرة ولا مرتين ولا اكتفوا في إزالة ألعابك بالعين بل دونوا الغسل بالحساب وعفروا الوعاء بالتراب ويعدون ذلك من التعبد ولا يرغبون ما لك من تحبب وتودد وأنا أرجو أن ترتفع منزلتك وتعلو درجتك ويساعدك رب العرش حتى تسير سلطان السماع وملك الوحوش واجتهد في هذه القضية إلى أن ابلغ هذه الأمنية وأكون السبب في ذلك إلى أن تصير رئيس الممالك فان لك علي حقاً قديماً وفضلاً جسيماً طالما نمنا آمنين في ظل حراستك ورعينا مسرورين مكنوفين بحياطتك وأجلنا منك في الخاطر ما قال الشاعر: بقاؤك فينا نعمة الله عندنا ... فنحن بأوفى وفي شكرها نستديمها

قال يسار يا أخي جميع ما قررته صحيح مقبول داخل في الفضل خارج عن الفضول ولكن أنا من جنس السباع مجبول على ما لهم من الطباع ومع هذا فأنا عدوهم وبسببي يزول هدوهم وأنا لم أعادهم إلا فيكم ولا لي واد إلا في ناديكم فان ثر بيتي بينكم وعيني مقارنة عينكم وأنا إليكم أقرب مني إليهم ومعولي عليكم دون معولي عليهم وعلى هذا وجدت آبائي وأجدادي ونشأت من حين ميلادي والخروج عن طريقة الآباء دليل على العقوق والإباء وهو أمر مذموم وهذا شيء معلوم وقد قال صاحب الشرع الحب يتوارث والبغض يتوارث ولكن يا سليم الطباع وخصيب والرباع قولك تصير سلطان السباع سخرية مني واستهزاء ولا أستحق منك هذا الجزاه فان معنى هذا القيل أمر مستبعد بل مستحيل أن أبا طاهر نجس العين فأني من أين وهذا الهوس من أين فان أردت إعانتي على ذلك وتكفلت لي برياسة الممالكفكلانا في هذا الهوى سواء وإن صممنا على ذلك فما لجنوننا دواء وهذا الوسواس من خيالات الإفلاس وفي مثل هذا الحال قال: من صدق في المقال لا خيل عندك تهديها ولا مال وأنا أعلم إنما نتكلم بما يطيب خاطري ويسر سرائري ويقربك في الحب من ضمائري قال المشرقي لا تقل ذلك يا تقي فأنا شاهدت في جبينك مخايل السيادة ومن شمائلك تقاطير السعادة وقد قيل يا فضيل المرء يطير يهمته كما يطير بجناحه أما بلغك يا خير عالم ما رواه الشيخ علاء الدين بن غانم ذو الفضل الكثير عن تاج الدين ابن الأثير قال يسار أخبرني بهذه الأخبار

(قال) قال ابن الأثير وهو بالرواية خبير محرز أيدي المعاني عن الأمير حسام الدين البركة خلق قال كنت في عصر الشباب أصحب من صالحي الشباب الملك المظفر الغضنفر وكان خشداشي وبرؤيته انتعاشي فكنا ونحن صبيان كأننا ظبيان غير أنا كنا في قلة فكنت أفلي قملة واسرح رأسه وأذهب باسه وتقدمت إليه بالشرط عليه أن يعطيني لكل قملة أو أصفعه صفعة ملساً ففي بعض الأوقات أخذت عنه قملاً كثيراً وصفعته صفعات وقلت في غضون ذلك ونحن في حال حالك أتمنى على الله عز وعلا أن يعطيني إمرة خمسين رجلاً فقال لي طيب خاطرك وسرائرك فإني أبلغك سؤالك وأعطيك مسؤلك وأجعلك أمير خمسين فارساً فابشر ولا تكن عابساً فصفعته صفعة وقلت ويلك أنت تعطيني إمرة ورفعه قال نعم وأغمرك بالنعم فصفعته أخرى وازددت فكراً فقال لي عله ونخس المسلة يا قليل اليقين أتريد غير أمر خمسين أنا والله أعطيك وأعليك على ذويك فقلت ومن أين لك تعطيني وترضيني فقال أملك هذه الديار وأكسر التتار وأحل الكفرة والعلوج دار البوار

فقلت له يا مفتون أنت مجنون أبقملك وقلك وفقرك وذلك تملك الديار المصرية وتصير سلطان البرية قال نعم ولا تعمل رغم فأني رأيت في المنام النبي عليه الصلاة والسلام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتر ولا شك فيما يخبر به النبي صلى الله عليك وسلم من خبر قال فامسكت عنه لأني كنت أعرف الصدق منه ئم تنقلت به الأحوال وتنقل إلى أن بلغ الكمال وتملك هذه الديار ثم كسر على عين جالوت التتار وأعطاني ما وعدني به وأرضاني (وإنما أوردت) هذه المثال لتعلم من سلطنتك غير محال وأنا أرجو الله تعالى أن ييسر لي القيام بجميع ما قلته لك يا إمام وأنا أجلسك على السرير وأقيم في خدمتك الكبير والصغير وارفع رأيه مراسيمك وانفذ أوامرها في ممالكك وأقاليمك واجعل جنود الوحش تحت رايتك وأقاليم القفار كلها تحت ولايتك ولكن بشرط أن تتبع ما أراه ولا تخرج عن طوره ولا تتعداه وتعمل بكل ما أشير إليه ومهما أرشدتك إليه تعول عليه فقال أنا طوع يديك وجميع أموري منك وإليك فقل فإني سامع ولأمرك طائع فانهض وعاني هذه الأماني عسى يصير هذا الباطل حقاً وينقلب هذا الكذب صدقاً وقل ما تقتضيه لاتبعه وارتضيه قال ترجع عما أنت عليه من الأخلاق السبعيه والأوصاف الكلبية من الحرص والشره والتكلب والتره والنفس المتنمرة والطبيعة

المذمرة وتصوم عن الدماء واللحوم وعن تمزيق الحيوانات وتفريق الجماعات وتحمل النفس على الأخلاق الجميلة والتلبس بالأوصاف الفضيلة من العفة والكرم والعفو عمن ظلم والقناعة بالنبات عن لحوم الحيوانات ومعاملة الكبير والصغير بالفضل الكثير والبذل الغزير وتلافي خاطر الخطير والحقير ليسهل العسير وينقاد لك المأمور منهم والأمير وهذا أمر عليك يسير وهذا لأنك طالما جرحت جوائحهم وكسرت جوارحهم واصطدت سارحهم وأبدت بارحهم فهم منك متخوفون وإلى الإيذاء والضر منك متشوقون وإذا رأوا شيا خلاف العادة وعلموا ولايتك فيها الحسنى وزيادة وأصابوا الخير من مواقع الضير ورأوا ما سر من مواضع الشر والضر تشرب محبتك منهم الكبير والصغير وأنهاك أن يراك من الوحوش العبر والنفير فيتخذك الغريبحبيباً ويصير البعيد منك قريباً فتصيد بالمحبة أرواحهم كما كانت أولا تبيد أشباحهم وإذا ضرب صيتك في الأرض ونثر دره بالطول والعرض وتسامعت بك الوفود وتحققوا انك عدلت عن خلقك المعهود أقبلت إليك منهم الجنود وزان جيد جنودهم من جواهر محبتك وانعقدت بينكم بالمحبة والولاء عقود العهود فتوفرت ذا ذاك جنودك وعلت على رؤس الأقران راياتك وبنودك وجعلوا دارك مأواهم وحماك مصيفهم ومشتاهم مع أن هيبتك في قلوبهم مركوزة وأسنة مخافتك في أحشائهم من قديم الزمان مغروزة وأعلى من فيهم يهابك ويخشاك ويتوقى مكانك ويتحاشاك

قال يسار أعلم يا خير سار أن حبال الآمال ومطامع الخيال ما لم تتعلق بمأمول ترتبط بأطراف سول فالنفس ساكنه والروح مطمئنة هادنه والقلب فرح والخاطر منشرح إذا الطمع ذل وشين والياس إحدى الراحتين ومتى تعلقت بذيل المطامع مخاليب الآمال وبلغت إلى حصول ما مول الخيال. وقامت النفس في تحصيله وتحركت الجوارح لنيل ما موله وانبعثت الهمة إلى إدراكه وتعلق القلب بسير أفلاكه توزعت الأفكار وتفرقت وتمزقت الخواطر وتمزقت وركب لذلك كل صعب وذلول وتقاذفت النفس في كل مخوف ومهول وتقلدت بحمائل قول القائل: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده ثم إذا لم يحصل المأمول ولم تبلغ والعياذ بالله النفس السول مع بذل هذا الجهد والمبالغة في السعي والكد ومقاساة التعب ومعاناة النصب ترادف النكد وتضاعف السهد وصارت النفس لهذا البدد وكان في جيد حياتها من فوات المقصود حبل من مسد فلا تزال بين تشويش شمائر وتقسيم خاطر وفكر غائب وهم حاضر وهذا الأمر الذي عرضت عليه وهممت بالترقي إلى الوصول إليه إلى عدم الحصول أقرب منه إلى الوصول وأنا أخاف وذا غير خاف أن يغرنا الطمع في هذه الحركة فينتزع من فراغ أوقاتنا البركة ولا نحصل إلا على مثل ما حصل لمالك الحزين من السمكة قال الزنيم نبئني أيها العليم بذلك المثل القويم (قال) بلغني أنه كان في مكان مكين ماوي لمالك وفي ذلك المكان غياض وغدران تضاهي رياض الجنان: حكى بأنها قد الحبيب تمايلاً ... فجن وفي هذا الجنون تفننا فدار عليه النهر وهو مسلسل ... فقيده إذ قد جتى وتجننا

وفي مياهه من السماك ما يفوق سابحات السماك فكان ذلك الطير في دعة وعير نرجى الأوقات بطيب الأقوات وكلما تحرك بحركة كان فيها بركة حتى لو غاص في تلك البحار والغدران لم يخرج إلا وفي منقاره سمكه فاتفق أنه في بعض الآناء تعسر عليه أسباب الغذاء وارتج لفوت قوته أبواب العشاء فكان يطير بين عالم الملك والملكوت يطلب ما يسد الرمق من القوت فلم يفتح عليه بشيء من أعلى السماك إلى أسفل الحوت وامتد هذا الحال عدة أيام وليال فخاض الرقراق يطلب شياً من الأرزاق فصادف سمكة صغيرة قد عارضت مصيره فاختطفها ومن بين رجليه التقفها ثم بعد اقتلاعها قصد إلى ابتلاعها فقد فتداركت زاهق نفسها قبل استقرارها في رمسها فنادت بعد أن كادت أن تكون بادت ما البرغوث ودمه والعصفور ودسمه اسمع يا جار الرضا ومن عمرنا في صونه انقضى لا تعجل في ابتلاعه ولا تسرع في ضياعي ففي بقائي فوائد وعوائد عليك عوائد وهو أن أبي قد ملك هذا السمك فالكل عبيده ورعيته وواجب عليهم طاعته ومشيئته ثم أني واحد أبوي وأريد منك الإبقاء علي فان أبي نذر النذور حتى حصل له بوجودي السرور فما في ابتلاعي كبير فائدة ولا أسد لك رمقاً ولا أشغل لك معده فتصير مع أبي الفضيل كما قيل فأفقرني فيمن أحب لا استغني فالأولى أن أقر عينك وأعرف ما بين أبيوبينك فاكون سبباً لعقود المصادقة وفاتحاً لإغلاق المحبة والمرافقة ويتحمل لك الجميلة والمنة التامة والفضيلة وأما أنا فأعاهدك أن أعتقتني ومننت وأطلقتني أن أتكفل كل يوم بعشر سمكات بياض سمان ودكات تأتيك مرفوعة غير ممنوعة ولا مقطوعة يرسلها إليك أبي مكافأة لما فعلت بي من غير نصب منك ولا وصب ولا كد تحمله ولا تعب

فلما سمع البلشون هذا المجون أغراه الطمع فما ابتلع فسها ولها ثم قال لها أعيدي هذه الرمزه فبمجرد ما فتح فاه بالهمزة أنملصت السمكة منه بجمزه وغاصت الماء وتخلصت من بين فكي البلاء ولم يحصل ذلك الطماع الأقطع الأطماع (وإنما أوردت) يا ذا الدراية هذه الحكاية لتتأمل عقبى هذا الأمر قبل الشروع فيه وتتدبر منتهى أواخره في مباديه فقد قيل أول الفكر آخر العمل (قال المشرقي) اعلم يا مرتقي إن مبنى الأمور في مجاريها وقواعد ما أسس عليه مبانيها تقدير خالقها وتدبير باريها وما حكمه وقضاه وأحكمه وأمضاه لكنه كتمة وأخفاه فلا تدركه العيون وإلا صار بل ولا البصائر والأفكار فانه علم غيب وجهلنا به ليس بعيب لأنه تنزه أحداً صمداً قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً كما قيل: على المرء أن يسعى ويبذل جهده ... وليس عليه أن يساعده الدهر فإن نال بالسعي المنى تم أمر ... وإن غلب المقدور كان له عذر وإن الله العلي العظيم قد وضع أساس بنيان العالم على الأسباب وفتح لتعاطي الأسباب الأبواب فقال ذو الجلال والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا وقال فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وقال القائل: إذا ما كانت في أمر مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم يرى الجبناء أن العجز حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم فطعم الموت في شيء حقير ... كطعم الموت في شيء عظيم

وقال عليه الصلاة والسلام علوا الهمة من الإيمان والمرء يسعى في تحصيل مرامه ولا يترك شيأ من أسباب قيامه فان ساعده القدر بقدره إنقاذ إليه مرامه بشعره وكان مصادمة مساعده ومقامه ومعاضده كما قيل: وإذا أراد الله نصرة عبده ... كانت له أعداؤه أنصاراً فيساعده إذ ذاك الكون والمكان ويمضي سهم أوامره رامي القضاء من قوس الزمان فيقيض له المساعد ويتعبد المقارب والمباعد وحسبك يا ذا الصوله ما اتفق من السعد لعماد الدولة فسأله يسار عن سرد هذه الأخبار (قال) كان رجل صياد له ثلاثة أولاد كأنهم حمك وقوتهم السمك تقلت بهم الأحوال حتى صاروا برياستهم على الدنيا أحمال وانتهوا في الرياسة وساسوا الحلق أحسن سياسه وانتشر أمرهم وطاب في الدهر ذكرهم ومما ملكوه العرافات والأهواز وفارس وسرتها شيراز

أكبرهم أبو الحسن علي بن بويه الملقب بعماد الدولة وكان في السلطانة ذا جولة وصوله ولما انتهت أيام خموله واتصل بالسعد أسباب وصوله حل ركابه بشيراز وصعد إلى حقيقة الملك من المجاز ووفدت عليه الوفود وأحاطت به جموع الجنود وطالبه أهل المراتب بالرواتب والروامك بالجوامك والرفاق بالأنفاق والأجناد بالأرفاد وأرباب الولايات بالخلع والجرايات وأصحاب الإقامات بالنفقات والأنعامات ولم يكن في خزائنه من ظاهر المال وباطنه ولا في ذخائره من ظاهر الرفد وضمائره ما يسد رمقهم ويرد شرقهم فتراكمت همومه وتصادمت غمومه وتوالت أفكاره وتجاذب به بحر الحيرة در دوره وتياره لأن أمره كان في مباديه وليل سعده في هواديه وقد قصرت عن طول الطول أياديه وأشرف أمره على الاختلال وملكه على الاضمحلال ووقع في يوم لا بيع فيه ولا خلال قد خل إلى مكان خال وهو مشغول البال فاستلقى فيه على ظهره وغرق في بحار فكره فبينما هو يلاحظ السقوف وأفكاره بين تردد ووقوف وإذا بحية عظيمة بجثة جسيمة من السقف خرجت ودرجت وفي مكان آخرولجت فوثب واقفاً ورقب خائفاً لئلا نسقط عليه ويصل أذاها إليه ودعا الفراشين وجماعة فتاشين بمعاول النباشين وأمرهم بنصب السلم والفحص عن الأرقم وتتبع آثارها وإطفاء سرارها فصعدوا الحيطان وحفروا ذلك المكان وخرقوا سقفه فانفتحت لهم غرفه كانت مخبأة لمن تقدمه وضع فيها ديناره ودرهمه وفيها عدة صناديق محكمات التوفيق والمعاليق فاطلعوه

على تلك الخبيه والتهوا عن طلب الحية والجبيه فأمرهم فنقلوها إليه ووضعوها بين يديه فإذا فيها من الذهب النضار خمسمائة ألف دينار فعرف أن ذلك عناية ربانية ومواهب صمدانية رحمانية فصرف المال في إصلاح حاله وبذره في مزارع قلوب خيله ورجاله فثبتت أوتاده واستقامت أجناده وقويت سواعده وأعضاده وكان أمره قد اشرف على الاختلال وعقد نظامه على الانفراد والانحلال وكان من تمام هذه السعادة وتعقيب هذه الحسنى بالزيادة أن الملك المذكور بعد هذه الأمور وحصول هذا السرور وانتظام مصالح الجمهور أراد تفصيل قماش وخياطة خلع ورياش فطلب خياطاً ثقة ليقلده هذه المنطقة فارشد إلى خياط ماهر شكله زاهر وفضله ظاهر وحذقه في صناعته باهر إلا أنه أطروش حقل سمعه بدبي الوقرمد بوش فما يصل ملك الكلام إلى سرير صماخه إلا بزمر وطبل وجاووش فدعاه فأجلسه بين يديه وطلب الثياب ليعرضها عليه فتصور الخياط أنه سعى به إليه بسبب وديعة كانت لصاحب البلد لديه وإنما طلبه ليطالبه فأما أن يؤديها أو يعاقبه فتقدم باليمن مثل المصارعين واقسم بالله خالق المخلوق ورازق المرزوق أنها اثنا عشر صندوق لم يشعر بها مخلوق وأنه لا يدري ما فيها وأنها مختومة بختم معطيها فتعجب عماد الدولة من كلامه وسجد لله شكراً على إنعامه

ثم وجه معه من أتى بها ودخل إلى بيوت ما فيها من أبوابها فكان ما فيها من الأموال ونفائس القماش العال جمل متكاثرة وأصناف متوافرة واستولى على ذلك كله وثبت بواسطة المال في ركاب الملك واطئ نعله (وإنما أوردت) هذا التنظير يا ذا الرأي والتدبير لتعلم أن سبب الأسباب وميسور الأمور الصعاب إذا دبر مصالح عبده وشمله بإحسانه ورفده هون عليه عسير وصغر عنده كل كبير وأنت بكل هذا بصير قال يسار صدقت صواباً نطقت ولكنني نظرت إلى الدنيا ورزت أحوالها السفلى والعليا ورأيت كلما زاد الشخص حرصاً وطمعاً ازداد لنفسه عبودية وتبعاً وللدنيا رقاً وللآخرة رشقاً فصارت قيوده أثقل وحسابه أشدو وأطول وهمومه أتم وغمومه أعم وأن الواثق بالدنيا والراكن إلى ما فيها من أشيا كالجاعل له من السحاب حصناً ومن الحباب كنا ورأى وقاية تحصل من السحاب وأي إيواء بصدر من الحباب ومن تأمل الدنيا بعين التبصير وتفكر في تقلباتها بمصيب العقل والتدبير عد جمعها شتاتاً ووصلها أنبتاتاً ومجيئها ذهاباً وشرابها سرابا وإقبالها أدباراً ونسميها إعصاراً وعطاءهم أخذا وعهدها نبذا وصلتها فلذا ووهبها نهباً وايجابها سلباً وحربها سلماً ووجودها عدما وكثرتها فلا وعزها هاذلاً وضحكها نياحه وطلاقها راجة فلم يكن عنده أحسن من فراقها ولا أرصن من طلاقها والقناعة منها بالكفاف والرضا منها بالعفاف كما سلك الفلاح صاحب الماشية واستراح فقال الزنيم أخبرني كيف كان ذاك يا حكيم (فقال) إن مخدومي الذي كنت عنده أحفظ ما شيته وعبده كان ذائروة عظيمة وأموال كثيفة جسمه وكانت ماشيته لا تزيد عن

ألف رأس وأن حصل من النتاج المعهود ما يزيد على هذا القدر المعدود تصدق به أو باعه أو وهبه لبعض الجماعة ولو أراد لجعلها ألوفاً مؤلفة وأضعافاً مضاعفة وكان في الجيران والأصحاب والأخوان من هو أقل منه مالاً واقصر باعاً وأضيق مجالاً له الألوف من المواشي وكذلك من الخدام والحواشي وهم في كل وقت في ازدياد وتضاعف الأعداد من الأصول والأولاد ومخدومي لا يقصد الزيادة وأن زاد شيء أباده فقال له الراعي وكان عليها أشفق ساعييا مخدوم ما لك لا تريد أن تزيد مواشيك وحواشيك وتكثر بالرفق والرفد فواشيك وبالورد والإصدار غواشيك فان المواشي تزداد فوائدها وتتوفر عوائدها باعتبار زيادة أصولها وإدرار منافعها ومحصولها وجيراننا كانوا أقل عدداً من هذا المقدار فصاروا بالتوفير أكثر عدداً في الأغنام والأبقار فزادوا على مواشينا بعد أن كان أوساطهم كحواشينا ولا أعرف لهذا موجباً ولا أدري له سبباً غير الإهمال وقصد تضييع المال فقال له مخدومي هذا محيط به معلومي ولكن أيها الولد أعلم أن أنواع العدد آحاد وعشرات وألوف ومئات فألوف غاية الأعداد إذا اعتبرنا التعداد والشيء إذا جاوزنا غايته وتعدى نهايته أخذ في النقص وإذا بلغ مداه تراجع بالنكص وقد قيل الشيء إذا جاوز حده شاكل ضده ومن لم يقنع بالقليل لم يرض بالجزيل ولقد أحسن المقال وصدق فيما قال من قال: وما الدهر إلا سلم فبقدر ما ... يكون صعود المرء فيه هبوطه وهيهات ما فيه يزول وإنما ... شروط الذي يرقى إليه سقوطه فمن كان أعلى كان أوفى تهشماً ... وفاء بما قامت عليه شروطه وكثيراً ما رأيت وسمعت ووعيت عن أصحاب الألوف القاصدين

لازدياد المألوف نزلت ألوفهم إلى الواحد من الآحاد فاستولى عليهم لذلك الهموم والإنكاد فتكدرت خواطرهم واشتغلت ضمائرهم وأما أنا فلم أعلم أن ألفى نقص ولا جاري حلبة مداه نكص فإذا عدا غايته ألزمته نهايته وكبحث جامح طرفه وكففت طامح طرفه طلباً للراحة ورغبة في الاستراحة: فكم دقت ورقت واسترقت ... فضول العيش أعناق الرجال (وإنما) أوردت هذا التمثيل لتعلم يا ذا التفضيل أني ما دمت له خادماً وفي وصف الخدمة قائماً ولم أتعد طوري وهو مقام الخادمية إلى ما ليس لي وهو مقام المخدومية فأنا مستريح ولغيري مريح ونفسي مطمئنة وجوارحي عن طيش السعي مرجحنه وأصحابي أحبابي وأحبابي أصحابي والخواطر صافيه والمحبة وافيه والصداقة باقية ومياه المودة في رياض الأرواح صافيه وفي عروق الأشباح واقفة جاريه فإذا رمت مع وجود هذه الحسنى الزيادة وقصدت التعدي إلى ما ليس له به عاده فأنا بين أمرين متقلب على جمرتين أما عدم الحصول والانقطاع عن الوصول فتتضاعف المكدات وتترادف المقسمات وبحسبها تصل الهموم وتحصل الغموم كما مر سالفاً وذكر آنفاً وأما الظفر بالمراد على حسب ما يراد فبقدر ذلك يقع الصداع ويقوم التحاسد والنزاع وأول ذلك معاداة الأصحاب ومعاناة الأحباب ومقاسات الأتراب وحصول الضغائن وبروز المكامن بواسطة الترفع عليهم وصدور المراسم والتقدم بامتثالها إليهم فالأولى بحالي التفكر في مآلي واللائق بشورى أن لا أتعدى طوري ولا أتورط في هذا البحر العميق والبئر العميق ولا أخرج عن سواء الطريق فتهوي بي طير الهوان في مكان سحيق: وإني يسار خائف أن يردني ... زماني بما لاقى يسار الكواعب

قال المشرقي أبو زنمه ما أحسن هذه الكلمة وأيمن هذا النظر وأرصن هذه الفكر وأدق معاني هذه المباني ولكن إذا رفعك الله من يضعك وإذا أعطاك من يمنعك وقد قال ذو الجلال ما يفتح الله للناس من رحمة فلا يمسك لها وقال صلى الله عليه وسلم اللهم لا مانع لما أعطيت: وكل الناس تطلب المعالي ... ونفس الحر تأبى أن تضاما فلما بلغ بهما الكلام إلى هذا المقام قال يسار أعلم يا فحل الفحول وإمام المعقول والمنقول أني ما بالغت في الامتناع إلا لأقف على ما فيك من طباع أسير ثبوت قدمك وثباتك وراء كلمك فلقد وجدتك في هذا الأمر الخطير فوق ما في الضمير وفي مواطن الاختبار أثبت جناباً من ابن الليث الصفار فانهض لقصدكوحركته على خيره الله تعالى وبركته فأني وضعت عنان جموح هذا المرام في بد تدبيرك وجعلت واسطة هذا العقد جوهرة تفكيرك وسلك نظامه ونظام قلادته جودة تصويرك فأنك أهل لذلك وبرأيك تقتدي المسالك فابتهج أبز زنمة بهذا المقال ووثب قائماً في مقام الخدمة وقال حيث انشرح صدرك لكلامي فسترى في وجهك مجالس قيامي وأنا أعلم أن معبودك سيبلغك مرامك ومقصودك ولكن يجب التيقظ وقبل الشروع التحفظ أما لتيقظ فلأمور يجعلها الملك مقتدى ولا يغفل عنها أبداً كما فعل الملك الظاهر الموفق أبو سعيد محمد جقمق حين اضطربت الأوامر واختلفت العساكر واصطدمت الأمور وخرج عليه من عساكره الجمهور وقل المعين وذلك في سنة اثنتين وأربعين فعصى تنكري وتترس في حلب وقام بالراكمة الجلب

واينال الحلمى بالشام وكاتبه الطغام والعظام وهرب بالقاهرة العزيز وأزت الشياطين فاشتد الأزيز وتخبط بالصعيد العربان وفشا في عساكر الإسلام الطربان فسفه الحليم وحار الحكيم وضل كل ذي رأي قويم فثبت الملك الظاهر جاشه وتعرف إلى الله تعالى فأزال استيحاشه وأصفى سرائره ولم نزل سيرته ظاهره فكان الله عونه وناصره فأطفأ بأدنى لطفه شواط تلك النائره وقد بسط ذلك في سيرته الظاهرة فتبدل الجحيم بالنعيم ورفع الله تعالى عن الإسلام والمسلمين العذاب الأليم كل ذلك بثبات القدم وعلو الهمم ولم تحصل هذه الفعلة الذكية الرائحة إلا بالطوية الطيبة والنية الصالحة وأما التحفظ فمن مواد شرور ملتبس بها الجمهور منها لحقد والملال والكذب في المقال والحسد والاحتيال فأن الحقود وقود والحسود لا يسود والكذوب يذوب والملول لا يطول والمحتال مغال وباقي النصائح الذكية والروائح تأتيك بالسعد فيما بعد وأنا الآن أقدم للبيان وأذكر الأهم وما فائدته أعم قبل الشروع أمام المقصود وهو تأكيد مواثيق العهود فأنه إذا حفتك الجنود وأحاط بك أرباب الرايات والبنود وأنت جالس على السرير وفي خدمتك المأمور والأمير والكبير والصغير يعسر على استيفاء الخطاب واستيعاب الجواب ولا يليق بعظمتك ومقام حرمتك إطالة الكلام ولو اقتضاه المقام خصوصاً بحضور الخاص والعام ولو كان المتكلم أعز الخدام وأقرب الإلزام فلا أقدر أن أتجرأ عليك وأنهي جميع ما أريده إليك لأن قصد الخادم إقامة حرمة مخدومه والمبالغة في حفظ ناموسة وتعظيمه وكثرة الكلام تمنعه عن هذا القصد وتدفعه وأما في هذا الوقت فأن كثير كلامي لا يورث شيأ من المقت فلا حرج على كلامي كيفما خرج

قال يسار بارك الله فيك وأبقاك لذويك فما أدق نظرك وأحسن في عواقب الأمور فكرك وأصوب غوصك على جواهر الانتقاد واغرب بوصك إلى زواهر الاعتقاد فقل ما بدا لك مما يزين حالي وحالك فان حرمتي حرمتك وحشمتي حشمتك فإن عظمتني عظمت نفسك وإن وفرت مالي فقد زدت كدسك والخادم إذا لم يقصد رفعة مخدومه ويعد ذلك من أكبر همومه ويسعى فيه ساعة فساعة وفي كل مكان وعند كل جماعه وإلا فيدل ذلك على خساسة مقداره وقصور نظره ولؤم نجاره وركاكة همته واستبذال حرمته فقال أبو زنمه أول شروطي يا ذا العظيمة أن لا تقرب المؤذين ولا تلتفت إلى الأشرار المغتابين ولا تضيع الأوقات في الإصغاء إلى القينات ولا تسمع كلام واش وتعد كلامه أقل من لاش ثانيها أن لا تعجل في فصل الحكومات بل تتعاطاه بالتفتيش والالتفات إلى أن تتجلى صورتها وتتعين حقيقتها فإذا وضحت لديك وتخلت مخدرة حقيقتها عليك أجهد فيها بالصدق وأعمل بما يقتضيه الحق ثالثها أن لا تعود لسانك الفحش والبذاءة فان في ذلك على الملك أسوأ إساءة فان الكلام يؤثر في القلوب وينفر من قبحه الطالب والمطلوب وقد قيل: جراحات السنان لها التثام ... ولا يلتام ما جرح اللسان وقد قيل إن عيسى عليه السلام مر بجماعة في بعض الأيام فصادفوا كلباً أجرب فقال له سلمك الله أذهب فقال كل من أصحابه مما كان معبي في جرابه من الاستيقاض وطلب البعد عنه والمناص وما سلموا إلى عيسى حاله بل سألوه عن كلامه له وما دعا له

فقال أني عودت لساني ببيان ما في جناني وهو المقاصد الحسنة وترك الألفاظ والعبارات الخشنة وقيل أنه مر في بعض الأوقات ومعه جماعات بكلب من الأموات ملقى على مزبلة في جملة القاذورات فوضع كل منهم يده على خطمه وتكلم في رائحته عند شمه فقال عيسى عليه السلام ما أحسن بياض أسنانه فقيل له عما سمع من بيانه فقال عودت لساني بلفظ الخير وإن لا يتكلم بما فيه ضير وكما يجب على الملك كف اللسان الفصيح عن الكلام البذي القبيح كذلك يجب عليه أن لا يصغي إليه ويتأمل قول الشاعر: وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النطق به فانك عند سماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه ووجد في كتاب آداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي بيت ثالث: وكم أزعج الحرص من طالب ... يوافي المنية عن مطلبه وهذا الأمر يا مخدوم لكل أحد معلوم على العموم وأما أكابر السلاطين والملوك الأساطين فهم أعلى مقاماً أن يكون الفحش لهم كلاماً وأن يجري في مجالسهم أو يسمع من محادثتهم ومجالسهم وكل ملك اعتاد مجلسه فاحش الكلام اختل نظامه ومقته الخاص والعام ونفرت عنه قلوب الرعية وبحسب رغبة الرعية تكون الممالك راضية مرضية وإذا نفرت

قلوب الرعية كرهوه وتوقعوا غيره ليقوموا معه وينصروه وإذا لم يوجد عقدوا الحقود واستمروا أذلاء كاليهود والبغضة كامنة والخسائف باطنه فتقدم العداوة وتتقدم وتنأكد وتتأزم وإذا قدمت العداوة ذهبت من الصداقة الحلاوة فلا بد يوماً من الأيام أن تبرز رأسها من جيب الانتقام وإذا وجدوا فرصة وثبوا عليه وقصد كما جرى للغريرة مع الهريرة قال بسار بين لي هذه الأخبار (فقال) ذكر شخص معتبر من رواة الخبر أن في القديم كان رجل عديم وعنده قط رباه وأحسن مرباه فكان عنده كالولد الأعز وأكرم من ابن الفرات عند ابن المعتز وكان القط قد عرف منه الشفقة وألف منه المودة والمقه فكان لا يبرح عن مبيته ولا يسعى لطلب قوته فحصل له هزال وتغير ما له من أمر وحال لا عند صاحبه ما يغذيه ولا هو ذو قوة عن الاصطياد تغنيه إلى أن عجز عن الصيد فصار يسخر به من أرذال الفيران كل عمرو وزيد وصار كما قيل: خلت الرقاع من الرخا ... خ وفرزنت فيها البيادق وتسابقت عرج الحمي؟ ر فقلت من عدم السوابق وسطا الغراب على العقا ... ب وصاد فرخ البوم باشق سكتت بلابلة الزما ... ن وأصبح الخفاش ناطق

وأيضاً: وإذا خلا الميدان من أسد ... رقص ابن عرس ونومس النمس وكان في ذلك المكان مأوى لرئيس الجرذان وفي جوار مخزن للسمان فاجتر الجرذان لضعف أبي غزوان وتمكن من نقل ما يحتاج إليه وصار يمر على القط آمنا ويضحك عليه إلى أن امتلأ وكره من أنواع المآكل والمطاعم وحصل له الفراغ من المخاوف والمزاحم واستطال على الجيران واستعان بطوائف الفيران على العدوان فافتكر الجرذان يوماً في نفسه فكراً أداه إلى حلول رمسه وهو أن هذا القط وإن كان عدواً قديماً ومهلكاً عظيماً لكنه قد وقع في الانتحال وضعف عن الاصطياد لقوة الهزال وقوتي إنما هي بسبب ضعفه وهذا الفتح إنما هو حاصل بحتفه ولكن الدهر الغدار ليس له علىحالة استمرار فربما يعود الدهر عليه وترجع صحته وعافيته إليه فان الزمان الكثير الدوران يتهب ويهب ويعطي ما ساب ويرجع فيما وهب كل ذلك من غيره وجب ولا سبب وإذا عاد القط إلى ما كان عليه يتذكر من غير شك إساءتي إليه فيثور قلقه ويفور حنقه ويأخذه لاذاى والانتقام سهره وأرقه فلا يقر لي معه قرار فاحتاج بالاضطرار إلى التحول عن هذا الديار والخروج عن الوطن المألوف ومفارقة السكن المعروف أمر صعب مشوم الكعب فلا بد من الاهتمام قبل حلول هذا الغرام والأخذ في طريقه الإخلاص قبل الوقوع في شرك الاقتناص ثم أنه ضرب أخماساً لأسداس في كيفية الخلاص من هذا البأس فاداه الفكر إلى إصلاح المعاش بينه وبين أبي خراش ليدوم له هذا النشاط ويستمر بواسطة الصلح بساط الانبساط فرأى أنه لا يفيد ما يريده إلا بزرع الجميل من كثير وقليل خصوصاً في وقت الفاقة فانه أجلب للصداقة وأبقى

في الوثاقة ثم بعد ذلك يترتب عليها العهود ويتأكد ما يقع عليه الاتفاق من العقود وهو أن يلتزم الجرذان أن يقوم لأبي غزوان في كل غداة من طيب الغذاء ما يكفيه لغداء وعشاء لأن الشيخ في الدرس قال خير المال وما وقيت به النفس إلى أن يصح جسده ويرد إليه من عيشه رغده ويكون ذلك سبباً لمعقود الصداقة وترك العداوة القديمة المساقة وأن تشترط دوام المحبة وازدياد الوداد والصحبة وأن لا يقصد أبو الهيثم أبار راشد بشيء من الأذى والشرور والمفاسد ويعمل هذا الهر بموجب ما قال الشاعر: إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن ثم إن الجرذان جمع من الأخباز والأجبان واللحم القديد والمطعم المزيد ما قدر على حمله ونهضت قوته بنقله وقصد مقام الهر وسلم عليه السلام مكرم مبر محب قديم وصديق حميم وقدم ما معه إليه وترامى بكثرة التودد والاشتياق عليه وقال يعز ويعظم لدي أني أراك يا خير جار في هذا الضرر والأضطرار ولكن العاقبة إلى خير وسيقبل السعد بأحسن طير فتقدم أيها الخيطل وكل من هذا المأكل فإذا سددت خلتك كلمتك بشيء أستشير به خدمتك فانه قد قيل: أن الصداقة أولاها السلام ومن ... بعد السلام طعام ثم ترحيب وبعد ذاك كلام في ملاطفة ... وضحك وثغر وإحسان وتقريب وأصل ذلك أن تبغي شمائلها ... بين الأحبة تأييد وتأديب لم تنس غيباً ولم تملل إذا حضروا ... قد زان ذلك تهذيب وترتيب إن الكرام إذا ما صادقوا صدقوا ... لم يثنهم عنه ترغيب وترهيب

فتناول القط من تلك السرقة ما سد رمقه وشكر للجرذان تلك الصدقة ولما أكل فمه استحيت الحدقة ثم قال له أنشد ما أنت ناشد يا أبا راشد قال إن لي عليك من الحقوق مثل ما للجار الصدوق على الجار الشفوق وأردت أن يتأكد الجوار بالصداقة وتتراقى إلى درجة المحبة بأوثق علاقة وأن كانت بيننا عداوة قديمة فنترك من الجانبين تلك الخصلة الذميمة ونستأنف العهود على خلاف الخلق المعهود وتدبير الأمور على مصلحة الجمهور ونبني القاعدة في البين على ما يعود نفعه على الجانبين وأذكر بك أشياء تحملك على ترك خلقك القديم وتهديك في طريق الإخاء إلى الصراط المستقيم وهو أن أكلي مثلا ما يغذي منك بدناً فضلاً عن أن يظهر فيك صحة وسمناً ولكن أن أمنتني مكرك وأعملت نظرك وفكرك ثم رغبت في صحبتي وعاهدتني على سلوك طريق مودتي وأكدمت أي أبا غزوان ذلك بمغلظات الأيمان إلى أن أستوثق باستصحابك وأبيت آمنا في مجيئك وذهابك ولو كنت بين مخالبك وأنيابك فأني ألتزم لك في كل يوم إذا استيقظت من النوم بما يسد خلتك ويبقي مهجتك صباحاً ومساء وغداء وعشاء وإن قلت أن ذلك شيء مجهول فأنا أقدره بنظير هذا المأكول فان هذا الغذاء يكفيك عشاء وغداء وماقصدت بذلك إلا رعاية لحق الجوار ولقد آنستني تسبيحك بالليل والنهار وأظن وظني لا يخيب أنك تبت إلى الله ورجعت من قريب وكففت عن أذى الجيران وعففت عن أكل الفيران ثم أعلم يا أسد الضياون أن لي من هذه المؤنة عشر مخازن قد أعددتها لمثلك وأنا أقدمها لمنزلك وادخرها لأجلك والقصد أن أكون آمناً من سطواتك ساكناً في صدمات حركاتك وذلك إنما يعلم بتأكيد الإخاء وتأييد المحبة والولاء فلما رأى الهر هذا البر أعجبته هذه النعم وأطربه هذا النغم وأقسم

طائعاً مختاراً ليس إكراهاً ولا إجباراً أنه لا يسلك مع الجرذان إلا طريق الأمان والإحسان وأنه لا ينوء إليه بقصد سوء بحيث تتأكد المحبة وتزداد الصداقة والصحبة فرجع الجرذان وهو بهذه الحركة جذلان وصار كل يوم يأتي أبا غزوان بما التزم به من الغداء والعشاء كل صباح وعشاء إلى أن صح القط واستوى وسلمت خلوات بدنه من الخو والخوا وصارت المحبة تنعه بكل يوم عقد مجدداً ويزداد كل منهما في الآخر محبة وتودداً وكان لهذا القط ديك وهو صاحب قديم وصديق نديم كل منهما يأنس بصاحبه ويحفظ خاطره بمراعاة جانبه للديك تعويق عن زيارة الصديق فغاب عنه مدة وكل منهما للفراق في شده فلم يتفق لهما إلا وقد حصل للقط الشفاء وزال الشقاء فسأل الديك صاحبه بماذا صارت علته ذاهبة وذاك الهزال بأي شيء زال فاخبره بأحوال الجرذ أبي جوال وأنهى أمره من الأول إلى الآخر وبالغ في الشكر في الباطن والظاهر وأنه كان سبب حياته ونجاته من مخاليب مهلكاته وأنه لم يكن مثله في الأصحاب وقد صار أعز الأصدقاء والأحباب فغار الديك على الصاحب القديم وأختشى أن يفسد ما بينهما المفسد الذميم فضحك مستغرباً وصفق بجناحيه متعجباً فقال له مم تضحك فقال من سلامة باطنك وانقيادك لمداهنك وحسن صنائعك مع المنافق مخادعك ومكارم أخلاقك مع ناقض ميثاقك وإصغائك لهذا الخبيث بمشوه الكلام ومموه الحديث ومن يا من لهذا البرم الواجب القتل في الحل والحرم المفسد لفاسق المؤذي المنافق الذي خدعك حتى أمن على نفسه واستطرق بذلك التمكن من أذاه ونحسه فتسلط الأذى كما يختار وانهمك في الشر آمناً منك البوار كل ذلك بسببك

ومكتوب في صحائف كتبك مع أنك بمشكور ولا بالخير مذكور وأن الذي شاع وذاع وملأ عنك الأسماع أنك ستحل عقده وتنكث عهده وتنقض الإيمان وتجازي بالسيئة الإحسان وأنه لم ير منك ما يسره وهو متوقع منك ما يضره وأعظم من هذا أنه آذى وحشر فنادى وبالشر بادي فقال أنه أحياك بعد الموت وردك بعد الفوت ولولا فضله عليك وبره الواصل إليك لمت هزالاً وجوعاً ولما عشت أسبوعاً ولكنه أشبع جوعك وجلب هجوعك واستنفذ من مخاليب المنية بعد ذهابك رجوعك فشفاك وعافاك وصفا لك وصافاك وكفاك وأنك كافيته مكافأة التمساح وجازيت حسناته بالسيآت القباح ولم يكن لإحسانه إليك ولا لما من به عليك سبب ولا علاقة سوى طهارة نفس زكت أخلاقه ولا لإساءتك إليه سبب تنقم به عليه إلا ما أسداه من مكارم شيمه الواصلة إليك وفوائد نعمه السابغة عليك وقد أشاع هذا كله في الشوارع والحارات خصوصاً في هذه المحلة ثم أقسم بمن عطفه عليك وساق فضله إليك وجعلك محتاجاً إلى نواله وأسبل عليك لباس صدقاته وافضاله ليستوفين منك ما صنعته وليحفظن عليك ما عليه ضيعته وليوقعنك في طوى بليه يعجز عن خلاصك منها كل البرية فليريحن منك جنس الفار وليخلدن ذكر هذه القضية في بطون الأسفار وبالجملة فهل سمعت أن جرذناً صادق هره أو اتفق بينهما مرافقة في الدنيا ولو مره ومناصحة القط والفار كمصادقة الماء والنار: فأنت كواضع في الماء جمراً ... وأنت كمودع الريح الثرايا فلما سمع القط هذا الكلام تألم باطنه بعض إيلام وما صدق ولكن ظن واشتغل خاطره لأمر عن وتلهبواشتغل ومن يسمع بخل وقال للديك جزاك الله عني خيرا وما أكثر شفقتك طيرا ولكن من قال لك هذا المقال

قال أنت محب وعلى مودة الجرذان مكب وقد قال سيدا لعرب والعجم صلى الله عليه وسلم حيك للشيء يعمي ويصم وقال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب عمية ... كما أن عين السخط تبدى المساويا ولقد غرك بلقيمات من الحرام والسحت المنغمس في الآثام وجعلها بمنزلة حبة الفج فلا تشعر بها إلا وأنت في السلخ وقد وقعت ولا رفيق ولا أخ هناك يعرف تحقيق هذا الكلام ولكن أنت الآن راقد مثل النيام والكلام ما يفيد ولا بد أن الله تعالى يجري ما يريد وما في إشاعة الكلام طائل وكأنك أنت القائل: ظن العذول بان عذلي ينفع ... قل ما تشأ فعلي أن لا أسمع وما قلت لك هذا الكلام إلا من فرط الشفقة والضرام ورعاية لحق ما وجب علي من القيام وحفظاً للصداقة القديمة والمودة التي سحائبها ديمه وأنا لو غششت كل أحد ما خطر لي أن أغشك وأنا لا استشهد على صدقي إلا يقينك الساكن عشك فرجح جانب صدق الديك كفاك الله شر من يؤذيك وقال القط في خاطره بعد ما أجال قداح ضمائره هذا الديك من حين انفلقت عنه المبيضة وسرحت أنا وإياه من الصدقة في روضة ما وقفت له على كذب ولا سمعت عنه أنه لزور مرتكب مع أنه مؤذن أمين بين ظهور المسلمين وهو بالصدق قمين وما حمله على هذا إلا المحبة وقديم المودة والصحية وهو أبعد من أن يكذب ويخدع وأي قصد له في أن يغش ويتصنع

وتردد أبو هريرة في تيه الخيرة بين الديك والفريره ثم قال للديك وقاك الله شر أعاديك فكيف أعرف صدق هذا الحبر وهل للدلالة على سوء طويته علامة تنتظر قال نعم ورب الحرم علامة ذلك أنه إذا دخل عليك ونظر إليه أن يكون منخفض الرأس مجتمع الأنفاس متوقعاً حلول نائبه أو نزول مصيبة صائبة أو شمول بليه غائبة ملتفتاً يميناً وشمالاً متخوفاً نكالاً ووبالاً طائفاً يتنقب خائفاً يترقب وذلك لأنه خائن والخائن خائف وهذا بائن وبينما هما في المحاورة والمناظرة والمشاورة يتجاذبان القيل والقال دخل المفسد أبو جوال وهو غافل عن هذه الأحوال فرأى أبا القيظان يخاطب أبا غزوان فخنس وقهقر وتخوف وتشور وهو غافل عما قضاه الله وقدر فاشمأز لرؤيته الديك وابرأل وانتغض واشمعل فارتعد الجرذان من شيخ الديكة لما رأى منه هذه الحركة وانتفش وانزوى وتقبض وزوى وأشبه بغدادياً بلع الدوا ونظر يميناً وشمالاً كالطالب للمفر مجالاً والقط يراقب أحواله ويتميز حركاته وأفعاله فتحقق ما قاله أبو سليمان ونظر إلى الجرذان نظر الغضبان وهمز واكفهور ورقصت شواربه وابزأر فاضطر الجرذان وطلب الأمان فنسي السنور العهود والأيمان ونفض عرق العداوة القديمة والعدوان وطفر على الجرذان وأدخله في خبر كان وأخلى منه الزمان والمكان

(وإنما أوردت) هذا التنظير أيها الصاحب البصير لفائدتين جليلتين عظيمتين إحداهما الإعلام بالتحقيق إن العدو العتيق لا يتأتى منه صديق ثانيتهما الإعلام بان الواجب على الحكام أن لا يعجلوا بالانتقام فربما يورثهم الاستعجال الندامة في المآكل في حالة لا يفيد العذل والتنفيذ وعند ذلك لا يمكن التدارك بل إذا نقل إليهم وأورد عليهم ما يثير الغضب ويحمي سن نار السخط اللهب لا يفلتون زمام التثبيت والتفكر من أنامل التأني والتدبر خصوصاً السلاطين والملوك الأساطين فان قدرتهم واسعة وأطراف أوامرهم شاسعة وأوهاق اختيارهم طويلة ومراعي المراد لمرامهم منيله وآدان الكون لأوامرهم سميعة وعين المكان لمراسيمهم مراقبة مطيعة فمهما أرادوا من النفع أوصلوا ومهما اختاروا من الضر فعلوا وذلك في كل حسن ممسين أو مصبحين ولذلك قالوا القاضي لا يحكم حكماً إلا وهو راضي ولا يحكم وهو غضبان وهو مشغول الخاطر ولا غرثان فان وجدوا طريقاً إلى الخير بادرواإليه وإذا قصدوا إيقاع شر توقفوا لديه ولا يهملوه بل يسبروا غوره إلى أن يقفوا عليه فربما يكون من مداخله عدوا أو حاسد بتعاطي من له غرض فاسد ثم أعلم يا ذا التبصرة والتذكرة أنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره فلما وعى يسار هذا الحوار قال ما أزهى هذه النصائح وأزكى ما لها من روائح وأنا أقبل عليها وأقبلها ولا يزال مرتشف سمعي مقبلها وعلى ذلك أعاهدك ومهما رأيت غيره أعاقدك فانه للملك المصلحة وللملك زين ومسلحة وأيضاً فاشترط ما بدا لك مما يزين حالك ويصون مالك ومآلك

قال وأريد أن تكون حرمتي موفره وكلمتي معتبرة ومنزلي على أقراني مرتفعة ومكانني في الممالك متسعة بحيث تكون مزيتي ظاهره ومرتبتي لاكفائي باهرة وكلامي في محل الإصغاء والقبول متصلاً بالنجاح في السؤال والمسؤل فان حسن العهد وحفظ الود ورعاية الحقوق القديمة السابقة والخدمة المستمرة المتلاحقة دليل على كمال المروأة والوفاء ونهاية لعتوة والصفاء لا سيما من الملوك والأكابر في حق خدمهم الأصاغر ففي الحقيقة رفعة الخادم وكمال حرمته من رفعة مخدومه وعزته وكل من رفع قدر خدمه وحافظ على حفظ حشمه ومنع جانبهم ورعى حاضرهم وغائبهم إنما حفظ أطراف حشمته وراعي جانب عظمته وحرمته وكل كبير امتهن خدامه وأذل جماعته وقوامه ولم ينزل منازلهم ولا عرف فضائلهم وساوى باواخرهم أوائلهم فإنما أضاع مكانة نفسه ولم يفرق في الفكر بين نومه وغده وأمسه وإذا لم يصغ الملك لكلام الوزير واستقل بأوضاع ناصحه والمشير فابتذله وانتهز واستقله واحتقره خصوصاً في المجامع والمحافل بين العساكر والجحافل فأي حرمة تبقي له عنده البقية من سائر الخدم والرعية وأي مرسوم كلام يسمع له عند العوام فيتكدر خاطره وتتغير سرائره فيدعوه ذلك والعياذ بالله إلى شق العصا إذ صار على باب مخدومه معلقاً كالخصي وقدره في المكانة وقوله في البلاغة صار كالزيف في الصاغه والغسو في الدباغة وناهيك أيها الخبير ما قالته لامها الزاغه قال يسار أخبرني بذلك يا جهينة الأخبار (قال) ذكر أن زاغه في بلد مراغه انتشى لها فرخه انتشر لها بين الطيور صرخه وكانت ذات بهجة لطيفه وصفات ظريفة وتربت بتيمة

بالدلال وجمعت بين فنون الكمال فلما بلغت مبلغ الزواج خطبها من صنوف الطير الأزواج وترادفت عليها الخطاب ودخلوا على أمها في ذلك من كل باب فكانت تأبى عليهم ولا تلتفت إلى بذلهم ولا إليهم إلى أن بلغ خبرها إلى بومة كريهة الوجه مشومه بينها وبين أم الزاغه صداقة قديمه فخطبتها لأبنها وأبانت للطير مزيد غبنها فاستشارت الأم ابنتها وأظهرت في ابن البومة رغبتها وقالت أي ربيبة الخير قد رغب فيك أصناف الطيور فكنت أدافعهم وأسوف بهم وأمانعهم وقد اشتهر صيتك بين الكبراء وخطبك مني الأمراء والوزراء وأنا على المطاولة والرد والمقاولة وقد استحييت منهم واختشيت غائلة ما يصدر عنهم ولم أفعل ذلك إلا عارية لحالك وخوفاً من زوج ظالم بقدرك غير عالم يستضعف جانبك ويكره أهلك وأقاربك ثم لا نقدر على مقاومته ونتعب في مرافقته ومفارقته لا سيما أن صار بينكما معاشقه فيصير نكاحكما الدماشقه كل يضمر السوء لصاحبه حالة المعانقة كل يا أحسن معنى بما قال الشاعر: رأيت الذي لأكله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر ونعوذ بالله من اختلاف الوداد وأن يصبر نكاح السنة كنكاح أهل بغداد فأن صادفتما في محله مثلي أبي بكر الرباني ودله أو مثل الفرغاني وعلى أو جارة تشبه عيشة تلي خرجتما من يدي وزدتما نكدي فكنت لهذه الأمور أخشى تقلبات الدهور وأرد خطاب الجمهور وقد خطبك يا كريمة ابن صاحبة قديمة وهي البومة الفلانية وهي صاحبة هنيه وأخلاق ابنها رضيه وهو شخص فقير الحال حقير نقلبه في أيدينا كما نريد ونتصرف فيه تصرف الموالي في العبيد لا في الطير جنس يحبه بل كلهم يكرهه ويسبه ولا لهناصر علينا ولا جارح يدلي به إلينا فهو تحت طاعتك كما تحبين وفي ربقة إرادتك كما تريدين لا كالحمام يتطوق بطوق

الفخر ولا كالهدهد يتتوج بتاج الكبر فما رأيك في هذا الأمر فقالت الزويغة مقالة بليغة حفظت شيا وغابت عنك أشيا ما أصنع بزوج ممتهن وبغض الأجناس ممتحن مكسور مهجور يتطير بين الطيور هذا يخطفه وهذا يلقفه وهذا ينقره وهذا ينئره وهذا يأثره وهذا يكسره وإذا لم يكن للزوج حرمه ولا تسمع له كلمه خصوصاً عند زوجته وأهل بيته وعثرته فأي قدر يكون له عند غيرها وأني ينشر بالسعد جناح طيرها وقد قال رب السموات والأرض ومالك الطول والعرض والبسط والقبض والرفع والخفض الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وقال من جعلهم قوامين وذواتنا منعوجه وللرجال عليهن درجة ومقدار المرأة بين جيراني وأهلها إنما يعرف بقدر حرمة بعلها وأنا كيف يبقى حالي وبالي وما على ومالي بين جيراني وصواحبي وأهلي وأقاربي إذا كان زوجي ذليلاً مهيناً محتقراً بين الناس خربنا والله لا يكون لي زوجاً ولو بلغ رأسه الأوج ولا أمد إليه باعي ولا يرفع له في مركب الزوجية شراعي (وإنما) أوردت هذا المثال يا شبه الغزال لا بين أنه إذا لم يكن لي في دارك عزه ولا يرفع مكانتي ومكاني نشاط وهزه فلا يرجوني الصديق الموافق ولا يخافني العدو المنافق فيختل أمري ويضيع في غير حاصل عمري وإذا ما أهمل مرسومي تعدى الوهم إلى مخدومي قال يسار أبشر أيها الوزير المشفق والكبير المحقق والحكيم الماهر المدفق بالدرجة العلية والمرتبة السنية والكلمة المقبولة والوظيفة الفاضلة لا المفضوله ولكن أنا أيضاً لي عليك شروط تزين عقودها الملتفات

في المروط هن لدار السعادة أبواب وللترقي إلى درج السيادة أسباب ومثلك لا يدل على صواب وهي أن تتقلد العمل مبسوط الأمل بجميع ما قررته وتتعاطى ملازمة كل ما حررته من إقامة ناموس المملكة المبجلة ورعاية شرائط السلطنة المفضلة ومحافظة جانب مخدومك والإنهاء إلى مسامعه جميع ما في معلومك وتقديم مصالحه على مصالحك ومعاملة رعيته بالجهد في نصائحك وكفه عن المظالم والعدول به عن طريق المآثم والغيرة على دينه واعتقاده ويقينه أكثر من الغيرة على دنياه وفي الجملة لا يكون الملك إلا لله بحيث لا تكون من قبيل لم تقولون ما لا تفعلون وإياك والرشا والبرطيل والدخول لعرض الدنيا في الأباطيل وتوق ظلم الرعية للأغراض الدنيه أو الأعراض الدنويه واتق دعوة المظلوم وإن يصل سهامها إلى مولانا المخدوم وأعلم أننا إن بنينا أساس الأمور على قواعد الظلم والشرور فنحن من الخاسرين ومن الذين ظلموا والله لا يحب الظالمين وسيقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين بل ابن الأمور على أساس التقوى فانك بالتقوى تقوى وبروايتها تروى فمن تحلى بالقضايا العاطلة وتشبث بأذيال الأمور الباطلة ولم يقصد وجه الله في حركاته وسكناته وأدخل شوائب الرباء والسمعة في أعماله وطاعاته لا يمشي له حال ولا يصلح له مال ولا مآل ويصيبه ما أصاب السائح الذي ادعى إخلاص العمل الصالح ثم شرع في حركته وأخلص فظهرت آثار براءته فلما قصد الأعراض الدنيه فسد ظاهره بفساد النيه فسأل المشرقي عن حال ذلك الشقي (قال) كان في أقصى بلاد الصين طوائف غير ذي عقل رصين

أنبت لهم في بعض الجبال زراع القدرة ذو الجلال في رياض النزاهة والكمال شجرة ذات بهجة وجمال أصلها في أرض الملاحة ثابت وفرعها في أصل المحاسن نابت وغصنها إلى سماء العلى واصل وورقها كعقود الجمان بالبهاء متواصل لا سموم الصيف يزيل زهرتها ولا عواصف الخريف تذهب خضرتها ولا صرصر الشتاء يعري أغصانها ولا لواقح الربيع تذري أفنانها فاعجب بحسنها أهل تلك الديار وأشربوها إشراب بني إسرائيل عجلاً جسد إله خوار ثم تفانوا في حبها وتهالكوا على قربها فعبدوها كما عبدوه واعتقدوها كما اعتقدوه واستولى على عقولهم الشيطان وصار يخاطبهم من الشجرة واحد من الجان فزادهم فيها اعتقاداً وعمهم بعبادتها كفراً وعناداً فقدم تلك البلاد فقير من السائحين وهو من عباد الله الصالحين فلما رأى تلك الحالة أفزعه ذلك وهاله وأخذته غيرة الإسلام وغضبة دعته ليالقيام فأخذ فأساً وقصدها ليقطع ساقها وعضدها فلما قرب إليها وأراد وضع الفأس عليها سمع منها صوتاً خوفه وعن مراده أوقفه فقال أيها الرجل الصالح والقادم السائح فيم ذي الهمة وعلام هذه العزمة المهمة وما قصدك بهذه الصدمة فقال غيرة لله أيها المضل اللاه شجرة تعبد من دون الرحمن ولا يغار لهذا الشان إنسان فلاقطعنك أيتها الشجرة المضلة ولا جعلنك حطباً ومثله فانك قد أضللت كثيراً من الناس وفعلت ما لم يفعله الوسواس الخناس وأنك لا تنفيع ولا تضرين سوى إنك إلى النار تجرين

فقالت أيها الرجل الزاهد الصالح العابد أنا ما آذيتك ولا ضار رتك وإن رأيت نفعتك وبررتك وحاشاك أن تؤذي من لا آذاك وأنا أعلم أيها الرجل الكبير أنك غريب وفقير وما أقدمك على هذا البأس إلا الغربة والأفلاس فكف عن هذا الأمر وأطفئ فائرة هذا الجمر وارجع إلى منزلك واشتغل بطاعتك وعملك وأنا أوصلك كل نهار ديناراً ذهباً نضاراً كاملاً وافياً معياراً يأتيك هينا ميسراً كحل صباح مبكراً إذا استيقظت من رقدتك تجده موضوعاً تحت وسادتك وهذا هو الأليق بحالك وأفرغ لخاطرك وبالك وأخلص لك من ورطات المهالك وإذا أصلحت مع الله سريرتك وطهرت من أدناس الدنيا سرك وسريرتك فاترك الناس ولو كانوا جيرتك أو أهلك وعشيرتك وعليك بخويصة نفسك فإذا أنقذتها من الورطات فأمسك وقد قال منزل القرآن ليحرسكم يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فلما سمع بالدينار ألهاه الطمع والاغترار فبردت همته وضعفت في الله قوته وتركها ورجع وترك القيام وهجع فلما أصبح الصباح وحاز بالصلاة الفلاح بادر إلى الفراش وطلب المعاش فوجد الدينار كما ذكره الشيطان وأشار فالتفقه وابتهج وتحقق أنه فتوح باب الفرج واستمر على ذلك أسبوعاً والذهب عنده مجموعاً ثم بعد ذلك قصد الفراش بسرور وأهتشاش فلم يجد شيأ من الذهب فتحرق قلبه والتهب فأخذه الحنق والقلق وأخذ الفأس وانطلق فلما قرب من الشجرة نادته بألفاظ عكره قف مكانك واذكر شانك وقل لي في ماذا جيت فلا حبيت ولا حبيت فقال جئت لأقطعك ومن الأرض أقلعك غيرة على الدين وقياماً بحق رب العالمين

فقالت كذبت إنما غرت وسيبت وقمت وقعدت وبرقت ورعدت لفقدك الذهب الذي عنك ذهب وإنما كانت الغيرة الصحيحة والقومة المليحة الناهضة النجيحة القومة الأولى فإنها كانت والحق قد تجلى فلو قامت الجلائق لردك واجتهد وافي منعك وصدك لما ظفر وابك ولا قاموا بحروبك وأما الآن فهذه الغضبة غضبة الفاجرة لقحبة التي حصلت بواسطة عدم الدينار فهي التي أثارت منك ما أثار فلو دنوت مني خطوه وتقدمت من مقامك رتوه دققت عنقك وشققت زقك وقد قلت أني لا أضر ولا أنفع ولا أجلب ولا أدفع فأما المنفعة يا صلمعة بن قلمعة فأنك رايتها في الدنانير التي لقينها فتقرر النفع يا مستحق الصفع وأما المضرة فقسها على المنفعة يا أبا مره فان الذي له قدرة على المبرة ربما يقتدر على الإيذاء والمضرة وإن شئت تقدم وجرب لتعلم واخبر واسبر وانظر كيف أنثر منك لراس بهذا الفأس وحقق وصدق أن كتفك حملت حتفك فبهت الرجل وتحير وخاف وخار وقهقر وانقطع حبل رجائه وأفلت يتلفت إلى ورائه (وإنما ذكرت) هذا لتعلم أيها الوزير المكرم إن كل أمر لا يقصد به وجه الله فان عقباه الندم وإن حسن أولاه وكل قصد ليس لغرض صالح فان شجرة غراسه لا تثمر الفضائح فترك الشروع فيه أولى ومحو صورته من لوح الضمير أجلى ومن لم يترك مالاً يعنيه وقع فيما يعنيه وحل به من الفضيحة والأيام ما حل بذلك المفسد في مدينة السلام فسأل الزنيم المشرقي البصير الأفريقي كيف كانت تلك الفضيحة ليأخذ منها لنفسه النصيحة

(قال) كان في مدينة بغداد صانع حرير أستاذ خبير له جارسني الجوار وزوجة تخجل البدر عند الكمال والشمس قبل الزوال وذاك الجار الجاني يدعى ابن الفرغاني ففي بعض مطارده لمح زوجة جاره فتعلق قلبه بها واشتغل من هواها نار أحشائه بهبوبها فأخذ يلهو بها إلى أن أفسدها وإلى الضلال أرشدها وكان الزوج مغرماً بها فوجد على حالها منبهاً فصار يراقبها من كلفه ولا يغفل عنها لشدة شغفه ويجتهد فيكفها عن الخيانة وأن تحفظ الغيب وتؤدي الأمانة ففي بعض الأوقات رأى في بعض الطرقات صياداً ومعه طير أوثق رجليه بسير فسأله عن طيره وإلى أين قصده في سيره فقال هذا من الجوارح السوانح لا البوارح يحاكي الصوادح ويباكي النوائح وفيه سر عجيب وأمر غريب وهو أنه إذا كان في بيت ورأى فيه على صاحبه كيت وكيت أخبر زوجها خبره وقص عجره ويجره وقد رغب فيه رئيس يشتريه فأنا ذاهب به إليه أقدمه لديه وامتن به عليه فرغب فيه الحريري واشتراه وأتى به إلى داره وقال لزوجته أكرمي مثواه وأحسني مأواه فانه يخبر بكل ما رآه وهو من أحسن صفاته وأعجب أموره وحكاياته ومهما فعلت زوجة الإنسان ذكره على وجهه كما كان فقالت نحن بحمد الله في بركه آمنون مما ينقل عنا من حركه فان رأى شيأ يهوله لا يكتمه عنا بل يقوله فتركه إلى الزوج وذهب فدخل الحريف الملتهب فرأى المرأة وحدها والطير عندها فأخذ في المهارشه ومديدة للمناوشة فقالت كف يدك واحفظ الذمام فانه قد حصل علينا رقيب نمام فكف يدك يا حبيب لئلا نصاب ولا نصيب وتفكر في قول الشاعر المصيب: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب

فقال وأين الرقيب يا ست الجار والحبيب قالت هذا الطير ليس غير فان له خواص عجيبة وفيه أشياء لطيفة نجيبه منها أنه تمام ومهما رآه أو سمع من الكلام فانه يفض عنه الختام ويذكره لصاحب البيت على التمام فقهقه بصوت عال وسخر منها وقال صدق سيد المرسلين الذي قال النساء ناقصات عقل ودين ثم أقسم بحياتها وحسن ذاتها وصفاتها ليولجن القضيب في الكثيب بمرأى من ذلك الرقيب حتى إذا فرغ من أمره يمسح في منقاره رأس ايره ليعملها صحة ما أوهمها ثم حاورها وغلبها وساورها وقلبها وحل الصدر بالتكمه وتعلقت الحلقة بالسكة وامتزجت الألف العربية بالكاف الكوفية والتهم زر الوردة الثصبيبة شفاه الوردة النسرينينه واستمر في أخذ وعطاء ولا وطاء كأنهما أفواج الحجاج أو ثباج الأمواج في شيل وحط وقبض وبسط وهرج ومرج ودخل وخرج واستمر من نحو هذا التصريف في بحث الرفع والجر ومن علم المطاردة والركوب في صنعة الكر والفر ومن علم الزندقة والإلحاد في عالم الحلول والاتحاد إلى أن دفق الإبريق العقيق في قدح اللجين شراب الرحيق وقد أنشد الحريف هذا النظم الظريف وهو: لو تنظر الرقبا وقد عانقه ... والشمع مشتعل وبابي مقفل طور أشاهده وأرشف تارة ... وأضمه من بعد ما أتأمل وإذا تعشى ذيل ثوبي بادلى ... من جيبه شيء عليه المقتل

