غياث الأمم في التياث الظلم

الجويني، أبو المعالي

مقدمة المؤلف

[مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ] 1 - لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عُدَّةٌ لِلِقَا اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. قَالَ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ، الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، أَبُو الْمَعَالِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْنِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: 2 - الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَيُّومِ الْحَيِّ، الَّذِي بِإِرَادَتِهِ كُلُّ رُشْدٍ وَغَيٍّ، وَبِمَشِيئَتِهِ كُلُّ نَشْرٍ وَطَيٍّ. كُلُّ بَيَانٍ فِي وَصْفِ جَلَالِهِ حَصَرٌ وَعِيٌّ، وَبَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ قَيْصَرٍ وَكَيٍّ، مِنْ قَهْرِ تَسْخِيرِهِ وَسْمٌ وَكَيٌّ، {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَالْعُقُولُ عَنْ عِزِّ جَلَالِهِ مَعْقُولَةٌ، وَمَعَاقِدُ الْعُقُودِ فِي نَعْتِ جَمَالِهِ مَحْلُولَةٌ، وَمَطَايَا الْوَاجِدِينَ مَشْكُولَةٌ، وَقُلُوبُ الْعَارِفِينَ عَلَى الدَّأَبِ فِي

الطَّلَبِ مَجْبُولَةٌ، وَأَيْدِي الْمُرِيدِينَ إِلَى الْأَعْنَاقِ مَغْلُولَةٌ، وَأَفْئِدَةُ الْقَانِعِينَ بِمَلِكِ الدَّارَيْنِ مَعْلُولَةٌ، وَغَايَةُ الزَّاهِدِينَ الْعَابِدِينَ مَوَاعِدُ مَأْمُولَةٌ، وَفِي عَرَصَاتِ الْكِبْرِيَاءِ أَلْسِنَةٌ مَسْلُولَةٌ، وَدِمَاءُ الْهَلْكَى فِي اللَّهِ مُهْدَرَةٌ مَطْلُولَةٌ، وَحُدُودُ الْمُشَمِّرِينَ فِي غَيْرِ مَا قُدِّرَ لَهُمْ مَفْلُولَةٌ، وَنِهَايَةُ الْمُكَاشِفِينَ حَيْرَةٌ مَحْصُولَةٌ، فَلَا يَنْفَعُ مَعَ الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ وَسِيلَةٌ، وَلَا يَدْرَأُ الْقَضَاءَ الْأَزَلِيَّ حِيلَةٌ، وَالْأَفْهَامُ دُونَ حِمَى الْعِزَّةِ مَبْهُورَةٌ، وَالْأَوْهَامُ مَقْهُورَةٌ، وَالْفِطَنُ مَزْجُورَةٌ، وَالْبَصَائِرُ مَدْحُورَةٌ، وَالْفِكَرُ عَنْ مَدْرَكِ الْحَقِّ مَقْصُورَةٌ، وَذِكْرُ اللِّسَانِ أَصْوَاتٌ وَأَجْرَاسٌ، وَمُتَضَمَّنُ الْخَوَاطِرِ وَسْوَاسٌ، وَالسُّكُونُ عَنِ الطَّلَبِ تَعْطِيلٌ، وَالرُّكُونُ إِلَى مَطْلُوبٍ مُخَيَّلٍ تَمْثِيلٌ، وَبَذْلُ الْمُهَجِ فِي أَدْنَى مَسَالِكِ الْمُرِيدِينَ قَلِيلٌ، وَلَيْسَ إِلَى دَرْكِ

حَقِيقَةِ الْحَقِّ سَبِيلٌ، وَنَارُ اللَّهِ عَلَى أَرْوَاحِ الْمُشْتَاقِينَ مُوقَدَةٌ، وَمَدَارِكُ الْوُصُولِ بِأَغْلَاقِ الْعِزِّ مُوصَدَةٌ، وَمَنْ قَنِعَ بِالدَّعْوَى ضَاعَ زَمَانُهُ، وَمَنْ تَحَقَّقَ فِي الْإِرَادَةِ طَالَتْ أَحْزَانُهُ، وَمِنْ ضَرِيَ بِالْكَلَامِ صَدِيَ جَنَانُهُ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ كَلَّ لِسَانُهُ، جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ

أَسْمَاؤُهُ. اسْتِوَاؤُهُ اسْتِيلَاؤُهُ، وَنُزُولُهُ بَرُّهُ وَحِبَاؤُهُ، وَمَجِيئُهُ حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ، وَوَجْهُهُ بَقَاؤُهُ، وَتَقْرِيبُهُ اصْطِفَاؤُهُ، وَمَحَبَّتُهُ آلَاؤُهُ، وَسُخْطُهُ بَلَاؤُهُ، وَبُعْدُهُ عَلَاؤُهُ، الْعَظَمَةُ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، غَرِقَتْ فِي نُورِ سَرْمَدِيَّتِهِ عُقُولُ الْعُقَلَاءِ، وَبَرِقَتْ فِي وَصْفِ صَمَدِيَّتِهِ عُلُومُ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ أَهْلُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ إِلَّا عَلَى الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ، فَالْخَلْقُ رُسُومٌ خَالِيَةٌ، وَجُسُومٌ بَالِيَةٌ، وَالْقُدْرَةُ الْأَزَلِيَّةُ لَهَا وَالِيَةٌ، جَلَّتْ سَاحَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَحِمَى الْعِزَّةِ الدَّيْمُومِيَّةِ، عَنْ وَهْمِ كُلِّ جِنِّيٍّ وَإِنْسِيٍّ، وَمُنَاسَبَةِ عَرْشٍ وَكُرْسِيٍّ، فَالشَّوَاهِدُ دُونَهَا مُنْطَمِسَةٌ، وَالْعُلُومُ مُنْدَرِسَةٌ، وَالْعُقُولُ مُخْتَلِطَةٌ مُلْتَبِسَةٌ، وَالْأَلْسِنَةُ مُعْتَقَلَةٌ مُحْتَبَسَةٌ، فَلَا تَحْيِيثَ وَلَا

تَحْيِيزَ، وَلَا تَحْقِيقَ وَلَا تَمْيِيزَ، وَلَا تَقْدِيرَ وَلَا تَجْوِيزَ، وَلَيْسَ إِلَّا وَجْهُهُ الْعَزِيزُ. 3 - قَدْ أَفْلَحَ الْحَامِدُونَ، وَخَابَ الْجَاحِدُونَ، وَفَازَ الْمُؤْمِنُونَ، وَكُفِيَ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، وَاعْتَرَفَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ الْمُؤَيِّدُونَ، وَأَيْقَنَ بِنُبُوَّةِ الْمُرْسَلِينَ، وَصِدْقِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ - الْمُوَفَّقُونَ. وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ. 4 - قَدْ تَقَدَّمَ الْكِتَابُ النِّظَامِيُّ، مُحْتَوِيًا عَلَى الْعَجَبِ الْعُجَابِ، وَمُنْطَوِيًا عَلَى لُبَابِ الْأَلْبَابِ، أُحْدُوثَةٌ عَلَى كَرِّ الْعَصْرِ، وَغُرَّةٌ فِي جَبْهَةِ الدَّهْرِ، يَعْشُو إِلَى مَنَارِهَا الْمُرْتَبِكُ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَلُوذُ بِآثَارِهَا الْمُنْسَلِكُ فِي مَثَارِ الْمَتَاهَاتِ، وَيَقْتَدِي بِنُجُومِهَا الْمُتَرَقِّي عَنْ مَهَاوِي الْوَرَطَاتِ، وَيَنْخَنِسُ بِرُجُومِهَا الْمُتَعَثِّرُ فِي أَذْيَالِ الضَّلَالَاتِ، وَوَافَى الْجَنَابِ الْأَسْمَى عَرُوسًا، احْتَضَنَهَا طَبٌّ بِالْحَضَانَةِ، قَدِ

اسْتَوْظَفَ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهَا زَمَانَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقَوِّمُ قَدَّهَا، وَيُوَرِّدُ خَدَّهَا، وَيُكَحِّلُ بِالْبَصَائِرِ أَحْدَاقَهَا، وَيَشُقُّ إِلَى صَوْبِ الْبَدَائِعِ وَالذَّخَائِرِ آمَاقَهَا، وَيَرْصُفُ دُرَرَهَا وَعِقْيَانَهَا، وَيُشَنِّفُ بِقِرَطَةِ الْحَقَائِقِ آذَانَهَا، وَيُنْطِقُ بِغُرَرِ الْكَلَامِ لِسَانَهَا، وَيُطَوِّقُ بِجَوَاهِرِ الْحِكَمِ جِيدَهَا، وَيُزَيِّنُ مِخْنَقَهَا وَوَرِيدَهَا، وَيُدِيمُ فَرَكَهَا، وَيُلِينُ عَرِيكَهَا، وَيُقَرِّبُ مُتَنَاوَلَهَا وَدَرْكَهَا، وَيُلَقِّنُهَا مِقَةَ خَاطِبِهَا، وَيُلْقِي إِلَيْهَا الْإِقْرَانَ لِصَاحِبِ الدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا، فَنَشَأَتْ غَيْدَاءَ مَيَّاسَةً مَرُوضَةً، وَالْمُقْلَةُ الْمُتَطَلِّعَةُ إِلَى خَفَايَا الْعُيُوبِ عَنْهَا مَغْضُوضَةٌ، وَظَلَّتْ تَتَشَوَّقُ إِلَى مُخَيَّمِ الْعِزَّةِ شَوْقًا، وَتَطِيرُ إِلَيْهِ بِأَجْنِحَةِ الْهِزَّةِ تَوْقًا، فَبَرَزَتْ عَنْ حِجَالِهَا مُخْتَالَةً فِي أَذْيَالِهَا، مُتَوَشِّحَةً بِأُبَّهَةِ الْبَهَاءِ. مُشْتَقًّا اسْمُهَا مِنِ اسْمِ أَكْرَمِ الْأَكْفَاءِ. وَالْأَلْقَابُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَجَزِعَتْ إِلَى مَثْوَاهَا سَبَاسِبَ وَرِمَالًا، وَوَاصَلَتْ فِي

صَمْدِ مَوْلَاهَا غُدْوَاتٍ وَآصَالًا، وَقَطَعَتْ مِنْ مَطَايَاهَا أَوْصَالًا، فَصَادَفَتْ مَرْتَعًا خَصِيبًا، وَمَرْبَعًا رَحِيبًا، وَشَأْوًا فِي الْعُلَا بَعِيدًا، وَكَرْمًا قَرِيبًا، وَدَلَّتْ بِمَعَانِيهَا عَلَى عَنَاءِ مُعَانِيهَا، وَبِمَنَاظِمِ مَبَانِيهَا عَلَى غَنَاءِ بَانِيهَا، ثُمَّ أَخَذَتْ تَسْتَعْطِفُ أَعِنَّةَ الْعَطْفِ، وَتَثْنِي أَزِمَّةَ اللُّطْفِ، عَلَى صَاحِبِ التَّأْلِيفِ وَالرَّصْفِ، وَذَكَرَتْ أَنَّهُ يَبْغِي تَنْوِيهًا وَمَنْصِبًا عُلْيَا نَبِيهًا، وَيَفُوقُ مَنَاطَ الْعَيُّوقِ زَهْوًا وَتِيهًا، فَمَا كَانَ إِلَّا كَإِيمَاضَةِ سَيْفٍ، أَوِ انْقِشَاعِ سَحَابَةٍ فِي صَيْفٍ، أَوْ نَفْضَةِ رُدْنٍ، أَوْ طَنَّةِ أُذُنٍ، حَتَّى طَغَتْ مِنْ بِحَارِ الْمَعَالِي أَمْوَاجُهَا، وَتَشَامَخَتْ مِنْ أَطْوَادِ الْكَرَمِ شِعَابُهَا وَفِجَاجُهَا، فَوَافَتِ الْخِلْعَةُ تَجُرُّ عَلَى قِمَّةِ الْمَجَرَّةِ فُضُولَ الذَّيْلِ، وَتُبِرُّ عَلَى نِهَايَاتِ الْمُنَى بِأَوْفَى الْكَيْلِ، وَتَجْرُفُ مَجَاثِمَ الْعُسْرِ كَدُفَّاعِ السَّيْلِ، وَاكْتَسَبَ الْخَادِمُ

شَرَفًا يَتَخَلَّدُ فِي تَوَارِيخِ الْأَخْبَارِ، وَيُكْتَبُ بِسَوَادِ اللَّيْلِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ، وَأَعْذَبُ النِّعَمِ مَشَارِعَ، وَأَخْصَبُهَا مَرَاتِعَ، نِعْمَةٌ أَجَابَتْ قَبْلَ النِّدَا، وَلَبَّتْ قَبْلَ الدُّعَا، وَلَيْسَ مَنْ يَنْتَجِعُ الْغَيْثَ فِي أَقْطَارِهِ، كَمَنْ يَسْقِيهِ رَيِّقُ الْوَبْلِ فِي دِيَارِهِ، وَلَوْ لَمْ أَجِدْ أَمْرَ اللَّهِ عِبَادَهُ بِالشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحَدُّ أُسْوَةً وَمُقْتَدَى، لَقُلْتُ مَنْ شَكَرَ أَدْنَى مِنَحِ مَوْلَانَا، فَقَدْ ظَلَمَ وَاعْتَدَى، وَلَكِنْ لَا مَعَابَ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ كِتَابَ اللَّهِ قُدْوَةً وَمُحْتَدَى. 1 - فَلَا زَالَ رَكْبُ الْمُعْتَفِّينَ مُنِيخَةً ... بِذُرْوَتِكَ الْعُلْيَا، وَلَا زِلْتَ مَقْصِدًا. 2 - تَدِينُ لَكَ الشُّمُّ الْأَنُوفُ تَخَضُّعَا ... وَلَوْ أَنَّ زُهْرَ الْأُفْقِ أَبْدَتْ تَمَرُّدَا

3 - لَجَاءَتْكَ أَقْطَارُ السَّمَاءِ تَجُرُّهَا ... إِلَيْكَ لِتَعْفُوَ، أَوْ لِتُورِدَهَا الرَّدَى 4 - وَإِنِّي لَغَرْسٌ أَنْتَ قِدْمًا غَرَسْتَهُ ... وَرَبَّيْتَهُ حَتَّى عَلَا وَتَمَدَّدَا 5 - لِأَنَّكَ أَعْلَى النَّاسِ نَفْسًا وَهِمَّةً ... وَأَقْرَبُهُمْ عُرْفًا وَأَبْعَدُهُمْ مَدَى 6 - وَأَوْرَاهُمُو زَنْدًا، وَأَرْوَاهُمُو ظُبًا ... وَأَسْجَاهُمُو بَحْرًا، وَأَسْخَاهُمُو يَدَا 7 - وَمَا أَنَا إِلَّا دَوْحَةٌ قَدْ غَرَسْتَهَا وَأَسْقَيْتَهَا ... حَتَّى تَمَادَى بِهَا الْمَدَى 8 - فَلَمَّا اقْشَعَرَّ الْعُودُ مِنْهَا وَصَوَّحَتْ ... أَتَتْكَ بِأَغْصَانٍ لَهَا تَطْلُبُ النَّدَى.

- فِي الْأَصْلِ فِي نُسْخَةٍ عِوَضُ هَذَا الْبَيْتِ: 9 - فَلَمَّا ذَوَتْ مِنْهُ الْغُصُونُ، وَصَوَّحَتْ ... وَخَافَ ذُبُولًا، جَاءَ يَسْأَلُكَ النَّدَى 5 - نَعَمْ؛ وَقَدْ كَانَ ضِمْنَ الْخَادِمِ خِدْمَةَ السَّاحَةِ النِّظَامِيَّةِ، بِكِتَابٍ آخَرَ، هُوَ - لَعَمْرُ اللَّهِ - النَّبَأُ الْعَظِيمُ، وَالْخَطْبُ الْجَسِيمُ، وَالْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَجْرِ بِمِثْلِهِ ذِكْرٌ، وَلَمْ يُحَوِّمْ عَلَيْهِ نَظْمٌ وَلَا نَثْرٌ، وَالْبَحْرُ الْخِضَمُّ الَّذِي لَيْسَ لِبَدَائِعِهِ شَاطِئٌ وَعِبْرٌ. وَلَسْتُ وَاللَّهِ

أَتَصَلَّفُ بِالْإِسْهَابِ فِي ذِكْرِهِ، وَإِنَّمَا أُنَبِّهُ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ، وَكَمِ اكْتَنَنْتُهُ فِي أَحْنَاءِ الصَّدْرِ، حَتَّى نَقَدَتْهُ يَدُ السَّبْرِ، وَأَنْضَجَتْهُ نَارُ الْفِكْرِ، ثُمَّ اسْتَقْتُهُ مُصَحِّحًا مُنَقِّحًا إِلَى سَيِّدِ الْوَرَى، وَمُؤَيِّدِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمَلَاذِ الْأُمَمِ وَمُسْتَخْدِمِ السَّيْفِ وَالْقَلَمِ، وَمَنْ ظَلَّ ظِلُّ الْمُلْكِ بِيُمْنِ مَسَاعِيهِ مَمْدُودًا، وَلِوَاءُ النَّصْرِ مَعْقُودًا، فَكَمْ بَاشَرَ أُوَارَ الْحَرْبِ، وَأَدَارَ رَحَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، فَلَا يَدُهُ ارْتَدَّتْ، وَلَا طَلْعَتُهُ الْبَهِيَّةُ ارْبَدَّتْ، وَلَا غَرْبُهُ انْثَنَى، وَلَا حَدُّهُ نَبَا، قَدْ سَدَّتْ مَسَالِكَ الْمَهَالِكَ صَوَارِمُهُ، وَحَصَّنَتِ الْمَمَالِكَ صَرَائِمُهُ، وَحَلَّتْ شَكَائِمَ الْعِدَى عَزَائِمُهُ، وَتَحَصَّنَتِ الْمَمْلَكَةُ بِنَصْلِهِ، وَتَحَسَّنَتِ الدُّنْيَا بِأَفْضَالِهِ وَفَضْلِهِ، وَغَمَرَ بِبِرِّهِ آفَاقَ الْبِلَادِ، وَنَفَى الْغَيَّ

عَنْهَا بِالرَّشَادِ، وَجَلَّى ظَلَامَ الظُّلْمِ عَدْلُهُ، وَكَسَرَ فِقَارَ الْفَقْرِ بَذْلُهُ، وَكَانَتْ خِطَّةُ الْإِسْلَامِ شَاغِرَةً، وَأَفْوَاهُ الْخُطُوبِ إِلَيْهَا فَاغِرَةً، فَجَمَعَ اللَّهُ بِرَأْيِهِ الثَّاقِبِ شَمْلَهَا، وَوَصَلَ بِيُمْنِ نَقِيبَتِهِ حَبْلَهَا، وَأَضْحَتِ الرَّعَايَا بِرِعَايَتِهِ وَادِعَةً، وَأَعْيُنُ الْحَوَادِثِ عَنْهَا هَاجِعَةً، فَالدِّينُ يَزْهُو بِتَهَلُّلِ أَسَارِيرِهِ، وَإِشْرَاقِ جَبِينِهِ، وَالسَّيْفُ يَفْخَرُ فِي يَمِينِهِ، وَيَرْجُوهُ الْآيِسُ الْبَائِسُ فِي أَدْرَاجِ أَنِينِهِ، وَيَرْكَعُ لَهُ تَاجُ كُلِّ شَامِخٍ بِعِرْنِينِهِ، وَيَهَابُهُ اللَّيْثُ الْمُزَمْجِرُ فِي عَرِينِهِ. 6 - فَمَا أَجْدَرَ هَذِهِ السُّدَّةَ الْمُنِيفَةَ بِمَجْمُوعٍ يَجْمَعُ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّعَامَةِ، بَيْنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، لِيَكُونَ شَوْفَ الرَّأْيِ السَّامِي، قُدَّامَهُ وَأَمَامَهُ، فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ إِمَامَهُ، ثُمَّ تَتَأَبَّدُ فَائِدَتُهُ وَعَائِدَتُهُ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ. 7 - وَلِكُلِّ كِتَابٍ مَعْمُودٌ وَمَقْصُودٌ، وَمُنْتَحًى مَصْمُودٌ، يَجْرِي مَجْرَى الْأَسَاسِ مِنَ الْبُنْيَانِ، وَالرُّوحِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْعَذَبَةِ مِنَ

اللِّسَانِ، وَهَا أَنَا أَبُوحُ بِمَضْمُونِ الْكِتَابِ وَسِرِّهِ، ثُمَّ أَنْفُثُ لَهِيبَ الْفِكْرِ صَالِيًا بِحَرِّهِ، وَأَتَبَرَّأُ عَنْ حَوْلِي وَقُوَّتِي، لَائِذًا بِتَأْيِيدِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ. 8 - فَأَقُولُ: أَقْسَامُ الْأَحْكَامِ، وَتَفَاصِيلُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فِي مَبَاغِي الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَمَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ، يَحْصُرُهَا قِسْمَانِ، وَيَحْوِيهَا فِي مُتَضَمَّنِ هَذَا الْمَجْمُوعِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ ارْتِبَاطُهُ وَانْتِيَاطُهُ بِالْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَذَوِي الْإِمْرَةِ مِنْ قَادَةِ الْأُمَّةِ، فَيَكُونُ مِنْهُمُ الْمَبْدَأُ وَالْمَنْشَأُ، وَمِنَ الرَّعَايَا الِارْتِسَامُ وَالتَّتِمَّةُ. وَالثَّانِي: مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْمُكَلَّفُونَ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَأْمُورُونَ الْمُتَصَرِّفُونَ. 9 - وَأَنَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ أَذْكُرُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فِي صِفَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ، وَالرُّعَاةِ وَالْقُضَاةِ، أَبْوَابًا مُنَظَّمَةً، تَجْرِي مِنْ مَقْصُودِ الْقِسْمِ مَجْرَى الْمُقَدِّمَةِ. عَلَى أَنِّي آتِي فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَ الْكِتَابِ بِالْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ، وَأُشِيرُ بِالْمَرَامِزِ إِلَى مُنْتَهَى الْغَايَاتِ، وَأُوثِرُ الْإِيجَازَ وَالتَّقْلِيلَ، مَعَ تَحْصِيلِ شِفَاءِ الْغَلِيلِ، وَاخْتِيَارِ

الْإِيجَازِ عَلَى التَّطْوِيلِ، بَعْدَ وُضُوحِ مَا عَلَيْهِ التَّعْوِيلُ، ثُمَّ أُقَدِّرُ شُغُورَ الْحِينِ عَنْ حُمَاةِ الدِّينِ، وَوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُوَضِّحُ إِذْ ذَاكَ مُرْتَبَطَ قَضَايَا الْوِلَايَةِ، وَأُنْهِي الْكَلَامَ إِلَى مُنْتَهَى الْغَايَةِ، فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالدَّرَكِ وَالدِّرَايَةِ، وَمَا نُقَدِّمُهُ فِي حُكْمِ التَّوْطِئَةِ وَالْبِدَايَةِ. 10 - ثُمَّ أَنْعَطِفُ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَوِي إِلَيْهِ فِي الِاحْتِيَاجِ الْقَاصِي وَالدَّانِي، وَأُبَيِّنُ أَنَّ الْمُسْتَنَدَ الْمُعْتَضَدَ فِي الشَّرِيعَةِ نَقَلْتُهَا، وَالْمُسْتَقِلُّونَ بِأَعْبَائِهَا وَحَمَلَتُهَا، وَهُمْ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ الضَّامُّونَ إِلَى غَايَاتِ عُلُومِ الشَّرْعِ شَرَفَ التَّقْوَى وَالسَّدَادِ، فَهُمُ الْعِمَادُ وَالْأَطْوَادُ، فَلَوْ شَغَرَ الزَّمَانُ عَنِ الْأَطْوَادِ وَالْأَوْتَادِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَلْتَزِمُ شِيمَةَ الْأَنَاةِ وَالِاتِّئَادِ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَا مُعْتَصَمُ الْعِبَادِ، إِذَا طَمَا بَحْرُ الْفَسَادِ؟ وَاسْتَبْدَلَ الْخَلْقُ الْإِفْرَاطَ وَالتَّفْرِيطَ عَنْ مَنْهَجِ الِاقْتِصَادِ، وَبُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِعَالِمٍ لَا يُوثَقُ بِهِ لِفِسْقِهِ، وَبِزَاهِدٍ لَا يُقْتَدَى بِهِ لِخُرْقِهِ؟ ؟ ! أَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مَسْلَكٌ فِي الْهُدَى، أَمْ يَمُوجُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ مُهْمَلِينَ سُدًى، مُتَهَافِتِينَ عَلَى

مَهَاوِي الرَّدَى؟ فَإِلَى مَتَى أُرَدِّدُ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ فُنُونًا؟ وَأَجْعَلُ الْكَائِنَ الْمُسْتَيْقَنَ مَظْنُونًا؟ . كَانَ الَّذِي خِفْتُ أَنْ يَكُونَا إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاجِعُونَا. عَمَّ مِنَّ الْوُلَاةِ جَوْرُهَا وَاشْتِطَاطُهَا، وَزَالَ تَصَوُّنُ الْعُلَمَاءِ وَاحْتِيَاطُهَا ; وَظَهَرَ ارْتِبَاكُهَا فِي جَرَاثِيمِ الْحُطَامِ وَاخْتِبَاطُهَا، وَانْسَلَّ عَنْ لِجَامِ التَّقْوَى رُءُوسُ الْمِلَّةِ وَأَوْسَاطُهَا، وَكَثُرَ انْتِمَاءُ الْقُرَى إِلَى الظُّلْمِ وَاخْتِلَاطُهَا! ! . {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ؟ ؟ . فَإِنْ وَجَدْتُ لِلدِّينِ مُعْتَضَدًا، وَأَلْفَيْتُ لِلْإِسْلَامِ مُنْتَصَرًا، بَعْدَمَا دَرَسَتْ أَعْلَامُهُ، وَآذَنَتْ بِالِانْصِرَامِ أَيَّامُهُ، كُنْتُ كَمَنْ يُمَهِّدُ لِرَحَا الْحَقِّ مَقَرَّ الْقُطْبِ، وَيَضَعُ الْهِنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ.