فلما سال الميزاب بما جرى وقضى زيد منها وطرا نهض ليبر قسمه حسبما ميزه وقسمه وأدنى من منقاره غرموله وكان للطائر مدة لم يتناول مأكوله فتصوره قطعة لحمه صدمها إليه طعمه فانشب مخاليبه فيه فاستغاث بملء فيه وكاد أن يغمى عليه واستعان بحبيبة قلبه إليه فأقبلت المرأة كالحدأة فأشار عليها أن تكشف عن ساقيها وترى الطير بظرها وحمرته فربما يلتهي ويترك آلته فتكشفت وأدنته إليه وعولت في خلاص صاحبها عليه فوثب لشدة قرمه وتأثير الجوع وألمه ليلهم ذاك الفلهم فانشب مخاليب رجله الأخرى في فلهم تلك البظرا فاشتبكوا في البلاء اشتركا وبينما هما في تعاظل الكلاب وإذا بالزوج قد دخل من الباب فرآهما على تلك الحال من الاشتباك والاعتظال ونقل الطير ما قال بالأفعال دون الأقوال فصح قوله وفعله وفعل مهما ما يجب فعله (وإنما أوردت) هذا البيان لا علم أشرف جنس الحيوان إن الشروع فيما ليس فيه منفوع يجب الأبعاد عنه والفرار منه وعدم الإصغاء إليه والتوجه والإقبال عليه ولهذا قال النبي النبيه صلى الله عليه وسلم عليه من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قال المشرقي ما بقي إلا أن ترتقي فلقد طال البيان وضاع الزمان (شعر) : فانهض هديت إلى ما رمته عجلاً ... فالدهر عات وللتأخير آفات وكانت هذه المحاورة تحت ظل شجرة فيها وكر حمامة وكان لها

بالبلد إقامة في برج رجل من أهلالزعامة ثم اختارت العزلة واحتسبتها نعمة جزلة فاختارت هذا المقام ولها فيه عدة أعوام فسمعت جميع ما قالا من مبدئه إلى منتهاه فلما وعت ما اتفقا عليه وتداعيا إليه أخذت تضرب أخماساً لأسداس وتتأمل فيما يتجلى من عرائس معانيه من القدم إلى الرأس وتجيل في صور مبانيه قداح النظر وتلاحظ سيرة فحاويه بلوامح الفكر وتجوز مذاهبه وتروز عواقبه وتقيس مداركه بمعرجه وتميس في مداخله ومخارجه فادى قائد فكرها ورائد نظرها إلى أنه ربما يكون لهما شأن وعلو مكانة ومكان فان محاورتهما وما مر من مناظراتهما كانت منطوية على ذكاء وفطنه وتجارب وحكمة وعلو همه صادرة عن فكره مصيب ورأى له في السداد أوفر نصيب ولم يبق لهما في القدر إلا مساعدة القضاء والقدر وإذا كان الأمر كذلك قالا ليق في قطع هذه المسالك المبادرة إلى التعرف بهما وإعانتهما والتقرب إلى خواطرهما ومساعدتهما على ما هما فيه ومساعفتهما بما تصل إليه اليد وتحويه لأنهما في حالة الشدة وزمان الانفارد والوحده محتاجان إلى المساعدة والمساعفة والمرافده وفي مثل هذه الحالة تظهر الفضيلة ويتحملان المنة والجميلة وتقع مساعدتي أحسن موقع ويتميز لي عندهما أرفع موضع فأنه إذا علا شأنهما وارتفع بدون معاونتي قدرهما ومكانهما واجتمع عليهما الجنود وأقبل إليهما الوفود وكثرت الحفدة والأتباع وتكاتفت العساكر والأشياع فما يظهر لمن يتقرب إليهما ويترامى لديهما إذ ذاك كبير فائدة ولا كثير عائده

ثم أنها توكلت على الرحمن وصدحت على الأغصان بقولها: على الطائر الميمون والبشر والسعد ... سموت إلى العليا نهدا على نهد ثم هبطت وبين أيديهما سقطت فاذكرت قول الرئيس هذا الشعر النفيس: هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع وقبلت الأرض ووقفت في مقام العرض ولزمت شرائط الحشمة وأدت مواجب الخدمة وهنأت نفسها والكون بسلطنة الملك يسار ذات الصون وقالت أني لكما نعم العون وموطني في هذه الشجرة وأنا لأوامركم مؤتمرة وقد وعيت ما قلتماه وما دار بينكما وذكرتماه ورأيته صادراً من مشكاة السعادة مشرقاً بأنوار السيادة سهامه نافذة في قلب الغرض وسيتعبد جواهر الرعايا بأدنى عرض فان حسامه مطيق لفصل القصد وشأنه سيبلغ أعلى اليمن والسعد وها قد جئت مبادرة واردة منهل الطاعة وصادره فأمر الأمتثل وانظر الأحتفال وتحكما لا طيع وتكلما فأني سميع فأن أشرتما فالقصد قاف وأن استشر فالرأي كاف وإن خبرتما فالحزم وإن استنهضتما فالعزم شاف وإن استخدمتما فالعبد خادم صاف مصاف فلما رأيا من الحمامة هذه الكرامة تبسم الزنيم وتفاءل وأشرق وجهه وتهلل وتيمن بطلعة الورقا وعلم أن أمرهما برقى وقال يسار هذا من علامات اليسار وجبر الانكسار والخروج إلى اليمن من اليسار وعنوان السعود وحصول النجح والمقصود فان مسبب الأسباب العزيز الوهاب

تبارك وتعالى وجل جلالاً هو مسهل الصعاب ومفتح الأبواب وإذا أراد أمراً هيأ أسبابه وفتح على الضعيف طاقته وبأنه ووسع رحابه وسدد إلى مرامي المرام لراميه نشابه وحصول مثل هذا الصاحب الصادق والرفيق الموافق والمعين المصادق أدل دليل على أن الله الجليل ييسر هذا المطلوب ويظهر هذا النجح المحجوب ثم أنهما استشار الحمامة في كيفية نيل الزعامة والشروع في هذا الأمر والتوصل إلى دعوة زيد عمرو وطريقة اشتهاره وتعاطي أسباب انتشاره فقالت أنا من جنس الطير مشهورة بينهم بالخير ولهم إلى سكون وعلى مناصحتي اعتماد وركون فالصواب في فتح هذا الباب دعوة الجمهور من الطيور أنابه زعيم وفي الرسالة حكيم فان اقتضى الرأي الرفيع توجهت ودعوت الجميع بعد التخيير والتشهير بين الكبير منهم والصغير أن أبا الجراء السلطان وأبا الجداء الوزير وقد وقع الاتفاق في الآفاق على هذا الوفاق فليبتهج سائر الطيور بهذا الفرح والسرور وليقرأ على رؤوس الجمهور هذا المقال المنشور ولبيادر إلى الخدمة بالحضور ولا يتخلى أحد من آمر ومأمور والحذر الحذر من المخالفةوعدم الانقياد والمؤالفة فقد طاب الوقت وراق وزال المقت والشقاق والمسارعة في أقرب زمان ليأخذ والأنفسهم الأمان ولا يركبوا من التعويض سوى متن مسافة الطريق فاعجب الملك والوزير من الهديل هذا الهدير فكتب بذلك بطاقة وحملتها الحمامة بأحكم وثاقة ثم أخذت إلى الجو ووقيت من الجوارح السو ثم هبطت إلى مجمع الطير وهو نادي الندى والخير فرأت منها خلقاً كثيراً وجمعاً غزيراً فسلمت سلام المشتاق وعانقت عناق العشاق

فترحبوا بمقدمها وسألوا عن معرب أحوال ومعجمها وقدموا موائد الضيافة وأظهروا السرور واللطافه فبثتهم كثرة الأشواق وما عانته من ألم الفراق وقد حرضها شدة الشوق وساقها إليهم أشد سوق وبعثها أيضاً باعث وهو من أحسن الوقائع وأيمن الحوادث وذلك أن شخصاً من أصلاء بني سلاق الحاكم على بني زغار وبني براق تولى سلطنة السباع ومالكيه الذئاب والضباع مضافاً إلى ذلك الحكم على الطيور والقيام بسياسة أمور الجمهور وأقام له في ذلك وزيراً كافياً ناصحاً مشيراً يدعى أبا زنمه المشرقي من نسل تكابك الأرتقى وهو من الفحول وكباش الوعول وقد أرسلوني إلى الجماعة يأمرونهم بالدخول في رياض الطاعة ليحصل لهم الرعي والرعاية والرفاهية والحماية ويأمنوا صيد الكائد وكيداً لصائد ثم شرعت نبت للكبير والصغير ما شاهدت من مخابل الملك والوزير وحسن شمائلها ويمن خصائلهما وما هما عليه ونسبا إليه من الشجاعة والدين والعقل المتين والفضل المبين والقناعة والعفه والمجد الذي لا تدرك وصفه وأن الملك المعلوم قد عف عن تناول اللحوم وقد قنع بما يسد الرمق من حشيش النبات والورق وقد تكفل برفع المظالم وردع الظالم وأجراء مراسم العدل وأحياء مواسم الفضل فان أنابوا وأجابوا ربحوا وأصابوا وطالوا وطابوا وأن أبو وصبوا واهتز وللمخالفة وربوا ثم كسهم الدمار وأركسهم فلا يلوموا إلا أنفسهم فصدقوها من أول وهله والرائد لا يكذب أهله لأنهم كانوا بها واثقين ولكلامها في الحوادث مصدقين فما وسعهم إلا الطاعة والتوجه إلى خدمة

الملك في تلك الساعة وبعد ما تبادروا بالتصديق طاروا بالفرح ودخلوا الطريق واستصحبوا من الخدام والتقادم ما يصلح للمخدوم من الخادم فلما قربت الديار ودنوا من ولاية الملك يسار تقدمت الحمامة وسبقت وأخبرت الملك والوزير بما فتقت ورتقت فاستبشروا بما تقدم وبادر الوزير لملاقاة المقدم فتلقاهم بالاحترام والتوقير وأكرم الكبير والصغير ومشى معهم بالإكرام والحرمة وأوقف كلاً منهم في مقام الخدمة وحين استقر بهم المقام افتتح الوزير الكلام فأثنى على الله تعالى وضاعف التحية على نبيه ووالي ثم امتدح الملك الذكي بثناء يخجل المسك الزكي وذكر بعد ذلك ما يتعلق بسياسة الممالك وأن الله من بالملك عليه وساق سلطنة الوحش والطيور إليه وذكر مقام كل من الطيور وما وظيفته بين أولئك الجمهور فأطاع الكل وتابعوا وعلى ما اقترحه عليهم بايعوا وأنشدوا فارشدوا: ونحن أتينا ظائعين ولم نكن ... عصاة فرم غير الطيور عساكرا ولما انقضى الوطر من قضايا الطير أخذوا في استدعاء جموع الغير من الوحوش الكواسر والبهائم الجواسر والهوام النواشر والجوارح النواسر وأرسلوا في تلك الجماعة الحمامة وقلدوها فيه طوق الزعامة فتوجهت نحو الوحش وإلى كل فارح من الصيد وجحش وكانوا بذلك قد سمعوا وللمشاورة فيه قد اجتمعوا فبلغت الحمامة الرسالة وأظهرت ما فيها من بسالة وكان آخر ما وقع عليه الاتفاق الوفاق وعدم النفاق وقصد الارتقاء والتوجه إلى خدمة الملك يسار صحبة الرفاق وقالوا لا شك أن الكلب بالوفاء مشهور وبحسن الرعاية والحراسة مذكور ويقدر أن يرعانا من الإنسان ويجمينا من السباع ومؤذيات الحيوان وأوصافه مذكورة في الكتاب وناهيك بفضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب

فتقدم خزز من بين تلك البزز يدعى رئيس الأرانب محبب إلى الأقارب والأجانب وهو مشهور بالحصافة موصوف بالذكاء والظرافه والمعرفة التامة والتجربة المفيدة العامة بعيد الفكر في العواقب سديدالرأي حازم مراقب وقال يا معشر الأصحاب وأولي الأبصار والألباب كيف خفي عليكم ولم يتضح لديكم عاقبة هذه الأمور وما فيها من عكوس وشرور وهل بصلح للرياسة وإقامة السلطنة والسياسة أهل النذالة والخساسه المنصف بالقذارة والنجاسة أو ما علمتم أن من أفحش السباب الشتم باخس من الكلاب أو ما سمعتم في كلام مالك أزمة القلب في حق عامله بالسلخ والسلب فمثله كمثل الكلب أو ما قال صاحب الشرع في حق ما ولغ فيه الكلب بالسبع ثم التعفير بالتراب وهو مذهب كثير من الأصحاب وأن يطهر بالدباغة منه الإهاب لا أصلي تقي ولا وصف نقي ولا نسب طاهر ولا حسب ظاهر ولا وجه زاهر ولا شكل باهر فان كنتم نائمين انتبهوا واعرضوا فما قصدتم إليه وانتهوا فلعن الله زماناً صار فيه التيس وزيراً والكلب سلطاناً ولقد أرشد من أنشد: لقد جار صرف الدهر في كل جانب ... من الأرض واستولت علينا الأراذل هل المسخ إلا أن ترى العرف منكراً ... أو الخسف إلا حين تعلو الأسافل فتصدى الهديل للجواب وقال لا شك ولا ارتياب أن المستحق للسلطنة الإمام العادل والشخص الكامل الفاضل ولا يقدح في هذا الفصل دناءة الأصل فقد قال القيوم الحي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكل من اتصف بالهمة العلية والأوصاف السنية

ومكارم الأخلاق والشيم وانتشر بها صيته بين الأمم يستحق أن يرأس بين العرب والعجم وأما الأنساب ففي نص الكتاب قال من بقوله يهتدي المهتدون فإذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقال الشاعر: كن ابن من شئت واكتسب أدباً ... فسوف يغنيك ذا عن النسب إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي وقال أيضاً: لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه ... على ما تجلى يومه لأبن أمسه وما الفخر بالعظم الرميم وإنما ... فخار الذي يبقى الفخار بنفسه وأما الأوصاف فلا شك ولا خلاف في أن الكلاب فضلت على كثير ممن لبس الثياب وما ذاك إلا لأوصاف اختصتها وآثار اقتفتها واقتضتها وهي مشهورة وعن الكلاب مسطوره ومن جملة محاسنهم مأثورة وأما الأوصاف الذميمه فيمكن صيروتها مستقيمة وذلك بحسن التأديب والتربية والتهذيب والتمرين والتشذيب حتى يصيرنا به مديه وهذا ليس فيه مريه ويجتزي بالفاكهة والبطيخ عن اللحم السليخ وبالخبز الشعير عن أكل لحم الحمير وناهيك يا أبا وثاب ما قيل في الكلاب ولا بسبي الثياب (شعر) : وما ضر أهل الكهف إيمان كلبهم ... ولكنهم زادوا يقيناً على هدى وماذا أفاد العلم بلعام وهو من ... بني آدم لما إلى الأرض أخلدا

وهذا السلطان قد عاهد الرحمن إن لا يمزق حيوان ولا يذوق لحمان وأن يقنع بالكفاف ويسلك طريف العفاف وما ذاك لعجز ينسب إليه ولا لوهن طرأ عليه بل سمت همته عن ذلك ترفعاً وسلك طريق الملوك في أحياء هممها ومعاليها تطبعاً وبضدها تتبين الأشياء فان أحببتم كان لكم الحظ الأوفر وإن امتنعتم فقد أعذر من أنذر وبلغ من حذر وما قصر من بصر والعاقل من يتبصر عيوبه ويسلك من الخلق الجميل دروبه وقد قيل لأمير النجل ذاك الأسد الفحل كرم الله وجهه وجعل له إلى الرضوان أحسن وجهه يا أمير الامؤمنين وابن عم سيد المرسلين ممن تعلمت الأدب قال من قليل الأدب يعني إذا رأيت في أحد خلقاً ذميماً أو وصفا فسد بادرت إلى افتقاد نفسي وتأملت في حدسي وحسي هل أبا محلى بذلك الوصف أم لا فان لم يكن اجتهدت أن لا يكون وأن كان أبعد عنه عرضي وأصون وحسبك يا ذا الرتبة العالية استنكاف اللص العاقل من قول تلك الزانية فقالت الخزز للحمامة: أخبريني بذلك الاستنكاف يا ذات الكرامة ... قالت الحمامة ذكر رواة الأخبار عن شاطر من الشطار قد بلغ في الشطارة واللصوصية غاية المهارة يسرق الوهم من الخاطر والرائحة من الطيب العاطروالنوم من أجفان الوسنان واللماطة من أسنان الجيعان ويأتي على كوامن الغيوب فضلاً عن خزائن الجيوب ويلف الرخيص والغالي والوضيع والعالي وقد أعجز المقدم والوالي ففي بعض الأوقات قصد جهة من الجهات فبينا هو في المناهضة

والمناهزة غشيه الوالي مع العسس والجلاوزه ومعهم امرأة بغى قد خرجت عن الصراط السوى وهم يضربونها وعلى أفظع حالة يسحبونها وهي تستصرخ المسلمين وتستغيث أئمة الدين فلما أحس اللص بهم نكب عن دربهم وولاهم عطفه ونزوى في عطفه وانتظر حتى يمروا فسمع المرأة وهم بها قد أضروا وهي تصيح بلسان فصيح وتقول يا أهل الإسلام وأمة خير الأنام أنجدوني وارحموني وأسعدوني لا سرقت ولا نقبت ولا اختلست ولا سلبت ولا ظمعت في مال أحد ولا نهبت ولا وقفت لأحد في درب وإنما استنفق من حاصل دار الضرب وذلك ملكي وحوزي وثمرة لوزي وجوزي باشارة سهام الحاظي الملوزة من قسى حواجب بالجمال متوزة وسفارة نظام الفاظي المعززة المشبه باب طريقها درراً في العقيق والرفيق مغرزه فما لي على أحد ولا طمعت في مال أحد فيحصل له منى ملل فلما سمع قاصد الحرام هذا الكلام أفاق خاطره وراق وتنبه لقبح صنعته وأن الزواني تانف من حرفته وتستنكف مما هو مفتخر بفضيلته فقال لعن الله فعلاً تنتقصه الخواطي وتباً وسحقاً لمتعاطيه من متعاطي ثم عاهد الله التواب ورجع إليه عن صنعة الحرام وتاب (وإنما أوردت) هذه المناقب يا شيخ الأرانب لتعلم أن العاقل من يتصفح جرائد أعماله ويتأمل صحائف حركاته وأحواله وأن هذا الملك صفى شراب صفاته من كدورات الهوى براورق للراقبة ونقى رياض ذاته من شوك الأخلاق الذميمة بمنكاش المعاتبة بقدر طاقته وإمكانه وهو مثابر على ذلك في غالب ازمانه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وليس لك أن تعترض بان النفس لا تغير طبعها وليس

الأكمة كالأرمد ولا السطيح كالمقعد، ولا سحبان كباقل ولا العاقل كالتعاقل، ليس التكحل في العينين كالكحل وتخرج يا مسكين. بواقعة السلطان محمود بن سبكتكين مع وزيره حسن الميمندي بسبب القضية الواقعة لأبن الجندي فسأل أبو عكرشة أبا عكرمة عن هذه الواقعة ليتبين من التمثيل مواقعه (فقال) إن السلطان محمود ذا الطالع المسعود الذي فتح بلاد الهنود جرى بينه وبين وزيره مباحثه وقع فيها عن دقيق العلوم منابئه في أن الطباع هل تقبل التغيير أم لا تستحيل عما جلبها عليه الفاطر الخبير فقال الوزير نعم تقبل التغيير بواسطة التأديب وحسن التهذيب وحسن التشذيب والتهذيب وقد شاهدنا الطباع من الوحوش والسباع بواسطة التعليم تركت الخلق الذميم واكتسبت الوصف المستقيم فجريان هذا الإمكان أحرى أن يوجد في جنس الإنسان فقال السلطان المظفر لا تتحول الطباع ولا تتغير ولا يمكن صرفها عما جبلت عليه ولا يتصور فال من ليس في كلامه اشتباه فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله

وقال القائل وتأبى الطباع على الناقل واستمر هذا الكلام بينهما عدة أيام إلى أن ركب السلطان وقصد السيران والوزير في ركابه من خدمه وأصحابه فرأيا من بعد شاباً من أولاد أحد الجند وهو جالس على فرع شجرة يابس يريد قطعه لما عدم نفعه وقد جعل ظهره إلى طرف الفرع وهو عمال بالمنشار في أصله للقطع فتأمل السلطان والوزير في هيئة ذلك الظبي الغرير ثم قال السلطان للوزير بين الأعيان وطبع هذا أيضاً داخل في الأمكان وهو يقبل التغيير والتعليم ويمكن استحالته بالتأديب والتفهيم فلم يجر الوزير جواباً لا خطأ ولا صواباً ثم أشار إلى بعض خوله أن يذهب بذلك الشاب إلى منزله فلما نزل من الركوب أحضر ضلك الشاب المرعوب الغافل المحبوب ثم طلب له مؤدباً حاذقاً مهذباً وأمره أن يجتهد في تعليمه ويبالغ في تأديبه وتقويمه ويوقفه من العلوم على دقائقها ويسلك به إلى خفايا طرقها وطرائقها فاشتغل بتربيته ليلاً ونهاراً وبذل مجهوده في سراً واجهاراً إلى أن برع في أنواع العلوم وضبطها من طربقى المنطوق والمفهوم ولما فرغ من العلوم أدناها وأنهارها من مبتدئها إلى منتهاها شرع به في علم إدريس وهو علم النجوم النفيس واستطرد منه إلى علم الرمل المنير ونوسل بهإلى أن توصل إلى إخراج الضمير فأتقن هذه العلوم لا سيما إخراج الضمير الموهوم فلما أتقن ذلك وسلك فيه أدق المسالك أحسن الوزير إليه واستصحبه إلى الملك ودخل به عليه فقبل الأرض وأدى من شرائط الخدمة النافلة والفرض وقال للسلطان محمود أن هذا هو ذاك الشاب المعهود وقد برع

في العلوم ووصل إلى استخراج الضمير المكتوم وقد بدلت بلادته بالذكاء وصار فؤاده كابن ذكاء فان اقتضت الآراء السلطانية سبرته واعتبرت فهمه بعدما اختبرته فادخل السلطان يده في كمه ونزع خاتمه من بصمه وأطبق يده عليه ليسبر منتهى علمه وينظر ما قاله الوزير في كيفية هذا التبديل والتغيير ثم أخرج يده من كمه وقال ليظهر نتائج علمه ليخبرنا بما في كفي وعن حواس العيون مخفي فتقدم الشاب ورفع الإصطرلاب ووضع أوضاع الحساب وخط ذلك النقي أشكال لحيان والنقي وسائر الأوضاع من الطريق والاجتماع ثم نظر وسبر وعبس وبسر وقدر وافتكر وقال دل الشكل والله أعلم أن ما حواه الكف المكرم شيء من المعادن محفوف بسودد أسواد بائن وهو في أفضل الأشكال لأنه مستدير وفي أحسن الألوان لأنه مستنير وفي دائرته قطر ومركزه وفي وسطه ثقب لمغرز وهو ثقيل أما في الثمن أو في التحميل ثم تأمل بعد الوقوف في أن هذا الموصوف ماذا يكون فقال كان والله أعلم فردة طاحون فضحك السلطان الكبير وخجل لذلك الوزير ثم قال السلطان أبي والله وله السبحان أن يكون بأقل كسحبان: إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع أدب الأديب (وإنما أوردت) هذه المسائل لئلا يعترض قائل ويستدل بمثل هذا الدليل على أن الطباع لا تقبل التغيير والتحويل بل الطباع تتغير: ومن ذا الذي يا عز لا يتغير ... فسبحان من لا يحول ولا يزول الذي وضع عالم الكون على الانتقال والحلول وكل لجلال عظمته مخبت يمحق ما أراد

بثبت ويمحو ما يشاء ويثبت ومذهب أهل الثبات في المحو والإثبات أن الكافر قبل الإسلام كافر عند الملك العلام وبعد ما انخرط في سلك المؤمنين صار مؤمناً عند رب العالمين وعلى هذا التقدير والتقرير أيها الفاضل الكبير والعالم النحرير فالملك يسار نظر بعين الاعتبار وتنصل من رذائل الأوصاف وتخلق بأخلاق الأشراف من التلبس بالعدل والأنصاف ولولا نيته الصالحة ما صارت صفقته في المبايعة رابحه ولا كانت كفة فضله راجحة ولا زايله النكد ولا أطاعه أحد والأعمال بالنيات وعلى مقدار النيات العطيات وجنس هذا الملك في الأوصاف المتباينة مشترك فانه قد جمع بين خصائص الحيوان حتى كأنه سبع بهيمة إنسان كما قيل: جمع الكلب في حلاه صفات ... فهو سبع بهيئة إنسان وكما قيل أيضاً: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً ... يكلمه من حبه وهو أعجم وأنا يا مولاي أعرض عليكم هذا الرأي وهو شاهد عدل وحكم فصل وهو أن يقع الاتفاق على واحد منكم من خلص الرفاق من تحققتم حسن آرائه وصدقه في أنبائه وصحة دينه ورصانة عقله ويقينه فانطلق في ركابه إلى حضرة الملك وجنابه فيكتحل بأنوار طلعته ويشمله ميامن رؤيته ويطالع جميل صفاته ليسكن إلى فضيل حركاته وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين فيزول باليقين الشك ويظهر خلاصة الذهب بالحك ثم يأخذ لكم العهد والميثاق بما يقع عليه الاتفاق وما ترضونه وترونه من الصواب ويرد عليكم بذلك الجواب فان وافق قصدكم توكدون عليه عهدكم وتتوجهون بقلوب مطمئنة وخواطر في حصول المرام مستكنة والأفترون رأيكم فيما عليكم ومالكم

فاستصوبوا هذا الرأي واسترضوه واستعذبوا لطيف معناه واستحسنوه وانتدبوا لهذا الأمر الخطير من يصلح أن يكون عند الملوك السفير فوجدوا ظبياً طيب العناصر قد عقدت على غزارة فضله الخناصر من أعقل الجماعة وأذكاها وأحسنها رأياً وأدهاها فقلدوه الزعامة وأرسلوه مع الحمامة على أن يجتمع بالملك يسار ويعاهده على ما يقع عليه الاختيار ثم يسمع أقواله ويشاهد أفعاله ويميز أحواله ثم يرد عليهمالجواب فيميزوا ما فيه من خطا وصواب فيبينوا عليه ويرجعوا إليه فتوجه الظبي والحمامة مستصحبين الأمن السلامة فلما قربت الديار سبقت الحمامة إلى خدمة الملك يسار وأخبرته بصورة الأخبار وأن الظبي في العقب مقبل بما يحبه الملك ويجب فأمر الملك الوزير أن يتلقى الظبي الغرير مع جمع الطير الكثير فتقدم الوزير وقال أسأل مولانا الملك المفضال أن صدر من هذا القاصد خطاب أن يشار إلى برد الجواب فان ذلك أعلى للحرمة وأدنى للحشمة وأقوى لناموس الملك والرياسة وأزهى لطاوس البسوق والسياسة فان كان ذلك الجواب متحلياً جيده بعقود الصواب كانت سعادة الملك الملهمة وفي خدم الملك من تصدى للأمر وأبرمه فان خرج عن طريق الجادة فلا ينسب إلى الملك تلك المادة بل يتلقاه الملك بكرسه ويكون الخطأ منسوباً إلى خدمه فأجابه إلى ما سأل وتقدم الوزير للملاقاة مع سائر الخول فتلقوا الظبي بالترحاب وفتحوا في وجهه للكرامة أوسع باب ومشوا معه حتى وصل إلى الحضرة وشاهد تلك الحشمة والنضرة فقبل الأرض ووقف وعرف مقدار الملك وأعترف وأدى الرسالة وبين للملك ما فيها من رقة وجلاله فقابله الملك بما يليق بحشمته وأجلسه بالقرب من حضرته وخاطبه بما أذهب دهشته وآنسه بملاطفات جلت وحشته وسأله عمن خلف وراءه واستقصى في التفحص أحواله وأنباءه فبلغ عبوديتهم وطاعتهم وأن

الإخلاص والطاعة شملت جماعتهم وفتح فم الدعاء بلسان ذلق وخطاب طلق وكلام غير معقد ولا قلق وأطال في الدعاء وأطنب في الشكر والثناء وسال شمول المراحم وكف كف المتعدي والمزاحم فانهم انبسطوا وانشرحوا وابتهجوا باستيلاء هذا الملك وفرحوا وشكروا الله هذه النعمة وأنى يفون بشروط العبودية والخدمة ثم سأل أخذ الميثاق وتأكيد العهد بالإيثاق بالأمان والاطمئنان لمن وراءه من الوحوش والغزلان فأعطاهم الأمان وشملهم بالإحسان على أن لا يراق لهم دم ولا يهتك لهم حرم وأنهم يرعون حيث شاؤا ويسرحون حيث ذهبوا وجاؤا وأن الملك يسار حاكم سلوق وزغار وخليفة براق وكوباك والتتار قد عاهد الملك الجبار أن لا يتعرض لوحش القفار ولا لأحد من أجناس الأطيار حتى ولا لحيتان البحار ولا يريق لهم دماً ولا يقصد لهم أذى ولا ألماً ويرعى جانبهم ويقضي مآربهم ويحفظ شاهدهم وغائبهم ويمنعهم من مناويهم ولا يسلط عليهم من يؤذيهم ما داموا تحت طاعتي وفي جواري وذمتي فقبلت الغزالة بشفاه العبودية خداً لجداله وقالت هذا كان المأمول وجل القصد من الصدقات والمسؤل والذي جيء لأجله فقد حصل من صدقات الملك وفضله ولكن العلم العالي محيط بان وحوش البسيط أقوام ضعاف ليس بينهم ائتلاف وهم طوائف كثير والاختلاف أجناس متفرقة وأنواع متمزقة ليسوا كقطائع الغنم مجتمعين ولا كحشار الخيل ممتنعين ولا بعضهم لبعض متبعين ثم لم تزل العداوة بينهم قائمة وعيون الصلح والاتفاق عنهم نائمة لا يضبطهم ديوان ولا يحصرهم حسبان ولا يمتعهم من التعدي سلطان القوى يكسر الضعيف ويمزقه والشاكي يستطيل على الأعزل ويفرقه ولأجل هذا المعنى لا يمكن اجتماعهم في مغنى بل البعض في قلل الجبال متوطن والبعض في

سرب التلال متحصن والبعض متشتت بذيل الكهوف والمغارات والبعض الآخر في الآجام والآكام خوف الغارات وكل يخاف حلول البلاء قد اتخذ لذلك القاصعاء والنافقاء واستعد بفنون الكيد خوفاً من جوارح الصيد وإذا كان الأمر كذلك فاجتماعنا متعسر وحفظنا في الملك غير متيسر فلا بد من ترتيب قاعدة تعم منها جميع الوحوش الفائدة ويشمل أمنها غائب الملك وشاهده وإلا فالحاضر آمن وقلب الغائب غير مطمئن ولا ساكن فليفتكر للرعية في ضابطة تكون الحرمة فيها للقريب والنائي باسطه فالتفت الملك للوزير وقال أجب هذا السفير فقال الزنيم يا أحسن ريم هذه الأفكار من قصور الأنظار وعدم التأمل والاستبصار وإلا فان السلطان في كل مكان كلمته عليا ووجوده كالشمس في الدنيا فكما أن الشمس إذا استوت وعلى سرير كبد السماء احتوت عم فيض شعاعها الجبال والآكام والتلال والآجام وانتشر على البحر والبر واشتهر على الفاجر والبر فرست الأزهار والأثماروشبت مشاعل الكلا في القفار وطبخت الغلال وفواكه الأشجار وصبغت في كوامن المعادن جواهر الأحجار كما قيل: كالشمس في كبد السماء محلها ... وشعاعها في سائر الآفاق كذلك الملك العظيم إذا انتشر صيت عظمته وعدله في سائر الأقاليم شمل فضله الشريف والوضيع وبلغ جود جوده والرفيع وردع عدله الطائع والعاصي ووسع نواله الداني والقاصي وأنه كالغمام الصيب الصبيب على الربيع الخصيب والديمة المطبقة والمزنة المغدقة إذا انتشرت في

الآفاق وصارت لام عهد عاهدها للأستغراق فروت الحضيض والبقاع وعمت الوهاد والتلال والبقاع وخاطبها ظمآن الرياض وعطشان الغياض شعر: أمطر على سحاب جودك مرة ... وانظر إلي برحمة لا أغرق هذا ومتى انتشر في الأطراف أنكم التجأتم إلى هذه الأكناف وتطرز بشمول الصدقات السلطانية من ملابس طاعتكم الطراف والأطراف منعت العواطف الملوكية والخواطر الشريفة السلطانية عوادي المعادي وكفت أكف المصادم والمصادي فلا يجترئ أحد على التعرض لكم ولا يخطر ببال مخالف أن يقطع سبلكم قال الرسول الأمر كما يقول مولانا الأمير وما أحسن هذا التقرير ولكن مع المراحم السلطانية وصدقات العواطف الملوكية وحسن الطوية وإحسان النية فلا بد للسياسة وضبط الرياسة وقواعد الملك في الحراسة من ضابط يبني عليه الملك لأمره أساسه لا يتميز به كبير دون صغير ولا يختص برعايته جليل غير حقير فان من أحسن أوصاف الملوك والأكابر أن لا يغفلوا عن تفقد أحوال الصعاليك والأصاغر ولا يقتصر وافي ذلك على نوع دون جنس كما يفعله لغلبة الهوى بعض حكام الأنس مع أنهم مسؤلون عن جليلها وحقيرها ومحاسبون على كبيرها وصغيرها وفي شأنهم قد قال من في ضبط حركاتهم وملكاتهم استقصاها ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقد تنبه لهذا الفعل الرجيح أيها الوزير النصيح والمنطق الفصيح أنوشروان وهو من الكفار واشتهر عنه قضية الحمار فسال الوزير بيان هذا التقرير

(فقال) الريم بلغنا أيها الكريم أن أنوشروان بالغ في نشر العدل والإحسان ومعاملة الرعية كبيراً وصغيراً بالسوية وبذلك في ذلك جهده واستنهض لمساعدته وكده وكده واختشى أن يمنع المتظلم الفقير الأبواب بسبب حاجب أو كبير لغرض أو عرض أو ارتشاء من في قلبه مرض فيمشي مدلس البراطيل من خوف الأباطيل ويضيع بحث صارخ الحق في أوقات التعطيل فاداه قائداً اجتهاده وانتهى به رائد مراده إلى أن يعقد في طاق مبيته ومجتمع خاطره عن تشتيته من محاذي السرير حبل من الحرير ويربط طرفه الأدنى في حلقة الباب حيث لا حاجب ولا بواب وهو مكان مجتمع الجمهور ولا يمنع أحد فيه من الوقوف والمرور وأن ينشد فيه أجراس من خالص الذهب لا النخاس بحيث إنه إذا حرك الحبل صوتت الأجراس صوتاً أخرس الطبل ثم أمر منادياً أن يرفع صوتاً عالياً بان من كان شاكاً فعليه بتحريك ذلك الحبل ليقع الظالم في الكبل أو ينتصر المظلوم من بعد ومن قبل فاشتهرت هذه العادة ونال بها في الدنيا السعادة وعظم صيته وخمدت عفاريته وانتصف صفاريته ففي بعض الظهائر عند قائلة الهواجر وأنوشروان في مبيته قد طاب اضطربت الحبل والأجراس أشد اضطراب ففز أنوشروان مذعوراً وتصور المحرك مظلوماً مقهوراً فابتدر بطلبه لينظر في ظلمه وسببه فتبادروا إلى إحضاره واستكشاف أخباره وإذا هو حمار حرب جنب جسمه من الجرب خرب ومتن ظهره من الحكة نقب وقد هد عمارة عمره هادم الهرم وألهت حشيش حشاشته من

الجوع ماضي الضرم يحمله صاحبه ما لا يطيقه ويقطع عنه قوته وعليقه يؤذيه ولا يداويه ولا يداريه فطلب مالكه وعتبة ثم زخره وضربه ثم أمر بالنداء في الأسواق وامتد ذلك حتى بلغ الآفاق وعم الضواحي والرزداق أن يسلك بما ملكت اليمين الإرفاق ولا يفتر عليها في الأنفاق وكل من عنده دابة قد استعلمها في صباها واستوفى في خدمته قواها يراعي حقوقها إذا كبرت ولا يضيع ما قدمت بما أخرت وصك وجهذلك الرجل صكا وكتب عليه بفرض حماره صكا (وإنما ذكرت) هذا المثال في معرض ما يقال من أن عدل السلطان خير من خصب الزمان وأيضاً فان قصد الملك إذا كان صالحاً كان أمره في جميع الأزمان ناجحاً وسخر الله له من يرشده إلى قصده ويعينه على أمور شعائره ويحيي ذكره من بعده وتدر على يده سحائب البركات ويجري منها على غير قصده أبحر الخيرات وحفظ كل من إليه ينتسب ورزقه كل ذلك من حيث لا يحتسب وحاصل هذه المقدمة أن المسؤل من الصدقات المعظمة انه إذا ترامى على أبواب عدلها شاكي أو تعلق بأسباب معدلتها متظلم باكي تتصدى هي بنفسها لكشف ظلامته ولا تترك الغير في فصلها لإقامته وأن الفقير من جماعتنا والضعيف من أهل طاعتنا إذا مست الحاجة به إلى بث شكوى أو رفع بلوى يتقدم إلى شكواه بلا واسطه ليأمن في أمره المغالطة ويصادف مقسطه لاقاسطه ويتساوى في كل من مشرب العدل والأنصاف ومراعي الفضل والألطاف الظباء والأسود والذئب والعتود والعقاب والعصفور والحمام والصقور ولا يتقدم في الدعاوي من حيث التساوي الوجيه على الجاهل ولا النبيه على الخامل ولا الكبير على الصغير ولا الجليل على الحقير

فان اقتضت الآراء العالية توليه عامل في ناحية فليكن ممن له شفقة تامة ورحمة في أمر الرعية عامه ويعرف ذلك بمن حربته العلوم الكريمه وتحققت أن نيته في رعاية الرعية مستقيمة قد صارت له الشفقة ملكه وكل من العدل والأنصاف قد ملكه ولا تولى أحد الغرض أو من في قلبه من أذى المساكين مرض وأن الطبيعة إذا اعتادت عاده والمسجية إذا جعلت لها بعض الأوضاف قلادة سواء كان ذلك مذموماً أو محموداً مقبولاً عند العقل والشرع أو مردوداً فإنها فإنها تبرزه في غالب الأوقات ولا نتخلف عن ملابسته في أكثر الحالات (شعر) : العين تعرف من عيني محدثها ... إن كان من خربها أو من أعاديها وكل قضية لا يساعدها القلب فمنتها على العكس والقلب ونظيرها يا رئيس المدارة قضية من زوجته أمه وهو كاره فسأل الوزير من السفير تقرير هذا النظير (فقال) كان شاب من العراب قصدت أمه تأهله فزوجته بامرأة أرملة ولم يكن له احتياج ولا رغبة في الزواج واختار التخلي للصلاة على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ولكن فر من العقوق وكتب على نفسه الحقوق فلما عقدت الوليمة وصممت العزيمة وجمعت النساء والرجال أرسلت أمه إلى جار لهم قوال أستاذ في صنعته ماهر في حرفته فدعته إلى الجمع ليبتهج بحسن غنائه السمع فيشغل الوقت ويذهب المقت ويحصل للحضور النشاط والسرور فتخلف وأبي وعن الحضور بنا فسئل عن تصلفه وسبب تخلفه

فقال بلغني أن الزوج الخاطب غير طالب ولا راغب وإذا كان كذلك فلا بغني الغناء إلا العناء ولا يؤثر في القلوب والأسماع بل تنغر عند سماعه الطباع فكل شيء لا يصدر عن رغبة القلب فان أيجابه لا يفيد إلا السلب فيضحك على القائم والقاعد ويسخر مني الصادر والوارد ويروح تغزلي في البارد وإنما ذكرت ذلك لأعراض على آراء المالك أنه إذا أولج أمر الرعية إلى أحد من الخاصكية ينظر إلى شفقته ويسير وفور مرحمته ثم يوليه عليهم ويتقدم بالطاعة إليهم فيستقيم إذ ذاك فعلهم وفعله ويظهر في حركاته وسكناته عدله وليس العدل في القضايا تساويها ولا إجراؤها على نسق واحد يحويها بل معرفة مقاديرها وبيان تقريرها في المبادي وتحريرها ثم أجراؤها على مقتضى مدلولها ورد فروع كل مسئلة إلى أصولها ووضع الأشياء في محلها وإيصال الحقوق إلى أهلها ومعرفة منازل أربابها وأوضاع أصحابها ومراتب طلابها فمن لم يحقق هذه الأمور أضاع مصالح الجمهور فأعطى غير المحق ما لا يستحق ومنع الحق عن المستحق وقد قيل يا أبا السعود أن حقيقة الجود إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وإلا كان كالباذر في السباخ وأشبه في أمره أجير الطباخ الذي لم يعرف معنى العدل فقصده فوقع في الجدل فسأل الغزال شيخ الأوعال عن هذا المثال (فقال) كان عند بعض الأشياخ من الطباخين أجير طباخ له رغبة منهمه على معرفة طبخ الأطعمة وكيفية ترتيبها وصنعة تركيبها

وكان مغرماً بذلك يسلك فيه كل المسالك ويرد فيه الموارد ويتبع كل صادر ووارد ففي بعض الآناء وقف على طبيب منت الأطباءفسمعه يقول أن أصلاً من الأصول العدل والتسوية بين الأطعمة والأغذية والعقاقير والأدوية فمن لم يستعمل الأستوا في درجات الغذاء والدواضل عمله وغوى وأصل هذا المزاج ولا ينكره إلا ذو لجاج فان العناصر الأربعة منها المضرة والمنفعة وقد تولد منها السوداء والبلغم والصفراء والدم فمتى اعتدلت هذه المتولدات صحت الأبدان واللذات ومتى عن الاعتدال عدلت أمرضت وقتلت وكذلك النير الأعظم والكوكب المضيء في العالم إذا حل في مركز الاعتدال استقام للعالم الحال وطاب الزمان واعتدل وذلك عند نزوله في برج الحمل فتصور ذلك الولهان أن المقصود التسوية في الأوزان فانصرف وهو فرحان وقصد طعام الزبر باج وعبى من مفرداته ما يحتاج ثم أنه ساوى بين أوزانها وقصد العدل في ميزانها وخلط كعقله أخلاطها ووضعها في قدر وساطها فخاب عمله في عدله وبان نقصه في فضله فلما رعى الملك والوزير ما سلكه السفير في نظام هذا التقرير شكراً له مساعيه وأخصبا في الإكرام والإعزاز مراعيه وقالا جزاك الله خيراً عن شفقتك وحسن صنيعك لمرسليك ورفقتك فمثلك من يصلح للسفارة بين الملوك وتولى أمور الرعية من الغنى والصعلوك فانك ناصح لمن فوقك شفيق على من دونك

ثم قال الوزير أن هذا الملك الكبير مقاصده العظيمة أن تكون الأمور مستقيمة وأن يصلح العباد والبلاد ويطمئن المستفيد والمستفاد فاحتفظ أيها السفير المنير الضمير بما سمعت ورأيت وشاهدت ووعيت واجعله من عنوان أنبائك ومقدمات أفعالك وآرائك وأبلغه من يحفك من أمامك وورائك ومهما وصلت إليه قدرتك وأحاطت به يدك وكلمتك من إبلاغ الخير إلى مسامع الوحش والطير عن هذا الملك وأوصافه وتطلعه إلى مراقي السير والإحسان واستشرافه وما تسكن به الخواطر وتطمئن به الضمائر وتقر به العيون بالسرور وتستقر به القلوب في الصدور فلا تأل فيه جهداً وأوسع فيه جداً ولا تنه في إنهائه حداً فان المجال واسع وميدان المقال شاسع وقد أذن لك فيه وأن أخفيته في نفسك فالله مبديه ثم كتب له بذلك مراسيم عن ثغر الأماني مباسيم وأفيض عليه خلع الكرامة وأضيف إليه الحمامة ورجع إلى أهله مغموراً بفضله مسروراً بقوله مشكوراً بفعله فائزاً بالمطلوب ظافراً بكل مرغوب فارغ البال طيب الحال فاتصل بأهله في دياره وهم في انتظاره فبادروا بالسلام وقابلوه بالاستلام وقالوا ما وراءك يا عصام فبلغ الجواب بارشق عبارة وأليق خطاب وذكر لهم ما رأى وسمع ووعى فانتشرت هذه الأخبار حتى ملأت الأقطار وتسامع بها وحوش القفار وفاح بطيب نشرها الأزهار فكان جميع البر معطار ثم اجتمع رؤساء الوحوش والبهائم رعرفاء الصوادح والبواغم وكل ساكن في القفار من سائم وحائم وأرسل كل إلى أمته رسوله يدعوها إلى ما يحصل سولها وسوله فلبت كل أمة دعوة رسولها وأقبلت

لاستماع المراسيم وقبولها فاجتمعوا في رياض مرج أخضر وحلقوا لاستماع المراسيم حول المنبر وأطرقوا وسكتوا واستمعوا وأنصتوا وتناول المرسوم الصادح من الباغم وصعد على الغصن الناعم مطوق الحمائم وابتدأ باسم الكريم الغفور وقرأ على رؤس الأشهاد مضمون المنشور ودعاهم إلى الطاعه والدخول في سنن السنة والجماعه وأنهم لا يتاخرون عن الحضور بعد الأطلاع على مضمون المنشور فانه فرمان أمان لكل من أجناس الحيوان ولم يبق مقالاً لمتخلف ولا مجالاً لمتأخر ومسوف كما قيل: فمن جاءنا طوعاً أقمنا بمجده ... ومن يأب لا يعتب علينا فعالنا إلى آخر الرسالة مع ما تحمله الرسول من مشافهة ومقاله ومن ملاطفات تشرح الصدر وتستنزل البدر وتوضح ما للملك من جلالة وقدر فتلقى الكل هذا الكلام بآذان القبول والأكرام واتفقوا على التأهب والمسير والأحتفال بالكبير وأخذوا في تعبية التقادم والخدم وفرضوا ذلك على ما لكل من طوائف وحشم وتصدعوا عن هذا المرسوم على أن يجتمعوا في يوم معلوم ثم أعد كل عتاده وأكمل خدمته وزاده واجتمعوا لذلك اليوم الموعود وتوجهوا إلى الخدمة في الطالع المسعود ولما دخلوا الدرب وضربوا في الأرض أيمن ضرب توجهت الحمامة بالبطاقة بهذه البشارة والطلاقة فانتشر هذاالخبر وملأ البدو والحضر فلما وصل الطائر دقت البشائر وسرت الأهل والعشائر ثم إن الملك دعا الوزير وقال اعلم أيها الناصح الخبير والبحر النحرير أن الوحوش واصلة إلى منزلك وبخفها وحافرها نازلة في ساحلك وإن راية سلطاننا بعون الله بالنصر نتشرت ووحوش الجنود والعساكر بحمد الله تعالى على بساط بسيط الطاعة حشرت وفي هذه الجيوش أصناف الوحوش وطوائف السباع

وأنواع الذئاب والضباع وفيهم الفراعل والثعالب والعسابر والأرانب ولا شك أن هيبة الملك صادعة وحرمة السلطنة باسطة فارعه وحضرة السلطان ذات جلال وإن كانت جامعة لصفتي الجلال والكمال وما عند كل أحد مسكة للملاقاة ولا ثبات جنان عند المشاهدة لملك إذا رآه فمن لم يكن بيننا وبينه اجتماع فقد وقرت هيبتنا في قلبه على السماع ومن تصدينا له في ميادين الصيد وأفلت بعد معافاة الكد والكيد قد رأيته على العيان ولا يحتاج في معرفة قوة سلطاننا إلى ترجمان وعلى كل تقدير فمشاهدتنا على غالبهم أمر عسير لأنه ربما يتذكر منهم متذكر أو يتفكر منهم متفكر واقعة أو سابقة وقعت أنجرح فيها من نصل أنيابنا مفاصل عراقيبه أو تعلق بها من أشعاره وأوباره مشاطة جلابيبه ومن لم ينجه منا ضباحه ولم يكن سلاحه من كلاليب مخاليبنا إلا سلاحه فبمجرد ما يقع نظره علينا أو تمثل بالوقوف لدينا يرجف فؤاده وينفض عيبة كرشه زاده فينكص من الخوف على عقبيه ولا يعرف أمره من حواليه فيتبعونه ويحصل الفشل ويقع الخباط والخلل فيبهم ما أوضحناه ويفسد أضعاف ما أصلحناه وينهدم من أول الأمر إلى آخره ما بنيناه ويتعوج من مستقيم السلطنة ما سويناه فلا يحصل من عزة المملكة إلا على مثل ما حصل لأبي الحصين من شيخ الديكه فقال الوزير ينعم مولانا الأجل بتقرير هذا المثل (قال الملك) سمعت مخبراً أنه كان في بعض القرى الرئيس ديك حسن الخلق وديك مرت به التجارب وقرأ تواريخ المشارق والمغارب ومضى عليه من العمر سنون واطلع من حوادث الزمان على فنون

وقاسى حلوه ومره وعانى حره وقره وقطع للثعالب شباك مصايد وتخلص لأبن آوى من ورطات مكايد ورأى من الزمان وبنيه نوائب وشدائد وحفظ وقائع لبنات آوى وثعالب وطالع من كتب حيلها طلائع كتائب وأحكم من طرائقها عجائب وغرائب فاتفق له في بعض الأحيان أنه وقف على بعض الجدران فنظر في عطفيه وتأمل في نقش برديه فرأى خيال تاجه العقيقي ونظر إلى خده الشقيقي ونفض بزائله المنفش وسراويله المنقش والثوب الذي رقمه نقاش القدرة من المقطع والمبرقش فأعجبته نفسه وأذن فاطريه حسه وتذكر ما قاله الأسعد المادح في المعتصم بن صمادح وهو: كأن أنوشروان أعطاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا سبى حلة الطاوس حسن لباسه ... ولم يكفه حتى سبي المشية البطا فصار يتيه ويتبختر ويتقصف ويتخطر فاستهواه التمشي سويعة حتى أبعد عن الضيعة فصعد إلى جدار وكان قد انتصف النهار فرفع صوته بالأذان فأنسى صوته الكناني والدهان فسمعه ثعلب فقال مطلب وسارع من وكره وحمل شبكة مكره وتوجه إليه فرآه فسلم عليه فلما أحس به أبو اليقظان طفر إلى أعلى الجدران ثم حياه تحية مشتاق وترامى لديه ترامي العشاق وقال أنعش الله بدنك وروحك وروى من كاسات الحياة غبوقك

وصبوحك فانك أحييت الأرواح والأبدان بطيب النغم والصياح في الآذان فان لي زماناً لم أسمع بمثل هذا الصوت وقاك الله نوائب الفوت ومصائب الموت وقد جئت لأسلم عليك وأذكرك ما أسدى من النعم إليك وأبشر ببشارة وهي أربح تجارة وأنجح من الولاية والأمارة لم يتفق مثلها في سالف الدهر ولا يقع نظيرها إلى آخر العصر وهي أن السلطان أيد الله بدولته أركان الإيمان أمر منادياً فنادى بالإيمان والأطمئنان وأجراء مياه العدل والإحسان من حدائق الصحبة والصداقة في كل بستان وأن تشمل الصداقة كل حيوان من الطير والوحوش والحيتان ولا يقتصر فيها على جنس الإنسان فيتشارك فيها الوحوش والسباع والبهائم والضباع والأروى والنعام والصقروالحمام والضب والنون والذباب وأبو قلمون ويتعاملون بالعدل والأنصاف والإسعاف دون الأعساف ولا يجري بينهم إلا المصادقة وحسن المعاشرة والمرافقة فتمحى من لوح صدورهم نقوش العداوة والمنافقة فيطير القطا مع العقاب وببيت العصفور مع الغراب ويرعى الذئب مع الأرنب ويتآخى الديك والثعلب وفي الجملة لا يتعدى أحد على أحد فتأمن الفارة من الهرة والخروف من الأسد وإذا كان الأمر كذا فقد ارتفع الشر والأذى فلا بد أن يتمثل هذا المرسوم ويترك ما بيننا من العداوة والخلق المذموم ويجري بيننا بعد اليوم المصادقة وتنفتح أبواب النمحبة والمرافقة ولا ينفر أحد منا صاحبه بل يراعي مودته ويبالغ في حفظ جانبه وجعل الثعلب يقرر هذا المقال والديك يتلفت إلى اليمين والشمال ويحتاط غاية الاحتياط ولا يلتفت إلى هذا الهذيان الخياط فقال الثعلب يا أخي مالك عن سماع كلامي مرتخي أنا أبشرك ببشائر عظمه لم تنفق في

الأعصر القديمة وإنما برزت بها مراسيم مولانا السلطان الجسيمة وأراك لا تلتفت إلى هذا الكلام ولا تسر بهذا اللطف العام ولا تلتفت إلي ولا تغول علي وتستشرف على بعد الشيء فهلا أخبرتني بما أضمرت ونويت وتطلعني فيما تتطاول إليه على ما رأيت حتى أعرف في أي شيء أنت وهل ركنت إلى أخباري وسكنت فقال أرى عجاجاً ثائراً ونقعاً إلى العنان فائراً وحيواناً جارياً كأنه البرق سارياً ولا عرفت ما هو ولكنه أجرى من لهوا فقال أبو الحصين وقد نسي المكر والمين بالله يا أبا نبهان حقق لي هذا الحيوان فقال حيوان رشيق له آذان طوال وخصر دقيق لا الخيل تلحقه ولا الريح تسبقه فرجفت قوائم الثعلب وطلب المهرب فقال أبو المنذر تلبث يا أبا الحصين وأصبر حتى أحقق رؤيته وأتبين ما هيته فانه يا أبا الحصين يسبق طرف العين ويكاد أبا النجم يخلف النجم في الرجم فقال أخذني فؤادي وما هذا وقت التمادي ثم أخذ يسلح وولى وهو يصدح بقوله: لابس التاج العقيقي ... لا تقف في طريقي إن يكن ذا الوصف حقاً ... فهو والله السلوقي فقال الديك وإذا كان وقد قلت إن السلطان رسم بالصلح بين سائر الحيوان فلا بأس منه عليك فتلبث حتى يجيء ويقبل يديك وتعقد بيننا عقود الصداقة ويصير رفيقنا ونصير رفاقه فقال ما لي برؤيته حاجة فدع عنك المحاجة واللجاجة فقال أو ما زعمت يا أبا وثاب إن السلطان رسم الأعداء والأصحاب أن يسلكوا طرائق

الأصدقاء والأحباب فلو خالف المرسوم هذا الكلب لما قابله الملك إلا بالقتل والصلب قال لعل هذا المشوم لم يبلغه المرسوم ثم ولى هارباً وقصد للخلاص جانباً (وإنما أوردت) يا نفيس هذا المثال لتقييس أحوال من دان لك من هذا الحيوان ولا تشقها بعصا واحدة واحسب حال كل واحد على حده فربما يكون في هذه البهائم من لا هو بأحوال الصلح عالم ولم تبلغه الدعوة وإنما انضاف بسبب رجوه أو آمن على سبيل التبعية والتقليد ولم يطلع على موارد الوعد والوعيد ولا وقف على ما وقع من الأتفاق ولا يثبت لمصادمة اللقاء وقت التلاق فيصدر منكم حركة تؤدي إلى قلة بركة وتستطرد إلى نفرة جفول فيدهمنا هدم ما أسسناه على غفول ويقع من الفساد ما لا يمكن تلافيه ويضيع نقود جواهر جهدنا وكدنا فيه وإذا كانت الدنيا محل العوارض والغالب أنه عند مشارفة المقصود يحصل العارض والعاقل لا يغفل عن هذا الخطر فعند صفو الليالي يحدث الكدر وقد كفاك من ناداك بقوله: إذا قربت يداك إلى مرام ... وقلت تخولت نفسي مناها فلا تأمن من الدهر اختلاسا ... بحول فمكره في ذاتنا هي كجان لم يصبه الشوك إلا ... وقد وصلت يداه إلى جناها فالرأي السديد يا أبا سعيد يقتضي أن تمضي الحمامة المطوقة إلى تلك الجموع المفرقة وتنادي في كل نادي بين الحاضر والبادي والرائح والغادي بحقائق الأمور وتطيب خاطر الجمهور وما هم قادمون عليه ومن هو الواصلون إليه ليعلموا أنهم في صفقتهم رابحون وأنهم على هدى من ربهم وانهم مفلحون

فتوجهت الحمامة بهذه النقوش وشهرت النداء في طوائف الوحوش بما هم عليه قادمون وأنهم للملك يسار خادمون ثم تبعها الوزير ومعه كل أمير وكبير من خواص المباشيرن والأعيان الملازمين وكبراءالأطيار ورؤساء الأخيار واستقبلوا ملوك الوحوش والهوام ورؤساء السوائم والسوام وقابلوا ملتقاهم بالإعزاز الإكرام ووعدوهم بكل خير وإحسان ووصلوا بهم إلى ميدان الأمان وحين حل عليهم نظر السلطان قبلوا الأرض ووقفوا في مقام العرض وأدوا من واجب العبودية النفل والفرض فانزل كلاً في مقامه بعد أن أحله في محل إكرامه وأفاض عليه خلع إحسانه وإنعامه وعلت منزلة الوزير وتقدم كما تقدم وأشير وصفا لهم الزمان وعاش في ظل عدلهم كل ضعيف من الحيوان وتقلبوا في رياض الأماني على بساط الأمان (وفائدة هذه الحكايات تنبيه أشرف جنس المخلوقات وألطف طائفة المكونات وهو نوع الإنسان الذي اختصه الله تعالى بأنواع الإحسان وأيده بالعقل وأمده بالنقل على انه إذا كان هذا الفعل الجليل يصدر في التنظير والتمثيل من أخس الحيوانات وما لا يعقل من الموجودات فلأن يصدر من أولى النهى وأولى الفضل والمكارم والعلى أولى وأحرى لا سيما من رفع الله في الدنيا مقداره وأعلى على فم الخلائق منارة وحكمه في عبيده المستضعفين واسترعاه على رعية سامعين مطيعين وسلطه على دمائهم وأموالهم وبسط يده ولسانه في رفاهيتهم ونكالهم والأصل في هذا كله قول من عم عبيده بفضله وبقوله اهتدى العالمون وتلك الأمثال نضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون) آخر الباب السادس والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين آمين.