11 - وَالْآنَ كَمَا يُفْضِي مَسَاقُ هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَى تَسْمِيَةِ الْكِتَابِ وَالتَّلْقِيبِ. وَقَدْ تَحَقَّقَ لِلْعَالِمِينَ أَنَّ صَدْرَ الْأَيَّامِ وَمَوْئِلَ الْأَنَامِ، وَمَنْ هُوَ حَقًّا مُعَوَّلُ الْإِسْلَامِ، يُدْعَى بِأَسْمَاءَ تُبِرُّ عَلَيْهَا مَعَانِيهِ، وَيَفُوقُ فَحَوَاهَا مَعَالِيهِ، فَهُوَ غِيَاثُ الدَّوْلَةِ. وَهَذَا إِذَا تَمَّ: (غِيَاثُ الْأُمَمِ فِي الْتِيَاثِ الظُّلَمِ) . فَلْيَشْتَهِرْ بِالْغِيَاثِيِّ كَمَا شُهِرَ الْأَوَّلُ بِالنِّظَامِيِّ. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّأْيِيدِ وَالتَّوْفِيقِ، وَهُوَ بِإِسْعَافِ رَاجِيهِ حَقِيقٌ.

الركن الأول كتاب الإمامة

[الرُّكْنُ الْأَوَّلُ كِتَابُ الْإِمَامَةِ] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي مَعْنَى الْإِمَامَةِ وَوُجُوبِ نَصْبِ الْأَئِمَّةِ وَقَادَةِ الْأُمَّةِ] خُطَّةُ الْكِتَابِ. 12 - فَأَرْكَانُ الْكِتَابِ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الْقَوْلُ فِي الْإِمَامَةِ، وَمَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْأَبْوَابِ. وَالرُّكْنُ الثَّانِي: فِي تَقْدِيرِ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمَّةِ. وَالرُّكْنُ الثَّالِثُ: فِي تَقْدِيرِ انْقِرَاضِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ. فَلْتَقَعِ الْبِدَايَةُ بِالْإِمَامَةِ.

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ. كِتَابُ الْإِمَامَةِ. 13 - وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ: الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ نَصْبِ الْأَئِمَّةِ وَقَادَةِ الْأُمَّةِ. الْبَابُ الثَّانِي: فِي الْجِهَاتِ الَّتِي تُعِيِّنُ الْإِمَامَةَ وَتُوجِبُ الزَّعَامَةَ. الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي صِفَاتِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَاعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيمَنْ إِلَيْهِ الْعَهْدُ. الْبَابُ الرَّابِعُ: فِي صِفَاتِ الْإِمَامِ الْقَوَّامِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ. الْبَابُ الْخَامِسُ: فِي الطَّوَارِئِ الَّتِي تُوجِبُ الْخَلْعَ وَالِانْخِلَاعَ. الْبَابُ السَّادِسُ: فِي إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ. الْبَابُ السَّابِعُ: فِي نَصْبِ إِمَامَيْنِ. الْبَابُ الثَّامِنُ: فِي تَفْصِيلِ مَا إِلَى الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ.

حكم نصب الإمام

الْبَابُ الْأَوَّلُ. فِي مَعْنَى الْإِمَامَةِ، وَوُجُوبِ نَصْبِ الْأَئِمَّةِ، وَقَادَةِ الْأُمَّةِ. 14 - الْإِمَامَةُ رِيَاسَةٌ تَامَّةٌ، وَزَعَامَةٌ عَامَّةٌ، تَتَعَلَّقُ بِالْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. مُهِمَّتُهَا حِفْظُ الْحَوْزَةِ، وَرِعَايَةُ الرَّعِيَّةِ، وَإِقَامَةُ الدَّعْوَةِ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ، وَكَفُّ الْخَيْفِ وَالْحَيْفِ، وَالِانْتِصَافُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَاسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِنَ الْمُمْتَنِعِينَ، وَإِيفَاؤُهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ. وَهَذِهِ جُمَلٌ يُفَصِّلُهَا الْبَابُ الثَّامِنُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مَا يُنَاطُ بِالْأَئِمَّةِ، وَهِيَ مَرَاسِمُ تَحُلُّ مَحَلَّ التَّرَاجِمِ، وَفِيهَا الْآنَ مَقْنَعٌ، وَسَيَأْتِي مُتَّسَعٌ فِي الْبَيَانِ مُشْبِعٌ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ -. [حُكْمُ نَصْبِ الْإِمَامِ] 15 - فَنَصْبُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ. 16 - وَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ

وَيَجُوزُ تَرْكُ النَّاسِ أَخْيَافًا، يَلْتَطِمُونَ ائْتِلَافًا وَاخْتِلَافًا، لَا يَجْمَعُهُمْ ضَابِطٌ، وَلَا يَرْبِطُ شَتَاتَ رَأْيِهِمْ رَابِطٌ. وَهَذَا الرَّجُلُ هَجُومٌ عَلَى شَقِّ الْعَصَا، وَمُقَابَلَةِ الْحُقُوقِ بِالْعُقُوقِ، لَا يَهَابُ حِجَابَ الْإِنْصَافِ، وَلَا يَسْتَوْعِرُ أَصْوَابَ الِاعْتِسَافِ، وَلَا يُسَمَّى إِلَّا عِنْدَ الِانْسِلَالِ عَنْ رِبْقَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَيْدِ عَنْ سُنَنِ الِاتِّبَاعِ. 17 - وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ أَشْرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ شَارِقَةً وَغَارِبَةً، وَاتِّفَاقِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً. 18 - أَمَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَوُا الْبِدَارَ إِلَى نَصْبِ الْإِمَامِ حَقًّا ; فَتَرَكُوا لِسَبَبِ التَّشَاغُلِ بِهِ تَجْهِيزَ رَسُولِ اللَّهِ وَدَفْنَهُ، مَخَافَةَ أَنْ تَتَغَشَّاهُمْ هَاجِمَةُ مِحْنَةٍ. 19 - وَلَا يَرْتَابُ مَنْ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ أَنَّ الذَّبَّ عَنِ الْحَوْزَةِ، وَالنِّضَالِ دُونَ حِفْظِ الْبَيْضَةِ مَحْتُومٌ شَرْعًا، وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ فَوْضَى لَا يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْحَقِّ جَامِعٌ، وَلَا يَزْعُهُمْ وَازِعٌ، وَلَا يَرْدَعُهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ رَادِعٌ، مَعَ تَفَنُّنِ الْآرَاءِ،

وَتُفَرِّقِ الْأَهْوَاءِ لَانْتَثَرَ النِّظَامُ، وَهَلَكَ الْعِظَامُ، وَتَوَثَّبَتِ الطَّغَامُ وَالْعَوَامُّ، وَتَحَزَّبَتِ الْآرَاءُ الْمُتَنَاقِضَةُ، وَتَفَرَّقَتِ الْإِرَادَاتُ الْمُتَعَارِضَةُ، وَمَلَكَ الْأَرْذَلُونَ سَرَاةَ النَّاسِ، وَفُضَّتِ الْمَجَامِعُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَفَشَتِ الْخُصُومَاتُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ ذَوُو الْعَرَامَاتِ، وَتَبَدَّدَتِ الْجَمَاعَاتُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِطْنَابِ بَعْدَ حُصُولِ الْبَيَانِ، وَمَا يَزَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ. 20 - فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ نَصْبِ الْإِمَامِ، فَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ وُجُوبَ النَّصْبِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، غَيْرُ مُتَلَقًّى مِنْ قَضَايَا الْعُقُولِ. 21 - وَذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ مِنَ الرَّوَافِضِ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُفِيدُ النَّاظِرَ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ نَصْبِ الْإِمَامِ. وَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي اسْتِحَالَةِ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ أَسَالِيبِ الْعُقُولِ

بَحْرٌ فَيَّاضٌ لَا يُغْرَفُ، وَتَيَّارٌ مَوَّاجٌ لَا يُنْزَفُ. 22 - وَالْفِئَةُ الْمُخَالِفَةُ فِي هَذَا الْبَابِ أَخَذَتْ مَذْهَبَهَا، وَتَلَقَّتْ مَطْلَبَهَا مِنْ مَصِيرِهَا، إِلَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى جَدُّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِصْلَاحُ عِبَادِهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الصَّلَاحَ فِي نَصْبِ الْإِمَامِ، وَاسْتَمَدُّوا فِي تَقْرِيرِ مَا يُحَاوِلُونَهُ، وَتَمْهِيدِ مَا يُزَاوِلُونَهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهَذَا مِنْهُمْ جَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَذُهُولٌ عَنْ سِرِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَمَنْ وُفِّقَ لِلرَّشَادِ، وَاسْتَدَّ فِي مَنْهَجِ السَّدَادِ، وَاسْتَقَرَّ فِي نَظَرِهِ عَلَى اتِّئَادٍ، عَلِمَ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ، تَعَرَّضَ مَنْ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ لِلتَّأَثُّرِ بِالْمَثَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَنْ تَصَدَّى لِطُرُقِ الْغَيْرِ، وَقَبُولِ الْأَثَرِ، فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ، وَدَرِيئَةٌ لِأَسِنَّةِ الْعَاهَاتِ، وَالْقَدِيمُ - تَعَالَى - لَا يَلْحَقُهُ نَفْعٌ، وَلَا يَنَالُهُ ضَرَرٌ يُعَارِضُهُ دَفْعٌ، فَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ زَلَلٌ، فَهُوَ الْمُوجِبُ بِأَمْرِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. 23 - ثُمَّ الْأَدْيَانُ وَالْمِلَلُ، وَالشَّرَائِعُ وَالنِّحَلُ، أَحْوَجُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، مِنْهَا إِلَى الْأَئِمَّةِ، فَإِذَا

جَازَ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنِ النَّبِيِّ، وَهُوَ مُعْتَصَمُ دِينِ الْأُمَّةِ، فَلَا بُعْدَ فِي خُلُوِّهِ عَنِ الْأَئِمَّةِ. 24 - فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّا عَرَفْنَا وُجُوبَ نَصْبِ الْإِمَامِ مِنْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ الَّذِي تُعُبِّدْنَا بِهِ. 25 - وَلَوْ رُدِدْنَا إِلَى الْعُقُولِ، لَمْ نُبْعَدْ أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ، وَيُقَطِّعَهُمْ فِي الْغِوَايَاتِ عَلَى أَنْحَاءَ وَطَرَائِقَ، وَيَغْمِسَهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْجَهَالَاتِ، وَيَصْرِفَهُمْ عَنْ مَسَالِكِ الْحَقَائِقِ، فَبِحُكْمِهِ تَرَدَّى الْمُعْتَدُونَ، وَبِفَضْلِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، " لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ " فَهَذَا مُنْتَهَى الْغَرَضِ فِي ذَلِكَ.

الباب الثاني في الجهات التي تعين الإمامة وتوجب الزعامة

[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْجِهَاتِ الَّتِي تُعَيِّنُ الْإِمَامَةَ وَتُوجِبُ الزَّعَامَةَ] [فَصْلٌ فِي الْقَوْلِ فِي النَّصِّ وَفِي حُكْمِ ثُبُوتِهِ وَنُفَاتِهِ] الْبَابُ الثَّانِي. فِي الْجِهَاتِ الَّتِي تُعَيِّنُ الْإِمَامَةَ وَتُوجِبُ الزَّعَامَةَ. فَصْلٌ. فِي الْقَوْلِ فِي النَّصِّ وَفِي حُكْمِ ثُبُوتِهِ وَنُفَاتِهِ. 26 - لَوْ ثَبَتَ النَّصُّ مِنَ الشَّارِعِ عَلَى إِمَامٍ، لَمْ يَشُكَّ مُسْلِمٌ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ بَذْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلنَّبِيِّ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْجَمَاعَةِ. 27 - وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ النَّصُّ، فَاخْتِيَارُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، كَافٍ فِي النَّصْبِ وَالْإِقَامَةِ، وَعَقْدِ الْإِمَامَةِ. 28 - وَقَدْ تَفَنَّنَتْ فِي ذَلِكَ الْآرَاءُ وَالْمَطَالِبُ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ وَالْمَذَاهِبُ، وَلَوْ ذَهَبْتُ أُحْصِيهَا، وَأَسْتَقْصِيهَا، لَأَدَّى مَضْمُونُ الْبَابِ إِلَى حُدُودِ الْإِسْهَابِ، وَلَوْ آثَرْتُ الِانْكِفَافَ وَالْإِضْرَابَ، لَكَانَ ذَلِكَ إِخْلَالًا بِوَضْعِ الْكِتَابِ، فَالْوَجْهُ ارْتِيَادُ الِاقْتِصَادِ، وَاجْتِنَابُ

رأي الإمامية

السَّرَفِ وَتَعَدِّي الْمَبْدَأِ وَالطَّرْفِ، فَالْإِفْرَاطُ فِي الْبَسْطِ مُمِلٌّ، وَالتَّفْرِيطُ فِي الِاخْتِصَارِ مُخِلٌّ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِقْنَاعُ شَوْفُ الطِّبَاعِ. [رأي الْإِمَامِيَّةُ] 29 - فَذَهَبَتِ الْإِمَامِيَّةُ مِنَ الرَّوَافِضِ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَصَّ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْإِمَامَةِ، وَتَوَلِّي الزَّعَامَةِ، ثُمَّ تَحَزَّبُوا أَحْزَابًا. 30 - فَذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَصَّ عَلَى خِلَافَتِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ نَصًّا قَاطِعًا، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ مَسَالِكُ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ سَبِيلُ الِاحْتِمَالَاتِ، وَتَقَابُلُ الْجَائِزَاتِ، وَشَفَى فِي مُحَاوَلَةِ الْبَيَانِ كُلَّ غَلِيلٍ، وَاسْتَأْصَلَ مَسْلَكَ كُلِّ تَأْوِيلٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ النَّصُّ مِمَّا نَقَلَهُ الْأَثْبَاتُ، وَالرُّوَاةُ الثِّقَاتُ، مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَلْهَجُ بِهَا الْآحَادُ، وَيَنْقُلُهَا الْأَفْرَادُ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

رأي الزيدية

" «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» "، وَقَوْلِهِ لِعَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» " إِلَى غَيْرِهَا مِمَّا سَنَرْوِيهِ وَنُورِدُهُ، وَنُجَرِّدُ الْكَلَامَ فِيهِ وَنُفْرِدُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ: كَفَرَتِ الْأُمَّةُ بِكَتْمِ النَّصِّ وَرَدِّهِ، وَحَسْمِ مَسْلَكِ دَرْكِهِ وَسَدِّهِ. 31 - وَاجْتَزَأَ بَعْضُ الْإِمَامِيَّةِ فِي ادِّعَاءِ نَصٍّ شَائِعٍ، وَلَفْظٍ مُسْتَفِيضٍ ذَائِعٍ، بِالتَّمَسُّكِ بِمَا رَوَاهُ الرُّوَاةُ فِي الْبَابِ، وَدَوَّنَهُ أَرْبَابُ الْأَلْبَابِ فِي الْكِتَابِ. [رأي الزَّيْدِيَّةِ] 32 - وَذَهَبَ فِرَقٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا نَصَّ عَلَى مُعَيَّنٍ فِي الْخِلَافَةِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْمَرَامِزِ وَالْمَلَامِحِ، وَالْمَعَارِيضِ وَالصَّرَايِحِ، الصِّفَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِمَامَةُ اسْتِجْمَاعَهَا،

الرد على القائلين بالنص تواترا وآحادا

فَكَانَتْ مُتَوَافِيَةٌ فِي عَلِيٍّ دُونَ مَنْ عَدَاهُ وَسِوَاهُ، فَضَلَّتِ الْأُمَّةُ، إِذْ وَضَعَتِ الْإِمَامَةَ فِيمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلَمْ يَتَّسِمْ بِتِلْكَ السِّمَاتِ. 33 - ثُمَّ تَشَوَّفَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ إِلَى ادِّعَاءِ النَّصِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 34 - وَصَارَ صَائِرُونَ يُعْرَفُونَ بِالْعَبَّاسِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَصَّ عَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَخَصَّصَهُ بِالْإِمَامَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ، نَصًّا يُزِيلُ الرَّيْبَ، وَيُزِيحُ الِالْتِبَاسَ. 35 - وَإِذَا اسْتَنَدَتِ الْمَذَاهِبُ إِلَى الدَّعَاوِي، ابْتَدَرَ إِلَى مَا يَهْوَاهُ كُلُّ غَاوِي، فَتَهَافَتَ الْوَرَى، فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى عَلَى الْمَهَاوِي، وَإِذَا طُولِبَ كُلُّ مُدَّعٍ بِمِنْهَاجِ الصِّدْقِ وَالْحِجَاجِ بِالْمَسْلَكِ الْحَقِّ، لَاحَتِ الْحَقَائِقُ، وَانْزَاحَتِ الْغَوَائِلُ، وَحَصْحَصَ الْحَقُّ، وَزَهَقَ الْبَاطِلُ. [الرد على القائلين بالنص تواترا وآحادا] 36 - فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْتِيبُ إِيضَاحُ الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ النَّصِّ، ثُمَّ اتِّبَاعُ مَا عَدَاهُ مِنَ الْآرَاءِ بِالتَّنْقِيرِ وَالْفَحْصِ ; فَنَقُولُ: النَّصُّ الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ، وَنَظَّمْتُمْ بِهِ عُقُودَكُمْ، وَرَبَطْتُمْ بِهِ مَقْصُودَكُمْ، بَلَغَكُمُ اسْتِفَاضَةً وَتَوَاتُرًا، مِنْ جَمْعٍ لَا يَجُوزُ

مِنْهُمْ فِي مُسْتَقَرِّ الْعَادَاتِ، وَمُسْتَمَرِّ الْأَوْقَاتِ، التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ؟ أَمْ تَنَاقَلَهُ مُعَيَّنُونَ مِنَ النَّقَلَةِ؟ وَاسْتَبَدَّ بِهِ مَخْصُوصُونَ مِنَ الْحَمَلَةِ؟ . فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ مَنْقُولٌ تَوَاتُرًا عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الِاسْتِفَاضَةِ أَوَّلًا، وَوَسَطًا، وَآخِرًا، فَقَدِ ادَّعَوْا عَظِيمَةً فِي مُجَاحَدَةِ الْبَدَائِهِ وَالضَّرُورَاتِ، وَانْتَهَوْا مِنَ الْبُهْتِ وَالْعِنَادِ إِلَى مُنْتَهَى الْغَايَاتِ. وَقِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ اخْتَصَصْتُمْ وَأَنْتُمُ الْأَذَلُّونَ الْأَقَلُّونَ بِهَذَا الْخَبَرِ دُونَ مُخَالِفِيكُمْ، وَكَيْفَ انْحَصَرَ هَذَا النَّبَأُ فِيكُمْ، مَعَ اسْتِوَاءِ الْكَافَّةِ فِي بَذْلِ كُنْهِ الْمَجْهُودِ، فِي الطَّلَبِ وَالتَّشْمِيرِ، وَالتَّنَاهِي فِي ابْتِغَاءِ الْمَقْصُودِ، وَاجْتِنَابِ التَّقْصِيرِ؟ وَلَوْ سَاغَ اخْتِصَاصُ قِيَامِ أَقْوَامٍ بِدَرْكِ خَبَرٍ شَائِعٍ، مُسْتَفِيضٍ ذَائِعٍ، لَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْعِلْمِ بِأَنَّ فِي الْأَقَالِيمِ بَلْدَةً تُسَمَّى (بَغْدَادَ) طَوَائِفُ مَخْصُوصُونَ، مَعَ تَمَاثُلِ الْكَافَّةِ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْمَسَالِكِ، وَالْأَقَالِيمِ وَالْمَمَالِكِ. وَبِمَ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ نَصًّا مُنْتَشِرًا فِي الْأَقْطَارِ، مُطَبِّقًا لِلْخِطَطِ وَالدِّيَارِ؟ .

37 - وَلَسْنَا نَذْكُرُ ذَلِكَ لِلِاخْتِيَارِ وَالْإِيثَارِ، وَلَكِنَّ الْمَذَاهِبَ الْفَاسِدَةَ، وَالْمَطَالِبَ الْحَائِدَةَ، إِذَا تَعَارَضَتْ تَنَاقَضَتْ، وَتَرَافَضَتْ، وَبَقِيَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَالْمَنْهَجُ الْمَتِينُ، أَبْلَجَ لَائِحًا لِأَهْلِ الِاسْتِرْشَادِ، وَطَاحَتْ مَسَالِكُ الْعِنَادِ. 38 - وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ النَّصَّ نَقَلَهُ آحَادٌ، اسْتَبَانَ عَلَى الِارْتِجَالِ وَالْبَدِيهَةِ خِزْيُهُمْ، وَاسْتَوَى إِثْبَاتُهُمْ وَنَفْيُهُمْ، فَإِنَّ الْآحَادَ لَا يُعْصَمُونَ عَنِ الزَّلَلِ، بَلْ يَتَعَرَّضُونَ لِإِمْكَانِ الْخَطَأِ وَالْخَطَلِ، فَنَقْلُهُمْ لَا يَقْتَضِي الْعِلْمَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ قَطْعًا. فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ عَلِمُوا النَّصَّ عَلَى الْقَطْعِ مَعَ تَجْوِيزِ خَطَأِ نَاقِلِهِ، وَتَرْجِيمِ الظُّنُونِ فِي حَامِلِهِ؟ ، ثُمَّ لَا يَسْلَمُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِمْ بِنَقِيضِ مَا اتَّخَذُوهُ مُعْتَصَمَهُمْ مِنِ ادِّعَاءِ النَّصِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، أَوِ الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَقَدِ انْحَلَّتْ شَكَائِمُهُمْ، وَوَضَحَتْ أَكَاذِيبُهُمْ وَعَظَائِمُهُمْ، وَمَسَاقُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُشِيرُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَجْنَحُ عَنْ مَسْلَكِ الْحَقِيقَةِ. 39 - فَإِنْ قِيلَ: غَايَتُكُمْ فِيمَا قَرَّرْتُمُوهُ وَكَرَّرْتُمُوهُ، الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ، فَإِنْ سَلِمَ لَكُمْ مَا رُمْتُمُوهُ، وَاسْتَتَبَّ لَكُمْ مَا نَظَّمْتُمُوهُ، مِنْ إِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ، فَعَلَيْكُمْ وَرَاءَ ذَلِكَ طِلْبَةٌ حَاقَّةٌ، لَيْسَ لَكُمْ بِهَا قِبَلٌ وَطَاقَةٌ.

وَهِيَ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ: أَنْتُمْ قَاطِعُونَ بِانْتِفَاءِ النَّصِّ، فَبِمَ أَدْرَكْتُمْ حَقِيقَةَ الِانْتِفَاءِ؟ وَكَيْفَ تَرَقَّيْتُمْ عَنْ مُخَالَجَةِ الشَّكِّ، وَالْمِرَاءِ إِلَى هَذَا الِادِّعَاءِ؟ فَأَنْتُمْ فِي دَعْوَى النَّفْيِ، وَمَنِ ادَّعَى الْإِثْبَاتَ عَلَى سَوَاءٍ، وَإِذَا اسْتَوَى الْمَسْلَكَانِ، وَتَشَاكَلَتْ جِهَاتُ الْإِمْكَانِ، فَسَبِيلُ الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ اجْتِنَابُ الْقَطْعِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى جُزَافٍ. 40 - قُلْنَا الْآنَ نَحْمِلُكُمْ بِالْبُرْهَانِ الْأَوْضَحِ عَلَى سُلُوكِ اللَّقَمِ الْأَفْيَحِ، وَنَسْتَاقُكُمْ إِلَى الْمَحَجَّةِ الْغَرَّاءِ بِالْحُجَّةِ الْبَيْضَاءِ، فَلْيَعْلَمِ الْمُسْتَرْشِدُ أَنَّ الَّذِي دُفِعْنَا إِلَيْهِ مُتَلَقَّى مِنِ اطِّرَادِ الْعَادَاتِ وَاسْتِمْرَارِهَا، وَجَرَيَانِهَا عَلَى الْقَضَايَا الْمَأْلُوفَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا، فَمِمَّا اطَّرَدَ بِهِ الْعُرْفُ عَلَى مَكَرِّ الْأَيَّامِ، وَمَمَرِّ الْأَعْوَامِ، أَنَّ النَّبَأَ الْعَظِيمَ، وَالْخَطْبَ الْجَسِيمَ، وَمَا يَجِلُّ خَطَرُهُ، وَيَتَفَاقَمُ وَقْعُهُ فِي النُّفُوسِ وَغَرَرُهُ، تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى اللَّهَجِ بِصِدْقِهِ وَذِكْرِهِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِنَشْرِهِ وَشَهْرِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِ لِعُلُوِّ مَنْصِبِهِ وَقَدْرِهِ. وَوُضُوحُ هَذَا يُغْنِي عَنْ بَسْطِ الْمَقَالِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ، فَلَوْ حَلَّ

لو كان هناك نص لظهر يوم السقيفة

سُلْطَانُ الْوَقْتِ بُقْعَةً مِنَ الْبِقَاعِ، وَقَدِمَ بَعْضَ الْأَصْقَاعِ مَحْفُوفًا بِالْأَتْبَاعِ، مَكْنُوفًا بِالْأَشْيَاعِ، فِي جَيْشِهِ الْعَرَمْرَمِ، وَمَوْكِبِهِ الْمُعَظَّمِ، لَاسْتَحَالَ أَنْ يَنْقُلَ ذَلِكَ آحَادًا، أَوْ يَسْتَبِدَّ بِدَرْكِهِ فِئَةٌ اسْتِبْدَادًا. فَيَاللَّهُ لِلْعَجَبِ! ! لَمْ يُخْفِ ابْتِعَاثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلَاتَهُ وَسُعَاتَهُ، وَنَدْبُهُ لِجَمْعِ مَالِ اللَّهِ جُبَاتَهُ، فَشَاعَ تَوْلِيَتُهُ مُعَاذًا وَعَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ، وَمَنْ سِوَاهُمَا، وَوَقَعَتْ تَوْلِيَتُهُ عَلِيًّا عَهْدَ الْإِمَامَةِ فِي الْمَتَاهَاتِ، وَظُلُمَاتِ الْعَمَايَاتِ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! ! [لو كان هناك نص لظهر يوم السقيفة] 41 - وَلِمَّا اجْتَمَعَ صَحْبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ السَّقِيفَةِ لِتَقْدِيمِ زَعِيمٍ، وَتَعْيِينِ خَلِيفَةٍ، وَتَفَرَّقَتِ الْآرَاءُ، وَتَشَتَّتِ الْأَهْوَاءُ، وَكَشَّرَتْ عَنْ أَنْيَابِهَا الدَّاهِيَةُ الدَّهْيَاءُ، وَغَشِيَ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْضِلَةُ الزَّبَّاءُ، وَامْتَدَّتْ إِلَى الشِّقَاقِ الْأَعْنَاقُ، وَتَخَازَرَتِ الْآمَاقُ،

وَاشْرَأَبَّ النِّفَاقُ، وَجَحَظَتْ نَحْوَ ارْتِقَابِ تَقَطُّعِ الْأَنْسَابِ الْأَحْدَاقُ، وَتَقَلْقَلَتْ لِمَثَارِ الْفِتَنِ فِي أَغْمَادِهَا الْبِيضُ الرِّقَاقُ، وَتَنَاوَشَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَأَعْضَلَ الْمَدْخَلُ وَالْمَخْرَجُ، وَاعْتَاصَ الْمَسْلَكُ وَالْمَدْرَكُ وَالْمَنْهَجُ، حَتَّى ذُكِرَ لِأَمْرِ الْإِمْرَةِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَبَاحَ بِنَصْبِهِ مَنْ أَرَادَهُ، وَمَا كَانَتْ تَفَقَّأَتْ عَنْهُ بَيْضَةُ مُضَرَ، وَلَا دَرَّتْ عَلَيْهِ مِنْ مَحْضِ قُرَيْشٍ دِرَرٌ، فَنَفَرَتِ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ نَصْبُهُ قَضِيَّةً مُرْضِيَّةً، فَأَقْنَعَ وَكَفَى فِي انْسِلَالِهِ عَنِ الْمَنْصِبِ الَّذِي تَشَوَّفَ إِلَيْهِ، قَوْلُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُهُ: " «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا» " وَقَوْلُهُ: " «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» " فَلَمْ يُبْدِ نَاصِرُهُ - لَمَّا ظَهَرَ الْمِنْهَاجُ، وَقُهِرَ الْحِجَاجُ - خِلَافًا، وَأَقَرُّوا إِذْعَانًا لِلْحَقِّ، وَائْتِلَافًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ فِي بَابِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقِصَّةِ

أَوْسَاطًا وَأَطْرَافًا ; إِذْ لَمْ نَرَ أَنْ نَسْتَوْعِبَهَا اسْتِيضَافًا، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهَا الْآنَ قَبْلَ أَنْ نُعِيدَهَا اسْتِئْنَافًا - أَنَّ النَّاسَ فِي مُلْتَطَمِ هَذِهِ الْأَعْوَاصِ وَالِالْتِبَاسِ طَلَبُوا وَزَرًا يُلَاذُ بِظِلِّهِ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي عَقْدِ الْأَمْرِ وَحَلِّهِ، وَيُفَوَّضُ إِلَيْهِ مَعَاقِدُ الشَّأْنِ كُلِّهِ، فَاتَّفَقَتْ لِلصِّدِّيقِ الْبَيْعَةُ وَالصَّفْقَةُ، وَتَوَلَّى مُسْتَحِقُّ الْحَقِّ حَقَّهُ، فَاسْتَرَاحَتِ النُّفُوسُ، وَانْزَاحَتِ الْحُدُوسُ، فَلَوْ كَانَ اسْتَفَاضَ فِيهِمْ نَصْبُهُ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَكَانَ - لَعَمْرُ اللَّهِ - مُسْتَصْلِحًا لِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ مُرْضِيًا، لَقَالَ فِي الْقَوْمِ قَائِلٌ: مَا لَكُمْ تَرْتَبِكُونَ فِي الظُّلُمَاتِ؟ وَتَشْتَبِكُونَ فِي الْوَرَطَاتِ، وَتَتَرَدَّدُونَ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَالتَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ، وَتَتْرُكُونَ نَصَّ صَاحِبِ الشَّرْعِ. فَاسْتَبَانَ بِارْتِجَالِ الْأَذْهَانِ أَنَّ النَّصَّ لَوْ كَانَ، لَاسْتَحَالَ فِيهِ الْخَفَاءُ وَالْكِتْمَانُ، وَلَتَنَاجَى بِهِ عَلَى قُرْبِ الْعَهْدِ بِهِ أَوْ بُعْدِهِ اثْنَانِ، عَلَى مَكَرِّ الزَّمَانِ

لو سلمنا تواطؤ الأمة على جحد النص وكتمانه لجر ذلك أمورا خطيرة

42 - فَوَضَحَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ مَذْهَبِ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِالنَّصِّ. هَذَا مُسْتَدْرَكٌ بِضَرُورَاتِ الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى بَحْثٍ وَنَظَرٍ وَفَحْصٍ. وَالثَّانِي: الْقَطْعُ عَلَى الْغَيْبِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْلِيَةٌ وَنَصْبٌ. [لو سلمنا تواطؤ الأمة على جحد النص وكتمانه لجر ذلك أمورا خطيرة] 43 - وَنَحْنُ الْآنَ نُعَضِّدُ الْكَلَامَ بِوَاضِحَةٍ لَا يَأْبَاهَا مُنْصِفٌ، وَلَا يَقْتَحِمُ رَدَّهَا إِلَّا مُتَعَسِّفٌ، فَنَقُولُ: لَوْ سَاغَ تَقْدِيرُ الْكِتْمَانِ فِي الْأُمُورِ الْخَطِيرَةِ، لَجَرَّ ذَلِكَ أُمُورًا عَسِيرَةً، وَلَاتَّجَهَ لِلْمُلْحِدِينَ، وَعُصَبِ الْجَاحِدِينَ أَنْ يَقُولُوا: قَدْ عُورِضَ الْقُرْآنُ فِي مُنْقَرَضِ الزَّمَانِ، ثُمَّ تَغَشَّاهُ الْكِتْمَانُ، وَأَطْبَقَ عَلَى إِخْفَائِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، فَإِذَا سَوَّغْتُمْ مَعَاشِرَ الرَّوَافِضِ خَفَاءَ التَّنْصِيصِ، وَدُرُوسَ التَّعْيِينِ مِنَ الشَّارِعِ وَالتَّخْصِيصِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مِمَّا تَتَقَاضَى النُّفُوسُ أَرْبَابَهَا، أَنْ تَذِيعَ تَوْلِيَةُ الْعُهُودِ، وَيَشِيعَ نَصْبُ الْأُمَرَاءِ، أَوْ عَقْدُ الْأَلْوِيَةِ وَالْبُنُودِ، وَالْجِبِلَّاتُ عَلَى ذَلِكَ مَفْطُورَةٌ، مُخْتَارَةٌ كَانَتْ أَوْ مَقْهُورَةٌ، وَإِذَا لَمْ يُبْعِدُوا مَعَ ذَلِكَ الْخَفَاءَ، فَمَا

يُؤْمَنُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَقَدُّمِ الْمُنَاقَضَةِ، وَسَبْقِ الْمُعَارَضَةِ؟ وَهَذَا مُحَاوَلَةُ إِثْبَاتِ الْفَرْعِ بِمَا يَكُرُّ بِالْهَدْمِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ - وَحَقِّ الْحَقِّ - نَقِيضُ مُوجَبِ الْعُقُولِ، فَقَدْ وَجَبَ الْحَقُّ وَحَصْحَصَ، وَاضْحَمَلَّ تَخَيُّلُ أَصْحَابِ النَّصِّ وَانْحَصَّ. وَهَذَا كُلُّهُ مَسْلَكُ الْكَلَامِ عَلَى مَنِ ادَّعَى نَصًّا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ غَيْرَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَقَلَهَا الْأَفْرَادُ. 44 - فَأَمَّا مَنْ يَعْتَمِدُ مِنْهُمُ الْأَلْفَاظَ الْمَعْرُوفَةَ الْمَأْلُوفَةَ، الَّتِي رَوَاهَا الْآحَادُ: مِثْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» " فَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا نَقُولُ: هَذَا اللَّفْظُ وَمَا عَدَاهُ وَسِوَاهُ نَقَلَهُ مَعْدُودُونَ مِنَ الرُّوَاةِ، وَهُمْ عُرْضَةُ الزَّلَلِ، وَالْخَطَلِ، وَالْهَفَوَاتِ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ مِنَ الْأَثْبَاتِ وَالثِّقَاتِ ; فِيمَا نُعَانِيهِ مِنْ هَذَا الْفَنِّ الْقَطْعُ لَا غَالِبُ الظَّنِّ. فَهَذَا مَسْلَكٌ كَافٍ وَوَجْهُهُ فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ شَافٍ.

45 - ثُمَّ لَوْ تَتَبَّعْنَا الْأَلْفَاظَ الَّتِي نَقَلُوهَا لَمْ نُلْفِ وَاحِدًا مِنْهَا عَلَى مَا عَقَلُوهَا. فَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» " فَالْمَوْلَى مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُرَدَّدَةِ بَيْنَ مُسَمَّيَاتٍ وَجِهَاتٍ فِي الِاحْتِمَالَاتِ، فَيُطْلَقُ وَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ الْعَمِّ، وَالْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ، وَيُرَادُ بِهِ النَّاصِرُ. وَلَوْ خُضْنَا فِي مَأْخَذِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهِ مَرَاسِمَ الِاسْتِشْهَادِ بِالنَّظْمِ السَّائِرِ وَالنَّثْرِ، لَطَالَ الْكَلَامُ، وَتَمَادَى الْمَرَامُ، وَلَمْ نَضَعْ كِتَابَنَا هَذَا لِمِثْلِ ذَلِكَ ; فَإِنَّ تَصْنِيفَ الْمَاضِينَ، وَتَأْلِيفَ الْمُنْقَرِضِينَ، مَشْحُونٌ بِهَذِهِ الْفُنُونِ، وَمُعْظَمُ الْمُتَلَقِّبِينَ بِالتَّصْنِيفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ السَّخِيفِ يَكْتَفُونَ بِتَبْوِيبِ أَبْوَابٍ، وَتَرْتِيبِ كِتَابٍ مُتَضَمَّنُهُ كَلَامُ مَنْ مَضَى، وَعُلُومُ مَنْ تَصَرَّمَ وَانْقَضَى. 46 - وَمِقْدَارُ غَرَضِنَا الْآنَ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ مُعْتَصَمَهُمْ وَمَعَاذَهُمْ، وَمُعْتَمَدَهُمْ وَمَلَاذَهُمْ، مِنَ الْمُجْمَلَاتِ الَّتِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا تَقَابُلُ الْجَائِزَاتِ. وَالتَّعَلُّقُ بِالْمُحْتَمَلَاتِ فِيمَا يُبْغَى فِيهِ الْقَطْعُ وَالْبَتَاتُ، مِنْ شِيَمِ ذَوِي الْجَهَالَاتِ. وَقَدْ قِيلَ: جَرَتْ مُفَاوَضَةٌ وَمُحَاوَرَةٌ بَيْنَ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِزَيْدٍ: أَنَا مَوْلَاكَ. فَقَالَ زَيْدٌ: بَلْ مَوْلَايَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا اطَّلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا جَرَى ; قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» . 47 - وَمِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ هَؤُلَاءِ مَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» ". وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ حَقًّا مِنَ الْمُجْمَلَاتِ الْمَعْدُودَةِ عِنْدَ ذَوِي التَّحْصِيلِ مِنْ أَغْمَضِ الْمُعْوِصَاتِ. وَنَحْنُ إِذَا قَدَّرْنَا فِيهِ تَعَارُضَ الِاحْتِمَالَاتِ، وَوَجْهَ الْإِجْمَالِ، فَقَدْ أَسْقَطْنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ ; فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالظَّاهِرِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ مَسْلَكُ التَّأْوِيلِ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ تَعْوِيلٌ. فَمَا الظَّنُّ بِالْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ لِمَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ تَفْصِيلٌ؟ ؟ . فَمِنْ وُجُوهِ الْإِشْكَالِ أَنَّ هَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَهَارُونَ مَاتَ قَبْلَ مُوسَى بِسِنِينَ، فَلَمْ يَخْلُفْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَثَابَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِهِ. نَعَمْ. كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَيَاةِ الْمُصْطَفَى وَزَرَهُ

وَنَصِيرَهُ، كَمَا كَانَ هَارُونُ رِدْءَ مُوسَى وَظَهِيرَهُ، فَإِذَا جَرَى الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِعْجَامِ وَالِاسْتِبْهَامِ، لَمْ يُسَغِ الِاعْتِصَامُ بِهِ فِي مُجْتَهَدَاتِ الْأَحْكَامِ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِنَصْبِ الْإِمَامِ؟ وَهُوَ شَوْفُ الْأَنَامِ، وَأَحَقُّ مَا يُعَلَّقُ بِتَحْقِيقَةِ الِاهْتِمَامُ. وَقَدْ صَحَّ وُرُودُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى سَبَبٍ لَا يَسْتَتِمُّ مَعْنَاهُ دُونَ فَهْمِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ، اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَلِيًّا، فَعَظُمَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَخَلُّفُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزَاتِهِ، وَمَا كَانَ عَهِدَ مُفَارَقَتَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِهِ، وَرَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَلْبِهِ، وَخَفَّفَ مِنْ كَرْبِهِ، وَقَالَ: لَمْ تَزَلْ مُسَاهِمِي فِي الْحُسْنَى وَالسُّوءَى، وَالنُّعْمَى وَالْبُوسَى، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُكَ عَلَى أَهْلِي كَمَا اسْتَخْلَفَ هَارُونَ مُوسَى. 48 - ثُمَّ نُعَارِضُهُمْ بِبَعْضِ مَا صَحَّ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا يَنْبَغِي لِقَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَهُمْ غَيْرُهُ» " وَقَالَ: «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ

إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» "، وَقَالَ: " «اقْتَدَوْا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ» " وَاسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ فِي مَرْضَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا ; فَقَالَ: صَحْبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ - فِي تَقَدُّمِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَضِيهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَامًا لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا؟ ؟ . 49 - وَالَّذِي عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِدُوا، وَغِبْنَا، وَاسْتَيْقَنُوا عَنْ عَيَانٍ، وَاسْتَرَبْنَا، وَكَانُوا قُدْوَةَ الْأَنَامِ، وَأُسْوَةَ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ عَذْلٌ وَمَلَامٌ، وَمَا كَانُوا بَعْدَ اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِرَسُولِهِ تَحْتَ اقْتِهَارٍ وَاقْتِسَارٍ، بَلْ كَانُوا مَالِكِينَ لِأَعِنَّةِ الِاخْتِيَارِ، لَا يُؤْثِرُونَ عَلَى الْحَقِّ أَحَدًا، وَلَا يَجِدُونَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا، وَلَمْ يُرْهِقْ وُجُوهَهُمُ الْكَرِيمَةَ وَهَجُ الْبِدَعِ، وَالْأَهْوَاءِ، وَلَمْ يَقْتَحِمُوا جَرَاثِيمَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ، كَالْبَيْضَةِ

الَّتِي لَا تَتَشَظَّى، وَإِنْ سِيمُوا مُخَالَفَةَ الْحَقِّ يَرْتَدُّوا كَالْجَحْمَةِ تَتَلَظَّى، فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ لَمْ يَفْهَمُوا عَلَى ذَكَاءِ الْقَرَائِحِ النُّصُوصَ الصَّرَائِحَ، وَيَفْطَنُ لَهَا الرُّعَاعُ الْهَمَجُ الْمُتَضَمِّخُونَ بِالْمَخَازِي وَالْفَضَائِحِ؟ ! ! . 50 - فَقَدْ بَطُلَ ادِّعَاءُ النَّصِّ وَطَاحَ، وَاسْتَبَانَ الْحَقُّ لِبَاغِيهِ وَلَاحَ، فَإِذَا نَجَزَ مِقْدَارُ غَرَضِنَا مِنَ الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ النُّصُوصِ، وَوَضَحَ بُطْلَانُ مَذْهَبِهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَسَبَقَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وُجُوبُ نَصْبِ الْإِمَامِ، فَقَدْ حَانَ الْآنَ أَنْ نُوَضِّحَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ هُوَ الْمُسْتَنَدُ الْمُعْتَقَدُ، وَالْمُعَوَّلُ الْمُعْتَضَدُ، فَنَقُولُ مُسْتَمْسِكِينَ بِحَبْلِ اللَّهِ الْمَتِينِ، وَفَضْلِهِ الْمُبِينِ، وَهُوَ الْمُعْتَصَمُ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ، وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبٌ: 51 - ثُبُوتُ الِاخْتِيَارِ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مُنْكِرِيهِ، وَتَحْقِيقُ الْغَرَضِ فِيهِ صَعْبُ الْمَدْرَكِ مُتَوَعِّرُ الْمَسْلَكِ عَلَى مَنْ لَا يَدْرِيهِ، وَمَنْ يُحَاوِرُهُ قَبْلَ الِاسْتِيثَاقِ بِمَا يُنَحِّيهِ عَنْ ظُلُمَاتِ التِّيهِ، عَسُرَ عَلَيْهِ تَلَافِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ رَمْزَةٍ إِلَى وَجْهِ الْإِشْكَالِ وَالْإِعْضَالِ فِي صِيغَةِ السُّؤَالِ، ثُمَّ نَعْطِفُ عَلَيْهِ الِانْفِصَالَ، مُتَضَمِّنًا ثَلَجَ الصَّدْرِ عَلَى الْكَمَالِ.

52 - فَإِنْ قِيلَ: لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ مَسَالِكُ الْعُقُولِ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالِاقْتِدَارِ عَلَى جَمْعِ الْعَالَمِينَ عَلَى الْبَاطِلِ عَلَى اضْطِرَارٍ، وَعَلَى خِيرَةٍ وَإِيثَارٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُسَوَّغًا فِي الْعَقْلِ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ عَلَى الْقَضَاءِ بِصِدْقِ الْمُجْمِعِينَ دَلِيلٌ، وَلَيْسَ إِلَى دَرْكِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الْمَعْقُولَاتِ سَبِيلٌ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَصٌّ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ لَا يُقْبَلُ التَّأْوِيلُ، وَلَيْسَ عَلَى الظَّوَاهِرِ الْقَابِلَةِ لِلتَّأْوِيلَاتِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ تَعْوِيلٌ، وَلَا مَطْمَعٌ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ عَنْهُ نَصٌّ فِي الْإِجْمَاعِ يَدْرَأُ الْمَعَاذِيرَ، وَيَقْطَعُ التَّجْوِيزَ وَالتَّقْدِيرَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» " نَقَلَهُ مَعْدُودُونَ مُحَدَّدُونَ، مُعَرَّضُونَ لِإِمْكَانِ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَّاتِ، عَلَى أَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ سَبِيلُ التَّأْوِيلَاتِ ; فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» ) أَنَّهَا لَا تَنْسَلِخُ عَنِ الْإِيمَانِ مُلَابَسَةً عَمَايَةُ الْجَهَالَةِ، فَيَكُونُ مَضْمُونُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْإِشْعَارَ بِأَمَانِ الْأُمَّةِ عَنِ الْمُنْقَلَبِ إِلَى الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ، وَإِنْ تَطَاوَلَتِ الْمُدَّةُ. 53 - فَإِذَا لَمْ نَجِدْ مَسْلَكًا فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ مَعْقُولًا، وَأَصْلًا

مَقْطُوعًا بِهِ فِي السَّمْعِ مَنْقُولًا، فَمَا مُسْتَنَدُ الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ بِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ؟ وَعَلَيْهِ مَدَارُ مُعْظَمِ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ وَإِلَيْهِ اسْتِنَادُ الْمَقَايِيسِ وَالْعِبَرِ، وَبِهِ اعْتِضَادُ الِاسْتِنْبَاطِ فِي طُرُقِ الْفِكَرِ، فَقَدْ عَظُمَ الْخَطَرُ، وَتَفَاقَمَ الْغَرَرُ، وَهَذَا مَضَلَّةُ الْأَنَامِ، وَمَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ، وَمَتَاهَةُ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَمَعْرِفَةُ الْغَوَّاصِ وَالْعَوَّامِ، وَمَا انْتَهَى الْمَهَرَةُ إِلَى مَسَاقِ هَذَا الْإِشْكَالِ وَمَذَاقِ هَذَا الْإِعْضَالِ ; فَضْلًا عَنِ الْمَطْمَعِ فِي الِانْفِصَالِ. 54 - فَأَنَا أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهِ الِاتِّكَالُ، فَأَقُولُ: إِذَا صَادَفْنَا عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ مُجْمِعِينَ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، مُتَّفِقِينَ عَلَى قَضِيَّةٍ فِي تَفَاصِيلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَلْفَيْنَاهُمْ قَاطِعِينَ عَلَى جَزْمٍ وَتَصْمِيمٍ، فِي تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَهُمُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَالْجَمْعُ الْكَثِيرُ، وَعَلِمْنَا بِارْتِجَالِ الْأَذْهَانِ أَنَّهُمْ مَا تَوَاطَئُوا عَلَى الْكَذِبِ عَلَى عَمْدٍ، وَمَا تَوَاضَعُوا عَلَى الِافْتِرَاءِ عَنْ قَصْدٍ، وَهُمْ مُتَبَدِّدُونَ فِي الْأَقْطَارِ، مُتَشَتِّتُونَ فِي الْأَمْصَارِ، مَعَ تَنَائِي الدِّيَارِ، وَتَقَاصِي الْمَزَارِ، لَا يَجْمَعُهُمْ رَابِطٌ عَلَى وَطَرٍ مِنَ الْأَوْطَارِ، ثُمَّ كَرَّتِ الدُّهُورُ، وَمَرَّتِ الْعُصُورُ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى قَطْعٍ مُسَدَّدٍ، مِنْ غَيْرِ رَأْيٍ مُرَدَّدٍ. وَالْأَحْكَامُ

فِي تَفَاصِيلِ الْمَسَائِلِ لَا تُرْشِدُ إِلَيْهَا الْعُقُولُ، فَنَتَبَيَّنُ أَنَّهُ حَمَلَهُمْ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ قَاطِعٌ شَرْعِيٌّ، وَمُقْتَضًى جَازِمٌ سَمْعِيٌّ، وَلَوْلَاهُ، لَاسْتَحَالَ أَنْ يَقْطَعُوا فِي مَظِنَّاتِ الظُّنُونِ، ثُمَّ يَتَّفِقُوا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ جَامِعٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّوَاضُعِ عَلَى الْكَذِبِ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّوا عَلَى ذَلِكَ، مَعَ امْتِدَادِ الْآمَادِ عَلَى اسْتِتْبَابٍ، وَاطِّرَادٍ. هَذَا مُحَالٌ وُقُوعُهُ فِي مُسْتَقَرِّ الِاعْتِيَادِ. 55 - وَإِنَّمَا يَتَّضِحُ حَقِيقَةُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِأَسْئِلَةٍ وَأَجْوِبَةٍ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: نَرَى أَهْلَ مَذْهَبٍ فِي الشَّرْعِ يَبْلُغُ عَدَدُهُمُ الْمَبْلَغَ الَّذِي وَصَفْتُمُوهُ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ مِثْلِهِمُ التَّوَاضُعُ كَمَا عَرَّفْتُمُوهُ، ثُمَّ هُمْ مُصَمِّمُونَ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ، وَلَوْ قُطِّعُوا مُثَلًا لَا يَبْغُونَ عَنْهُ حِوَلًا، ثُمَّ لَا يَدُلُّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُمُ الْحَقُّ، وَمُعْتَقَدَهُمُ الصِّدْقُ، قُلْنَا هَؤُلَاءِ وَإِنْ طَبَّقُوا طَبَقَ الْأَرْضِ، ذَاتِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ ظَانُّونَ، مُعْتَصِمُونَ بِأَسَالِيبِ الظُّنُونِ، وَلَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ خُصُومَهُمْ مُبْطِلُونَ، وَلَا يَبْعُدُ فِي مُطَّرَدِ الْعَادَاتِ اجْتِمَاعُ أَقْوَامٍ عَلَى فُنُونٍ مِنْ طَرَائِقِ الظُّنُونِ، وَمُتَابَعَتُهُمْ مَسْلَكًا مَخْصُوصًا.

فَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَدَدِ عَلَى دَعْوَى الْقَطْعِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ مُتَلَقَّى مِنَ السَّمْعِ، مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ إِلَى قَاطِعٍ فِي الشَّرْعِ، فَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى الضَّرُورَةِ، لَا يُجَوِّزُهُ ذُو تَحْصِيلٍ، وَكَيْفَ يَجُوزُ ذُهُولُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَنِ اعْتِرَاضِ الظُّنُونِ الْهَاجِسَةِ فِي النُّفُوسِ، الْخَاطِرَةِ فِي أَدْرَاجِ الْفِكْرِ وَالْحُدُوسِ؟ ، حَتَّى يَحْسَبُوا الْمَظْنُونَ فِي الشَّرْعِ مَعْلُومًا، وَالْمَشْكُوكَ فِيهِ مَقْطُوعًا بِهِ مَفْهُومًا، وَيَتَّفِقُوا عَلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُوجِبُ الْقَطْعَ. هَذَا يَكُونُ تَجْوِيزُهُ هُجُومًا عَلَى جَحْدِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَاقْتِحَامًا لِوَرَطَاتِ الْجَهَالَاتِ، وَخَرْقًا لِمُوجَبِ الْعَادَاتِ، فَأَمَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظُنُونِ جَمْعٍ أَمْرٌ عَنْ قَوْلِ رَجُلٍ ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، مُسْتَقِيمِ الْحَالَةِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ ظَانُّونَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدْعًا عُرْفًا وَشَرْعًا، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحِيلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْعِلْمِ فِي السَّمْعِيَّاتِ، وَالْإِطْبَاقِ عَلَى ادِّعَاءِ الْيَقِينِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَى قَاطِعٍ يَقْتَضِي الْإِجْمَاعَ مِنْ عَدَدٍ لَا يَجُوزُ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ وَالتَّوَاضُعُ. 56 - فَإِنْ قِيلَ: قُصَارَى هَذَا الِانْفِصَالِ عَمَّا تُوُجِّهَ مِنَ السُّؤَالِ، أَنَّ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبَ الْإِمَامِ لَا يَدَّعُونَ عِلْمًا، وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ

غَلَبَةُ ظَنٍّ، صَدَرُهَا عَنْ تَرْجِيحٍ وَتَلْوِيحٍ، وَنَحْنُ الْآنَ نُلْزِمُكُمْ مَا لَا تَجِدُونَ إِلَى دَرْئِهِ سَبِيلًا. 57 - فَنَقُولُ: النَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ مُصَمِّمُونَ عَلَى فَاسِدِ عَقْدِهِمْ دِينًا، وَلَوْ صُبَّ عَلَيْهِمْ صُنُوفُ الْعَذَابِ صَبًّا، مَا ازْدَادُوا فِي مُعْتَقَدِهِمْ إِلَّا نِضَالًا وَذَبًّا، وَلَوِ اعْتُمِدَ أَضْعَفُهُمْ مُنَّةً فَنُشِرَ بِالْمِنْشَارِ لَمَا آثَرَ نُكُولًا وَرُجُوعًا، وَهُمْ مُطْبِقُونَ أَنَّ عَقْدَهُمُ الْيَقِينُ الْمُبِينُ، وَالدِّينُ الْمَتِينُ، وَعَدَدُهُمْ يُبِرُّ عَلَى عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ بِأَضْعَافٍ مُضَعَّفَةٍ، وَخِطَّةُ الْإِسْلَامِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى دِيَارِ الْكُفَّارِ كَالشَّامَةِ الْبَيْضَاءِ فِي مَسْكِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ. 58 - وَهَذَا سُؤَالٌ عَظِيمُ الْوَقْعِ فِي الْإِجْمَاعِ الْوَاجِبِ الِاتِّبَاعِ فِي الشَّرْعِ، وَلَا يَحِلُّ مُعْوَصَهُ إِلَّا مُوَفَّقٌ، بَلْ لَا يَنْتَهِي إِلَى غَائِلَةِ السُّؤَالِ إِلَّا مُحَقِّقٌ، وَلَيْسَ يَلِيقُ الِانْتِهَاءُ إِلَى هَذِهِ الْمُعَاصَاتِ فِي التَّحْقِيقِ بِمِقْدَارِ غَرَضِنَا فِي ذِكْرِ أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ، وَلَكِنْ صَادَفْتُ نَشْطَةً وَهِزَّةً إِلَى الْمَجْلِسِ الْأَسْمَى، وَوَافَقْتُ بَسْطَةً، فَأَرْخَيْتُ فَضْلَ

عِنَانِي، وَأَطَلْتُ عَذَبَةَ لِسَانِي، وَانْتَهَيْتُ إِلَى مَأْزِقٍ وَمَضَايِقَ فِي مَدَارِجِ الْحَقَائِقِ، يَتَوَعَّرُ فِيهَا الْعَطِنُ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهَا الْفَطِنُ، وَيَضِيقُ فِيهَا نِطَاقُ النُّطْقِ، وَيَعْسُرُ فِيهَا لِحَاقُ الْحَقِّ، وَيَتَخَايَلُ فِيهَا الْقُرَّحُ عَنْ شَأْوِ السَّبْقِ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَعِينَ بِاللَّهِ مُوَفَّقٌ، وَالْمُتَبَرِّيَ عَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِالصَّوَابِ مُسْتَنْطَقٌ، وَحَقَّ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ فِي مَشْرَعِ الشَّرْعِ مَكْرَعٌ، وَفِي رَتْعِ الدِّينِ مَرْتَعٌ، إِذَا انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، وَأَفْضَى بِهِ النَّظَرُ إِلَى سِرِّ هَذَا الْكَلَامِ، أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ دُفِعَ إِلَى خَطْبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْخُطُوبِ الْجِسَامِ ; فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مَنَاطُ الْأَحْكَامِ، وَنِظَامُ الْإِسْلَامِ، وَقُطْبُ الدِّينِ، وَمُعْتَصَمُ الْمُسْلِمِينَ، وَمُعْظَمُ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى مُجْتَهَدَاتٍ فِي مُلْتَطَمِ الْخِلَافِ، وَمُسْتَنَدُهَا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَسَائِلُ الْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ مِنْ وَرَائِهَا نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ، وَأَلْفَاظٌ صَحِيحَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْأَصْلُ

فِيهَا الْإِجْمَاعُ إِذًا ; فَمَنْ لَمْ يَثِقْ بِالْأَصْلِ الَّذِي مِنْهُ الِاسْتِثَارَةُ وَالِاسْتِنْبَاطُ، كَيْفَ يَعْدِلُ فِي مَسَالِكِ التَّحَرِّي وَالتَّأَخِّي مِعْيَارُهُ؟ ؟ وَأَنَا لَمْ أُطْنِبْ فِي التَّشْرِيفِ وَأَنَا أُقِيمُ لِهَذَا السُّؤَالِ وَزْنًا، وَلَكِنْ رُمْتُ تَنْبِيهَ الْقَرَائِحِ لِتُدْرَكَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَعْنَى. 59 - وَأَنَا الْآنَ أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، فَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ؛ فَأَقُولُ مَدَارُ الْكَلَامِ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْعُرْفِ وَاطِّرَادِهِ، وَبَيَانِ اسْتِحَالَةِ جَرَيَانِهِ حَائِدًا عَنْ مَأْلُوفِهِ وَمُعْتَادِهِ، فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّوَلِ، وَالْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، فَالْعُرْفُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى اتِّبَاعِ شَوْفٍ وَمَطْمَحٍ يَجْمَعُ شَتَاتَ الْآرَاءِ، وَيُؤَلِّفُ افْتِرَاقَ الْأَهْوَاءِ ; وَلِهَذَا السَّبَبِ انْتَظَمَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَوِ اسْتَرْسَلَ النَّاسُ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ الْمُتَبَايِنَةِ فِي الْإِرَادَاتِ وَالْمُنَى، وَتَقَطَّعُوا أَيَادِيَ سَبَا، لَاسْتَحَالَ الْكَوْنُ وَالْبَقَاءُ، وَلَهَلَكَ فِي النِّزَاعِ وَالدِّفَاعِ الْجَمَاهِيرُ وَالدَّهْمَاءُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا، تَرَكَهُمْ سُدًى، يَخْتَبِطُونَ بِلَا وَزَرٍ، فَإِذْ ذَاكَ يَتَهَافَتُونَ عَلَى وَرَطَاتِ

الْغَرَرِ، وَيَتَهَاوُونَ فِي مَهَاوِي الْخَطَرِ. وَمِلَاكُ الْأُمُورِ كُلِّهَا مِلَّةٌ تَدْعُو إِلَى الْقُرُبَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَتَزْجُرُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُوبِقَاتِ، وَمُرْتَبَطُهَا الْأَنْبِيَاءُ الْمُؤَيَّدُونَ بِالْآيَاتِ، وَإِيَالَةٌ قَهْرِيَّةٌ تَضُمُّ النَّشْرَ مِنَ الْآرَاءِ الْمُتَنَاقِضَةِ، وَمُتَعَلَّقُهَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الْمُمَدُّونَ بِالْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَأَسْبَابِ الْمُوَاتَاةِ، فَمَا كَانَ مِنِ اتِّسَاقٍ وَاتِّفَاقٍ مُسْتَنَدُهُ دِينٌ أَوْ مَلِكٌ، فَلَيْسَ وُقُوعُهُ بَدِيعًا، وَمَا ذَكَرُوهُ جَمِيعًا فِي هَذَا الصِّنْفِ فِي مُسْتَقَرِّ الْعُرْفِ، وَأَمَّا مَا جَعَلْنَاهُ مُتَمَسَّكًا فِي الْإِجْمَاعِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى حُكْمٍ مُعَيَّنٍ فِي مَسْأَلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهَذَا التَّعَيُّنُ لَا تَقْتَضِيهِ إِيَالَةٌ مِلْكِيَّةٌ قَهْرِيَّةٌ، وَلَا قَضِيَّةٌ دِينِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، وَيَسْتَحِيلُ إِجْمَاعُ عَدَدٍ عَظِيمٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ سَبَبٍ جَامِعٍ، كَمَا يَسْتَحِيلُ إِجْمَاعُ الْعَالَمِينَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمٍ عَلَى قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ، أَوْ أَكْلٍ أَوْ نَوْمٍ، مَعَ اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، وَتَبَايُنِ الْجِبِّلَّاتِ وَالْخَلْقِ وَالْأَخْلَاقِ، فَحُصُولُ الِاتِّفَاقِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ وِفَاقٍ يُفْضِي إِلَى الِانْخِرَامِ فِي مُطَّرَدِ الْعُرْفِ وَالِانْخِرَاقِ. فَقَدْ تَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ عَلَى

الإجماع في نفسه ليس حجة

الْقَطْعِ فِي مَسْأَلَةٍ مَظْنُونَةٍ، لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِيهَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مَقْطُوعٍ بِهِ سَمْعِي. 60 - فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ سَبَبُ الْإِجْمَاعِ خَبَرًا مَثَلًا مَقْطُوعًا بِهِ، لَلَهِجَ الْمُجْمِعُونَ بِنَقْلِهِ. قُلْنَا: لَا نُبْعِدُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَنْ سَبَبٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، ثُمَّ يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِالْوِفَاقِ، وَيُضْرِبُ الْمُجْمِعُونَ عَنْ نَقْلِ السَّبَبِ ; لِقِلَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَسْتَفِيضُ عِنْدَ وُقُوعِهِ، ثُمَّ يُمْحَقُ وَيُدْرَسُ، حَتَّى يُنْقَلَ آحَادًا، ثُمَّ يَنْطَمِسُ حَتَّى لَا يُنْقَلَ، وَيَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِمَا يَنْعَقِدُ الْوِفَاقُ عَلَيْهِ، وَوُضُوحُ ذَلِكَ يُغْنِي أَصْحَابَ الْمَعَارِفِ بِالْعُرْفِ عَنِ الْإِطْنَابِ فِي تَقْرِيرِهِ. [الإجماع في نفسه ليس حجة] 61 - فَإِنْ قِيلَ: فَالْحُجَّةُ إِذًا مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ مُقَدَّرًا، وَلَيْسَ الْإِجْمَاعُ فِي نَفْسِهِ دَلِيلًا. قُلْنَا: الْآنَ لَمَّا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَبَرِحَ الْخَفَاءُ، فَالْحَقُّ الْمُتَّبَعُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ حُجَّةً، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنَ الْمُجْمِعِينَ الِاسْتِقْلَالُ بِإِنْشَاءِ حُكْمٍ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا يُعْتَقَدُ فِيهِمُ الْعُثُورُ عَلَى أَمْرِ

جَمْعِهِمْ عَلَى الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَالْإِجْمَاعُ مُشْعِرٌ بِهِ. وَلَيْسَ قَوْلُ الْمُجْمِعِينَ بِأَعْلَى مَنْصِبًا مِنْ قَوْلِ الْمُصْطَفَى. وَلَا يَسْتَرِيبُ مُحَصِّلٌ أَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَقِلُّ دَلِيلًا، وَلَا يَنْهَضُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْحَقِّ سَبِيلًا، وَلَكِنَّ الْمُعْجِزَةَ شَهِدَتْ بِعِصْمَتِهِ، وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ فِيمَا يَنْقُلُهُ عَنْ إِلَهِ الْخَلْقِ. فَالْعُقُولُ وَالنُّهَى قَاضِيَةٌ بِأَنَّ إِلَى اللَّهِ الْمُنْتَهَى، فَأَمْرُهُ الْمُطَاعُ حَقًّا، وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ صِدْقًا، وَالْإِجْمَاعُ مُشْعِرٌ بِحُجَّةٍ تَقْدُمُ الْوِفَاقَ سَبْقًا. 62 - فَلْيَنْظُرِ الْمُوَفَّقُ اللَّبِيبُ إِلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْعَجِيبِ: قَدَّمْنَا وَجْهَ الْإِشْكَالِ، وَضِيقَ الْمَجَالِ فِي صِيغَةِ سُؤَالٍ، ثُمَّ افْتَتَحْنَا فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ قَاعِدَةً لَمْ نُسْبَقْ إِلَيْهَا، وَلَمْ نُزْحَمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ لَمْ نُبْدِ الْمَقْصُودَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، هُجُومًا فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ، بَلْ رَأَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ الْمَسَالِكَ إِلَى مَدَارِكِ الْحَقِّ وَظَائِفَ مُتَرَتِّبَةً وَنُجُومًا، وَاشْتَمَلَتِ الْأَسْئِلَةُ الْمُدْرَجَةُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الِانْتِهَاءِ إِلَى مُعَاصَاتِ الْإِشْكَالِ،

اختيار الإمام

وَانْطَوَتْ طُرُقُ الِانْفِصَالِ عَلَى إِيضَاحِ الْحَقِّ فِي صِيغَةٍ هِيَ السِّحْرُ الْحَلَالُ، ثُمَّ لَمَّا فَضَضْنَا خِتَامَ كُلِّ مُبْهَمٍ مُجْمَلٍ، نَصَصْنَا عَلَى الْغَرَضِ وَطَبَّقْنَا الْمِفْصَلَ. وَقَدْ تَجَاوَزْنَا حَدَّ الِاقْتِصَادِ قَلِيلًا ; فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ لِلْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْإِمَامَةِ سِوَى الْإِجْمَاعِ تَعْوِيلًا، فَآثَرْنَا أَنْ نُورِدَ فِي إِثْبَاتِهِ كَلَامًا بَالِغًا يَنْجَحُ بِهِ الْمُنْتَهِي، وَيَسْتَقِلُّ بِهِ الشَّادِي الْمُبْتَدِي. [اخْتِيَارُ الْإِمَامِ] فَصلٌ. اخْتِيَارُ الْإِمَامِ. 63 - وَنَحْنُ بَعْدَ تَقْدِيمِ ذَلِكَ نَخُوضُ فِي إِثْبَاتِ الِاخْتِيَارِ فَنَقُولُ: اتَّفَقَ الْمُنْتَمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى تَفَرُّقِ الْمَذَاهِبِ، وَتَبَايُنِ الْمَطَالِبِ، عَلَى ثُبُوتِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ سَبِيلَ إِثْبَاتِهَا النَّصُّ أَوْالِاخْتِيَارُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالطُّرُقِ الْقَاطِعَةِ وَالْبَرَاهِينِ اللَّامِعَةِ بُطْلَانُ مَذَاهِبِ أَصْحَابِ النُّصُوصِ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالِاعْتِبَارِ إِلَّا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَعْتَمِدَ إِثْبَاتَ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى إِبْطَالِ مَذَاهِبِ مُدَّعِي النُّصُوصِ أَسْنَدْنَاهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ قَائِلِينَ:

64 - إِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ انْقَضَتْ أَيَّامُهُمْ، وَتَصَرَّمَتْ نُوَبُهُمْ، وَانْسَحَبَتْ عَلَى قِمَمِ الْمُسْلِمِينَ طَاعَتُهُمْ، وَكَانَ مُسْتَنَدُ أُمُورِهِمْ صَفْقَةُ الْبَيْعَةِ. فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِيَّ عَهْدِهِ، وَتَعَيَّنَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الشُّورَى بِالْبَيْعَةِ، وَلَمَّا انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَبَ الْبَيْعَةَ، فَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَمَنْ حَاوَلَ بَسْطَ مَقَالٍ فِي إِيضَاحِ اسْتِنَادِ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ إِلَى الْبَيْعَةِ كَانَ مُتَكَلِّفًا مُشْتَغِلًا بِمَا يُغْنِي الظُّهُورُ وَالتَّوَاتُرُ عَنْهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ هُوَ الْمُعْتَصَمُ الْأَقْوَى، وَالْمُتَعَلَّقُ الْأَوْفَى، فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْوَسِيلَةُ وَالذَّرِيعَةُ، إِلَى اعْتِقَادٍ قَاطِعٍ سَمْعِيٍّ كَمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ تَقْرِيرُهُ. 65 - فَإِنْ قِيلَ هَذَا تَدْلِيسٌ وَتَلْبِيسٌ ; فَإِنَّكُمْ قَدَّمْتُمْ فِي خَلَلِ

الْكَلَامِ الَّذِي سُقْتُمُوهُ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّ مَا يَتَّفِقُ مِنِ اجْتِمَاعٍ فِي الْإِيَالَاتِ الْمِلْكِيَّةِ، وَالسِّيَاسَاتِ الْقَهْرِيَّةِ، وَمَا يُفْرَضُ فِيهَا مِنْ إِذْعَانِ جَمَاعَةٍ وَبَذْلِ طَاعَةٍ لَا يُشْعَرُ بِحَقٍّ وَلَا بَاطِلٍ، وَمَيَّزْتُمُ الْإِجْمَاعَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَالِكِ بِرَدِّهِ إِلَى اجْتِمَاعٍ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي قَضِيَّةً جَامِعَةً، ثُمَّ عُدْتُمْ فَاسْتَدْلَلْتُمْ فِي الْإِمَامَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الدُّوَلِ، وَأَرْفَعُ الْمَنَاصِبِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاضِحٌ، وَتَهَافُتٌ فِي الْكَلَامِ لَائِحٌ. قُلْنَا: هَذَا كَلَامُ مَنْ يَبْغِي الْأَسْمَاءَ وَالْأَلْقَابَ، وَيُؤْثِرُ الْإِضْرَابَ عَنْ لُبَابِ الْأَلْبَابِ. وَكَأَنَّ السَّائِلَ يَرَانَا نُدِيرُ ذِكْرَ الْوِلَايَةِ، فَاسْتَمْسَكَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ وَدِرَايَةٍ، وَذَهَلَ عَنِ الْمَقْصِدِ وَالنِّهَايَةِ، وَهَذَا الْفَنُّ يَعُودُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ إِلَى مُلْتَطَمِ الْعَمَايَةِ، وَظُلُمَاتِ الْغِوَايَةِ، فَنَقُولُ: مَحَلُّ تَعَلُّقِنَا بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْهَمَّ بِالْبَيْعَةِ وَالْإِقْدَامَ عَلَيْهَا فِي الزَّمَانِ الْمُتَطَاوِلِ كَانَ أَمْرًا جَازِمًا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ مَقَالِيدُ الْوِلَايَاتِ قَبْلَ اسْتِمْرَارِهَا، وَيُرْبَطُ بِهِ عَقْدُ الْوِلَايَةِ وَالرَّايَاتِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا، ثُمَّ تَنَاقَلَهُ الْخَلَائِقُ عَلَى تَفَنُّنِ الطَّرَائِقِ، وَلَمْ يُبْدَ أَحَدٌ مِنْ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَكِيرًا، وَيَسْتَحِيلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قَاطِعٍ أَحَاطَ بِهِ الْمُجْمِعُونَ. 66 - نَعَمْ. إِنَّمَا يَجْرِي بِاتِّبَاعِ ذَوِي الْأَمْرِ عَلَى الْحَقِّ أَوِ

الْبَاطِلِ - الْعُرْفُ. وَإِذَا اسْتَقَرَّ الْمَلِكُ فِي النِّصَابِ، وَأَذْعَنَتِ الرِّقَابُ، وَاسْتَتَبَّتِ الْأَسْبَابُ، فَإِذْ ذَاكَ قَدْ يَحْمِلُ الرَّعِيَّةَ عَلَى قَضِيَّةٍ قَهْرِيَّةٍ ; فَيَتَوَاطَئُونَ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَلَا يَرَوْنَ لِلِانْسِلَالِ عَنْ طَاعَتِهِ وَجْهًا. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخْلُفْهُ ذُو نَجْدَةٍ وَاقْتِهَارٍ، وَصَاحِبُ أَيْدٍ وَمِنَّةٍ وَاقْتِسَارٍ تَوَلَّى بِعَدَدٍ وَعُدَدٍ، وَأَشْيَاعٍ وَأَنْصَارٍ، وَتَرَكَ النَّاسَ عَلَى نُفُوسٍ أَبِيَّةٍ، وَهِمَمٍ عَنِ الْقَمَاءَةِ وَالذِّلَّةِ عَلِيَّةٍ، وَطَرَائِقَ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ مَرْضِيَّةٍ، وَهُمْ عَلَى خِيَرَتِهِمْ فِيمَا يَذَرُوَنَ وَيَأْتُونَ، فَاسْتَمْسَكُوا بِالْبَيْعَةِ فِي الْأَمْرِ الْأَعْظَمِ الْأَهَمِّ، وَالْخَطْبِ الْأَطَمِّ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا وَإِنَّمَا تَرَدَّدُوا فِي تَعْيِينِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ اسْتَقَامُوا لِيَاذًا، وَمَا كَانَ لِيَاذُ الْمَاضِينَ بِالْبَيْعَةِ فِي مَاضِي الدَّهْرِ صَادِرًا عَنْ جَامِعٍ قَهْرِيٍّ، بَلْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْإِمَامَةِ، ثُمَّ بَعْدَهَا الِاتِّبَاعُ وَاتِّسَاقُ الطَّاعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِشْكَالٌ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَبُطْلَانِ الْمَصِيرِ عَلَى ادِّعَاءِ النَّصِّ. 67 - فَإِنْ قِيلَ: قَدْ حَصَرْتُمْ عَقْدَ الْإِمَامَةِ فِي الِاخْتِيَارِ، وَأَجْرَيْتُمْ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ تَوْلِيَةَ الْعَهْدِ الصَّادِرِ مِنَ الْإِمَامِ.

قُلْنَا: سَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ مُوَضَّحًا مُنَقَّحًا مُصَحَّحًا فِي بَابِهِ، وَلَكِنَّا لَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي أَصْلِ الْإِمَامَةِ حَصَرْنَاهَا بَعْدَ بُطْلَانِ النَّصِّ فِي الِاخْتِيَارِ، وَالتَّوْلِيَةِ فِي الْعُهُودِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِمَامَةِ. فَهَذَا مَا أَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

الباب الثالث في صفات الذين هم من أهل عقد الإمامة وتفصيل القول في عددهم

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي صِفَاتِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَتَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي عَدَدِهِمْ] [مقدمة الباب في بيان سبب الخبط والتخليط في موضوع الإمامة] الْبَابُ الثَّالِثُ. فِي صِفَاتِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ، وَتَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي عَدَدِهِمْ. 68 - مَضْمُونُ هَذَا الْبَابِ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي صِفَاتِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ. وَالثَّانِي: فِي تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي عَدَدِهِمْ. 69 - وَنَحْنُ نُقَدِّمُ إِلَى الْفَصْلَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِهِ ; فَنَقُولُ: قَدْ كَثُرَ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ الْخَبْطُ وَالتَّخْلِيطُ وَالْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ، وَلَمْ يَخْلُ فَرِيقٌ - إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ - عَنِ السَّرَفِ وَالِاعْتِسَافِ، وَلَمْ تَسْلَمْ طَائِفَةٌ إِلَّا الْأَقَلُّونَ عَنْ مُجَانَبَةِ الْإِنْصَافِ، وَهَلَكَ أُمَمٌ فِي تَنَكُّبِ سَنَنِ السَّدَادِ، وَتَخَطِّي مَنْهَجِ الِاقْتِصَادِ! ! ! . وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي ذَلِكَ، أَنَّ مُعْظَمَ الْخَائِضِينَ فِي هَذَا الْفَنِّ يَبْغُونَ مَسْلَكَ الْقَطْعِ فِي مَجَالِ الظَّنِّ، وَيَمْزُجُونَ عَقْدَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى ;

وَيَتَهَاوَوْنَ بِالْغُلُوِّ عَلَى مَوَارِدِ الرَّدَى، وَيَمْرَحُونَ فِي تَعَالِيلِ النُّفُوسِ وَالْمُنَى. 70 - وَهَذَا الْكِتَابُ عَلَى الْجُمْلَةِ قَلِيلُ الْجَدْوَى، عَظِيمُ الْخَطَرِ ; لَا يَنْجُو مَنْ يَقْتَحِمُ جَرَاثِيمَهُ مَنْ تَعَدَّى حَدَّ النَّصَفَةِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. وَنَحْنُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ نَذْكُرُ فِيهِ مُعْتَبَرًا يَتَمَيَّزُ بِهِ مَوْضِعُ الْقَطْعِ عَنْ مَحَلِّ الظَّنِّ فَنَقُولُ: 71 - الْعِلْمُ يُتَلَقَّى مِنَ الْعَقْلِ أَوْ مِنَ الشَّرْعِ، وَأَسَالِيبُ الْعُقُولِ بِمَجْمُوعِهَا لَا تَجُولُ فِي أُصُولِ الْإِمَامَةِ وَفُرُوعِهَا. وَالْقَوَاطِعُ الشَّرْعِيَّةُ ثَلَاثَةٌ: * نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّأْوِيلُ. * وَخَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعَارِضُ إِمْكَانُ الزَّلَلِ رِوَايَتَهُ وَنَقْلَهُ، وَلَا تَقَابُلُ الِاحْتِمَالَاتِ مَتْنَهُ وَأَصْلَهُ. * وَإِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ.