الباب السابع في ذكر القتال بين أبي الأبطال الريبال وأبي دغفل سلطان الأفيال

الباب السابع في ذكر القتال بين أبي الأبطال الريبال وأبي دغفل سلطان الأفيال

(قال) الشيخ أبو المحاسن من ليس له في الفضل مساو ولا مواس فلما أنهى الحكيم حسيب كلامه لأحلى من النسيب قبل أخوه بين عينيه وأفاض خلع الأنعام عليه استزاده وفتح لجامع فضله باب الزيادة وكان قد وقع بين ملك الأفيال وبين ملك الأسود المسمى بالريبال المكنى بأبي الأشبال وأبي الأبطال مقال أدى إلى جدال وأتصل بحرب وقتال فسأل الملك أخاه هل سمع من ذلك شيأ ووعاه فأجاب بالإيجاب وذكر في الجواب الأمر العجاب (فقال) كان يا ملك الزمان في بعض أطراف الهنود من عساكر الأفيال جنود في جزيرة عظيمة كبيرة من جنسهم وجلدتهم ونفسهم ملك عظيم ذو جسم جسيم وشكل وسيم منظره بديع وهيكله رفيع طويل الخرطوم واسع الحلقوم مبسوط الأذنين حديد العينين طويل الأنياب في جراب كثيف في المرأى خفيف في الموطأ عدد جيشه غزير ومدد جنده كثير وهو فيهم ملك كبير ذو قدر خطير منفرد بالسرير ورثه كابراعى كابر وكل جيشه رؤساء وأكابر لأوامر طائعون ولما يراه تابعون فبلغه في بعض الأيام أن في بعض الغياض والآجام مكاناً في غاية النزاهة معدن الفواكه والفكاهة ذا مياه عذبة ومروج رطبه أراضيها أريضه ورياضه طويلة عريضة أطيارها تسكر بألحانها وأشجارها

تخجل قدود الملاح بأغصانها وأزهارها زهره وأنوارها نضره ونسيم الصبا والشمال تنتشر إلى الآفاق طيب أنفاسها العطره وأنه يصلح أن يكون لملك الأفيال مقاماً مع أن من الجبال والحصون وعصاما غير أن فيه أسد هصورا جمع فيه جنداً كثيراً ولا زال الناقل يصف ريطنب ويعجم في حسن شمائلهم ويعرب حتى قال بعض الندماء الحاضرين من الكبراء لو قصد الملك ذلك المكان وجعله لنفسه من بعض الإسكان وتنقل إليه في بعض الأوقات وساعات التفرج في المتنزهات لا راح نفسه الخطيرة من وخم هذه الجزيرة ووجد لذة الطعام ونشوة الشراب على المدام والأسد الذي فيها وأن كان مالك نواحيها وبيد تصرفه زمام نواصيها وجماجم قلاعها وصياصيها لكنه ملك عادل وسلطان فاضل تمنعه شهامته وكرم نفسه وكرامته ورياسته وزعامته أن يضايق الملك في ذلك أو يضيق سلوكها على سالك وأن شرع في الممانعة وأخذ في أسباب المدافعة بالمقارعة والمنازعة فالعساكر المنصورة وأعدادهم الموفورة فيهم بحمد الله لذلك قوة وكفاية ولهم في بداية الحروب هداية وفقاهة ليس لشرحها غايةولا لفروع أصولها نهاية يحيون في مباحثها النفوس ويعيدون في مدارس الحرب بتكرار الضرب فأني الشجاعة بعد الدروس فيكفون الملك أمره ويكفون أذاه وشره ولا زال يفتل منه في المغارب والذروة ويقوى بتمويهاته دواعي الحرص والشهوة حتى اقتنصته إشراك المطامع وأوقعته في عبودية شهوة تلك المواضع ودعته النفس الأبية وحمية الجاهلية وباعث العصبية إلى الاستيلاء على تلك الأماكن البهية والولايات السنيه والمساكن الزهيه

وأسامة سوارح اللحاظ في مراعي نزهة تلك الغياض ومروج أراضي هاتيك الرياض وأزعج في ذلك المقتضى وأسلمه العدل والخلق الرضى على عليه سيئ الطباع واستولت عليه فوارغ الأطماع وعشقها على السماع وكان عنده إخوان هماً له عضدان هما وزيراه وفي مهامه مشيراه مسعداه في الأمور ومنجداه في أحوال السرور والشرور أحدهما واسطة خير قليل الشر عديم الضير قد جرب الزمان وعاناه وقالب قوالب وقائعه بالمقايسة ما قاساه اسمه مقبل وهو كاسمه مفضل والآخر بالعكس في جميع حركاته وكس وهو كاسمه مدبر بكل شيء مخبر قصد غبار فتن يثيره وعسكر بلاء يغيره وطالب أذى وعناء يعيره أو سر يذيعه أو مكر يشيعه أو متسوق شريبيعه وهما ملازمان الخدمة واقفان في مقام الحشمة والحرمة كالفتق والرتق والباطل والحق والكذب والصدق وفي الإفساد والإصلاح كالمراهم والجراح ومصلح الدرهم ومفسد الراح ومرشد العقل ومعتل الأقداح وفي الوفاق والشقاق كالسم والترياق وفي الحكم والقضاء كالداء والدواء وفيما يقع من الحوادث المفرجات والكوارث كالخر والبرد والشوك والورد فاختلى الملك بأخويه واستشارهم فيما أنهى إليه فقال أخوه المقبل يا مولانا أبا دغفل لو لم يكن بهذا المكان أحد من أدنى الوحوش فضلاً عن الأسد لكان عدم قصده ترفعاً وترفها والتوجه إلى الاستيلاء عليه موجهاً فكيف وذلك في ولاية مالك وهو مالك صعب كابي حفص الصعب ملك كبير عادل وسلطان خطير فاضل مطاع في

صاغيته متبوع في حاشيته عادل في رعيته سيرته شكورة ومحاسنه مأثورة وهيبته وبسالته غير منكورة وهو جار حسن الجوار لم يضبط عليه ما يقتضي انتزاع ملكه من يديه ولم يتعرض إلى متعلقاتنا ولا آذى أحداً في ولايتنا وأن مولانا السلطان لم يصدر منه إلا العدل والإحسان إلى الأباعد والأجانب فضلاً عن الجيران لا سيما الملوك الأكابر ومن ورث الملك كابراً عن كابر ولقد تلقفت من أفواه الحكماء وتشنفت مسامعي من جواهر ألفاظ العلماء بثلاث نصائح هي من أحسن المنائح إحداهما أحذر أيها الموفق أن تقع في دم بغير حق ثانيتها إياك يا ذا التوفيق وأموال الناس بغير طريق ثالثتها إياك يا ذا الشيم الكريمة وهدم البيوت القديمة وأعلم أن الله تعالى عم رزقه وخص كل موجود بما يستحقه وقد أقام الأسد في تلك الأماكن وهو أن كان متحركاً فهو فيها ساكن ولو لم يستأهل لما اختص بتلك المناهل وما ينكر هذا الأجاهل أو من هو عن الحق ذاهل وحاشى أن تنسب يا رئيس الأخيار إلى حسد أسوء جوار وعظمتك تأنف عن ذميم الأخلاق وكيف وقد انتشر بالفضل صيتها في الآفاق وإذا كان للشخص ما يكفيه فينبغي أن يقتصر عما يطغيه ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقد أحسن في المقال من قال: يا أحمد اقنع بالذي أوتيته ... إن كنت لا ترضى لنفسك ذلها واعلم بان الله جل جلاله ... لم يخلق الدنيا لأجلك كلها فالتفت الملك إلى المدبر وأشار إليه كالمستخبر ماذا تشير أيها الأخ والوزير فقال جميع ما قرره مولانا الوزير حق وجملة ما ذكره وحرره صدق نصائح ترشد العقول وتزين عقود المعقول والمنقول ولكن لا يخفي

على كريم العلوم أن الأسد حيوان ظلوم غالب طالب وخلاص الرعية من شره واجب ويلزم كل أحد أن يخلص الرعايا من ظلم الأسد ومولانا يبلغه ظلمه ولم يحط بأحوال الأسد علمه وأنه من أظلم البرية لمن تحت يده من الرعية وأنه يجب على مولانا السلطان خلاص الرعية منه على أي وجه كان وأيضاً فانانعامات مولانا البارة على كل أحد من الخلق دارة والخرج والكلف والكرم الذي بأنامله ائتلف كل يوم في ازدياد والعساكر المنصورة كل وقت نزداد وإذا لم تتسع الولايات وتكثراً الجهات والاقطاعات كان الخرج أكثر من الدخل والمصروف من الخزانة كالوابل والدخل كالطل وإذا زاد المصروف على الحاصل عجز الواصل وفرغ الحاصل ودل ذلك على ركاكة الهمة وقصور النهمة والملك يجب عليه والمندوب في شرع همته إليه أن يكون كل وقت جديد في فتح وترق ومزيد وتوسعه الممالك وتنزيه بساط السلطنة عن المنازع والمشارك والاستكثار من الجند والرعية واستجلاب خواطرهم الأبية بالجوائر السنية والانعامات السمية ولا يجوز في ملة الإسلام أن يتعدد الخلفية الإمام ولله در القائل العلي الشمائل: إذا ما لم ثكن ملكاً مطاعاً ... فكن عبد المالكه مطيعاً فان لم تملك الدنيا جميعاً ... كما تهواه فاتركها جميعاً وناهيك يا مالك الممالك والمماليك في علو الهمة وصدق العزمة وغوص الأفكار في استخلاص ممالك الأقطار قضية فحلا الرجال تيمورلنك الأعرج الدجال مع نائبه الله داد أحد القواد ونواب البلاد فسأل أبو مزاحم أخاه عديم المراحم عن تلك القضية وإيضاحها عن جليه

(فقال) إن تيمورلنك رأس الفغساق الأعرج الذي أقام الفتنة على ساق لما حل بالممالك الرومية في شهور سنة خمس وثمانمية وأسر مالكها واستخلص ممالكها استمر في ممالك العرب يصول وفي فكره استخلاص ولايات الشرق يجول وكان أقصى ما انتهت إليه في الشرق مملكته ونفذت بسهام أحكامه فيه أقصيته بلداً يسمى أشباره قد أعده لشياطين النهب والغارة وبثى فيه قلعه ونقل إليه من ذوي المنعة جنداً منتخبا من كل يقعة وهو في بحر ممالك المغل والتتار والحد الفاصل بين ممالكه وولايات عباد الشمس والنار وأمر على أولئك الأجناد شخصاً يدعي الله داد وهو من خواض أمرائه ورؤساء جنده وزعمائه فمن جملة ما أمره به ذلك المشوم وهو مخيم ببلاد الروم أنه أبرز إليه مراسلة فيها أمور مجملة ومفصلة أمره بامتثالها وإرسال الجواب ببيان كيفية حالها منها أنه يبين له أوضاع تلك الممالك ويوضح كيفية الطرق بها والمسالك ويذكر له مدنها وقراها ووهدها وذراها وقلاعها وصياصيها وأدانيها وأقاصيها ومفاوزها وأعارها وصحاراها وقفارها وأعلامها ومنارها ومياهها وأنهارها وقبائلها وشعابها ومضايق دروبها ورحابها ومعالمها ومجالها ومراحلها ومنازلها وخاليها وآهلها بحيث يسلك في ذلك السبيل الأطناب الممل ويتجنب مأخذ الإيجاز وخصوصاً المخل ويذكر مسافة ما بين المنزلتين وكيفية المسير بين كل مرحلتين من حيث تنتهي إليه طاقته ويصل إليه علمه ودرايته من جهة الشرق وممالك الخطا وتلك الثغور وإلى حيث ينتهي إليه من جهة سمر قند علم تيمور وليعلم أن مقام البلاغة في معاني هذا الجواب هو أن يصرف فيه ما استطاع من حشو واطناب وتطويل وإسهاب وليسلك في بيانه الطريق الأوضح من الدلالة وليعدل عن الطريق الخفي في هذه الرسالة إلى أن يفوق في وصف الأطلال

وتعريف الرسوم وحدود ألد من صفة الشيخ القيصوم فامتثل الله داد ذلك المثال وصور له ذلك على أحسن هيئة وآنق تمثال وهو أنه استدعى بعدة أطباق من نقي الأوراق وأحكمها بالإلصاق وجعلها مربعة الأشكال ووضع عليها ذلك المثال وصور جميع تلك الأماكن وما فيها من متحرك وساكن فأوضح فيها كل الأمور حسبما رسم به تيمور شرقاً وغرباً بعداً وقرباً يميناً وشمالاً مهاداً وجبالاً طولاً وعرضاً سماء وأرضاً مرداء وشجراء غبراء وخضراء منهلاً منهلاً ومنزلاً ومنزلاً وذكر أسم كل مكان ورسمه وعين طريقه ووسمه بحيث بين فضله وعيبه وأبرز إلى عالم الشهادة غيبة حتى كأنه شاهده ودليله ورائده وجهز ذلك إليه حسبما اقترحه عليه كل ذلك تيمور في بلاد الروم يمور وبينهما مسيرة سبعة شهور وكذلك فعل ذلك البطل وهو بالبلاد الشامية سنة ثلاث وثمانميه مع القاضي ولي الدين عمدة المؤرخين أبي هريرة عبد الرحمن بن خلدون أغرقه الله في فلك رحمته المشحونوقد سأله عن أحوال بلاد العرب وما جرى فيها من صلح وحرب وما وقع فيها من خير وشر ونفع وضر ثم أنه اقترح عليه وتقدم بالأمر إليه يوضع أوضاعها ورسم مدنها وقلاعها وحصونها وضياعها وتخطيط ولاياتها وأشكالها وهيآنها فامتثل ذلك وأبداه وعلى حسب ما اختاره واقترحه أنهان وبين ذلك مثل ما ذكره أعلاه فشاهد أوضاعها وخبر وهادها وبقاعها كأن الحائل رفع من البين وعاين ذلك الإقليم بالعين فانظر إلى هذا الأعتمي وهو سطيح نصف آدمي وهمته العالية كالبرق تضرب تارة في الغرب وأخرى في الشرق

(وإنما أوردت) هذه القضية ليقف سامعها على مقدار الهمة العلية فلا يرضى الملك الهمام بالمنزلة الدينية ولا يقنع بالدرجة الوطية بل يجتهد في تكثير الجند والرعية وفتح الأقاليم العربية والعجمية ولا يقتصر على الحالة السوية وإنما يلازم طلب الارتقاء بكرة وعشية ويكون سعيه كالشكر يطلب المزيد وكما يستديم طلب الزيادة من مولاه يستديم زيادة العبيد والافينسب إلى قصور الهمة وإفلاس الذمة ونقصان الحرمة وبطلان الحشمه وأعظم بها من وصمه وبالعجز والتقصير يضيع حقوق الملك الخطير وتجد الرعية للطعن مقالاً وفي ميدان الأعراض عن الملك مجالاً وهذا خلاف موضع الإمامة وعكس ما تقتضيه الرياسة والزعامة فان موضع السلطنة أن يتعاطى الملك مهما أمكنه من أسباب الفتح والفتوح وما يستميل به من الرعية القلب والروح وذلك بالإحسان والإكرام والبذل والإنعام فبه تقوى رغبتها وتزداد محبتها فإذا لم يكن ذلك فل المملوك عن الممالك واسمع قول الأديب ذي الرأي المصيب وهو: إذا أهملت أمر العبد يوماً ... وقصرت العليق عن الحمار توقف في المسير أبو زياد ... وقام العبد يجري للفرار وقيل (والدر يقطعه جفاء الحالب) وقال أشرف جنس الإنسان علو الهمة من الإيمان فالرأي السديد عندي والذي بلغ إليه جهدي إنفاذ هذه العزيمة وسلوك طريقها القويمة وإبرازها من مكان القول إلى ظواهر العمل والحول والاعتماد على ما قيل:

فلا تثن عزمك خوف القتال ... بسمر دقائق وبيض حداد عسى أن تنال الغنى أو تموت ... فعذرك في ذاك للناس باد فان لم تنل مطلباً رمته ... فليس عليك سوى الاجتهاد فأقبل الملك على المقبل وقال توجه بكليتك علي وأقبل شعر: ولا تبق مجهوداً برأيك أنه ... سديد ومن يقف السديد سديد فان القلب قد مال إلى العزم والأخذ في التوجه بالحزم وترجح جانب الوثوب إلى جهة هذا المطلوب فأمعن النظر وأجل قداح الفكر ولا تخف رأياً بسنح في أي جهة ترجح فقال افعل بشرط أن يقبل أعلم زدك الله علماً وفضلاً وكرماً وحلماً أن الذي رآه العلماء وأشار به ذوو الحنكة من الحكماء أن من طلب وفور خيره وفائدة نفسه في مضرة غيره لا يتمتع بتلك الفائدة ولا تثمر معه تلك العائدة وهو أعلى تقدير حصولها والاستيلاء على فروعها وأصولها وإن لم يظفر بها فلا تستفيد النفس غير كربها مع زيادة الحسرة وسوء الصيت في الشهرة ووفور الندم وزلة القدم وكل من أراد تمشية هواه ولم يلتفت إلى ما سواه ورأى نفسه أحق من غيره فلا تطمع أبداً في خيره ولا يكاد يسلم من الانكاد ولا يصفو له زمان ولا تدوم له أخلاء وأخوان ولا تزال ديم الهموم من غمام الغموم تهمي على حدائق آماله وتسقي مزارع أحواله إلى أن تحظل نخلات نيته وتيبس حقول طويته ويحصده حراث الفنا ويدرسه دارس الردى ويذري حبات وجوده الهوان

في الهوى وينقل عن بيدر الشقاء إلى طاحون البلاء فهناك يجدح سويق أفعاله ما يزيغه فيحسوه ويتجرعه ولا يكاد يسيغه ويصهر به ما في البطون ويقال له ذوقوا ما كنتم تكسبون هذا وإذا كان الدخل لا يفي بالخرج وخيف من ذلك وقوع هرج ومرج فبحسن التدبير يتصرف الملك الخبير وبكفاية الوزير وتوفير المشير يجل الحقير ويكثر النزر اليسيركما قيل: قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وبالخلق الحس وحسن السياسة تملك رقاب أولي الرياسة فضلاً عن العوام وهذا بحسب المقام ولا يتصور أن مجرد المال هو شبكة صيد الرجال فان حفظ الممالك هو وراء ذلك وقد قال رسول خلاقكم أنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم وشيء يحتاج تحصيله والانقطاع إلى وصوله إلى بذل أموال وأرواح وكد نفوس وأشباح وأتعاب خيل ورجال وارتكاب شدائد وأهوال وبعد حصوله يتكلف في محافظته وحراسته وملاحظته إلى تحمل هموم وغموم وكلامه وكلوم وآخر الأمر يخرج من اليد ولا يبقى إلا النكد والكد فتزول في الدنيا اللذات معاناة الكدورات وتجرع الغصص والمشقات وتبقى في الآخرة التبعات لجدير بان لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ولا يهتم له بشان ويستغني عنه وأن احتج إليه بقدر الإمكان والأفمثل الذي يعلق به فؤاده ويربط بدوامه وبقائه اعتقاده ويتصور ذلك بفكره الفاسد ونظره الكاسد كمثل كسرى لما مات ولده وتفتنت عليه كبده وحصل له عليه الاضطراب ورده عن خطئه الهلول إلى الصواب فسأل أبو الحجاج أخاه المحجاج عن بيان هذا الأمر وكيفية إطفاء هذا الجمر

(فقال) المقبل ذكر محدث معدل أن كسرى كان له ولد قد سكن منه سويداء الخلد يخجل البدر ليلة تمامه ويستميل الغصن حاله قيامه وكان يحبه حبا جاوز النهاية وتعدى الحد والغاية وكان لشدة شغفه استبعد حلول تلفه بل أحال وفاته وأذهله عن درك الحق وفاته فأدركه الأجل المحتوم واستوفى مداه المعلوم فاضطرب كسرى لونه واصطدم بصخور فراقه واصطلم ولم يقر له قرار ولا طاعة اصطبار فوعظه العلماء فما أفاد وثبته الحكماء بضرب الأمثال فأعياهم المراد وكان في بلده رجل بهلول يتردد إليه ويدخل في أكثر أوقاته عليه فيلاطفه في محاروته ويبتهج بكلماته في مخاطبته فدخل عليه البهلول وهو كئيب ملول لا تسر حاله صديقاً ولا يهتدي إلى السكون طريقاً فسأله عن حاله وما أوجب توزع باله وتغير أقواله فقال يا بهلول عدمت ولدى وقرة عيني وراحة روحي وجسدي (شعر) : لا صبر يجدي على فراقه ... ولا معين على احتراقه وقلت: أواه من فرقة الأحباب أواه ... لقد كوى من حشا قلبي سويداه قال البهلول نعوذ بالله من ساعات الذهول يا ملك الأنام أن عيسى عليه الصلاة والسلام شكا إليه بعض حواريه شيأ يشابه ما أنت فيه فقال عليه السلام كن لربك كالف الحمام يذبحون فراخه ولا يفارق مناخه ولا ينفر عنهم ولا يشكو منهم ثم أن البهلول قال وأنا إليك سؤال فاجبني بجواب شاف فانك ذو ألطاف فلا يكن فيه جراف

فقال سل فكلامك لا يمل قال أكنت ترجو أن ولدك لا يموت أبداً وأنه يصير في الدنيا مخلداً فقال لا ولكن أردت أن يبق مده ويتمتع بشبابه وبنعيمها عنده ويلتذ بطيب المآكل والمشارب ويقضي من أواطار الشباب المآرب ويؤنس أنداده وصحبه ثم يقضي بعد ذلك نحبه قال هب أنه عاش مهما رمت وقام وقعد في الدنيا كما قعدت وقمت وعاش العيش الطيب وهمي عليه من سما ملاذها الوابل الصيب وحصل له من العيش الهني والعمر السني أمثال الجبال وأعداد الرمال فعند مفارقة العيش وحلول الخفة والطيش هل يدفع عنه ذاك شراً أو يرفع عنه بؤساً وضراً أو يجلب له نفعه أو يذهب من ذلك شيء معه أو يفيده أدنى فائدة أو يعود عليه منع عائده قال لا قال فلا تاس على معاش يكون عقبى أمره إلى لاش وعمر ذاك مصيره وسواء طويله وقصيره وكثير تنعمه ويسيره (شعر) : وإذا كان منتهى العمر موتاً ... فسواء طويلة والقصير (غيره) : فعش ما شئت في الدنيا وأدرك ... بها ما شئت من صيت وصوت فحبل العمر موصول بقطع ... وخيط العيش معقود بموت فهب أنه عاش ونهب الملاذ وحاش وعلا في ارض التنعم وغلا وجاش كل ذلك في المقدار على حسبما تختار وأنه جاءه القضا وقد قضى وطره ومضى ثم قضى تحبه وقضى فجبر الكلام كسرا وسرى عنه همه وأسرى وقال الآن سكنت فنعم الناصح أنت

(وإنما أوردت) هذا التنبيه أيها الملك النبيه لا عرض على الخواطر السعيدة والآراء السديدة والآراء الرشيدة أن الأقتصار عن هذا أولى وأليق بالركون تحت إرادة المولى قال المدبر المفنن المعبر ثلاثة أشياء ينبغي لطالبها أن لا يفتكر في عواقبها الأول الأسفار في البحار والغوص فيها إلى القرار فان طالب الجواهر النفيسة ومن قصد أن يكون في صدر التجارة رئيسه لا يخشى من الغرق ولا عنده من ذلك فرق فهذا يعبى بضائع المال وذاك يغطس إلى قعر الأوحال وكل منهما لا يتفكر في العاقبة والمآكل الثاني المقدم على الحرب والرشق والطعن والضرب ومصارعة الأبطال ومباشرة أسباب القتال لا ينزعج لصوت ولا يفتكر في الهزيمة والجراح والموت والثالث طالب الرياسة والملك ذي السياسية لا يفتكر في الاقتحام ولا يتوانى في الأقدام ولا يتأمل في العواقب ولا يلتفت إلى المناقب ويلقي نفسه في الأخطار ويضرب إلى أعماق الأقطار ويجعل جل همه بلوغ الأوطار وقيل: بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلى سهر الليالي تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحر من طلب اللآلي وقيل: إذا هم ألقى بين عينيه عزمة ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا قال المقبل الحكيم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم أولوا الألباب المميزون بين الخطأ والصواب الناظرون من مبتدأ لأمور في أعقابها المستبصرون قبل وقوعها في مآلها ومآبها الآتون بيوت النوائب والنوازل من أبوابها قالوا إذا تحمن أبو الحصين وأغلق عليه من وراء

جدار بابين صم حاصره أسد من خارج ساوت قوة الخارج قوة الوالج ولا شك أن حركة العساكر وقطع الفيا في والدساكر والتوجه إلى قتال من هو ساكن في سربه محتاط في إقليمه ودربه متحصن في قلاعه متدرق بحجفة امتناعه يحتاج في الأموال إلى إخراج وفي الرجال إلى إزعاج وتحمل أخطار وتجشم أسفار وأخذ ضعفاء تحت أقدام وهدم دور وقطع أرحام ومع هذا كله حصول المقصود موهوم والظفر به غير معلوم فان حصل فقد مر أن لا ثبات ولا تمنع وأن احتجب فهو وراء ستر التمنع فكم من دماء حينئذ تراق وقد كانت مصونة وأموال تهدر وقد كانت مضمونه وأعراض تهتك وقد كانت محترمة وأنفس تذل وقد كانت عزيزة مكرمه والحق في هذا متضح ومن نجا برأسه فقد ربح وقد قدمت هذا التقرير وهندست هذا التقدير لأن العاقل الماهر في التجارة كما يحسب الربح يحسب الخسارة وكل هذا في العاجلة فصلا عن المحذورات الآجلة من غضب الله وعقابه وتوبيخه وأليم عذابه وإذا خرج الأمر عن اليد ودخل على القلب الاشتغال بالنكد وذهب المال والمنال ونقصت الأهبة والرجال وتناقص العدد والعدد وتناكص المدد والمدد فأي حرمة تبقى للملك عند الرعايا وقد قلت عنهم منه الأرفاد والعطايا وكيف يستقر ملكه أو يدور على فلك الثبات فلكه فلا تخافه الرعية ولا يرجونه ولا يسمعون كلامه ولا يطيعونه ويصير كالسحاب الخلب لا يوثق منه بوعد ولا يحصل منه مطلب أن تكلم عابوا كلامه وأن حكم نقضوا أحكامه وأن حلم قالوا عاجز وإن تقدم في الحرب قالوا مجنون مبارز

وأما الغني ذو المال فهو على عكس هذه الأحوال فان رأوا منه فضلاً كان لكل مكرمة أهلا فرفعوه إلى العيوق وكان العظم المرموق أن أعطى قليلاً استصغر واحتما عنده وأطنبوا بلسان الثناء في شكرهم رفده وأن يخل قالوا مدبر لا يضيع ماله وإن كذب صدقوا قيله وقاله وفي الجملة حركات الغنى مستصوبه وكلماته مترشفة مستعذبة وقد قيل: إن ضرط الموسر في مجلس ... قيل له يرحمك الله أو عطس المعسر في مجمع ... سبوا وقالوا فيه ما ساء فمضرط الموسر عرنينه ... ومعطس المفلس مفساه وكما قيل: الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسود غير السيد المال ولقد رشفت من أفواه الحكماء ونصائح البلغاء بل شاهدت من النوائب وتلقفت من ذوي التجارب وتحققت في الدهر أبا العجائب أن الفقر شيب الفتيان وسقم صحيح الأبدان ومبعد الأقارب وجاعلهم أجانب وقاطع الأرحام ومانع السلام ومبغض الأحباب ومفرق الأتراب ومشتت شمل الأصحاب وبالجملة فالذي يجب على ولي الأمر التأمل في قصارى هذا الأمر والتفكر في عاقبة هذه الحركة وما يحدث فيها من شؤم وبركه وأن يجبل قداح التدبر والتبصر والتصبر ويثبت في صدر هذا المورد المضيق وما فيه من مجال أو ضيق ولا يعتمد فيه على القوة والحول وأسباب الطول وكثرة الشوكة والعدد وإمداد العدد والمدد مع عدم الاكتراث بالأخصام وقلة المبالاة بكل أسد ضرغام فان الأسد سلطان السباع وملك

عظيم كثير الجند والأتباع شجاعته مشهورة وشهامته مأثورة به يضرب المثل ويشيه كل بطل ونحن وإن كان لنا عساكر كالجبال تهدم الحصون وتدك القلال لكن ما جر بنا مصارعة الأسود ولا مارسنا مقارعة النمور والفهود ولا نعرف طريق بلادهم ولا طريقة جدالهم وجلادهم وأن لهم في الحروب أساليب وفي افتراس الفرائس أنياب ومخاليب أن لا تتم هذه الأمور وتقصر حبالنا عن مصادمة مالهم من قصور فيرجع وبال هذه الأمور علينا إذ ابتداؤه أو لا منسوب الينا ولا تحصل إلا على الندامة والتوبيخ والملامة ويخطبنا الجد الوبيل بما قيل: تبني بأنقاض دور الناس مجتهداً ... دار استنقض يوماً بعد أيام وقال المدبر ولا شك أن جوهر هذا النظام وعقود هذا الكلام صادر عن فكر بعيد ورأي سديد وأمر رشيد وتأمل في العواقب مفيد أصله الحكمة وفرعه الشفقة وزهره المعرفة وثمره الفطنة ولكن من حين استولى على الملك كيومرث ومرث على سرير التحكم أصبع الولاية أبلغ مرث وسن قواعد السياسة وأسس بنيان الرياسة وذلك زمان الأبتداء وأول ما تملك على الدنيا وإلى هذا اليوم لم يزل القوم من الملوك في روم وطلب الزيادة والسوم ولا عتب في ذلك ولا لوم وقل لي أي ملك مالك تحكم في الممالك وسلك فيها المسالك ولم يقصد فيها الولايات الشاسعة ولا الأقاليم الواسعة ولم يطلب الترفع على الأقران وعلو المكان بقدر الإمكان والملك عقيم والعاجز سقيم وكيف يتصور أيها الملك الأكبر أن تكون همة الملك أدنى من همة تاجر في البحر ينهمك فان التاجر إذا افتكر في لذة الفائدة وما يعود عليه

العائدة وغرته كما يقال التسع أواق الزائدة يضع جميع ماله وما تصل إليه يده من خدمة ورجاله في الفلك المشحون ولا يرهب ريب المنون ويركب هو أيضاً فيه ولا يلتفت إلى عجائب دواهيه ولا يفتكر في الغرق ولا في جبر السفينة ولو نخرق ويسلم قياده إلى متصرف الهواء ونفسه وماله إلى حاكم الماء ودونك يا ذا الحشمة والوافر الحرمة ما قاله العاشق العالي الهمة: إن تهو بدر فليكن ... ابن الخليفة ذي السرير أو ابن سلطان الورى ... أو ذي الوزارة أو أمير وتجنب الأوغاد والغوغا وذا القدر الحقير إن الخطير هو الذي ... قد قام بالأمر الخطير وأما قولكم عساكرنا أغمار لا دراية لهم بتلك الديار ولا معرفة لهم بمصادمة الأسود ومقاومة تلك الجنود فاعلم أيها الوزير الفاضل الكبير إن الأسد ملك كاسر وعلى سفك الدماء حاسر وأن في رعيته من آذاه وأنكاه في ذويه وأبكاه وكسره جبراً واسترعاه قسراً واستولى عليه قهراً فهو منتظر تنفس الزمان مترقب انقلاب الحدثان متوقع أيها الفضيل معنى ما قيل: إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ ... نصيب ولا حظ تمنى زوالها فإذا سمع بأحد خرج على الأسد ولو كان أقل الأعوان فضلاً عن ملك الأفيال بل قيل الأفيال الفاضل في ذاته الكامل في صفاته العادل في رعيته البار بأهل ولايته المحسن إلى أهل مملكته المشفق الحليم الرؤوف

الرحيم فبالضرورة يبادر إلى الملاقاة ويسارع إلى ما كان يتمناه ويغتنم عبودية الملك وبعدها غاية مرتجاه فيدل على عورات العدوة ومظان عثراته ويرشد إلى طرائق نكاياته ونكباته ويناديفي النادي نلت مرادي على رغم الأعادي ويعلن بإنشادي للحاضر والبادي: إذا كان للإنسان في دولة امرئ ... نصيب وإحسان تمني دوامها وأيضاً في ذلك الإقليم من متشبث بأمر جسيم وهو ماله من مال وأولاد واقطاعات وعقار وبلاد وسوائم ومواش وأثقال وحواش فلا يمكنه التحول عن طريقنا ولا التحمل لوعودنا ويروقنا ولا قوة المقاومة ولا طاقة المصادمة فبالضرورة يصانع عن تعلقاته وينشبث بذيل سنتنا مع الجماعة فنستمد بآرائه وروائه ونستفيد فيما نحن بصدده دواء لدائه فقال الملك للمقبل ما الجواب عن هذا الخطاب فقال هذا المقال وإن كان لا يخلو عن الاحتمال ووقوعه غير محال لكن الأقرب إلى الذهن إن هذا لا يقع لأنه أمر مبتدع ولأن طبائعنا مخالفة لطبائعهم وأوضاعنا غير أوضاعهم وناهيك إن كلاب الحارة في النهب والغارة يمزق بعضهم بعضاً ويتناحرون فيما بينهم حرصاً وبغضاً حتى إذا دخل بينهم ذيب أو حيوان غريب توجهوا إليه واتفقوا عليه فمزقوا أديمه وهتكوا حربمه وجعلوا لحمه لجماعتهم وليمة وعند الأسد من الوحوش أنواع ما بين سباع وضباع ونمور وذئاب وقرود وذباب وفهود وكلاب كلهم على طباعه متفقون على اتباعه وإن اختلفت عليهم الثياب لكن الكل كلاب أولاد كلاب وكل من هؤلاء على ما هم عليه متفقوا الأهواء له على خصمه في مجادلته وخصمه دربة في المساورة ووثبة في المغوره وأنواع في الكر والفر

وروغان في الخير والشر ومداخل ومخارج ومدارك ومعارج وليس في عساكرنا سوى الصدمات والحطم بقوة النهضات والعزمات فأن أفاد هذا الاصطدام وإلا فما ثم إلا الأنهزام فلما بلغ المقبل في الكلام إلى هذا المقام وكان رسخ في قلب الملك من كلام المدير الوسخ فما أثر نصح المقبل وما أفاد لأن النفس بطبعها مائلة إلى الفساد فشرع الملك واعتمد على التوجه إلى بلاد الأسد وأمر رؤساء فيلة الهنود بجمع العساكر والجنود وأشيع ذلك في أطراف الممالك فاطلع على هذه الأحوال غراب يكنى أبا المر قال كان له وطن وولد وسكن في ممالك الأسد لكنه قدم جزيرة الأفيال للتنزه على سبيل التفرج والتفكه فشرع يتأمل في هذه الأمور ويستنتج من قضاياها ما يتولد من سرور وشرور فانتهى سابق أفكاره في ميدان مضماره إلى أن هذه القضايا تسفر عن بلايا ورزايا وإراقة دماء وخراب أماكن وهلاك رعايا سواء تمت للأفيال أو رجعت عليهم بالوبال فخاف على سكنه ودمار أهله ووطنه فادى فكره الأسد أن يطلع على ذلك الأسد ليتداركه بحسن آرائه ويعترف للغراب بحسن وفائه فبكر بكوره وقصد دوره فوصل في أقرب زمان ونادى الريبال أبا الزعفران وقال الله الله أني أنا النذير العريان وأطلع الأسد على هذا النكد وقرر معه حقيقة الأحوال وما عزم عليه ملك الأفيال فتشوشت لذلك الخواطر وتصدعت لخوفه الأكابر والأصاغر ثم أمر السباع وطوائف الوحوش بالاجتماع مع رؤساء مملكته وأساطين خاصته ورعيته وذكر لهم هذا الأمر المهول وما عزم عليه ملك الفيول وأذن لكل واحد منهم في ذلك بما يقول فوقع الاتفاق من أولئك الرفاق أن يتفق أعيان كل جنس من الحيوان على رئيس من جنسهم يقيمونه مقام نفسهم يرضون بأقواله ويقتفون

آثار أفعاله وليكن من أهل الحصافة والكفاية واللطافة والدراية والشفقة العامة والمعرفة التامة بعقد معهم للمؤامرة مجلس رأي ومشاورة فمهما وقع عليه الاتفاق واجمع عليه الرفاق واستثصوبه الأسد وارتضاه اتبعوه وعملوا بمقتضاه فتقدمت طائفة الآساد إلى تاج منها نهاد سبع يسود على طوائف الأسود طالما افترس الأقران وانغمس في دماء الشجعان وأضاف جوارح الصيد فضلات ما افترسه من عمرو وزيد كاسر جاسر باسل باسر حاسر قاسر ظاهره أبي وباطنه بالمكر غني: أسد يسود على الأسود زئيره ... رعد وعيناه بروق وتخطف فقدموه واختاروه واستشاروا رأي رأيه وامتاروه واختارت النمور نمرايمور سريع الوثبة بديع الضربة لطيف الحركات خفيف النهضات قوى الشماس خفي الاختلاس كثيراً ما كسر أسامهوسامي اسود خفان فاسر ضرغامه كما قيل: نمر تخاف الأسد من وثباته ... وتحار في حركاته وثباته وقدمت الثعالب ثعلباً لطيف الروغان ظريف الزوغان خفي الحيل قوي الميل طالما فر من طبل وأهل على الصيادين من أهوال وأحرق السلوقيات سلاحه ونفذ في غالب الأسود بالمكر سلاحه: يضل بني سلوق من دهاء ... فيخلص من مخالبها سليما

واعتمدت الذئاب في هذا الباب على ذئب فعله عجيب وأمره غريب سديد الختل والختر شديد المكر والكسر طالما أفسد ثله ودخل في قطيع ماشية فقطعه كله يعجز الأسود والنمور والفهود شيمته الغدر والخديعة ودأبه المكر وسوء الطبيعة شعر: وقد جمع الضدين نوما ويقظة ... يخاف الرزايا فهو ويقظان نائم فاختلى بهم أبو الأشبال وشاورهم فيما دهمه من الأهوال ونوجه بالخطاب إلى الأسد وقال ما رأيك في هذا النكد فقال لا تطلب النصر في هذا الحصر إلا من مالك العصر ومصرف أحوال الدهر بين الفرج والقسر وهو الله سبحانه وتعالى وعز شأنه وجل جلاله فأنا مظلومون وهم ظالمون ونحن ما اعتدينا عليهم ولا تقدمنا بالظلم إليهم فسيرد الله كيدهم في نحرهم وسحيق بهم عاقبة مكرهم وهذا أمر مقرر وأظنه هو المقدر وأما ما يتعلق بنا وبهم من الفرار والصلح أو حربهم فاذكره على التفصيل وأخبر في ذلك الرأي الجميل أما الفرار فلا سبيل إليه ولا معول أبداً عليه وأني ذلك وهو عيب ما وصمت به الأسود ولا لهم به وصف معهود وبنا يضرب المثل في الشجاعة والبسالة وتتشبه بنا الأبطال في الأقدام لا محالة وكيف نترك بلادنا وأهلنا وأولادنا من أول وهلة ونعزم على الرحلة ولا صادمناهم ولا واقفناهم ولو فعلنا ذلك فهربنا وتركنا مالنا وذهبنا لفسدت أمورنا وخربت ممالكنا دورباً ولا نفرط نظامنا وتعوج قوامنا واستمرت هذه الملامة إلى يوم القيامة ولدام علينا هذا العار ولا يقر لنا بعد ذلك قرار وأعلم أيها الملك نو والله وجه السرير بك أن العمر السنى ما مر في العيش الهني وقد قيل: ما العمر ما طال به الدهور ... العمر ما طاب به السرور

والعمر الذي يمر في نكد لا يحتسبه من ذوي الكفاية أحد وحسبك ما ذكره المترجم من حكاية الملك المعزول مع النجم فسأله أبو الأشيال سرد هذا المثال (فقال) الأسد ذكر القائل أن أهل بابل كانت عادتهم في دينهم وسلوك طريقهم مع سلاطينهم أنهم إذا اعتنوا بشخص ملكوه واتبعوا طريق أمره وسلكوه وبذلوا في طاعته ما ملكوه فإذا أرادوا عزله تركوه ونشزوا عنه وفركوه وأهملوا إحسانه وفذلكوه وسكنوا غيره في سرير الملك وحركوه فاتفق أنهم ولوا واحداً وأعزوه ونصروه ثم خذلوه وأقبلوا عليه أولاً ثم قتلوه وكانت مدة ما بين ذلك يسيره وعمر أيامه في ولايته قصيرة فحصل له أولاً السرور ثم تراكمت عليه بالعزل الشرور فاحتوشته الفكر وبات يصارع القضاء والقدر ثم قال لو راقبت في أول الجلوس ما في الطالع من سعود ونحوس ثم اخترت لساعة ارتقائي وقتاً يطول فيه بقائي وذلك يكون نجمي في برج ثبت لما انقلبت كواكب سعدي عن الاستقامة ولا نبت ولكن حيث فات ذلك في الابتداء فاندراكه في الانتهاء فلعل ذلك يفيد ويردني إلى سرير السرور يعيد ثم طلب منجماً حاذقاً ماهراً فائقاً وقال انظر في طالع جدي وتأمل برج نحسي وسعدي واختر لي ساعة يصلح فيها النزول عن السرير ويكون العود إلى السرير بواسطة الناظر إليها غير عسير فان الناظر إلى الطالع هو الجالب والمانع فامتثل المنجم ما رسم وشرع في وضع الأشكال والقسم ثم قال أحسن ما نظر في الطالع المسعود من حين الميلاد فانه أول الوجود فإذا أخذ الطالع سن ساعة الميلاد ترتب عليه ما

يصدر على ذلك المولود من السعد والإسعاد ومن الخوف والرجاء في عالم الكون والفساد فهل اطلع الملك في أي ساعة وجد وكم أتى عليه من حين ولد قال نعم أعرف مدة عمري جزماً وهي اثنان وعشرون يوماً فتعجب المنجم من مقاله ولم يقف على حقيقة حاله فقال ليوضحالملك ما أشار لأقف على حقيقة هذه الأسرار فقال مدة استيلائي على السرير هو هذا القدر اليسير وأنا لا أحسب العمر ولا أعتد بوصال بيض ولا سمر إلا هذه الأيام والليالي ولا أحتسب سواها عمرا ولو بيع باللآلئ وقد قلت: وعمر مضى بالهجر لست أعده ... ولكنني أقضيه في زمن العمل وإنما عرضت يا بطل على رأيك السعيد هذا المثل لتعلم أن أيام المحنة لا تعد عمرا ولو قضى الإنسان فيها زمانا طويلا ودهرا وأما الصلح يا ذا الركون فعلى أي وجه يكون ومن أين يقع بيننا وبينهم اتفاق وسكون وليسوا من جلدتنا ولا على ملتنا وفي عصر وأوان ذل الأسد واستكان وخضع للفيل ودان أو أعطى الغضنفر النباج والضرغام الصعب الناج لغيره الجزية والخراج وهو في الحقيقة سلطان الوحوش ووهاب التاج فلم يبق إلا الاستعداد للمصادمة والتأهب للمقاحمة والمقاومة ولنا من ذلك في البين إحدى الحسنين أما الظفر بهم وهو المرام وأما الشهادة فنموت ونحن كرام وقد قال السيد السديد من قتل دون ماله فهو شهيد وقيل يا حاتم طي: حسن الثناء على الميت خير من سوء الثناء على الحي والموت في مقام العزة مع النشاط والهزة أرفع من الحياة بذلة ووخزة وكسرة ونخزة وقد كنت أنشدت وقديما أرشدت:

هو الموت إن لم تلقه ضاحكا فمت ... عبوسا بوجه أفتر اللون أغبرا ومن لم يمت في ملتقى الخيل مقبلا ... عزيزا يمت تحت السنابك مدبرا فأقبل الريبال على أبي مرسال وقال أيها النمر وصاحب الخلق الزمر ماذا نشير في هذا المهم والمشكل الذي دهم فقال إن الأفيال أكبر جسوما وأعظم حلوما وأقوى في الضرب وأعدى في الحرب وقد استعدوا وأقبلوا واتقنوا أمورهم وأعملوا وأنا أخشى أن يكونوا أقوى بطشا وأن نعجز عن المقاومة في المصادمة فإن فينا العاجز والضعيف والذميم الجثة والخفيف ومن لا عرف الأفيال ولا رأى تلك الأشكال فينفر من مصادمة الجبال فيطؤننا تحت أخفافهم وتنكسر شوكتنا في أول مصافهم فلم يبق إلا الفرار ولا يقر لنا بعد ذلك قرار فيستولون عنوة وقسرا على هذه الديار وينفرط النظام ونرضى عند ذلك بالسلامة والسلام ونقع في البلاء العريض الطويل وانظر يا مولاي إلى ما قيل: هل للمرائر من صون إذا وصلت ... أيدي الرعاء إلى الخلخال والخدم فعندي الرأي ذو الأصالة أن ينتخب الملك من يصلح للرسالة ويحسن السفارة ويحسن العبارة فيسكن من فوره شغبهم وثورة لهبهم وسورة غضبهم ويعدهم ويمنيهم ويحسن التقريب ويقصيهم وفي ضمن هذه الأوقات وأثناء هذه الحالات يراقب أوضاعهم ويخبر جمعهم وأجماعهم ويتوصل إلى أسرارهم ويواصلنا بأخبارهم ويطالعنا بمخامر أفكارهم ويكتب ما قدموا وآثارهم ونستمر على المراسلة والمقاومة والمطاولة فإن تيسر رجوعهم وانكشف بالهوينا جموعهم وإلا فنكون قد استعددنا عن الاستبصار فنتعاطى أمور قتالهم بعد التأمل والاختبار وإن أمكننا أن نأتيهم

بالليل ونحل بهم الدواهي والويل بعد أن يركنوا إلى جانبنا ويأمنوا من نوائب مصائبنا فربما نصل إلى بعض القصد أو يوافق بعض حركاتنا السعد فالتفت الدوكس إلى العلمس وقال أي سيد وذا الأمر الرشيد ماذا ترى فيما طرأ وكيف طريق القوم فيما جرى قال السمسام يا مولانا الضرغام الذي سمعته من أولي التجارب وتلقفته من الأصحاب والأجانب أنه من التوفيق إذا ابتلى الشخص بعداوة من لا يطيق أن يدافعه بالهدايا والتحف ويحابيه بشيء من الظرائف والنتف فإنه قيل في الأمثال إن خير الأموال ما ادخر لدفع البؤس ووقيت بنفائسه النفوس فأهب النهاب بأبي وثاب يا أبا الحصين ما رأيك في البين وأي آراء الأصحاب أقرب إلى الصواب فتقدم الثعلبان وتكلم فأبان وقال أسعد الله الأحد مولانا الأسد وجعل رأيه الأسد وفعله على أعدائه الأشد اعلم أيها الدلهاث أن أمورنا لا تخلو عن إحدى ثلاث أما المقابلة بالمقابحة وأما المهادنة والمصالحة وقد تقرر فيما تقدم وتحرر بيان كل منهما وما يصدر فيهما وعنهما وأما الفرار وتولية الأدبار وترك الأوطان والديار فأف لذلك من عار وسبة وشنار فما بقي إلا الحالة الثالثة وهي بعساكرهم عابثة

ولقلوبهم كارثة وهي طريقة الاحتيال والتوصل إلى لقائهم بطرائق المكر في جب الوبال فإن صائب الأفكار يعمل ما لا يعمله الصارم البتار فبشباك الحيلة تصاد كل فضيلة وتهون كل جليلة وأنا أفصل ما أجملت وأبين ما فصلت أما المقابلة والأخذ في أسباب المقاتلة فلا طاقة لنا به ولا باب لدخول قبابه لأنا عاجزون عن المصادمة قاصرون عن المقاومة محتاجون إلى الطعام والشراب وبعض عساكرنا لا يعيش إلا باللحم والكباب وجيشهم الذي قد ملا وسد الوهد والفلا يقنعون بالحشيش والكلا فلا يتكلفون لحمل زاد ولا يحتاجون إلى عدة وعتاد وأيضا أحوال عساكرنا المفرقة المضمومة لاختلاف أجناسها وأنواعها غير معلومة فلا اعتماد عليهم ولا يتحقق الركون إليهم فإنهم أجناس مختلفة وطوائف غير مؤتلفة وبينهم معاداة وفي جبلتهم النفرة والمنافاة وبعضهم غذاء بعض وفي قلبه منه العداوة وبغض لو ظفر به كسره وأكله وإن استبصر به خذله فهم كالقفل المجمع ولون اتفاقهم ملمع وأما عساكر الأفيال فبينهم اتفاق على كل حال لأنهم جنس واحد وما بينهم مخالف ولا مناكد ولهم اعتماد على قوتهم وعلى اتفاقهم وشوكتهم والمعتمد على مثل عساكرنا إن لم يضبط بطريقة كلية أمر عشائرنا ينفرط أمره ويخمد في إيقاده نار الحرب جمره ويعلوه من بحر النوائب غمره ويظفر به أعدائه زيده وعمره ويصيبه من الحطة ما أصاب الصياد من القطة فسأل أبو الحارث عن بيان هذا الحادث قال الثعلب ذكر أن رجلا ذا كيد كان مغرما بالصيد وكان عنده قط صياد يجترئ على النمس والفياد فكان يوما بين يديه فمر عصفور عليه فطفر كالنمور وحصل من الهواء العصفور فأعجب به

صاحبه ثم قصد الصيد وهو مصاحبه وحمله تحت إبطه وبالغ في حفظه وضبطه وركب جواده وتوجه يروم اصطياده فرقى سفح جبل فخرج من وراء صخرة طائفة من الحجل فتوجه إليه وألقى القط عليه فطار الطير وخاف القط وقصد رجوعه إلى تحت الإبط فطفر إلى جبهة الجواد وأنشب فيها مخاليبه الحداد فجفلت الفرس من القطة وخبطت بفارسها الأرض شر خبطة أزهقت فيها نفسه وأبطلت حسه (وإنما أوردت) هذا المثل ليحترز أيها البطل في هذا الأمر من وقوع الخلل ويتفكر في أمر هؤلاء الجماعة وكيف ثباتهم في دعواهم السمع والطاعة فإنهم لا يصلحون للقتال خصوصا مصادمة عساكر الأفيال فالملك لا يعتمد على مثل هذا العسكر اللهم أن يتقرر أمرهم على صدق اللقاء ويتحرر وأما ذكره مولانا أبو سهيل في تبييت عساكر الأفيال بالليل فهو رأي معتبر ولكن فيه نظر لأن ذلك إنما يكون إذا كان العدو في سكون وعن توقع النكبات في ركون فبينما هم في غفلة ذاهلون جاءهم باسنا بياتا وهم قائلون وأما إذا كانوا مستعدين يقظين مجدين وقد توجهوا للقتال وانتصبوا للمناضلة على هذه الحال فلا شك أنهم اتقنوا أمرهم وأخذوا أسلحتهم وحذرهم فأعدوا لكل نائبة نابا ولكل نائفة بابا ولكل حرب حرابا ولكل ضرب ضرابا ولكل شدة سدة ولكل عُدة عِدة ولكل جزة جمزة ولكل وفزة فزة ولكل نفرة طفرة ولكل فرة كرة ولكل أزمة حزمة ولكل كسرة جزمة فربما يكونون افتكروا منا هذه المكيدة وأعدوا في مقابلتها داهية نصبوا لها مصيدة فنتوجه إليها غافلين فنشب في شركها

ذاهلين فيصيبنا من النكل ما أصاب الجمل من الجمال فقال الريبال هات يا أبا الترهات أخبرنا يا أبا نوفل أخبار الجمل المغفل (قال) كان جمال فقير ذو عيال له جمل يتعيش عليه ويتقوت هو وعياله بما يصل منه إليه فرأى صلاحه في نقل ملح من الملاحة فحد في تثقيل الأجمال وملازمته بإثقال الأثقال إلى أن آل حال الجمل إلى الهزال وزال نشاطه وحال والجمال لا يرق له بحال ويجد في كده بالاشتغال ففي بعض الأيام أرسله مع السوام فتوجه إلى المرعى وهو ساقط القوة عن المسعى وكان له أرنب صديق فتوجه إليه في ذلك المضيق ودعاه وسلم عليه وبث عظيم اشتياقه إليه فلما رأى الخزر هزاله وسأله أحواله فاخبره بحاله وما يقاسيه من عذابه ونكاله وأن الملح قد قرحه وجب سنامه وجرحه وأنه قد أعيته الحيلة وأضل إلى الخلاص سبيله فتألم الأرنب وتأمل وتفكر في كيفية عصر هذا الدمل ثم قال يا أبا أيوب لقد فزت بالمطلوب وقدظهر وجه الخلاص من شرك هذا الاقتناص والنجاة من الأرتهاص والأرتصاص تحت حمل كالرصاص فهل يعترضك يا ذا الرياضة في طريق الملاحة مخاضة فقال كثير وكم من نهر وغدير فقال إذا مررت في خوض ولو أنه روض أو حوض فابرك فيه وتمزق وتنصل من جملك وتفرغ واستمر يا أبا أيوب فان الملح في الماء يذوب وكرر هذه الحركة فانك ترى فيها البركة فأما أنهم يغيرون حملك أو يخففوه أو تستريح بذوبه من الذي أضعفوه فتحمل الجمل للأرنب المنة وشنف

بدر هذه الفائدة أذنه فلما حمله صاحبه الحمل المعهود ودخل به في طريقه المورود ووصل إلى المخاضه برك فضربوه فما قام ولا احترك وتحمل ضربه وعسفه حتى أذاب من الحمل نصفه ثم نهض انتهاضه وخرج من المخاضه ولازم هذه العادة إلى أن أفقر صاحبه وأباده فأدرك الجمال هذه الحيلة فافتكر له في داهية وبيله وعمد إلى عهن منفوش وغير في مقامرته شكل النقوش وأوسق للجمل منه جملاً بالغ فيه تعبية وثقلاً وسلط عليه الظمأ ثم دخل به إلى الماء فلما توسط الماء برك وتغافل عنه صاحبه وترك فتشرب الصوف من الماء ما يملؤه البرك ثم أراد النهوض فنأى به الربوض فقاسى من المشاق مالا يطاق ورجع هذا الفكر الوبيل على الجمل المسكين بإضعاف التثقيل فساء مصيره وكان في تدبيره تدميرء وما استفاد إلا زيادة النصب وأمثال ما كان يجده من التعب والوصب (وإنما أوردت) هذا المثل عن الجمل ليعلم الملك والحضار إن العدو الغدار والحسود المكار يتفكر في أنواع الدواهي ويفرع أنواع البلايا والرزايا كما هي الحال ويبذل في ذلك جده وجهده ولا يقصر فيما تصل إليه من ذلك يده فتارة تدرك مكايده وتعرف مصايده وتارة يغفل عن دواهيها فلا يشعر الخصم إلا وقد تورط فيها وعلى كل حال لا بد للشخص له وعليه من الأحتيال وأما طلب الصلح وإرسال الهدايا فمن أعظم المصائب وأكبر الرزايا فان ذلك يدل على عجزنا والخور وينادي على هواننا في البدو والحضر ويجرئ علينا الغريب ويذهب حرمتنا عند القريب ودونك

يا أبا العباس ما أنشدتك في المقياس: وما أنا ممافر من نار خصيمه ... لظل حسود أو إلى فيء شامت ولكن الرأي الأنور أيها الورد الغضنفر أن ترسل إليهم رسولاً عاقلاً فصيحاً جميلاً بصيراً بعواقب الأمور قد مارس تقلبات الدهور وقد ربى وتربى وعن الرذائل تأبى وبأنواع الفضائل تعبى وأحرم إلى كعبة محاسن الشيم ولبى ولولا أن باب النبوة استدلتني برسالة فحاله تسفر عن بسالة جزله تتضمن سؤالهم عما أوجب ارتحالهم وسبب قصدهم لبقعتنا وتوجههم لدخول رقعتنا وما موجب هذا الاعتداء ولم يصدر منا لهم إلا المحبة والولا وحسن الجوار والإحسان إلى الكبار والصغار ومعاملة الغريب والقريب بالفضل المجيب والكرم الذي لا يخيب ويذكر لهم بسالتنا وشجاعتنا وفي معاملات المضاربة بضاعتنا ويكشف لهم في ملابسه الحرب والضرب صناعتنا ويحقق عندهم ما عندنا من أسود الحرب وفوارس الطعن والضرب وأجناس الوحوش الكواسر والسباع الجواسر وأصناف الفراعل والعسابر ويتكلم بكلام يراه مقتضى المقام ومناسباً للحال ويوسع في ذلك المجال ويميز أوضاعهم وعساكرهم ويسبر بمشبار العقل أمورهم ويسمع الجواب وما فيه من خطأ وصواب ويورده إلينا ويعرضه علينا فنعمل بمقتضاه وينظر الرأي السديد فيه ما ارتضاه ونبني على ذلك الأساس ونفصل على ذلك القياس فاستصوبوا هذا الرأي من الآراء وطلبوا له كفؤاً من الأكفاء فوجدوا ذئباً هو من خواص الحضرة ومن ذوي النباهة والشهرة له في

ميدان الفضائل كروفر وفي مظان النفع والضر خير وشر قد جرب في المصايد ودرب في المكايد وهذب في المصادر والموارد ورتب في المطارف والمطارد أدنى فضائله حسن السفارة وإحدى فواضله ترتيب العبارة حلال المشكلات كشاف المعضلات فوقع عليه اختيارهم ورضى به كبارهم وضغارهم فحمله الأسد كلامه وجعل البسملة مبدأه والحسبلة ختامه ومن مضمونها بعد إبلاغ التحية والأثنية السنية إلى الحضرة العلية ملك الأفيال أبي مزاحم المفضال ألهمه الله هداه وصرف عنه رداه وبصره مواقع الخير وهداه ولا شمت به أعداه وحفظه بالعشي والغداهوجعل عقباه خيراً من مبتداه نحيط علومه الكريمة وآراءه العلية الجسمية أن قوتنا من قديم الزمان ظاهره وهيبتنا باهرة وصولتنا قاهره لم نزل نفترس الفوارس ونكرم أصناف الأضياف من الوحش والطير بالفرائس ويضرب بنا في الشجاعة والكرم الأمثال ويفر من بين أيدينا أسود الأبطال ولا عار على من فر من بيد يدي الريبال وقد اتصل بنا أن ملك الأفيال توجه إلينا بجنوده وهيأ في ذلك أجناس عساكره وبنود وما علمنا لذلك موجباً ولا تقدمنا بعداوة تنشئ حرباً وحرباً بل ولا تعرضنا لأحد في الذكر الجميل عنا فأنعموا برد الجواب وميزوا من الصواب قبل أن يكشر الشر نابه ويفتح جرابه ويحرش للهرير كلابه ويسلخ ليله اهابه ويكسر رائد الفتنة بابه فتتفاقم الأمور وتتعاظم الشرور وتتلاطم بحارها وتمور عند التهاب شواظ الغيظ من الأسود والنمور مع أن اعتمادنا على الله العظيم وتوكلنا على العزيز الرحيم

فلما بلغ الذئب الرسالة وأدى ما فيها من شجاعة وبسالة وبين لملك الأفيال ما تضمنته من عظمة وجلال استشاط ملك الأفيال وتغيرت لاضطرابه الأحوال ونظر من تلك الفيول إلى فيل ظلوم جهول وبدر إليه من غير تدبر ولا تأمل في الأمور وتفكر وقال اذهب إلى هذا العتمد على كلامه الراقد في غفلة منامه وفل له متى مارست معركة الشجعان أو صارعت رجال الميدان وأنى لك طاقة بمصادمة الجبال ومن أين تعرف مقامة الأفيال فاستيقظ لنفسك فعن قريب تحل برمسبك واستعد لجنود لا قبل لك بها فستشاهد ما لم تسمعه من ضربها في حربها فلقد أتاك عسكر القضاء وبنوده وليحظمنكم سليمان الأفيال وجنوده فلير يقن ولسيتأسرن الحرائر كالإماء وليدوسن الأطفال ولترين منه الإنكاد والأنكال وليظهرن آثار الدمار والبوار بمالك من ممالك ومساكن وديار وليفعلن بولاياتك ما فعله بممالك الإسلام التتار وأنت بين أمرين وبخير النظرين إما أن تطيع لأمرنا وتنقاه وتسلم إلينا ما بيدك من بلاد وأما أن تختار طرق الفراق والفرار وتنجو منا منجا الذباب وتتنحى عن طريقنا بما معك من كلاب وذئاب وقد بالغنا في النصيحة بعبارات الصحيحة وأقوالنا الفصيحة قبل إفشاء الفضيحة فوصل الفيل الرسول وأدى هذا القول فتشوش الأسد وداخله الغيظ والنكد فأراد الإيقاع بالرسول الظلوم الجهول ثم تمالك وعن ذلك تمامك وقال لولا أن عادة الملوك ودرب السياسة المسلوك أن لا تهاج الرسل ولا تضيق عليهم السبل لقابلتك على كلامك الفج بما يجب من العج والثلج

ثم التفت إلى الثعلب وقال يا أبا الحصين ما عندك في جواب هذين النحسين قال الثعلب أنت الأغلب هذا القيل أقوى دليل وأوضح سبيل على عدم عقل الفيل وإن فكره وبيل وبصيرته قد عميت وطرق هدايته قد خفيت وأنه غوى وأضل قومه وما هدى وكل من اعتمد على قواه وحوله واستحل غرور فعله وقلوه فقد وزال وزل وفي عقد البلاء حال وحل وهذا الجاهل السخيف الكثيف الثقيل الجثة الخفيف قد استحقرنا في عينه فيرى منا حلول حينه كل من استحقروا ستخف بعدوه فسيعدم حلاوة هدوه وسيحرم مواصلة مرجوة وقد قالت الحكماء الأخيار العقلاء ذوو الاعتبار وأولو التجارب والاستبصار لا تستحتقر السقم والنوم والدين والعدو والنار فالملك أعز الله نصره وأعلى مناره وقدره وسلط على الأعداء قهره لا يلتفت إلى هذا الكلام ولا يتزعزع لهذه الأوهام ولا يخف من جهامة الأفيال فكل ما هم فيه باطل ومحال بل يعتمد على الله العزيز الجبار ويصفي نيته بالعدل والخير مع الكبار والصغار ويقوي جنانه على الملاقاة وقد وافاه النصر وأتاه ولاغاه السعد ولاقاه فان هؤلاء اعتدوا على ولايته وأتوها فسينزل الله تعالى عليهم جنوداً لم يروها فكم من مستضعف حقير صدر منه بالحيلة أمر خطير وبحسن التدبير ومساعدة التقدير تم له أمر كبير وناهيك قصة الفارة مع رئيس الحارة وما فعلته إذ ختلته إلى أن قتلته فسال حيدره عن تلك المأثرة (فقال) بلغني النفيس أنه كان رئيس ضيق العطن خسيس له زوجة ذات صيانة ودين وأمانة لم تزل تتجنب الخيانة وتتعاطى

العفة والرزانة وله دجاجة تبيضعلى الدوام فيسرق بيضتها أبو راشد وهم نيام فإذا افتقد الرئيس بيضته طالب زوجته فتحلف إنها ما رأتها ولا تعرف يداً أخذتها فيؤلمها سباً ويوجعها ضرباً ولا يصدق قولها ولا يرحم عولها ففي بعض الأحيان رأت المرأة الجرذان وهو يجر البيضة إلى حجره وقد بلغ بها باب وكره فدعت بعلها لتريه الفار وفعلها فعلم براءة ساحتها وعمل على راحتها واعتذر إليها وطلب الفارة وحنق عليها وأعمل المكيدة ونصب للفارة دون البيضة مصيدة فلما رأت الفارة علمت أن وراءه الدرك فشعرت بما وضع عليه فلم تقدم إليه إلى أن زار الجرذان أحد أقاربه من الفيران فلم يجد شيأ يضيفه فاعتذر إلى الضيف بما هو مخيفة وأراه البيضة سعاد وأن دونها خرط القتاد وكان الضيف الغر لا يعرف هراً بر فحمله السفه والحرص والشره على أن قال أنا أخوض هذه الأهوال وأرد من الموت حوضه وأصل إلى هذه البيضة ثم قصد المصيدة فقبضت وريده وفجعت وليده ووديده فتنكدت الفارة وتكدرت والتظت أحشاؤها وتسعرت وتألمت لموت ضيفها وبلغ جيرانها حديث ضيفها فخجلت منهم واختفت عنهم وشاعت قضيتها وذاعت بليتها فلم تجد لبرد النار سوى أخذ الثار فأخذت تفتكر في وجه الخلاص فرأت أنها لا تخلص من عتب الجيران إلا بالقصاص فشرعت في تعاطي أخذ الثار من صاحب الدار وكان لها صاحبة قديمة عقرب خبيثة

لئيمة معدن السموم في زبان إبرتها وطعم المنايا مودع في شوكتها فتوجهت إليها وترامت عليها وقالت إنما تدخر الأصحاب للشدائد ولدفع الضرر والمكائد وإنزال الداء بساحة الأعداء ولأخذ الثار والانتقام من المعتدين اللئام وقصت عليها القصة وطلبت إزاحة هذه الغصة وأن تأخذ لها بضرباتها القصاص ليحصل لها بين جيرانها من العتب الخلاص فأجابتها إلى ما سألت وأقبلت إلى وكر الفارة بما اقتبلت وأخذا في أعمال الحيلة قادت أفكارهما الوبيلة إلى أن تخدعا صاحب البيت بالذهاب وتلقياه بذلك في اللهب تم أمهلا إلى أن دخل الليل وشرعا في إيصال الويل فأخرجت الفارة ديناراً وألقته في صحن الدار ووضعت آخر عند حجر الفار وأظهرت نصف دينار من ذلك الذهب وسترت النصف الآخر عند العقرب واستترت العقرب بجناح السكون تحت ذيل الكمون وقد عبت في زبانها ريب المنون فلما أصبح الصباح ونودي بالفلاح وجد صاحب الدار في وسطها الدينار فتفاءل بسعد نهاره ولم يعلم أنه علامة دماره ففتح عينيه ونظر حواليه فرأى عند حجر الفار أخا الدينار ففرح وطار ونشط واستطار وزاد في الطلب على بقية الذهب فرأى نصف دينار داخل حجر الفار فمد يده إليه وأعمى القضاء عينيه عما قدره الله عليه فضربته العقرب ضربه قضى منها نحبه فبرد مكانه ولاقى هوانه وأخذت الفارة ثأرها وقضت من عدوها أوطارها (وإنما أوردت) هذه القصة الأحبار ليعلم الملك أن حيلة صائب الأفكار تفعل ما لا يفعله العسكر الحرار بالسيف البتار والرمح الخطار وبقليل الحيلة

تتم الأمور الجليلة فلا يهتم الملك بجثث الأفيال ويشرع فيما هو بصدده من دقيق الاحتيال وأنا أرجو من الله تعالى الظفر بعدونا وحصولنا على غاية ما مولنا ونهاية مرجونا فأول ما نعاملهم بالوهم وإظهار الصوله والتخويف والإرهاب بقوة الدولة فان الوهم قتال والعاقل المدبر يحتال وطائفة الفيول عديمة العقول وبالوهم يبلغ الشخص مراده كما بلغ الحمار من الأسد ما أراده فسأل ملك الآساد بيان حكاية أبي زياد (فقال) أبو الحصين أخبرني أبو الحسين ذو المفاخر ناصر انه كان في بعض الإعصار والمعاصر حمار في مدار يستعملونه بالليل والنهار إلى أن حصل له الكبر ورمى بالعبر وابتلى باطناً بالجوع وظاهراً بالدبر وعجز عن العمل وانقطع منه الأمل فتركه أصحابه واعتقوه وفي بعض المراعي أطلقوه فصار يمرح وفي تلك المروج يسرح إلى أن خرج إلى الصحرا وانفرد في رياض الفلا فوصل إلى بعض الآجام وحصل له النشاط التام إلى أن صح بدنه وسمن وبرأ دبره وأمن وأخذه البطر واستولى عليه الأشر واستخفه الطيش وطيب العيش وصار في تلك المراعي يتردد ذهاباً وإيابا كالساعي فيسدي ويلحم في شقتها ويفصل مهما اختار من مزهرخرقتها وينهق على عادة الحمير فيملأ تلك الأماكن من الشهيق والزفير وكان في تلك الآجام أسد متخبس يسمى الشبل بن المتأنس كان أبوه ملك تلك الأماكن قد نشأ بها وهو فيها ساكن شاب غرير لم يكن يعرف الحمير ولا طرق سمعه شهيق ولا زفير بل ولا خرج من تلك

الآجام ولا عرف تصرفات الأيام وكان أبوه قتل في الاصطياد وتفرقت عنه العساكر والأجناد فنشأ وحيداً يتيماً واسمر فيها مقيماً فلما سمع صوت الحمار أخذته الرعدة والاقشعرار واستولى عليه الهلع فقعد عن الاصطياد وانقطع وصار كلما نهق هرب واختفى من الفرق وغلب عليه الدهش إلى أن كاد يموت من الجوع والعطش وصار الحمار يتردد إلى عين كان الأسد يسكن منها سورة الظمأ فما اجتر أبعد ذلك على الورود وأضر به الخوف والانقطاع والقعود فلما كاد العطش أن يقتله توجه إلى العين محفوفاً بالحيرة والوله فوجد الحمار واقفاً عندها وأدرك الحمار خوفه منه بالدها فتقدم إليه وصوب نحوه أذنيه وحملق عينيه فبدر من الأسد صرخة ابتعها من بوله شخه وقال للحمار ايش أنت ولأي شيء ههنا سكنت وجعل يرجف وفي قيد الخوف يرسف فعلم الحمار أن الأسد خار فقال بجنان جرى وبيان قوى أنا في هذا المكان أفرق رزق الحيوان وقد أقمت أحوش أرزاق الوحوش ثم أقسمها بينهم وأملأ جوفهم وعينهم فقال الأسد أني جيعان ولي مدة عطشان فاعطني من الأكل رزقي وافرز لي من الماء حقي فقال بوجه مقطب ادن إلى الماء واشرب فدنا وشرب وهو خائف مضطرب ثم قال أنا جائع فأطعمني وعجل ولا تحرمني فلي مدة من الجوع لا قرار لي ولا هجوع فقال الحمار تعالى معي إلى موضعي لتعرف مكاني وتقرر جرايتك في ديواني فذهبا في طريق حتى وصلا إلى نهر ماء عميق فأراد العبور فقال الأسد الهصور هذا الماء عميق وكم فيه من

غريق فاحملني في الذهاب وأنا أحملك في الإياب فأجابه الحمار وحمله وخاض به ونقله فانشب الأسد الأظافر في كاهل الحمار وثقل عليه فلم يتأثر ولم يلتفت إليه فزاد وهمه من الحمار وقال هذا رأس الدعار ثم سارا ساعة أخرى فرأيا في طريقهما نهراً فطلب الحمار الوثوب وقال هذه نوبتي في الركوب ثم طفر على الأسد وثقل عليه الجسد وتمكن عليه وأرخى يديه ورجليه فتضرر من ثقله وابتلى بشر عمله ثم تورك عليه وانشب في كاهله مسامير نعليه فماج ومار وقد أثرت فيه حوافر الحمار فقال له أثبت وآلك فما حولك تحت وأحالك فقال يا أخي حرت في أمري لقد أوجعتني وقصمت ظهري وكان يكفيني جوعي وقلتي وخضوعي وما أدري هذا الضرر البلا من أين أقبلا فقل لي ما الذي انشبته في كاهلي ونزلت به من حافرك في ساحلي فقال هذه مسامك لطلاب الجرايات والجوامك وهي أربعون مسماك لا بد أن تثبت كلها في قفاك حتى يترصع لك اسم في الديوان وإلا فالرزق لا يحصل بالهو ينابل بالهوان يا أخاه اتركني لوجه الله وارفق بي رفق وما أريد منك رزقاً ودعني بالأمانة ووفر الجراية على الخزانة ولا رأيتك ولا أريتني ولا عرفتك ولا عرفتني فأني أتقوت من حشيش الأرض وخشاشها واستعد لمعاد نفسي بالرفق في معاشها فنزل عنه الحمار وتركه وسار فهرب منه بعد ما ودعه وولى يلتفت يميناً وشمالاً لئلا يتبعه

وإنما صورت هذا النقش لتعلم يا ملك الوحش أن الوهم يصدر كالسهم وهو عند براهمة الهند وحكماء السند أحد طرق العلم رقاك الله إلى سلم السلم والوهم غالب على الأفيال بل سهم الوهم يقتل كثيراً من الرجال فنرجو من الله أن يبلغنا مقصودنا وننال من طالع الجد والحظ مسعودنا وإن يرجع أعداؤنا بالخيبة وفراغ العيبه وهذا المثل الذي ضربته والتقريب الذي قربته إنما هو مثل العاجز الضعيف مع القوى العسوف لا العسيف وأما نحن بقوة الله وحوله ومساعدة نصره وطوله فقوتنا قاهرة قائمة وصدمتنا بعون الله دعائمها داعمة لم يحصل منا خوف ولا خور ولا فزع ولا جزع ولا جور ففينا بحمد الله قوة لمصادمتهم وقدرة لمقاومتهم فامض لأمرك فكأني بك وقد رجعت فائزاً بنصرك مجبوراً بكسر عدوك محبوراً بيسرك ثم أنه اقتضى رأي أبي الضرغام إعادة الذئب إلى أبي مزاحم برسالة مضمونها بصرك الله بعيوب نفسك وأراك عاقبةغدك في صبح أمسك وجعلك ممن اتبع الهدى وامتنع عن موارد الردى أعلم أن علماء الهند وحكماء البراهمة والسند امتازوا عن حكماء الأقاليم ووضعوا رقعة الشطرنج للتعليم وأن واضع ذلك صور الرقعة بصورة الممالك وقسمها بالسوية جعل لكل قسم جنساً من الرعية ووضع له نوعاً من السير لا يتعداه وبين لكل منهم مكاناً لا يتخطاه وأنا أخاف أن تتعدى مكاناً هو

مقامك وتقصد بيت الشاه ويفوت مرامك ويناديك فرزين العقل وأنت راحل في النقل يا ذا الهوس ماذا بيت الفرس فتقع وأنت تصرخ في لعبك بالنفس مع الرخ فلا يفيدك الندم وقد زلت بم القدم وخرجت في لعبة من رفعة الوجود إلى العدم وترى تلاقي الموافاة فات ويقول خصمك وقد رأى كلاحة وجهك شاه مات فلا تعتمد على جهامة جسدك وكف عن حقدك وحسدك ولا تقصد حرم كعبة غيرك بالفكر الوبيل فيصيبك مثل ما أصاب أصحاب الفيل حين أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل وتصير بعد وقوع الملاحم وصدوع المقاحم أبا حرمان بعد أن كنت أبا مزاحم فلما قرأ الفيل هذه المطالعة غطت حمية الجاهلية منه الباصرة والسامعة فأراد يأمر بايطاء الرسول تحت أخفاف الفيول لكن راجع عقله وأحضر وهله ورد الذيب بجواب مخيب وسهم غير مصيب وقال استعدوا للقتال ومصادمة الأبطال ومقارعة الأفيال ثم أمر بالعساكر فتجهزت وبأمور الحرب فتنجزت وثار بغضب أحمى منت جمر الغضا وسار بالعساكر الجرارة فملأ الفضا فبلغ الملك المظفر أبا الحرث الغضنفر ما فعله الأكلب فاستشار الثعلب فقال أعلم أيها الملك وقاك الله شر المنهمك أن الأفيال لا يعرفون إلا المصادمة والأندفاع مرة واحدة في المخاصمة وليس لهم في الحرب حراب إلا الخرطوم والأنياب لا يعرفون الكر والفر ولا يفرقون بين

النصب والجر ولكن بعض العساكر له في ذلك معارف ومناكر منها المواجهة والمشافهة والمصارعة والمقارعة والمدافعة والممانعة والمخاتلة والمخادعة والمناوشة والمهاوشه والمعانشة والمهارشه والمكافحة والملاطحه والمطارحة والمرامحه والمراوسه والممارسة والمعاكسة والوثوب والمساورة والروغان والمصادرة والاحتيال والكيد والاغتيال للصيد والربوض في الكمين والنهوض من ذات المشال وذات اليمين وكل أرباب هذه الملاعب وأصحاب هذه المخارق والمذاهب في عساكرنا موجودون ومن أبطالنا معدودون معدون فلا بد من ترتيب كل في مكانه وإيقافه بين إضرابه وأقرانه وتعبيتهم ثم تخبيتهم وكان بالقرب من ميدان النطاح وموضع جولان الكفاح وهو برية قفراء وأرض غبراء انهر مياه جاريه وعليها جسور وقناطر عالية فاقتضى رأي الأسد والفكر الأسد أن يطلقوا ثغور المياه على البرية ويتركوا فيها العساكر هم طرقاً ودر وبامخفيه ثم أنهم عبروا تلك المياه وصفوا العساكر للملاقاة فقدموا أمامهم الثعالب والكلاب وكل سريع المجيء خفيف الذهاب وصفوا وراءهم الذئاب والنمور والفهود والببور ووقف الأسد بين الأسود في قلب الجنود بعد أن عبى الأطلاب وعرف مقام كل من القرانيص والأجلاب ثم إن الثعالب ونظراءها دخلت من الأفيال

وراءها وصارت تروغ بينها وتلاعب على عينها حينها وثتعلق بأذنابها وتتشبث بعراقيبها وكعابها فزاد حنقهم وثار قلقهم وتقدموا واصطدموا وحطموا واضطرموا وبنار الحرب اصطلموا فناوشهم الببور البواسر وهاوشهم النمور الجواسر وهارشهم الأسود الكواسر ثم ولوا أمامهم مدبرين وقصدوا الطرق المخفية عابرين فتصور الأفيال أن جيش الأسد فر وجنده انحطم وانكسر وأن عسكرهم غلب وانتصر فحطموا يداً واحدة بهمة متعاضدة ونهمة متعاقدة وصدمة متآكدة ففي الحال ارتدموا وفي الأوحال ارتطموا وقطع دابر القوم الذين ظلموا ثم كرت عليهم الأسود والنمور والفهود وسائر السباع والذئاب والضباع فوقعوا في تلك الفرائس وقوع الجياع على الهرائس وعانقوهم معانقة الأحباب للعرائس وأكلوا وادخروا وحمدوا الله تعالى شكوراً ومن بعد ما ظلموا انتصروا واظهر العدل للحق مناره وظهر سر قوله عليه الصلاة والسلام من آذى جاره ورثه الله داره والله لا يهدي القومالظالمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه أجمعين.

الباب الثامن في حكم الأسد الزاهد وأمثال الجمل الشارد

الباب الثامن في حكم الأسد الزاهد وأمثال الجمل الشارد

(قال) الشيخ أبو المحاسن من هو لجرعة الفضل أحسن حاسن فلما وعى الملك الجليل والقبل الفضيل ما جرى بين الأسد والفيل من القال والقيل وانجرار ذلك الضرب الوبيل وعلم أن عاقبة الظلم وخيمة وخاتمة التعدي والطمع مشومة أمر رؤساء المملكة وزعماء السلطنة بالكف عن الطمع وتجنب الجبن والهلع ومعاملة الأهل والجار بحسن الخلق والحوار وانتشار ذلك بالإشهار في الولايات والأقطار فالعاقل من اعتبر بغيره وكف كفه عن أذاه وضيره ونشر مهما استطاع من موائد إحسانه وخيره وعدى عن التعدي والعدوان لا سيما إذا كان ذا قدرة وإسكان وتحكم في الفقراء والضعفاء وسلطان فنهض الحكيم حسيب وقيل أرض العبودية بشفاه التأديب وقال وبلغني أيها الملك المفضال مما يطابق هذه الأحوال أنه كان في بعض الأزمان وأنزه الإسكان سلطان الحيوان أسد عظيم الخلقة جسيم الشفقة جليل المكارم سليل الأكارم قد بلغ في الزهد الغاية وفي الورع والعفة النهاية مع حسن الأوصاف والشمائل وكرم الأعطاف والفضائل قد جمع بين الهيبة والشفقة والصدق والصدقة وسورة الملك وسيرة العدل وسيمة الفضل وشمية الفضل هيبته ممزوجة بالرأفة وعاطفته مدموجة في الصوله قد عاهد الرحمن بالكف عن أذى الحيوان وأن لا يريق دماً ولا يتناول دسماً ولا يرتكب محرماً يتقوت بنبات القفار ويقوم الليل ويصوم النهار يرعى في دولته الذئب مع الغنم وينام في كنف ضمانه وكفالة مأمنة الثعلب والأرنب بعد الحرب والحرب في ظل الضال والسلم كما قيل: ولي البرية عدله فتمازجت ... أضدادها من كثرة الإيناس تحنو على ابن الماء أم الصقر بل ... يحمي أخو القصباء أخت كناس

وفي جواره دوحة كثيرة الثمار غزيرة الأنهار نضيرة الأزهار رائقة الماء والكلا فائقة النشور والنما شائقة النشر والهوى رياحينها طريه ومروجها بهية ومقاصفها شهية فكان الأسد ذو الزهاده إذا أطال اجتهاده وأراد أن يربح نفسه من مشاق العبادة يتوجه إلى ذلك الروض الأريض والمرج البهي الغريض والمرعى الطويل العريض فيتنزه في نواحيه ويسرح سوائم طرفه فيه ويشغل صادح لسانه بتسبيح خالقه ومنشيه فبينما هو في بعض الأوقات يتمشى في تلك الخضراوات صادف دباً عظيم الجسم مليح الوسم فقبل الأرض بين يديه وذكر أنه أقبل لينتمي إليه وأنه قد سمع بأوصاف عدله ومكارم شميه وفضله فقصده ليتشبث بأذياله وينتظم في سلك خيله ورجاله ويزجى في خدمته باقي عمره ممتثلاً بارز مرسومه ونافذ أمره فتلقاه بالقبول والإقبال وشمله بالفضل والافضال وقال له طب نفساً وقر عيناً لقيت زينا ووقيت شيئاً فانتظم في سلك خدمه وانغمر في بحر كرمه واشترط عليه أن يحتمي عن لحوم الحيوان ولا يتعرض لإيذاء طائر ولا إنسان فامتثل ذلك بالسمع والطاعة وسار على سنن السنة والجماعة ثم بعد مدة يسيرة قصد الأسد مسيرة وخرج يسير على باكر وحوله طائفة من العساكر فلقى جملاً ضل الطريق وتاه عن الصاحب والصديق ونسيه الجمال وتركه الرفيق فبادر إليه جماعة الأسد وهموا بتبضيعه بالناب واليد فانهم كانوا الشدة القرم ألهبت أحشاؤهم بالضرم فناداهم الأسد ويلكم كفوا وعن التعرض إلى إيذائه عفوا لئلا لئلا يصيبه من الكيد ما أصاب صاحب كسرى ذي الأيد من كسرى لما خرج صباحاً إلى الصيد فقبل الجماعة الرغام وسألوا الإمام عن بيان ذلك الكلام

(فقال) ذكر أن كسرى أراد يوماً الاصطياد فركب في جماعته وأهل طاعته وسار على الصباح وهو في نشاط ومراح وابنساط وانشراح فصادف رجلاً كريه المنظر مشوه الخلقة أعور فتشاءم بطلعته وتعوذ من رؤيته وتطير من صياحه وتكدرت صفو انشراحه ثمن أمر به فضرب ولولا تداركته الشفاعة لصلب ثم تركه وسار نحو صيد القفار فحاش الصيد واقتنصه من عسكره عمرو وزيد ورجع مسروراً فرحاً محبوراً وأدركه المساء فصادفذلك الرجل ملتفاً بكساء وكان ذا لب صحيح وعقل رجيح ولسان فصيح فأبدى كسرا ونادى كسرى واستوقفه بعدما استلطفه وقال أيها العادل والمالك الفاضل أسألك بالله الذي ملكك رقاب الأمم وحكمك في طوائف العرب والعجم أنعم على برد الجواب وبين لي الخطأ من الصواب فانك عادل حكيم فاضل كريم فوقف بعسكره واستنصت لخبره وقال هات مقالك وقل ما بدا لك فقال يا ملك ذا الأيد كيف كانت أحوالك اليوم في الصيد فقال على أتم ما نريد لقد حصله السادات والعبيد فقال هل حصل في أمور السلطنة وهن أو خلل أو في الخزائن المعمورة نقص وقلل قال لا بل أحوال السلطنة مستقيمة وديم الخزائن دارة مقيمة قال فهل ورد اليوم من الأطراف خبر يؤذن بتشويش واختلاف قال لا بل الجوانب مطمئنة والثغور من الأعداء والمخالف مستكنة قال فهل أصاب أحداً من الخدم والأصحاب والخول والحشم مصاب قال بل كلهم بخير آمنون من الضرر والضير قال فلم ضربتني وأهنتني وعلام كسرتني وطردتني قال لأن التصبح بك مشوم وهذا أمر مشهور معلوم قال سألتك بالله الذي تتقلب في مواهبه أينا كان أشأم على صاحبه أنا تصبحت بم وأنت تصبحت بي فأنت أصبت الذي

ذكرت وقد علمت ما حل بي ومع هذا فإنما عبت وعتبت على الصانع وذهلت عما أودعه في من أسرار وبدائع فانه لا اختيار لي فيما فطرني عليه ولا مدافع ولا حيله فيما قدره علي ولا ممانع واسمع ما قلت بعدما وصلت في إهانتي وجلت: لقد كان قصدي أن أسود على الورى ... بقد وطرف كامل الخلق بارع ووجه يفوق البدر والشمس بهجة ... فعاكسني تقدير ربي وصانعي ثم خطر بالبال هذا المقال قلت: وددت لو أني أحسن الخلق صورة ... وأكمل من بدر السما وهو طالع فأبدعني نقش المصور هكذا ... ولا صنع لي فيما بي الله صانع فتنبه كسرى لكلامه وأمر بإعزازه وأكرمه وتدارك ما فرط منه بإحسانه وإنعامه (وإنما أوردت) هذا المثل لئلا يكون هذا الجمل مثل ذلك الرجل لأنه قد تصبح بي فلا أبدأ مكروهاً بسببي بل يرى الخير ويكفي أذى الغير وكذلك كل من هو عندي ومنسوب إلى من خولي وجندي ثم عاد ذلك البعير وسأله عن جليل أمره والحقير فأخبره أنه تاه عن أصحابه وأنه من بعد يتعلق بغرز ركابه ويلازم خدمة بابه كأصحابه فاكرم مثواه وأحسن متبوأه ومأواه إلى أن صار من أكبر الخدم وذا خول وحشم ورأس الندماء ورئيس الجلساء وأمن النكد والبوس وسمن حتى صار كالعروس فحسده الدب لعدم اللب وعزم بمكره على إلقائه في الجب واشتد بذلك البرم إلى أكل لحم الجمل القرم فأخذ

يضرب في ذلك أخماساً لأسداس وأحتوشه في قضيته لسوء طويته القلق والوسواس فلم ير أوفق من إفساد صورته وأظهار سوء سريرته فيهلكه ويكيده ويفتنه ويبيده فيصل منه إلى ما يريده ويثمر بمكره الحسد ويصلح من شرهة ما فسد ويروج منه ما كسد فأدى فكره إلى أن يغري به الأسد فاختلى بالجمل وأبتدأ بالعمل وقال له لي معك كلام على كتمه منك ألام ولكنك لست موضعاً للسر لأنك لا تعرف هرامن بر وأنت ساذج ساكن سليم الفكر والباطن وقد قيل الحماقة في الطويل ولولا وفور شفقتي وحنوي عليك ومودتي ما فهمت لك بكلمة ولتركتك من التيه في ظلمه وقالت الحكماء ذو المعارف لا تفش سرك إلى طوائف منها سليم الفطرة ومنها مد من الخمرة ومنها الكثير الكلام ومنها المرأة والغلام فأنهم ليسوا محل الأسرار وأنهم يغشونها بلا اختيار وقد قيل كم إنسان أهلكه اللسان وكم حرف أدى إلى حتف قال الجمل وقد أثر فيه مكره ودخل يا أخي أتحقق شفقتك وصدقك وصداقتك وأعرف محبتك ونصحك ومودتك وأنت لا تحتاج في تجربتي إلى دليل في صحبتك زمان كقدى طويل وأنا أوكد قولي بالإيمان وأعقد على ما تلقيه إلى الجنان ولا أتفوه به لجماد ولا حيوان والشخص إذا لم يعرف منه ما يراد فلا فرق بينه وبين الجماد واذكر ما قلت لك في درب ابن تلك: ومن كان ذا عين ولا يبصر الذي أمامه فهذا والضرير سواء وذو الجهل خير من عقول علومه ... سراج ولكن ليس فيه ضياء ثم أنشأ ايماناً غلاظاً أنه يبالغ فيما يسمع منه احتفاظاً ولا يبدي منه

لا ما ولا فاء ولا ظا فلما وقف الدب على جوابه وربطه بزمام تدبيره اختلى به وقال تعلم أيها الصديق المبين أن ملكنا في غاية العفة والدين وأعلى درجات العباد والزاهدين قد فطم نفسه عن الطعوم خصوصاً عن الدماء واللحوم ولكنه في ذلك كله غير معصوم فانه قد تربى بلحم الحيوان وتغذى بافتراس الأقران وتعد رضع الدماء وقطعت سرته على هذا الغذاء وتزهده إنما هو تكلف وتعسف وتصلف وتعففه مكابرة وتورعه مصابره ولا بد للنفس أن تفعل خاصيتها وتجذب شهواتها إليها ناصيتها وتطمح إلى مأزرها وتجمح إلى مركزها وقال الله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وإذا كان ذلك كذلك فاحتفظ لنفسك واحفظ نصيحتي وأمسك وتفكر أحوال غدك في أمسك فانك في صحبة الأسد على خطر عظيم وخطب جسيم فلا تغفل عما قلت لك ولا تظن أنه لن يقتلك فداخل الجمل من هذا الكلام الخور ولم يبق له طاقة ولا مصطبر ثم ثبته التوفيق وتخلل في هذا الأمر الجليل فكرة الدقيق واستحضر رأيه في أمره وأجال قداح فكره وقال للدب المشوم يا أخي فأي ضرورة دعت الأسد الغشوم حتى تعفف عن أكل اللحوم قال أنا لا اشك في دينه ولا أرتاب في حسن يقينه ولكن ربما تعود المياه إلى مجاريها وتعطي القوس باريها وتتحرك النفس الأبية والشهوة التي طالما ألقت صاحبها في بلية لأن الإنسان بل سائر الحيوان على ما يقتضيه الكون والمكان دائرة مع اختلاف أخلاق الزمان فان الزمان كالوعاء والشخص فيه كالماء فيعطيه من إخلافه ما يقتضيه من كدره وصفائه ولهذا قيل لون الماء لون إنائه وقد قيل الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم وناهيك يا ذا الكرامات

ما قيل في المقامات: ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده تعاميت حتى قيل أني أخو عمي ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده والأسد في هذا الأوان ماش على ما يقتضيه الزمان وإن الزمان يتحول وسير جمع الأسد إلى خلقه الأول أما بلغك يا ذا الفطنة الحية قصة الحائك مع الحية قال لا ورب البرية فأخبرني عن كيفية تلك القضية قال الدب الأفك ذكران حائكاً من الحياك كانت له زوجة تخجل شمس الأفلاك صورتها مليحة وسيرتها قبيحة فشم زوجها روائح ما هي عليه من القبائح وخاف أن يؤدي إلى الفضيحة فطلب تحقيق ذلك ليوصلها إلى المهالك فقال لها أريد ضيعه لأجل بيعه فأغيب أياماً يسيره لفائدة كثيرة فارصدي بابك وأسدلي حجابك واحفظي من الشر جنابك فقالت بيت أنت رئيسه ومثلي قعيدته وعروسه أنى يحوم حوله فساد فأدرك سوقك قبل الكساد وجزته أسرع جهاز كالمتوجه إلى الحجاز فسافر من غير مريه ثمن رجع إلى البيت في خفية واختبأ تحت السرير لينظر ما يجري فبادرت إلى النار ونفخت وأسرعت إلى الطعام وطبخت وخرجت تدو مرامها وقد هيأت طعامها فخرج زوجها من المخبأ وأتى على الطعام المهيأ ورجع إلى مكانه ونام بعد أكله الطعام فجاءت المرأة بحريفها وقصدت الطعام لمضيفها فصادفت يدها الحصير فعرفت أن البلاء تحت السرير فأخذت تطلب المخلص من ذلك المنقص واتفق أن الملك رأى مناماً هاله ولكن نسي هيئته وحاله فقصد من يخبره برؤياه ويعبر هاله فنادى في الورى يطلب لمنامه مخبراً ومعبراً وبينما تلك الفاجرة على حيلة الخلاص دائرة وفي بحر الأفكار حائرة سمعت المنادي ينادي في كل نادي من يدل الملك الهمام على معبر المنام فله

مزيد الإكرام والإنعام العام فسارعت المرأة إلى باب الأمير وقالت قد سقطت على الخبير أن لي زوجاً حكيماً بتعبير المنامات عليماً لكنه يتعزز وعن تعبيرها يتحرز فلا يفوه بالتعبير إلا بعد ضرب كثير وأنه ليس له في ذلك نظير فأرسل وراءه وأكرم لقاءه ثم قال له بعد إكرام أوصله ووعده بأنعام وصله رأيت مناماً راعني وفي الحيرةوالفكر أضاعني فدع عنك الاحتشام وأخبرني عن ذلك المنام ثم عبره لي فقد أخبرت أنك حبيب لله ولي فقال يا مولانا الملك أنا في الجهل منهمك حائك فقير ليس لي من العلم نقير ولقد كذب علي من نسب العلم إلي والعين تعرف العين أنا من أين وتعبير الرؤيا من أين فما صدقه ولا في كلام استوثقه وصدق قول المرأة فيه بإيصاله ما ينكيه ثم طلب المقارع وشدوا منه الأكارع وضربوه ضرباً أعسفه إلى أن كاد أن يتلفه فنادى الأمان الأمان أمهلني ثلاثة أيام من الزمان فتركوه وأمهلوه وقيده أطلقوه فصاروا بدور في الخرائب ويتضرع تضرع النائب ففي ثالث الأيام وقد أيقن بحلول الحمام دخل إلى مكان خراب وأخذ في البكاء والانتحاب فنادته حية من الشقوق مالك تنتحب يا ذا العقوق فأخبرها بحاله وما جرى عليه من نكاله فقالت ماذا تجعل لي من الأنعام إذا أخبرتك بما رآه الملك في المنام ثم فضضت عن تعبيره مسك الختام قال أكون لك عبدا وصيفا وأعطيك مما أعطى نصيفا قالت إن الملك رأى في منامه أن الجو يمطر من غمامه أسود ونمور وفهودا وببور وأن السماء في ذلك تمور وتعبير هذا المنام والله أعلم أنه يظهر في هذا العام للملك أعداء كواسر وحساد جواسر يقصدون هلكه ويريدون ملكه وسيطفئ نار كيدهم بمياه سيوفه ويسقيهم من رحيق فتوحه كاسات حتوفه فكشفت غمته

ثم أصلح لباسه وعمته وقصد باب الملك ونادى غير مرتبك وذكر المنام وعبره ووعد السلطان بالنصر وبشره فتذكر المنام وحققه واعتمد عليه وصدقه وأمر له بألف دينار وصار له عند الملك بذلك الاعتبار فأخذ الذهب مجبورا وانقلب إلى أهله مسرورا ثم افتكر ما اشترطه مع الحية فأبت عن الوفاء نفسه الشقية وخاف أن تطالبه بحصتها أو تفضحه بقصتها فلم ير أوفق من قتلها وسد ذريعة سلبها فأخذ عصا ورام بذلك مخلصا وقصد مأواها ووق فناداها فخرجت مسرعة إليه وأقبلت بالوداد عليه فرأت العصا بيمينه فعلمت أنه ناكث بيمينه فولت هاربة فضربها ضربة خائبة لكنه جرحها وعمد إلى نفسه ففضحها وتركها وذهب فائزا بالذهب فاتفق أن في العام الثان رأى السلطان مناما أقلقه وعن نومه أرقه ومن شدة أهواله محاه الوهم عن لوح خياله فدعا المعبر المعهود إليه وقص حاله عليه وطلب منه صورة المنام وما يترتب عليه من كلام فاستمهله الأيام المعدودات وقصد رئيسة الحيات وناداها عجلا ووقف في مقام الاعتذار خجلا فقالت أي غدر كيف استحليت ما مضى من فعلك ومر بأي وجه تقابلني وتخاطب وقد قصدت عطبي بعد ما خلصتك من المعاطب وقابلت إحساني بالسوء ولكن غدرك بك يبوء فقال عفا الله عما سلف والصداقة بيننا من اليوم تؤتنف ثم أنشأ أيمانا أنه يبدل الإساءة إحسانا وأنه لا يخون ولا يمين فيما يقع عليه العهد واليمين بل يعود إلى العهود ومهما وقع عليه الاتفاق لا يمازجه خلف ولا نفاق فقلت أريد جميع الجائزة لأكون بها فائزة ولها حائزة فأجابها إلى ما سألت وعاهدها على ذلك فقبلت وقالت رأي الإمام في هذا المنام أن السماء تمطر قردة وفيرانا

وثعالب وجرذانا وتعبير هذه الرؤيا وكلمة الله هي العليا في هذا العام والشهور والأيام يكثر اللصوص والعيارون والمكرة والطرارون ويظهر في العساكر كل حسود ماكر وشيطان داعر ولكن صولة الملك تمحقهم وصواعق سيوفه تصعقهم فأسرع إلى السلطان وخبره بما رآه في منامه وعبره فقال بالحق أتيت هذا الذي كنت رأيت ثم أمر له بجائزة سنية وخلعة بهية فصار في عيشة مرضة وحياة هنية وسلك طريقته الدنية فلم يلتفت إلى عهوده القوية ونبذ عهد الحية الحبية وقال يكفيها مني كفي عنها فلا تطالب مني ولا أطلب منها ثم أن السلطان رأى في المنام في ثالث الأعوام مناما آخر ونسيه فأرسل إلى المعبرة فغشيه من يم الهم ما غشيه وسأله عما رآه وطلب منها تعبير رؤياه فطلب كما كان وأحاط به موج الهم من كل مكان ولم ير بدا من معاودة الحية فأتاها وبه من الحياء كية وناداها بصوت خاشع ووقف في مقام الذليل الخاضع فخرجت فرأته وزأرته وقالت يا خائن يا كذاب يا ناقص العهد يا مرتاب يا قليل الحياء يا كثير البذاء يا صفيق الوجه يا حقيق النجه ترى بأي لسان تخاطبنيوبأي وجه تقابلني وقد ختلت وفتلت وفعلت فعلتك التي فعلت فقال لم يبق للاعتذار مجال ولا للاستقالة مقال وما ثم طريق إلا معاملتك بالأفضل فأن أفضلت أتممت الإحسان وإن رددت فعذرك واضح البيان

وهذه المرة الثالثة لا تكون يمينها حانثة ولا عهودها ناكثة وأشهد الله وكفى به شهيدا أني بعد لا أنقض لك عهوداً ولا أجل مما بيننا عقوداً لا أخبرك بشيء أن لا تعهد إلى أن تعطيني جميع ما تعطي وتكف هما وقع منك من الخطأ فسمع مقالها وأجاب سؤالها فقالت رأى الملك في منامه كان الجو أمطر من غمامه ما ملأ الفضاء من خرافه وأغنامه وتعبير هذا المنام أنه يكون في هذا العام من الخيرات والأنعام ما يشمل الخاص والعام فتطيب الأوداء وتصالح الأعداء وتطيع العصاه وتذعن البغاة ويوافق المخالف ويكثر المحب والموالف فاحفظ ما قلت لك فقد حللت مشكلك فتوجه بصدر منشرح وخاطر مطمئن فرح وقص المنام وعبر ما فيه من الأحلام فطار الملك بالفرح وتم سروره وانشرح وأمر بالجوائز فصبت عليه وبالأموال فانهالت إليه فنعم بتلك العطبه والخلع السنية وقصد وكر الحية ثم وقف وناداها وقدم إليها كل ذلك وأعطاها وشكر لها إحسانها وتحمل جيلها وامتناعها فقالت له الحية أعلم يا أبلم أنه لا عتب عليك ولا ملام فيما جنيته أولا من الآثام ولا ما ارتكبته من العداوة والمين في العاملين الأولين ولا فضل لك في هذه السنة على ما فعلته من الحسنه فان ذينك العامين كانا مشتملين على قران النحسين فكان مقتضى حالهما فساد الزمان والعداوة بين الأصدقاء والأخوان ووقوع البغضاء والشرور والحنث والخلف وقول الزور فجريت على مقتضاهما حسب مرتضاها والناس في طباعهم وأيامهم أشبه بزمانهم منهم بآبائهم

وهذا الأوان قد انصلح الزمان واستقام الطالع وزال الحسد والتقاطع واقتضى الزمان الصلح والصلاح والموافقة والفلاح فمشيت على موجبة وتشبثت بذيل مذهبه فخذ مالك وانصرف بارك الله لك فيه فلا حاجة لي به ولا يد لي لتقلبه (وإنما) أوردت هذا المثل أيها الجمل لتعلم أن الزمان لتقلبه في الدوران يوقع بين الأصحاب والأخوان ويباين بين الأصدقاء والخلان والأسد المجتهد وإن كان قد زهد وترك من أخلاقه ما عهد فيمكن عوده إلى حاله الأولى فالاحتراز منه في كل حال أولى وها أنا قد أخبرتك ومن سوء العاقبة حذرتك وعلى ما وصل إليه فكري أطلعتك وفرط محبتي وشفقتي عليك اقتضى إفشاء السر إليك ومن أنذر فقد أعذر ومن بصر فما قصر قال الجمل يا أخي فنترك هذا المقام ونروح ونخدم من في خدمته نستريح قال الدب الجاحد إذا كان هذا العابد الزاهد الراكع الساجد الذي قد تعفف عن أكل اللحوم وليس له دأب إلا إغاثة المظلوم قد عف عن الدماء وقنع بأكل الحشيش وشرب الماء لا تؤمن غائلته ولا تعتمد خاتلته فإلى اين نتحول وعلى من يكون المعول وأنى نذهب وفيمن نرغب قال الجمل فكيف يكون العمل فلقد ضاقت بنا الحيل وتقطعت بنا السبل لا طريق للمفر ولا قرار للمستقر فأفكر الدب طويلاً ثم رأى رأياً وبيلاً وقال أرى الرأي السديد والفكر المفيد أن نبادر الأسد قبل وقوع النكد فنقصده بما يقصده ولا نوصله إلى ما يعتمده فالعاقل يفتكر في عواقب الأمور ويقيس بفكره

السرور والشرور ويستعمل الحزم وإذا قصد أمراً يصمم العزم وناهيك قضية الثعبان مع ذلك الإنسان قال الجمل أخبرني عن تلك القضية ومن ذلك الإنسان وما تلك الحية (قال) أبو حميد الخبيث بلغني من رواة الحديث أن شخصاً من الصيادين كان مغرماً بصيد الثعابين يتسبب بصيدها ولا يبالي بكيدها فبينما هو يسعى إذ صادف أفعى شرها ناجز كما قال الراجز: أرقش ظمآن متى غص لفظ ... أمر من صبر ومقر وحظظ وقد أثر فيه الحر بالحرق وهو نائم في مكان منطبق فاستبشر الحواء برؤيته وقبضه من عقصته فلم يفق الثعبان من رقدته إلا وهو من الحاوي في قبضته فتماوت وامتد وارتخى فأسبل بعد ما كان اشتد فظن الصياد أنه مات وإن مراده منه فات فتحرق لذلك وتألم عليه وتضرم وحرق عليه الأرم ورماهمن يده ثم دار في خلده أن في بطنه خرزة بهية مشرقة مضيه فاخرج الشفرة وقصده ومد لتبضيعه يده فلما تحقق الأرقم ما عزم عليه وصمم خدعه وختله وضربه فقتله (وإنما ذكرت) يا أبا أيوب هذا المثل المضروب لتتحقق أن المبادرة إلى اهلاك العدو أقر للعين وأجلب للهدو ومن فوت الفرصة وقع في غصة وأي غصة وهذا الأسد غفلنا عن أنفسنا أبادها وقصد دمارها وفسادها ولا يفيدنا إذ ذاك الندم بعد ما زلت القدم وتحكم في وجودنا من مخالبه العدم

فقال الجمل أعلم أيها الرفيق الصديق الشفيق إن هذا الملك آوانا وأكرم مثوانا ولم نشاهد منه سوأ ولا من ظلمة باطنة أنسناضوأ ولو قصد أذانا ما وجد دافعاً ولا ممانعاً وقد علمنا أنه ترك الأذى وكف عن الشر والبذا تعففاً لا تخونا وتكرما لا تكلفاً واختيار الاضطرار وجبر الكسر نالا إجباراً وأما أنا على الخصوص فلم أر منه إلا الجميل والفضل الجزيل والإحسان العريض الطويل فلأي شيء أشرع في أذى نفسي وأكدر في حدسي ولم يظهر لي منه أماره لا بمقتضى ولا بدلالة ولا بإشارة فضلاً عن سباق أو سياق بعبارة وأنا لو مت كمدا ما قصدته بأذى ولا رديته برداء ردى والصوفي ابن الوقت لا يتقيد بنكد ولا مقت فان قصدني بعد ذلك بشر أو تعرض لي بهلاك وضر لا يسعني معه إلا التفويض والتسليم والتوكل على العزيز العليم مع أني لا أقدر على مقاومته ولا قوة لي في دفع مصادمته ولا طاقة لكسر أنيابه ومخاليبه ولا خلاص من إشراك أساليبه غير أني وإن كنت منسوباً إلى التغفل لا أدع من يدي ذيل التوكل فبالتفويض يحصل النجاح وبالتوكل يظفر بالفلاح كما جرى لذلك الفلاح مع الذئب والشجاع حال التوكل على الله تعالى والانقطاع فسأل أبو سلمه إيضاح هذه الكلمة (قال) أبو صابر بلغني من أحد الأكابر أن شخصاً فلاحاً توجه إلى ضرورة صباحاً من غير رقيق ولا حامل سلاحاً فبينما هو في البيداء سائر صادفه ذئب داعر خاتل خاتر فقصده ليكسره ففر وصعد إلى شجره فترصد نزوله وانتظره تحتها ليغوله فانعصر وعن ضرورته انحصر وبينما هو في تلك البلية وقعت عينه على حية رديه ذات قرون صاعدة وهي على بعض الفروع راقدة فازداد همه وأحاط به لوهمه غمه فاستمر بين بليتين وانحصر في ديوان داهيتين دهيتين فلم يرأ وفق من التوكل

على الله والإعراض عما سواه فاعتمد متوكلا عليه وفوض أموره إليه وبينما هو في تلك الشدة وقد بلغ ضره حده وإذا برجل مقبل من الفلا وعلى عاتقه عصا فقصده الذيب من قريب فلما رأى السلاح فروله كلاح فنزل الفلاح من الشجرة وأزال الله تعالى همه وضرره (وإنما أوردت) هذا المثل لتعلم أن الله نعم المتكل فأخرج هذا الوسواس من القلب والراس ولا تبك سلفا ولا تعجل تلفا ولا تخلع الحذاء يا ذا الرياضة قبل أن تصل إلى المخاضة ولا تهتم لأمر ما وقع فإن ذلك من شر البدع فإن قصدنا بسوء فالله يكافيه ويكفينا بحوله وقوته فيه قال الدب ذو الضرر هذا رأي القاصر في النظر العاجز في الفكر فأما ذو الفكر الثاقب فلا يغفل عن العواقب فكل من قصر عن العواقب نظره ولم يسدد في الأمور فكره فهو كمن تعلقت النار بأهدابه والتهبت لإحراق ثيابه وهو مشغول عن إطفائها متساهل في كشف أنبائها فلم يفق إلا وقد نشبت وأعضاؤه بالنار التهبت فما تفيده الإفاقة وقد صار حراقة قال الجمل يا أخي أفق من محالك وعالج فساد تصورك وخيالك وانظر قوة جلدك وكيفية حالك أنا لحمي من صداقات الأسد وحبه في دمي وعظمي ثبت كيف أجحد نعمه أو أريق دمه وأنا غرس صدقاته وبنيان نفقاته ورفيق حضرته وعتيق منته مع إني لو نبذت عهده فقطعت ما قطعت وعزمت على مناوشته ما استطعت أما وعيت في معاني ما رويت: هي العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا تريد صيد العقاب بفرخ الغراب أن تقتنص الذئاب بجرو الكلاب وتبغي بالقرود كسر الفهود أم بالسنانير تصيد الأسود ولا والله

لا أقصده بأذى ولا يطاوعني قلبي على ذلك أبدا ولو فعلت ذلك لسعيت في دماري وخراب دياري وجدعت أنفي بكفي وبحثت عن حتفي بظلفي وجززت بيدي رأسي وقطعتقدمي بفأسي وقلعت بإصبعي مقلتي واستحفظت ملك الموت مهجتي ولصرت من أكبر المعتدين وأفسدت ديني ودنياي والله لا يحب المفسدين قاطعوني هذا الكلام وارجع عن مفاوضتي بسلام ولا تشكك به جنانك ولا تحرك به لسانك وكان بالقرب منهما وكر فارة وقد سمعت ما جرى بينهما من عبارة ووعت كلامهما وما دار بينهما من كل منهما فلما رأى الدب المريد أن كلامه للجمل لا يفيد أمسك واحتشم وأخذه في ذلك الندم ولكن حال من الجمل الحال وأثر فيه هذا المقال واستولى عليه من الأوجال ما أداه إلى الهزل وصيره من الانتحال كالخلال وذهب ما كان عليه من النشاط وداخله الهم والاختباط وصار كل يوم في انحطاط ولم يزل بين نضو ورزاح ورازم ونازح فتعجب الأسد من حاله ولم يقف على سبب هزاله وكان عند السد غراب مقدم على الأصحاب هو وزيره ومعتمده وصاحب أخباره وعضده فعرض عليه حال الجمل وما شاهده منه من وجل وقال أنا عففت عن أكل اللحوم ورضيت من العيش بأدنى الطعوم وهذا أمر قد عرف واستقر فما بال هذا الجمل لا يأخذه مقر فأريد أن تعرف حاله وتخبرني صدقه ومحاله

فتوجه الغراب إلى منزل الجمل وقد اخلص في القول والعمل وسأله عن حاله وموجب هزاله وانتحاله وما سبب هذا الرزوح والرزوم المؤدي إلى النزوح فما أحار جوابا ولا ذكر خطأ ولا صوابا فصار الغراب يرتقبه وحيثما توجه يعتقبه ففي بعض الأيام كان الغراب على بعض الآكام رأى الجمل قد أقبل إلى الماء ليطفئ بشربه سورة الظمأ فتخفى الغراب واقتفى ظهره إلى أن قاربه وكمن خلف صخرة فسمعه يقول بعد ما شرب وقد رأى السميكات في اللعب لك الحمد يا رب ما أرحمك وطوبى لكن يا سمك لا من رئيسكن تخفن ولا من هيبته ترجفن لا ملك يهولكن ولا سلطان يغولكن ولكن البكاء على الجمل الذي ضاقت به الحيل قد وقع في دردور البلاء ولا يهتدي إلى طريق النجاء بل ولا يدري عاقبة أمره المهول ماذا تؤول إلى الغرق والندامة أم إلى النجاة والسلامة ثم أخذ في الانتحاب إلى أن أبكى الغراب فلما رأى أبو القعقاع هذه الأوضاع قضى من الأمر العجاب ما يستشيب منه الغراب ثم توجه إلى أسد الشمري وعرض عليه ما جرى بتخيير المشتري فتشوش فكره وتشور أمره وضاق بالهم صدره وقال أنا كففت عن الشر والشره وعففت عن ذاك كان يرني ولم أره وتركت القرم والأذى وفطمت نفسي عن لذيذ الغذا ليأمنني أصحابي ويأنس بي أحبابي فإذا لم يستقر خاطرهم ولم تطمئن على محبتي سرائرهم أي فائدة لي في الحياة وكيف أخلص في حرم المودة من كدر العيش إلى صفاه وكل ملك لا تصفو له رعيته ولا ترسخ في قلوب جنده محبته كيف يثبت سلطانه أو يساعده عند الشدائد أعوانه أنا بذلت جهدي وطاقتي وتشبثت بأذيال الصلاح على قدر استطاعتي ولم يبق إلا

التضرع والاستكانة والتخشع إلى مقلب القلوب وعلام الغيوب ليكشف هذه الغمة ويصلح هذه الأمة ويجلو عن جبين الحق بهيم هذه الظلمة ثم تضرع إلى عالم الأسرار ليطلعه على حقيقة هذه الأخبار ثم أمر باجتماع جماعته المقيمين على محبته وطاعته وعرض عليهم هذه الأحوال وطلب منهم استكشاف ما فيها من الأهوال وقال اعلموا أني أمنتكم من مخافتي وبذلت لكم بدل عنفي لطافتي وقد حققتكم مرامي وصدقتم كلامي وعرفتم أخلاقي وشدى أعلاقي كل ذلك لتطيب خواطركم وتصفو لي سرائركم ولم أفعل ذلك عجزا ولا خورا ولا تهاونا ولا ضجرا وأنا الآن آمركم بواحدة هي أجلى فائدة أن لا تكتموا عني شيئا تكرهونه مني بل أوقفوني عليه وأرشدوني إليه ثم اجهدوا إني أمنعه عني فإن فيكم أجل محبوبي من أهدى إلى عيوبي وقد قال سيد الأنام عليه افضل الصلاة والسلام اللهم أبلغه أفضل التحيات عنا من غشنا فليس منا وإنما أوردت هذا الكلام في هذا المقام بحضور الخواص والعوام على سبيل التحذير والإعلام والتنذير وأقسم بالله العلي الكبير اللطيف الخبير الذي منه المبدأ وإليه المصير لم يكن في خاطري من أحد حقد ولا حسد ولا هجس بخاطري له إيذاء ولا نكد وهاأنا قد أخبرتكم وبإطلاعي أمرتكم فلم يبق لي ذنب يستغفر منه ولا لكم في الإخفاء ما يعتذر عنه وإن الله تعالى لا يعذب بضلال الأسافل بل يهب للأعالي الأراذل فإذا

فسد الرأس تغيرت الناس فحل البأس ولقد قال خالق البرية وباريهاوإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فقام الحاضرون في مقام العبودية والولاء وبسطوا ألسنتهم بأنواع الثناء والدعاء ونادوا بكلمة واحدة متفقة متأكدة حاشا الله ما علمنا عليك من سو ولم تزل تطيب علل تقصير ناوتاسو وتستر بذيل عفوك كل عارمنا وتكسوو كان هذا الكلام للأكابر وقد اجتمع المبادي والحاضر وأبو حميد المفتن فيما بينهم حاضر فأدرك بهذا العمل أن الأسد شعر بشيء من جهة الجمل فاستدرك فارطه وسلك المغالطة ثم اختلى بالأسد ولم يكن معهما أحد وقال كان مولانا الملك وقاه الله شر المنهمك أحس بشيء أوجب تقرير كلامه لطائفة جنده وخدامه وأنا عندي كلام لم يطلع عليه أحد من الأنام ولم أبده للملك بحضرة الجماعة لأنه ربما لا يقصد الملك به الإذاعة ولا يمكنني إخفاؤه وقد كان إبداؤه فاعلم أيها الملك الهمام كفاك الله شر اللئام أنه كما يستحقر العالم الجاهل كذلك يزدري الجاهل العاقل وذلك لقصور فهمه وعدم علمه ومهما أحاط الخادم بمرتبة مخدومه وزاد علو قدره في معلومه ازداد في قلبه وجوارحه مقدار تعظيمه واستقرت هيبته في قلبه وروحه وصارت كوش خشيته تنادمه في عبوقه وصبوحه وقد قال رب الأرض والسماء إنما يخشى الله من عباده العلماء وقول النبي عليه الصلاة والسلام أنا أعرفكم بالله وأخساكم لله إشارة إلى هذا المقام وكلما ضعفت معرفة الخادم بالمخدوم قلت قيمته عنده وهذا أمر معلوم

ثم اعلم يا ملكا أعظم أن الجمل الطويل الأمل قد اغتر بالملك حين كان في ذرى أمنه سلك وأحسن إليه غاية الإحسان وصار في عدم الوفاء كالإنسان وحصل له من سورة غضبه الأمان فجهل قدره وتعدى طوره وقد قيل: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فوضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندى وقال الله تعالى إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى وكل نفس لا تحتمل الجميل وحوصلة العصفور لا تسع لقمة الفيل وناهيك ما قد قيل في الأقاويل عن حماقة كل طويل فلا حرم فسد دماغه حين حصل فراغه وتطاولت نفسه في مسارها إلى أشياء لا يمكن أفشاها ولا يتفوه بها مسلم ولا يرضاها لأن ذكرها قبيح والكناية أبلغ من التصريح فلما سمع الأسد هذا المقال علم ببديهة العقل أنه زور ومحال ثم أرسل إلى الغراب وذكر له هذا الخطاب ليميز خطأه من الصواب ويبين القشر من اللباب فلما أتى الغراب إلى حضرته وجلا صورة هذا القول على مرآه فكرته قال له ضميرك المبارك في حل هذا المشكل لا يشارك فانه حلال المشكلات موضح المعضلات وأما أنا فلا أسمع هذا الكلام ولا أقبل في الجمل الملام فأني أعرف تواضعه ومسكنته وصبره وطاعته وإخلاصه وقناعته وأنه صادق في محبته مخلص في عبوديته وأعرف أن خوفه من الملك غالب على رجائه وأنه مع ذلك مقيم على سنن وفائه وعقود عهوده وصفائه ولو أراد الذهاب لذهب بسلام ولا في وظيفته قيد ولا في تبرته خطام

ثم قال الغراب والغالب على ظن ذوي اللب إن هذه الفتن أصلها وأصلاها الدب لأنه قد تقرر وتحقق واتفق كل حكيم موفق أنه إذا نقل ناقل محمق عن عاقل ابتدأ بالإحسان إساءة فلا يصدق فالملك لا يبادر في هذه القضية حتى يتبصر الأمر عن جليه وحاشاه أن يفرط في خدمة المخلصين من غير أن يتدبر أمورهم بيقين ويختلي بعبده الجمل ويتحقق منه أصل هذا العمل بعد استجلاب خاطره وتطييب سرائره وضمائره فاستصوب الأسد هذا الفصل واختلى بالجمل ليقف منه على هذا الأصل وسكن حاشه وأزال بلطيف الكلام استيحاشه وشكر في خدمته مساعيه وطلب بملاطفته مراضية ثم طلب من الجمل تفصيل ما بلغه من جمل وأكد قوله بالأيمان أنه لو صدر منه تقصير ونقصان ولو كان مهما كان فانه قد عفا عما هفا ولا يكدر من عيشه ما صفا ولا يمزق رقيق حاشية وفائه بالجفا ولا يتقيد بهفواته ولا يطالبه أبداً بزلاته فليطلعه على جلية الحال وليذكر ما وقع منه من أقوال وأفعال فافتكر الجمل في معاهدته مع الدب وأنه لا يفشي سر ذلك العديم اللب وكيف ينقذه من غضبي جمرشب وقضاء عمرة صب فقال إن أضعت صاحبي وإنسكت قصرت في جانبي ثم اختار كتم الأسرار وسلك طريق الأحرار والوفاء بالعقود وعدم نكث العهود وقال اسعد الله مولانا الذي بوجوده أحبانا أنى أتفكر في عواقب الأمور وأنظر في تقلبات الدهور وأخشى سطوات السلطان وأخاف من حوادث الزمان فلا أزال من هذا الخيال في انتحال وهزال إلى أن صرت إلى هذا الحال فان كان هذا ذنباً يوجب العقوبة فإن إزالته عن خاطري فيها صعوبة وهذه أوهام لا يمكن دفعها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها

قال الأسد فهل اطلعت على ما يوجب ذلك أو يدل على الإلقاء في المهالك وتضييق المسالك من حركات أفعالي أو من فلتات أقوالي أو تقلبات أحوالي أو نقل إليك ناقل من جاهل أو عاقل فأفحم الجمل الجواب وأطرق فلم ينطق بخطأ أو صواب فقال الغراب لا ينجيك إلا الصدق وكشف أستار الريب عن جبين الحق وكان حاضر هذه الفحوى خلد أعمى وهم عنه غافلون وعن استماعه ذاهلون ففي الحال توجه إلى الدب وقال صورة ما جرى بتخيير المشترى فعلم الدب إنه افتضح وأمره اتضح فنهض وما قعد ودخل على الأسد فرأى الجمل مطرقا لا يلوك منطقا فمد صولجان اللسان وخطف كرة البيان وسابق بالكلام خوفا من الملام وقال بلسان طلق كلام فاجر مختلق اعلم أيها الطويل الأبلم أنك لو أمسكت عن كلامك القبيح في وقتك الفسيح لكان أصوب وأحسن وأعجب لكن لما فهت بالعبر وأتيت بإحدى الكبر وصادمت القضاء والقدر وخنت ولي نعمتك وقصدت إهلاك الملك بقبح شيمتك أزال الله سترك وأبدى أمرك وفضحك وقبحك وبلجام الخزي كبحك لا جرم جرمك حسبك وإثمك العظيم أخرسك فأبهت الضرغام من هذا الكلام وشاب الغراب من هذا الأمر المشاب ووقعوا في الاضطراب والشك والارتياب واشتبه الخطأ بالصواب وقالوا إن هذا الشيء عجاب فقال الجمل للدب يا فقيد اللب يا قليل النصفة وعديم المعرفة وأنحس أفاك وأنجس سفاك وأبخس بتاك أتظنني خائفا من كلامك وخطابك عاجزا عن ملامك وجوابك أما كفى أني قصدت ستر

عوارك وإطفاء نارك ومفتكر في تلافي قضيتك وإخماد لهيب فتنتك وإهماد شرار مصيبتك وعلي تقدير التسليم وإني فهت بالكبر والأمر العظيم أكنت معك منفردا أم رأيت بيننا أحدا فغن كان بيننا أحد فأحضره إلى حضرة الأسد فإني أرضى به وبما بين ولا أدافع فيما يشهد ولا مطعن وإن كنت أنت وحدك فما منعك عن نصح الملك وصدك فأنت إذا أما خائن وإما مائن وهذا أمر محقق بائن ولولا أيماني التي ربطت بها لساني لكنت أظهرت البريء والجاني ولكن تحليفي إلى الكتم والسكوت ألجأني وسيظهر الله الحق ويفصل وللباطل صولة ثم يضمحل ووالله ما لك مثل مع المسكين الجمل إلا امرأة النجار لما أغلقت باب الدار قال أبو الحرث الغضوب أخبرنا يا أبا أيوب كيف كان هذا الحديث لنطلع على هذا الفعل الخبيث (قال) ذكر رواة الأخبار أنه كان هناك رجل نجار له زوجة تخجل الأقمار وتكسف شمس النهار كأنها الدنيا تخدع بملامح صورتها وتصرع بروائح سيرتها فكانت كلما رقد زوجها وهو تعبان انسابت إلى الأخدان انسياب الثعبان فتقضي الليل بانشراح في عناق وشرب راح إلى أن ينفجر الصباح ثم تنثني عائدة فلا يستيقظ الزوج إلا وهي عنده راقدة ففطن في بعض الأوقات لفعلها وراقب ليلة خيال خلتها فتراقد في الفراش وذهبت لطلب المعاش فنهض وراءها البحار وأوصد لما خرجت باب الدار واستمرت هي وصاحبها وزوجها مستيقظ يراقبها فلما عادت راجعة وجدت الأبواب مانعة فطرقت الباب من غير اكتراث واكتئاب فناداها يا خائنة اذهبي حيث كنت كامنة فقالت استر هذه الذنوب فإني من بعد أتوب فقال لها لا والله الرحمن حتى تفضحي بين الجيران فقالت

الموت أهون من الفضيحة فاغفر لي هذه القبيحة وأنا أحلف ياودود بالله الرب المعبود أني أتوب ولا أعود ثم ألحت عليه وتضرعت لديه فلم يفتح لها بابا ولا رد عليها جوابا فقالت والله اللطيف الخبير لئن لم تفتح الباب لألقين نفسي في هذا البير ولأرمينك بقتيل بين الحقير والجليل ثم عمدت إلى حجر كبير وطرحته في تلك البير ثماختفت عند الباب لتنظر ما يبرزه القضاء من الحجاب فلما سمع زوجها خبطة الحجر تصور أنها تلك البغي فابتدر وفتح الباب وإلى نحو البئر طفر ولم يشك أن تلك البغي ألقت نفسها في الطوى فما وصل إلى البير ذلك الرجل الغرير إلا وقد دخلت في وسط الدار ثم أوصدت الباب واستغاثت بالجيران والأصحاب وأحكمت الرتاج وأوقدت السراج وملأت الدنيا بالعياط وأخذت في الهياط والمياط فاجتمع الجيران لينظروا ما هذا الشان فقالت هذا الرجل الظلام يتركني كل ليلة حتى أنام ثم يتوجه إلى الزواني ويدعني أقاسي القلق وأعاني وأتقلب في أرقي وأشجاني فأخذ الرجل يحلف بالله ذي الجلال ويذكر للحاضرين حقيقة الحال فتارة يصدق وأخرى يكذب وهو بين مصدق منهم ومذبذب فلم يزالا في عويل وصياح إلى أن ظهر تباشير الصباح فحضرا إلى القاضي واختصما وشهد بعفة الرجل الصلحاء والعلماء وأظهر الله الحث وثبت على المرأة الخيانة والفسق ولولا ذلك لذهب البريء غلطا وانقلب صواب المحق الصادق خطأ

(وإنما أوردت) هذا المثل لتعلم أيها الملك البطل خيانة الدب وبراءة الجمل والرجل إذا عن فعل الشجعان يتشبث بحبائل الشيطان ويستعمل مكر النسوان ونظير هذا الكياد ما وقع بين صادق دمشق وفاسق بغداد وهي قضايا جليلة الأبواب طويلة الذيول والأذناب قد دونت في مجلدة لا يسعها هذا الكتاب ففكر الريبال في هذه الأحوال ثم أمر بهما إلى الاعتقال وكان للملك سجان ذكي كنيته أبو الحصين واسمه ذكي فتسلمهما واحتفظ بهما فلما استقرا في قبضة الحبس واستمر أمرهما تحت أذيال اللبس توجهت الفارة التي كانت سمعت سر مناجاتهما واطلعت من أول الأمر على حكاياتهما إلى السجان وهما في أضيق مكان وسألته عم ماذا آل إليه أمرهما من شأن فأخبرها بحالهما وجهل عاقبة مآلهما وأنه ليس بعالم من المظلوم منهما والظالم فقالت الفارة أسألك يا ذا الشطارة والذكاء والمهارة إذا ترجح لأحدهما الجانب وتبين الصادق والكاذب وتعين المرضي عنه والغضوب عليه تطلعني على ذلك لأنظر إليه قال السجان للفارة لقد فهمت عنك بالإشارة وأدركت من فحوى العبارة أن لك اطلاعا على هذا الأمر وفرقا جليا بين تمرة والجمر فإن كنت شممت من ذلك روائح فبادري بأداء تلك النصائح فإن قولك مقبول ولك الفضل لا الفضول ولا تقصدي بهذا الإرشاد إلا مصلحة العباد وكشف الغمة وبراءة الذمة وردع الظالم وخلاص ذمة الحاكم قالت الفارة وأنا لا أقصد إلا إصلاح ذات البين وشمولهما بعاطفة الملك بحيث يصيران كالمحبين ويرتفع النكد ويحصل رضا الأسد ويحسم

الضرر والضير وتختم عاقبتها بخير وأيضا فإني سمعت من العلماء وضبطت من نصائح الحكماء ومقالات ذوي الآراء أنهم قالوا إياك والتكلم في أمور الملك ببيضاء أو سوداء وأين بنت الجرد من ملك الوحوش الأسد قال السجان لا تقولي ذاك ولا تستحقري جدواك وما ترين في فتواك ودونك القول الصادر من نظم الشاعر الماهر وهو: لا تحقرن الرأي وهو موافق ... حكم الصواب إذا أتى من ناقص فالدر وهو أجل شيء يقتنى ... ما حط قيمته هو إن الغائص وإن النصيحة كالعسل والحق يصدع كالأسل فالعسل يعطي حلاوة ذوقه سواء كان في صحاف الذهب أو في زفة وقاصد الصواب والنصيحة ومن أغراضه لدفع الفساد صحيحة يخاطر بنفسه وماله ويراقب ما فيه حسن مآله وأفضل المعروف إغاثة الملهوف سمعت في المثل السائر أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وهذا هو الطور عند ملوك الجور وملكنا أعد ل الحكام وناصر دين الإسلام متصف بمكارم الأخلاق والشيم ومعاملة الكبير والصغير بالمراحم والكرم فإن كنت تدرين بجهة الانتفاع أو لك على قضايا الدب والجمل اطلاع فقومي وانصحي وقولي تفلحي كما فعل الوزير المنتخب مع كسرى في حالة الغضب فسألت الفارة هذا المثل وأخباره

(قال) أبو الحصين السجان ذكر أنه كان لانوشروان زوجة فاقت النسوان يخجل قدها الأغصان وخدها البدر حيث لا نقصان كان أبوها منالسلاطين وملوك الأساطين وكان أنوشروان قتل أباها وأخاها واتخذها لنفسه واصطفاها وكان مشغوفاً بحبها متخوفاً من قربها لئلا تتذكر قتيليها فيستولي طلب الثار عليها فلم يزل متحرزاً من أفعالها مراقباً تقلب أحوالها فاتفق أنه كان جالساً معها على السرير وحولهما من الجواري الحسان بدر منير وظبي غرير فتاقت نفسه إليها فمد يده ووضعها عليها فنظرت إلى الجواري فرأت أعينهن إليها ناظره فصارت بين طرفي الانقياد والامتناع حائرة وكانت قد سمعت من أبيها ما رأته من أقاربها وذويها معنى ما قيل: وأني لأستحي من النرجس الذي ... يراقبنا أني أقبل من أهوى فخطر ببالها أنه إذا استحيا من عيون النرجس وهي جامدة فكيف لا أستحي منت عيون إنسان في مراقبتنا غير راقدة فغلبت عليها الحيرة وإن جدع الحلال أنف الغيرة فانكمشت من كسرى وزادها الحياء والهيبة انقباضاً وكسراً فجذبها بقوته إليه فانفلتت منه لما استعصت عليه فوقع عن سريره العالي وعلا حلقه التمر الغالي وتبسم بعض تلك الجواري من غير اختيار فاضطرب لما اضطرم فيه النار وتذكر ما كان توهمه من أخذ الثار وفار دم قلبه لما غار فدعا وزيره الكبير ودفع إليه ربة السرير وأمره بإزهاق نفسها وإسكانها في رمسها من غير مراجعة ولا شفاعة ولا مدافعه فحملها إلى منزله صعب الأمر ومشكله ولم ير بداً من إمضاء مرسومة وامتثال أوامر مخدومه ثم تدبر في المآكل ونادته ربة الحجال مهلاً أيها الوزير الناصح المشير ذو الرأي والتدبير هبني أني

أخطأت وعن مرضاة الملك أبطأت فما ذنب الذي في بطني المودع من الملك ولم يجني فلا بأس أنك تستشيره فانك ناصحه ومشيرة وإن كان لا بد من قتلى واستقر الرأي على نبلي وبتلي فاستمهله إلى أن أضع ثم تهلك الأم وتبقى التبع فانه كان يعطي النذور والأموال ويطلب الولد في ظلمات الليال ويدعو بذلك ربه ذا الجلال فعرض الوزير على الملك ذلك فأبى واستعمل في ضروب ضربة أحد عبارة وترفق فنبا فعرف إن أخلاقه ثائرة وأنه لا بد أن تطفأ تلك النائره فإذا برد قلبه وهمد كربه يطالبه بالفرع أن لم يطلب الأصل وبعد القطع لا يمكن الوصل كما قيل: طوى الموت ما بيني وبين أحبتي ... وليس لما تطوي النية ناشر فرأى الوزير الرأي في التأخير فأودعها عند الحريم وسلك في الحزم الرأي القويم وجعل نفسه لها وقاية إلى أن أخذت مدتها النهاية فوضعت ولداً ذكراً غصن بان مثمراً قمراً فقام الوزير بتربيته وإصلاح رضاعه وأغذيته إلى أن بلغ سبع سنين وهو كبدر الأفق المبين مربي بالدلال مغذي بالكمال فكأنه فيه قيل: جبين تحار الشمس من لمعاته ... وقد يغار الغصن من حركاته وخد تعالى الله لست مشيها ... ولا مشركاً أضداده في صفاته رمى مهجة المضني باسهم لحظه ... فنام عليلاً وهو في سكراته فركب كسرى في بعض الأوقات وخرج يصطاد في بعض الجهات فتبدد العسكر وصار كالحجيج إذا نفر ووقع كسرى في ناحية عن العسكر منفرداً فصادف غزالين يسوقان ولداً ويذكران في ذلك القاع ما قاله عدي ابن الرقاع:

تزجي أغن كان إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها فهجم عليهما ودنا إليهما فلما قصدهما تركا ولدهما ففوق السهم الخفيف نحو الخشف الضعيف فلما رأت أمه السهم داخلها الوله والهم فقصدت للسهم دون ولدها واستقبلت نصل كبد القوس بكبدها فأراد طلاق السهم من الكبد ليصيب به نحر أم الولد فاعترضه الفحل بصدره وتلقاه دون نحرها بنحره وجعل نفسه وقاية لأم ولده وفداهما بروحه وجسده فتذكر كسرى ولده وأمه وضاعف حزنه عليهما همه وغمه وتذكر ما سلف منه في حق زوجته وما عاملها به حين وقع به من الغضب في سورته وتأمل ما قالته في حق قرة مهجته وما أجاب في ذلك إلى أن وردت إلى المهالك وقال إذا كان هذا الحيوان الباغم المائق حمى حقيقته برمحه كحماة الحقائق فلم لم يفعل ذلك الحيوان الناطق ثم فاضتدموع عينيه فرمى القوس والسهم من يديه ورجع متفكراً وعلى ما فرط منه متحسراً ودعا الوزير الناصح المجير والمستجير وذكر له ذلك النكد وما رآه من الغزالين والولد وتحرق فقد حظيته وتألم لمصاب فلذة كبدته فدعا له الوزير وقال الصبر نعم النصير كان قد سبق مني اشارة ولكن المفرط أولى بالخسارة الصديق الصادق والرفيق الموافق يقول ما أصنع نصحت فلم يسمع والخبيث المنافق والحسود المماذق يقول أردت أن أقول ولكن تركت الفضول ولا حيلة للملك والوزير فيما جرى به قلم التقدير ثم دعا له وانصرف وعبى حملا من الهدايا والتحف وألبس ابن الملك أفخر ملبوس وجهز أمه كما تجهز العروس وأضاف إلى ذلك من المراكب الملوكية والخدمات السلطانية وأقبل بهما إليه وعرض كل ذلك عليه

وقال يا ملك الزمان أنا رأيت هذا اليوم في ذلك الأوان وعلمت أن الندم سيعم من الرأس إلى القدم وها قد قدمت إليك من التحف الدر مع الصدف والورد والزهر والغصن والتمر والفرع والشجر والشمس والقمر متعك الله بها ومتعها بك وحرس من الأسواء منيع حرمك وجنابك فأنجبر بذلك كسرى ونال بشرى ويسرى وطاب سيراً ومسرى وسر صدره وانشرح وأغمى عليه من شدة الفرح وأنشد: طفح السرور علي حتى أنه ... من عظم ما قد سرني أبكاني يا عين قد صار البكالك عادة ... تبكين من فرح ومن أحزان ثم أمر ببساط السرور وجلس في النشاط والحبور وأنشد: أهلاً وسهلاً بالتي ... جادت علي بمهجتي أهلاً بها وبوصلها ... من بعد طول الهجرة أدر المدام وغنني ... أهلاً وسهلاً بالتي ثم أفاض خلع الأنعام والرضا والإكرام على الوزير وشكر له حسن التدبير وارتفعت عنده منزلته وتضاعفت في الارتقاء مرتبته (وإنما أوردت) هذه الأمثال لتحذي على هذا المثال فان كان عندك ما يزيل الشك والأغاليط ويحق الحق ويميز الأخاليط فان في إبدائها منة عظيمة ونعمة على الملك جسيمة ستبلغني بذلك العيش الهني وترقيني به إلى المقام السمي السني وإن أخرت النصيحة فقد شاركت الخائن في الأفعال القبيحة قالت الفارة ما أدق ما نظرت وأحق ما أشرت لا تردد للعقل في صحة هذا النقل ولكن من أنا في الرقعة ومن يقبل للفارة حتى تطلب الرفعة فلا أنا في العير ولا في النفير وأني من مبدأ أمري وطول عمري

في زوايا الخمول أنحرز من فضلات الفضول لا لصحبة الملوك لي صورة جميلة ولا في طريقة السلوك سيرة نبيله لا أمينة ولا ثقة وأصدق أسمائي الفويسقه فكيف أصير مصدقة وقد أباح سيد العرب والعجم معدن اللطف والكرم والمبعوث بمكارم الأخلاق والشيم صلى الله عليه وسلم قتلى في الحل والحرم فلو طلبت مصاحبة من فوقي لخرجت عن دائرة طوقي وصيرت نفسي ضحكة للناظرين وهرأة للساخرين خصوصاً ملك الأسود وسلطان الوحوش من النمور والفهود ورحم الله أمر أعرف قدره ولم يتعد طوره ومن أعجب العجب أن يجني من الشوك العنب ولو فعلت ذلك لكنت كقرد حالك ذميم هالك ادعى رياسة الممالك ومن أحسن الأمثال ما يقال إن السلطان للأنام بمنزلة الحمام البعيد عنه يطلب قربه والداخل فيه يشكو كربه فالا يليق بحالي أن لا أشغل بالي الخالي بما لا يليق بي ولا بأمثالي وحيث أشرت على بأداء النصيحة وبيان الحالة الفاسدة من الصحيحة طالباً لمرضاة الملك وصوناً لخاطره عن الأمر المشتبه المشتبك والفكر المريب المرتبك فأنا أمتثل مرسومك وأودع ذلك معلومك بشرط أن لا تذكرني بشفه ولا تشير إلى اسمي بنكرة ولا معرفة فعاهدها على ما اشترطت فمدت لسان القول وبسطت ثم ذكرت ما جرى بين الدب والجمل من فصول وقررت براءة ساحة الجمل بالمعقول والمنقول فلما اتضح لأبي الحصين السنجان نزاهة عرض الجمل وأن الدب هو الذي أغراه على قصد الأسد وحمل وتحقق ذلك بالبرهان القاطع والدليل الساطع توجه إلى حضرة الأسد وأخبره بما صلح من الأمر وما فسد وأنه إنما تأخر عن خدمة مخدومه ليصل إلى ما في جيب الغيب من