72 - فَإِذًا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُطْلَبَ مَسَائِلُ الْإِمَامَةِ مِنْ أَدِلَّةِ الْعَقْلِ، بَلْ تُعْرَضُ عَلَى الْقَوَاطِعِ السَّمْعِيَّةِ. وَلَا مَطْمَعَ فِي وِجْدَانِ نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَفَاصِيلِ الْإِمَامَةِ. وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ مُعْوِزٌ أَيْضًا ; فَآلَ مَآلُ الطَّلَبِ فِي تَصْحِيحِ الْمَذْهَبِ إِلَى الْإِجْمَاعِ، فَكُلُّ مُقْتَضَى أَلْفَيْنَاهُ مُعْتَضِدًا بِإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ، فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَكُلُّ مَا لَمْ يُصَادَفْ فِيهِ إِجْمَاعًا اعْتَقَدْنَاهُ وَاقِعَةً مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَعَرَضْنَاهُ عَلَى مَسَالِكِ الظُّنُونِ عَرْضَنَا سَائِرَ الْوَقَائِعِ، وَلَيْسَتِ الْإِمَامَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ ; بَلْ هِيَ وِلَايَةٌ تَامَّةٌ عَامَّةٌ، وَمُعْظَمُ الْقَوْلِ فِي الْوُلَاةِ وَالْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مَظْنُونَةٌ فِي التَّأَخِّي وَالتَّحَرِّي، وَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - لِلْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَسْطُرِ، وَاتَّخَذَهَا فِي الْمُعْوِصَاتِ مَآبَهُ وَمَثَابَهُ، لَمْ يَعْتَصْ عَلَيْهِ مُعْضِلٌ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مُشْكِلٌ، وَسَرَدَ الْمَقْصُودَ عَلَى مُوجَبِ الصَّوَابِ بِأَجْمَعِهِ، وَوَضَعَ كُلَّ مَعْلُومٍ وَمَظْنُونٍ فِي مَوْضِعِهِ وَمَوْقِعِهِ. وَالْآنَ نَبْدَأُ بِتَفْصِيلِ صِفَاتِ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالِاخْتِيَارِ.

الفصل الأول في صفة أهل الاختيار

[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ. 73 - فَلْتَقَعِ الْبِدَايَةُ بِمَجَالِ الْإِجْمَاعِ فِي صِفَةِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ ثُمَّ نَنْعَطِفُ عَلَى مَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ وَالظُّنُونِ. فَمَا نَعْلَمُهُ قَطْعًا أَنَّ النِّسْوَةَ لَا مَدْخَلَ لَهُنَّ فِي تَخَيُّرِ الْإِمَامِ وَعَقْدِ الْإِمَامَةِ، فَإِنَّهُنَّ مَا رُوجِعْنَ قَطُّ، وَلَوِ اسْتُشِيرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ امْرَأَةٌ ; لَكَانَ أَحْرَى النِّسَاءِ وَأَجْدَرُهُنَّ بِهَذَا الْأَمْرِ فَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - ثُمَّ نِسْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَحْنُ بِابْتِدَاءِ الْأَذْهَانِ نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُنَّ فِي هَذَا الْمَجَالِ مَخَاضٌ فِي مُنْقَرَضِ الْعُصُورِ وَمَكَرِّ الدُّهُورِ. وَكَذَلِكَ لَا يُنَاطُ هَذَا الْأَمْرُ بِالْعَبِيدِ، وَإِنْ حَوَوْا قَصَبَ السَّبْقِ فِي الْعُلُومِ. وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَذَوِي الْأَحْلَامِ. وَلَا مَدْخَلَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي نَصْبِ الْأَئِمَّةِ.

فَخُرُوجُ هَؤُلَاءِ عَنْ مَنْصِبِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ. فَهَذَا مَبْلَغُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْفَصْلِ. 74 - فَأَمَّا الْمَظْنُونُ مِنْهُ، فَقَدْ ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِعَقْدِ الْإِمَامَةِ إِلَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَجْمِعُ لِشَرَائِطِ الْفَتْوَى. وَذَهَبَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ فِي عُصَبٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّا لَا نَشْتَرِطُ بُلُوغَ الْعَاقِدِ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ ذَا عَقْلٍ وَكَيْسٍ وَفَضْلٍ وَتَهَدٍّ إِلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَبَصِيرَةٍ مُتَّقِدَةٍ بِمَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَبِمَا يُشْتَرَطُ اسْتِجْمَاعُ الْإِمَامِ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ. وَنَحْنُ نُوَجِّهُ الْمَذْهَبَيْنِ بِمَا يَقَعُ بِهِ الْإِقْنَاعُ، ثُمَّ نَذْكُرُ مَا يَلُوحُ لَنَا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. 75 - فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَجْمِعْ خِصَالَ الْمُفْتِينَ، فَنَقُولُ: الْغَرَضُ تَعْيِينُ قُدْوَةٍ وَتَخَيُّرُ أُسْوَةٍ، وَعَقْدُ الزَّعَامَةِ لِمُسْتَقِلٍّ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُعَيِّنُ الْمُتَخَيِّرُ عَالِمًا بِصِفَاتِ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الشَّأْنِ - لَأَوْشَكَ

أَنْ يَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَيَجُرَّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ضِرَارًا بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ الْعَوَامُّ، وَمَنْ لَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ. وَالنِّسْوَانُ لَازِمَاتٌ خُدُورَهُنَّ، مُفَوِّضَاتٌ أُمُورَهُنَّ إِلَى الرِّجَالِ الْقَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ، لَا يَعْتَدْنَ مُمَارَسَةَ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَبْرُزْنَ فِي مُصَادَمَةِ الْخُطُوبِ بُرُوزَ الرِّجَالِ، وَهُنَّ قَلِيلَاتُ الْغَنَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِبْرَامِ الْعَزَائِمِ وَالْآرَاءِ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُنَّ لَا يَسْتَقْلِلْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ فِي التَّزْوِيجِ. وَالْعَبِيدُ - وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ آرَاءُ - مَرْعِيُّونَ تَحْتَ اسْتِسْخَارِ السَّادَةِ، لَا يَتَفَرَّغُونَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ لِلْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ، وَكَأَنَّهُمْ مَعَ إِرَادَتِهِمُ الثَّاقِبَةِ لَا رَأْيَ لَهُمْ. 76 - فَأَمَّا الْأَفَاضِلُ الْمُسْتَقِلُّونَ، الَّذِينَ حَنَّكَتْهُمُ التَّجَارِبُ، وَهَذَّبَتْهُمُ الْمَذَاهِبُ، وَعَرِفُوا الصِّفَاتِ الْمَرْعِيَّةَ فِيمَنْ يُنَاطُ بِهِ أَمْرُ الرَّعِيَّةِ، فَهَذَا الْمَبْلَغُ كَافٍ فِي بَصَائِرِهِمْ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ مَا لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ. وَقَدْ تَمَهَّدَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ أَنَّا نَكْتَفِي فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ ; فَيَكْفِي فِي الْمُقَوِّمِ الْعِلْمُ بِالْأَسْعَارِ وَالدُّرْبَةُ التَّامَّةُ مَعَ

الْكَيْسِ فِي صِفَاتِ الْمُقَوَّمَاتِ، وَيَقَعُ الِاجْتِزَاءُ فِي الْقَسَّامِ بِمَعْرِفَةِ الْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، وَكَيْفِيَّةِ تَعْدِيلِ السِّهَامِ. وَيُرَاعَى فِي الْخَارِصِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ، وَإِذَا بَعَثْنَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ، وَقَدْ شَجَرَتْ بَيْنَهُمَا الْمُنَازَعَةُ، وَنَشَبَتِ الْخُصُومَةُ وَالْمُدَافَعَةُ، وَاعْتَاصَ الظَّالِمُ مِنْهُمَا حَكَمَيْنِ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ نَصُّ الْقُرْآنِ، لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَا مُجْتَهِدَيْنِ، بَلْ يَكْفِي عِلْمُهُمَا بِحُقُوقِ النِّكَاحِ، وَتَفَطُّنُهُمَا لِعَادَاتِ التَّعَاشُرِ، وَإِحَاطَتُهُمَا بِمَا يَدِقُّ وَيَجِلُّ مِنْ هَذَا الْفَنِّ. فَالْفَاضِلُ، الْفَطِنُ، الْمُطَّلِعُ عَلَى مَرَاتِبِ الْأَئِمَّةِ، الْبَصِيرُ بِالْإِيَالَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ، وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا، مُتَّصِفٌ بِمَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ فِي تَخَيُّرِ الْإِمَامِ. 77 - وَأَمَّا مَنْ شَرَطِ كَوْنَ الْعَاقِدِ مُفْتِيًا، فَمُعْتَصَمُهُ أَنَّا نَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُجْتَهِدًا كَمَا سَيَأْتِي فِي ذَلِكَ مَشْرُوحًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - فِي صِفَاتِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا مُحِيطَ بِالْمُجْتَهِدِ إِلَّا مُجْتَهِدٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُتَخَيِّرُ الْعَاقِدُ مُفْتِيًا، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ مِنَ الَّذِي يُنَصِّبُهُ إِمَامًا. 78 - وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَقُولُوا: قَدْ يَظْهَرُ بِالتَّسَامُعِ وَالْإِطْبَاقِ مِنْ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ كَوْنُ الشَّخْصِ مُجْتَهِدًا، فَلْيَقَعْ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ.

وَالَّذِي يُوَضِّحُ الْمَقْصِدَ مِنْهُ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ لَا يُعَوِّلَ فِيمَا يَبْغِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا عَلَى مَنْ يَرَاهُ مُجْتَهِدًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحِلَّ مَسَائِلَهُ بِكُلِّ مَنْ يَتَلَقَّبُ بَاسِمِ عَالِمٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يُدْرِكَ ذَلِكَ عَامِّيٌّ مُسْتَفْتٍ، فَمَا الظَّنُّ بِمَرْمُوقٍ مِنْ أَفَاضِلِ النَّاسِ؟ ؟ . 79 - فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى التَّحْقِيقِ مَسْلَكُ الْقَاضِي وَمُتَّبِعِيهِ. 80 - وَأَمَّا مَا نَخْتَارُهُ: فَلَسْتُ أَرَى ذِكْرَهُ إِلَّا فِي خَاتِمَةِ الْفَصْلِ الثَّانِي الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ عَدَدِ الْمُخْتَارِينَ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلَيْنِ. 81 - وَلَمْ نُغْفِلْ ذِكْرَ الْوَرِعِ صَدَرًا فِي الْفَصْلِ عَنْ ذُهُولٍ، بَلْ رَأَيْنَاهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، فَمَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ فِي بَاقَةِ بَقْلٍ كَيْفَ يُرَى أَهْلًا لِلْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟ ؟ وَكَيْفَ يَنْفُذُ نَصْبُهُ عَلَى أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ؟ ؟ وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ لَمْ تُؤْمَنْ غَوَائِلُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ تَنْفَعْهُ فَضَائِلُهُ. فَقَدْ نَجَزَ الْفَصْلُ، مَخْتُومًا عَلَى التَّقْدِيرِ بِالْمَقْطُوعِ بِهِ فِي مَقْصُودِهِ، مُثَنًّى بِمَا هُوَ مِنْ فَنِّ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَقَبِيلِ الْمَظْنُونَاتِ.

الفصل الثاني في ذكر عدد من إليه الاختيار والعقد

[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي ذِكْرِ عَدَدِ مَنْ إِلَيْهِ الِاخْتِيَارُ وَالْعَقْدُ] الْفَصْلُ الثَّانِي. فِي ذِكْرِ عَدَدِ مَنْ إِلَيْهِ الِاخْتِيَارُ وَالْعَقْدُ. 82 - فَنَجْرِي عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ وَالْمُلْتَزَمِ، وَنَبْدَأُ بِالْمَقْطُوعِ بِهِ، فَنَقُولُ: مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَحَّتْ لَهُ الْبَيْعَةُ ; فَقَضَى وَحَكَمَ، وَأَبْرَمَ وَأَمْضَى، وَجَهَّزَ الْجُيُوشَ، وَعَقَدَ الْأَلْوِيَةَ، وَجَرَّ الْعَسَاكِرَ إِلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَفَرَّقَ مِنْهَا، وَلَمْ يَنْتَظِرْ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ انْتِشَارَ الْأَخْبَارِ فِي أَقْطَارِ خِطَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَقْرِيرِ الْبَيْعَةِ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي بَلَدَةِ الْهِجْرَةِ. وَكَذَلِكَ جَرَى الْأَمْرُ فِي إِمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. فَهَذَا مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ لَبِيبٌ. وَالَّذِي يُعَضِّدُ ذَلِكَ عِلْمُنَا عَلَى اضْطِرَارٍ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ نَصْبِ الْإِمَامِ حِفْظُ الْحَوْزَةِ، وَالِاهْتِمَامُ بِمُهِمَّاتِ الْإِسْلَامِ، وَمُعْظَمُ الْأُمُورِ الْخَطِيرَةِ لَا يَقْبَلُ الرَّيْثَ وَالْمُكْثَ، وَلَوْ أُخِّرَ النَّظَرُ فِيهِ لَجَرَّ ذَلِكَ

خَلَلًا لَا يُتَلَافَى، وَخَبَلًا مُتَفَاقِمًا لَا يُسْتَدْرَكُ، فَاسْتَبَانَ مِنْ وَضْعِ الْإِمَامَةِ اسْتِحَالَةُ اشْتِرَاطِ الْإِجْمَاعِ فِي عَقْدِهَا. فَهَذَا هُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ مِنَ الْفَصْلِ. وَنَفْتَتِحُ الْآنَ مَا نَرَاهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ. 83 - ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ تَنْعَقِدُ بِبَيْعَةِ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. وَاشْتَرَطَ طَوَائِفُ عَدَدَ أَكْمَلِ الْبَيِّنَاتِ فِي الشَّرْعِ ; وَهُوَ أَرْبَعَةٌ. وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ لَا يُعَدُّ مِنْ أَحْزَابِ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى اشْتِرَاطِ أَرْبَعِينَ، وَهُوَ عَدَدُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 84 - وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ لَا أَصْلَ لَهَا مِنْ مَأْخَذِ الْإِمَامَةِ: فَأَمَّا مَنْ ذَكَرَ اثْنَيْنِ، فَالَّذِي تَخَيَّلَهُ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ أَقَلُّ الْجَمْعِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اجْتِمَاعِ جَمْعٍ عَلَى الْبَيْعَةِ. وَمَنْ شَرَطَ أَرْبَعَةً قَالَ: الْإِمَامَةُ مِنْ أَعْلَى الْأُمُورِ، وَأَرْفَعِ الْخُطُوبِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا عَدَدُ أَعْلَى الْبَيِّنَاتِ. وَمَنِ ادَّعَى الْأَرْبَعِينَ اسْتَمْسَكَ بِقَرِيبِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَاعْتَبَرَ مَنْ

يَقْتَدِي بِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْ يَقْتَدِي بِإِمَامِ الْجُمُعَةِ. وَهَذِهِ الْمَسَالِكُ مِنْ أَضْعَفِ طُرُقِ الْأَشْبَاهِ، وَهِيَ أَدْوَنُ فُنُونِ الْمَقَايِيسِ فِي الشَّرْعِ، وَلَسْتُ أَرَى أَنْ أَحْكُمَ بِهَا فِي مَوَاقِعِ الظُّنُونِ وَمَظَانِّ التَّرْجِيحِ وَالتَّلْوِيحِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ؟ وَلَوْ تَتَبَّعَ الْمُتَتَبِّعُ الْأَعْدَادَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي مَوَاقِعِ الشَّرْعِ، لَمْ يَعْدَمْ وُجُوهًا بَعِيدَةً عَنِ التَّحْصِيلِ فِي التَّشْبِيهِ. 85 - وَأَقْرَبُ الْمَذَاهِبِ مَا ارْتَضَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَةَ تَثْبُتُ بِمُبَايَعَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ. وَوَجْهُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ تَوْقِيفٌ فِي عَدَدٍ مَخْصُوصٍ. وَالْعُقُودُ فِي الشَّرْعِ مَوْلَاهَا عَاقِدٌ وَاحِدٌ، وَإِذَا تَعَدَّى الْمُتَعَدِّي الْوَاحِدَ، فَلَيْسَ عَدَدٌ أَوْلَى مِنْ عَدَدٍ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّحَكُّمِ فِي إِثْبَاتِ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى

عَدَدٍ لَمْ يَثْبُتِ الْعَدَدُ، وَقَدْ تَحَقَّقْنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ شَرْطًا، فَانْتَفَى الْإِجْمَاعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَبَطَلَ الْعَدَدُ بِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَلَزِمَ الْمَصِيرُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِعَقْدِ الْوَاحِدِ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْقَاضِي يُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَظْهَرُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ، فَلَسْنَا نَرَاهُ بَالِغًا مَبْلَغَ الْقَطْعِ. 86 - وَهَا أَنَا الْآنَ أَذْكُرُ مَا يَلُوحُ عِنْدِي فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَفِيهِ ذِكْرُ كَلَامٍ يَنْعَطِفُ عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَأَقُولُ: - الَّذِي أَرَاهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا بَايَعَهُ عُمَرُ لَوْ ثَارَ ثَائِرُونَ، وَأَبْدَوْا صَفْحَةَ الْخِلَافِ، وَلَمْ يَرْضَوْا تِلْكَ الْبَيْعَةَ، لَمَا كُنْتُ أَجِدُ مُتَعَلَّقًا فِي أَنَّ الْإِمَامَةَ كَانَتْ تَسْتَقِلُّ بِبَيْعَةِ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضْتُ بَيْعَةَ اثْنَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ فَصَاعِدًا، وَقَدَّرْتُ ثَوَرَانَ مُخَالِفِينَ، لَمَا وَجَدْتُ مُتَمَسَّكًا بِهِ اكْتِرَاثٌ وَاحْتِفَالٌ، فِي قَاعِدَةِ الْإِمَامَةِ. وَلَكِنْ لَمَّا بَايَعَ عُمَرُ تَتَابَعَتِ الْأَيْدِي، وَاصْطَفَقَتِ الْأَكُفُّ، وَاتَّسَعَتِ الطَّاعَةُ، وَانْقَادَتِ الْجَمَاعَةُ. 87 - فَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْبَيْعَةِ حُصُولُ مَبْلَغٍ مِنَ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَالْأَشْيَاعِ، تَحْصُلُ بِهِمْ شَوْكَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَمَنْعَةٌ

قَاهِرَةٌ، بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ ثَوَرَانُ خِلَافٍ، لَمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنْ يُصْطَلَمَ أَتْبَاعُ الْإِمَامِ، فَإِذَا تَأَكَّدَتِ الْبَيْعَةُ، وَتَأَطَّدَتْ بِالشَّوْكَةِ وَالْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَاعْتَضَدَتْ، وَتَأَيَّدَتْ بِالْمِنَّةِ، وَاسْتَظْهَرَتْ بِأَسْبَابِ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، فَإِذَا ذَاكَ تَثْبُتُ الْإِمَامَةُ، وَتَسْتَقِرُّ، وَتَتَأَكَّدُ الْوِلَايَةُ وَتَسْتَمِرُّ، وَلَمَّا بَايَعَ عُمَرُ مَالَتِ النُّفُوسُ إِلَى الْمُطَابَقَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَلَمْ يُبْدِ أَحَدٌ شِرَاسًا وَشِمَاسًا، وَتَظَافَرُوا عَلَى بَذْلِ الطَّاعَةِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَبِتَعَيُّنِ اعْتِبَارِ مَا ذَكَرْتُهُ بِأَنِّي سَأُوَضِّحُ فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ الْآتِيَةِ أَنَّ الشَّوْكَةَ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَتِهَا. 88 - وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ قَاطِبَةً، عَلَى أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، لَوِ اسْتَخْلَى بِمَنْ صَلُحَ لِلْإِمَامَةِ، وَعَقَدَ لَهُ الْبَيْعَةَ لَمْ تَثْبُتِ الْإِمَامَةُ. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مُخْتَتَمِ هَذَا الْفَصْلِ. وَسَبَبُ تَعَلُّقِي بِذَلِكَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْ قُدِّرَ لَمْ تَسْتَتِبَّ مِنْهُ شَوْكَةٌ، وَلَمْ تَثْبُتْ بِهِ سَلْطَنَةٌ، فَلَئِنْ كُنَّا نَتَّبِعُ مَا جَرَى، فَقَدْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي وَصَفْتُهَا، وَظَهَرَ اعْتِبَارُ حُصُولِ الشَّوْكَةِ ; فَلْيُتْبَعْ ذَلِكَ. 89 - ثُمَّ أَقُولُ: إِنْ بَايَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ مَرْمُوقٌ، كَثِيرُ الْأَتْبَاعِ

وَالْأَشْيَاعِ، مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَتْ مَنْعَتُهُ تُفِيدُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ. وَقَدْ يُبَايِعُ رِجَالٌ لَا تُفِيدُ مُبَايَعَتُهُمْ شَوْكَةً وَمُنَّةً قَهْرِيَّةً، فَلَسْتُ أَرَى لِلْإِمَامَةِ اسْتِقْرَارًا. وَالَّذِي أَجَزْتُهُ لَيْسَ شَرْطَ إِجْمَاعٍ، وَلَا احْتِكَامًا بِعَدَدٍ، وَلَا قَطْعًا بِأَنَّ بَيْعَةَ الْوَاحِدِ كَافِيَةٌ. 90 - وَإِنَّمَا اضْطَرَبَتِ الْمَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ لِوُقُوعِ الْبَيْعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ مُبْهَمَةً مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِعَدَدٍ، وَلَمْ يَتَّجِهْ إِحَالَةُ إِنْبِرَامِ الْعَقْدِ عَلَى بَيْعَةِ وَاحِدٍ ; فَتَفَرَّقَتِ الطُّرُقُ، وَأَعْوَصَ مَسْلَكُ الْحَقِّ عَلَى مُعْظَمِ النَّاظِرِينَ فِي الْبَابِ. وَالَّذِي ذَكَرْتُهُ يَنْطَبِقُ عَلَى مَقْصِدِ الْإِمَامَةِ وَسِرِّهَا، فَإِنَّ الْغَرَضَ حُصُولُ الطَّاعَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي جَرَى فِي الْبَيْعَةِ. فَرَحِمَ اللَّهُ نَاظِرًا انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمُنْتَهَى فَجَعَلَ جَزَاءَنَا مِنْهُ دَعْوَةً بِخَيْرٍ. 91 - وَالَّذِي يَنْصَرِفُ مِنْ مَسَاقِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، الْمُنْطَوِي عَلَى ذِكْرِ صِفَةِ مَنْ يَعْقِدُ، إِلَى اشْتِرَاطِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. فَلَا أَرَى لِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَاقِدُ مُجْتَهِدًا وَجْهًا لَائِحًا، وَلَكِنِّي أَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَايِعُ مِمَّنْ يُفِيدُ مُبَايَعَتُهُ مُنَّةً وَاقْتِهَارًا. فَهَذَا مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ فِي ذَلِكَ.

92 - وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْعَاقِدِ اضْطَرَبُوا فِي اشْتِرَاطِ حُضُورِ الشُّهُودِ: فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ حُضُورَ الشَّاهِدِ لَيْسَ شَرْطًا، وَشَرَطَ آخَرُونَ حُضُورَ الشُّهُودِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ. 93 - وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأَنْ قَالُوا: لَوْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ تَنْعَقِدُ سِرًّا، لَعَقَدَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْعَاقِدَ وَالْمَعْقُودَ لَهُ شُهُودٌ. وَزَيَّفَ الْقَاضِي هَذَا الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ، وَتَنَاهَى مُبَالِغًا فِي الرَّدِّ عَلَى مُعْتَقَدِهِ، وَسَلَكَ مَسْلَكَ الْقَطْعِ فِيمَا زَعَمَ ; فَقَالَ: لَوِ اسْتَخْلَى عُمَرُ بِالْبَيْعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَا اسْتَقَرَّتِ الْإِمَامَةُ ; إِذْ لَوْ كَانَتْ تَسْتَقِرُّ، وَتَثْبُتُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَمَا حَضَرَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السَّقِيفَةَ، وَلَبَادَرَ عُمَرُ عَقْدَ الْبَيْعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ قَبْلَ حُضُورِ الْأَشْهَادِ. 94 - ثُمَّ الَّذِينَ صَارُوا إِلَى مَنْعِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ عَلَى الِاسْتِخْلَاءِ

اخْتَلَفُوا ; فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي حُضُورُ شَاهِدَيْنِ، كَعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَكْتَفِ الْقَاضِي بِالشَّاهِدَيْنَ، بَلِ اشْتَرَطَ أَنْ يَشْهَدَ الْأَمْرَ أَقْوَامٌ يَقَعُ بِحُضُورِهِمِ الْإِشَاعَةُ وَالنَّشْرُ وَالْإِذَاعَةُ. 95 - وَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ عِنْدِي إِلَى حَدِّ الْقَطْعِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَصِيرُ إِلَى انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ فِي الِاسْتِخْلَاءِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُبَايِعْ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْخَلْوَةِ. قُلْنَا: يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ فِي الِاسْتِصْوَابِ ; فَإِنَّهُ لَوْ عُقِدَ سِرًّا فَرُبَّمَا يَتَّفِقُ عَقْدٌ فِي الْعَلَانِيَةِ جَهْرًا، وَعَقْدُ السِّرِّ سَابِقٌ، وَكَانَ الشَّرْعُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ عَقْدِ السِّرِّ. ثُمَّ رُبَّمَا كَانَ الْأَمْرُ يَنْجَرُّ إِلَى إِنْكَارٍ وَجُحُودٍ، وَنِزَاعٍ فِي مَقْصُودٍ ; وَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى شُهُودٍ. وَقَدْ نُدِبْنَا إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الْبُيُوعِ، فَكَانَ تَأْخِيرُ عَقْدِ الْبَيْعَةِ إِلَى الْإِعْلَانِ لِهَذَا الشَّأْنِ. 96 - فَأَمَّا لَوْ فُرِضَ رَجُلٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ، رَفِيعُ الْمَنْصِبِ، ثُمَّ صَدَرَتْ

مِنْهُ بَيْعَةٌ لِصَالِحٍ لَهَا سِرًّا، وَتَأَكَّدَتِ الْإِمَامَةُ لِهَذَا السَّبَبِ بِالشَّوْكَةِ الْعُظْمَى، فَلَسْتُ أَرَى إِبْطَالَ الْإِمَامَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَطْعًا. وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَظْنُونَةٌ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، وَمُعْظَمُ مَسَائِلِ الْإِمَامَةِ عَرِيَّةٌ عَنْ مَسْلَكِ الْقَطْعِ، خَلِيَّةٌ عَنْ مَدَارِكِ الْيَقِينِ. انْتَهَى مَبْلَغُ غَرَضِنَا مِنْ صِفَاتِ الْعَاقِدِينَ وَعَدَدِهِمْ.