مكتومة فلما تحقق الليث ما في هذا الأمر من صلاح وعيثومن هو الصالح من الدب والجمل والطالح أرسل إلى الغراب وعرض عليه هذا الأمر العجاب وطلب منه الإرشاد إلى هدم ما بناه الدب من الإيقاع وشاد فقال الرأي عندي أن تجمع العساكر وتنادي للبادي والحضر ويحضر الدب والجمل وبعرض على الجميع هذا العمل فإذا ظهر الحق وانكشف سجاف الباطل عن جبين الصدق وتبين الظالم من المظلوم وتعين الصحيح من المثلوم يرى رأيك السعيد ما يقتضيه ويسلك ما يأمر به ويرتضيه ويجري على كل منهما ما يحكم بتنفيذه ويمضيه بحيث لا ينتطح في ذلك عنزان ولا يختلف عليك فيه اثنان فلما كان ثاني يوم أمر الأسد بجمع القوم وإحضار الحمل البري والدب المفتري فخضر الكبير والصغير واجتمع الأمير والوزير ثم علا الملك على السرير وأثنى على الله وذكر فضله هذه الأمة وما لها من رقة وجلاله وأنها لا تجتمع على ضلاله ثم قال ما تقولون في رفيقين شفيقين صديقين لم يكن بينهما سبب مكاحله ولا موجب منازعة ولا مجالحه سوى المحبة المليحة والممالحة والمودة الصافية الصالحة ببيتان في فراش ويستعينان على حسن المعاش حسد أحدهما رفيقه وخان من غير سبب صديقه وسعى في إراقة دمه وعدم وجوده بوجوب عدمه فماذا يجب على هذا الحاسد المنافق في عمله الفاسد الطالب ترويج باطله الكاسد وقصده ذلك البري الصالح الغافل السري والسعي به إلى الحكام والقائهم بسببه في الآثام وارتكاب هذه الجرائم وتحمل مثل هذه

العظائم فأجاب الجمهور إن من أكبر الكبائر قول الزور وقد قال رب الكائنات أن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم وأن مرتكبه الأثيم استوجب العذاب الأليم ومن هو هذا الجرى الكذاب المفتري الذي يرتكب مثل هذه الأمور الهائلة والكبائر الوخيمة القاتلة والعظائم المؤذية الغائلة خصوصاً في مثل هذه الدولة العادلة ولأي شيء يؤخر جزاؤه ولا يحسم داؤه ولا يضرب ولا يشهر ولا يؤمر بالمعروف في هذا المنكر قال الأسد فاكتبوا بما قلتم محاضر وليعلم الغائب الحاضر حتى إذا وقع الاتفاق بين الأصحاب والرفاق وارتفع في ذلك النزاع والشقاق وأجمع على ذلك العقل والسمع فعلنا فيه ما يقتضي السياسة والشرع فاتبعوا شروطهم وكتبوا بذلك خطوطهم فعند ذلك طلب الأسد أم راشد وأقامها في ذلك المحفل لحاشد واستنطقها بما تعلم واستشهدها على الدب بما أجرم فشهدت في وجهه بما سمعت ورقمت بذلك خطها ووضعت وزكاها الحاضرون وشهد بعفتها وزهدها الناظرون واتفقت الكلمة من الكملة على صدقها وحقيقة نطقها فتهلل وجه الجمل بهذا القول والعمل وظهرت على صفحات وجه الدب العديم الدين واللب علامة الانكسار والفضيحة والخسار ولم يسمعه إلا أنته أذعن واعترف أن لا دافع له في الشاهد ولا مطعن وأنه قد اجترم وطلب العفو والكرم فعند ذلك غضب الريبال ولم يبق للعفو مجال فزأر وزفر وغضب الغضنفر وهمر وزمجر وتطاير من أشداقه الزبد ومن عينيه الشرر ومن شمائل حركاته ممضيات القضاء والقدر ونعوذ بالله من غضب الملوك خصوصاً على الفقير الصعلوك ومن أحاطت به أوزاره وقلت أعوانه

وفنيت أنصاره ثم أمر الأسد بالدب أن يلقى من البلاء في جدب وأن السباع تحتوشه والضباع تنوشه ففي الحال من غير إهمال ولا توان ولا إمهال نهشته الذئاب وافترسته الكلاب وتخاطفته النمور وتناقضته الببور والتقمته السباع والتهمته الضباع فقطعوه وبضعوه ووزعوه ومزعوه وخزقوه وحزقوه وخرقوه ومزقوه ولم يكتفوا بعظمه وإهابه حتى لحسوا من دمه يابس ترابه وكان قد اشتد بهم القرم فاطفؤا بلحمه ودمه بعض الضرم وزال عن أبي أيوب الضر وارتفعت مغزلة ذلك الحر وضاعف الله تعالى عن براءة ساحته أنواع الحمد والكشر وفائدة هذا المثل الجاري بين الدب والجمل معرفة فضيلة الأمانة ووخامة المكر والخيانة فان الله تعالى غير مضيع أهله ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله كما قيل: لا بناء هذا الدهر في الغدر أسهم ... وضرب خيانات وطعن مكيدةوما للفتى منها طريق سلامة سوى ترس تفويض لرب البرية وكل امريء رهن بنيته وفي ... كفالة ما ينوي وما في العقيدة (وليكن) هذا آخر باب الأسد الصالح والجمل الأمين الناصح والعاقبة للمتقين والله الموفق والعين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خير الخلائق أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الباب التاسع في ذكر ملك الطير العقاب والحجلتين الناجيتين من العقاب

الباب التاسع في ذكر ملك الطير العقاب والحجلتين الناجيتين من العقاب

(قال) الشيخ أبو المحاسن من هو لثوب الفضل كاس ولكاس الظرف حاس وفي حدائق الأدب أزكى آس ولا حداق الأدباء أذكى آس وفي عيون الأعداء أنكى آس فلما أنهى الحكيم حسيب كلامه الذي استعبد در النسيب وذكر من النصائح والحكم عن ملوك العرب والترك والعجم ومن مباحث الجن والأنس ما حصل للسامعين به النشاط والأنس ثم استطرد إلى فوائد البهائم والوحوش ورقم في دار ضرب البلاغة من حسن الصياغة والرقوش ما قعد له من زواهر كلامه على سكة دينار الفصاحة أحسن النقوش وعقد بجواهر نظامه لمفرق العدل في دار الملك اكليل العروش افتخر أخوه الفيل بوجوده وقدمه على جميع خواصه وجنوده وأفاض على حدائق آماله زلال إحسانه وجوده وقال له يا نديم الدير وعديم الضير وقديم المير ومديم الخير قد أفدت حكم سائر الحيوان فكر علينا من حكم منطق الطير فابتهج الحكيم في السعة وانتهض ملبياً بالسمع والطاعة ثم أنه قال أدام الله ذو الجلال أيام مولانا الإمام وشمل بذيل رأفته الخاص والعام بلغني أنه كان في ممالك اذربيجان جبل يسامي السماك في السمو ويعاني الأفلاك في العلو غزير المياه والأشجار كثير النبات والثمار وفي ذيله شجرة قديمة منابتها كريمة أغصانها مهدله وثمارها مسبلة كما قيل: وفي أصلها وكر لزوج من الحجل ... كان رباً رضوان ألبسها الحلل

هو وطنهما المألوف ومقرهم المعروف ورثاه من أسلافهما وهو في الشتاء والصيف مرجع أيلافها يدعى الذكر منهما النجدي والأنثى غرغرة بنت السعدي ولذلك الجبل جبل مقارن من جهة الشرق يسمى القارن لو قصد البدر دوره أو رفع رأسه لينظر سوره أو يحل فيه شعاعه ونوره لوقع عن قمة طرطوره في قلته سرير عقاب منيع الجناب هو ملك الطيور والجوارح وسلطان السوانح والبوارح وصافات تلك القلال وكواسر هاتيك الجبال كلها تحت أمره العادل العال متوج فوق رأسه باكليل ما يبرزه من مثال فكانت الحجلتان كلما فرختا وقاربت افراخها الطيران عزم أبو الهيثم الكاسر بما معه من عقابين كواسر وجوارح الطيور ومن تحت أمره من الجمهور على التنزه والاصطياد فتحيط عساكره بتلك النواحي والبلاد فكانوا كلما وطئوا ربوة مهودها وسلكوا ما بين كنافها وبطونها ونهودها تصل طراشة العساكر إلى الحيل الذي فيه وكر الحجل فتذهب أفراخها تحت السنابك وتضمحل تحت أقدام أولئك فتقع الحجلتين في النكد والأحزان وبالجهد والمشقة البالغة يخلصان هما من تلك الداهية الثالغه والنائبة الدامغة فلم يزالا في نكد على فقد الولد فافتكرتا في بعض الأيام وقد أثر فيهما هذا الإيلام فغيما هم فيه من النكد لفقد الولد المتجدد على طول الأمد فقال النجدي لبنت السعدي قد كبرنا وضاع العمر وحزنا وقاربت شمس عمرنا للأفول وأقدام بقائنا أن تزل وتزول (شعر) : وليس لنا من يذكر الله بعدنا ... إذا ما انتشبنا في مخالب فقدنا

ولا من يحي نشر آثارنا إذا طوى الموت بساط أعمارنا وقد قضينا العمر في الانكاد بفراق الأولاد ثم بعد الحياة ينمحي اسمعنا ويندرس بالكلية رسمنا فلا حياة هنية ولا أخرى رضيه وأي هناء مع فراق قرة العين خصوصاً على وجه المذلة والشين ومالنا نظير في هذا الدهر المبير إلا من جمع المال من حلهوغير حله وتركه بعد الكد البليغ والحرص إلى غير أهله فيصير كما قيل: تؤديه مذموماً إلى غير حامد ... فيأكله عفواً وأنت دفين ولا طاقة لنا في دفع جيش العقاب ولا حيلة إلى الخلاص من عقاب هذا العقاب فذهب أكثر العمر في هذا الويل وأشبهنا النائم على طريق السيل وإن غفلنا عن أنفسنا ربما اجتاحونا وطرحونا إلى مهلكة تدير علينا من العدم طاحونا فالرأي عندي أن نترك هذا الوطن ونرحل إلى مكان لا نرى فيه هذه المحن فانه لم يبق طاقة على فراق الولد ولا قلب يحتمل هذا الحزن والنكد: ذاب قلبي بين دمع وضرم ... فارحموني أنا من لحم ودم وذاك لأن المرء يحيا بلا رجل ويد ولا تلقاه يحيا بلا كبد قالت لقد أعربت عما في فكري وشرحت ما كان يجول في صدري وهذه محنة قد أعياني في دائها الدواء وبلاء عمنا فكلنا فيه سواء: المرء يحيا بلا ساق ولا عضد ولا يعيش بلا قلب ولا كبد بي مثل ما بك يا حمامة فاندبي وقد قلت: ولم يعرف حرارة ما اعني ... سوى قلب كواه ما كواني وأنا لم أخل قط في وقت من هذا الفكر الذي أوجبه الهم والمقت وأعلم أن سهام آراء العقلاء ونبال أفكار ذوي النظر من الحكماء إنما تصدر من قوس واحدة وتتوجه إلى غرض طريقته غير متعددة وقال العقلاء

وأولو التجارب من الحكماء بل أطبق أرباب العقول وأئمة الدين وأصحاب الأصول إن قضايا العقل كلها صادقة وألسنتها فيما تحكمه بالصواب والأصالة ناطقة غير أن كثيراً ما تشتبه القضايا العقلية لسوء التصور بالقضايا الوهمية فيقع الخطأ بواسطة الوهم في الفهم وينسب إلى العقل ذلك السهم وإلا فاتفق العقلاء جمعاً أن القضايا العقلية لا يقع فيه الخطأ قطعاً وأن قضايا الحس لوقوع الاشتباه واللبس يتصور أنها حق ويقضي لها وعليها بالصدق وإذا وقع الخطأ لحصول الاشتباه وعدم التأمل والانتباه في القضايا الحسية والقضايا التي هي بحاسة البصر مرئية كما وقع ذلك في حادثة الطريقة البغدادية فوقوع الخطأ بالوهم أولى في القضايا العقلية لأن طرقها أخفى وأحكمها معنوية فسأل الذكر عن تلك البغدادية وما هذا الخبر (قالت) كان في مدينة السلام بعد أن امرأة من المتخذات أخدان اسم زوجها زيد وهي أم عمرو وذات كيد لها عدة أخدان تدعو لكل بالإخوان وكل ينشد في السر والإعلان قوله: دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان فاتفق أن زوجها زيد دعاه أمير البلد إلى الصيد فركب معه وسار وخلت منه الديار فتسامع بذلك بعض أخدانها فتوجه منهم طائفة إلى مكانها فأول من سبق تاجر شبق فدخل بثياب بيض وشاش رحيض وهيئة نظيفة وصورة ظريفة فأسرع في الدخول ومعه ما يليق

من المأكول فتلقته بالترحاب وأخذ في لذيذ الخطاب فما استقر القرار حتى قرع باب الدار فظنته زوجها وحققته بوجهها فنهض خائفاً وتحير راجفاً وطلب مكاناً يخفيه وكناً يأويه فلم يكن في دارها مخباة زوارها سوى طقيسي لطيفه يصعد إليها من سقيفة فأرشدته إليها فرقي عليها وبادرت إلى الأتحاف فإذا هو حريف صراف ففتحت الإغلاق وتعانقا تعانق المشتاق فدخل بهيئة زهراء بلباس أخضر وعمامة خضراء ومعه من الحلوى مجمع ومن الزجاج أربع فجلسا يتذاكران الحوادث إذ طرق الباب ثالث فقالت هبط أوجي وجاء زوجي فوثب في رجفة كأنه ورقة سعفة فسأل عن مخباة وستر يغشاه فأرشدته ربة الكريسي إلى طريق الطقيسي فصعد اللاحق ولحق السابق وبادرت الرتاج ربة التاج وأم الأزواج فإذا هو أحد الظرفاء وثالث الحرفاء رجل زيات ومعه مجمع سكر نبات فتلقته بالتكريم وأجابته بالتسليم فدخل بثوب أصفر وشاش معصفر فشرعا في الملاعبة والملاطفة والمداعبة فدق الباب رابع الأصحاب فبادرت الزيات الفرار وطلب مختفي للقرار فدلتهفي المفر إلى المعهود المقر فصعد إليه ولحق بصاحبيه وتوجهت إلى الباب فإذا هو أحد الأحباب وهو رجل قصاب وعليه ثياب سود وخفة المعهود وعلى رأسه مئزر ثمين وبيده خروف سمين فقالت: أهلاً وسهلاً وارفع محلا بالحبيب النجيب والبعيد القريب فدخلا واستغلا بالخطاب والتهيا عن رتاج الباب

وكان في تلك المحلة شخص أحدب أبله يدخل البيوت ويتمسخر فلا يمنع من ذلك ولا يزجر ويلاطفه الأكابر والأعيان ولا يحتجب منه النسوان فمر على باب زيد فرآه لا إغلاق ولا قيد فدخل على غفلة ولم يستأذن أهله فلم يشعر به إلا بعد حلول ركابه فوجم لرؤيته القصاب وخاف من حلول مصاب ونشور وانحرف فقالت له المرأة لا تخف إنما هو أبله مسخرة في المحلة فأخذوا يتلاطفون ويتمازحون ويتظارفون إلى أن قرب الليل وفات النيل، فطرق الباب ووصل الزوج بالارتياب فلم يشعروا إلا والبلاء قد أقبل ومصابهم الأعظم في أكنافهم قد نزل، فخاتبطوا والتبطوا وانحلة قواهم وارتبطوا وطلب القصاب مخبئ فأرته للطقيسي درباً وطلب الأحدب من شر زيد المهرب فكان في أرض البيت تنور فنزل فيه وهو مضرور وغطته بغطائه وسترته ببعض وطائة وأراب زيد الفتح في إبطائه ثم توجهت إلى الباب وهي في اضطراب فدخل زيد وهو سكران ومن تأخير فتح الباب غضبان وكان قد تناول مع مخدوميه ولعبة بشيخ عقله بنت كرومه، فلما نزل عن السرج رأى الزوجة في هرج ومرج فأنكر حالها وسألها ما لها فقالت: كرهت فقدك وخاطري عندك فلا ذقت بعدك ولا عشت بعدك

فقال: تكذبين أي دفار بل تسخرين بي أي فجار إنما أنت في حركة فلا طرح الله فيك بركة فقالت: أنت مجنون وأي حركة عندي تكون؟ فشرع في حربها واستطرد من سبها إلى ضربها وعزم على تفتيش البيت والإطلاع على ما فيه من كيت وكيت فخشية أن يخرج أمرها عن دائرة الستر إلى لو كان وليت فتداركت التفريط قبل وقوعه وبادرت إلى تلافي التلاف بالهيت فتشكت من الأذى وقد تناولها بالضرب والبذى ورفعت يدها إلى الدعاء بالندى وقالت: إلهي وسيدي وسندي ومعتمدي إن كنت تعلم أني مظلومة وبراءة ساحتي عندك معلومة فانزل إلى أمتك ملكا من ملائكة رحمتك يخلصها من هذا الظلوم ويكشف ستر هذا السر الموهوم فبادر التاجر بالإنتهاض ونزل بثيابه البياض ودخل عليه وقبض على أذنيه وصفعه على خديه وقال أتركها يا ظالم فإنك معتد آثم وهي برية وشمائلها زكية وضربه ضربتين ولكمه لكمتين ثم أم الباب وترك الأصحاب وشرع في الذهاب فلما رأى هذا زيد عرف أنه خديعة وكيد وقال: يا أفحش الفواحش وأنهش النواهش تريدين خدعي وسخري وخذلي وختري وتبغين بما تبغين ختلي ومكري أولست بعريف أنه لك حريف ثم زاد في سبها وماد إلى كبها وضربها

فقالت يا إلهي وسيدي وجاهي إن كنت تعلم أن هذا الأظلم أنكر الحق ورآه وما صدق فانزل عليه ملكا آخر ذا جناح أخضر يأخذ بحقي منه ويكشف سترك عنه فقال الحرفاء وكانوا ضرفاء للصيرفي قم غير مختفي وشدد عليه وأوصد الألم إليه فنهض في ذلك المعلم وبادر إلى السلم ونزل إليه ودخل عليه وقال: أكفف يا ذا العار عن عفيفة الأستار فإنها برية وعما تضنه عرية ومد يده بكمه وبالغ في سبه وشتمه ثم خرج من الدار وبالغ في الفرار فقال يا للدربة من ذي القحبة الناس بواحد وأنت باثنين وقد جعلت زوجك ذا القرنين ثم أخذ العصا وضربها ضربة من عصى فقالت: يا إله العالمين تعلم أن هذا من الظالمين أمدني بالملك الأصغر صاحب الدرع والمغفر والثوب المعصفر يبرئ ساحتي ويهدئ راحتي فإني مظلومة وقصتي معلومة فقال الجزار للزيات قم أرنا الكرامات وقد صنعتك وهات فنهض الزيات ونزل إلى ذلك المفتات وقال أيها اللئيم كف عن الحريم وارجع عن لوم البري واقصر أيها المشتري المفتري ثم تناوله بعصاه إلى أن آلم قفاه ثم تركه في الحركة وخرج هاربا وقصد جانبا فقال زيد يا أوسخ القحاب وأوسخ ذوات السباب تعدين حرفائك واحدا واحدا وتعرضينهم علي صادرا وواردا ثم نهض بالعصا وتناولها مغليا ومرخصا

فمادت وآدت وبادت ونادت إلهي هذا لم يعتبر بملائكتك الكرام ولم ينزجر بهذا الضرموالإيلام فأمدني بملك النيران الزبني الأسود الغضبان يخبره بصدقي ويأخذ منه حقي ويفعل معه ما يجب فإن راجيك لم يخب فما عتم القصاب أن زمجر كرعد السحاب وأخذ في الاضطراب والاصطخاب وأسرع في السلم الانصباب فلما سمع زيد العياط والخباط وزماجر الهياط والمياط بهت وأخذه الضراط فدخل عليه في بعثرة وغدمرة وتزيا بصورة بشعة منكرة وخطف من يده العصا وضربه بها حتى شصا وقال أي أنحس ذميم وأتعس زنيم أما زجرك ونهاك وكفك وكفاك من تقدم من الأملاك أيم الله لأن لم تتركها وفي ما لك ومنالك تشركها لتدمرن ديارك ولتمحون آثارك ثم تركه وذهب وأودعه جمر اللهب فلما رأى الحال نسجت على هذا المنوال استكان وطلب الأمان ومعك عينيه وضم يديه ورجليه وجعل يتأوه من ألم الضراب وقال كان الدعاء في هذه الساعة مستجاب ثم قال من شدة كربه وحرقت قلبه إلهي ومولاي كما استجبت دعائها استجب دعائي وكما أنزلت من السماء لنصرها ملوكها فأخرج لها من الأرض عفريتا ينيكها وليكن ذلك بمرآى من عيني وأمامي

ويبرد أوامي فما صدق صاحب التنور حين سمع الدعاء المذكور والنداء المقبول المشكور حتى طفر من مجثمه كالشواظ المسجور وأقام أمام لهوه المصاب واستعمل من قواعد النحو الرفع والجر والانتصاب ورفع العمودين وأولجه المحراب ولا زال ذلك الإمام يتردد في البيت الحرام وقد نال في الحرم آمنا حتى رمى الجمرات وأمنى ثم قبل فاهها وخرج مسرعا من ذراها وخلى الدار تنعى من بناها ففتح زيد عينيه وحملق حواليه ثم قال: يا أقذر القحاب هكذا يكون الدعاء المستجاب (وإنما أوردت) هذا الكلام والتمثيل لك يا إمام ليتبين لكل عالم همام وليتبصر أولوا العقل والأفهام الفرق ما بين قضايا الحس والعقل والأوهام وقد شبه العقل بجل عال عزيز المنال وكل من قصد الصعود إليه والارتقاء عليه لا يصعده إلا من طريق واحدة منها يوصل منه إلى الفائدة وسلوك طريق المعاشرة مع العقلاء وذوي الآراء الأذكياء في العداوة وانصداقة والكدرة والزياقة واللطافة والكثافة والخوف والرجاء والابتداء والانتهاء إنما هو من باب متحد لا من طريق متعد ولأجل هذا يا متبصر سلوك مثل هذه الطريق معهم متيسر لا متعوج ولا متعسر ورأس خيط هذه السموط بالاستقامة والسلاح مضبوط بخلاف الجهال والخلعاء والحمقى والسفهاء فإن أمورهم منفرطة وأفكارهم وآرائهم غير منضبطة فتتكدر خوار العقلاء في تعليمهم ويعيا طبيب الفكر في تهذيب أحمقهم وتأديب سفيههم وقيل:

إني لآمن من عدو عاقل ... وأخاف خلا يعتريه جنون والعقل فن واحد وطريقه ... أدرى وأرصد والجنون فنون ولهذا قيل معاداة العاقل خير من مصافاة الجاهل ثم قالت غرغرة في أثناء هذه القرقرة وأما ما ذكرت من البيان من مفارقة الأوطان وترك هذا المكان أما سمعت حديث أشرف جنس الإنسان أن حب الوطن من الإيمان وقد ألفنا وطننا وحبه وقلع أصول محبته من قلوبنا صعبة وهو في معزل عن طرق الجوارح ومكمن عن السوائح والبوارح وإنما تعرض لأولادنا تلك الآفة من تراكم العساكر المصافة ومن يحصل من أقدامها من كثافة وأنا أخاف إن انتقلنا من هذا الوطن يخرج من أيدينا هذا السكن ولا نحصل على مأوى يليق أو لا توافقنا الغربة أو يمنع مانع في الطريق فنقصد الربح فيذهب رأس المال فنخسر ما في أيدينا في الحال ولا يحصل المأمول في الاستقبال وكيف وهو مسقط رأسنا ومحل أنسانا وأناسنا فالأولى بنا الرضا والانقياد لأوامر القضا وملازمة الوطن القديم والسكون تحت تقدير العزيز العليم وقد قيل إنما يشفي العليل إذا ترك مشتهيات نفسه وقيد متمنياته في قيد حبسه ولابد للمريد من ترك المراد وللقانع من قطع النظر عن الإزدياد والحرية في رفض الشهوات وكل ما هو آت آت

وأما وقائع الأولاد وحصول الانكاد وما يقع منهم بسببهم في كل أوان فنحسبها إحدى ما يحدث لنا من نوائب الزمن ونحن بل كل المخلوقات عرضة للنوائب والآفات وطعمة لسنابك المقدور ونهبة لحوادث الدهور ولو انتقلنا عن وطننا وتحولنا عن سكننا وبعدنا عن هذا الجانب ونزعنا عن الأهل والأقاربوحاورنا الأباعد لا يطيب لنا مقام وتتكدر أوقاتنا على مر الأيام فلا نزال بين تذكر الوطن المألوف وتحنن إلى الصاحب المعروف فيسهل عند هذه الأنكال مفارقة الأطفال ثم أعلم أيها الصاحب الأعظم أنه لو تيسر لنا مع الانتقال انتظام الأمور استقامة الأحوال وحفظت الأولاد وزالت الأنكاد وصفا الوقت وزال المقت فان الخاطر يشتغل ونار القلب بسببهم تشتغل فانه من حين وجود الولد يتقيد بتعهده القلب والجسد وتصرف الهمة إلى القيام بمصالح معاشه إلى حين ترعرعه وارتياشه ويزاد القلب تعلقاً بمحبته ويتقيد الخاطر بالالتفات إلى عمل مصلحته ويتضاعف ذلك يوماً فيوماً وشهراً فشهراً وعاماً فعاماً فان نابه والعياذ بالله نحو ألم أو أصابه ضراً وسقم التهبت عليه الجوارح وانقلبت الهموم على القلب والجوانح فان آل ذلك إلى الموت واستحال وجوده إلى عدم وفوت فهو المصيبة العظمى والطامة الكبرى وأن سلم من هذه العاهات وبلاغ سن الإدراك سالماً من الآفات ونجا إلى بر الشباب من بحر المخافات ازدادت كلفة وتضاعفت مؤنته وركب والداه في ذلك كل صعب وذلول وذهبا من مسالك الكد والكدح في كل عرض وطول وتحملا أنواع المشاق والآثام وارتكبا فيما اكتسبا أصنافاً من الحلال والحرام وهذا إذا كان مطيعاً ولأوامرهما منقاداً سميعاً وأما إذا ركب جموح العقوق ونسي ما لهما عليه من حقوق فهي مصيبة أحرى وداهية كبرى ويصير كما قيل:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد وعلى كل تقدير وأنت بهذا خبير وبدقائقه عليم أن الأولاد بين الأبوين وبين الآخرة سد عظيم ما يخلص مع الالتفاف إليهم لله طاعة ولا على الانقطاع منهم إلى طريق الآخرة وناهيك يا ذا الذكاء والفطنة أخبار من أنقذك من هذه المحنة إنما أموالكم وأولادكم فتنه فاسمع هذا الكلام بأذن التحقيق واسلك في سبر معانيه أوضح طريق وحقق يا ذا الإرشاد إن وجود الأولاد عند ذوي البصيرة من النقاد مزيف ومتاع مزخرف وسم تحت حلوى وسرور فوق بلوى وعارية مردودة بعد أوقات معدودة وأيام محدودة بل لعبة من خشب مموهة بالذهب وطلاء من نضار على كوب من فخار وقد نبه على هذا رب العباد بقوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد وكما أن الأطفال الصغار الغافلين عن دقائق الأسرار إذا نظروا إلى اللعبة المزينة والخشيبات المصبقة المستحسنة التهوا بها عن اكتساب الآداب وملازمة العلماء والمشايخ والكتاب فيبلغون وهم جاهلون وعن طرق اكتساب الكمال ذاهلون ويشيبون وهم أحداث ويتصورون أنهم طاهرون وهم أخباث كذلك كل من التفت إلى غير الله خاطره والتهت بأموره الدنيا من المال والولد سرائره وضمائره وحرم من الأطلاع على دقائق الملك والملكوت وفاته لذات الوقوف على دقائق الرغبوت والرهبوت فهو عن الله تعالى محجوب وفي عساكر الأموات وأن كان حياً محسوب كما قيل: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسادهم دون القبور قبور وإن امرأ لم يحي بالعلم قلبه ... فليس له حتى النشور نشور

قال الله تعالى وكلمته العليا المال والبنون زينة الحياة الدنيا وهذا صريح بالشهادة على ما نقله وجلوت صدأ قلبك بتقريره وصقلته فلا تكونن لاه ولا تعلقن قلبك بغير الله قولاً واعتقاداً وعملاً فالباقيات الصالحات خير عند ربك وخير أملاً واجهد يا حبيب في إصلاح قلبك الكليم وأصغ لما قاله الحكيم الحليم متحرزاً من نكاية العذاب الأليم عاملاً بما يرضي السميع العليم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم وإذا علمت هذا وحققته وحررته وصدقته فاعلم إن الأولى بحالنا والأحسن للنظر في مآلنا أن نعد ما نحن من جملة النعم وإن هذا الذي قسم لنا من القسم في القدم ولا ننقل عن دائرة الرضا والتسليم قدماً عن قدم وننظر ما يتولد من حوادث الزمان ولا نرخي في ميدان الطمع العنان ونعرض على جامح الخاطر ما قال الشاعر: كم نار بادية شبت لغير قرى على بقاع وكم نور بلا ثمر هون عليم أموراً أنت تنكرها ... فالدهر يأتي بأنواع من العبر قال النجدي جميع هذا المقول صادر من موارد المعقول موافق لما ورد به المنقول لقد غصت في بحر الفطنة على جواهر الحكمة فما تركت في ميدان المسائل مقالاً لقائل ولا مجالاً لجائل ولكن لا ينبغي للعاقل أن يغفل عن حوادث الدهر ولا يسند ظهره لكواذب العصر فان طوارق الآفات وخوارق العادات ومحن الزمان وفتن الدوران محتجبة وراء أستار ومستورة في أنواع أطوار والفلك الدوار له في علم الأدوار لعيبات أبكار يبرزها للنظار فتلعب بالأفكار ويذهب في سنا برق مخارفها أبصار الأبصار ويخطئ في حركاتها الرأي المصيب ويدهش في دجى

حندسها الفطن الأريب وقد بادت الفكر وعجزت القوى والقدر وحارت عقول البشر دون إدراك ما يبرزه كل وقت من الصور من وراء ستر الغيب مستعداً للقضاء والقدر ولم يعهد من الدهر الخؤن والزمان المجون إذا استقام أو قزل أو جد أو هزل أو أمر بنازل فنزل أو ولى أو عزل أو أقبل أو اعتزل أو غزل أن يرسل قبل ذلك منذراً أو مبصراً أو محذراً اليستيقظ النائم أو ينهض الجاثم أو يتحرك القائم وإنما يحطم بغته ويهجم في سكته ويأخذ على بهته فلا يفلت منه فلته ولا يهمل إلى لحظة ولا لفته وقد قيل: يا راقد الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا لا تركنن لليل طاب أوله ... فرب آخر ليل أوقد النارا وعلى هذا لو وقع منا غفلة أو ذهول عند قدوم هذا الجيش المهول فاخترم والعياذ بالله واحداً منا ونحن أحسن ما نكون سكوناً وأمناً فكيف ترين يبقى حال الآخرون إلا كما قال الشاعر: ما حال من كان له واحد ... يؤخذ منه ذلك الواحد وإذا بقي أحدنا وانعزل متوحداً ماذا يفيده الوطن والجيران والسكن وهل تفي لذة وصال ألفي سنة بألم فراق تلك الساعة الخشنة كما قيل: إن كان فراقنا على التحقيق ... فذي كبدي أحق بالتمزيق لو دام لنا الوصال ألفي سنة ... ما كان يفي بساعة التفريق وقال أيضاً: لا كان في الدهر يوم لا أراك به ... ولا بدت فيه لا شمس ولا قمر

وكل من لم يفتكر في العواقب قبل حلولها ويتأمل في تداركها بقدر الطاقة قبل نزولها ويطمئن إلى سكون الزمان ويسند ظهره إلى مسند الحدثان ويحيل الكوائن على القضاء والقدر ويرفع يد التدبير عن تعاطي أسباب الحذر كان كمن ترك إحدى زاملتيه فارغة وحشا الأخرى من الأحجار الثقيلة الدامغة فأنى يستقيم محملة أو يبلغ منزله فلا يزال حمله مائلاً وخطبه هائلاً فالعاقل يسعى فيما يظن نفعه ويبذل في ذلك غاية جهده ووسعه ولا يترك الطلب ولا يغفل عن السبب ويعمل بموجب ما قيل: فلا وأبيك لا أدع احتياطي ... ومالي في قضاء الله حيله وعلى كل حال يا ربة الحجال تعاطي الأسباب لا يقدح في الاتكال وناهيك يا مليحة العمل حكاية الحمار مع الجمل فسالت غرغرة أن بين ذلك ويذكره (قال) بلغني أنه ترافق في المسير عبر مع بعير فكان الحمار كثير العثار مع أن عينيه تراقب مواطئ رجليه وكان الجمل على عظم هامته وعلو قامته وبعد عينيه عن مواطئ يديه ورجليه لا تزال له قدم ولا يصل إليه ألم فقال الحمار للبعير أيها الرفيق الكبير ما بالي في المسير كثير التعثير دائم الوقوع والزلل والعثار والخطل لا أخلو من حجر يدمى مني الحافر أو عثرة ترميني في حفرة حافر مع أن عيني تراقب يدي ولا تنظر سواهما إلى شيء وأنت لا تنظر مواطئ اخفافك ولا تعرف على ماذا تقع رؤس أطرافك لا حجر يصيب خفك ولا شوكة تخرق كفك ولا جورة تقع فيها ولا تختل عن طريق تمشيها ولا أدري هذا مماذا

قال أبو صابر يا أخي نظرك قاصر وفكرك غير باصر لا تراقب ما بينيديك ولا تنظر ما أمامك ألك أم عليك فإذا أدهمك ما دهاك عجز عنه نهاك فلا تشعر إلا وقد وقعت وانخرق ما راقعت فلا يمكنك التدارك والتلاف إلا وأنت رهين التلاف وأما أنا فأراقب ما يصير من العواقب وأنظر أمامي الطريق على بعد فأميز المسلوك من قبل ومن بعد فلا أصل إلى صعب إلا وقد أذللته ولا إلى وعر إلا وقد سهلته ولا إلى وهدة إلا وقد عرفت طريقها ولا إلى عقبة إلا وقد كشفت واسعها ومضيقها فاستعد للأمر قبل نزوله وأتأهب للخطب قبل حلوله واحتال لقطعة وصوله وأحله قبل أن يعقد وأقيمه دون أن يقعد وهذه قاعدة للفقهاء وأصل كبير للحكماء من العلماء أنهم قالوا أن الدفع أهون من الرفع ومن كلام الألباء وأصول حذاق الأطباء قوله: الطب حفظ صحة برء مرض ... من سبب في بدن إذا عرض (وإنما أوردت) هذا المثل عن الحمار والجمل لتعلمي ياست الحجل أنه لا بد لنا من الأهبة قبل النكبه فما كل مره تسلم الجره وقد قرب وقت وضع البيض وبعده يدهمنا من سيل العسكر الفيض فلا بد من أعمال الفكر المصيب في وجه الخلاص من هذا الأمر العصيب كما قيل: مهد لنفسك قبل النوم مضطجعاً قالت غرغره الحكيمة المدبرة جميع هذه الأخبار لا تخلو عن دقيق الأنظار وتحقيق مصيب الأفكار وغامض معاني الأسرار وكل عاقل يقبله يديه ويقبل يديه ويمتثله ويقبل عليه وكل فكر مصيب يجثو للأقتباس بين يديه

ولكن طلاب الأغراض الدنيوية والمسارعون إلى نيل المرادات والأمنية على فرق شتى وأنا أفصلها حتماً منهم من يبلغ الآمال بقوة الجند وبذل الأموال ومنهم من يساعده الدهر ويعاضده معاون العصر وينهض له مسعد التقدير فيقوم معه كل كبير وصغير كما قيل: وإذا أراد الله نصرة عبده ... كانت له أعداؤه أنصارا فيقبض له المساعد ويعضده المقارب والمباعد فلا يحتاج إلى كبير ولا في سعي ولا في استماع النصيحة ونفعها إلى وعي بل يصل إلى قصده بدون كده وبغير جهده وجده فمهما فعل أنجح قصد أفلح وحيثما توجه أربح وأينما مال أرجح ومنهم من يحتاج إلى جهد جهيد وسعي مديد وكد طويل عريض وجد عريض غير غريض مع مساعد ناصح ومعاون صالح وتعاطي أسباب وقرع أبواب وفكر دقيق ومسعد رفيق حتى يبلغ مراده ويصل إلى ما أراده ومنهم من تغلب عليه العجلة والطمع وشدة الحرص والهلع فيسارع إلى نيل ما يرومه فيلقب في هرة الحرمان حرصه وشومه فيقع من التعب والنصب في هوه ويحرم لكونه اعتمد على ماله من حول وقوة فيصير كما قيل: الحرص فوتني دهري فوائده ... فكلما زدت حرصاً زاد تفويتا ومنهم من يتمنى ثم يتكاسل ويرجو ويترقب ويتساهل فيحرم مقصده ويرد عجزه من مراده يده وقد قيل في المثل تزوج التواني بنت الكسل فاولد الزوجان الفقر والحرمان فانظر يا ذا لركون والوقار والسكون نحن من أي هذه الفرق نكون وأنت تعلم أنا لا نقدر على مقاومة العقاب ولا أن ندفع عن أنفسنا ما ينزل بنا من عقاب فانه إذا طار العقاب يبلغ الثريا والسحاب ونحن إذا تحركنا في الهو افلا نقدر أن نرتفع عن وجه الثرى وقد قيل في المثل كما ترى أين الثريا من الثرى وقيل من تعلق بخصم

هو أقوى منه فلقد سعى في هلاك نفسه برجله ووضع تراب الدمار على رأسه بيده وكنت يا بدري أنشدتك من شعري: ومن يتشبث في العداوة كفه ... بأكبر منه فهو لا شك هالك وكان مثله مثل النملة الخفيفة التي نبتت لها أجنحة ضعيفة فتحركها دواعي الطيران فتتصور أنها صارت كالنسور والعقبان فبمجرد ما ترتفع عن الثرى إلى الهواء التقمها عصفور أو خطفها أصغر الطيور ولهذا قيل: إذا ما أراد الله أهلاك نملة ... أطال جناحيها فسيقت إلى العطب ونحن ما لنا اطلاع على مكان من الغيب فنزه نفسك عن هواجس الريب وليس لنا مساعد من الأقارب والأباعد ولا لنا مال ولا خيل ول رجال ونحن أقل من أن يساعدنا زمان أو يعيننا على العقاب أعوانفلم يبق إلا الركون والأتكال على حركات السكون فما تدري غداً ماذا يكون وأعلم أن حركاتنا مع العقاب والجامع لنا معه من الأسباب متحدة في الحقيقة وطريقتنا معه من جنس ماله من طريقه وهي الطيريه وكلنا فيها سويه وهو منها كاعجاز القرآن من الفصاحة في الطرف الأعلى ونحن منها كاصوات الحيوان في الأطراف الأدنى فالأولى يحالنا الأصطبار إلى أن يصل لكسرنا من عالم الغيب إنجبار كما قيل: مهلاً أبا الصقر فكم طائر ... خر صريعاً بعد تحليق زوجت نعمي لم تكن كفأها ... آذانها الله بتطليق (وقيل) : الأمر يحدث بعده الأمر ... والعسر مقترن به اليسر وحلاوة الصبيان من عسل ... تلهى وأن حلاوتي الصبر والصبر يعقب بعده شكر ... من نعمة تأتيك أو أجر

فقال الذكر هذه الفكر من الصواب قريب وسهمها عند أولى البصائر والتجارب مصيب ولكن من يتكفل بوفاء العمر الغدار والأيصال إلى الأوطار ويقوم بالأمن من حوادث الليل والنهار وأنسبت انشادي في الوادي يا زين النادي وجمال الحاضر والبادي: لئن بادرت في تسليم روحي ... أتاني من ورائي من يعوق وأن أسرعت نحو الوصل عذراً ... فعمري من ورا ظهري يسوق ثم قال النجدي والرأي السديد عندي والذي أعيده فيه وأبدي أن نتوجه إلى حضرة العقاب ونكشف عن وجه مرادنا لديه النقاب ونطلب منه الأمان من عوادي الدهر ونكبات الزمان ونستظل بجناح عاطفته وننتظم في سلك جماعته وخدمته فانه ملك الطيور وبيده أزمة الجمهور وهو أن كان سلطان الجوارح والكواسر وشيمته سفك الدمار والتمزيق بمخاليبه النواسر لكنه ملك عالي الهمة ومن شيم الملوك الشفقة والرحمة ولا تقتضي همته العالية إلا الشفقة الوافية خصوصاً على من يرتمي لديه وينتمي إليه ولا تدعه شميته الأبية وهمته العالية الحميه وشمائله الشهمة الملوكية أن يتعرض إلينا بضرر أو أن يطير إلينا منه شرر قالت غرغره بعد الاستغراب في الكركرة العجب كل العجب من رأيك المنتخب أنك تخلط منه الغث بالسمين وتسوق فيه الهجان مع الهجين فتارة تصيب حدقة الغرض وأخرى تصرف السهم حيث عرض فتصير كما قيل: تلونت حتى لست أدري من الهوى ... أريح جنوب أنت أم ريح شمأل هذه المصائب التي نشكوها والنوائب التي نقر أسورها ونتلوها هل هي غير ما نقاسيه من العذاب ونعانيه من أليم العقاب في لحظة من ملاقاة عسكر العقاب ثم أنك أنت تحركت في آرائك وسكنت وشرقت في أفكارك وغربت وتباعدت وتقربت وارتفعت يا سلطان وامتنعت وسقطت وجلت

وحمت وقعدت وقمت ثم أسفر رأيك السديد وفكرك الرشيد وأمرك السعيد عن أن تجرنا بسلاسل الحديد إلى العذاب الشديد وتخلدنا فيه الدهر المديد ولا الله بل تريد أن نمشي بأرجلنا إلى الشكبة ونلقي بأيدينا أنفسنا إلى التهلكة وقد أشبهت في هذه الحركة مالكا الحزين والسمكة فقال النجدي لأبنه السعدي أريحي وغني (شكوى الجريح إلى العقبان والرخم) فقالت له أزل الغصة بقص هذه القصة (فقال) كان في بعض المروج من قرى سروج نهر كثير الحيتان شديد الجريان وفي مكان من مصون مأوى المالك الحزين البلشون فكان يتصرف في السمك نصرف المالك فيما ملك قضى في ذلك عمره وزجى أوقاته في طيب عيش ومشره إلى أن أدركه المشيب ورحل عنه العمر القشيب وكساه خياط الدهر دلق ومن نعمرة ننكسه في الخلق ورأى من الكبر أصناف العبر إلى أن ضعفت قوته عن الاصطياد وجرى عليه من الآلام والأنكاد ومن نوائب الدهر ما الزمان به معتاد فصار يمر عليه برهة من الأوقات وهو عاجز عن تحصيل الأقوات فتوجه في بعض الأحيان وقد علته كآبة الأحزان ووقف على النهر متفكراً في تصرفات الدهر فمرت به سمكة لطيفة الحركة فرأته في ذل الانكسار سابحاً في بحر الأفتكار لا قدرة له ولا حركة ولا نهضة لاختطاف السمكة فلم يلتفت إليها ولا عول عليها وقد أوطأته الحوادث أقدام الهمومالكوارث وبدل ربيع شبابه بخريف الهرم وحرارة حربه ببرودة السلم فوقفت لديه وسلمت عليه وسألته عن موجب تفكره وسبب تحزنه وتحيره

فقال تفكرت ما مضى من الزمان الناضر وما تقتضي فيه من طيب العيش وانشراح الخاطر وقد تبدل وجوده بالعدم ولم يحصل من ذلك سوى الذنوب والندم وقد وهنت العظام واستولى على الجسد السقام وتزلزلت أركان الأعضاء وتراكمت فنون الأدواء واشتعل الشيب وانقد وجر الآلام وقد: عزمت على إخلاء جسمي روحه ... من خرق شيب كل عنه الراقع قلت اسكنيه يا عمارة عمره ... قالت فكيف وبيت جسمك واقع ثم قال ولم أفق من هذه السكرة ولا وقعت في هذه الفكرة إلا وسفينة العمر بالساحل قد أرست وأصيل شمس العيش على قلة الفناء أمست فما أمكنتي إلا التلافي بالتوبة والندم قبل حلول نوائب الأجل وزلة القدم والتطهر من جنابة المظالم بمياه الاستعبار والالتجاء إلى جانب الحق بالالظاظ في الاستغفار وغسل أوساخ الذنوب والمظالم بدموع الإنابة والاعتذار: وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شامل فاعلمي أن جامح هواي قلع ضرس الآمال والطمع وجارح متمناي خوافي الشره والهلع وقد قدمت إلى هذا المكان لا تحلل من الأسماك والحيتان فأني طالما أغرت على عشائرهم وأولادهم وخضت في دماء قلوبهم وأكبادهم وشتت شملهم وخوفت جلهم وقلهم. وأرعبتهم وأرهبتهم وأقلقتهم وفرقتهم وغربتهم وبالدماء شرقتهم فرأيت براءة الذمة في الأولى أولى والمبادرة بالتوبة قبل المصير إلى الأخرى أحرى فلعل أحمال الذنوب تخف وسحائب الغفران تكف

فلما سمعت السمكة هذه الخديعة ووعت ما فيها من حركة بديعة تشربتها أضلاعها ودعاها انخداعها إلى أن قالت فما ترى أيها العبد الصالح أن أتعاطاه من المصالح فقال ابلغني السمك هذا الكلام بعد إبلاغ التحية والسلام وأن يكون القوم من بعد اليوم آمنين من سطواتي سالمين من حملاتي ساكنين إلى حركاتي بحيث تتجلى الظلماء ويعود بيننا الحرب سلماً وينام السمك في الماء قالت لا بد من أخذ العهود على الوفاء بهذه العقود وأقلها المصافحة على المصالحة ثم تأكيد الأيمان بخالق الأنس والجان ولكن كيف أصافيك وأنا طعمتك وأني أتخلص من فيك إذا وضعت فيه لقمتك قال لها ابرمي هذا العلف واربطي به حنكي لتأمني التلف فأخذت قبضة من الحشيش وفتلت وإلى ربط فكه أقبلت فعندما مد منقاره إلى الماء وقربت منه السمكة العمياء لم يفتر أن اقتلعها ثم ابتلعها (وإنما أوردت) هذه اللطيفة يا ذا الحركات الظريفة لتعلم أن قربنا من العقاب ألقى بنا أنفسنا إلى أليم العقاب وأين عزب عنك نهاك حتى تسعى بنا إلى عين الهلاك ونحن قوت العقاب وغذاؤه ولداء جوعه شفاؤه ودواؤه وهل يركن إلى العقاب ويؤمن منه ضرب الرقاب وقد قيل: أنفاسه كذب وحشو ضميره ... دغل وقربته سقام الروح وقد قيل: أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة ... عن نومك بين ناب الليث والظفر قال النجدي اسلمي يا قرينة الخير واعلمي أن الريح وقت الربيع تكسو أكناف الأشجار من أنواع الأزهار ووجه الصحاري والقفار من أنوار

الأنوار ما يدهش البصائر ويروق الأبصار وينعش الأجسام ويشفي الأسقام ويبرد الغليل ويبرئ العليل لا سيما وقت السحر ونسيم الصبا في ضوء القمر يربى القلب والروح وبحي الصب والجروح وكذلك المعرفات النشر واللواقح والمعطرات بطيب الروانح ودونك قول الحق في كلمته ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته وفي المصيف الجرور العسيف والسموم العصيف المذيب المذيف وفي الشتاء وأيام الخريف الصرصر المخيف يصفر اللوم ويغير الكون ويعرى الأشجار ويسقط الثمار ويثير الغبار وربما كانت إعصاراً فيه نار وتسقم الصحيح وتطبر الهشيم في الريح ومنها الأعجاز الموشحات والأيام النحسات والقواصف والعواصف والحواصبوالحراجف والصرصر والنكباء والزعرع والرخاء وقد قال فيها العزيز العليم فأرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أنت عليه إلا جعلته كالرميم ثم اعلمي يا ربة الحجال وفتنة الرجال إن النار تحرق من يقربها وتذهب ما يصحبها وتنشف الطراوة وتشوه الطلاوه وتنتقم ما تجده

وتلتهم وتزدرده وتسود بدخانها وتؤلم الأجساد بقربانها وتمحو الآثار وتهدم الديار مع أنها تنضج الأطعمة وتصلح الأغذية وتهدي النور وتد في المقرور وترشد الضال في القفار ورؤس الجبال قال من يقول للشيء كن فيكون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين وكذلك الماء يا ذات الثغر الألمي يذهب الظما ويجلب النما ويبرد الصدور ويطفئ الحرور وينبت الزروع ويدر الضروع ويحمل المراكب وما فيها من مركوب وراكب وما فيها من مركوب وراكب قال القادر على كل شيء وجلعنا من الماء كل شيء حي وإذا طغت المياه والعياذ بالله أغرقت المراكب وخطفت الراجل والراكب واقتلعت الأشجار واقتطفت الحجار وأتلفت الزروع والثمار وإن تراكمت الأمطار قطعت سبل الأقطار وهدمت الديار وردت الآبار وسل عن ذلك ملابس الأسفار ومجالس الرتب من أهل الأمصار وإذا تكائف الرش غرقت مصر وآذى أهلها العطش ونعوذ بالله من هجوم السيل في ظلام الليل وكذلاك التراب يا زين الأحباب ينبت الحصرم والعنب والثمر والحطب والشوك والرطب ويشرع سنان الشوك المحدد وغصون السهم المسدد ويربى الورد والأزهار والرياحين والأنوار والأقوات والثمار والرياض النضرة والغياض الخصرة ثم إذا ثار وهاج الغبار خرج من تحت الحوافر فاعمى النواظر ففيه الحلو والمر والزوان والبر والناعم والخشن والقبيح والحسن والأرض مهاد وفراش وفيها أسباب المعاش

وهذه المضرة والمنفعة مركبة في هذه العناصر الأربعة التي هي أصل الكائنات وسنخ ما نشاهده من المخلوقات وإذا كان ذلك كذلك وقاك الله شر المهالك وأوضح لك أوضح المسالك فاعلمي بالتحقيق يا صاحبة الثغر العقيق إن هذا الملك الأعظم بل كل أولاد بني آدم مركبون من الرضا والغضب والحلم والصخب والرفع والحط والقبض والبسط والقهر واللطف والظرافة والعنف والخشونة واللين والتحريك والتسكين والبخل والسخاء والشدة والرخاء والوفاء والجفاء والكدورة والصفاء واعلمي يا نعم العون وقرينة الصون إن هذا الكون سروره في شروره مندمج ووروده في صدور مندرج وصفاؤه مع كدره مزدوج وجفاؤه بوفائه ممتزج فيمكن أن العقاب لكونه ملكاً مالك الرقاب مع وجود هيبته القاهرة وسطوته الباهره وخلقه الشرس الصعب الشكس إذا رأى ضعفنا وذلنا وانكسارنا وقلنا وترامينا لديه وتعولنا عليه يضمنا إلى جناح عاطفته ويسبل علينا خوافي مرحمته ويعاملنا بالألطاف ويسمج لنا بالإسعاف دون الأعساف ويعمل بموجب ما قيل: لكل كريم عادة يستعدها ... وأنت لكل المكرمات امام والقادر على الكسر والجبر لا سيما إذا كان من ذوي النباهة والقدر لا يعامل ذوي الكسر بالكسر لانا في مقام الأبوة والتقوى على الضعيف ضعف في القوة وقالوا المصغر لا يصغر وسجدة السهو ولا تكرر قالت غرغرة ذات التبصرة هذا وأن كان داخلاً في حيز الإمكان لكن أخاف يا ذا الألطاف أنا بمجرد الوقوف بين يديه في الصفوف لا

نمهل بأداء الكلام ولا للثبات في المقام بل نعامل بالتمزيق والتخريق وننحر بعد في الطريق وتهوى بنا خواطف الطير في مكان سحيق فيفوتنا هذا المطلب إذ قيل الطبع أغلب وهذا وصلنا إليه وتمثلنا بين يديه وأما إذا اعترضنا دونه عارض وجرحنا من جوارح الطير معارض ولا حول يحمينا ولا قوة تنجينا فينتف ريشنا كل باغ ويتجاذب لحمنا كل طاغ فيصير مثلنا مثل النمس والزاغ فسأل اليعقوب تلك الرقوب كيف هذا المثل أخبريني يا ست الحجل (قالت) كان في بعض البساتين العاطرة والرياض الناضرة مأوى زاغ ظريف حسن الشكل لطيف في رأس شجرة عالية أغصانها سامية وقطوفها دانية فاتفق لنمس من النموس في وكره ضرر وبوسفانزعج عن وطنه واحتاج إلى مفارقة سكنه فقاده الزمان إلى هذا المكان فراقه منظره وشاقه نوره وزهره وأعجبه ظله وثمره وأطربه بخريره نهره فعزم على السكنى فيه وتوطن إلى أن توطن في نواحيه ذرآه أحسن منزل وإذا أعشيت فانزل ووقع اختيار ذلك الطاغ على وكر في أصل شجرة الزاغ فسوى له وكراً وحفره في أصل تلك الشجرة وألقى عصا التيسار واستقرت به هناك الدار فلما رأى لزاغ هذه الحال داخله الهم والاوجال وخشى أن يتدرج من أدناها ويتدحرج إلى أعلاها وينشد الأصحاب في هذا الباب: ولما مضى الشوق ... إلى نحو أبى طوق تدحرجت لكني ... من تحت إلى فوق فيصل إلى وطنه القديم ويذيقه العذاب الأليم فليس له خلاص من هذا الاقتناص إلا مفارقة الوطن والانزعاج بالتحول عن السكن وكيف يفارق ذلك النعيم ويسمح بالبعد عن الوطن القديم وهو كما قيل:

بلاد بها نيطت على تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها فغلبت محبة وطنه على قلبه ولم يطاوله على فراقه لشدة حبه ثم اعتراه في ذلك الوسواس وأخذ يضرب أخماساً لأسداس في وجه الخلاص من هذا البأس فرأى المدافعة أولى الممانعة عن جوارحه لخاطره أجلى ثم افتكر في كيفية المدافعة وسلوك طريق الممانعة فلم ير أوفق من المصانعة وتعاطي أسباب المخادعة ليقف بذلك أولاً على حقيقة أمره ويعرف معيار خيره وشره ويصل إلى مقدار قوته وضعفه ورصانة عقله وفهمه وسخفه ويسبر حالتي غضبه ورضاه ويدرك غور أحواله ومننهاه ثم يبني على ذلك أساس دفعه وهدم ما يبنيه من قلعته لقلعه فهبط إلى النمس من الهواء وحفظ شيأ وغابت عنه أشياء وسلم عليه سلام المحب على الحبيب وجلس منه بيمكان قريب وخاطبه خطاب ناصح لا مريب وابتهج بجواره واستأنس بقرب داره وذكر له أنه كان وحيداً وعن الجليس الصالح والأنيس الناصح فريداً وقد حصل له الأنس بمجاورة النمس وأنه صدق من قال في هذا المقال: انفراد المرء خير ... من جليس السوء عنده وجليس الخير خير ... من جلوس المرء وحده فاستمع النمس حديث الزاغ وما طغى بصر يصيرته عن سكايده وما زاغ ثم افتكر في نفسه ونظر في مرآة حدسه فرأى أن هذا الطير بخبث السيرة مشهور وبسوء السريرة مذكور ولا أصله زكي ولا فرعه على ولا غائلته مأمونة ولا صحبته ميمونة ولا خير عنده ولأمير بل يخشى منه الضرر والضير وكأنه فيه قيل:

وهو غراب البين في شؤمه ... لكن إذا جئنا إلى الحق زاغ ولم يكن بيننا وبينه قط علاقة ولا واسطة محبة ولا صداقة وأما العداوة فإنها مستحكمة وكل منا للآخر ما كلة ومطعمه ولا أشك أنه إنما قصد طريقة سوء ومكيدة نكد فأن أضعت فيه الفرصة أطلت الغصة ووقعت من الندامة في قصة وحصة ولا يفيدني إذ ذاك الندم أني وقد فات المطلوب وزالت القدم (وأحزم الحزم سوء الظن بالناس) فالذي يقتضيه الحزم والرأي السديد والعزم القبض عليه إلى أن يظهر ما لديه ثم وثب من مريضه وأنشب في الزاغ مخاليب مقبضه وقبضه قبضه أعمى لا كالقابض على ألما فلما رأى الزاغ هذا النكد وأنه قد صار كالفريسة في مخاليب الأسد ناداه يا كريم الخير ويا أيها الجار الحليم عن الضير أنا رغبت في مصادقتك وجئتك محباً في موافقتك ومرافقك وأردت إزالة وحشتك وموانستك بإبعاد دهشتك وحاشاك أن تخيب ظني فيك وتعامل بالجفاء من يوافيك وأنشده: وحاشاك أن تمشي بوجهك معرضاً ... وما يحسن الأعراض عن وجهك الحسن والكرام لا يعاملون الجلساء إلا بالمؤانسة وحسن الوفاء والإبقاء على خير والبعد من الضير وأنا قد صرت جليسك وجارك وأنيسك وقد قيلوكنت جليس قعقاع بن شور ولا يشقى لقعقاع جليس مع أنه لم يسبق مني سبب عداوة ولا ما يوجب هذه الفظاظة والقساوة وهذه أول نظرة فما موجب هذه البدرة وما سبب هذه النفرة قال النمس أيها الزاغ الكثير الرواغ وانحس باغ وانجس طاغ اسمك ناطق انك منافق وهو خبر صادق إذ هو في الخارج للواقع مطابق ورؤيتك شاهده أنك تنقض المعاهدة وعين منظرك دل على مخبرك وقد قيل:

والعين تعرف من عبتي محدثها ... إن كان من حزبها أن من أعاديها من أين بيننا صداقة ومتى كان بين النموس والزاغ علاقة وكيف تنعقد بيننا صحابه وأنى يتصل لنا مودة أو قرابة بين لي كيفية هذا السبب ومن أين هذا الإخاء والنسب أما أنت فلي طعمه وأما أنا فلحمي لسدي غذائك لحمه يسوءني ما يسرك وينفعني ما يضرك: الله يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكم أن لا تحبونا أنا واقف على ما في ضميرك وعالم بسوء فكرك وتدبيرك قد اطلعت منك على الهواجس كما اطلع ذلك الماشي على ما في خاطر ذلك الفارس قال الزاغ بين لي بلا جدل كيف هو هذا المثل (قال) النمس ذكر رواة الأخبار ونقلة الآثار أنه ترافق في بعض السباسب راجل وراكب وكان مع الراجل من البضائع رزمه وقد جعلها كارة وخرمها أوثق خرمه وقد أعياه حملها حتى أعجزه نقلها فقال للراكب أيها الرفيق الصاحب لو ساعدتني ساعة بحمل هذه البضاعة لكنت أرحتني ونفست عني وشرحتني: كذى المجد يحمل أثقاله ... قوى العظام حمول الكلف قال الفارس لا أكل فرسي ولا أتعب نفسي ونفسي فان مركوبي لم يقطع البارحة عليقه وأنا خائف أن لا يقطع بي طريقه وإذا خفت تخلفي في سيري فأني أتكلف حمل أثقال غيري

فبينما هما في هذا الكلام إذ لاح في بعض الآكام فأطلق العنان وراء الأرنب وذهب وراءهما كرأي الزنادقة كل مذهب فوجد فرسه قوية النهضة سريعة الركضة فرأى أنه أضاع حزمه في عدم أخذه الرزمة وما ضره لو أخذها وساق وذهب إلى بعض الآفاق وأقام بها أوده وأنتفع بها وولده وترك الماشي بلا شيء ثم رجع بهذه النية الضارة ليحمل عن الماشي الكارة وقال له اعطني هذا الحمل المتعب لأريحك من حمله في هذا المذهب وابلغ ريقك واقطع طريقك فقال له قد علمت بتلك النية وما أضمرت من بليه فاتركني بحالي فلي حاجة بمالي فثم أن النمس كسر الزاغ وحصل له بأكله الفراغ (وإنما أوردت) هذا المثال لتعلم بأفحل الرجال إن العقاب لا يؤمن ولا يقطع فيه بالظن الحسن ولا يركن إلى خطفة بوارقه بمخاليب صواقعه وصواعقه ولا إلى غوائله وبواثقه وهذا إن سلمت شقة حياتنا من تشقيق غواشيه وتخلص برد وجودنا من تمزيق حواشيه وإن بينك وبين هذا المراد خرط القتاد والموانع التي هي دون سعاد فما الوصول إلى ملك الطير قريب التناول في السير ولا سهل المأخذ ولا سريع المنفذ وأين الحجل من العقاب ذاك في نعائم النعيم وهذا في عقاب العقاب فتدبر عاقبة هذا الأمر وتأمل في الفرق بين التمر والجمر والظاهر عندي وما أدى إليه فكري وجهدي إن عاقبة هذه الأمور ليس إلا القطوع والقصور دون الوصول إلى الملك في القصور

قال الذكر لقد كررت عليك مراراً وأسندت إلى سمعك إنشاء وأخبار أن علو همة هذا الملك وفضله الخالي عن شرك وكرم نجاره وأمن خادمه وجاره وفيض إحسانه وبسط كرمه وامتنانه وانتشار صيت حشمته واشتهار رأفته ورحمته لا يقتضي حرمان من قصده وأم جنابه وأعتمده ولجأ إلى جناح عاطفته وتشبث بذيل ملاطفته وحاشاه أن يصم مصون همته بابتذال دناءة ويشوه جمال وفائه لمن ترفق له بنكتة جفاء تخيب رجاءه خصوصاً إذا رأى مني خضوع العبودية والقيام بمراسيم الخدمات الأديبة والمقام بمراكز مرضيه والوقوف عند كل ما يعجبه ويرضيه فأني بحمد الله تعالى أعرف مداخل الأمور ومخارجها وعندي الاستعداد الكامل لصعود معارجها وأعلم طرق المجاز إلى حقائقها وسلوك دروبهاوطرائقها فالأولى أن نقتصر عن المحاورة ونكتفي بهذه المساورة في المشاورة ونتوكل على مقلب القلوب ونتوجه نحو هذا المطلوب بعزم شديد وحزم سديد فان تيسر لي ملاقاة حضرته والتمثل في مراكز خدمته وحصلت لي مشاهدته واتفقت مخاطبته ومعاهدته أنشأت خطبة تدفع الخطوب وتجمع القلوب وتؤلف بين المحب والمحبوب وأرجو أن تكون نافعه لمصالح الدين جامعة فان كلامي في مقامي كما قيل في المثل: فأوجز لكنه لا يخل ... وأطنب لكنه لا يمل وآخر الأمر سلمت غرغرة زمام انقيادها إليه وعولت في عمل المصالح عليه ثم قالت له عيش واسلم وتيقن وأعلم انك إذا قصدت هدمة الملوك وأردت في طريق مصاحبتهم السلوك فانك محتاج في ذلك المنهاج إلى نور وسراج يهديك إلى صفات جميلة وتلبس بخصائل نبيلة تتحلى بجمالها وتتعلى بكمالها وتتجلى في شمائل جلالها

الأولى أن تقدم في جميع مصادرك ومواردك الملك على جميع مقاصدك الثانية أن تتلقى أموره بالتعظيم وتقيم أوامره بالاحترام والتفخيم الثالثة تحسن أقواله وتزين أفعاله بوجه لا يتطرق إليه تشويه ولا يحتاج فيه إلى تنبيه الرابعة تجتهد في صيانة عرضك عن الخنا وإياك أن تقول في حضرته أنا فتقع في العنا الخامسة أن تعد على الدوام ومرور الأيام خدماتك الوافرة وحقوقك المتكاثرة عن حقوق نعمه قاصرة السادسة إذا وقعت منك زلة فلا تتعد بها جمع القلة بل اطلب لتلك الهفوة في الحال محوه واقصد مراحمه وعفوه فان الذنوب إذا تراكمت وتجمعت وتزاحمت أشبهت المزبلة المدمنة وفاحت روائحها المنتنة والإنسان غير معصوم والآدمي بالخطأ موسوم السابعة احفظ وجهك في حضرته عن التقطيب وكلامك أن يفوح منه غير الطيب الثامنة إياك ومصادقة أعدائه ومعاداة أوليائه التاسعة كلما زادك رفعة وتقريباً مل إلى التواضع واعظامه تصويباً

العاشرة لا ندخر عنه نصيحة وانصحه في الخلوة لئلا يؤدي إلى الفضيحة وإذا أقامك في أمر ولو أنه المشي على الجمر لا تطلب منه أجراً ولا تبد لذلك ذكراً فأن الطمع يورث العقوق والمن يسود وجه الحقوق وأعلم أن حضرة الملوك عظيمة ومجالسهم جسمية تنزه عن الكذب والغيبة والنميمة والأقوال الوخيمة والأفعال الذميمة وإياك أن تتعدى القواعد الكسرويه وتتخطى القوانين السلطانية فان أعظمها كان أن يعرف كل إنسان تقصير نفسه في خدمة مخدومه ويعترف له من إحسانه بعمومه ويقيم واجب همة ملكه ومقام مرسومه قال النجدي أخبريني يا دعدي وحظي وسعدي وابنة السعدي ومزينة القواعد بشيء من تلك القواعد (قالت) من القواعد الكسرويه الدائرة بين البرية ما وضعها بعض الملوك وحمل رعيته فيها على السلوك وكان مشهوراً بالعدل والإحسان مذكوراً بإقامة البرهان متصافاً بالصفات الحميدة مكتنفاً بالشمائل السعيدة من الدين والعفة وعدم الطيش والخفة بعقل راجح الكفة والعلم الوافر والحلم العاطر وذلك أنه في بعض الأيام أمر أن يجتمع الخواص والعوام ما بين أمير ووزير وكبير وصغير وغني وفقير وجليل وحقير وعالم وجاهل ومعضول وفاضل ومذكور وخامل وناظر وعامل وحال وعاطل وحاكم وقاض وساخط وراض وجندي وتبع وأخرق وصنع ووضيع وشريف ولطيف وكثيف وثقيل وخفيف وقريب وبعيد ومقبول وطريد

وشقي وسعيد وسوقة وتاجر وسفيه وفاجر ودان وقاص وطائع وعاص وصالح وطالح وضاحك وكالح ومصيب ومخطئ ومسرع ومبطئ وصياد وملاح وسياح وسباح وبلدي وفلاح ومسلك وسالك ومملوك ومالك بحيث لا يتخلف عن الحضور أحد ولا يجزي في التقاعد والدعن ولد ثم مهد لهم في روض أرايض ومرج طويل عريض تصفق مياه أنهاره طرباً وتتناغى بأطيب الألحان فصحاء أطياره الخطباء وتتراقص بزهر الوقت أغصان أشجاره ويلتذ بفواكه الجنان جاني ثماره فهو كما قيل: يلتذ جانيه بأنعم مقطف ومنه ساكنه بأكرم معطف والورق بين محلق في جوه ... طرباً ومنحط عليه مرفرف وأمر بفرش ذلك المكان بالفرش الحسان من الديباج والحرير وأطلق مجامر الند والعبير وبين لكل مقاماً معلوماً ومجلساً مقسوماً وأحل كلاً منهم محله واسبغ عليهم ذيل إحسانه وطله ثم أمر بأنواع الأطعمة المفتخرة وأصناف الملاذ الطيبة العطرة فأحضرت في أواني الفضة والنضار ووضعت بين يدي أولئك الحضار بحيث عمت الجميع ووسعت الشريف والوضيع وجلس الملك في مجلس السلطنة واكتنفه من العساكر الميسرة والميمنتة وأخذ كل مكانه ورتب أصحابه وأعوانه ثم أقام عليهم أرباب الديوان وأدخل جميعهم في دفاتر الحسبان وأمر منادياً سيداً يرفع بصوته الندا في ذلك الجمع بحيث شمله من الجميع النظر والسمع يا أهل هذا المكان برز مرسوم السلطان إن كل من هو فر مرتبه من

مرضاه أو معتبه لا يلاحظ من فوقه ولو أنه من أمير وسوقه بل يلاحظ حال من هو دونه فائزة كانت منزلته أو مغبونه فان ذلك أجمع للقلوب وأدعى للشكر المطلوب وأجلب للرضا بحوادث القضا فان من رأى نفسه في مقام ونظر غيره في أدنى من ذلك المقام استقام وكانت عنده منزلته عليه وعد لنفسه على غيره مزبه فتوطنت نفسه على الرضا واستقبلت بالشكر وارد القضا مثال ذلك الرئيس النازل في الصدر إذا رأى من هو دونه في القدر لم يشك في أن محله محل البدر وباقي الرؤساء كالنجوم فلا يأخذه لذلك وجوم وقد قال الحي القيوم في در كلامه المنظوم وما منا إلا له مقام معلوم وكذلك النائب بالنسبة إلى الحاجب والدوادار بالنسبة إلى البزدار والخزندار بالنسبة إلى جابي الدراهم والدينار والمهتار بالنظر إلى السائس والبرقدار وكذلك بالنسبة إلى الحارس وكاتب السر المرتفع بالنسبة إلى المدير والموقع والزمام بالنظر إلى سائر الخدام وأيضاً القاضي مع الفقيه والفقيه مع التاجر النبيه والتاجر مع السوقي السفيه والغنى والأمير بالنسبة إلى المأمول والفقير وعلى هذا القياس أوضاع جميع الناس من أرباب الصنائع وجلاب البضائع وأهل المدن والقرى وذوي البيع والشرا والوهد والذرا وأولى الوضاعة والشرف من أنواع المكتسبات والحرف إلى أن ينزلوا في المراتب

ويتدحرجوا من اليفاع إلى الحضيض في المناصب ويتعاونوا في المناصب والمناقب ويصل قدرهم ونظرهم في ذلك إلى كل ذي فعل سيئ حالك كأرباب العظائم وأصحاب الذنوب والجرائم فينظر المعتوب حاله بالنسبة إلى المضروب والمشتوم حاله بالقياس إلى حال المكلوم والصحيح بالنسبة إلى حال الجريح ويلاحظ مضروب العصا حال المسلوخ بالمقارع ومضروب المقارع أحوال مقطوع الأكارع وكذلك المقطوع بالنسبة إلى مصلوب الجذوع والمصاب بالمال بالنسبة إلى مصلوب الجذوع والمصاب بالمال بالنسبة إلى مصاب البدن والأعرج بالنسبة إلى المقعد الزمن وكذلك العوران بالنظر إلى مصاب العميان وليتأمل الناظر ما قاله في ذلك الشاعر: سمعت أعمى مرة قائلاً ... يا قوم ما أصاب فقد البصر أجابه أعور من خلفه ... عندي من ذلك نصف الخبر ولتكن هذه القواعد مستمرة العوائد بين الصادر والوارد ليعلم أن مصائب قوم عند قوم فوائد فاستمرت هذه القوانين مستعملة غير منسية ولا مهملة من زمان ذلك السلطان إلى هذا الزمان وانظر أيها الفضيل إلى معنى ما قيل في هذا القبيل وهو: على كل حال ينبغي الشكر للفتى ... فكم من شرور عن سرور تجلت وكم نقمة عند القياس بغيرها ... ترى نعمة فاشكر لدى كل نقمة (وإنما) أوردت هذه الأمثال وأطلت النفس في بيان هذه الأحوال لتأخذ منها حظك وتكررها فيما أودعته حفظك وتجري بها ليلاً ونهاراً لفظك حتى تصلح المنادمة الملك ولا يعلق بذيل مكانتك من الحساد مرتبك وترضى بأي مقام أقامك فيه وتعلم انه أعلى مقام ترتضيه حيث هولك يرتضيه وتجعل: مورد لسانك ومقعد جنابك في طلبك رضاه ما كنت أنشدتك إياه من قديم الزمان وأنا عليه الآن وهو:

وأعلى مقاماتي وأسنى وظائفي ... وأحسن أسمائي أنت ترضاه فقال الذكر ما أحسن عقد هذه الدرر لقد أفصحت إذ نصحت وزينت بما بينت فجزاك الله خيراً وكفاك ضيراً فحقيق على أن أقتدي بآثارك واهتدي بأنوارك فما أرجح ممزانك وأغرز حسنك وإحسانك لقد جمعت بين فصاحة النقل ورجاحة العقل ومزجت روح الحصافة الظرافه وجلوت صورة النصيحة في خلعة اللطافة ثم أنهما توكلا على العزيز الوهاب وقصدا حضرة ملك الطير العقاب فواصلا السير بالسرى واستبدلا السهر بالكرى ولم يزالا في سير مجد وطلب مكد بين الادلاج والدلجة مقارن مقارن حتى وصلا إلى جبل قارن وكان عند العقاب أحد المقربين من الحجاب بؤبؤ نقي الجؤجؤ تقي البؤبؤ أحسن منظراً من اللؤلؤ صورته مسعودة وسيرته محمودة وهو بين أولئك الطير مشكور الأحوال مشهور الخير وفيه من المعرفة والدين والعقل الرصين والرأي المتين ما يصلح أن يكون به مقتدى السلاطين وعنده من الوقوف على دقائق الأمور ما فاق به الجمهور وساد به على سائر الطيور وكان صيته قد اشتهر حتى ملأ البدو والحضر فترك النجدي بنت السعدي في مكان وقصد اليؤيؤ لعرض عليه ماله من شان فوصل إلى جنابه وأتى بيت مقصده من بابه حتى دخل عليه وقبل يديه وتمثل لديه فتوجه اليؤيؤ إليه وأشار بتقريبه منه وأزال دواعي الوحشة عنه وأقبل

عليه بكليته وزاد في إكرامه وطلابه فانشده بديها ولم يقل أيها مفصحاً معلناً مستعيناً مضمناً: لقد قص ريشي الدهر عن كل مطلب ... وألهمني سعدي بأنك رائش ففي سمري مد كهجرك مفرط ... وفي قصتي طول كصدك فاحش ثم قال اعلم أيها الرئيس المحتشم النفيس أن مولدي في جبل من جبال أذربيجان في مكان يضاهي الجنان ويباهي روضة رضوان أنزه من عنصر الشباب وأفكه من معاقرة الأتراب وأرفه من منادمة الأحباب على رقيق الشراب نشأت فيه مع قرينه جميلة أمينة فقضيت فيه غض العمر وزجيت فيه بض الدهر قانعا بما تيسر من الرزق فأرغما عما في أيدي الخلق متمسكا بذيل العزلة أعد الانفراد نعمة جزلة مكرراً درس ثلاثة نجم النفس القرينة الصالحة الجار المؤنس والكفاف من القوت ومما كنت أنشدت وفي مبدأ أمري أرشدت: وحسب الفتى قوت وخل وزوجة ... ليرتاح في الدنيا ويكتسب الأخرى وكنت من الدهر على هذا اقتصرت ومن لذيذ العيش على القناعة اختصرت ولكن كان مأوانا ومصيفنا ومشتانا محل الحوادث وممر العوائث والعوابث ومعبر المصائب ومورد الصيد ومورد الموطئ عمرو وريد فكنا كلما ولد لنا مولود وتحدد لنا بالبهجة والابتهاج عهود حصل للعين قره وللروح مسرة نقول هذا يبقى ذكرنا بعدنا ويحيى آثارنا عند حلولنا لحدنا فلم يكن أسرع من هجوم خاطف أو هبوب ريح نكبة عاصف يخطفه من بيننا ويجذبه من قبلنا وعيننا فان سلم من تلك المكايد وتخلص من سهم

المصائب والمصايد حطمته عساكر الملك المنصورة وملأت الأقطار الجنود الموفورة فلا يخلو منها مكان قدم إلا وقد غص بمواطئ تلك الأمم فتذهب مناقرة العين وتدهك غلطاً تحت الرجلين وهذا هو البلاء الطام والمصاب العام ولا بد منه في كل عام فكأنه أيها النبيه النبيل في شأننا قد قيل: أيا ابن آدم لا يغررك عافية ... عليك شاملة فالعمر ممدود ما أنت إلا كزرع عند خضرته ... بكل شيء من الآفات مقصود فان سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند كمال الأمر محصود فضاق منا لهذا العطن فلم أر أوفق من مفارقة السكن والمهاجرة من الوطن فعرضت على القرينة هذه الحال وأسرت عليها بالارتحال وقلت لها المرء من حيث يوجد لا من حيث يولد فأبت وكبت وشاقت في: ذلك ونبت فلا زلنا نتحاور ونتشاور ويرمى كل منا سهم رأيه إذ يساور حتى لانت أخلاقها الصعبة بعد أن ثلث ما في الجعبة ثم أعطت القوس باريها وسلمت الدار بانيها وأدركت ملامح مقاصدي معانيها وسمحت بالانتقال من تلك البلاد وسلمت إلى يد تدبيري زمام الانقياد فرحلنا بعيده وقاسينا شدة شديدة وقصدنا هذا الحرم إذ رأيناه مشتملاً على اللطف والكرم وقطعنا شباك مصايد وخلصنا من إشراك كل صائد وفطمنا أنفسنا عن حبات الطمع وتجرعنا من كاسات الجزع وأقداح الفزع جرعاً بعد جرع فوصلنا بحمد الله إلى جنابك الأمين وبشرنا مبشر الإقبال أنك لكل خبر ضمين فحمدنا عند صباح الفلاح السرى وأنشدنا لسان السعد مبشرا: وجدت من الدنيا كريماً نؤمه ... لدفع ملم أو لنيل جزيل وإن لم يكن بيننا سابقة خدمة لكن تعارف أرواحنا له قدمه مع أن كرم ذاتك الجميلة وما جبلت عليه من صفات نبيلة يغني قاصد صدقاتك عن

واسطة ووسيلة ووالله أني لواثق بان ظني بوفاء مكارمك صادق فاسأل إحسانك يا ذا الخير إيصالي إلى خدمة ملك الطير وإن كانت رفعة مكانه في العيوق ودون الوصول إليه بيض الأنوق لكن بواسطة الوسيلة يحصل هذا الشرف والفضيلة ولا زالت الرؤساء والأكابر يأخذون بيد الضعفاء والأصاغر ولرأيك العلو والشرف والسمو والعف والحنو فاهتز اليؤيؤ لهذا الكلام وارتاح وظهر في وجهه تباشير المسرة والأرتياح وأنشد: قدمت بأنواع المسرة والهنا ... على خير منزول وأيمن طائر فأهلاً وسهلاً ثم أهلاً ومرحبا ... وبشرى ويسرى بالعلى والبشائر أعلم أن قدومك صدق ومرافقتك سبب الرفق ورؤيتك فتح باب الفتوح وروايتك غذاء القلب وراحة الروح أبشر بكل ما تؤمل وتختار فقد ذهب العثار وجاء الأمن واليسار أصبت مرامك وزينت مقامك وآنست منزلك وأويت مأملك خاطرك وبشر أهلك وعشائرك وأخبر غائبك وحاضرك ولقد قادك الرأي السديد والأمر الرشيد والفال السعيد حتى أويت إلى ركن شديد وملك كريم خلقه عظيم وفضله جسيم وجوده عميم ونظيره عديم رؤف برعيته لا يخيب أمله ولا يريب سائله ولا يقطع واصله ولا يمنع حاصلة لقد أنبتت ساعيك أزهار الأمن والأمان وتفتحت لورودك في رياض سعد الزمان نواظر نرجس النعمة وشقائق فضل النعمان

فاعلم أن هذا الملك ذو جناب منيع وقدر رفيع وبيان معانيه بديع عزير المنال جامع لصفتي الجمال والجلال قد اختار العزلة في رؤس الجبال فلذلك طبعه لا يخلو من جساوة وقلبه من قساوة وأن غذاءه من اللحوم ومن الحيوانات مشروبه والمطعوم مخاليبه كالاسل ويلجأ إلى الله تعالى إذا نسر منقاره ونسل وحقيقة أمره أن كنت عنه تسل: ممقر مر على أعدائه ... وعلى الأدنين حلو كالعسل فإذا التجأ إليه فقير أو آوى إليه ضعاف أو كسير أو قصده محتاج أو سلك إلى باب مرضاته منهاج فلا يمكن ألطف منه ولا أشفق ولا أقرب من عطفه على مؤمليه ولا أرفق فهو كما قيل (بيض قطاً يحضنه أجدل) وسبب ذلك أن ضميره المنير خال من المكر طاهر من التزوير لا يعرف ختلاً ولا خديعة ولا خيانة ولا وضيعة ولا كذباً ولا قطيعة ولا في خاطره فساد ولا عنده سوء اعتقاد ولا يعرف غير الحق ولا يقول إلا الصدق وذلك لبعده من مخالطة الناس وعزلته عن كل ذي وسواس وخناس فلقد اتفق العالم أن صحبة بني آدم سم قاتل وهم باتل فان دأبهم المكر والتلبيس والخداع والتدليس وحسبك قول شاعرهم في كشف ضمائرهم وشرح حقيقة سرائرهم: صن من الناس جانباً ... كي يظنون راهباً قلب الناس كيف شئ؟ ... ت نجدهم عقارباً

ولقد أرشد من أنشد: بنو آدم إن رمت من خيرهم جنى ... فأحلى الذي تجنيه من وصلهم صبر مكارمهم مكر ورؤيتهم ريا ... وودهم مؤذ وجبرهم كسرفإن كان فيهم صالح أفسدوه وإلى سبل الضلال أرشدوه والكلام في هذا المقام لا يبلغ التمام فيكتفي بالقليل عن الجليل وشمس النهار ولا يحتاج في وجودها إلى دليل فانهض الآن فقد آن التوجه إلى خدمه السلطان فما كل زمان يحصل هذا الإمكان فان الاجتماع به كل وقت مشكل فتوكل على الله بأحسن متوكل فإذا دخلت عليه وتمثلت بين يديه فاعرف كيف تقف وانظر يا ذا الكمال ماذا يناسب الحال ويقتضيه المقام من فعل وكلام فاسلك طريقته وراع مخارجه وحقيقته وادخل معه من ذلك الباب ومثلك لا يدل على صواب فما أسرع اللطف وأقرب العنف من حركات الملوك والكبراء وأبعد الرفق وأشرد الخلق من ملكات السلاطين والخلفاء وأقصى مدانيهم إذا غضبوا وأوحش مؤانسهم إذا صخبوا وأقرب مباعدهم إذا عطفوا وأعجب مناددهم إذا لطفوا ويكفيك يا ذا العقل المتين ما قيل في شأن الملوك والسلاطين: إن الملوك بلاء أينما حلوا ... فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تؤمل من قوم إذا غضبوا ... جاروا عليك وأن أرضيتهم ملوا وإن مدحتهم ظنوك تدعهم ... واستثقلوك كما يستثقل الكل فاستغن بالله عن أبوابهم كرماً ... إن الوقوف على أبوابهم ذل وقال سيد الأنام طرا لا تجاور ملكاً أو بحراً فان رضوا رفعوك فوق الأفلاك وإن غضبوا والعياذ بالله فهو الهلاك وناهيك من تقلبات الملوك

يا ذا الإرشاد في السلوك أطفأ الله غضبهم عنك قضية صدرت من تيمورلنك فسأل فحل الحجل الوزير الأجل بيان ذلك المثل الصادر من الأعرج الأشل (فقال) الدستور مما حكى عن تيمور من وقائع الأمور وشدة عزمه وحزمه وثباته على ما يقصده وحزمه وحلول نقمته بمن يعارضه ويعاكسه فيما يرسم به ويناقضه أنه لما توجه بالجنود إلى بلاد الهنود وذلك في سنة ثمانمائة وصل بجيوش الطاغية إلى قلعة شاهقة أقراط الدراري بآذان مراميها عالقة والرجوم المارقة من النجوم الخارقة تتعلم الأصابة من رشاقة سهامها الراشقة كان بهرام في مهواه أحد سواطيرها وكيوان في مسراه خادم نواطيرها والشمس في استوائها غرة جبينها وقطرات السحاب في الأنكساب تترشح من قعر معينها وشقة الشفق الحمراء على آذانها مراميها وأنوف أبدانها سرداق وكريات النجوم في القبة الخضراء لعيون مكاحلها وأفواه مدافعها طابات وبنادق وكان الثريا في انتصابها قنديل معلق على بابها لا يحوم طائر الوهم عليها فأنى يصل طائش السهم إليها ولا يتعلق خدم خدمتها خلخال خيال وافتكار فضلاً عن أن يحلق على معصم عصمتها من عساكر الأساورة سوار وفيها من الهنود طائفة ثابتة الجنان غير خائفة جهزت أهلها وما

تخاف عليه إلى الأماكن المعجزة وتثبتت هي في القلعة حافظة لها متحرزة مع أنها شر ذمة وطائفة قليلة وطائفة ذليلة لا خير عندهم ولا مير ولا فائدة سوى الضرر والضير ولا للقتال عليها سبيل ولا حواليها مبيت ولا مقيل بل هي مطلة على المقاتلة مستمكنة على المقاتلة فأبى تيمور أن يجاوزها دون أن يجاورها بالحضار ويناجزها واللبيب العاقل لا يترك وراءه لخصمه معاقل فجعلت المقاتلة تناوشها من بعيد ويصب كل من أهلها عليهم من أسباب المنايا ما يريد وكان كل يوم مقتل من عسكره ما لا يحصى والقلعة تزداد بذلك إباء واستعصا وهو يأبى الرحيل عنها إلا أن يصل إلى غرضه ففي بعض أيام المحاصرة مطرواً وبواسطة المطر وانحصروا وصار يحثهم على القتال ثم ركب لينظر ماذا يصنعون في تلك الجمال فلم يرتض أفعالهم لما عكست أو حالهم أحوالهم فدعا رؤس الأمراء وزعماء العساكر والكبراء وأخذ يمزق أديم عصمتهم بشفار شتمه وبشق ستر حرمتهم بمخاليب لعنه وذمه ونفخ الشيطان في خيشومه وألهب فيه نار غضبه وشومه وقال يا لئام وأكله الحرام تتقلبون في نعمائي وتتوانون عن أعدائي جعل الله نعمتي عليكم وبالاً وألبسكم بكفرانها خيبة ونكالاً يا نابذي لذمم وكافري النعم وساقطي الهمم ومستوجبي النقم ألم تطؤا أعناق الملوك بأقدام إقدامي ألم تطيرواإلى الآفاق بأجنحة إحساني وإكرامي ألم تفتحوا مغلقات الفتوح بحسام صولتي أما سرحتم في منتزهات الأقاليم سوائم تحكمكم بترعية دولتي بي ملكتم مشارق الأرض ومغاربها وأذبتم جامدها وأجمدتم ذائبها: ألم أك ناراً يصطليها عدوكم ... وحرزاً لما ألجئتم من ورائيا وباسط خيري فيكم بيمنيا ... وقابض شرعتكم بشماليا

ولا زال يهمهم ويغمغم ويهذرم ويبرطم وهم مطرقون لا يحيرون جواباً ولا يملكون منه خطاباً ثم ازداد حنقاً وكاد أن يموت خنقاً فاخترط السيف بيده اليسرى وهمز به على قمم أولئك الأسرى وهم أن يجعل رقابهم قرابة ويسقي من دمائهم نمل فرنده وذبابه وهم على تلك الحال في الخزي والإذلال باذلو أنفسهم ناكسو رؤسهم ثم تراجع وتماسك وملك نفسه قليلاً أو ثمالك فاغمد عن تشريقهم حسامه ولم يلق لأمره دبرة ولا قبلة أمامه فغلف غربه وشامه ثم نزل عن مركبه واستدعى على الشطرنج الكبير ليلعب وكان عنده ممن فاق جنده شخص يدعى محمد قاوجين ذو مكان مكين ومقام أمين مقدم على كل الوزراء مبجل دون سائر الأمراء وافر الطول مقبول القول مسعود الرأي ميمون الفصل مرغوب الفضل محبوب الشكل فتشفع الوزراء إليه وتراموا في حل هذا الأشكال عليه وقالوا ساعدنا ولو بلفظه وراقبنا ولو بلحظة واعمل معنا بهذا المعنى وهو: ساعد بجاهك من يغشاك مفتقراً ... فالجود بالجاه فوق الجود بالمال فأجابهم والتزم أن برده عما تأزم به وأزم وراقب مجال المقال وراعى فرص المجال وشرعت أفكار تيمور تغور في أمر القلعة وتفور وجعل يستضوي أضواءهم ويستوري آرائهم ولا يسع كلاً منهم إلا القبول لما يستصوبه

رأيه ويقول ففي بعض الأحايين اتفق أن قال محمد قاوجين وقد زل به القضاء وأحاطت به نوازل البلاء أطال الله بقاء مولانا الأمير وفتح بمفاتيح آرائه وراياته حصن كل أمر عسير هب أنا فتحنا هذه القلعة بعد أن أصيب منا جانب من أهل النجدة والمنعة هل يفي هذا بذا أم هل يوازن هذا النفع بهذا الأذى فما احتفل بخطابه ولا اشتغل بجوابه بل استدعى شخصاً من البر قد أريه قبيح المنظر إلا أنه في هيئة ذرية يدعى هراً ملك إذا عرف سهك ووجه في السواد سدك أوسخ من في المطبخ واسنخ من في المسلح لعاب الكلب طهور عند عرقه وعصارة القبر حليب بالنسبة إلى مرقه فعند ما حضر لديه ووقع نظره عليه أمر بثياب محمد قاوجين فنزعت وبخلقان هراملك فخلعت ثم ألبس كلاً ثياب صاحبه وشد وسطه بحياصته ودعا دواوين محمد وباشريه وضابطي ناطقة وصامته وكاتبيه ثم نظر ماله من ناطق وصامت ونام وجامد وملك وعقار وأهل وديار وحشم وخدم من عرب وعجم وأوقاف وإقطاع وبساتين وضياع وخول واتباع وخيل وجمال وأحمال وأثقال حتى زوجاته وسراريه وعبيده وجواريه فانعم بذلك كله على ذلك الوسخ وأمسى نهار وجود محمد قاوجين الزنخ وهو من ليل تلك النعمة منسلخ

ثم قال تيمور وهو كالنمور يمور اقسم بالله وآياته وذاته وصفاته ووحيه وكلماته وأرضه وسمواته وكل نبي ومعجزاته وولي وكراماته وبرأس نفسه وحياته لئن آكل محمد قاوجين أحداً أو شاربه أو ما شاه أو صاحبه أو كلمه أو صافاه أو أوى إليه أو آواه أو راجعني في أمره أو شفع عندي فيه أو فاه بعذره لا جعلنه مثله ولا صيرنه مثله ثم طرده وأخرجه وقد سلبه نعمته وأخرجه فسار مسلوب النعم قد حلت في لحظة نوائب النقم فسحبوه بالولق ورآى نعمته على أقل الخلق واتصل غيره بالحلق وقطع منه الحلق ففلقت حبة قلبه أشد فلق ولم يزل على ذلك في عيش مر وعمر حالك وحاشا أن تشبه قضيته قصة كعب بم مالك فكان يستحلي مرارة الموت ويستبطي إشارة الفوت وكل لحظة من هذا الحيف أشد عليه من ألف ضربة بالسيف فلما هلك تيمور أحياه ورد عليه خليل سلطان ما كان سلبه جده إياه (وإنما أوردت) هذه السيرة لتقيس على هذا المثل نظيره وتعرف أخلاق الملوك ومعاملاتهم الغني والصعلوك وأن نظرهم نضار وأعراضهم بوار ودمار ومن أراد أن يطلععلى سر القضاء والقدر فليراقب شفتي الملك إذا نهى وأمر وقال من أحسن المقال: قرب الملوك يا أخا القدر السمى ... حظ جزبل بين شدقي ضيغم

وأعلم يا أبا الفضائل أن هذا الملك له شمائل وصفات وفضائل يستدل بظاهرها على باطنها ويتوصل بظهور باديها على حركات كامنها فإياك أن تغفل عن مراقبتها وتهمل حال عاقبتها بل أجعل شواهدها نصب عينك لتقرب من حياتك وتبعد عن حينك منها إذا رأيته رجع من الاصطياد ظافراً منه بالمراد وقد اقتنصه وحصله وملأ منه الحوصلة وسكنت منه بواعث الشره التي هي منفخ لواعج الطيش والسفه ومنها إذا رايته جلس في مجلس السرور وبسط لجبهة الكرم جناح النشاط والحبور وضم عن مطامح الحرص القوادم والخوافي وطلب من رؤساء المملكة الأنيس المصافي ومن ندماء الحضرة الجليس الصافي ومن مطر بي الأطيار البلبل والهزار ومن رقص بدفوف الأزهار صفق من ذي عود وطار فاستمع لهذا وباسط ذاك وطفق جلساؤه ما بين منصت وحاك فان هذه الأوقات لما فيها من علامات هي الانبساط وأيام الفرح والنشاط فاعمل فيها ما بدا لك وأطنب مقالك وكرر جوابك وسؤالك فانك في كعبة الأمن فاستلمها وقد هبت رياحك فاغتنمها والعب بإبطيك وصفق بجناحك وأهدر في قننقتك واسجع في تقبقتك فأن الوقت لك لا عليك والسعد الطالع ناظر إليك ومنها إذا رأيته جالساً صامتاً أو إلى الأرض باهتاً أو محمرة عيونه أو مضطر باسكونه أو أفعاله على غير استواء أو أقواله دائرة مع

الهواء قاياك والدخول عليه والمثول بين يديه فانه إذ ذاك يجعل ديار جسدك بلاقع ولو أنك النسر الطائر فتصير في مخاليبه اتعس واقع وعلى كل حال فليكن عندك لكل مقام من هذه المقامات مقال وإن كان السكوت أصلح فاغلق باب الكلام قطعاً ولا تفتح فكثيراً ما تخلص الساكت من البلاء وأفلح وناهيك النصيح بقوله الفصيح وهو: وراقب مقام القول في كل مجلس ... خصوصاً مقامات الملوك الأكابر فكم من بليغ فوق ذروة منبر ... رمته أفاعي النطق تحت المقابر قال المفلح النجدي للمرشد المجدي جزى الله مولانا عن صدقاته أوفر صلاته وواصله بموائد إكرامه في عشيته وغداته فما أشمل إحسانه وحسناته وأسعد حركاته وسكناته وأوفر شفقته على قاصدي عتباته طالب أنت دليله كيف لا يفتح إلى الخير سبيله ويرجع إلى حصول المقام مبيته ومقيلة ثم إن اليؤيؤ والشفوق تركهم وطار إلى العيوق ثم رجع على الفور ووجهه يرف كالنور فدعا اليعقوب وتوجه وهو معه مصحوب وأخذا في السير إلى خدمة ملك الطير وفرعا في جبل يسامي في المثل قبة الفلك أو مركز الملك يستمد السحاب من ماء واديه وتسبح سماك السماء في بحر ناديه بعرق جبين الوهم من صعود عقباته ويقصر ساعد الفكر في سلم الهواء عن الترقي إلى أدنى درجاته ويستريح راقي الخيال في عدة مواضع عند قصده فروع هضباته فهو كما قيل: وطود تلوح الشمس من تحت ذيله ... إذا هي في كبد السماء استقرت فلا زال يسيران وفي الجو يطيران اليؤيؤ أمام قائد الزمام والخجل وراءه ينشد هذا الكلام: لكل إمام أسوة يقتدى به ... وأنت لأهل المكرمات إمام

فوصلا من تلك المدارج إلى أعلى المعارج وانتقلا في تلك المسالك عن دركات المهالك وانتهيا إلى أوج رأيا ملكة النيران جاريه في حضيضه ودرر الدراري راكدة في قعر مغيضه يشتمل على مروج ورياض ومراع وغياض وبحار وحياض تنادي خبراتها سكان ربع المسكون انصبابها عليهم وفي السماء رزقكم وما توعدون رياض تلونت ومرج بازاهير تحسنت وأرض قال لها صانع القدرة إذا تمكنت تكوني كأخلاق الكرام فتكونت وأخذت زخرفها من رضوان خازن الجنان وازينت فولجا دار سلطنة العقاب بعد مقاسات عقاب العقاب كما قيل مكاناً فيه سلطان الطيور ... تصدر بالسرور على السرير أطاف به صنوف الطير طرا ... عكوفاً بالحضور وبالحبور لكل في مباشرة مقام ... يقوم به جليل أو حقير قد اكتنفته الميمنة والميسرة وأحدقت به المقدمة والمؤخرة كل واقف في مقامه شاهينه مع كركيه وبازيه مع حمامه فالأنيس صاحب الظرف والكيس حامل القبر كالأوزان يترنم في مقابلة الإيوان ويمدح ملك الأطيار والأمراء والحضار والكبراء والنظار وينشدهم جليل الأوصاف ورقيق الأشعار فمما أنشده الأوزان من مناقب السلطان ووجه الخطاب إلى العقاب قوله:

مقامك أعلى أن يقوم يقوم بوصفه ... بيان بليغ أو لسان فصيح أجلتك عنقاً مغرب فاختفت فما ... تلوح لطرف في البلاد طموح والنسر الطائر المقدم على العساكر قد أظله بالجناح وليس عليه في طلبة سيادة الطير جناح رافع اللواء صاف في جو السماء رئيس الدير حامل القبة والطير كما قيل: ونسر تفر الطير من قرب ظله ... وفي ظله للسعد مأوى ومنزل والسنقر في ثوبه الفهري وخلقة وخلقه النمري أمير سلاح الجوارح ورأس عساكر السوانح والوارح كما قيل: هو السنقر العالي بهمته التي ... تعلت على أيدي الملوك بها يده والشاهين الدوادار عليه المصالح المملكة المدار قد تصدى لقضاء الحوائج لكل داخل وخارج ينظر في الولاية والعزل ويتعاطى الأمور بالجد لا بالهزل فيقضي المآرب ويوصل المطالب إلى الطالب كما قيل: طويل العنق رحب الصدر ضخم ... له في آل قسطنطين ضبط تغشى من سواد العين ثوباً ... عليه من دم الأحشاء نقط والكركي الراطن بالتركي يتجلى في ثوبه المسكي كاتب الأسرار وصاحب الأخبار لسان المملكة ومحور الفلكه مستخدم السيف والقلم وفي الفضائل والفوضل نار على علم كما قيل: وكركي يحيد الصقر عنه ... شطر ثانيلهيبه بطشه وشديد بأسه

والتم المشهور ناظر الجيش المنصور صدر الديوان وقاضي الجند والأعوان كما قيل: وتم تم دست الطير منه ... كقاض زان أرباب الكتاب عليه من المهابة ثوب مجد ... كوجه الطائعين لدى الحساب والطاوس كأزهى عروس في أفخر ملبوس مقدم على الخواص كالناظر الخاص ناشر مروجه الأرتياح يتجلى بجمال هيئة الفائق على الوجوه الملاح كما قيل: ثوبه قد حار فيه ... كل صباغ عليم ولسان الحسن نادى ... صبغة الله الحكيم فيروق العين منه ... فوق أوصاف الكليم والبازي الأمير الكبير صاحب الرأي والتدبير أمير الميمنة قد رتب صفه وزينه كما قيل: وباز أشهب عيناه حمر ... يضيء وفي جناحيه النجاح والصقر الشهم السابق في الطيران الوهم أمير الميسرة قد فاق بشهامته عسكرة كما قيل: وصقران يلح في القفر ظبي ... أتيح له من الجو أنصاباً أقام بمخلب عن شهم سهم ... ونسر عن قوى الناب نابا والباشق الجاووش ورأس نوبة العساكر والجيوش كما قيل: نظر إلى الباشق في صيده ... ينقض كالسهم من الراشق يقفو حماماً مثل معشوقة ... اتبعها الحب حشا العاشق

والببغاء تتجلى في الحلة الخضراء وتنثر من الخاتم الياقوت درر الثناء وتخبر بعجائب الهند وتسرد غرائب رغائب السند كما قيل: تسمت درة لكن كساها ... حكيم الصنع ثوباً من زبرجدومن لها بمنقار عقيق وخاط شعارها من عين عسجد والهدهد لابس التاج ينهى إلى موقع الدراج أخبار المارة والأحوال السارة كما قيل: وهدهد ألبس ثوب ألبها ... فعم إذ خص بصدق النبا أغرب إذ شرق في حسنه ... ففاق أهل التاج حتى سباد والحمام مقدم البريديه يتردد في مواقف العبودية والعصافير كالمماليك الأجلاب في الكتاب يدرسون العلم والآداب والبلبل والهزار ومطوقات الأطيار وساجعات الأشجار مسبحات الواحد القهار يتناشدون ويرددون نغمات الأوتار ومطربات رنات الأوطار وضروب الموسيقاه من حنك المنقار والشجر ورق الزرزور وذوات الهديل من الطيور حتى جناح الزنبور تغرد فتخجل العود والطنبور وزواجر الطير تبشر بالفرح والخير وأنواع الجوارح في الحافات والطير في الجو صافات كل يفدي ويقدم جسده وروحه ويسبح من آتاه الملك كل قد علم صلاته وتسبيحه

فتقدم اليؤيؤ إلى الحضرة والملك في أبهى نضره وقبل مواطئ سلطانه ووقف من مقام خدمته في مكانه وقال شخص عارف بطرائق السلوك يليق لخدمة الملوك واقف بالباب يروم تقبيل الأعتاب يطلب لذلك الدستور والأنعام بآذان الحضور ليشمله النظر الشريف ويحظى بحظ وريق وريف هل يرجع كالمصروف عن خدمته أو يدخل كالدولة والإقبال فعطف بالقبول وأذن له بالدخول وسمح بالمثول فتوجه اليؤيؤ على عجل إلى الحجل فدخل وهو من الحياء متأثر وفي ذيل الدهشة والهيبة متعثر وعليه غلالة سابوريه وخلعة نيسابوريه ستشملا بشمله كافورية كأنه شيخ الصوفية فلما وقع نظره على العقاب قوى جأشه ورفع الحجاب وحل عقدة لسانه من لكنة الخطاب ثم قبل الأرض ووقف وأنشد بديهاً وما وقف: ولو أن فقفوراً وكسرى وتبعاً ... رأوك لخروا بين أيديك سجدا وما إن وفوا حقاً عليهم وإنما ... على قدر ما في الوسع مد الفتى يدا فابتدر اليؤيؤ بلفظ يخجل اللؤلؤ للحجل يريد إزالة الدهشة والخجل وطيب المقام ببسط الكلام أيها الغريب الأريب الأديب النجيب رأيناك روحاً ملخصاً وعقلاً مشخصاً صحبتك مرغوبة ومنادمتك مطلوبة لقد حللت محل الأمن والأماني وعقدة السعد والتهاني فدع دهشتك وذر

وحشتك وأفصح بكلامك عن كمالك وعن مقامك بمقالك فعباراتك عقيلة العقل وواسطة عقود النقل فان كان عندك نصيحة تصلح للملوك أو وصية ترشد أهل السلوك بين العدل بنورها طرائقه ويزين العقل بمجازها حقائقه وتستقيم بها الأمور ويستفيد منها الجمهور أو نوع رفع مظلمة أو حط مأثمة أو كشف بلوى أوبت شكوى أو حاجة في نفسك وما قاسيته في يومك وأمسك أو لطيفة تشرح بها الصدور وتبسط بإيرادها الحضور فهذا وقت تشنيف المسامع بجواهرها ونثر دررها على بادي الحاضرين وحاضرها فان المحل قابل وعنك الإصغاء إلى أطواق لطائفك مائل ومحال الحلم لذاك واسع وسجال الكرم داسع وفاعل الصنيعة صانع وكف اللطف معط لا مانع فقال الحجل بعد أن زل الخجل وحال الوجل وجال الزجل من غير ريث ولا عجل الحمد لله الذي آسى جراحنا وأحيا بعد التلف أرواحنا قد كنا في بيداء الحيرة والهلاك وظلماء الضر والخوف في انهماك ومرت علينا سنون ونحن في الخسار والغبون ونار الاشتياق تضطرم وبواعث تقبيل الأعتاب الشريفة السلطانية في الفوائد تزدحم إذ قد انتشر جناح عدلها ونجاح ظلها وسماح وابلها وطلبها وكرر كل لسان محامد فضلها واشتهر لكل حيوان مآثر نبلها فهي أمان كل مخوف وملجأ كل ملهوف لكن كانت العوادي تقرع تلك الدواعي وغواشي الحوادث تعترض دون المساعي تارة باكتناف المخلوف وطوراً باحتفاف الخواطف وحيناً يضعف المباني وآونة بعدم المعاون والمعاني والآن يا ملك الزمان بحمد الله المنان أزحنا المهالك والمهاوي واسترحنا من ضرب المسالك والمساوي إذ قد طرنا بجناح النجاح من جنح الجناح وصرنا إلى محل السماح والرباح فزالت

العلل والسد الخلل وحللنا في عقوه منيفة وسدة شريفة فأمنا شرك المكايد وشرر المصايد وتوسدنا مهاد الدعة واستظللنا جناح الأمن والسعه وانه قد قيل عدل السلطان خير من خصب الزمان وقيل الملك العادل والإمام الفاضل كالأب الشفيق والوالد الرفيق يعامل بالسوية ويحفظ الرعية ويحرسها من برد الماء وحر النار كما يحرس الوالد الولد من هبوب الهواء وشم الغبار وقلت: نزلنا في ذرى ملك كريم ... يرانا مثل أولاد الكرام أضل نوائب الأيام عنا ... فلم ترنا ولا في الاحتلام ولا مطر السماء يصيب منا ... كأن مقامنا فوق الغمام فقال الملك أهلاً وسهلاً وناقة ورجلاً طب قلباً ونفساً واهنأ معنى وحساً لقد حللت بساحة الاستراحة وباحة للأمن مباحة وقاحة ليس لصائد بها وقاحة ولا لجارحة جارح بها جراحه وقد حصلت من جواسر الكواسر ومناسر النواسر ونزلت بوادي الخير ونادى ملك الطير فأكرمت صدر منزلك ونلت غاية أملك فاذهب بسلام وأت بما لك من خادم وغلام وأهل وثقل وفرس وحمل وأثاث وقماش ومعاش ورياش وتخير مكانا تختار وجار احسن الجوار فقال أيها الملك السعيد أنا شخص فقير غريب فقير لا ابرق لي ولا حصير وقلت: أنا لولا الحيا وخوف العار ... لم أكن في الأنام إلا عاري من رآني فقد رآني وبيتي ... ودثاري ومركبي وشعاري

غير أن لي قرينه مثلي فقيرة مسكينة صابرة على السراء والضراء قضينا معاً ماضي الصباح والمساء لم يترك عقيل الحوادث لنا داراً ولا بد العوابث عقالاً ولا عقاراً ولا مخلب العوائث جاراً ولا جواراً ولا ناب الكوارث ولداً ولا قراراً والويل كل الويل لمن كان مستقره في طوارق الليل ومن حوادث الدهر على طويق السيل وقد طال الكلام في كيت وكيت وقضايا ذيت وذيت إلى أن لم يبق في البيت سوى البيت ولما بلغ العرم الزبى وحزام الهم الطبي وما حال من يرى أفلاذ كبده تتقطع ويشاهد كل وقت قرة عينه بمخاليب الجوارح تتبضع ولا يد للمدافعة تمتد ولا نهضة للممانعة تشتد فينشد: كفى حزناً أني أرى من أحبه ... رهين الردى يرنوا لي بطرفه أود بمالي لو يفدي ومهجتي ... ولكن يد التقدير غالت بحتفه ولما تكرر ضر أيوب وتضاعف حزن يعقوب تركنا تلك بالاضطرار وعلى أبوابك الشريفة وقع الاختيار فرصدنا للتحويل أيمن الساعات واخترنا للرحيل أحسن الأوقات ثم صممنا العزيمة ونادانا هاتف السعد أسرعا نديمي جذيمه فقطعنا المهامه والقفار وسرينا الليل والنهار فكم رغنا عن أبي الحصين ولقينا مالا قى الحسين بكربلاء من الكرب والبلاء وكم لجأنا من بني زغار إلى كهف وأجم وغار

واحترزنا من قنافذ وأفعوان ذي سم نافذ ونفرنا من حبات أسراك وحدنا عن أوهاك شباك واخترنا الجوع وعدم الهجوع على الحب المبذور لاصطياد الطيور كل ذلك في المسالك والسعد قائدنا والفلاح رائدنا واليمن دليلنا وظلال أمنك ظليلنا وفي تهاني سعدك مبيتنا وكنف فضلك مقيلنا حتى حللنا بدار الأمان ونزلنا بحرم مولانا السلطان فنادانا فضل خالق الورى لا تخافا أنني معكما أسمع وأرى ألقيا عصا التسيار وانزلا عند خير جار فتركت القرينة في منزلة حصينة وكل بلادك أمينة وأممت مقامك الشريف وجنابك المنيف مقاماً عظيماً وجناباً كريماً ومجلساً عالياً وباباً سامياً فتوخيت ثم نوديت: هذا هو الملك الذي من بابه ... يعطي المخوف أمانة لزمانه عم الورى إحسانه فكأنما ... أرزاقهم كتبت على إحسانه ثم نهض اليعقوب من مكانه وقبل الأرض بين يدي سلطانه وتوجه فائزاً بأمنيته حتى وصل إلى حليلته فأخبرها بما جرى بتخيير المشتري وكيف رأي اليؤيؤ والملك وصورة ما فعل به وسلك وكيف تلقى مقدمة وأكرمه الملك بما أكرمه وقرر كيف كان خطابه وعلى أي صورة حسناً رد جوابه فسرصدرها وانشرح وطارت بهذا الأمر من الفرح ثم توجها إلى حضرة السلطان وحصل لهما من الأنعام والإحسان ما نسيا به الأوطان وسلكا بنفس مطمئنة في خدمة الملك مع الجماعة وأهل السنة وخوطب اليعقوب من الملك أسكن أنت وزوجك الجنة فلما استقرت بهما الدار وتبدل انكسارهما بالأنجبار أفيض عليهما من الصدقات والادرارات والنفقات ما لم يخطر ببالهما ولا دار على خيالهما وحصل لهما الأمن والأمان والسلامة والاطمئنان وانشرحت

خواطرهما وابتهجت بالسكون سرائرهما واستمر النجدي ملازم الخدمة وتوفرت عند الملك وابتاعه له الحرمة وسمعت كلمته وتزايدت حشمته ولم يزل صبيح الطلعة نجيح السعي والنجعه وضئ المنظر مقضي الوطر يرتع على بساط النشاط ويطير في رياض الأمن والانبساط مؤدياً شرائط الخدمة على الوجه الأحسن قائماً بمواجب العبودية مهما أمكن إلى أن تميز على سائر الخدم وتقدم على السابقين في الخدمة وثبات القدم ناشراً ألوية النصيحة ناثراً الأثنية الصريحة منادماً باللطائف الصحيحة والنوادر المليحة بالعبارات الفصيحة والإشارات الرجيحة حافظاً زمام الاحتشام مراعياً مقامات الكلام على مر الأيام وكر الشهور والأعوام ثم ختم لكلام في هذا المقام بأعظم ختام وهو حمد الله الملك العلام وشكره المستدعي لمزيد الأنعام والصلاة والسلام على سيد الأنام وآله وأصحابه السادة الكرام عليه وعليهم التحية والسلام وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الباب العاشر في معاملة الأحباب والخادم والأعداء والأصحاب

الباب العاشر في معاملة الأحباب والخادم والأعداء والأصحاب وبه تمت أبواب الكتاب

قال الشيخ أبو المحاسن الراوي من الأدب الاحاسن فلما أبان الحكيم عن هذا الفضل الجسيم وكشف نقاب البيان عن مخدرات هذا التبيان فتلألأ من وراء سجيف ألفاظه وجوه معانيه الحسان عظم في أعين الأعاظم وكبر لدي الأعراب والأعاجم ورفعه أخوه وعظمه ذووه فأضاء منارة وعلا مقداره وملأ الآفاق أنواره ووقع من الملك على الاعتماد عليه اختياره ثم استزاده من فيض هذا العيوب واستسقاه من خوض هذا الشؤبوب واستطعمه من أخبار العقاب واليعقوب إن كان ثم بقية تجلو القلوب الصديه فامتثل الإشارة وحسن العبارة وقال ثم أن أبا الحجاج دعا القبيح أبا الدجاج واختلى به دون أصحابه وقال له أعلم يا جليس الخير وأنيس الطير ورئيس الدير أني تحملت من اليؤيؤ المنة العظيمة والجميلة الجسيمة حيث أرشدك إلى بابي ونظمك في سلك أصحابي ولا حرم أنه قام بما يجب عليه وعرف مقدار إحساني وميلي إليه وأنه لا وثق أعواني وأصدق خلاني وصاحب قديم ومخلص عديم النظير نديم وصديق كافي وناصح مصافي وأني لا تيمن بطلعته وأتبرك بمشاهدته واستنجح بآرائه واستصبح في المهمات المظلمة بلامع ضيائه ولقد حصل منك على عضد معاضد وساعد مساعد وكهف وذخر وسند وظهر فإياك أن تترك ذيل مودته أو ترغب عن صحبته ومحبته وأن تقتصر يا ذا الوقوف في صداقته على الوقوف فافضل المحبة وأكمل المودة ما تزادي على مر الدهور وترادف على كر العصور وثبت أصله وغزرت فروعه وفاض من سويداء القلب على مجاري الجوارح نبوعه بحيث يقع الاتحاد وينمزج بالصفاء الوداد فقد قيل لا تصح المحبة بين أثنين حتى بصيراً كالعينين حيثما نظرت إحداهما ما شزرا مالت معها

تابعة الأخرى بل يصيرا كالنفس الواحدة لا كل واحدة على حده ولا كما تقول الملاحده بل يكمل لكل واحدة ولا كما تقول الملاحده بل يكمل لكل واحد بالآخر ألهنا ويحصل له بوجوده السنا وإذا خاطبه قال يا أنا ولا تعمل يا أكمل كما قيل: ملأت حشاشتي شوقاً وحباً ... فان ترم الزيادة هات قلبا فان الفتاح عنده الفتوح وباب الفضل والزيادة مفتوح وكرم الله لا يضاهي وفضله كعمله لا يتناهى وانظر يا فضيل وذا العلم العريض الطويل إلى ما قيل وهو: أيها السائل عن قصتنا ... أنا من أهوى ومن أهوى أنانحن روحان حللنا بدنا من رآنا لم يفرق بيننا نحن مذ كنا على عهد الهوى ... تضرب الأمثال للناس بنا فإذا أبصرته أبصرتني ... وإذا أبصرتني أبصرتنا وألطف من هذا وأرصن ما قاله القائل وأحسن وهو: أنا والمحبوب كنا في القدم ... نقطة واحدة من غير مين فبرانا الله إذا أظهرنا ... مهجة واحدة في بدنين فإذا ما الجسم أمسى فانيا ... تلتقينا واحداً من غير بين ولقد ذكرك عندي بأنواع الفضل وبوفور التجارب والعقل وهذا يدل على نصحه وقوة دينه وصدقه في المحبة وحسن يقينه ولم يذكر غير الواقع ولا جازف فيما أنهاه إلى المسامع بل قال قليلاً من كثير وقطرة من غدير ولم يخبر بذلك غير خبير فأني أعرفك كما عرف ووقفت على فضائلك كما وقف ثم أنت عندي فوق ما وصف فأريد منك نصائح بالخير لوائح تتضمن فوائد وعوائد وفرائد تكون لنهم الحكمة موائد ولشهم الحكام قوائد ولنخور ألباب المنقول قلائد ولضبط أساس الملك والدين قواعد وعقائد

فتلقي مثاله بالامتثال وقبل الأرض في مقام العبودية وقام وقال لتحط العلوم الشريفة والآراء العالية المنيفة أن صانع العالم تعالى وتعاظم وبنى أمور المبدأ والمعاد وما بينهما من معاشر مستفاد على دليلين عظيمين جليلين أحدهما العقل الذي هو مناط التكلف وثانيهما قواعد الشرع الشريف فان أردت أن تكون سعيد الدارين فاستمسك بأذيال هذين الدليلين أما العقل فهو الدليل القاطع على وجود الصانع وهو مستقل بالقطع إلى السمع غير محتاج إلى السمع وكما هو مستقل بالدلالة على وجود ذاته كذلك هو مستقل بالدلالة على تحقيق صفاته ثم ورد بذلك الشرع فتأكدت في وجود الصانع دلالة العقل بالسمع وأما وجدانية الصانع فكل من العقل والنقل دليل عليها قاطع وقد تظافرا بالاستباق إليه وتظاهرا في الدلالة عليه بقول الكافر يوم المصير لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وبالعقل والسمع يستقيم أمر المبدأ والمعاش وبالسمع فقط مبيت المعاد عاش لأن أمور المعاد من الشرع تستفاد والعقل في ذلك تابع سامع لأوامر الشرع طائع والمسموع في ذلك دليل قاطع وعلى كل تقدير أيها الملك الكبير فاجعل العقل وزيراً تجده لك في ظلمات المشكلات سراجاً منيراً واتخذ النقل هادياً ونصيراً يكن بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً وعامل الرعية بالعدل يعاملك الله بالفضل وأعلم أن الدنيا في معرض الزوال وأنه لا بد عنها من الانتقال وأن الله سبحانه وتعالى وجل سلطانه جلالاً اقتضت حكمته وجرت بين عباده سنته أن يكون الإنسان على خلاف ما فطره الرحمن فانه خلقه

للعبادة وركب فيه عناده وأقامه للعمل وجبله الكسل فأمره بالصلاة وهو كسلان وبالصوم وهو شهوان وبالزكاة وحبب إليه المال وبالحج وكره إليه الانتقال وبالرضا وركز فيه الغضب وبالتسليم والصبر وخمره بالضجر والصخب وبالتواضع ووضع فيه التيه وبالتخلق بأخلاق خالقه وفيه ما فيه وحكم عليه بالموت وقد تحقق انه ليس له منه فوت وهو يكره عن الدنيا التحويل وأقل أقسامه أنه يحب العمر الطويل وعلى هذا قد تعود أن يفعل في المكان المثزود أفعال المقيم الؤمبد والدائم المخلد وبنى بناء من لا ينتقل وعن قليل يتركه ويرتحل لا سيما من تعلق بالدنيا قلبه وتشبث بالمال والولد والجاه والتحكم حبه وقد أخبر العزيز الوهاب في أصدق كتاب وأوثق خطاب فقال زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب فالنفس مائلة إلى الإقامة راغبة في دوام السلامة تحب طول العمر في الزمان وأن أحوجت الثمانون السمع إلى ترجمان وقد قيل: وأحسن ما كان الفتى في زمانه ... مع السعد والجاه العظيم معمراوأشهى ما سمع الحاكم وألذ ما تلقاه من قول الناظم قوله: فلا زلت بين الورى حاكماً ... بجاه عريض وعمر طويل ولقد بلغني يا ملك الزمان أن الملك العادل أنوشروان أساس ملكه على العدل وعامل رعيته بالإحسان والفضل ويكفيه من الفضائل وحسن الشمائل قول سيد الأواخر والأوائل ولدت في زمن الملك

العادل وقال الرحمن في محكم القرآن أن الله يأمر بالعدل والإحسان وقد قيل في الأقاويل لا ملك إلا بالرجال ولا رجال إلا بالمال ولا مال إلا بالعمارة ولا عمارة إلا بالعدل فلا ملك إلا بالعدل ومن أقوى الصفات العدلية عمارة بلاد الرعية وبذل الجهد في العمارة ليكثر الربح وتقل الخسارة فإذا عمرت البلاد وترمم الطريف والتلاد حصلت الأموال وكثرت الرجال وانتظمت الأحوال فقد بلغني يا ملك الزمان أن الملك أنوشروان كان ماراً في سيرانه بين جنده وأعوانه فرأى شيخاً كأنه قوس قطان نثر على رأسه قزع أقطان وهو في بعض البساتين يغرس ونصب تين من انحناء قامته وبياض هامته مع شدة حرصه وتعبه على نصب غرسه ونصبه فقال له يا ذا التجارب ومن هو من شرك الفناء هارب الأم ترتع في ميادين الأمل وقد تطوقت باوهاق الأجل تبني وأركان جسدك واهية وتغرس وقوائم يدنك كإعجار نخل خاوية وربيع شبابك قد استولى عليه خريف الهرم وصيف الهرم وصيف وجودك قد أدركه شتاء العدم ومحت نسيم طراوتك

عواصف الذبول ومسحت قوى عبالتك بقواصف النحول وقد آن أن تغرس للآخرة فانك قد قصرت عظاماً ناخرة فقال يا ملك الزمان وعادل الأوان قد تسلمناها عامرة قد غرسوا وأكلنا ونغرس ويأكلون وفي الحقيقة كلنا زارعون وغارسون: لقد غرسوا حتى أكلنا وإننا ... لنغرس حتى يأكل الناس بعدنا وابعد فلاح عن الرشد والفلاح من يتسلم المعمور ويتركه وهو بور فاعجب أنوشروان وفور عقل الشيخ ألفان وحسن خطابه وسرعة جوابه فقال زه يعني أحسنت وهي كلمة تحسين ولفظة إعجاب وتزيين وكانت علامة للإحسان إذا تلفظ بها السلطان يعطي المقول في حقه أربعة آلاف درهم لرفقه فأعطوا الشيخ الهم أربعة آلاف درهم فقال أيها السلطان أن الغراس بثمر بعد زمان غراسي لحسن طاعته أثمر من ساعته فقال زه فأعطوه أربعة آلاف أخرى ورفعوا منزلته قدراً فقال وأعجب من هاتين القضيتين أن الغراس يثمر مرة وأنا غراسي يثمر مرتين فقال زه فأعطوه القدر المعلوم وزاده في التكريم والتعظيم والتفيخم وقال له أنوشروان أن أمهلك الزمان حتى تأتيني بباكورة هذا البستان فأنا أقطعك خراجه وأقضي مالك من حاجة فأمهله الدهر وطال به العمر وأدرك ما نصبه ولم يخيب الله تعبه فحمل إلى الملك الباكورة ووفى له الملك نذوره

(وإنما أوردت) هذا المثل ليعلم مولانا الملك الأجل أن الدنيا وأن كانت ظلاً زائلاً وحائطاً مائلاً فهي مزرعة للآخرة وأن الآخرة هي الدار الفاخرة وأن الله تعالى وجل جلالاً ولاك هذه المزرعة وعلق بالأوامر العلية ما بها من مضرة ومنفعة وحكمك في البلاد وملكك رقاب العباد قاياك أن تغفل عن عمارتها بالزراعة أو تسلم زمام تدبيرها إلى يد الإضاعة فانك منقول منها ومسؤل عنها ومصالح عساكرك بها منوطة وأحوال ملكك بالعساكر مربوطة تعمرت الضياع والقرى ترفهت الأجناد والأمرا واستراحت الرعية واستمرت مناظم الملك مرعية وتوفرت الخزائن واطمان الظاعن والساكن وقلت المظالم وكفت أكف الظالم وملاك هذا كله العدل والأستوا ومجانبة الأغراض الفاسدة والهوى وهذا الذي يقتضيه مقامك ويتم به مرامك فان الملك إنما هو ملك بالأجناد فلا بد له من عمارة البلاد والنظر في مصالح العباد لينتظم بنظره مصالح العالمين ويستقيم أمر العالم إلى الحين الذي قدره أحكم الحاكمين فان سنة الله حرت على هذا السنن وما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن ولهذا قال سيد سكان الخيف أنا نبي السيف والجهاد فرض عين على الملوك لا على الفقير والصعلوك فالملوك في نوع من السيادة تقتضي من المال ازدياده ليقيموا من الأسلاك عماده ويقتفوا من الشرع مرادهويقصموا الكفر وعناده ويبيدوا أهله وأولاده وينهبوا أطرافه وتلاده ويوطئوا سنابك الإيمان بلاده وواجب على كل حاكم أن يبذل في ذلك اجتهاده ويجعل الجهاد إلى الآخرة زاده وعتاده ويصون عن الكفر بلاد الإسلام وعباده إلى يوم يلقى

معادة فيجازيه الله الحسنى وزيادة هذه طريقة الملوك ومن تبعهم في الإقتداء والسلوك وإياك أيها الملك العظيم وصاحب الملك الجسيم وأخذ المال من غير حله ووضعه في غير محله ولو كان موضع الخير وقصد به نفع الغير فانه لا يفي ذاك بذا ولا يقوم نفعه بما فيه من أذى فذلك كإنشاء المغارس وبنيان المدارس وتنوير المساجد وتعمير المعابد وسد الثغور وعمارة القبور وإقامة القناطر والجسور وعمل مصالح الجمهور وإطعام الطعام وكفالة الأيتام والحج إلى بيت الله الحرام وإعطاء السائل وإغناء الأرامل وصرف النفقات وإخراج الزكوات والصدقات ومثله الوبيل كما قيل: بنى مسجد الله من غير حله ... فصار بحمد الله غير موفق كمطعمة الأيتام من كد فرجها ... لك الويل لا تزني ولا تتصدقي قال من لم يخف عليه إخفاؤها لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ثم أخبر بخبر ما يصدر عنكم فقال ولكن يناله التقوى منكم فان طلب من هذا أجر خسران وكفر لأنه في صورة الاستهزاء وهل يطلب بقبيح الحرام حسن الجزاء بل الواجب في هذا على كل من آذى رد المظالم ورجع الحقوق إلى أهلها وإيصالها إلى محلها أما يرضى ظالم غوى وتحمل الحرام هوى أن يتخلص سواء بسوا وشر الناس يا ذا البأس من اتبع قضية أياس فسأل العقاب عن بيان هذا الخطاب (فقال) في الشام شخص من اللئام تصدى لفصل الأحكام ومشى من الظلم في ظلام وشرع في أخذ الأموال على سبيل التعدي والوبال فكان إذا أخذ من أحد ألفاً ادخر لنفسه من ذلك نصفاً وتصدق بالخمسمائة الأخرى على أولي الضرر والضر أكل واحد درهماً وعد ذلك مغنماً وقال هذه فائدة علينا بالربح عائدة الحسنات خمسمائة والسيئة واحدة وواحد يدعو علينا يتوجهون بالثناء والدعاء إلينا

ثم قال ذلك الجاحد ولا تعجز الخمسمائة عن الواحد (هذا وأن كان والعياذ بالله صرف ذلك الحرام في الفسق والملاه ونيل الأغراض الفاسدة وإقامة الجاه فهو أشد في النكال وأعظم في الوزر والوبال وهذا المقام يطول فيه الكلام وأقل ما في الباب أن الحلال حساب والحرام عقاب وقد سمعت يا جليل القدر ما نطق به السيد الصدر الذي أخجل نور طلعته الشمس والبدر سيد الأنام ومصباح الظلام وحبيب الملك العلام عليه أفضل الصلاة والسلام يوماً لأصحابه السادة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم وجمعنا في مستقر رحمته وإياهم أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال أن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فان فنيت جسناته قبل أن يقضي ما عليه خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار وهذا إذا كانت هذه الطاعات من الصلاة والصوم والزكاة واقعة في محلها ومصاريفها في حلها فأنها لا تفيد الظالم إلا في وفاء المظالم وأما إذا كانت من الحرام ومنشأ غراسها من مياه الآثام فهي وبال على وبال وثبور فوق نكال على كسر ونقصان فوق خسر (وقال أيضاً) أفاض الله عليه سحائب صلواته فيضاً لتؤذن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء فاستعذ بالله

يا مولى الطير ومولى الخير من نار هذا الشرر أن تتفرق طاعتك شذر مذر وأعيدك يا سلطان الصافات وما اكتسبته من الطاعات والخيرات أن ينقل إلى ديوان غيرك أو يفوز بخبرك سوى طيرك اللهم إلا أن يكون يا ذا الوقار والسكون على وجه ما قال من أحسن المقال: ويكتسب الطاعات ذخر العلما ... يجود بها يوم القيامة على العاصي أو على وجه ما قيل وأحسن به من وجه الجميل: يجود بما ضن الجواد بمثله ... من الوفر بل لو أمكنته شمائلهلعاد على المرضى بصحة جسمه وجاد على الموتى بعمر يطاوله ومن على النوكي بوافر عقله ... وقسم في الحمقى من الرأي كامله وثقل ميزان المخف بأجره ... لدى الوزن لما آد بالوزر كاهله ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بلها فليتق الله سائله ولأجل عذا الخطر العظيم والخطب الجسيم تورع عن الحلال الزاهدين وشمر عن التلوث بالدنيا ذيل الرغبة العابدون قال سيد البشر والشفيع المشفع في المحشر لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي منها كافر شربة ماء وقال عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام اللهم رزق آل محمد قوتاً

ومع هذا كله فالملك والرعية أمانة ومن تقلد ذلك فقد أوجب على نفسه ضمانه فليجتنب خيانته ولا يشين بها أمانته قال صفوة الله تعالى وخيرته من بريته كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته ومصداقه قول رب العالمين وملك الملوك والسلاطين وهو أصدق القائلين أنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوماً جهولاً فاعلم يا ملكاً أعطي الزمان أمانه أن هذا الملك الذي بيدك هو من جملة الأمانة التي أشفق السموات والأرض الجبال وأبين أن يحملنها خوفاً من النكال والوبال وخشية أن لا يفين بحقوق حملها أو يضعنها في غير محلها فيعاقبن أو بالعتاب يخاطبن فتعففن عن الرغبة في الثواب خوفاً من العتاب والعقاب وعملن بموجب ما قيل: هجرتك لا قلى مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود كهجر الحائمات الورد لما ... رأت أن المنية في الورود تفيض نفوسها ظمأ وتخشى ... حماماً فهي تنظر من بعيد تصد بوجه ذي البغضاء عنه ... وترمقه بالحاظ الودود ثم حمل هذه الأمانة بنو آدم لما قدره وقضاه العلي العظيم في سابق القدم ولما فيها من أحكام وحكم وأن الصادق المصدوق أخبر فيما روى عنه أبو ذر قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر أنك ضعيف وأنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها فمن جملتها الصلاة والصوم والزكاة والوضوء والاغتسال ومراقبة ذي الجلال في السر والإعلان بقدر الطاقة والإمكان وعلى هذا جميع الطاعات وأنواع