الباب الرابع في صفات الإمام القوام على أهل الإسلام

[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي صِفَاتِ الْإِمَامِ الْقَوَّامِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ] [أقسام الصِّفَاتُ الْمَرْعِيَّةُ فِي الْأَئِمَّةِ الصفات التي تتعلق بالحواس] الْبَابُ الرَّابِعُ. فِي صِفَاتِ الْإِمَامِ الْقَوَّامِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ. 97 - الصِّفَاتُ الْمَرْعِيَّةُ فِي الْأَئِمَّةِ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا. مِنْهَا: * مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَوَاسِّ. * وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْضَاءِ. * وَمَا يَرْتَبِطُ بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ. * وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَضَائِلِ الْمُكْتَسَبَةِ.

98 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي الْحَوَاسِّ، وَذِكْرُ مَا فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ بَيْنَ النَّاسِ، فَنَحْنُ نُوَضِّحُ مَا يُزِيلُ دَوَاعِيَ الِالْتِبَاسِ. فَأَمَّا الْبَصَرُ، فَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ ; لِأَنَّ فَقْدَهُ مَانِعُ الِانْتِهَاضِ فِي الْمُلِمَّاتِ وَالْحُقُوقِ، وَيَجُرُّ ذَلِكَ إِلَى الْمُعْضِلَاتِ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَاتِ، وَالْأَعْمَى لَيْسَ لَهُ اسْتِقْلَالٌ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْأَشْغَالِ، فَكَيْفَ يَتَأَتَّى مِنْهُ تَطَوُّقُ عَظَائِمِ الْأَعْمَالِ؟ ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ فِي مَقَامِ التَّخَاطُبِ، وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ يُغْنِي عَنِ الْإِطْنَابِ، وَلَكِنَّ مَقْصِدَنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، التَّعَرُّضُ لِمَعَانِي الْإِيَالَةِ فِي أَدْرَاجِ الْأَبْوَابِ. 99 - وَمِمَّا نَشْتَرِطُ مِنَ الْحَوَاسِّ السَّمْعُ، فَالْأَصَمُّ الْأَصْلَمُ الَّذِي يَعْسُرُ جِدًّا سَمَاعُهُ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ ; لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْبَصَرِ. وَلَا يَضُرُّ الْوَقْرُ وَالطَّرَشُ، كَمَا لَا يَضُرُّ كَلَالُ الْبَصَرِ وَالْعَمَشُ. 100 - وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ نُطْقُ اللِّسَانِ ; فَالْأَخْرَسُ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الشَّأْنِ. 101 - وَأَمَّا حَاسَّةُ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ، فَلَا أَثَرَ لَهُمَا فِي الْإِمَامَةِ وُجِدَتَا أَوْ فُقِدَتَا.

فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَوَاسِّ وَمَا فِي مَعْنَاهَا. 102 - فَأَمَّا مَا يَرْتَبِطُ بِنُقْصَانِ الْأَعْضَاءِ، فَكُلُّ مَا لَا يُؤَثِّرُ عَدَمُهُ فِي رَأْيٍ، وَلَا عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِمَامَةِ، وَلَا يُؤَدِّي إِلَى شَيْنٍ ظَاهِرٍ فِي الْمَنْظَرِ، فَلَا يَضُرُّ فَقْدُهُ، وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ نَصْبُ الْمَجْبُوبِ، وَالْخَصِيِّ، لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. 103 - وَأَمَّا مَا يُؤَثِّرُ عَدَمُهُ فِي الِانْتِهَاضِ إِلَى الْمَآرِبِ وَالْأَغْرَاضِ كَفَقْدِ الرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ، فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ تَنْزِيلُ هَذِهِ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ مَنْزِلَةَ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ فِيهِ إِجْمَاعُ انْعِقَادِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَسْتُ أَرَاهُ مَقْطُوعًا بِهِ ; فَإِنَّ تَعْوِيلَ الْإِمَامَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَالدِّرَايَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَالزَّمَانَةِ لَا تُنَافِي الرَّأْيَ، وَتَأْدِيَةَ حُقُوقِ الصِّيَانَةِ، وَإِنْ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى نَقْلِهِ، فَاحْتِمَالُهُ عَلَى الْمَرَاكِبِ يَسْهُلُ، فَلْيَلْحَقْ هَذَا بِالْفُنُونِ الَّتِي يَجُولُ فِيهَا أَسَالِيبُ الظُّنُونِ. 104 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الزَّمَانَةِ وَالصَّمَامَةِ وَكَانَ الْمَأْوُوفُ بِحَيْثُ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الْمَرَاكِبِ، فَلَا أَثَرَ لِلنَّقْصِ الَّذِي بِهِ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ.

الصفات اللازمة

105 - فَأَمَّا مَا يَسُوءُ الْمَنْظَرَ كَالْعَوَرِ، وَجَدْعِ الْأَنْفِ، فَالَّذِي أُوثِرُهُ الْقَطْعَ بِأَنَّ هَذَا لَا أَثَرَ لَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُسْتَطْرِفِينَ الشَّادِّينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُنَفِّرُ الْأَشْيَاعَ وَالْأَتْبَاعَ، وَيَسْحَبُ الرُّعَاعَ عَلَى الْمَطَاعِنِ وَالِاسْتِصْغَارِ، وَأَسْبَابِ الِانْحِلَالِ وَالِانْتِشَارِ. وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا. وَلَوْ أَثَّرَ الْجَدْعُ وَالْعَوَرُ، لَأَثَّرَتِ الدَّمَامَةُ وَتَشَوُّهُ الْخَلْقِ، وَلَاشْتُرِطَ الْجَمَالُ وَالِاعْتِدَالُ فِي الْخَلْقِ، وَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِاتِّفَاقِ الْفِرَقِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِنُقْصَانِ الْأَعْضَاءِ. [الصِّفَاتُ اللَّازِمَةُ] 106 - فَأَمَّا الصِّفَاتُ اللَّازِمَةُ، فَمِنْهَا النَّسَبُ ; فَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قُرَشِيًّا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي اشْتِرَاطِ النَّسَبِ غَيْرُ ضِرَارِ بْنِ

عَمْرٍو، وَلَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ وَوِفَاقُهُ، وَقَدْ نَقَلَ الرُّوَاةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» " وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَفِيضِ الْمَقْطُوعِ بِثُبُوتِهِ ; مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأُمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. 107 - وَهَذَا مَسْلَكٌ لَا أُوثِرُهُ، فَإِنَّ نَقَلَةَ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْدُودُونَ، لَا يَبْلُغُونَ مَبْلَغَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ. وَالَّذِي يُوَضِّحُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ أَنَّا لَا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا ثَلَجَ الصُّدُورِ ; وَالْيَقِينَ الْمَبْتُوتَ بِصَدَرِ هَذَا مِنْ فَلْقٍ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا لَا نَجِدُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَإِذًا لَا يَقْتَضِي هَذَا الْحَدِيثُ الْعِلْمَ بِاشْتِرَاطِ النَّسَبِ فِي الْإِمَامَةِ. 108 - فَالْوَجْهُ فِي إِثْبَاتِ مَا نُحَاوِلُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَاضِينَ مَا زَالُوا بَايِحِينَ بِاخْتِصَاصِ هَذَا الْمَنْصِبِ بِقُرَيْشٍ، وَلَمْ يَتَشَوَّفْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ إِلَى الْإِمَامَةِ، عَلَى تَمَادِي الْآمَادِ، وَتَطَاوُلِ الْأَزْمَانِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا، لَطَلَبَهُ ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْبَأْسِ، وَتَشَمَّرَ فِي ابْتِغَائِهِ عَنْ سَاقِ الْجَدِّ أَصْحَابُ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَقَدْ بَلَغَ طُلَّابُ الْمُلْكِ فِي انْتِحَاءِ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْبِلَادِ، وَالْعِبَادِ أَقْصَى غَايَاتِ

الِاعْتِدَاءِ، وَاقْتَحَمُوا فِي رَوْمِ مَا يُحَاوِلُونَهُ الْمَهَاوِيَ وَالْمَعَاطِبَ وَالْمَسَاوِئَ، وَرَكِبُوا الْأَغْرَارَ وَالْأَخْطَارَ، وَجَانَبُوا الرَّفَاهِيَةَ وَالدَّعَةَ وَالْأَوْطَانَ، فَلَوْ كَانَ إِلَى ادِّعَاءِ الْإِمَامَةِ مَسْلَكٌ، أَوْ لَهُ مَدْرَكٌ، لَزَاوَلَهُ مُحِقُّونَ، أَوْ مُبْطِلُونَ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ، وَلَمَّا اشْرَأَبَّ لِهَذَا الْمَنْصِبِ الْمَارِقُونَ فِي فُسْطَاطِ مِصْرَ، اعْتَزَوْا أَوَّلًا إِلَى شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ عَلَى الِافْتِرَاءِ، وَانْتَمَوُا انْتِمَاءَ الْأَدْعِيَاءِ، وَبَذَلُوا حَرَائِبَ الْأَمْوَالِ لِلْكَاذِبِينَ النَّسَّابِينَ، حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِصَمِيمِ النَّسَبِ. فَهَذَا إِذَا مَا تَطَابَقَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ، وَقَدْ تَصَدَّى لِلْإِمَامَةِ مُلُوكٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى مَرْتَبَةٍ مَرْمُوقَةٍ فِي الْعِلْمِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ يَدَّعِيهِ كُلُّ شَادٍ مُسْتَطْرِفٍ، فَإِذَا انْضَمَّتْ أُبَّهَةُ الْمُلْكِ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الْعِلْمِ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ نِسْبَةَ الْمُلْكِ إِلَى الْعُرُوِّ عَنِ الْعِلْمِ، وَالنَّسَبُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهُ ; فَلَمْ يَدَّعِ - لِذَلِكَ - الْإِمَامَةَ مَنْ لَيْسَ نَسِيبًا. فَهَذَا وَجْهُ إِثْبَاتِ شَرْطِ النَّسَبِ. 109 - وَلَسْنَا نَعْقِلُ احْتِيَاجَ الْإِمَامَةِ فِي وَضْعِهَا إِلَى النَّسَبِ. وَلَكِنْ خَصَّصَ اللَّهُ هَذَا الْمَنْصِبَ الْعَلِيَّ، وَالْمَرْقَبَ السَّنِيَّ بِأَهْلِ بَيْتِ

النَّبِيِّ ; فَكَانَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. 110 - وَمِنَ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ: الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَنَحِيزَةُ الْعَقْلِ، وَالْبُلُوغُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِطْنَابِ فِي نَصْبِ الدَّلَالَاتِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ.

111 - وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا الْقِسْمِ: الشَّجَاعَةُ وَالشَّهَامَةُ، وَهِيَ خُطَّةٌ عَلِيَّةٌ، وَلَا يَصْلُحُ لِإِيَالَةِ طَبَقَاتِ الْخَلَائِقِ، وَجَرِّ الْعَسَاكِرِ وَالْمَقَانِبِ، وَعُلْيَاتِ الْمَنَاصِبِ جَبَانٌ خَوَّارٌ. وَهَذِهِ الصِّفَةُ يَبْعُدُ اكْتِسَابُهَا بِالْإِيثَارِ وَالِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفِيدُ كَثْرَةُ مُصَادَمَةِ الْخُطُوبِ، وَمُمَارَسَةِ الْحُرُوبِ مَزِيدَ إِلْفٍ، وَمِزْيَةَ إِقْدَامٍ، إِذَا صَادَفَتْ جَسُورًا مِقْدَامًا، وَمَنْ فُطِرَ عَلَى الْجُبْنِ وَاسْتِشْعَارِ الْحَذَرِ لَا يَزْدَادُ عَلَى طُولِ الْمِرَاسِ إِلَّا فَرْطَ الْخَوَرِ، ثُمَّ الشَّهَامَةُ مَرْعِيَّةٌ مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ، وَلَا يَصْلُحُ مُقْتَحِمٌ هَجَّامٌ لِهَذَا الشَّأْنِ. وَهَذَا الْمَنْصِبُ إِلَى الرَّأْيِ أَحْوَجُ مِنْهُ إِلَى ثَبَاتِ الْجَنَانِ.

الصفات المكتسبة المرعية في الإمامة

وَالرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي. هَذَا مُنْتَهَى الْغَرَضِ فِي الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ. [الصِّفَاتُ الْمُكْتَسَبَةُ الْمَرْعِيَّةُ فِي الْإِمَامَةِ] 112 - فَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمُكْتَسَبَةُ الْمَرْعِيَّةُ فِي الْإِمَامَةِ: فَالْعِلْمُ، وَالْوَرَعُ، وَسَنُلْحِقُ بِهِمَا بَعْدَ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهِمَا صِفَةً ثَالِثَةً. 113 - فَأَمَّا الْعِلْمُ، فَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُجْتَهِدًا بَالِغًا مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، مُسْتَجْمِعًا صِفَاتَ الْمُفْتِينَ، وَلَمْ يُؤْثَرْ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ خِلَافٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أُمُورَ مُعْظَمِ الدِّينِ تَتَعَلَّقُ بِالْأَئِمَّةِ. فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِالْوُلَاةِ وَذَوِي الْأَمْرِ، فَلَا شَكَّ فِي ارْتِبَاطِهِ بِالْإِمَامِ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ جِهَةِ انْتِدَابِهِ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ مُسْتَقِلًّا بِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ، لَاحْتَاجَ إِلَى مُرَاجَعَةِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفَاصِيلِ الْوَقَائِعِ وَذَلِكَ يُشَتِّتُ رَأْيَهُ، وَيُخْرِجُهُ عَنْ رُتْبَةِ الِاسْتِقْلَالِ.

وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ يُرَاجِعُ الْمُفْتِي مُرَاجَعَةَ آحَادِ النَّاسِ الْمُفْتِينَ، لَكَانَ ذَلِكَ مُحَالًا ; فَإِنَّ الْوَقَائِعَ الَّتِي تُرْفَعُ إِلَى الْإِمَامِ فِي الْخُطُوبِ الْجِسَامِ، وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ لَا تَتَنَاهَى كَثْرَةً ; إِذْ هُوَ شَرَفُ الْعَالَمِينَ، وَمَطْمَحُ أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ لَا يَجِدُ عِنْدَ رَفْعِ وَاقِعَةٍ إِلَيْهِ أَعْلَمَ عُلَمَاءِ الْقُطْرِ وَالنَّاحِيَةِ، فَيَتَرَدَّدُ، وَيَتَبَلَّدُ، وَيَبْطُلُ أَثَرُهُ فِي مَنْصِبِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَسَاغَ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِمَامُ ذَا كِفَايَةٍ وَاسْتِقْلَالٍ بِنَفْسِهِ. ثُمَّ يُرَاجِعُ الْكُفَاةَ، وَيَسْتَشِيرُ ذَوِي الْأَحْلَامِ وَالدُّهَاةَ. وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الْإِمَامَةُ زَعَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَوَجَبَ اسْتِقْلَالُهُ بِنَفْسِهِ فِي تَدْبِيرِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ اسْتِقْلَالُهُ بِنَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا عَلَى مَرَاسِمِ الشَّرِيعَةِ تَجْرِي فَهِيَ الْمُتَّبَعُ وَالْإِمَامُ فِي جَمِيعِ مَجَارِي الْأَحْكَامِ، وَالرَّأْيُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ ; فَإِنَّ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ.

فَالْكِفَايَةُ الْمَرْعِيَّةُ مَعْنَاهَا الِاسْتِقْلَالُ بِتَأْدِيَةِ الْأَصْوَبِ شَرْعًا فِي الْأُمُورِ الْمَنُوطَةِ بِالْإِمَامِ. 114 - فَإِنْ قِيلَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ، وَأَلَمَّتْ بِهِ مُلِمَّةٌ، اشْتَوَرُوا، وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَالْمَرَادَّةِ، فَأَشْعَرَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِمْ بِأَنَّ اسْتِقْلَالَ الْإِمَامِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِمَامَةِ. قُلْنَا: الْحَبْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَالْإِمَامُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَمَنْ هُوَ الْبَحْرُ الَّذِي لَا يُنْزَفُ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَشِيرَ فِي آحَادِ الْوَقَائِعِ، وَيَسْتَمِدَّ مِنْ نَتَائِجِ الْقَرَائِحِ، وَيَبْحَثَ فِي مُحَادَثَةِ أَطْرَافِ الْكَلَامِ عَنْ مَآخِذَ الْأَحْكَامِ، كَيْفَ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى الِاسْتِشَارَةِ فَقَالَ: " {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} " وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ بُلُوغِ الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا فِي الْعُلُومِ، وَبَيْنَ التَّنَاظُرِ وَالتَّشَاوُرِ فِي الْمُعْضِلَاتِ. 115 - وَنَحْنُ نَرَى لِلْإِمَامِ الْمُسْتَجْمِعِ خِلَالَ الْكَمَالِ، الْبَالِغِ مَبْلَغَ الِاسْتِقْلَالِ أَنْ لَا يَغْفَلَ الِاسْتِضَاءَةَ فِي الْإِيَالَةِ وَأَحْكَامِ

الشَّرْعِ بِعُقُولِ الرِّجَالِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الِاسْتِبْدَادِ لَا يَأْمَنُ الْحَيْدَ عَنْ سَنَنِ السَّدَادِ، وَمَنْ وُفِّقَ لِلِاسْتِمْدَادِ مِنْ عُلُومِ الْعُلَمَاءِ، كَانَ حَرِيًّا بِالِاسْتِدَادِ، وَلُزُومِ طَرِيقِ الِاقْتِصَادِ. 116 - وَسِرُّ الْإِمَامَةِ اسْتِتْبَاعُ الْآرَاءِ، وَجَمْعُهَا عَلَى رَأْيٍ صَائِبٍ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ اسْتِقْلَالُ الْإِمَامِ، ثُمَّ هُوَ مَحْثُوثٌ عَلَى اسْتِفَادَةِ مَزَايَا الْقَرَائِحِ، وَتَلَقِّي الْفَوَائِدِ وَالزَّوَائِدِ مِنْهَا ; فَإِنَّ فِي كُلِّ عَقْلٍ مِيزَةً، وَلَكِنَّ اخْتِلَافَ الْآرَاءِ مَفْسَدَةٌ لِإِمْضَاءِ الْأُمُورِ، فَإِذَا بَحَثَ عَنِ الْآرَاءِ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ، وَعَرَضَهَا عَلَى عِلْمِهِ الْغَزِيرِ، وَنَقَدَهَا بِالسَّبْرِ وَالْفِكْرِ الْأَصْوَبِ مِنْ وُجُوهِ الرَّأْيِ، كَانَ جَالِبًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ ثَمَرَاتِ الْعُقُولِ، وَدَافِعًا عَنْهُمْ غَائِلَةَ التَّبَايُنِ وَالِاخْتِلَافِ، فَكَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَّحِدُونَ بِنَظَرِ الْإِمَامِ، وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، وَفَحْصِهِ وَتَنْقِيرِهِ، وَلَا بُدَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ كَوْنِ الْإِمَامِ مَتْبُوعًا

غَيْرَ تَابِعٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِي دِينِ اللَّهِ، لَلَزِمَهُ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ وَاتِّبَاعُهُمْ، وَارْتِقَابُ أَمْرِهِمْ، وَنَهْيِهِمْ، وَإِثْبَاتِهِمْ، وَنَفْيِهِمْ وَهَذَا يُنَاقِضُ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ، وَمَرْتَبَةَ الزَّعَامَةِ. فَهَذَا قَوْلُنَا فِي الْعِلْمِ. 117 - فَأَمَّا التَّقْوَى وَالْوَرَعُ، فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا ; إِذْ لَا يُوثَقُ بِفَاسِقٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى فَلَسٍ، فَكَيْفَ يُوَلَّى أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، وَالْأَبُ الْفَاسِقُ مَعَ فَرْطِ حَدَبِهِ وَإِشْفَاقِهِ عَلَى وَلَدِهِ لَا يُعْتَمَدُ فِي مَالِ وَلَدِهِ، فَكَيْفَ يُؤْتَمَنُ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى فَاسِقٌ لَا يَتَّقِي اللَّهَ؟ وَمَنْ لَمْ يُقَاوِمْ عَقْلُهُ هَوَاهُ وَنَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، وَلَمْ يَنْتَهِضْ رَأْيُهُ بِسِيَاسَةِ نَفْسِهِ فَأَنَّى يَصْلُحُ لِسِيَاسَةِ خِطَّةِ الْإِسْلَامِ.

119 - فَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي ضَمِنَّا ضَمَّهَا إِلَى الْفَضَائِلِ الْمُكْتَسَبَةِ، فَهِيَ ضَمُّ تَوَقُّدِ الرَّأْيِ فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَالنَّظَرِ فِي مَغَبَّاتِ الْعَوَاقِبِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ يُنْتِجُهَا نَحِيزَةُ الْعَقْلِ، وَيُهَذِّبُهَا التَّدْرِيبُ فِي طُرُقِ التَّجَارِبِ. 119 - وَالْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْإِمَامَةِ جَمْعُ شَتَاتِ الرَّأْيِ، وَاسْتِتْبَاعُ رَجُلٍ أَصْنَافَ الْخَلْقِ عَلَى تَفَاوُتِ إِرَادَتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ أَخْلَاقِهِمْ وَمَآرِبِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ، فَإِنَّ مُعْظَمَ الْخَبَالِ وَالِاخْتِلَالِ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْأَحْوَالِ مِنِ اضْطِرَابِ الْآرَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ النَّاسُ مَجْمُوعِينَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَنْتَظِمْ تَدْبِيرٌ، وَلَمْ يَسْتَتِبَّ مِنْ إِيَالَةِ الْمُلْكِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَلَاصْطُلِمَتِ الْحَوْزَةُ، وَاسْتُؤْصِلَتِ الْبَيْضَةُ، وَلْيَعْتَبِرِ الْعَاقِلُ ذَلِكَ بِمَلِكٍ مُطَاعٍ بَيْنَ أَتْبَاعٍ، مَحْفُوفٍ بِجُنُودٍ، وَخَفْقِ بُنُودٍ وَأَشْيَاعٍ، إِذَا اخْتُطِفَ الْمَلِكُ بَغْتَةً، وَفَاجَأَتْهُ الْمَنِيَّةُ فَلْتَةً. فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ تَنْفَضُّ الْجُمُوعُ، وَيَصِيرُونَ عِبْرَةَ أَسْمَاعٍ وَأَبْصَارٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي خِطَّةِ الْإِسْلَامِ

مَتْبُوعٌ يَأْوِي إِلَيْهِ الْمُخْتَلِفُونَ، وَيَنْزِلُ عَلَى حُكْمِهِ الْمُتَنَازِعُونَ، وَيُذْعِنُ لِأَمْرِهِ الْمُتَدَافِعُونَ، إِذَا أَعْضَلَتِ الْحُكُومَاتُ، وَنَشَبَتِ الْخُصُومَاتُ، وَتَبَدَّدَتِ الْإِرَادَاتُ، لَارْتَبَكَ النَّاسُ فِي أَفْظَعِ الْأَمْرِ، وَلَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. 120 - وَإِذَا تَبَيَّنَ الْغَرَضُ مِنْ نَصْبِ الْإِمَامِ، لَاحَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِي كِفَايَةٍ وَدِرَايَةٍ، وَهِدَايَةٍ إِلَى الْأُمُورِ وَاسْتِقْلَالٍ بِالْمُهِمَّاتِ، وَجَرِّ الْجُيُوشِ، لَا يَزَعُهُ خَوَرُ الطَّبِيعَةِ عَنْ ضَرْبِ الرِّقَابِ أَوَانَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَا تَحْمِلُهُ الْفَظَاظَةُ عَلَى تَرْكِ الرِّقَّةِ وَالْإِشْفَاقِ. ثُمَّ لَا يَكْفِي أَنْ يُسَمَّى كَافِيًا، فَرُبَّ مُسْتَقِلٍّ بِأَمْرٍ قَرِيبٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرٍ فَوْقَهُ، فَلْتُعْتَبَرْ مَقَاصِدُ الْإِمَامَةِ، وَلْيُشْتَرَطِ اسْتِقْلَالُ الْإِمَامِ بِهَا. فَهَذَا مَعْنَى النَّجْدَةِ وَالْكِفَايَةِ. 121 - فَتَنَحَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَنَّ الصَّالِحَ لِلْإِمَامَةِ هُوَ الرَّجُلُ الْحُرُّ، الْقُرَشِيُّ، الْمُجْتَهِدُ، الْوَرِعُ، ذُو النَّجْدَةِ وَالْكِفَايَةِ.