العبادات هي في رقاب العباد أمانات ومن أعظمها وأهمها وأحكمها الإمرة والحكومة والتصدي لفصل الخصومة والسلطنة العلية وأمور الملك البهية والقيام بأمور الرعية فيجب على السادة الحكام ومالكي أزمة الأنام أن يراقبوا الله تعالى في كيفية أدائها ويطالبوا أنفسهم على ممر الأنفاس بالقيام بوفائها ويراعوا أوامر سلطان السلاطين في أمور عبيده المستضعفين خصوصاً المظلوم والفقير والضعيف والمسكين فإذا عاملوا عباد الله بالعدل عاملهم الله عز وجل بالفضل قال الله المنان في محكم القرآن أن الله يأمر بالعدل والإحسان وقال السيد الكامل والسند الفاضل أشرف الأواخر والأوائل صلى الله عليه صلاة تفنى البواكر والأصائل سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أمام عادل بدأ في هذا الفصل من ذكر الصفات بالعدل والعدل يا ذا الوجه النير الوسط هو الخير قال من أمره قهر وسطا وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء أي للأنبياء تشهدون لهم على أممهم لعدالة فيكم ويكون الرسول عليكم شهيداً أي يزكيكم أي وكما جعلنا نبيكم إمام القبلتين حائز الفضيلتين جعلناكم حائزين خصلتين بالغين مرتبتين وهما كونكم عدو لا شهداء على الناس مقبولي الشهادة في الأداء وكون الرسول معد لكم وبتزكيته على الأمم مفضلكم وقال صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وفخم وعظم عدل السلطان يوماً يعدل عبادة سبعين سنة وقال عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام والذي نفس محمد بيده أنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء مثل عمل جملة الرعية

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم وروى كثير بن مرة رضي الله عنه قال: قال: عليه الصلاة والسلام السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإذا عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر وإذا جار كان عليه الإثم وعلى الرعية الصبر وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه لعمل الإمام العادل في رعيته يوماً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة سنة أو خمسين سنة وقال قيس بن سعد ستين سنة وأعلم أيها الملك الأعظم واسلم أن العدل ميزان الله تعالى في الأرض به ينتصف بعض الرعية من البعض وبه يؤخذ للضعيف من القوي ويعبد الله على الصراط والسوى ويتميز الحق من الباطل والحالي من العاطل وهو من صفات الذات وأعظم الصفات بمعنى أن الله تعالى عز وجل جلالا له أن يفعل في ملكه ما يشاء فيؤتي الملك من يشاء وينزع الملك عن من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويحكم ما يريد والخلق كلهم له عبيد وجميعهم بعض ملكه نافذ فيهم سهم أمر ملكه فلا اعتراض على فعل المالك ولا فيما يسلك بمملوكة المسالك ولا مجال لاعتراض عبده على ذلك لا سيما إذا كان مولاه كريماً وفي أفعاله مدير حكيماً فمن عرف أن الله عدل وأن أفعاله جارية بين العدل والفضل يتلقى نقمه بالصبر

ويقابل نعمه بالشكر ويطمئن خاطره وتسكن إلى مولاه سرائره فلا يستقبح موجوداً ولا يستهجن مفقوداً ولا يستثقل حكماً ولا يرمي في الكون ظلماً بل يستقبل الأحكام بالرضا ويستسلم لموارد القضا ويقابل العوارض بما قاله ابن الفارض: وكل أذى في الحب منك إذا بدا ... جعلت له شكري مكان شكيتي وأعدل المخلوقات وأوسط الكائنات الأنبياء عليهم السلام فأنهم أعدل الخلق مزاجاً وطبيعة وأقوم الناس منهاجا وشريعة وأوسط البشر أفعالاً وأقسطهم أعمالاً وأقوالاً وإنما يعترض على أقوالهم ويتعرض لأفعالهم من هو عن الصواب منحرف وعن جادة الحق منصرف ومن عين يصيرته عمياء عن مراقية التحقيق كالأعمى الذي خرج وهو ماش عن سواء الطريق فيعثر في شوك أو حجر أو يصدمه حيوان أو شجر فيقول نحو هذا عن الطريق فانه يحصل للمارة تعويق ويعيب على واضعه وإنما العيب في طبائعه والجهل منسوب إليه لعمى قلبه وعينيه كما قال ذو الخويصره لسيد الرسل البررة لما قسم الغنيمة قسمة مستقيمة اعدل فأجابه الكامل المكمل بأنه أن لم يعدل فمن يعدل وأنه رأى ذا الخويصره الذي أعمى الله بصره خاب وخسر ولاقى اليوم العسران لم يعدل ذلك المفضل وكيف يقال هذا الكلام لمثله عليه الصلاة والسلام قود أمره الله تعالى بالعدل ونشر سر هذا النقل واقر عينكم بقوله وأمرت لا عدل بينكم

قال الأسد الغالب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وجعل إلى رضوانه له احسن وجهه أما عادل خير من مطر وابل وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم وقيل الملك يدوم مع العدل ولو كان الملك كافراً ولا يدوم مع الظالم ولو كان مسلماً وما تعاطى حاكم ذو فضل فصل قضية في فصل أحسن سلوك طريقة العدل ولذا بقي أسم أنوشروان مخلداً بالعدل على مر الزمان وإلى يوم ينصب الميزان مع أنه كان مجوسياً يعبد النيران وللسنة التي اخترعها بالسلسلة التي وضعها باقية في ممالك الصين معمول إلى آخر حين وقيل أنه كان شديد الوداد للاصطياد وكان يعشق البازي والزروق والصقر والباشق والبيدق فسأل يوماً من الباز دار لم كانت هذه الأطيار قصار الأعمار قال لأنها تظلم الطيور والظالم عمره قصير فتنبه بهذه الكلمة واتعظ وكف يده عن الظلم واحتفظ ثم أسس قواعد العدل فانتشر ذكره إلى يوم الفصل ويكفيه من الفضائل قول السيد الكامل ولدت في زمن الملك العادل وروى أن بعض الملوك العادلين والحكام الفاضلين استولى عليه الكبر ووقر في أذنه وقروقر وكان قبل الصمم في العدل والكرم كما قيل: وأنه مظلوم وغنة سائل ... على أذنه أحلى من الشهد في الفم

فحزن لفقد سمعه وتأسف وتحرق وتلهف وتأرق وبكى وتأوه واشتكى وقال ما أتلهف من عدم سماع الحديث الأعلى فقدي صوت المستغيث ولا كنت أتلذذ من متكلم إلا بالإصغاء إلى خطاب المتظلم ثمقال لئن حرمت ذلك من طريق الأخبار فلأتوصلن إليه من طريق الأبصار ثم أمر بأشعار النداء في الأطراف والأرجاء أنه من كانت له ظلامه فليظهر له علامة وهي أن يلبس ثوباً أحمر ويقف فوق ذلك التل الأخضر لنعرف علامته ونكشف ظلامته وقيل أن السلطان السعيد نور الدين الشهيد لما أمر ببناء دار العدل وعزم أن يقيم فيها للحكومات الفصل أدرك الأمير الكبير صاحب الرأي المنير أسد الدين شيركوه السلطان ما يعتمده السلطان ويرجوه وما يحمله على ذلكم ويدعوه وعلم أن ذلك الأسد لا يسامح عنده أحد وأنه لا يراعي في الحق أميراً ولا كبيراً ولا صغيراً فانه مع الحق وبالحق قائم لا تأخذه في الله لومة لائم فجمع مباشرى ديوانه وأكد ما قاله لهم بأيمانه لئن شكا منهم أحد أو بلغه عن أحد من حاشيته ظلم أو نكد ليذيقنه أشد العذاب ولينزلن به أنكى عقاب وقال ما برز هذا الأمر العزيز الغالي ببناء هذا المقعد العام العالي إلا الأجلى ولأجل أمثالي فما وسعهم إلا طلب الخصوم واسترضاء العادل والمظلوم

(وروى) أن أحد الصدور هصبه بعض عمال المنصور وأخذ منه كفراً من الكفور فتوجه إلى الخليفة وضرب له أمثالاً ظريفة وقال أصلح الله أمير المؤمنين وأقام به شعائر الدين ونصر به المظلومين على الظالمين أأذكر ظلامتي أولا أم أضرب أمام حاجتي مثلاً فقال دع الجدل وأضرب المثل فقال ألهمك الله العدل وأقام بك قواعد الفضل أن الطفل إذا نابه ما يكرهه أو قرعه خطب يجبهه فر إلى أمه وأجهش إليها من همه فأوى إلى حضنها وأندس تحت بطنها لأنه لا يعرف سواها فيستكشف بها عن نفسه ما دهاها ولا يظن أن غيرها يدفع عن نفسه ضيرها فإذا عرف أباه بث إليه شكواه واستدفع به ما عراه لأنه قد وقر في وهمه أن أباه أقوى من أمه وأن غيره من الناس لا يقدر على دفع البأس فيلجأ إليه فيترامى في دفع شدائده عليه ولا يقبل عذره أن ترك نصره أو قصر في مبتغاه أو تهاون في متمناه ولهذا قال بدر الحي أن النساء والصبيان يظنون أن الرجل يقدر على كل شيء فإذا أشتد واستوى وأصابه من أحد جوى تقدم إلى الوالي لأن مقامه عالي وهو أقوى من أبيه فيستكشف به ما وقع فيه فإذا صار رجلاً وأصابه من أحد نكد وبلاً استنجد بنائب السلطان فوجده له أحسن معوان فاشتكاه ورفع بلواه وكفاء إذ دعاه ما دهاه ورعاه عما عراه فانه أقوى من الوالي وأقدر على دفع الظلامة من كل منهمك غالي وهو السلطان الحاضر والعامل والناظر على البادي والحاضر فإذا ظلمه الوالي والعامل ونقصه حقه ذو الحكم الكامل تعلق بأذيال عدل السلطان واستكشف بمراحم نصرته ما دهاه من عدوان إذ قد تحقق ورأى

وصدق أنه أقوى من الكل وإلى مرسومة مرجح الجل والقل ولايد فوق يده وأنه قد انتهى حديث رفعته لعلو سنده وبلغ في التسلط ونفوذ الأمر إلى أقصى أمده إذ هو ظل الله في أرضه وخليفته في إقامة نفله وإحياء فرضه وقابض أزمة المخلوقين ومنصف المظلومين من الظالمين فإذا لم ينصفه السلطان مع القدرة الكاملة والإمكان توجه بشكواه إلى سلطان السلاطين وطلب رفع ظلامته من رب العالمين لعلمه أنه الحكم الذي لا يجوز والحكيم الذي بيده مقاليد الأمور والحاكم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأنه أوقى من السلطان ولا يحتاج في الشكوى إلى بيان ولا إلى دليل ولا برهان وقد نزلت بي حادثة للقلب كارثة وبالفكر عابثة وللسر عائثة وهي أن العامل الفلاني ظلمنني وأخذ مكاني فأنا أشكوه إليك وقد تراميت عليك وعرضت قصتي بين يديك لأنك نعم السند وليس فوقك أحد ولا في الحكام إلا من هو لك بمنزلة الغلام وما بعدك إلا الله مولى لا يخيب من رحاه ويجيب المضطر إذا دعاه فان وعيت قصتي وكشفت غصتي وإلا رفعتها إلى الله وقطعت النظر عما سواه وهذا أوان الموسم وأعمال المنسيم وأنال متوجه إلى حرمه ومترام على باب إحسانه وكرمه فلما وعى المنصور خطابه أرسل من سحاب جفنه عبابه وقال حباً وكرامة يا ذا الزعامة بل أنصفك وبالفضل أسعفك وأضعف كرامتك وأكشف ظلامتك وأوصلك حقك وأعطيك مستحقك وأمر فكتب إلى واليه يضع من معاليه ويأمره بردأراضيه وطلب مراضية والتحلل من ظلم أياديه وإكرام محله وناديه

وروى موسى الكليم عليه الصلاة والتسليم في بعض مناجاته وسؤاله حاجاته سأل الله من فضله أن يريه نكتة من عدله فأمره أن يتوجه إلى مكان ويختفي فيه عن العيان فامتثل ما به أمر واختفى في ذلك المكان على شط نهر فما كان سارع من قدوم إنسان إلى ذلك المكان فبمجرد ما وصل إليه نزع من ملبوسه ما عليه وكان معه كيس فيه مال نفيس فأودعه ئيابه ورام في الماء انسيابه فدخل في ذلك النهر وغلغل فيه إلى أن غاب عن النظر فاقبل فارس فوجد ثياباً بلا حارس فنزل عن الدابة وفتش ثيابه وأخذ كيس الذهب وركب فرسه وذهب وأسرع في الذهاب إلى أن زال شخصه وغاب ثم أقبل شخص ذو شجب وعلى ظهره حزمة حطب فانتهى إلى ألما وقد برح به الظمأ وأمضه التعب وأخذ منه النصب فطرح عن ظهره الحطب وقصد الراحة وقد ظهر الذي كان في السباحة فوجد عند ثيابه شخصاً من أترابه فأستأنس به وتأوه لمكتئبه وما يقاسيه من نصبه ثم اشتمل ملبوسة وتفقد كيسه فما وجده فعض يده فسأل الحطاب عما كان في الثياب وطلب منه الكيس بالتعبيس فقال ما رأيته ولا حويته فقال هل كان معك أحد فقال لا والواحد الأحد قال فهل كان هناك سواك قال لا والذي سواك قال يا أخي أنا وضعت الهميان بيدي في هذا المكان ولم يطل على ذلك زمان ولا حضر سواك حيوان ولا طمث عذراء هذا الموضع أنس ولا جان فلا اشك أنك أخذته ولنفسك افتلذته فاقسم بعالم الخفيات وكاشف البليات المطلع على الضمائر والنيات

أنه ما رأى له همياناً ولا يعرف لذلك مكاناً فقال لو شهد لك الكون والمكان ونطق ببراءتك جوامد الزمان وزكاهم الكرام الكاتبون لما شككت أنهم كاذبون لأن إنكار المحسوس مكابرة والمثابرة على الباطل للحق مادبرة خذلك منه يا فقير الثلث والثلث كثير واردد على الثلثين وإن أبيت فاجعله بيني وبينك نصفين فما زاد ذلك على اليمين وما شك هذا أنه يمين فقال اردد على مالي وإلا قتلتك فلا لك ولا لي فقال ما رأيت ما لك فافعل ما بدا لك فشرع في تفتيشه وبالغ في فحصه وتنبيشه فلم يهتد إلى شيء سوى الضلال والغي فأخذه الحنق واشتد به الأرق وثارت نفسه الأبية واتقدت ثورته الغضبية فضربه بمحدد فقتلته وجد له بالإهلاك فجد له ثم تركوه وذهب ولم يحظ من الذهب بغير اللهب كل هذه الأحوال وموسى عليه السلام يشاهد ما فيها من أفعال وأفوال ثم ناجى فقال يا ذا الجلال أنت عالم بحقائق الأمور وسواء عندك البطون والظهور سألت فضلك أن تريني عد لك فأريتني هذا المغرم وأنت أعلى وأعلم ففي ظاهر ما أمرتني وبكرامته غمرتني من الشريعة المطهرة ونص التوراة المحرم أن هذا الحكم جور وظلم فأطلعني على الحقيقة وبين لي سلوك هذه الطرقة فقال الله تعالى وجل جلالاً يا موسى المقتول قتل أبا القاتل والقاتل سرق الكيس من أبي الفارس الخائل ففي الحقيقة الفارس النبيه وصل إلى ماله المخلف عن أبيه والقاتل إنما استوفي قوده ممن قتل والده وهذه الأمور إنما تتضح يوم النشور تبلى السرائر وتكشف الضمائر وينادي يوم التناد لا ظلم اليوم إن الله قد حكم بين العباد

ونظير هذه القصة ما ذكره الله تعالى وقصة في روض كلامه النضر عن موسى والخضر عليهما السلام والتحية والإكرام إذ ركب السفينة وخرق خرقاً مؤدياً إلى الغرق وقتل النفس الزكية وأقام بغير أجر أركان الجدار الواهية وبعض ذلك مخالف لظاهر الشريعة تنفر عنه النفس السليمة والطبيعة ولكنه موافق للحكمة الإلهية ومقتضيات العقل الحقية الذي لا يطلع عليه الأعالم الأسرار الخفية ولهذا قال جل وواحد أحداً وتعالى فرداً صدمداً عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ثم استثنى من هذا المقول إلا من ارتضى من رسول وإنما الشريعة الزاهرة وردت بما تقتضي من الحكم الظاهرة فتعبدنا الله في الشرائع بظاهرها ما يثبت في الوقائع (قيل) من أيقن بحقية أربعة كان من ضيق أربعة في سعه وأمن ودعه من أيقن أن الصانع الضار النافع لم يخطئ ولم يغلط أمن من العيب والشطط ومن أيقن أن الخلاق ومقسم الأرزاق لم يحف في خلقه ولم يمل في رزقه أمن من الحسد واستراح من النكد ومن أيقنبوقوع المقدور وأنه لا ينجيه منه محضور أمن من الغم ولم يتساقط عليه الهم كما قيل: ما قد قضي يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر ومن عرف أصله أمن من الكبر تصله وكتب في قضية إلى أعدل خلفاء بني أمية من

عامله بحمص أنه هدم الدمص وعدم النمص وأن ربضها رابض ومرعى رياضها بأرض وأنها محتاجة إلى عمارة وزراعة وحراسة ومناعة فكتب إليه عمر بن عبد العزيز هذا الجواب المفيد الوجيز وهو حصنها بالعدل ولق طرقها من الحدل يثبت ألبنا وينبت الكلا والسلام وقيل أمير بلا عدل كغيم بلا مطر وعالم بلا ورع كشجر بلا ثمر وشاب بلا توبة كمشكاة بلا مصباح وغنى بلا سخاء كقفل بلا مفتاح وفقير بلا أدب كطابخ بلا حطب وامرأة بلا حياء كطعام بلا ملح وقاض جائر كملح على جرح وقيل العالم بستان سياجه الشريعة والشريعة سياج يخدمها الملك والملك راع يعضده الجيش والجيش أعوان يكفلها المال والمال رزق تجمعه الرعية والرعية أحرار يستعبدها العدل والعدل سلك به نظام العالم وليعلم أن الملة الأحمدية والشريعة المحمدية هي أعدل الملل وأقوم النحل مثلاً النصارى لا يتحامون الحائض أيام أقرائها ولا فرق بين الحائض وغيرها من نسائها

واليهود يجتنبونها فلا يؤاكلونها ولا يشاربونها ويقربونها رأساً ويعدونها رجساً وركساً فسلكت الشريعة المحمدية في ذلك أعدل الطرق وأفضل المسالك فتعاشر كالأطهار وحرم قربان ما تحت الإزار وفي بعض الملل على الذي قتل القود والقصاص وليس في الدية خلاص وفي بعض الدية لا غير وما للقصاص فيها سير ودين الإسلام المرفوع كل فيه مشروع والعدل في الاعتقاد يا ملك البلاد ترك التخليط وسلوك ما بين الأفراط والتفريط والقول بالتقديس والتنزيه واثبات الصفات من غير تعطيل ولا تشبيه واقتباس النور من جمرين وسلوك أمر بين أمرين والعدول عن المذهب البغيض وهو مذهب الجبر والتفويض والعدل في الفقيهات يا معشوق المخدرات والحذريات الذي قام عليه النص دليلاً ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا

فمن العدل الوضوء والمعتاد ثلاث مرات ومن نقص أو زاد فقد تعدى وظلم كذا قال النبي المكرم صلى الله عليه وسلم أي تعدى أن أسرف وظلم أن أجحف والعدل في الصلاة أن تكون على مرتضى الشرع ومقتضاه وهي أداؤها في أفضل الأوقات مؤداة مع الجماعات في الصف الأول على الوجه الأكمل عن يمين الأمام من الافتتاح إلى الاختتام مع تعديل الأركان بل التعديل فرض عند بعض الأعيان لا نقرا كنقر الطير ولا تطو بلا يضر بالغير والعدل في الزكاة أن لا يتمموا الخبيث منه ينفقون ولا يجعلوا الله ما يكرهون وليسوا بآخذيه الآن يغمضوا فيه ولا يكلف جابي المال أن يعطي كرائم الأموال والعدل في الصوم يا سيد القوم أن لا يتنول فوق الغذاء المعتاد ولا يصل بالوصال إلى درجة الإجهاد ويعجل الفطور ويؤخر السحور والعدل في الحج أن لا يماري في الأنفاق ولا يضار الرفاق بالشقاق كما يفعله أبناء الزمان فان ذلك خسران والازدياد من ذلك نقصان ولقد بلغك يا قمر ما قاله عمر لخادمه يرفا وذا لا يخفي كم بلغت نفقاتنا مقداراً قال ثمانية عشر ديناراً يا أمير المؤمنين قال ويلك أجحفنا بيت مال المسلمين وإياك والأشر وقاك الله كل شر فقد بلغك قيمة راحلة

سيد البشر ليدل ذلك على ترك البطر والأشر ولا يقصر في نفقته بحيث يصير كلا على رفقته وكذلك في كل الأنفاق يا ملك الآفاق قال من عز كلاماً مقالاً ومقاماً والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً والعدل في النكاح يا حبيب الصباح لمن عليه يقوى فهو أقرب للتقوى وهو يا أبا حسان واجب عند التوقان سنة عند القدرة عليه مستحب عند استواء طرفيه مكروه عند العجز عنه وهذا بحث قد فرغ منه وقس يا ذا الكرامات على هذا سائر العبادات وجميع العادات وعقود المعاملات ولا تتعدا الحدود في الحدود فان ذلك مردود وعلى قانون العدل وردت الشريعة المطهرة وجرت قديماً شرائع الأنبياء البررة وكذلك مقادير الملة المحمدية عليه افضل صلاة وأزكى تحيه محررة على القواعد العدلية وفيها من الحكم الإلهية ما يعجز عن إدراكها القوىالعقلية قال الله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبيان وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وحاصل الأمر يا ذا النهي والأمر أن العدل هو قوام كل فضيلة كما أن الصبر هو أساس كل خصلة جميلة وأن أردت بسط هذا البيان فدونك القول والتبيان في تفسير القرآن المنزل على أشرف إنسان إن الله يأمر بالعدل والإحسان فقد أشبع التقرير ودقق التحرير في روضة النضير فارس ميدانه الأمام الخطير فخر الدين الرزاي في تفسيره الكبير

والعدل يجري في لصفات كما يمشي في الذوات ومرتبتا في العلو أن يكون بين التقصير والعلو كالكرم الذي يكون بين الإسراف والتبذير والشح والتقتير والتواضع الذي بين الضعة والتكبر وبين التصعر والتصغر والشجاعة التي بين التهور والخفة والجبن الطائش الكفة والقناعة التي بين الحرص والطمع والنذالة والهلع وبين العجب والتصلف والاحتشام والتقشف والإخلاص الذي بين الشرك والهوى وبين الإعجاب والريا والعفة التي بين التهافت على المشتبهات والترفع عن تناول المباحات والطيبات والحزم الذي بين سوء الظن والوهم والوسواس وبين إذاعة السر والأسختفاف وعدم ألا مبالاة بالناس والحلم الذي بين الغضب بلا سبب وبين التغاضي عن اللئام عند موجب الانتقام والشفقة ولين الجانب للأقارب والأجانب الذي بين القوة والاستكبار وبين الرخاوة واللين المستلزم لتضييع حقوق الأهل والجار وحفظ الحقوق الذي بين التكلف والعقوق يراعي فيها الحدود ولا يخرج فيها عن الحد المعهود فالخروج عنها يسمى عناداً وقساوة والتقصير فيها يدعى ركاكة ورخاوة مثلاً من يستحق العفو لا يضرب ومن يستأهل الضرب لا يقطع ولا ينكب ومن استوجب القطع لا يقتل ومن وجب عليه حد لا يهمل وتجري أمور الشرع الشريف على ما ورد به الأمر المنيف فما ثم أحد أكرم من الله ولا أرحم ولا أعلم بأمور مخلوقاته ولا أحكم قال السميع البصير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير

وروى أن الإمام المسدد جعفر بن محمد دخل على الرشيد وهو في أمر شديد قد استولى عليه الغضب واستخفه الطيش والصخب فقال يا أمير المؤمنين إن كان غضبك لرب العالمين فلا تغضب له أكثر من غضبه لنفسه وقد حد لكل شيء حداً من نقمه وبأسه فلا تتعد حدوده فانه قد ملكك عبيده فتذكر من وقوفهم بين يديك واقتدارك عليهم إذا تمثلوا قياماً لديك قدومك يوم القيامة عليه ووقوفك خاضعاً منفرداً بين يديه ومن انتقامك منهم سؤاله إياك عنهم فسكن من غضبه واقتدى بأدبه وقال الحكماء للإسكندر عليك بالاعتدال في كل الأمور فان الزيادة عيب والنقصان عجز وفي الحديث خير الأمور أوسطها ولهذا قيل في الأقاويل ينبغي للإنسان الراجح العقل في الميزان أن يحصل من كل علم مقدار ما يحتاج إليه ويعول في مشكلاته عليه مثلاً علم الأدب ما ينال به عند أربابه الرتب كاللغة والنحو والصرف ولو أنه أدنى حرف ليقوم بذلك لسانه ومن علم المعاني ما يبدع به بيانه ومن العروض والقوافي المقدار الوافي والمعيار الكافي ومن الطب ما يعرف به

مزاجه ويصلح به علاجه ويقوم به اعوجاجه ومن علم التفسير والقرآن ما يقتدر به على بيان كلام الرحمن ومن علم السنة والحديث ما يميز به الطيب من الخبيث ويضبط به أقسامه وصحته وسقامه والأنساب والرجال ومالهم من صفات وأحوال أن لم يكن مفصلاً فعلى الأجمال ويندرج فيه علم التاريخ العالي الشماريخ ومن علم الكلام ما يصحح به دينه ويقيم به اعتقاده ويقينه ومن علم الأصول وما اشتمل عليه من معقول ومنقول ما يقدر على استنباط الأحكام ومعرفة أدلة الحلال والحرام ومن علم الفروع ما يحكم به أصناف العبادات وأنواع العادات وطرائق العقود وإقامة الحدود ومن علم مكارم الأخلاق ما يصيد به قلوب الرفاق ويكتسب به الذكر الجميل والثناء الجليل ومن الحرف ما يحصل به القوت الحلال ولا يصير على الناس كلاذ إملال وقد قيل خالطوا الناس مخالطة أن غبتم حنوا إليكم وإن متم حنوا إليكم ومن علم الركوب والرمي والسباحة والخط ولعب الرمح والسياحة وعلم الفرائض والحساب وطرائق المبايعات والكتاب ما يقدر به على الدخولإليه إذا تكلموا فيه بين يديه بحيث يكون له فيه مشاركة والمام ولا يكون بين الخواص كالعوام وكل ما ذكر فسلوكه عدل والتلبس به كمال وفضل ورأس مال الجميع التقوى فان الإنسان الضعيف بالتقوى بقوى قال الله تعالى ولكن يناله التقوى منكم وبالجملة فالعاقل العادل بل الكامل الفاضل لا يستنكف عن نوع من العلوم ولا تبرد همته عن اقتباس منطوق ومفهوم قال معلم الخير ومحذر الشر تعلموا حتى السحر وقال:

عرفت الشر إلا ... للشر لكن لتوقيه ومن لم يعرف الخير ... من الشر يقع فيه وكل مصافي السريره وذي بصيرة منيره يتوجه إلى التعلم والاستفادة ويجعل مراده مراده أي علم كان خصوصاً إذا كان من الشرف بمكان قال بعض الوزراء لابنه يا بني تعلم العلم والأدب ولا تسأم فيهما من الطلب فلولا العلم والأدب لكان أبوك في السوق حمالاً وللنوق جمالاً فبالعلم والأدب ركبنا أعناق الملوك وأحوج الناس يا ذا الأفضال إلى اكتساب الفضل والعلم والكمال السلاطين والملوك ومن تبعهم في السلوك فانهم بين خلق الله تعالى المرموقون والسابقون بجلائل النعم لا المسبوقون وبحفظ بلاده وعباده المستوثقون منهم موثوقون فهم المتحملون لأعباء العدل المكلفون بالمحاسبة عنه والفضل قال من يقول للشيء كن فيكون قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون فهم أقدر على التحصيل من غيرهم والزمان والمكان تابعان لسيرهم والخاص والعام يتمنى قربهم ويسلك في التوصل إلى جنابهم دربهم ويبذل في ذلك ما وصلت إليه يداه ويجعل تحصيل ما يرمونه غاية متمناه فيبذل جهده في ايصالهم إليه ويكد قلبه وقالبه في اطلاعهم عليه قال الشاعر: ولم أر في عيوب الناس نقصاً ... كنقص القادرين على التمام وقال بعض المؤرخين الملوك لأولاده يا بني اكتسبوا العلم والفضل وادخروا الحلم والعدل فان احتجتم إلى ذلك كان مالاً وإن استغنيتم عنه كان جمالاً وقال بعض الحكماء العلم ملك ذو أعضاء رأسه التواضع ودماغه المعرفة ولسانه الصدق وقلبه حسن النية ويداه الرحمة ورجلاه مثابرة

العلماء وسلطانه العدل ومملكته القناعة وسيفه الرضا وقوسه المساءلة وسهمه المحبة وجيوشه مشاورة الأدباء وزينته النجدة وحكمه الورع وكنزه البر وماله العمل الصالح ووزيره اصطناع المعروف ومستقره جودة الرأي ومأواه الموادعة ورفيقه مودة الأخيار وذخيرته اجتناب الذنوب والحاصل يا ملك الطير ويا مالك عنان الخير أن قوام العالم ونظام بني آدم سيف الملوك والسلاطين وقلم العلماء الأساطين فمهما حدث من شر محاه سيف الملوك ومهما وجد من خير أثبته فلم علماء الإرشاد والسلوك وفي الحقيقة يا شيخ الطريقة العالم عبارة عن هؤلاء وبصلاحهم تصلح الأشياء وبفسادهم والعياذ بالله تفسد الدنيا إذ هم لزوال الفساد وطهارة العباد وعمارة البلاد بمنزلة الصابون للأوضار والاستغفار وللأوزار فإذا فسد هؤلاء فما لفسادهم دواء كما قيل: الذنب صابون الاستغفار يغسله ... كالثوب ينظف بالصابون أن وسخا فما الذي يغسل الصابون من دنس ... إذا رأيناه صار الذنب والوسخا وناهيك يا ملك العقبان ما فسد من الزمان وجرى من الدماء من طوفان وانمحى من أمهات البلدان عند استيلاء الكافر جنكيز خان فسأل العقاب عن كيفية هذا المصاب والعقاب ومن هو جنكيز خان الذي أفسد وخان وما أصله وفصله وكيف كان قطعه ووصله حتى نفذت في كبد العالم بالفساد نصله

فقال هذا رجل من بقايا التتار الساكنين من بلاد الشرق في قفار وهم من بقايا يأجوج ومأجوج عن الإسلام منحرفون وعن الإيمان عوج سموا بالترك لأنهم تركوا عن دخول السد بالخروج فكانوا قبل جنكيز خان مبددين في صحاري لا يتفق منهم اثنان مسيرة أماكنهم ومدى مساكنهم شرقاً بغرب نحو من ثمانية أشهر وشمالاً بجنوب لا ينقص عن هذا المدى ولا يقصر حدها من الشرق حدود ممالك الخطاوأقصاها خان بالق وهي مدينة عظمى ووراءها شرقاً يا من يرقى ينتهي الحد بعد السير الجد إلى بلدة عظيمة ولا يأتيها جسيمه تدعى خيسار وأهلها كفار وهي مبدأ مملكة الصين يا ذا المجد الرصين ومن الشمال نواحي قرقير وسلنكاي ومن الجنوب بلاد تدعى تنكيت وتيت هذه يا ذا النسك هي التي يتولد غزالها المسك ومن الغرب وهي جهة قبلة تلك البلاد إذا صلى المسلمون منهم والعباد حدود بلاد أو يغور وما وإلى تلك الكفور من بلاد تركستان يا ذا الإحسان ويسير المجد منها إذا انفصل عنها كذا وكذا شهر حتى يصل من جهة غربها إلى ما وراء النهر ثم هؤلاء التتار كانوا تلك القفار بين هذه الحدود الأربعة في مضيعة وأي مضيعة يتوالدون في ذلك البر ويتهارجون في ذلك السهل والوعر كالحيوانات السائبة في البر والبحر لا حاكم يردعهم ولا دين واعتقاد يجمعهم وهم فيما بينهم قبائل وشعوب وأصناف وضروب وخلائق وأمم لا يعرفون الإسلام والسلم بل كل أمة تلعن أختها وتنهب

تختها وتأكل رختها وكل طائفة تعد غارتها وتقصد جارتها وكل من قوى على غيره كسره أما قتلته وأما أسره لم تزل المكافحة بينهم قائمة والمناطحة بين ثيرانهم وكباشهم دائمة وعيون الرشد والاهتداء عنهم نائمة وضواري الظلم والاعتداء في مسارح سوارح إسلامهم سائمة يعدون النهب غنيمة والفسق والفجور والنميمة أجمل صنعة وأكمل شيمة يأكلون والكلاب والفار وما وجدوه منن صيد القفار والميتة والدم والهوام لا يعرفون الحلال والحرام ويلبسون جلودهم وأوبارها وأصوافها وأشعارها كما كان مشركو العرب في الجاهلية قيل إشراق شمس الملة المحمدية لا زرع لهم ولا ثمر سوى نوع الشجر يشبه شجر الخلاف هو ثمرهم في الشتاء والاصطياف اسمه قسوق وهم على ما هم عليه من الفسوق يعبدون الأوثان والأصنام ويسجدون للشمس إذا بزغت من الظلام ويعظمون النجوم ويعبدونها وتخاطبهم الجن ويرصدونها وفيهم كهنة يعتقدونها وسحرة وساجع وزجره يجبى خراجهم إلى ملك الخطا وهم على أشد كفرو خطا قد تركب الكفر في أحشائهم وإن الشيطاين ليوحون إلى أوليائهم وأعلى من فيهم أكابرهم وذويهم علامة رياسته وانفراده بسياسته وأنه فيهم ذو يأس شديد ورأي سديد ومال مديد كون ركابه من حديد وباقي أعيانهم وذوي مكانتهم وإمكانهم أن كانوا ذوي جد فركابهم قضيب ملوي أوقد وعندهم أفخر ملبوس جلود الكلاب والنموس والذئاب والتيموس

وقس على هذا جميع تجملاتهم ومفاخر آلاتهم فهم في قديم الزمان وبعد الحدثان من حين بلغ ذو القرنين بين السدين وساوى على ياجوج ومأجوج بين الصدفين إلى آخر وقت كانوا في قلة ومقت وضيق حال وسوء بال لا دنيا رخيه ولا آخره رضية حتى نبغ منهم هذا اللعين الطاغية تموجين الذي تسمى بجنكيزخان وساعده قضاء الديان فأمده الزمان وأعطاه المكان لأمر يريده الرحمن وقضاء قدره على عبيده في سالف الأزمان فطعم العالم بالفساد فاهلك العباد والبلاد وأخلى والديار والدار وعم غالب بلاد الإسلام بالشنار والبوار فصلى الله على سيد بني عدنان بل أشرف جنس الإنسان الذي قال يخرج في آخر الزمان رجل يسمى أمير العصب أصحابه مخسورون محقرون مقصون عن أبواب السلطان ياتونه من كل فج عميق كانهم قزع الطريق يورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها فاتبعه منهم النساء والرجال اتباع اليهود والكفرة والمسيح الدجال أمم لا يحصرها حساب ولا يحصيها ديوان ولا كتاب وما يعلم جنود ربك إلا هو فارشدوا إلى طريق الضلال بعدما تاهوا وصار كل من أولئك الطغاة الكفرة الهجرة الأوغاد اللئام وكل كلاب خادم كلاب الصعود يجري سيفه الكال الكدود من أشراف الملوك وملوك الأشراف وفي أعضاد الأسود وفي قارب النمور والفهود وكل ماضغ شيح وقيصوم وعلج من أولئك العلوج وعلجوم يتفكه في أنواع المستلذات من المشروب والمطعوم وكل صعلوك معلوك من تركي متروك أو خدام

مملوك يتحكم في رقاب أكابر الملوك ويستعبدون أحرار أولادهم ويستفرشون زوجاتهم وبناتهم في بلادهم: على رأس عبد تاج عز يزينه وفي رجل حر قيد ذل يشينهومن لا يعرف البطائن المروية ولم يسمع بالرقاع الكرباسيه يستوطي الإستبراق والديباج ويتقلب على تخوت الصندل والساج ويترقى إلى سرر الأبنوس والعاج ويعامل التجار والمضاربين في البر والبحار بألوف الألوف من الدرهم والدينار فيجي إليهم نفائس المضارب من المشارق والمغارب ومكامن المعادن وذخائر الخزائن كل ذلك بواسطة ذلك الطاغية واستيلاء الفئة الباغية وكان من أمر هذا المصاب الذي بدل حولاة العيش بمرار المصاب وخلد في الدهر قواعد البلايا والأوصاب أن الله القاهر فوق عباده الذي لا يسئل عما يفعل من مراده بل له المراد في عباده وبلاده المتصرف في ملكه تصرف المالك في ملكه لما أراد ابتذال الصون وعموم الفساد في عالم الكون واستئصال غالب أهل الأرض وإذاقة بعض عباده بأس بعض وأظهار آثار غضبه على صفحات الشهود وإبراز أسرار قهره على وجنات الوجود ولحس سطور صدور علماء العالم على روح الورد بلسان نار السخط ذات الوقود ونقص أرض العلم من أطرافها وإخلاء ربوع المحاسن من ألافها اينع هذا التنين المبين من أوعار تلك القفار وأغوار أوغادها تيك التتار فكان

ممتازاً على أقرانه بوفور عقله وحسن بيانه ذا فكر مصيب ورأي صائب وحزم مجيب وعز ثاقب وهمة تباري الأفلاك وثبات يجاري السماك كسر بصدماته الأكاسرة وقص بسطواته القياصرة وقرع بعزماته على قمم الفراعنة والجبابرة وقهر بحملاته قهارمة خوافين القياصرة وكان أميالاً يقرأ أولا يكتب أعجمياً عجر يا لا يحسب ولا ينسب لا طالع ولا اقتفى في سياسة الممالك والآثار بل فرع ما فرعه من القواعد في صحيفة تفكيره واخترع ما ابتدعه من تدبير الملك من مطالعة هو لجنس ضميره فأسس قواعد لو أدركه إسكندر ودارا لما وسعهما لاقتفاء أثره وشيد مباني لو بلغت نمرود شداداً لبنيا قصور قصورها على أركان خبره وخبره ورتب تجهيز السرايا والجنود وربط عقود الجيوش والبنود بطرائق يعجز عنها مهندس الحكمة ويتقاعد عن حل رموزها معزم الفطنة وغاية ما يتعاناه ويستعمله ويتعاطاه جيوش الأتراك في بسيط الأرض من إبرام طرائق عساكرهم والنقض إنما هو من قوانين ما رتبه وأفانين ما هذبه وركبه وله في ترتيب حراب الحروب وما فن الضرب والضراب من ضروب وطرائق الاصطياد مخترعات دقائق لم يسبق إليها من لدن كيخسرو وكيقباد احكم الموافق ونصر المصادق وكبت المعادي وكسر الأعادي واستطال مع كثرة مخالفيه عليهم وأنفذ سهم تحكمه فيهم واليهم وصال فيهم حسبما أراد وجال واتسع له في التضييق على الإسلام والمسلمين المجال

فكل من عامله بالمجاملة وتلقاه بالعبودية وحسن المعاملة أبقى على نفسه وأهله وماله وحصنهم من أليم خيله ورجاله ومن قابله بالمقاتلة وتلافى صف قتالة سورة المجادلة محا سطور ركونه من لوح الوجود وأوطأ سنابك خيله منه الجباه والخدود فخرب ديارهم ومسح آثارهم مع شكره وإسلامهم وتبدد عساكره ونظامهم ومع أن أكثر الملوك والسلاطين وحكام الممالك الإسلامية من الأمراء والأساطين لعدم اكتراثهم بالأتراك والتتر وشدة ما هم فيه من لنخوة والبطر ولاعتمادهم على حصونهم والحصينة وتعويلهم على معاقلهم المكينة ولكثرة العدد والعدد ومساعدة المدد والمدد ولوفور العمائر ببلادهم وخراب بلاده وبسطة استعدادهم وضيق استعداده لم يعاملوه إلا بالمكافحة ولا ردوا جواب خطاياته إلا باللعن والمكالحه والسب والمقابحة ولا قابلوه إلا بالمرامحه والمراوسة والمناطحه فقتلهم وأبادهم واستصفى طارفهم وتلادهم وتوطن ديارهم وبلادهم وأبادهم عن آخرهم وأطفأ قبائل عشائرهم فمد لأكابرهم أسمطة الرزايا ووضع في أفواه أصاغرهم أثدية المنايا وأضافهم في ولائم الدمار وأطافهم على نجائب الانكسار في ملابس البوار فاستأصل شأفتهم بالكليه وحكم فيهم المنية فلم يسبق من مائة ألف إنسان مثلاً مائة إنسان وذلك أيضاً أما على سبيل التغافل أو على سبيل النسيان وسيذكر على سبيل الأجمال ما يدل على تفصيل ما له من أحوال وشواهد ما فزعه من أهوال واستمر ذلك في ذريته وإن كانوا رجعوا عن ملته وأصل هذه الأصلهالتي أضحت بخلقان اللعن أكسى من بصله قبيلة من تلك التتار

الساكنين في تلك القفار تسمى قنات ظلمة عتات غير أمناء ولا ثقات منها آباؤه وأجداده وفيها أقاربه وأحفاده واخوته وأولاده فنشأ كما ذكر بطلاً باسلاً وشجاعاً كاملاً سهام أفكاره في عمره مصيبة ورهام آرائه في مكره خصيبه ثم اتصل بعد ما أخنى وخان بملك يسمى باونك خان وأظهر من أنواع الفراسة والفروسة والكياسة ما فاق به أناسه وفات من العقل قياسه فقر به الملك وأدناه ولمهماته اصطفاه ولا زال يترقى عنده إلى أن ملك جنده وصار عضده وزنده ودستور ممالكه ومسلك مسالكه وحاكم أمرائه وناظم أمور وزرائه وناظر جمهور كبرائه وعين أعوانه وعون أعيانه وأعز من أخوته وأولاده وأبر من حفدته وتلاده وكثفت حواشيه وعظمت غواشيه وملأت السهل والوعر فواشيه ومواشيه فثقل على الوزراء وصعب على الأمراء إذ مدار الملك صار عليه ومرجع الأمير والمأمور إليه فحسده أولاد الخان وإخوانه وأجناده وأسرته وأعملوا له المكائد ونصبوا له المصائد وتعاطوا إفساد صورته وتواطؤا على إخماد سيرته فصاروا يتناوبون على ذلك في غيبته ويمزقون أديم عرضه عند الخان ويشقون ستر عصمته بمخاليب البهتان ويراقبون الكلام أوقات القبول ويواظبون في السعاية عليه بدلائل المعقول حتى أوغروا صدر الملك عليه وأخذ يفكر في كيفية إيصال الإساءة إليه ولم يقدر على

مواجهته لوفور جماعته وكثرة حاشيته فان أوتاده كانت ثابته وغراس هيبته كالارزة نابتة وفروع دوحة عصابته قد أحاطت بالملك من كل جهاته حتى قيل إن ذلك الثقيل كان له القرابات وذوي الأرحام والعصابات والأولاد والأحفاد ما جاوز في التعداد عشرة آلاف نسمة كل له حرمة وكلمه فأضمر له السلطان البيات وانتخب لذلك من عسكرة أولي الثبات الثقات ولم يختلف عليه في ذلك اثنان لأنه كان قد استحكم فيهم منه الشنآن وعلموا أن سهم مكرهم نفذ وحسام فكرهم في قطعه فلذ ورأوا من الرأي أرصنه أن يراقبوا لحتفه مكمنه فتواعدوا على ليلة معينة يدهمون فيها مأمنه وكان عند الخان صبيان محرمان لا يؤبه إليهما ولا يعول في الأمور عليهما يدعى أحدهما كلك والآخر باده فانسلا من بين أولئك القادة وسلكا طريقاً غير العادة وأتيا تموجين الطاغية اللعين في خفية ونبها وعيه وأخبراه وبصراه وأنذراه وحذراه بما تمالأ عليه الملك مع عسكره المنهمك وقالا أيها العفريت قد طنجت لك قدر التبييت فتنبه من النوم وراقب في الليلة الفلانية هجوم القوم فانه قد مرج المارج الفتنة فامرج وعن وهاد غفلتك اعرج إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك وباعاه من السر ما جرى بتخيير المشتر يوقصا عليه القصص فخلصا طير حياته من القفص وظبى نجاته من القنص فشكر لهما ما فضلهما واستكتمهما قولهما ثم تثبت في أمره عن زيده وعمره وجمع تلك الليلة رجله

وخيله ولم يبد تلك الحال لأحد من الرجال بل أخلى بيوته ولازم سكوته وقصد أحد الجوانب بما معه من راجل وراكب وأقام في كمين ينظر أيصدق الواشي أم يمين فما مضى هزيع من الليل إلا وقد هبطت الخيل فوجدوا البيوت خاليه والأطلال خاوية فتحقق صدق الناقل وأنه ناصح عاقل فعمل مصلحته وأخذ حذره وأسحلته وتقرر وقوع النكد فتقدم أمامهم واستعد فقصدوه وبالأذى رصدوه ولا زالوا يتبعونه حتى التقوا بمكان يسمى ببا لجونه وهو عين ماء في حدود بلاد الخطا فاشتعلت بين الفريقين نار الحرب وقصد كل منهم الآخر بالطعن والضرب فأعانه الله ونصره فكسر الخان وعسكرة وفر بمن معه من فئة وذلك في سنة تسع وتسعين وخمسمائة وغنم تموجين من الأموال والمواشي والأثقال وذخائر الخزائن ونفائس البحار والمعادن ما فات الحد والحصر خارجاً عن سعادة النصر وهرب الخان وتهدمت منه الأركان فجمع جنكيز خان عسكرة وضبط أسماء من حضره ومن كان شاهد القتال ومواقف الحرب والجدال من والنساء والصبيان والرجال ومن خادم ومخدوم وخاصم ومخصوم ومأمور وأمير وكبير وصغير حتى السائس والجمال والطباخ والبغال والطفل والرضيع والنذل والوضيع ومن شهد تلك الغارة أو كانفي تلك الدارة ولو حاضرا للتفرج مع النظارة واستبشر بوجودهم وتميز بور ودهم فأثبتهم في الديوان بأسماء آبائهم وجدودهم وفرق عليهم ذاك الفيء ولم يرفع إلى خزائنه منه شيء بل وزع ذلك المغنم الوافر العظيم المتكاثر على الحاضرين معه العساكر وضبط أسماءهم في الدفاتر وفرق ذلك العرض العربض الطويل على قدر الحقير منهم والجليل ووعدهم بكل جميل

وأما الغلامان اللذان أخبراه وعلى ما كان أضمره الخان أظهراه وكانا سبب حياته وخلاصه من الموت ونجاته فانه جعلهما ترخان فصار السهم مقاصده كأنهما شرخان والثرخان عبارة عن المعافي المطلق يستوفي حقوقه ولا يقوم بما عليه من حق لا يؤاخذ بقصاص أن قتل وقس على هذا ما يوجب القول والعمل مقضي المآرب موصول المطالب لا يكلف بخدمة ومباشرة ولا بحضور ومعاشرة مهما طلب أعطى ويعد مصيباً ولو يخطى وأعلى مراتبه في مراعاة جانبه أنه يدخل على السلطان من غير استئذان وهو نائم سراريه ونسائه وجواريه فيذكر ماله من مآرب فتقضى ومن شفاعة فتقبل وتمضي ويعطي بذلك مناشير وتواقيع وتقارير تبلغ التاسع من أولاده ويشمل أحكامها جميع أسباطه وأحفاده ولما انتصر وحصل أمنه واستقر وتعاظم أمره واشتهر وعظم وانتشر قرر كل من حضرة تلك الوقعة فيما يليق به من منصب ورفعه فأقبلت القبائل إليه وانهالت الرؤس والوجوه عليه ورجع الخان واستعد وأعد ما وصلت إليه يده من عدد واستعان عليه بالمدد والعدد ثم تقلايا كرتين وتصاولا مرتين انكسر الخان في الأولى وقبض عليه بعد الكسرة في الأخرى وأباده وأستملك بلاده واستولى على عساكره واستحوذ على ذخائره وعشائره وهربت أولاد الخان ولجأت إلى أطراف تركستان ثم راسل سلطان الخطا والصين بكلام رصين يدل على عقل حصين واسم ذلك السلطان التون خان وطلب المهادنة والموافقة والمصافاة والمصادقة فلم يلتفت إلى كلامه فضلاً عن إعزازه وأكرامه على حسبه واستناداً إلى نشبه ونسبه واعتماداً على سعة ممالكه

وكثرة ملوكه ومناعة حصونه وعمارة بلاده ووفرة مملوكه فان ممالك جنكيز خان بالنسبة إلى ولايات الخاقان لاش وأقل من لاش وعساكره وقبائله بالنظر إلى أهل الصين أو شاب أو باش فرجع قصاد جنكيز خان بالخيبة وذكروا ما رأوا لملك الصين من عظمة وهيبة فلم يلتفت إليه ثم قصد التوجه عليه بعدد كالرمال ومدد كالجبال وواقعة فكسره ونافقه فحصره وقبض عليه وأباده واستصفى ولايته وبلاده وكانت هذه الكسرة والنصرة في سنة إحدى وستمائة متن الهجرة فاستقل من غير منازع ولا ممانع ولا مدافع فلما خلصت له الممالك وانقاد له المملوك والمالك أخذ في ترتيب الأمور وتهذيب الجمهور وطير أجنحة مراسيمه إلى أطراف ممالكه وأكناف أقاليمه فرفع جميع ما هم عليه من النهب والغارات والتحزبات وطلب الثارات فهدم قواعد الظلم والتعدي في ممالكه فلم ير أيمن من ولايته ولا آمن من مسالكه وهي ممالك المغل والخطا وإلى الصين شرقاً وولايات المغل والجنا وبلاد الترك وإلى حدود أترار ما وراء النهر غرباً فجرى بعد النهب والأسار في ممالك المغل والتتار والبغي والعدوان العدل والأمان والسلامة والاطمئنان وبعد السرقة والخيانة الوفاء وألمانة وأمر بوضع البرد والمنارات والعلائم والأشارات وعمرت المفاوز والمناهل وسكنت الصحاري والمذاهل وعرفت طرق المهامه

والمجاهل وائتلفت تلك الطوائف والأمم وانتشر صيت عدلها في العرب والعجم واخترع كما ذكر أنواع سياسات وقرر للمملكة قواعد بنيان وأساسات ألف بها بين تلك الطوائف فلم ير بينهم مخالف ولا غير موالف على سعة ممالكهم واختلاف مسالكهم وتعدد أديانهم وتفاوت كيل أخلاقهم وميزانهم فانهم كانوا ما بين مسلمين ومشركين ومجوس وأرباب ناقوس ويهود ومن لا يدين لمعبود وصباه وغواه وعباد الشمس والنجوم ومن يسجد لها أو أن الرجوم وكل منهم بتعصب لمذهبه ويغض من مذهب صاحبه فلم يتعرض لأحد في دينه ولا وقف له في طريق اعتقاده ويقينه وأما هو فلم يتقيد بدين لا كافر مع الكافرين ولا ملحد مع الملحدين ولا يتعصب بملة من الملل ولا يميل لنحلة من النحل بل يعظم علماء طل طائفة ويحترم زهاد كل ملة على دينهاعاكفة وبعد تلك الخصلة قربه حيث يعظم كل دين وحزبه وكل من احتار من أولاده وأسباطه وأحفاده وأمرائه ورعيته وأجناده ديناً من الأديان لا يعترض عليه أي دين كان فبعضهم كان مسلماً حنيفاً وبعض كان يهودياً وبعض نصرانياً مجوسياً إلى غير ذلك من الإلحاد والزندقة وعدم الاعتقاد وحيث لم يتعرضوا إلى دنياه ولا نازعوا ملكه الذي تولاه لم يشاققهم في دينهم ولم يوافقهم في يقينهم واخترع هو لنفسه في الملك قواعد حمل عليها المقارب والمباعد ثم لما لم يكن له كتاب ولا خط ولا لأولئك الحروف قلم يعرفون به قط أمر أذكياء قبيلته وعقلاء مملكته أن يضعوا له خطاً وقلماً يكون لهم علما وعلما فوضعوا له قلم المغل واشتغلوا به أهم شغل نسبوه إلى قبيلته

ليدلوا به على فضلته فقالوا قوتاً تقويعني قلم قتات وهي قبيلة ذلك القتات فوضعوا مفرداته ورتبوها ثم حملوها وركبوها وهي أربعة عشر حرفاً ظاهرة بيتهم لا تخفي وهذه صورة مفرداتها فأمر أولاده وأحفاده وجماعته وأجناده ومهرة الرجال والأذكياء والأطفال أن يتعلموا هذا الخط وينشروه ويتداولوه ويشهروه بينهم حتى ملأ رأسهم وعينهم فرسموا به المراسيم والمناشير ورصعوا بجواهره جباه المساطير ووضعوا الرسومات الديوانية والتوقيعات السلطانية وابتدع لهم يتواريخ وحساب كل ذلك بهذا الكتاب ثم لما تقرر أمره وانتشر في الآفاق ذكره مهد قواعد أسسها ونصب في دوحة ملكه أصول خلاف غرسها ووضع على ما اقتضاه رأيه التعيس وفكره الخسيس طرقاً وافانين ودرب في أمور الحكومات أساليب وقوانين فجعل لكل حكومة حكماً وفوق لكل حادثة سهماً وفرع لكل حسنة مثوبة ولكل سيئة عقوبة وقرر لكل معصية حداً ولكل بنيان مخالفة هذا ولكل فرع أصلاً ولكل سهم من الوقائع نصلاً وبين كيفية الصد والحرب وسلك في كل ذلك الطريق والدرب وألقى دروس ذلك على أولاده وحفدته وجيوشه ورعيته بحيث أنهم حفظوها ورعوها وفي سير سيرهم هرجاً ومرجاً فمن أحكامها المظلمة وفروعها المعتمة صلب السارق وخنف الزاني وأن شهد بذلك واحد فلا يحتاج إلى ثاني ثم فصل حد السارق بهذيان فارق في السرقة من حركاه أو بيت شعرواه بوجوب الصلب وبقطع اليدان كان بالنقب ثم كلا السارقين يؤخذ ما لهما من مال وعين ويسترق ما لهما من أولاد وينتقل إلى السلطنة ما لهما من طريف وتلاد

ومنها حقية دعوى من سبق سواء كذب أو صدق ومنها استعباد الأحرار وتوارث الفلاح والأكار ومنها توريث نكاح لزوجة لأقارب الزوج وتداولهم إياها فوجاً بعد فوج فان تزوجها أحد منهم كان أحق بها ولا تخرج منهم وإلا زوجها بمن شاؤا وأخذوا مهرها وباؤا ومنها عدم العدة وعدم انحصار الزوجان في عده ومنها الأخذ بقول الجواري والصبيان وبما يتفوله على الرجال العبيد والنسوان ومنها امتثال أمر السلطان على الفور من غير توان ومنها لزوم ما لا يلزم من العطايا وإيجاب ما يتبرع به الإنسان من التجملات والهدايا حتى لو أعطى شخص شخصاً من ماله هدية أو شقصاً فان ذاك يلزمه وفي كل عام يغرمه ومنها الجثو بين يدي الحاكم على الركب وقت التحاكم ومنها مطالبة الجار بالجار ومعاقبة البريء بجريمة مرتكب الأوزار وذلك لأدنى مناسبة من معرفة أو مصاحبة فضلاً عن أكبر أو شديد قرابة ومنها أن لا يتقدم الوضيع على الشريف ولو كان ذا مال عريض وجاه كثير ومنها العمل بما يقتضيه العقل والكف عما لا يدركه ولو ورد به النقل ومنها منع عفو الحاكم وأن عفا المظلوم عن الظالم ونحو هذه الخرافات الباطلة والهذيانات العاطلة ومن أسخفها وأوسخها وأخسفها أنه لو أخذ أحداً أبله عن قواعدهم ذو غفلة من ثب أحدهم قملة فان دفعها إلى صاحبها خلص من تبعية عواقبها وغرامة مطالبها فان شاء قصعها وأن أراد وضعها وربما اختار عودها إلى مكانها فرجعها وأن قتلها أو رماها وإلى صاحبها ما أداها فان صاحبها يخاصمه وإلى حاكم التتار يحاكمه ويدعى عليه بين يديه بان هذا الإنسان عمد إلى حيوان

ربيته بين سحري ونحري وغذيته بدم صدري وظهري قصدا وأضاعه عمداً منغير سبب تقدم إليه ولا إيذاء اجترأ به عليه فينسب إلى الأجترام ويأخذ ديتها منه بالأغترام وقس على هذا اليسير أنواعاً من الكثير ومن نتن هذه البعرة على خرافة البعير ومن هذه القواعد أمر الأقارب والأباعد بما يستصوبه العقل ويستنتجه النقل من سلوك طريق الفتوة ومعاملة الخلق بالمروة والكرم والإحسان والمداراة مع كل إنسان والكف عن الظلم والغارات اللهم إلا في طلب الثارات ثم وضع طرق المكاتبات والمراسلات والمشافهات والمخطبات فكان فكان في المكتبات طريقة رسمه أن لا يزيد على وضع اسمه مثل أن يقول في أول الكتاب وبراعة استهلال الخطاب عند ابتداء المقال بعد عدة أوصال جنكيز خان كلامي ثم يكتب تحته من نصف السطر الثاني إلى فلان ليفعل كذا ولا يتعلل بان وإذا ثم يذكر مخ المقصود بطريق معهود بين العبارات من غير مجازات واستعارات ويختم بذكر الزمان واسم المنزل والمكان وإذا استدعى أحداً إلى الطاعة وملوك السنة أسوة الجماعة فانه يتجنب التهويل والتهديد ويتحامى عن التشريد والتشديد ويرغب بالوعد ويترك الوعيد ثم يقول أن سمعتم وأطعتم فزتم وغنمتم وأن أبيتم وتماديتم فليس أمر ذلك إلينا ولا درك علمه علينا ويرى فيكم الخالق القديم رأيه فان في تقديره وتدبيره كفاية فهذه القاعدة باقية في تلك الفئة الباغية مستمرة على الدوام وإلى هذه الأيام وجارية على هذا النمط يكتبون اسم الخان والخاقان فقط وكذلك الأمراء والوزراء والمباشرون والكبراء يكتبون في أول الكتاب فلان لا كنية ولا جناب وهكذا إلى الأكابر من الأداني يذكرون اسم الكبير ووظيفته فلان لا الفلاني

ولما فرغ من ترتيب هذه القواعد الملعونة وخرج بها على خلاف الشريعة الميمونة وقرر عليها الأمور الديوانية والأحكام السلطانية أمر بها فكتبت وبهذا الخط رتبت ورسمت في طوامير ولفت في شفق الحرير وزمكت بالذهب ورصعت بالجواهر كما فعل ماني النقاش الكافر واضع مذهب المجوس ومصور على صفحات الطروس ومبرز بطريق المحسوس ليكون أقرب إلى تفهيم النفوس في كتابه المسمى بزند واستاثم أمر باحترامها وتوقيرها والمحافظة على ضبطها وتحريرها والعمل بها والإقتداء بما فيها وتعلق أهل ملته بقوادمها وخوافيها ثم رفعت إلى خزائنه وهي عندهم أعزو من الكبريت الأحمر في معادنه واسمها بالمغلي التوره وتفسيرها الملة المأثورة فإذا جلس منهم سلطان على سرير وذلك بما للرؤساء من اتفاق وتدبير وعادتهم في ذلك أنهم إذا رفعوا عليهم سلطاناً وأرادوا أن يبنوا الدار المملكة خاناً اجتمع الأمراء من الأطراف واستدعوا أركان الثغور والأكناف واشتروا فيما بينهم مدة أيام واستمروا في ذلك ما بين نقض وإبرام وربما أقاموا في ذلك الجمع العام حولاً جميعاً أرضعفي عام ويسمون تلك الجمعية قورلتاي وهي مستمرة الحكم في المغل والحفتاي وسبب ذلك تدافع الإمرة والفرار من تلك السلطنة الحلوة المره كما كان الصحابة الكرام يتدافعون الفتاوى خوف الآثام

فإذا وقع الاتفاق بين الرفاق وأمراء الجند ورؤساء الآفاق على واحد من أولاد الخان وأن يكون عليهم الممالك والسلطان وتصوب الرأي عليه وتسدد وضعوه على لبد أسود ثم رفعه من الأرض إلى السرير أربعة أنفس مكل أمير كبير كل حامل بطرف رافع في زعمه راية الشرف والخان يصيح بلسان فصيح يا رؤساء ويا أمراء ويا ملوك ويا زعماء أنا ما أقدر أن أتسلطن عليكم ولا طاقة لي أن أتحكم لديكم ولا قوة لي بهذا الحمل الثقيل والدخول تحت هذا الأمر العريض الطويل فيقولون بلى يا مولانا الخان تقدر أن تقوم بحمل أعباء هذا الشأن فيتكرر الخطاب ويتعدد الجواب حتى يجلسوه على السرير ويبتهج بذلك الكبير والصغير والمأمور والأمير ثم يأتون بالتوراة الجنكيز خانية الملعونة الشيطانية مجبلة معظمة محترمة مكرمه فينهضون إعظاماً لها ويتبركون بمسكهم أذيالها فينشرونها ويشهرونها ثم ينصتون فيقرؤنها ثم يبايعون الخان على إقامتها وأن يراعى أحكامها حق رعايتها ويبايعهم على امتثال أحكامها وإجراء نقضها وإبرامها فيجيب كل منهم الأمر على ذلك وأن يقيم شعائرها المملوك والمالك ثم يضربون له الجنوك ثلاث مرار ثم يتوجهون إلى الشمس في وجه النهارويضربون لها الجنوك ويسجد لها من فيهم من ملك ومملوك ولا يفعلون هذا الفعل الشنيع إلا في أيام الربيع فإذا تعاقدوا وتبايعوا وتعاهد وتتابعوا رفعوا تلك الكفريات واحضروا الآلات الخمريات فأدار الخان عليهم الكاسات واستعملوا الأقداح والطاسات وفتح الخزائن وأظهر المكامن ونثر النثار من الدرهم والدينار وخلع الخلع والتشاريف وأعاد في دروس النفائس أبحاث

التصريف واستمروا على ذلك أياماً والأنعامات تدر عليهم خاصاً وعاماً ثم يأذن لهم فيتفرقون ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون وهذه الطريقة مستعملة وإلى آخر وقت غير مهملة في جميع ممالك الشرق من الخطا والدشت والصين والمغل والجتا وفي ولايات الجفتاي والروم قد اعتاد والغالب هذه القواعد والرسوم فقدموها على القواعد الإسلامية والشرائع الأحمدية المحمدية اللهم ألهمنا الصواب ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب وسبب تحركه إلى ممالك الإسلام وتوجه عنان سخطه إلى طلب الانتقام هو أنه لما استقر أمره وانتشر بعد الجور بالعدل ذكره وطابت بلاده وأمنت وخمدت حركات الظلم وسكنت توجه من بلاد ما وراء النهر فئة في سنة ثلاث عشرة وستمائة فيهم ثلاثة أنفار من أعيان التجار أحدهم يدعى أحمد الخجندي والآخر عبد الله ابن الأمير حسن الجندي والثالث أحمد بلجيخ ومعهم من أنواع المتاجر ونفائس الأقمشة والذخائر ما يصلح للملوك أولى المفاخر فوصلوا إلى بلاده الجاري فيها مياه كفره وعناده وانتهوا إلى قوقات والمسيل وهما محل سريره الذليل فاكرم نزلهم ورفع محلهم وأنزلهم في قباب بيض وأفاض عليهم الكرم العريض وكان شعار المسلمين في تلك البلد أن ينزلوهم في قباب بيض من لبد وكانوا يقربون المسلمين ويحترمونهم دون الناس أجمعين ثم أن جنكيز خان دعا أحد أولئك الأعيان واستعرض قماشه وساومه بعد ما قربه

وأكرمه فطلب منه أضعاف ثمنه وسامه ما يقضي بغببه وغبنه فما رد جوابه ولا اعتبر خطابه ثم طلب رفيقه واستعرض بضائعهما عليه ثم ساومهما الثمن فقالا يا ملك الزمن أن صلح هذا القماش فخذ مناك به بلاش فليكن ثمنه رضاك وهدية في مقابلة ملتقاك وتقدمة منا إليك بل خدمة لخادم أدخلنا عليك فأعجبه هذا الحوار وقال بل أنتم تجار إنما جئتم لتربحوا وتكسبوا علينا وتنجحوا وأنتم ضيوفنا فالأولى أن يشملكم معروفنا ولكن أنا أقول قولاً وأدفع إليكم نولاً فان رأيتم فيه فائدة وعاد عليكم منه عائدة قبلتموه وإلا فالرأي فيما رأيتموه ثم ذكر لهما مبلغاً أرضاهما وبلغ به منتهى مناهما بحيث ربح درهمهما ثلاثة وأربعة وتضاعفت لهما مع قرب الملك المنفعة فقالا رضينا بما رسمت وأنعمت وقسمت فقال لرفيقهما الأول أن رضيت بمثل ما رضى به صاحباك فتخول وإلا فخذ متاعك وتحول وشأنك وقماشك ونحن مع ذلك رياشك فقال رضيت بما رضيا به وتلطف في خطابه وجوابه فأمر في الحال وأحضر المال ووزن الثمن وزاد ومن وألبسهم الخلع وأفضل في المصطنع وأمر ببضائعهم فرفعت في خزائنه ووضعت ثم أمر خواص بطائنه أن يدخلوا خؤلاء التجار إلى خزائنه فلما دخلوا إليها ووقع نظرهم عليها رأوا من نفائس الأموال والذخائر وأصناف الأقمشة والحرائر وأنواع الجواهر الملوكية وأجناس الأمتعة الكسروية واعلاق ملوك الصين والسلاطين ما أبهت نواظرهم وأدهش أبصارهم وبصائرهم فنزهوا في محاسنها أبصارهم وأودعوا محاسن مخيلاتهم أفكارهم ثم أتوا بهم إليه وأدخلوهم عليه

فقال ماذا رأيتم في الخزائن من نفائس البحار والمعادن فقالوا ما لا يصلح إلا في خزائنك ولا ينثر على فرق ملوك المشارق والمغارب إلا من مكامن معادنك فقال ما بايعناكم فارغبناكم ولا أكرمناكم إذ صحبناكم بناء على أنا عادومون ولا أنا بقيمة الأشياء وقدرها جاهلون وإنما فعلنا ذلك الإحسان وجبرنا منكم لنقصان العدة معان أحدها أنكم أضيافنا وقد شملكم كرمنا وأنصافنا ثانيها أن فضلنا الفضيل يقتضي إكرام النزيل ثالثها إنكم مسلمون والمسلمون عندنا مكرمون رابعها أردنااشتهار اسمنا وأن تذكر في الأقطار طريقة رسمنا خامسها أنه إذا سمع بمعاملتنا التجار يقصدون بلادنا من الأمصار وسائر الآفاق والأقطار فتعمر المسالك والدروب ويربح الطالب والمطلوب سادسها وهو أعلاها وأحسنها وأقواها أنكم أملتمونا وافدين وإنا لا نخيب رجاء القاصدين ثم سرحهم شاكرين ولما سمعوا ورأوا ذاكرين ثم اقتضت الآراء فأمر الأمراء وأكابر بلاده ورؤساء أجناده أن يجهز كل منهم إلى الجهات الغربية والولايات الإسلامية من جهته أحد المسلمين ببضائع من أمتعة الخطا والصين في صفة التجار ليتعاملوا في هذه الديار وتنفتح المسالك على السالك وننقل إليهم بضائع هذه الممالك وتكثر المعاملات وتنجد الممالك والولايات فامتثلوا مراسيمه وعدوها غنيمة ويجهز كل منهم جهته من وثق بأمانته واعتم على كفايته وأعطاه من النقود والأجناس ما يصير به من رؤساء الناس واجتمعوا قافلة وركبوا السابلة نحو أربعمائة وخمسين نفرا كلهم مسلمون كبرا وكتب لهم مراسيم وجائزات بإكرام نزلهم في الدروب والمجازات ومعاملتهم بالكرامات وأن تهيأ لهم ولدوابهم الإقامات ذهابا وإيابا حضورا وغيابا

ثم أرسل معهم إلى السلطان قطب الدين محمد بن تكش علاء الدين بن أرسلان بن محمد بن انوشتكين وانوشتكين هذا هو أتابك الملوك السلجوقية والسلطان قطب الدين هو الفائق من تلك الذرية رسالة عاطرة تستميل خاطره وتسيل من سحائب كرمه مواطره وحسن الجوار ومراعاة جانب الجار وسلوك ما تنتظم به الأمور وتطمئن به الصدور ويحصل به الأمن للصادر والوارد والرفاهية للقائم والقاعد وتنعقد به أسباب المحبة من الطرفين وأطناب المودة بين الجانبين وفتح باب المراسلات وكشف حجاب المعاملات وإن كانت الأديان مختلفة فلتكن القلوب مؤتلفة وشمول نظر الصدقات السلطانية وعواطف مراحهما الملوكية على القصاد الوافدين على أبواب مكارمها المستمطرين سحائب صدقاتها وديمها بحيث تسنى مطالبهم وتهني مآربهم أو كما قال وصدر منه السؤال هذا وما أخبار السلطان قطب الدين فإنه كان من أكبر الملوك والسلاطين تملك عراقي العرب والعجم وما في ممالك خراسان من أمم واستولى على غالب الممالك بالقهر وإلى أقصى ولايات ما وراء النهر وجعل جرجانبة خوارزم مأواه وتلقب لذلك خوارزمشاه ورفع ما بين ممالكه وبين ممالك جنكزخان من التتار المسمين بقراجفتاي وعباد الأوثان واسترقهم قهرا وقسرا واستصحبهم جبرا وكسرا واستولد من تلك

الطائفة المعتدين ولده السلطان جلال الدين فبواسطة أنه صار له منهم ولد صاروا أقرب عساكره إليه وعليهم المعتمد فكانوا شعوبا وقبائل يخرج منهم سبعون ألف مقاتل ومنهم أيضا كانت أمه وأخواله وخيله ورجاله إلى أن خانوه وبذلوه وما صانوه واستدفع بهم طارق البلاء فكانوا (غريبة نادرة عجيبة) كان هؤلاء التتار متاخمين بلاد أنزار وهي حد ممالك السلطان وهي سد عظيم بين المسلمين وبين جنكزخان فغزاهم السلطان وأبادهم واستعبد كما ذكر أجنادهم فارتفع السد من البين وانهدم الفاصل بين الجانبين واتصلت المملكتان كالمحبين أعني مملكة السلطان ومملكة جنكزخان فسرت السرائر وابتهجت الضمائر ودقت في ممالك السلطان قطب الدين البشائر وزينت الولايات بأنواع الذخائر وكان في نيسابور من أكابر الصدور شخصان من العلماء فاجتمعا وأقاما العزاء فسئلا عن موجب هذا البكاء وإنما الناس في فتوح وهناء فقالا أنتم تعدون هذا السلم فتحا وتتصورون هذا الفساد صلحا وإنما هو مبدأ الخروج وتسليط العلوج وفتح سد يأجوج ومأجوج ونحن نقيم العزاء على الإسلام والمسلمين وما يحدث من هذا الفتح من الحيف على قواعد الدين وستعلمن نبأه بعد حين وأنشد فأرشدا:

وعلمت أن فراقكم لا بد أن ... يجري له دمعي دما وكذا جرى وكان السلطان قد دانت له البلاد واستولى على أهل اليفاع والوهاد وأباد العجم وتفرد بسياسة تلك الأمم وتخت ملكه خوارزم وقد صمم العزم بحزم وحمل الناس على نزع الخلافة من آلعباس ووضعها في آل علي وقد توجه إلى العرق بهذا القصد الجلي فوصل إلى حدود العراق وهو مجد على هذا الاتفاق فوصل أولئك التجار إلى انزار من صوب جنكزخان وبها من جهة السلطان نائب يدعى قايرخان فلما وصلوا البلد أخبرهم النائب الرصد فحبسهم عنده في مكان وأرسل يستأمر فيهم السلطان وبشع العبارة وشنع السفارة وذكر أنهم جواسيس تستروا بالتجارة وإن معهم من الأموال ما يوازي الرمال ويوازن الجبال مصراع (وما آفة الأخبار إلا رواتها) فأمره بقتلهم وأخذ ما معهم وسلبهم ففي الحال أبادهم وسلبهم طارفهم وتلادهم وأرسل المال إلى السلطان وأوصله حسبما رسم به الديوان فطرحوه على تجار بخارى وسمرقند كما يطرح على مساكين دمشق القند واستخلصوا ثمنه بالظلم وزادوا عليهم فيه الغرم وكان سبب ذلك أن تاجرا عند قايرخان أراد أن لا يكون عند السلطان تاجر سواه فتبعه قايرخان لما أغواه فتعددت الأسباب وانفتح للشر أبواب وقالوا شر أهر ذا ناب فلم يفلت منهم سوى رجل واحد أنجاه الله من العدو والحاسد فاختفى واتصل إلى بلاده وأخبرهم بوقوع الأمر وفساده

فغضب جنكزخان وتحرك منه باعث العدوان ثم تثبت في أمره وتلبث في فكره وأرسل إلى السلطان رسالة فيها تهديد وبسالة وكان السلطان خوارزمشاه لما أبدى هذا الخطأ وأنهاه طير مراسيمه إلى أطراف الممالك يأمرهم بالمحافظة على در بندات المسالك ويحرض ولاة الأمور وأصحاب الإدراك في المضايق والثغور والطلائع والإرصاد على منع القصاد وكف من يخرج من تركستان إلى صوب ممالك جنكزخان ثم أرسل من جهته جواسيس يختبر أحوال ذلك الإبليس وينظر أموره وأوضاعه ومقدار عسكره وأمرهم في الطاعة وما قصده أن يفعل ليستعد بحسب ما يعلم منه ويعمل فتوجهت جواسيس السلطان وطال في غيبتهم الزمان وقطعوا الجبال والقفار وسلكوا المفارز والأوعار حتى وصلوا إلى بلاده وفحصوا عن أمره واستعداده وخبروا أمر جنده وعتاده وأوضاع عسكره وتعداده فرجعوا بعد مديدة وأزمان وأخبروا بما حققوه السلطان وأن عدد عساكره يفوت الإحصاء ويخرج عن دائرة الاستقصاء وأنهم أطوع البرية للملك وأثبت جنانا من الأسد المنهمك وأصبر جندا على القتال كأن أمر الهزيمة عندهم محال وأنهم إذا واثبوا أو حاربوا أو سالبوا أو لاسبوا أو رابضوا أو ضاربوا خابطوا ثم خاطبوا بقوله: ونحن أناس لا توسط بيننا ... الصدر دون العالمين أو القبر وإنهم لا يحتاجون في الأسفار ولا عند مقاحمة الأخطار إلى كثير مؤنة ولا كبير معونة بل كل منهم ينهض باحتياجه واحتياج مركوبه إلى الجامه وأسراجه ويستبد بعمل سلاحه وجميع ما يستعين به سفرا وحضرا في صلحه وصلاحه ونطاحه وكفاحه وكذلك ملبوسه وزاده وسائر هبته وعتاده

فندم خوارزمشاه على ما قدمت يداه من قتل أصحابه وفتح الثغر وبابه وأنى يجدي الندم وقد زلت القدم وتبدل الوجود بالعدم وغرق في بحر الهموم وهمى عليه غمام الغموم فشاور لما لقي الشهاب الخيوقي وهو فقيه فاضل ونبيه كامل عالم أجل كبير المحل له عند دمحل خطير لا يخالفه فيما يشير فإن رأيه سديد وقوله رشيد فقال له يا إمام قد تحرك على الإسلام عدو ألد الخصام بعساكر كالرمال ذوي صدمات كالجبال فما ترى فيما طرأ فقال عساكرك كثرة وأنت ذو قوة ووفرة وزفر أقدامك له زفرة فكاتب الأطراف وأجمع عساكر الأكناف وادع أهل بيضة الإسلام إلى هذا النفير فإنه عام فإذا وفدوا عليك وتمثلوا بين يديك توجه بهم إلى نهر سيحون واجعل ساحله من تلك الجنود مشحون واملأ بهم تلك المهامة والقفار وحصن ممالكك إلى حدود انزار فإن أقبل العدو المخذول لم يصل إلا وهو من الكلال محلول فإنه يأتي من بلاد بعيدة بجنود عديدة وقد أثر فيه الغضب وأخذ منه التعب والوصب فتلاقيه على سيحون وهم كالون ونحن مستريحون فجمع بعد ذلك أمراءه ووزراءه وزعماءه وعرض عليهم ما جاءهم وطلب منهم آرائهم فلم يرتضوا رأي الشهاب لأمر يريده مسبب الأسباب وقالوا بل نتركهمحتى يقطعوا الأوعار والمضايق ويتورطوا في بلادنا

في بالعوايق فتزداد مشقتهم وتطول في المسير شقتهم لا سيما وهم بأرضنا جاهلون وعن مداخلها ومخارجها ذاهلون فإذا حصلوا في قبضتنا كان أمكن لنهضتنا فنضيق عليهم واسع رحابها وأهل مكة أخبر بشعابها وذهل أولئك الجمع عما رآه الفقهاء وهو أن الدفع أولى من الرفع وبينما هم في المشاورة والمراودة ورد قاصد جنكزخان برسالة المناكدة وفيها من التشنيع والتقريع والتهديد والتبشيع العجب العجاب وما يشيب الغراب فمن جملة تشنيعاته ومضمون تهويلاته ما معناه في فحواه كيف تجرأتم على اصحابي ورجالي وأخذتم تجارتي ومالي وهل ورد في دينكم أو جاز في اعتقادكم ويقينكم أن تريقوا دم الأبرياء أو تستحلوا أموال الأتقياء أو تعادوا من لا عاداكم وتكدروا عيش من صادقكم وصافاكم أتحركوا الفتن النائمة أو تنهضوا الشرور الجاثمة أو ما جاءكم عن نبيكم وسريركم وعليكم أن تمنعوا عن السفاهة غويكم وعن ظلم الضعيف قويكم أو ما أخبركم مخبروكم وبلغكم عنه مرشدوكم ونباكم محدثوكم اتركوا الترك ما تركوكم وكيف تؤذون الجار وتسيئون الجوار ونبيكم قد أوصى به مع أنكم ما ذقتم طعم شهده أوصابه ولا بلوتم شدائد أوصافه وأوصابه ألا وإن الفتنة نائمة فلا توقظوها

وهذه وصايا إليكم فعوها واحفظوها وتلافوا هذا التلف واستدركوا ما سلف قبل أن ينهض داعي الانتقام ويتحرك من الفتن حامي الاضطرام ويقوم سوق الفتن ويظهر من الشر ما بطن ويموج بحر البلاء ويروج وينفتح عليكم شد يأجوج ومأجوج وسينصر الله المظلوم والانتقام من الظالم أمر معلوم ولا بد أن الخالق القديم والحاكم الحكيم يظهر أسرار ربوبيته وآثار عدله في بريته فإن به الحول والقوة ومنه النصرة مرجوة فلترون من جزاء أفعالكم العجب ولينساب عليكم يأجوج ومأجوج من كل حدب وكان اللعين جنكزخان قد مشى على تركستان وأخذ منها عنوة كشغرو بلاساغون وصار تافي حوز ذلك الملعون وكانتا في يد كوجلك خان ابن أونك خان المار ذكره في أول القصة لما قتله حنكزخان وقصة هرب ولده كوجلك خان المغبون واستقر في شاغروبلا ساغون إلى أن مشت العساكر عليه وأخذت تلك الأماكن من يديه فلما وصل هذا الخطاب إلى ذلك الأسد الوثاب أمر بمقدم القصاد ورئيس أولئك الوراد فضربت رقبته وبمن بقى فحلقت لحيته وسخمت بالسواد حليته ردا لجواب بأبشع خطاب ومن فحواه وبارد ما حواه إني سائر إليك وهاجم عليك بجنود الإسلام وأسود الآكام وكل بطل ضرغام ولو بلغت مطلع الشمس فحلك في قعر الرمس وجاعلك كذاهب أمس فتيقن ذلك واعلم إنك لا محالة هالك ورد قصاده على عقبهم وقصد التوجه في ذنبهم

فتجهز وصار بعسكر جرار إلى صوب التتار وأوصل السير وسابق الطير وأراد أن يسبق الخبر ويكبس التتر ويريهم عين العلة قبل الأثر فألوى من العراق وسار وساق فقطع ممالك خراسان وولايات ما وراء النهر وتركستان وهجم بذلك البحر الزخار في تلك المهامة والقفار فوصل إلى حشم في بيوت وهم آمنون في سكون وسكوت ليس فيهم غير نساء وصبيان ومواش وبعران رجالهم غائبة وأمورهم بواسطة الأمن سائبة وكانت رجالهم توجهت لأخذ الثار من بعض التتار بواسطة عدوان وقع بينهم وبين كوجلك خان فقاتلوهم وكسروهم ونهبوا أموالهم وهصروهم ففي غيبتهم وصل السلطان إلى بيوتهم وفي أمنهم وسكونهم وليس فيهم إلا الحريم والأطفال والمواشي والأثقال لا يؤبه إليهم ولا يعول عليهم فاستولى عليهم ونهبهم وسلبهم عيشهم وأمر العساكر فنهبوهم وأسروهم وفرقوهم وكسروهم وهم الجم الغفير والعدد الكثير والمال الغزير ورجع السلطان من فوره وابتدأ في حوره بعد كوره وتصور أنه أعنى وأنكى وأنه أضحك وليا وعدوا أبكى فما هو إلا وضع على القرح كيه وداس ذنبه الحية ثم رجع التتار ورأوا ما حل بأهلهم من بوار وإنهم أخرجوا من ديارهم وأولادهم ونكبوا في طريقهم وبلادهم وأن نساءهم أسرت وصفقتهم خسرت فما وفت نصرتهم بسكرتهم ولا قامت فرحتهم بحسرتهم التهبوا واضطربوا واصطلموا واصطدموا وأخذتهم الحمية وعصبتهم

العصبية وتنادوا ياللغارات وطلبالثارات وتناجى منهم حماة الحقايق وكماة المضايق وتتبعوا في الحال آثار الرجال من غير إهمال ولا إمهال وسلكوا الآثار لأخذ الثار وأكبوا كالبرق الخاطف وزعقوا كالرعد القاصف واندفعوا كالريح العاصف واندفقوا كالسهم الناقف ودهموا كالليل المدرك وهجموا كالسيل المهلك فأدركوا عساكره بشرور ثائرة ومراجل صدور بالضغائن فائرة فلم يشعروا إلا العدو المضرم غشيهم كالقضاء المبرم فألوت عساكره وقابلت واستعدت وقاتلت والتفت الرجال بالرجال وضاقت ميادين المجال واستمرت ضروب الحرب بينهم سجال وتطاولت سهام الموت لقصر الآجال وتهللت ثنايا المنايا لبكاء السيوف وتبسمت ثغور الرزايا لفتوح الحتوف واستمرت ديم السهام من غمام القتام على رياض الصدور تهمي ولوامع بروق السيوف على قمم تلك الصفوف بعد الوابل الوسمي بالصواعق ترمي ثم انتقلوا من معاشقة المراشقة إلى مراشقة المعانقة ومن مكالمة المضاربة إلى ملاكمة الملاببة ومن مخادعة المقارعة إلى مسارعة المصارعة وامتدت بهم الحال في هذا القتال والجدال ثلاثة أيام مع الليال لا يسأمون الطعن والضرب ولا يملون مباشرة الحراب والحرب إلى أن جرى من الدماء طوفان وكاد يظهر سر كل من عليها فإن كل ذلك وكاتب البيض والسمر يستوفي من أقلام الخط في صحائف الصفائح مستوردات

العمر ولم يسمع بمثل هذا القتال ولا بنظير هذا الضراب والنضال في سالف الأزمنة والأعصر الخوال وما أمكن تولي إحدى الطائفتين ولا نكوص جهة من الجهتين أما طائفة المسلمين فلحمية الدين ولو ولوا الأدبار لما أبقت التتار لبعد الديار وصعوبة القفار منهم نافخ نار وأما الكفار فللغيرة على ذوات الأستار واستخلاص الأطفال والصغار من قيد الذل ورق الاسار فصارت الخضراء غبراء والغبراء حمراء والصحرا بحرا والقتلى تلا والجرحى ترحى ولم يثبطهم عن استيفاء القتال غير انحلال الأعضاء والكلال فانفصلوا وما انفصلوا وانقطعوا بعد ما اتصلوا وحلوا بعد ما كلوا وتراجع كل عن صاحبه بعد ذوبان قلبه وقالبه واستفراغ جهده بما وصلت إليه غاية كده ثم استوفى ناظر القضاء ما أورده عامل الفناء من سهم المنون إلى ديوان برزخ إلى يوم يبعثون من أرواح الشهداء الأبرار وأنفس الأشقياء الكفار الوار من تلك المعركة الساكن من حركات هاتيك التهلكة فكان من المسلمين عشرون ألفا ومن الكفار كذا وكذا ضعفا غير أنه لم يمكن حصرهم ولم يعرف قدرهم فلما كانت الليلة الرابعة وهي الليلة الفارقة القاطعة أوقد كل من الفريقين في منزله النار وأكثر من القبائل في المنازل والآثار وتركها وسار فوصل السلطان من بلاد تركستان وقطع سيحون نهر خجند ووصل إلى بخارى وسمرقند وشرع في تحصين البلاد والقلاع والاحتفاظ بمدن الممالك عن الضياع وقد سكن الهم فؤاده ونهب

القلق والأرق رقاده وعلم المسلمون أنه خان وأنه لا طاقة لهم بالتتار فخافوا حلول البوار ونزول الدمار وتيقنوا خراب الديار لأن السلطان عاجز ولا بد من قدوم بلاء ناجز وقالوا إذا كان هذا الخور من شرذمة قليلة من التتر في طرف من أطراف بلاده لا فيهم أحد معتبر من أجناده ولا رئيس يشار إليه من أولاده ولا درى ولا أعلم بما جرى فكيف إذا دهم بطامته الكبرى وأحشاد جيوشه العظمى فترك خوارزمشاه ببخارى عشرين ألف مقاتل وفي سمرقند خمسين ألف مناضل وقرر معهم أنه سيجمع الجنود ويستجيش أبطال المسلمين ويعود وتوجه بثبات عزم وإضاعة حزم إلى سرير ملكه خوارزم ثم انتقل إلى خراسان وخيم بضواحي بلح في مكان وأقام رخى البال كأن الشيء ما كان ثم لا زال يضمحل ويذوب ويحل به ما يحله من نوائب الخطوب حتى انتقل إلى جوار الرحمن في أطراف طبرستان في سنة سبع عشرة وستمائة وكانت ولايته في العشرين من شوال سنة ست وتسعين وخمسمائة وكان ملكا عظيما وسلطانا جسيما ذا صولة فاهرة ودولة باهرة وجولة أرقدت الملوك بالساهرة فاضلا فقيها عالما نبيها اضمحل بأدنى حركةملكه وغرق في بحر الفناء بعد الطغيان فلكه وركن إلى الخطا فوقع فيه وخانته عساكره ومخالوه ودود الخل منه وفيه كان في خزنته عشرة آلاف دينار من أجناس الأقمشة والأمتعة والأسلحة ما لا يحصيه إلا الواحد القهار وكان فيها ألف حمل من القماش الأطلس

وأضعاف ذلك من نفيس النفائس وأنفس ومن الخيل المسومة عشرون ألف جنيب ومن المماليك الملوك عشرة آلاف كل له في دار الملك ربع خصيب وأوفر حظ ونصيب فما أفاد ذلك ذره بل نبشوا بعد موته قبره وقطعوا رأسه وفجعوا به ناسه فسبحان من لا يزول سلطانه وعز وعلا من لا يذل شأنه: فما كف ذو كف له رائد الردى ... ولا مال بالأموال عنه حمامه ولا ملك كلا ولا ملك حمي ... حمى ملكه لما عراه انهدامه وبسط المقول فيه شرح بطول (وأما) أمر الطاغية صاحب الفئة الباغية جنكزخان لما وصل قصاده من عند السلطان بعد الفناء والشدة لحاهم محلوقة ووجوههم مسودة وقد قتل رئيسهم وخلا من نقد مرادهم كيسهم ذهب حفاظه والتهب شواظه وطمت بحار كفره وتلاطمت وتزعزت أطواد شركه وتصادمت وبينما هو يرغى ويزبد ويقوم من غضبه ويقعد إذ جاءه الخبر الثالث وهو شر الحوادث إذ فيه خبر من قتل من الكفار وانتقل من دار الخسار إلى دار البوار جهنم يصولنها وبئس القرار فأعمل في قلبه نصله وكان أولا قد زاد على قرحه قرح مثله ثم كان هذا القرح ملحا مذرورا على جرح فقامت قيامته وتعوجت بالحزن قامته وود لو أحرق الكون بأنفاسه وهدم أساس المكان بفأس بأسه ثم تروى وافتكر وتهوى من حر هذا الشرر ثم قصد مذهب الاعتزال وانزوى عن جماعته في مكان خال ودخل إلى مكان خراب وعفر وجهه في التراب وتضرع إلى الله الحليم وقال يا خالق يا قديم أنا أردت أن أعمر

بلادك وأنعش عبادك فظلمهم يا الله عبدك خوارزمشاه وتعدى علي وكرر الإساءة إلي فانتصر لي منه وانتقم فإنك جبر من كسر وعون من ظلم واستمر على هذه الحال ثلاثة أيام وليال لا يأكل ويشرب ولا يفتر عن التضرع والطلب يمرغ رأسه ووجهه في الثرى ويقصد فيما يرومه رب الورى وقد قيل: تضرع جنكزخان لله ساعة ... وأخلص فيما رامه وهو مشرك فما خاب فيما رامه من فساده ... وما زال يعثو في الأنام ويسفك فما بال من لله طول حياته ... يوحد بالإخلاص هل هو يهلك ثم نهض نهضة أنام فيها الأنام وقام قومة أقام بها ساعات القيام فتوجه من مشركي التتار وعساكر الكفار بالبحار الطامية والأمطار الهامية وجبال النيران الحامية في شهور سنة خمس عشرة وستمية ومشوا على ممالك الإسلام وساروا على بسك العالم سير الغمام وأرادوا طفاء نور الإيمان من أشراكهم بظلام فوصلوا إلى البلاد وهي جنة المرتاد آمنة مطمئنة ساكنة مستكنة وليس لها مانع ولا ممانع ولا لهم عنها دافع ولا مدافع ولا بها حام ولا محام ولا سام ولا مسام فاخنوا على جند وقراها وولايتها وما ولاها رابع صفر عام ستة عشر وأظهر فيها علامات الحشر فأدهشوا وهلها وسبكوا أهلها ودكوا جبلها وأحاظ بها ثبوره وويله واستمروا في نهبها ست عشرة ليلة ثم تنقلوا عن جند إلى ولايات اند كان وفناكث وخجند فأخذوها

وقتلوا وفعلوا كما كانوا فعلوا ثم إلى بلدة مرغينان وكانت دار ملك ايلك خان ثم إلى أطراف تركستان ومنها سيرام وتاش كبدو باقي البلدان ثم إلى تسف وأنزار وسغناق ومامن أمهات البلاد في تلك الآفاقفمشوا على سهل البلاد ووعرها مشي الجراد على القصير الأخضر فكأنهم موسى على شعر مشت ... أو منجل فوق الحصيد الأصفر أو شعلة ثار الهوا فتعلقت ... فوق الصعيد على الهشيم الأغبر فكل من أطاعهم وقصد اتباعهم صار من جلدتهم ودخل في عدتهم ومن عصى أو توقف أو خالف أو تخلف سقوه كأس الدمار وأحلوه وقومه دار البوار وأسروا حريمه وأولاده ونهبوا طارفه وتلاده ثم أن تلك الدواهي المصمية يوم الثلاثاء رابع المحرم سنة سبع عشرة وستمية وصلوا إلى بخارى بلدة فضلها لا يجارى قبة الإيمان وكرسي ملوك بني سامان مجمع العلماء والزهاد ومنبع المحققين من الفقهاء الأمجاد والمدققين من النبهاء والأنجاد وفيها من الأكابر والأشراف وأوساط الأمائل والأطراف الجم الغفير والطم الكثير فلما رأى العساكر السلطانية والجيوش الخوارزمشاهية الذي كان أرصدهم السلطان لحفظ البلدة من طوارق الحدثان وهم عشرون ألفا أن البلاء زحف إليهم زحفا وأن كسرتهم منهم لا تخفى وأن سيل الويل حطم

وموج بحر الدواهي التطم ومن لم يدرك من الغرق نفسه ارتطم شمروا الذيل وخرجوا تحت الليل وقصدوا جيجان والعبور إلى خراسان ومقدمهم من أمراء السلطان كورخان وسونج خان وحميد النوري وكوحلي خان فبينما هم على نهر جيحون قاصدين العبور صادفتهم طلائع جنكزخان الكفور فوضعوا السلاح فيهم ومحوهم عن بكرة أبيهم فما أبقوا منهم عينا ولا أثرا ولا سمع لهم أحد خبرا فوهي أمر البلد إذ لم يبق لهم مدد فطلبوا الأمان وأرسلوا لذلك القاضي بدر الدين بن قاضي خان فأجابهم إلى ذلك وأناب فاطمأ نواو فتحوا الأبواب فدخلوا المدينة يرفلون وهم من كل حدب ينسلون فعصى بقية العسكر في القلعة وتصوروا أن يكون لهم منه منعة ففي الحال أمر الرجال بطم الخندق بكل ما وجدوا جل أو دق فأتوا بنفائس الأقمشة والذخائر المدهشة والكتب والربعات والمصاحف الشريفة والختمات وطرحوها في الخندق ومشى العسكر عليها وتسلق ونقبوا النقوب وأنفذوا الثقوب وكان قد نادى بالأمان للقاضي والدان فعجزت القعلة وذهب ما بها من منعة وكان فيها فئة نحو من أربعمائة فباشروا عن آخرهم واستولوا على باطنهم وظاهرهم ثم مدوا أيديهم إلى المخدرات وفجروا ظاهرا بالمسترات وجعل الناس ينظرون ويبكون وهم يفتكون وينكون لا يستطيعون دفعا ولا يملكون ضرا ولا نفعا فاجتمع من أئمة الدين ومن أعلام العلماء المهتدين ومن لم يرض

بعمل المفسدين جماعة غاروا وثاروا وفاروا وانضموا إلى العلامة القاضي صدر الدين قاضي خان وأولاده السادة القادة الأعيان والحاكم الشهيد الإمام العالم السعيد والإمام ركن الدين إمام زاده واختاروا الموت على الشهادة فحملوا على الفئة الطاغية والطائفة الكافرة وقاتلوا حتى قتلوا وإلى جوار الله مقبلين انتقلوا فاستشهدوا عن آخرهم ولحق أصاغرهم بأكابرهم ودخل جنكزخان إلى المدينة وطاف بها على هينة وسكينة حتى انتهى إلى باب الجامع مكان نزه موضع رائع ومحل شريف ومعبد واسع ولم يكن لذلك البلد الكبير والجم الغفير والجمع الكثير والمصر الواسع من الجوامع سوى جامع واحد يجمع الصادر والوارد ويسع ما شاء الله من الأمم وهذا على مذهب الإمام الأعظم وهكذا كل أمصار الحنفية في الممالك الشرقية والممالك الهندية وغالب البلاد التركية فقال جنكزخان هذا بيت السلطان فقالوا بيت الرحمن ومأوى للعباد والعلماء والزهاد وذوي الطاعة والاجتهاد فقال إن أولى ما أقمنا أفراحنا في بيت من خلق أرواحنا ورزق أشباحنا ثم ألوى إليه وأقبل عليه ونزل عن دابته ودخل الجامع مع جماعته ثم دعا بأمرائه وكبراء جنوده وزعمائه واستدعىالخمور والطبول والزمور وهش إلى الكفار وعظمهم وبش فرحاً واحترمهم فسجدوا له مئهم الملوك وضربوا له الجنوك وعرفوا حقه ورعوا ورفعوا بالثناء صوتهم ودعوا فأذن لهم بالجلوس وأن تدار عليهم الكؤس فجلس كل في مكانه بين إضرابه وإخوانه وقام بعض في مقامه في موقف حده واحتشامه فتصدر في مجالس العلم والأذكار ومحاريب الصلاة والكفرة الفجارة ورؤس المشركين من المغل والتتار واستبدلت محافل العلم والتدريس بجحافل الشرك والتنجيس

ثم احضروا العلماء والأشراف والكبراء وسادات الأنام ورؤساء الخواص والعوام وأنزلوا بهم الثبور والويل واحتفظوا بهم واستحفظوهم الخيل وصارت الناس حيارى سكارى وما هم بسكارى وأخذتهم بهته إذ أتاهم العذاب بغتة ولم يكن بين رحيل ةالسلطان وبين هجوم هذا الطوفان غير خمسة أشهر وأيام ساروا فيها سير الغمام وهجموا على العالم هجوم الظلام وكأن الناس كانوا نياماً ورأوا في منامهم أحلاماً فلم يوقظهم من هذا الرقاد سوى ابراق البلايا بالإرعاد فانسد عليهم طريق الخلاص وخانهم المدد في شدة الأقتنص وتنادوا ولات حين مناص إذ فارقهم العسكر وهم في حال المضطر وكان من جملة أولئك الأعيان شخص ولي يدعى السيد الشريف جلال الدين علي بن حسن الزيدي وهو المقدم والمقتدي والمسلك إلى طريق الهدى وأعلى سادات ما وراء النهر ولدوحة ساداتهم بمنزلة الثمر والزهر قد قبض عليه ربطوا إلى عنقه يديه ثم استنظروه مراكبهموأنشبوا فيه مخاليبهم وهو واقف بباب الجامع في هيئة الذليل الخاضع فرأى الأمام الهمام البحر الطام علم العلماء الأعلام أفضل علماء عصره وأنبل فقهاء دهره الشيخ ركن الدين ابن الإمام بوأهما الله تعالى دار السلام وهو في مصل حاله متسربل بسربال نكاله فقال أيها الإمام المفضال ما هذه الأحوال ثم أنشد معنى هذا المقال: أرى حالة بذت لساني فليس لي ... طريق إلى أني أفوه بلفظة أعض لها كفي وأمعك مقلتي ... أفي النوم هذا أم أراه بيقظة فأجاب الإمام ما هذا محل الكلام كن عبد الإرادة واتبع ما أراده واستمروا يشربون الخمور على أصوات الزمور ويضربون الطبول ويتراقصون رقص التتار والمغول ثم صعد المنبر ابن جنكيز خان الأكبر

واسمه توشي خان وتكلم بكفر وكفران ثم غنى ورقص ودعا لأبيه ونكص ثم صعد بعده أبوه وتكلم بكلام سمعوه ودعا بالخمور ثم غنى وشرب ثم غنى وطرب ثم قال أيها الرجال أن خيلنا هي رأس المال وقد رعيتم الوهد والبقاع وحلفتم شعور الكلا من قمم البقاع وقد شبعتم فلا تنسوا الجياع ألا فاشبعوا خيلكم ولا تحرموها نيلكم رعيتم الخضيم فابغوا لها القضيم وامتثلوا أمر سلطانكم تحظوا منه بامانكم فنهضوا قياماً وامتثلوا مرسومه مراماً وتهارجوا كالحمير وابتدروا واطلب القمح والشعير ثم طغى وتكبر وبغى وتجبر ونزل عن المنبر فلم يكن بأسرع من اتيانهم بالحبوب والقضيم المطلوب وأدخلوا الخيل إلى الجامع وطلبوا لها مرابط ومواضع ثم أفرغوا الخزائن المصاحف والختمات وظروف الكتب وأوعية الربعات وصبوا فيها الشعير وأطعموا فيها الخيل والبغال والحمير فتبددت الكتب المنيفة والمصاحف الشريفة والربعات المعظمة والختمات المكرمة تحت السنابك والحوافر ومواطئ أقدام كل كافر وصارت أبحر القاذورات والخمور على تلك النفائس والذخائر تمور ثم أنه خرج من البلد وأمر أن لا يترك في البلد أحد بل يخرجون إلى المصلى وولى حفظهم من كفر وتولى ومن تأخر قتلوه وبتكوه وبتلوه فخرجوا كالجراد وانتشروا على الوهاد واجتمعوا في المصلى ثم على المنبر تعلى وخطب خطبة تركيه كافرية مشركية منها أنكم ركبتم عظائم وأتيتم ما ثم وجرائم فتقدم ربكم إليكم أن سلطني عليكم وهذه الأوزار إنما جناها

منكم الكبار فلأجل هذا عم البلاء وذهب بجريمة الكبراءالأصاغر والضعفاء ثم ضبط أسماء التجار واستخلص ما عندهم من درهم ودينار وقال هذا ثمن مالي من نقد وأعيان الذي كان منحكموه السلطان فلما استخلص الأموال أمر بقتل الرجال وأسر النساء والأطفال والنهب العام لسائر الأغنام ومن أخذ فهو له لا يقطع أحد سبله ثم أمر بهدم البلد والإحراق وإعدام عينها على الإطلاق فمهما قال فعلوه وكل ما رسم به امتثلوه فساووا بالبلد الأرض واستوفوا أعمار أهلها بالفرض والقرض فلم يبق منهم ديار ولم ينج من تلك النار العظيمة نافخ نار وقيل انه نجا من هذه الواقعة رجل ياقعة فوصل إلى خراسان فسألوه عن هذا الشان كيف كان فقال لهم بذلك اللسان ما صورته: آمدند وكندند وسوختند ... وكشتند وبردند ورفتند يعني هجموا وهدموا وأحرقوا وأرهقوا ونهبوا فقيل لم يوجد في الفارسي في هذا المعنى أحسن من هذه الألفاظ ولا أرصن ولا أوجز ولا أمتن ثم أمر الجند بالتوجه إلى سمر قند فتوجهوا بالأثقال من الأموال والأسرى من النساء والأطفال مشاة حفاه أذلاء عراة فلم يتوقف كل أعتمي أعقف وكافر أغلف في ضرب رقبة من أعيا أتوقف فوصلوا إليها واخنوا عليها وفيها من العساكر الأكفا مائة ألف وعشرون ألفاً سبعون من أهل البلد وخمسون من المرصدين للمدد فتجهز عسكر للفا وخرجوا من البلد للملتقى فكمن لهم التتار من اليمن واليسار في رواب وتلال

تسمى بالأحصار فناوشهم من عساكر الكفار شر ذمه ثم ولت أمامهم منهزمة فركب البلديون أعقابهم وداسوا أذنابهم إلى أن ابعدوا عن البلد وانقطع عن البلديين المدد هرج الكمين من خلفهم لقطع رجل مددهم وكفهم ورجع عليهم الفارون وأحاط بهم الغرون ونلاحق بعم عساكر لا لأول لهم ولا آخر فلم يفلت منهم واحد ولا صدر عن حياض تلك الملحمة وارد فلما شاهد العساكر الخوار زمشاهيه ما نزل بالجنود البلدية من داهية ورزية لم يسعهم إلا الترامي عليهم والأنحياز إليهم فدار واوداروا واللبيب من داري فوقوا بذلك أنفسهم وأهليهم ناراً فلم يركنوا إليهم ولا اعتمدوا عليهم فرأوا مصلحتهم في سلبهم أسلحتهم فطلبوا منهم عدتهم ثم فرقوا عدتهم كما فعل تيمور الغدار في بلاد الروم بالتتار عند كسر ذلك الخوان في سنة خمس وثمانمائة بايزيد بن عثمان فلم يبق لأهل البلد معين ولا مدد فاستسلموا اللقضا وجروا طوعاً وكرهاً في ميادين الرضا فاحل بهم بوار وأنزل دماراً ففعل بسمر قند وأهلها ما فعل ببخاري ودور أسوارها بدلالة آثارها من الفراسخ اثنا عشر لا يمتري في ذلك اثنان من البشر فقس ما في ذلك من الخلائق والأمم فالكل براهم سيف القلم كما يبرى السيف القلم ثم قوى العزم وسدد الحزم وجهز طائفة من العساكر إلى خوارزم مع ولديه أحدهما المدعو بجفتاي والآخر المسمى باكتاي وهي تخت خوارزمشاه وفيها من الأمم ولا يعلمه إلا الله معدن الأفاضل ومقطن الأمائل محط رحال أهل التحقيق ومقصد رجال الفحول ذوي التدقيق ولوفور ما بها من الرؤس لم ينفرد برياستها رئيس لكثرة ما بها من الناس لم يتعين اسياستهم رأس فاتفق أكابرها لضبط أمور المسلمين على تقديم شخص يدعى حمار نكين فبعد حروب يطول شرحها ويهول برحها ويجب قرحها ويستحب طرحها أخذوها عنوه بعد ما قاسوا جفوه

فاستصفوا أرباب الحرف ومن تعلق من صنعة بطرف فكانوا نحواً من مائة ألف بيت أو يزيدون أن عددتهم وعديت ثم ميزوا النساء والأطفال وكانوا كعدد الحصى والرمال فقرقوهم على ذلك العسكر الثقيل فكفى الحقير منهم والجليل ثم فصلوا بالحسام المفصال مدارع ذوات ما بقي من الرجال ثم أراد واحصر من قتل وإقامة عدد من بتك وبتل فكان حصة كل فناك قتال على أن عددهم أكثر من القطر والرمال أربعة وعشرين مقتولاً ثم فعلوا بالبلدكعادتهم الأولى فهدموا أسوارها ومحوا آثارها وأجروا من بحر الدماء أنهارها فانمحى العلم والعلماء واندحى الفضل والفضلاء واستشهد الرؤساء والكبراء وناهيك بالقطب الولى الشيخ نجم الدين العكبري وتوجه جنكيز خان من سمر قند قاصداً السلطان ومر من أطوار عسكرة بكل أحشب حتى أناخ ترمذ وتخشب فامتنعتا عليه ولمناعتهما لم تلتفتا إليه وكانتا كثيرتي العدد والعدد غزيرتي المدد من مددوهما من أمهات البلاد مملوأتان من آلات الجهاد ومقاتلة الأجناد فاهلك ناسهما وسقاهما من خمر التشريد كأسهما فلم يبق لهما فيأ ولم تغن العدد والعدد عنهما من الله شيأ (ومن) غريب ما وقع من البدع أنه أمر بأهل ترمذان يقتلوا عن آخرهم مع أهلهم وعشائرهم ولا يبقى فيها على أحد وأرصد على ذلك لرصد فاتفق أن امرأة من المخدرات تخجل الشموس النيرات قبضوا وتقدموا بإراقة دمها إليها فتشفعت فما أفاد وتضرعت فما زاد إلا

العناد فلما أسلمت رتلوها اللجين وعلمت أنه جاءها الحق المبين قالت لأولئك الكفار لا تقتلوني يا حضار وأنا أفتدي نفسي منكم بعقود من اللؤلؤ كبار فانهوا القضية إليه وعرضوا ما قالته عليه فقال اتركوها ثم بما قالت طالبوها لننظر أصدقت أم اختلقت فاطلقوها ويتقاض ى اللؤلؤ أقلقوها فقالت لم أفه بزور ولا دليتكم بغرور وإنما اللؤلؤ كان عندي وحين استخلصتم مالي كان في يدي فخفت منكم فابتعلته وتباً لفعل صنعته فامهلوني حتى أتبرز ويخرج مني ذلك المحرز فانهوا كلامها إليه وعرضوا أمرها عليه فقال ابقروا بطنها وانظروا قطعها فان وجدتم شيأ فهو لكم وإن كانت كاذبة فقد استحقت فعلكم فشقوا بطنها البطين واستخرجوا منه الدر الثمين فلما رأوا صدقها وحققوا نطقها أمرهم بشق بطون جميع القتلى وتفتيش ما طرحوه من جبال الاشلا فلم تنج رؤوس الروس من المثلة بعد القتل ولا بطون الصدور من ظهور التنكيل أثر البتل ثم أمر بهدم الحصون بعد ابتذال المال والعرض المصون فمحيت الديار ولم يبق فيها ديار ثم عبر من جيحون إلى خراسان وجعل نصب عينيه ممالك السلطان وتوجه إلى بلخ وهي إحدى معاقل الإسلام وفيها من أمم الأنام ما لا يدرك ضبطه سابق الأقلام بل يخرج عن حصر الأوهام ولا يحصيه إلا الملك العلام وكان السلطان قد انشمر عنها كما ذكر إلى نواحي طبرستان فوصل بتلك البحار الطامية في ثمان عشرة وستمية فخرج إليه الأعيان وطلبوا منه الأمان فأجاب سؤالهم بما يصلح حالهم ثم اختشى من السلطان جلال الدين بن المرحوم قطب الدين فلم يركن إليهم ولا عول عليهم فأمر بإراقة الدماء وهدم البناء وإحاطتهم بدائرة الفناء فأفنوهم عن آخرهم وساووا بالحضيض بقاع عمائرهم

ثم أرسل ولده تولي خان إلى محاصرة طالقان فعصت عليه ولم تسلم قيادها إليه فاستمرت في الحصار مدة وأذاقها لباس البأس والشدة إلى أن أخذوها وأبادوا خلقها ودكوها ثم أن جنكزخان الكافر الخوان معدن الكفر والطغيان لما استوبل هواء خراسان فألوى إلى بلاده وترك تولي خان من أولاده وولاه خراسان وهو محاصر طالقان وأقام في ممالك إيران من كفار أمرائه أميران أحدهما يدعى سنتاي وهو من قبيلة الجفتاي والآخر يدعى يما وهو من الكفار اللؤما وترك معهما من الكفار الأراذل والتتار الأسافل ثلاثين ألف مقاتل فوصل إلى رواة ووضعا السيف في الأئمة الهداة وابتدآ في القتل والنهب والفتك والسلب والقهر والأسر والقسر والكسر ثم أخذا في الإتلاف طريق الائتلاف وذهب كل منهما للاختلاف في الفساد على مخلاف فصالا وجالا وأوسعا في الدمار والبوار وخاضا في دماء المسلمين واجتهدا في إهلاك الإسلام والدين وخلا لهما الجو فباضا وصفرا وكان السلطان قطب الدين قد أخلى الدنيا منالملوك والكبرا فلم يلبث لهما فضلا عن مخاتل أو مقاتل فأهلكا الدين وأبادا وتصرفا في نصرة الشرك على الإسلام كيفما أرادا فاستخلصا جوين وطوس وأعدما ما

بهما من نفائس ونفوس وحام وخيوشان واسفراين وآمل وقومس وتلك البلدان فمحوا من كتب كتائبها أسطارها وأطفئوا منارها وأظهروا من صفة الجلال والقهر آثارها وأجروا من الفتن كالدماء بحارها وأضرموا من الشرور نارها كل ذلك قتلا ونهبا وسبيا وسلبا وهدما وإحراقا وصدما وردما وإغراقا ثم بلغهم أن حريم السلطان جلال الدين في قلاع آمل أمنين فقصدوها وحاصروها ورصدوها فقل ناصروها فاستولوا عليها ووصلوا كما أرادوا إليها فبقروا وفتكوا وبروا وبتكوا وسبوا وسبكوا وسفوا وسفكوا وكووا وشووا وغووا ولووا وعووا وما ارعووا ثم إنهم صادفوا العكس الزمان وانقلاب الدهر على السلطان وسوء التدبير وشؤم الحظ المبير وهم في بعض المسير من غير مخبر ولا معلم في سدفة ليل مظلم حريم السلطان خوارزمشاه لأمور قدرها الله مع والدته وجواريه وبناته وسراريه وكان لشدة ما نابهم من الزمان قد ضاق عليهم وتغير بل تنكر لهم الكون وقل عنهم النصير وقل العون وخافوا الابتذال بعد الصون فتركوا ما هم فيه من مكان وقصدوا البعد عن خراسان فتوجهوا إلى أطراف أصفهان ومعهم من نفائس الأموال والجواهر وأنواع المفاخر والذخائر ومصونات الخزائن ومكنونات المعادن ما لا يعلمه إلا مانحه ومن الكنوز ما ينوء بالعصبة مفاتحه وما لم يجتمع لسلطان قط ولا ضبطها قلم ديوان ولا حظ فتباغتوا مواجهة وتواجهوا

مباغتة وتباهتوا مشافهة وتشافهوا مباهتة فوقعن في شبكة الصيد وأحاطت بهن دائرة الكيد وتورطن فيما فررن منه وتربطن بأوهاق ما نفرن منه وناداهن لسان الحظ وهاتف الطالع الفظ: وإذا أراد الله إنفاذ القضا ... وظهور قهر للبصائر باتلا جعل الدواء لذاك ممرضا ... وفوائد الترياق سما قاتلا والكون خصما والمكان منقضا ... والعيش موتا والصديق مقاتلا فلم يشعرن إلا وقد وقعن من نيران الفتن في تنور وتورطن من بحار المحن في دردور وتبسمت إلى بكائهن ثنايا البلايا وتكالمت على جباه مصابهن عقود الرزايا فظفرت حامية الكفر بذلك المغنم البارد ولم يصدر من حلقة صيده شارد ولا وارد فحازوا تلكالمسرات ونزل إلى حضيض قنصهم من سماء المنافسة الشموس النيرات فهتكوا أستارهن وخبروا ديارهن وضبطوا شعارهن ودثارهن وأحرزوا ما معهن من كنوز المعادن ونفائس المكامن وذخائر الخزائن ثم أضافوهن إلى زبانية غلاظ واحتفظوا بهن أشد احتفاظ وساقوهن إلى بلاد التتار مهتكات الأستار عاريات حافيات حاسرات مشايات وأمورهن أن يجتمعن كل ليلة عندما ينشر الظلام ذيله في كل منزله وصباح كل مرحلة ويقمن على أنفسهن العزا وينحن بما تقدم ويبكين بما جرى ويعددن على خوارزمشاه ويذكرن ما قدره الله عليه وقضاه وينعين ما كن فيه من النعم وما صرن إليه من الهوان والنقم وليدمن على هذه الطريقة حتى يقطعن من سفرهن طريقة ويصلن بجنكزخان على ذلك الامتهان والذل والهوان فيرى فيهن رأيه من نكال ونكاية ورحمة وعناية

فامتثلن ما أمروهن به فكن ينبهن النيام ويبكين المتنبه واستمررن على هذه الحال في الخزي والإذلال والمشقة والابتذال بعد ذلك الصون والدلال يصدعن بنحيبهن الجبال ويتفطرن بالنظر إليهن أكباد الصخور والتلال ثم إن تولي لما أخذ طالقان وأهلك أهلها بسيف الطغيان ولم يدع فيها من يتنفس وهدم إلى الأرض بنيانها المؤسس توجه إلى جانب من بلاد العجم وأهلك ما شاء الله تعالىمن خلائق وأمم فصار في أحد الجوانب يعبث وكل من سنتاي الخبيث ويما الكافر العثيث في جانب يبيد المسلمين ولا مغيث فدكوا قزوين وهمذان وصكوا اران وتيلقان وأغاروا على ممالك أذربيجان وبلغهم أن السلطان جلال الدين له في سجاس جماعة مجتمعين مقدمهم السلاحدار بكتكين وفيهم من الأعيان كوحبوغاخان فتوجه إليهم يما فبدد شمل أولئك الزعما وأبادهم وفرقهم وشتتهم ومزقهم ثم غاروا على غالب عراق العجم فأوسقوا القفار بالضرم وأوسعوا البحار بأمطار الدم وملئوا الوجود بالعدم ثم قصدوا أردبيل وجعلوا أهلها ما بين اسير وقتيل وكانوا في أول المرور قد صالحوا أهل نيسابور وانتقلوا إلى مرو منها وراودوا أهلها عنها فأغلقوا أبوابهم وأقلقوا جوابهم فحطموا عليها ودخلوا إليها وحكموا في أهلها السيوف وكان شهر الصيام ففطر وهم على كاسات الحتوف ونقل إلى جوار الله تعالى منهم المئين والألوف فضبطوا من أمكن ضبطهم من القتلى واستسعد بنيل الشهادة من الشهدا فكان ألف

ألف نسمة وثلثمائة ألف وثلاثين ألفا مكرمة وكل هذه الفتنة والفترة في سنة ثمان عشرة عامت في الدنيا عوما وكانت مدة نحو تسعين يوما ثم توجهوا إلى شروان وأفاضوا من دماء البحار الطوفان ودخلوا من الباب الحديد واتصلوا من الدست بذلك الشيطان المريد فتيقظ الناس من الفكرة وأفاقوا مما كانوا فيه من السكرة وتصوروا أنها سحابة صيف انقضت أو نسمة أزمنة هبت بارقة أو مضت ولكن احتاطوا واستعدوا وتحفظوا واستمدوا وحصنوا الحصون والمعاقل وجمعوا الجنود الجحافل فلم يكن بأسرع من إيابهم وتعاطي ما كانوا عليه من دأبهم والشروع في أعمال حرابهم بخراجهم وأخذهم في ضروب ضربهم وضرابهم واستقر تولي في ممالك العجم وهو أبو هلاكو الكافر الأغتم فوصلوا إلى شيراز وقد استعدت للحصار واستمدت للمناوشة والنقار فأخذوها عنوة وزحفاً وقتلوا منها مما أمكن ضبطه سبعين ألفاً ثم توجهوا إلى طوس فأزهقوا ما بها من نفوس ثم إلى سائر القلاع بالحضيض واليفاع فاستولوا على الكل قهراً وأخذوه وقسراً وسعوا في إحلال البؤس وإزهاق النفوس ثم إلى موقان ولم يبقوا بها أحداً كائناً من كان وعم القتل المبير كل صغير وكبير ثم حل أولئك البور ببلدة نيسابور فكافحت بعدما كانت صالحة وتحصنت بعد أن أذعنت واعتمدت على عددها واستندت إلى عددها وبرجالها استعانت بعد أن كانت قد دانت

ولانت واستكانت وكان فيها من آلات الحرب ورجال الطعن والضرب مالا يحصى ولا يبلغه الأستقصا فكان فيها من المجانيق المرسلات الصواعق على أسوار الحصار ثلثمائة منجنيق أصغرها كالغضبان في المقدار خارجاً عن المكاحل والمدافع المهلكات بالصواعق الصواقع ومن رماة القوس القصير المنفذ حكمه قاضي التقدير ثلاثة آلاف بطل مل أرمي من بني ثعل وأما عدد الضارب والنابل والقاتل والرامح والناطح والصارع والقارع والحاذف والجارف والخاطف والقاطف والناهب والسالب فالضابطون فيه تاهوا وما يعلم جنود ربك إلا هو فوجه التتار إليها وأخنوا كالقضاء المبرم عليها وحمى الوطيس وخاطر بنفسه كل خسيس وبذل مهجته من الغزاة كل نفيس فقتل من أهل العدوان طغاجار خان زوج ابنه جنكيز خان وكان من فتاة الكفار المعتبرين بين التتار فخنق العدو ولذلك وسدد المسالك وسمع بذلك تولى الكافر الموغولي وكان في بعض الجوانب مشغولاً بالدواهي والمصائب ففار دم قلبه وتأججت نيران كربه وتأسف لفقد ختنه وثار غبارا حنه فتوجه من فوره بحنقه وحوره ونزل على نيسابور وحل بالبوار على أولئك البور وزحف بالعساكر وتقدم بالطعن والضرب كل كافر فلم تمض غلوه حتى أخذوها عنوه ودخلها من كفر من التتر يوم السبت خامس عشر صفر سنة تسع عشرة وستمائة من الهجرة وأعطىتولى لأخته ذلك عوضاً عن زوجها الهالك وقال لها تسلي عن ذلك المفقود بهذا الموجود وتحكمي في أهل البلد بما ترتضيه من سرور ونكد وتصرفي في الأموال والأرواح فمهما تريه فهو لك مباح

فأمرت أن لا يبقى على ذي روح وأن تجري السيول من الدم المسفوح فأطلقوا في ميادين الحتوف أعنة صوارم السيوف فجدت جباه الجياد وجادت بجواد الجد على أجياد الأجواد وصارت كالسن الشعراء النقاد تهيم من النظام والنثر في كل واد فمحوا عن لوح الوجود بلسان شواظ السيف ذات الوقود سطور ذوات ذلك السواد الأعظم وكتاب كتائب تلك الخلائق والأمم وزادوا في الأشتياط حتى قتلوا الكلاب والقطاط ثم أمرت أن تجمع رؤس أولئك الجمهور ويميز رؤس الإناث من الذكور فميزوا رؤس الرجال عن قمم ربات الحجال وطرحوا كل كاشية في ناحية فصارت الرؤس كرواسي الجبال وتلك الدور والقصور كالأعصر الخوال ولم يخلص من قطع الارؤس سوى أربعة أنفس كانوا من ذوي الحرف فجذبتهم المهارة من سفح بحر الفناء إلى الطرف ثم ركبت تلك البسوس ووقفت على تلال الرؤس فلم تنطفيء نارها ولا برد أوارها وزعمت أنها لم تستوف ثأرها وأن دود ترابها من علق تلك الأمم ما تكفت وغيظة غيظها بزائر ما تشفت واستغاثت بالرجال وصاحت بلسان الحال وأنشدت: وهب إن النساء سللن سيفاً ... فصلن وجلن كالفحل الغيور فزلزلن الجبال فطرت خوفاً ... يضاهين السحاب على الطيور وصار لسفكهن البر بحراً ... أيغنيهن ذاك عن الأيور

فأمرت بهدم البلد وإحراق ما فيها من آلات وعدد فدكوها دكاً وأعدموها سبكاً وسفكاً وتصرفت أيدي النوائب فيها فتكاً وبتكاً ثم أن تولي لوى العنان وقصد هراة من خراسان فأخذها بالأمان ولم ينج من ذلك الطوفان سوى تلك الكورة واستمرت تخت أوامرهم مقهورة وأمهات بلاد خراسان ومقر سرير السلطان كانت أربعة أمصار كل ذات اعتبار جليلة المقدار نيسابور وقد صارت بور وبلخ وقد كسيت من البوار ثوب سلخ ومر الرود وقد انحت من الوجود ولم يفز بالنجاه إلا بلجدة هراه وسائر الأمصار شملها البوار ولبست من خلع الدثور والدثار وكل منها مصر جامع وبرها وبحر واسع وبحرها كصدر البر مداه شاسع وأما القرى والقصبات والرسانيق والمزدرعات فأكثر من أن تحصر أو تضبط بحساب دفتر فأبيد ذلك كله وأبير فالحكم لله العلي الكبير كل ذلك في أدنى مده وأوهى رقده وما ذكر ذرة من طور وقطرة من بحور فسبحان من لا يسئل عما يفعل ثم أن جنكيز خان الهامة الهامية والفتنة الطامة الطامية لما علق به المرض وحصل له في خراسان العرض رجع إلى بلاده واستمر مرضه في ازدياده ولم يزل على ذلك حتى أورد سبيل المهالك وتسلم روحه الخبيثة مالك وحين أيس من الحياة وقنط من رحمة الله جمع المعتمد عليه من أولاده المشاركين له في عتوه وفساده وهم جفتاي وأوكناي وأوليغ نوبين

وجرجاي وكا كان وأو رجان وأوصاهم بوصايا وطرائق في سياسة الرعايا حافظوا عليها وتناهضوا إليها فثبت لهم من ملكهم أساساً لم ينهدم وأقام بنياناً إلى يومنا لم ينخرم وعروش قواعد أركانها لم تنثلم مع كثرة عددهم ووفرة مددهم وشكاستهم وشراستهم وشماستهم وتعاستهم وغلاظتهم وفظاظتهم واختلاف أديانهم واتساع بلدانهم وهلك الطاغية جنكيز خان وانتقل إلى الدرك الأسفل من النيران واستقر في لعنة الله وعقابه وأليم زجره وعذابه في رابع شهر رمضان الشامل بالفضل والإحسان والبركة النامية الهامية سنة أربع وعشرين وستميه في سرة ملكه المشوم وأعظم أمصاره أيميل وقوفان وقراقروم واستمرت بعده الفتن والشرور المحن تغير علىممالك الإسلام وتبير شعائر شرائع خير الأنام وتثير غبار الأفساد والمفسدين في وجوه سنة سيد المرسلين وتحصر جنود الإسلام وتقص جيوش العلماء الأعلام وتنقص أطراف الأرض وتنقص أركان الدين بعضها على بعض وناهيك يا مولانا السلطان بفتن هلاكو تولى بن جنكيز خان وبعده أبغا ابن هلاكو الذي تجبر وطغى وتكبر وبغى وبعده ابنه ارغون وبعده ابنه قازان المفتون واستمرت بحار الفتن منهم تؤثر عنهم ومرجها يمور إلى أن نبغ الأعرج تيمور فأهلك الحرث والنسل واختلط المباح بالسيل وحل بالعالم الباس وفسدت أحوال الناس وإنما ذلك كله بفساد الرأس ومن جملة فتنهم وطعنهم جالوا في معركة وصالوا في دست بركه فقتلوا في مثل حرب البسوس وقطعوا في ناحية من الروس جملة أرادوا ضبط عددها بعد أن أبانوها عن جسدها فلم يقدروا أن يحصروها

فرسم لتلك البغاة سلطانها أن يقطع من الرؤس آذانها يقطعون من كل رأس أذناً ولتكن الآذان اليمنى فجدعوا آذان بعض الرؤس وشكوها وفي خيوط سلكوها ثم قلائد ربطوها وبعد ذلك ضبطوها فكانت نحو مائتي ألف أذن مجدودة وسبعين ألف أذنت معدودة (وإنما) ذكرت يا ملك الطير أمثال ما جرى من الشر والخير وجلوت عن مرآه ضميرك المنير صورة ما مر في الزمان المنير وما فعله من ملكه زمام الاقتدار وأمهله سلطان السلاطين الذي يخلق ما يشاء ويختار وصرفه في بلاده وعباده وبين له طريق صلاحه وفساده وأخبركم أيها الملوك والحكام بأموركم في دنياكم وحلا صور أحوالكم على أعين أبصاركم وبين حاكمكم في مراياكم فقال وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ودفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم فانظر ما في هذه السير من الحكم والعبر لتعلم أن الدنيا محل الغير ومحك العقول والفكر والحال بها هدف لسهام القضاء والقدر مبتلى بكل خير وشر ونفع وضر غافل عن مواقع الحذر آمن وهو على شرف الخطر مقيم وقد جد به السفر مناقش بما مضى من أنفاسه مما حلا ومر ومحاسب على ذوات ما اكتسبه مطالب بالفتيل والقطمير مما ارتكبه فلما وصل الحجل في الكلام إلى هذا المقام قبل العقاب بين عينيه وزاد قرب هلديه وأفاض خلع الأنعام عليه وقال صدق عليه أفضل الصلاة والتسليم حيث قال كلمة الحكمة ضالة كل حكيم

ونطق بالحق من قال لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال فاهل التحقيق وذو والنظر الدجقيق راقبوا المعاني ولم ينظروا إلى القوالب والمباني فان سليمان عليه السلام وهو ملك الجن والأنام والوحوش والطير والهواء والهوام ونبي مرسل وملك ذو فضل وسلطان الفصل بالعدل استفاد النصائح من نملة وجمع هدهده مع ملكة سبأ شمله ويوجد في السقاط ما لا يوجد في الأسفاط ولقد ينطق بالفوائد من هو كافر وجاحد فيؤخذ من أقواله ولا يقتدي بافعاله وقد قيل إن الحسن البصري رحمة الله عليه دخل صبي مسجده وصلى بين يديه فرآه لا يتم سجوده ولا يرضي بصلاته معبوده فدعاه وخاطبه وأنكر عليه وعاقبه وقال له تمم سجودك ترض معبودك فقال يا شيخ المتقين هذه سجدات شخص من المؤمنين لو سجد إحداها ابليس لا آدم لما كان من الملعونين ولو سجدها فرعون مرة لكان من المسلمين ولم يصر من أهل العناد المطرودين (ورأى يوماً صبياً ومعه سراج وهو سالك في منهاج فساله عن ناره وما فيها من أنواره من أين أخذها وكيف افتلذها فلم يجاو به إلا باطفاء السراج وسؤاله أين ذهب ذلك النور الوهاج قل لي أين ذهبت تلك الأنوار أقل لك من أين جاءت تلك النار

ثم أن العقاب ولي الحجل ما تحت يده من رقاب وقدمه على سائر الخدم وصنوف الطير وأجناسه من الأمم وجعله الدستور الأعظم والوزير المقدم المكرم وفي هذا المقام أمسك الحكيم حسيب عن الكلام وختم ما افتتحه من الحكم والأحكام بالدعاء والثناءوالصلاة والسلام قال الشيخ أبو المحاسن المخجل بأدبه امرأ القيس وأبا فراس فلما انتهى الحكيم في مقترحه وما قصده من بيان محاسنه وملحه إلى هذا المحل وفصل من فضله ما أجمل من جمل نهض الوزير وقبل قدميه واعترف له بالفضل المنعم به عليه وأنه مالك أزمة الأنشاء وملك الكلام يصرفه كيف شاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وكما أنه شيخ المنقول وأستاذ المقول فمن أنواره ألفاظه تنير العقول ومن كنوز عباراته تستخرج جواهر المعقول وأما أخوه الملك فطار بسروره به عن سريره واتخذ في مهام أموره مقام أميره ثم أدت آراء فكرته أن يستعمل أخاه لكشف كربته ويمشي مفي السعي بينه وبين أخوته لرتق ما انفق وسد ما خرقه سيل الحسد فانبثق أمره العالي ونهض بأمر الله المتعالي وأنفق من جواهر أفكاره في سوق المناصحة الرخيص والغالي ورصع ما استخرجه من بواقيت تلك من عباراته بما يستعبده عقود الاآلي وتعاطي الإصلاح وساعده لحسن النية وخلوص الطوية السعد والنجاح:

وهذب في الفضل ما رتبه ... ورتب بالفضل ما هذبه وأعجب ذا اللب ما شاده ... فأثنى عليه بما أعجبه وأغرب في السبق أشرافه ... فالله ذا السعد ما أغربه فما شذ بالصدق عن نصحه ... ولا شذ خل لما فاستمال الخواطر النافره وأطفا بزلال ألفاظه العذبة شواظ الناثرة وسكن بنسيم ملاطفاته قتام الأخلاق الثائرة فاطمأنت القلوب وطهرت من غش التشاحن الجيوب واتصل بالمحب المحبوب وحصل الأمن والأمان ومساعدة الزمان ومعاضدة الأخوان ومصافاة الخلان وطيب العيش والمكان وأفضل من هدا جميعه شفقة السلطان والاستقامة على الإسلام والإيمان ونسأل الله تعالى إتمام نعمه وإسبال ذيل إحسانه وكرمه واللطف في القضا والعفو عما مضى والمعاملة بإحسانه الجزيل وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار من الأختان والأصهار والمهاجرين والأنصار وسلم تسليماً يطيب الاعطار ويتمسك بأذيال عرفه خياشيم الأزهار في الأسحار ما دامت الإعصار ودارت الأدوار وترادف الليل والنهار وحشرنا في زمنهم مع المصطفين الأخيار أنه كريم ستار حليم غفار (قال مؤلفه رحمه الله تعالى) نمقة مؤلفه ولفقة مصنفه فقير عفواً لله تعالى من غير تردد ولا تفكر ولا تعمق في تدبر مع توزع أحمد بن محمد بن عرب شاه الحنفي سامحه الله تعالى وعامله بما يرضيه تفصيلاً وإجمالاً لا بما يقتضيه عدلاً وجلالاً في أواخر شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثمانمائة أحسن الله خاتمها وعاقبتها وجعل آخرها خير من أولها بمنه وكرمه.

§1/1