فصل اشتراط طوائف من الإمامية عصمة الإمام

122 - وَيُمْكِنُ رَدُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى شَيْئَيْنِ ; فَيُقَالُ: الْمَرْعِيُّ الِاسْتِقْلَالُ وَالنَّسَبُ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ الِاسْتِقْلَالِ الْكِفَايَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْوَرَعُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالذُّكُورَةُ تَدْخُلُ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَنْ تَلْزَمَ خِدْرَهَا، وَمُعْظَمُ أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ تَسْتَدْعِي الظُّهُورَ وَالْبُرُوزَ، فَلَا تَسْتَقِلُّ الْمَرْأَةُ إِذًا. فَهَذَا مُنْتَهَى مَا أَرَدْنَا فِي ذَلِكَ. [فَصْلٌ اشتراط طوائف من الإمامية عصمة الإمام] فَصْلٌ. 123 - ذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، وَمَنْصِبُ الْإِمَامَةِ يَقْتَضِي الْعِصْمَةَ كَالنُّبُوَّةِ. 124 - وَالْقَوْلُ فِي الْعِصْمَةِ وَتَقْسِيمِهَا وَتَفْصِيلِهَا وَتَحْصِيلِهَا يَطُولُ، وَلَوْ ذَهَبْنَا نِصْفَ مَعْنَاهَا، لَمَلَأْنَا فِي مَغْزَاهَا أَوْرَاقًا، وَالْإِمَامَةُ كَثِيرَةُ التَّفَنُّنِ عَظِيمَةُ التَّشَعُّبِ: فَتَارَةً يَرْتَبِطُ الْكَلَامُ فِيهَا بِقَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ، وَطَوْرًا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْأَخْبَارِ فِي انْقِسَامِهَا، وَتَارَةً يُنَاطُ بِالشَّرِيعَةِ وَأَحْكَامِهَا. فَلَوِ الْتَزَمَ الْخَائِضُ فِي الْإِمَامَةِ تَقْرِيرَ كُلِّ مَا يَجْرِي فِي أَدْرَاجِ الْكَلَامِ، لَطَالَ الْمَدَى، وَلَغَمُضَ مَقْصُودُ الْكِتَابِ.

125 - وَالْمِقْدَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِمَقْصِدِنَا الْآنَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا تَجِبُ عِصْمَتُهُ عَنِ الزَّلَلِ وَالْخَطَلِ. ثُمَّ سَيَأْتِي بَابٌ مَعْقُودٌ فِي الْإِمَامِ إِذَا فَارَقَ دِينًا، وَاحْتَقَبَ وَزِرًا. 126 - وَالْقَوْلُ الْمُقْنِعُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامِيَّةَ لَمْ يَرَوْا لِلْإِمَامَةِ مُسْتَنَدًا، غَيْرَ نَصِّ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَعَمُوا أَنَّ الْإِثْنَيْ عَشَرَ إِمَامًا نَصَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَعُمْرُ الدُّنْيَا يَنْقَرِضُ بِانْقِرَاضِهِمْ، وَآخِرُهُمُ الْمَهْدِيُّ، يَقْتَدِي بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي تُرَّهَاتٍ وَخُرَافَاتٍ، يَنْبُو عَنْ قَبُولِهَا قَلْبُ كُلِّ عَاقِلٍ. ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَنُصُّ إِلَّا عَلَى مَعْصُومٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. 127 - وَنَحْنُ قَدْ أَبْطَلْنَا بِالْقَوَاطِعِ الْمَصِيرَ إِلَى ادِّعَاءِ النُّصُوصِ وَحَصَرْنَا مَأْخَذَ الْإِمَامَةِ فِي الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَفِيهِ بُطْلَانُ اشْتِرَاطِ الْعِصْمَةِ ; فَإِنَّ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ إِمَامًا لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى سَرِيرَتِهِ فِي الْحَالِ، فَكَيْفَ يَضْمَنُونَ عِصْمَتَهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ عَنِ

الذُّنُوبِ؟ وَلَا مُطَّلِعَ عَلَى الْعُيُوبِ. وَهَذَا فِيهِ مَقْنَعٌ بَالِغٌ. 128 - عَلَى أَنَّا بِاضْطِرَارٍ مِنْ عُقُولِنَا نَعْلَمُ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَيْهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَأَوْلَادَهُمْ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَا كَانُوا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْعِصْمَةَ وَالتَّنَقِّي مِنَ الذُّنُوبِ ; بَلْ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِهَا سِرًّا وَعَلَنًا، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَغْفِرِينَ خَاضِعِينَ، خَانِعِينَ، فَإِنْ صَدَقُوا، فَهُوَ الْمُبْتَغَى، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَالْكَذِبُ خَطِيئَةٌ مِنَ الْخَطَايَا يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ مِنْهَا. 129 - فَمَنْ أَبْدَى مِرَاءً فِي اعْتِرَافِهِمْ بِالذُّنُوبِ، فَقَدْ جَاحَدَ ضَرُورَاتِ الْعُقُولِ، وَمَنِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، وَاعْتَقَدَ عِصْمَتَهُمْ، فَقَدْ نَسَبَهُمْ إِلَى الْخُلْفِ عَمْدًا، وَالْكَذِبِ قَصْدًا، وَهَذَا إِثْبَاتُ ذَنْبٍ فِي مَسَاقِ ادِّعَاءِ التَّبَرِّي مِنَ الذُّنُوبِ. 130 - فَإِنْ قَالُوا: كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْضًا مَعَ وُجُوبِ الْعِصْمَةِ لَهُمْ. قُلْنَا: مَذْهَبُنَا الَّذِي نَدِينُ بِهِ، لَا تَجِبُ عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَآيُ الْقُرْآنِ فِي أَقَاصِيصِ النَّبِيِّينَ

مَشْحُونَةٌ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى هَنَاتٍ كَانَتْ مِنْهُمْ، اسْتَوْعَبُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ مِنْهَا. 131 - وَالْإِمَامِيَّةُ أَوْجَبُوا عِصْمَةَ الْأَئِمَّةِ عَنِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، فَإِنْ قَالُوا: الْإِمَامُ شَوْفُ الْخَلْقِ، وَمِنْهُ تَلَقِّي الْجُزْئِيِّ وَالْكُلِّيِّ فِي دِينِ اللَّهِ، وَبِهِ ارْتِبَاطُ عُرَى الْإِسْلَامِ، فَلَوْ كَانَ عُرْضَةً لِلزَّلَلِ، لَبَطَلَ غَرَضُ الْإِمَامَةِ، وَلَمَا حَصَلَتِ الثِّقَةُ بِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَمْ تُؤْمَنْ عَثَرَاتُهُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَالْقِيَامِ بِعَظَائِمَ الْأُمُورِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِيهِمْ، لَمَا وَجَبَتِ الْعِصْمَةُ لِلْمُرْسَلِينَ وَالنَّبِيِّينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. 132 - قُلْنَا: مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا: أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ تَعَاطِي مُهِمَّاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنِ اسْتِخْلَافِ الْوُلَاةِ، وَنَصْبِ الْقُضَاةِ، وَجُبَاةِ الْأَخْرِجَةِ وَالصَّدَقَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ اللَّهِ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى الْإِمَامُ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ الْأَقَلَّ، ثُمَّ لَا تَجِبُ عِصْمَةُ وُلَاةِ

الْأَمْرِ حَيْثُ كَانُوا فِي أَطْرَافِ خِطَّةِ الْإِسْلَامِ. وَفِيهِ بُطْلَانِ مَا ذَكَرُوهُ فَمَا تُغْنِي عِصْمَتُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِصْمَةُ مُسْتَخْلِفِيهِ. 133 - وَقَدْ ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ غُلَاةِ الْإِمَامِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْعِصْمَةِ لِكُلِّ مَنْ يَتَعَلَّقُ طَرْفٌ مِنْ مَصَالِحِ الْإِمَامَةِ بِهِ، حَتَّى طَرَدُوا ذَلِكَ فِي سَاسَةِ الدَّوَابِّ، وَالْمُسْتَخْدَمِينِ فِي الْمُسْتَحْقَرَاتِ وَالْعَبِيدِ. 134 - وَمَنِ انْتَهَى تَجَرُّؤُهُ إِلَى هَذَا، فَقَدْ كَشَفَ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِهِ، وَتَعَلَّقَ بِمَا هُوَ حَرِيٌّ بِأَنْ يُعَدَّ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالْهُزْءِ، وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ، ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ عِصْمَةُ رُوَاةِ الْأَخْبَارِ حَتَّى لَا يُفْرَضَ مِنْهُمْ زَلَلٌ، وَعِصْمَةُ الشُّهُودِ الْمُقِيمِينَ لِلشَّهَادَاتِ فِي الْحُكُومَاتِ. وَعِصْمَةُ الْمُفْتِينَ الَّذِينَ إِلَيْهِمْ رُجُوعُ الْعَامِلِينَ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَحَلِّ الْمُعْوِصَاتِ. 135 - ثُمَّ مِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: التَّقِيَّةُ دِينُنَا وَدِينُ آبَائِنَا، وَيُوجِبُونَ عَلَى الْأَئِمَّةِ أَنْ يَبُوحُوا بِالْكَذِبِ الصَّرَاحِ،

وَيُبْدُوا خِلَافَ مَا يَعْتَقِدُونَ، وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ، فَلَيْتَ شِعْرِي فَكَيْفَ يَعْتَمِدُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ، مَعَ تَجْوِيزِ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُونَ، وَغَايَتُهُمْ فِي اشْتِرَاطِ الْعِصْمَةِ اتِّبَاعُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ، فَإِذَا سَقَطَتِ الثِّقَةُ بِأَقْوَالِهِمْ كَيْفَ تَجِبُ الْعِصْمَةُ فِي أَفْعَالِهِمْ؟ وَلَئِنْ جَازَ الْكَذِبُ فِي الْقَوْلِ تَقِيَّةً، فَلْيَجُزِ الزَّلَلُ فِي الْعَمَلِ لِمِثْلِ ذَلِكَ. وَأَقْدَارُ هَؤُلَاءِ تَقِلُّ عَنْ الِازْدِيَادِ عَلَى هَذَا الْمَبْلَغِ فِي قَبَائِحِهِمْ، وَبَثِّ فَضَائِحِهِمْ. 136 - وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّمَا تَجِبُ عِصْمَتُهُمْ لِدَلَالَاتِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى صِدْقِ لَهْجَتِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ بِآيَةٍ بَاهِرَةٍ، وَحُجَّةٍ قَاهِرَةٍ عَنِ الْمُمَخْرِقِينَ الْكَذَّابِينَ، لَمَا اسْتَقَرَّ عَقْدٌ فِي نُبُوَّةٍ، فَمُسْتَنَدُ النُّبُوَّاتِ الْمُعْجِزَاتُ إِذًا. 137 - وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ، فَقَدْ صَحَّ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ إِمَامَتُهُمْ مَعَ مَا يَتَعَرَّضُونَ لَهُ مِنْ إِمْكَانِ الْهَفَوَاتِ، فَإِنَّا أَثْبَتْنَا صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ،

وَيَسْتَحِيلُ مَعَهُ عِلْمُ الْمُخْتَارِينَ فِي مُطَّرَدِ الْعَادَاتِ بِأَحْوَالِ الْمَنْصُوبِينَ لِلزَّعَامَةِ، فَاسْتِنَادُ الْإِمَامَةِ إِلَى النُّبُوَّةِ، وَمُسْتَنَدُ النُّبُوَّةِ الْمُعْجِزَةُ، فَلَمَّا تَعَلَّقْ مُسْتَنَدُ التَّبْلِيغِ بِالنَّبِيِّ، لَمْ يَكُنْ لِتَمَيُّزِهِ مِمَّنْ عَدَاهُ بُدٌّ مِنْ آيَةٍ. وَالْأَئِمَّةُ يُبَيِّنُونَ أَوْ يُفْتُونَ أَوْ يَتَّبِعُونَ فُرُوعًا فِي شَرَائِعِ الرُّسُلِ، فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى انْتِصَابِهِمْ مَعَ التَّعَرُّضِ لِلزَّلَلِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعُقُولِ مَا يَأْبَى ذَلِكَ، وَيُحِيلُهُ تَلَقَّيْنَاهُ بِالْقَبُولِ، وَنَزَّلْنَاهُ مَنْزِلَةَ الشُّهُودِ وَالْمُفْتِينَ وَسَائِرِ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُمَاةِ الدِّينِ. وَهَذَا الْمَبْلَغُ كَافٍ فِي مُكَالَمَةِ هَؤُلَاءِ، فَهُمْ أَذَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُنْتَهَى الْكَلَامُ مَعَهُمْ إِلَى حُدُودِ الْإِطْنَابِ. وَهَذَا نِجَازُ الْبَابِ.

الباب الخامس فيما يتضمن خلع الأئمة وانخلاعهم

[الْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ خَلْعَ الْأَئِمَّةِ وَانْخِلَاعَهُمْ] [الأمور المؤثرة في الخلع والانخلاع] الْبَابُ الْخَامِسُ. فِيمَا يَتَضَمَّنُ خَلْعَ الْأَئِمَّةِ وَانْخِلَاعَهُمْ. 138 - فَنَقُولُ: مَا يَجِبُ بِنَاءُ أَسَاسِ الْبَابِ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ اشْتَمَلَ عَلَى ذِكْرِ الصِّفَاتِ الْمَرْعِيَّةِ فِي الْأَئِمَّةِ. فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ اسْتِدَادُ النَّظَرِ ابْتِدَارًا قَبْلَ الِافْتِكَارِ وَإِنْعَامِ الِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَا يُنَاقِضُ صِفَةً مَرْعِيَّةً فِي الْإِمَامَةِ وَيَتَضَمَّنُ انْتِفَاءَهَا، فَهُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْخَلْعِ وَالِانْخِلَاعِ، وَهَذَا لَا مَحَالَةَ مُعْتَبَرُ الْبَابِ. وَلَكِنَّ وُضُوحَ الْغَرَضِ يَسْتَدْعِي تَفْصِيلًا، فَنَقُولُ: 139 - الْإِسْلَامُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعِصَامُ، فَلَوْ فُرِضَ انْسِلَالُ الْإِمَامِ عَنِ الدِّينِ، لَمْ يَخْفَ انْخِلَاعُهُ، وَارْتِفَاعُ مَنْصِبِهِ وَانْقِطَاعُهُ،

فَلَوْ جَدَّدَ إِسْلَامًا لَمْ يَعُدْ إِمَامًا إِلَّا أَنْ يُجَدَّدَ اخْتِيَارُهُ. 140 - وَلَوْ جُنَّ جُنُونًا مُطْبِقًا انْخَلَعَ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ فِي عَقْلِهِ خَبَلٌ، وَعَتَهٌ فِي رَأْيِهِ، وَاضْطَرَبَ نَظَرُهُ اضْطِرَابًا لَا يَخْفَى دَرْكُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ، وَعَسُرَ بِهَذَا السَّبَبِ اسْتِقْلَالُهُ بِالْأُمُورِ، وَسَقَطَتْ نَجْدَتُهُ وَكِفَايَتُهُ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ كَمَا يَنْعَزِلُ الْمَجْنُونُ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الْإِمَامَةِ الْقِيَامُ بِالْمُهِمَّاتِ وَالنُّهُوضُ بِحِفْظِ الْحَوْزَةِ، وَضَمُّ النَّشْرِ، وَحِفْظُ الْبِلَادِ الدَّانِيَةِ وَالنَّائِيَةِ بِالْعَيْنِ الْكَالِئَةِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ عُسْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الِاتِّسَامُ بِنَبَزِ الْإِمَامِ مَعْنًى. 141 - وَالَّذِي غَمُضَ عَلَى الْعُلَمَاءِ مَدْرَكُهُ، وَاعْتَاصَ عَلَى الْمُحَقِّقِينَ مَسْلَكُهُ طَرَيَانُ مَا يُوجِبُ التَّفْسِيقَ عَلَى الْإِمَامِ، فَلْيُنْعِمْ طَالِبُ التَّحْصِيلِ فِي ذَلِكَ نَظَرَهُ، وَلْيُعَظِّمْ فِي نَفْسِهِ خَطَرَهُ، وَلْيَجْمَعْ لَهُ فِكْرَهُ ; فَإِنَّهُ

مِنْ مَعَاصَاتِ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ. وَالْمُسْتَعَانُ رَبُّ الْأَرْبَابِ. 142 - قَدْ ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْفِسْقَ إِذَا تَحَقَّقَ طَرَيَانُهُ ; أَوْجَبَ انْخِلَاعَ الْإِمَامِ كَالْجُنُونِ. وَهَؤُلَاءِ يَعْتَبِرُونَ الدَّوَامَ بِالِابْتِدَاءِ، وَيَقُولُونَ: اقْتِرَانُ الْفِسْقِ إِذَا تَحَقَّقَ يَمْنَعُ عَقْدَ الْإِمَامَةِ. فَطَرَيَانُهُ يُوجِبُ انْقِطَاعَهَا ; إِذِ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنَ الْعَقْدِ عَدَمُ الثِّقَةِ بِهِ وَامْتِنَاعُ ائْتِمَانِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِفْضَاءُ تَقْلِيدِهِ إِلَى نَقِيضِ مَا يُطْلَبُ مِنْ نَصْبِ الْأَئِمَّةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي الدَّوَامِ تَحَقُّقَهُ فِي الِابْتِدَاءِ. وَالَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْرِيرُهُ ; بَلْ يَجِبُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِانْخِلَاعِهِ خَلْعُهُ، وَإِذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، فَرَبْطُ الْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ خَلْعِهِ لَا مَعْنًى لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ. 143 - وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْفِسْقَ بِنَفْسِهِ لَا

يَتَضَمَّنُ الِانْخِلَاعَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إِذَا تَحَقَّقَ خَلْعُهُ. 144 - وَنَحْنُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ نُوَضِّحُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، فَنَقُولُ: الْمَصِيرُ إِلَى أَنَّ الْفِسْقَ يَتَضَمَّنُ الِانْعِزَالَ وَالِانْخِلَاعَ بَعِيدٌ عَنِ التَّحْصِيلِ ; فَإِنَّ التَّعَرُّضَ لِمَا يَتَضَمَّنُ الْفِسْقَ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَجِبُ عِصْمَتُهُ ظَاهِرُ الْكَوْنِ سِرًّا وَعَلَنًا، عَامُّ الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا التَّقْوَى وَمُجَانَبَةُ الْهَوَى وَمُخَالَفَةُ مَسَالِكِ الْمُنَى، وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَالِانْزِجَارُ عَنِ الْمَنَاهِي وَالْمَزَاجِرِ، وَالِارْعِوَاءُ عَنِ الْوَطَرِ الْمَنْقُودِ، وَانْتِحَاءُ الثَّوَابِ الْمَوْعُودِ، هُوَ الْبَدِيعُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يَسْتَدُّ عَلَى التَّقْوَى إِلَّا مُؤَيَّدٌ بِالتَّوْفِيقِ، وَالْجِبِلَّاتُ دَاعِيَةٌ إِلَى اتِّبَاعِ اللَّذَّاتِ، وَالطِّبَاعُ مُسْتَحِثَّةٌ عَلَى الشَّهَوَاتِ. وَالتَّكَالِيفُ مُتَضَمَّنُهَا كَلَفٌ وَعَنَاءٌ. وَوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ، وَهَوَاجِسُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى حُبِّ الْعَاجِلِ، وَاسْتِنْجَازِ الْحَاصِلِ، وَالْجِبِلَّةُ بِالسُّوءِ أَمَّارَةٌ، وَالْمَرْءُ عَلَى أُرْجُوحَةِ الْهَوَى تَارَةً وَتَارَةً، وَالدُّنْيَا مُسْتَأْثَرَةٌ، وَبَابُ الثَّوَابِ مُحْتَجَبٌ، فَطُوبَى لِمَنْ سَلِمَ، وَلَا مَنَاصَ، وَلَا خَلَاصَ إِلَّا لِمَنْ عُصِمَ، وَالزَّلَّاتُ تَجْرِي مَعَ الْأَنْفَاسِ، وَالْقَلْبُ

مَطْرَقُ الْوِسْوَاسِ، فَمَنِ الَّذِي يَنْجُو فِي بَيَاضِ نَهَارٍ مِنْ زَلَّتِهِ، وَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْ حَقِّ الْمَخَافَةِ إِلَّا يَتَغَمَّدُهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ. 145 - وَمِنْ شُغْلِ الْإِمَامِ عَقْدُ الْأَلْوِيَةِ، وَالْبُنُودِ، وَجَرُّ الْجُنُودِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ فِي دِيوَانِ الْمُقَاتِلَةِ إِلَّا أُولُو النَّجْدَةِ وَالْبَأْسِ، وَأَصْحَابُ النُّفُوسِ الْأَبِيَّةِ، ذَوِي الشِّرَاسِ وَالشَّمَاسِ، فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ السَّلَامَةُ مِنْ مَعَرَّةِ الْجُنْدِ، وَكَيْفَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى شَرْطِ التَّقْوَى فِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟ . 146 - وَمِنْ شَأْنِهِ أَيْضًا تَفْرِيقُ الْأَمْوَالِ بَعْدَ الِاسْتِدَادِ فِي الْجِبَايَةِ وَالْجَلْبِ، عَلَى أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ أَنَّ اشْتِرَاطَ دَوَامِ التَّقْوَى يَجُرُّ قُصَارَاهُ عُسْرَ الْقِيَامِ بِالْإِيَالَةِ الْعُظْمَى، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْفِسْقُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يُوجِبُ انْخِلَاعَ الْإِمَامِ أَوْ يَخْلَعُهُ لَكَانَ الْكَلَامُ يَتَطَرَّقُ إِلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ عَلَى تَفَنُّنِ أَطْوَارِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَلَمَا خَلَا زَمَنٌ عَنْ خَوْضِ خَائِضِينَ فِي فِسْقِهِ الْمُقْتَضِي خَلْعَهُ، وَلَتَحَزَّبَ النَّاسُ أَبَدًا فِي مُطَّرِدِ الْأَوْقَاتِ عَلَى افْتِرَاقٍ

وَشَتَاتٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَلَمَا اسْتَتَبَّتْ صَفْوَةُ الطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ فِي سَاعَةٍ. 147 - وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْإِيَالَةُ الضَّابِطَةُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِلْزَامِ وَالْإِبْرَامِ، كَانَ ضَيْرُهَا مُبِرًّا عَلَى خَيْرِهَا. فَخَرَجَ مِنْ مَحْصُولِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقَائِمَ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا، وَكَانَ لَا يَأْمَنُ اقْتِحَامَ الْآثَامِ، وَمَنْ لَا يَأْمَنِ اقْتِحَامَ الْآثَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخَاصَّتِهِ، فَبَعُدَ أَنْ يَسْلَمَ عَنِ احْتِقَابِ الْأَوْزَارِ فِي حُقُوقِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا إِيفَاءً وَاسْتِيفَاءً، وَمَنْعًا وَاسْتِوَاءً، وَرَدْعًا وَدُعَاءً، وَقَبُولًا وَرَدًّا، وَفَتْحًا وَسَدًّا، فَلَا يَبْقَى لِذِي بَصِيرَةٍ إِشْكَالٌ فِي اسْتِحَالَةِ اسْتِمْرَارِ مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ، مَعَ الْمَصِيرِ إِلَى أَنَّ الْفِسْقَ يُوجِبُ انْخِلَاعَ الْإِمَامِ، أَوْ يُسَلِّطُ خَلْعَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّ الْفِسْقَ الصَّادِرَ عَنِ الْإِمَامِ لَا يَقْطَعُ

نَظَرَهُ، وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَرْجِعَ وَيَئُوبَ. وَقَدْ قَرَّرْنَا بِكُلِّ عِبْرَةٍ أَنَّ فِي الذَّهَابِ إِلَى خَلْعِهِ أَوِ انْخِلَاعِهِ بِكُلِّ عَثْرَةٍ رَفْضَ الْإِمَامَةِ وَنَقْضَهَا، وَاسْتِئْصَالَ فَائِدَتِهَا وَرَفْعَ عَائِدَتِهَا، وَإِسْقَاطَ الثِّقَةِ بِهَا، وَاسْتِحْثَاثَ النَّاسِ عَلَى سَلِّ الْأَيْدِي عَنْ رِبْقَةِ الطَّاعَةِ. 148 - وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ عَرَضٌ، أَوْ عَرَاهُ مَرَضٌ، وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الرَّأْيُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَرْقُوبَ الزَّوَالِ لَمْ نَقْضِ بِانْخِلَاعِهِ، وَمَنْ شَبَّبَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافٍ، كَانَ مُنْسَلًّا عَنْ وِفَاقِ الْمُسْلِمِينَ انْسِلَالَ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْمَرَضَ قَاطِعٌ نَظَرَهُ فِي الْحَالِ، فَمَا يَطْرَأُ مِنْ زَلَّةٍ وَهِيَ لَا تَقْطَعُ نَظَرَهُ عَلَى أَنَّهَا مَرْقُوبَةُ الزَّوَالِ، أَوْلَى بِأَنْ لَا يَتَضَمَّنَ انْخِلَاعَهُ، وَالْأَخْبَارُ الْمُسْتَحِثَّةُ عَلَى اتِّبَاعِ الْأُمَرَاءِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا فِي حُكْمِ الِاسْتِفَاضَةِ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُ أَلْفَاظِهَا مَنْقُولَةً أَفْرَادًا؛ مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؛ لَكُمْ صَفْوُ أَمْرِهِمْ

إذا تواصل من الإمام العصيان وفشا منه العدوان

وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ» "؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ. فَلْيَطْلُبِ الْحَدِيثَ طَالِبُهُ مِنْ أَهْلِهِ. 149 - وَإِنَّمَا غَرَضِي مِنْ وَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ، وَتَبْوِيبِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ، تَحْقِيقُ الْإِيَالَاتِ الْكُلِّيَّةِ، وَذِكْرُ مَا لَهَا مِنْ مُوجِبٍ وَقَضِيَّةٍ، وَهَذِهِ مَسَالِكُ لَا أُبَارِي فِي حَقَائِقِهَا وَلَا أُجَارِي فِي مَضَايِقِهَا. 150 - فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ مَنَعْتُمْ عَقْدَ الْإِمَامَةِ لِفَاسِقٍ؟ . قُلْنَا: أَهْلُ الْعَقْدِ عَلَى تَخَيُّرِهِمْ فِي افْتِتَاحِ الْعَهْدِ، وَمِنْ سُوءِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يُعَيَّنَ لِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ فَاسِقٌ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقْصَى الْإِمْكَانِ، وَأَمَّا الذَّهَابُ إِلَى الِانْخِلَاعِ بَعْدَ الِاسْتِمْرَارِ وَالِاسْتِتْبَابِ مَعَ التَّعَرُّضِ لِلزَّلَّاتِ، فَمُفْسِدٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ، وَلَا خَفَاءَ بِذَلِكَ عِنْدَ ذَوِي الدِّرَايَةِ. [إِذَا تَوَاصَلَ مِن الإمام الْعِصْيَانُ وَفَشَا مِنْهُ الْعُدْوَانُ] 151 - وَهَذَا كُلُّهُ - حَرَسَ اللَّهُ مَوْلَانَا - فِي نَوَادِرِ الْفُسُوقِ

فَأَمَّا إِذَا تَوَاصَلَ مِنْهُ الْعِصْيَانُ، وَفَشَا مِنْهُ الْعُدْوَانُ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ، وَزَالَ السَّدَادُ، وَتَعَطَّلَتِ الْحُقُوقُ وَالْحُدُودُ، وَارْتَفَعَتِ الصِّيَانَةُ، وَوَضَحَتِ الْخِيَانَةُ، وَاسْتَجْرَأَ الظَّلَمَةُ، وَلَمْ يَجِدِ الْمَظْلُومُ مُنْتَصِفًا مِمَّنْ ظَلَمَهُ، وَتَدَاعَى الْخَلَلُ وَالْخَطَلُ إِلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَتَعْطِيلِ الثُّغُورِ، فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِدْرَاكِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُتَفَاقِمِ عَلَى مَا سَنُقَرِّرُ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى الْفَاهِمِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَةَ إِنَّمَا تُعْنَى لِنَقِيضِ هَذِهِ الْحَالَةِ. 152 - فَإِذَا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى خِلَافِ مَا تَقْتَضِيهِ الزَّعَامَةُ وَالْإِيَالَةُ، فَيَجِبُ اسْتِدْرَاكُهُ لَا مَحَالَةَ، وَتَرْكُ النَّاسِ سُدًى، مُلْتَطِمِينَ لَا جَامِعَ لَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنْ تَقْرِيرِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ مَنْ هُوَ عَوْنُ الظَّالِمِينَ، وَمَلَاذُ الْغَاشِمِينَ، وَمَوْئِلُ الْهَاجِمِينَ، وَمُعْتَصَمُ الْمَارِقِينَ النَّاجِمِينَ، وَإِذَا دُفِعَ الْخَلْقُ إِلَى ذَلِكَ، فَقَدِ اعْتَاصَتِ الْمَسَالِكُ، وَأَعْضَلَتِ الْمَدَارِكُ، فَلْيَتَّئِدِ النَّاظِرُ هُنَالِكَ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى الْخَبَالِ، وَالْخَبْطِ وَالِاخْتِلَالِ، كَانَ ذَلِكَ لِصِفَةٍ

حكم مدافعة الإمام الفاسق

فِي الْمُتَصَدِّي لِلْإِمْرَةِ، وَتِيكَ هِيَ الَّتِي جَرَّتْ مِنْهُ هَذِهِ الْفَتْرَةَ، وَلَا يَرْتَضِي هَذِهِ الْحَالَةَ مَنْ نَفْسُهُ ذُو حَصَافَةٍ فِي الْعَقْلِ، وَدَوَامُ التَّهَافُتِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مُشْعِرٌ بِرَكَاكَةِ الدِّينِ فِي الْأَصْلِ، أَوْ بِاضْطِرَابِ الْجِبِلَّةِ، وَهُوَ خَبَلٌ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُ ذَلِكَ، فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الْأُمُورُ عَنْ مَرَاتِبِهَا وَتَمِيلَ مِنْ مَنَاصِبِهَا، وَتَمِيدَ خِطَّةُ الْإِسْلَامِ بِمَنَاكِبِهَا، وَهَا أَنَا - بِعَوْنِ اللَّهِ عَزَّتْ قُدْرَتُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ - لَا آلُو فِي وَجْهِ ذَلِكَ جُهْدًا، وَلَا أُغَادِرُ مُضْطَرَبًا وَقَصْدًا. وَعَلَى الْمُنْتَهِي إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يَقْبَلَ فِي هَذِهِ الْإِطَالَةِ عُذْرِي وَيُحْسِنَ أَمْرِي، فَقَدِ انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى غَائِلَةٍ، وَمَعَاصَةٍ هَائِلَةٍ، لَا يُدْرِكُهَا أُولُو الْآرَاءِ الْفَائِلَةِ، وَالْوَجْهُ عِنْدِي قَبْضُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَقْصُودِ وَالْمَرَامِ، وَبَسْطُهُ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فِي التَّمَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْإِمَامِ، وَفِيهَا الِاتِّسَاقُ وَالِانْتِظَامُ. [حكم مدافعة الإمام الفاسق] 153 - فَأَقُولُ: إِنْ عَسُرَ الْقَبْضُ عَلَى يَدِهِ الْمُمْتَدَّةِ لِاسْتِظْهَارِهِ

بِالشَّوْكَةِ الْعَتِيدَةِ، وَالْعُدَدِ الْمُعَدَّةِ، فَقَدْ شَغَرَ الزَّمَانُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَدُفِعَ إِلَى مُصَابَرَةِ الْمِحَنِ طَبَقَاتُ الْخَلْقِ، وَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي أَحَدِ مَقْصُودَيِ الْكِتَابِ ; إِذْ هَذَا الْمَجْمُوعُ مَطْلُوبُهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ أَحْكَامِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَنِ عَنِ الْأَئِمَّةِ. وَالثَّانِي: إِيضَاحُ مُتَعَلَّقِ الْعِبَادِ عِنْدَ عُرُوِّ الْبِلَادِ عَنِ الْمُفْتِينَ الْمُسْتَجْمِعِينَ لِشَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ. وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ فِي حُكْمِ الْمُقَدِّمَاتِ. 154 - وَإِنَّمَا اضْطُرِرْتُ إِلَى كَشْفِ أَحْكَامِ الْوُلَاةِ إِذَا وُجِدُوا ; لِأَتَوَصَّلَ إِلَى بَيَانِ غَرَضِي إِذَا فُقِدُوا ; فَنُوجِزُ هَذَا الْفَصْلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِلَى وُصُولِنَا إِلَى مَقْصِدِ الْكِتَابِ، فَأَمَّا إِذَا تَمَكَّنَّا مِنْ كِفَايَةِ هَذَا الْمُهِمِّ، وَدَفْعِ هَذَا الْمُلِمِّ، فَلْنُشَمِّرْ فِيهِ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ، وَلْنَسْعَ فِيهِ بِأَقْصَى الْجُهْدِ، وَلَيْسَ الْخَوْضُ فِي ذَلِكَ

بِالْهَيِّنِ اللَّيِّنِ، فَلَا يَثُورَنَّ عَلَى الْأُمَرَاءِ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ دَيِّنٌ. 155 - فَأَقُولُ: إِنْ تَيَسَّرَ نَصْبُ إِمَامٍ مُسْتَجْمِعٍ لِلْخِصَالِ الْمَرْضِيَّةِ، وَالْخِلَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي رِعَايَةِ الرَّعِيَّةِ، تَعَيَّنَ الْبِدَارُ إِلَى اخْتِيَارِهِ، فَإِذَا انْعَقَدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ، وَاتَّسَقَتْ لَهُ الطَّاعَةُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَهُوَ إِذْ ذَاكَ يَدْرَأُ مَنْ كَانَ، وَقَدْ بَانَ الْآنَ أَنَّ تَقْدِيمَ دَرْئِهِ فِي مُهِمَّاتِ أُمُورِهِ، فَإِنْ أَذْعَنَ، فَذَاكَ، وَإِنْ تَأَبَّى عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ الطُّغَاةِ، وَقَابَلَهُ مُقَابَلَةَ الْبُغَاةِ. 156 - وَلَا مَطْمَعَ لِلْخَوْضِ فِي هَذَا، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْبُغَاةِ يَحْوِيهَا كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، فَلْتُطْلَبْ مِنْ مَوْضِعِهَا، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى نَصْبُ إِمَامٍ دُونَ اقْتِحَامِ دَاهِيَةٍ وَإِرَاقَةِ دِمَاءٍ، وَمُصَادَمَةِ أَحْوَالٍ جَمَّةِ الْأَهْوَالِ، وَإِهْلَاكِ أَنْفُسٍ وَنَزْفِ أَمْوَالٍ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَاسَ مَا النَّاسُ مَدْفُوعُونَ إِلَيْهِ مُبْتَلُونَ بِهِ بِمَا

يُفْرَضُ وُقُوعُهُ فِي مُحَاوَلَةِ دَفْعِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ النَّاجِزُ أَكْثَرَ مِمَّا يُقَدَّرُ وُقُوعُهُ فِي رَوْمِ الدَّفْعِ، فَيَجِبُ احْتِمَالُ الْمُتَوَقَّعِ لَهُ لِدَفْعِ الْبَلَاءِ النَّاجِزِ. 157 - وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَقَبُ الْمُتَطَلَّعُ يَزِيدُ فِي ظَاهِرِ الظُّنُونِ إِلَى مَا الْخَلْقُ مَدْفُوعُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يُسَوَّغُ التَّشَاغُلُ بِالدَّفْعِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَقَدْ يُقَدِّمُ الْإِمَامُ مُهِمًّا، وَيُؤَخِّرُ آخَرَ. وَالِابْتِهَالُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ وَلِيُّ الْكِفَايَةِ. 158 - وَهَذَا يُعَضِّدُهُ أَمْرٌ لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ لَبِيبٌ، وَهُوَ أَنَّ طَوَائِفَ مِنْ قُطَّاعِ الطُّرُقِ إِذْا كَانُوا يَرْصُدُونَ الرِّفَاقَ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَحَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُلْحِقَ الطَّلَبَ الْحَثِيثَ بِهِمْ، فَلَوْ بَلَغَهُ اخْتِلَالٌ فِي بَعْضِ الثُّغُورِ، وَوَطِئَ الْكُفَّارُ قُطْرًا مِنْ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَعَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَتْقَ لَا يَلْتَئِمُ إِلَّا بِصَرْفِ جَمِيعِ جُنُودِ الْإِسْلَامِ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِذَلِكَ، وَيَتَرَبَّصُ بِالْقُطَّاعِ الدَّوَائِرَ.

159 - وَالرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِي الْإِيَالَةِ الْبِدَايَةُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَتَرَتَّبُ مُنَابَذَةُ الْكُفَّارِ، وَمُقَاتَلَتُهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} . وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَنْبَنِي مُهَادَنَةُ الْكُفَّارِ عَشْرَ سِنِينَ، إِذَا اسْتَشْعَرَ الْإِمَامُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفًا. 160 - فَإِنْ قِيلَ: مَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى طَلَبِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَارْتِيَادِ الْأَنْفَعِ لَهُمْ، وَاعْتِمَادِ خَيْرِ الشَّرَّيْنِ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دَفْعِهِمَا جَمِيعًا، وَسِيرَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مُعَاوِيَةَ وَمُتَّبِعِيهِ تُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَزِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ تَفُوتُ أَهْلَ مِصْرَ وَالشَّامِ مِنِ انْقِطَاعِ نَظَرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَنْهُمْ لَا يُقَابِلُهَا قَتْلُ مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَوْ كَانَ الْمَرْعِيُّ فِي ذَلِكَ الْمُوَازَنَةَ بَيْنَ رُتَبِ الْمَصَالِحِ، لَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَنْحَجِزَ عَلِيٌّ عَنْ بَعْضِ جِدِّهِ، وَيَكُفَّ مِنْ غَرْبِهِ وَحَدِّهِ. فَإِذَا كَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَادًّا مُسْتَهِينًا بِكَثْرَةِ الْقَتْلَى وَالصَّرْعَى،

غَيْرَ مُحْتَفِلٍ بِأَنْ يَقْتُلَ أَضْعَافَ الَّذِينَ قُتِلُوا يَقِينًا وَقَطْعًا، فَكَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَرَى بِنَاءَ الْأَمْرِ عَلَى الشَّهَامَةِ وَالصَّرَامَةِ، وَتَنَكُّبِ الِاسْتِكَانَةِ، وَاجْتِنَابِ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاجَاةِ، وَكَانَ لَا يَلِينُ وَلَا يَسْتَكِينُ ; وَلَا تَغُضُّ الدَّوَاهِي إِذَا سِيمَ مُخَالَفَةَ الْحَقِّ مِنْ شِمَاسِهِ، وَلَا يَنْحَطُّ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ، وَالسَّيْفُ مَسْلُولٌ عَلَى رَأْسِهِ، وَكَانَ شَوْفُهُ دُعَاءَ الْخَلْقِ إِلَى اللَّقَمِ الْوَاضِحِ وَالسَّبِيلِ اللَّائِحِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنْ وَلَّيْتُمُوهَا عَلِيًّا فَلَيَحْمِلَنَّكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْغَرَّاءِ وَلَوْ وُضِعَ عَلَى رَقَبَتِهِ السَّيْفُ» "، وَلَا يَبْعُدُ مَسْلَكُهُ عَنْ مَدْرَكِ الْحَقِّ، فَإِنَّ هَذَا مُؤَيَّدُ الْمِلَّةِ بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى. 161 - قُلْنَا قَدْ صَارَ أَوَّلًا طَوَائِفُ مِنْ جِلَّةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى التَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

وَإِيثَارِ السُّكُونِ، لِرُكُونٍ إِلَى السَّلَامَةِ، وَالتَّبَاعُدِ عَنْ مُلْتَطَمِ الْغَوَائِلِ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَا مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَمِمَّنْ تَخَلَّفَ أَوَّلًا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَتَبِعَ هَؤُلَاءِ أُمَمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَشْتَدَّ نَكِيرُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِمْ. أَمَّا سَعْدٌ لَمَّا نَدَبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الْقِتَالِ قَالَ: " لَا أَخْرُجُ

أَوْ يَكُونَ لِي سَيْفٌ لَهُ لِسَانَانِ، يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ بِإِيمَانِهِ، وَعَلَى الْمُنَافِقِ بِنِفَاقِهِ ". وَقَالَ أُسَامَةُ: " لَوْ وُضِعْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَوْفِ أَسَدٍ، لَدَخَلْتُ مَعَكَ، وَلَكِنْ لَا مُسَامَحَةَ مَعَ النَّارِ " وَقَامَ أَبُو مُوسَى فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ مَرْمُوقًا فِي الْيَمَنِ، فَقَالَ: " إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ فَلَا تَسْتَغِشِّونِي، أَغْمِدُوا سُيُوفَكُمْ، وَكَسِّرُوا رِمَاحَكُمْ، وَاقْطَعُوا أَوْتَارَكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ، الْمُضْطَجِعُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي» ". وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدِرُّ عَلَيْهِمْ أَرْزَاقَهُمْ وَأَعْطِيَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ نَقَمَ مِنْهُمْ مَا رَأَوْهُ، لَبَدَأَهُمْ بِنَصْبِ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ. فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى هَذَا. 162 - ثُمَّ مَا ظَنَّ عَلِيٌّ أَنَّ الْأَمْرَ يُفْضِي إِلَى مَا أَفْضَى إِلَيْهِ، وَمُعْظَمُ تِلْكَ الْمَعَارِكِ جَرَتْ عَنِ اتِّفَاقَاتٍ رَدِيَّةٍ، ثُمَّ اشْتُهِرَ مِنْهُ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا قُدِّمَ. وَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَكَادَتِ السُّيُوفُ تُفْنِي الْمُجَاهِدِينَ وَجُنْدَ اللَّهِ

الْمُؤَيَّدِينَ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، أَجَابَ إِلَى التَّحْكِيمِ فِي خَلْعِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي شَرْحِ مَجَارِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَبْوَابِهَا، فَقَدِ اسْتَبَانَ الْأَصْلُ الَّذِي مَهَّدْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي جَلْبِ النَّفْعِ وَالدَّفْعِ، فِي النَّصْبِ وَالْخَلْعِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. 163 - وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِإِتْمَامِ الْغَرَضِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِلْإِمَامَةِ إِذَا عَظُمَتْ جِنَايَتُهُ، وَكَثُرَتْ عَادِيَتُهُ، وَفَشَا احْتِكَامُهُ وَاهْتِضَامُهُ، وَبَدَتْ فَضَحَاتُهُ، وَتَتَابَعَتْ عَثَرَاتُهُ، وَخِيفَ بِسَبَبِهِ ضَيَاعُ الْبَيْضَةِ، وَتَبَدُّدُ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ نَجِدْ مَنْ نُنَصِّبُهُ لِلْإِمَامَةِ حَتَّى يَنْتَهِضَ لِدَفْعِهِ حَسْبَ مَا يَدْفَعُ الْبُغَاةَ، فَلَا نُطْلِقُ لِلْآحَادِ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ أَنْ يَثُورُوا ; فَإِنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَاصْطُلِمُوا وَأُبِيرُوا، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي ازْدِيَادِ الْمِحَنِ، وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَلَكِنْ إِنِ اتَّفَقَ رَجُلٌ

فصل إذا حبس الإمام أو أسر

مُطَاعٌ ذُو أَتْبَاعٍ وَأَشْيَاعٍ، وَيَقُومُ مُحْتَسِبًا، آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَانْتَصَبَ بِكِفَايَةِ الْمُسْلِمِينَ مَا دُفِعُوا إِلَيْهِ، فَلْيَمْضِ فِي ذَلِكَ قُدُمًا. وَاللَّهُ نَصِيرُهُ عَلَى الشَّرْطِ الْمُقَدَّمِ فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، وَالنَّظَرِ فِي الْمَنَاجِحِ، وَمُوَازَنَةِ مَا يُدْفَعُ، وَيَرْتَفِعُ بِمَا يُتَوَقَّعُ. وَسَيَأْتِي هَذَا الْفَنُّ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فِي الْبَيَانِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَصْلٌ إِذَا حُبِسَ الْإِمَامُ أَوْ أُسِرَ] فَصْلٌ. 164 - إِذَا أُسِرَ الْإِمَامُ وَحُبِسَ فِي الْمَطَامِيرِ، وَبَعُدَ تَوَقُّعُ خَلَاصِهِ، وَخَلَتْ دِيَارُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْإِمَامِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ الْخِطَطِ شَاغِرَةً، وَوُجُودُ الْإِمَامِ الْمَأْسُورِ فِي الْمَطَامِيرِ لَا يُغْنِي، وَلَا يَسُدُّ مَسَدًّا، فَلَا نَجِدُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مِنْ نَصْبِ إِمَامٍ بُدًّا. 165 - قُلْتُ: لَوْ سَقَطَتْ طَاعَةُ الْإِمَامِ فِينَا، وَرَثَّتْ شَوْكَتُهُ، وَوَهَنَتْ عُدَّتُهُ، وَوَهَتْ مُنَّتُهُ، وَنَفَرَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِيهِ يَقْتَضِيهِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى فِكْرٍ ثَاقِبٍ، وَرَأْيٍ صَائِبٍ، لَا يُؤْتَى فِي ذَلِكَ عَنْ خَلَلٍ فِي عَقْلٍ، أَوْ عَتَهٍ وَخَبَلٍ، أَوْ زَلَلٍ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ،

أَوْ تَقَاعُدٍ عَنْ نَبْلٍ وَنَضْلٍ، وَلَكِنْ خَذَلَهُ الْأَنْصَارُ، وَلَمْ تُوَاتِهِ الْأَقْدَارُ، بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، أَوْ صَحِيحِ الِاخْتِيَارِ، وَلَمْ نَجِدْ لِهَذِهِ الْحَالَةِ مُسْتَدْرَكًا، وَلَا فِي تَثْبِيتِ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ لَهُ مُسْتَمْسَكًا، وَقَدْ يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مَلَلٍ أَنْتَجَهُ طُولُ مَهَلٍ، وَتَرَاخِي أَجَلٍ، فَإِذَا اتَّفَقَ ذَلِكَ، فَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ وَزَرٍ يَسْتَقِلُّ بِالْأَمْرِ، فَالْوَجْهُ نَصْبُ إِمَامٍ مُطَاعٍ، وَلَوْ بَذَلَ الْإِمَامُ الْمُحَقَّقُ أَقْصَى مَا يُسْتَطَاعُ. وَيَنْزِلُ هَذَا مَنْزِلَةَ مَا لَوْ أُسِرَ الْإِمَامُ، وَانْقَطَعَ نَظَرُهُ عَنِ الْأَنَامِ، وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصِلُ إِلَى مَظَانِّ الْحَاجَاتِ أَثَرُ رَأْيِ الْإِمَامِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ الطُّولَى، وَلَمْ تَنْبَسِطْ طَاعَتُهُ عَلَى خِطَّةِ الْإِسْلَامِ عَرْضًا وَطُولًا، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى الْمَارِقِينَ صَوْلُهُ، وَلَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ طَوْلُهُ، وَالْإِمَامُ لَا يُعْنَى لِعَيْنِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ انْقِطَاعُ نَظَرِهِ عَلَى مُوَافَاتِهِ حِينَ حَيْنِهِ.

فصل الحكم لو فقد الإمام شيئا من الحواس اللازمة

166 - وَلَسْتُ أَسَتَرِيبُ أَنَّ مَوْلَانَا كَهْفَ الْأُمَمِ مُسْتَخْدِمَ السَّيْفِ وَالْقَلَمِ يُبَادِرُ النَّظَرَ فِي مَبَادِي هَذَا الْفَصْلِ ; لِلْغَوْصِ عَلَى مَغَاصِ الْقَاعِدَةِ وَالْأَصْلِ، وَقَدْ يُغْنِي التَّلْوِيحُ عَنِ التَّصْرِيحِ، وَالْمَرَامِزُ وَالْكِنَايَاتُ عَنِ الْبَوْحِ بِقُصَارَى الْغَايَاتِ. فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ مَا يَتَضَمَّنُ الْخَلْعَ وَالِانْخِلَاعَ، وَتَتِمَّةُ الْغَرَضِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَصْلَيْنِ نَسْتَوْفِقُ اللَّهَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ فِي عَقْدِهِمَا. [فَصْلٌ الحكم لو فقد الإمام شيئا من الحواس اللازمة] فَصْلٌ. 167 - وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرَائِطِ الْإِمَامَةِ، وَصِفَاتِ الْأَئِمَّةِ، السَّلَامَةَ فِي بَعْضِ الْحَوَاسِّ، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي سَلَامَةِ الْبَدَنِ، وَالْقَوْلِ الضَّابِطِ فِيمَا يَطْرَأُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ زَوَالَ نَظَرِ الْبَصَرِ يَقْطَعُ

فصل خلاصة القول في الفسوق والأسر وفقد الحواس والأعضاء

الْإِمَامَةَ، وَيَتَضَمَّنُ انْخِلَاعَ الْإِمَامِ كَالْجُنُونِ، وَاخْتِلَالُ نَظَرِ الْبَصَرِ إِذَا أَمْكَنَ مَعَهُ التَّوَصُّلُ إِلَى الْإِدْرَاكِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْعَقْدِ، وَلَا قَاطِعٌ لَهُ فِي الدَّوَامِ، وَكَذَلِكَ الْوَقْرُ. فَأَمَّا الصَّمَمُ الْبَالِغُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْعَقْدِ أَوَّلًا، وَاضْطَرَبَ بَعْضُ الْخَائِضِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَالِكِ فِي الصَّمَمِ الطَّارِئِ. 168 - وَالْوَجْهُ عِنْدِي الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ قَاطِعٌ كَالْعَمَى. وَمَا يُؤَثِّرُ مِنْ نُقْصَانِ الْأَعْضَاءِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَأَثَرُهُ فِي الدَّوَامِ يُضَاهِي أَثَرَهُ فِي الْعَقْدِ، فَلْيُعْتَبَرِ الْقَطْعُ بِالْمَنْعِ. [فَصْلٌ خلاصة القول في الفسوق والأسر وفقد الحواس والأعضاء] فَصْلٌ. 169 - قَدْ تَعَدَّيْنَا حَدَّ الِاخْتِصَارِ فِي تَقَاسِيمِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْمُتَصَدِّي لِلْإِمَامَةِ مِنَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَغَيْرِهِ، وَمَعْقُودُ هَذَا الْفَصْلِ وَمَقْصُودُهُ يَتَحَرَّى مَرَاسِمَ وَمَنَاظِمَ تَجْرِي فِي التَّفْصِيلِ الطَّوِيلِ مَجْرَى التَّرَاجِمِ لِيُسْتَفَادَ التَّفْصِيلُ وَالتَّعْلِيلُ وَذِكْرُ مَسَالِكِ الدَّلِيلِ مِمَّا سَبَقَ، وَنَظْمُ النَّشْرِ بِالْمَعَاقِدِ الْمُشِيرَةِ إِلَى الْمَقَاصِدِ مِمَّا نَأْتِي بِهِ الْآنَ.

170 - فَنَقُولُ: الْهَنَاتُ وَالصَّغَائِرُ مَحْطُوطَةٌ، وَمَا يَجْرِي مِنَ الْكَبَائِرِ مَجْرَى الْعَثْرَةِ وَالْفَتْرَةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِمْرَارٍ عَلَيْهَا، لَا يُوجِبُ عِنْدَنَا خَلْعًا وَلَا انْخِلَاعًا، وَقَدْ قَدَّمْتُ فِيهِ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا خِلَافًا. وَأَمَّا التَّمَادِي فِي الْفُسُوقِ إِذَا جَرَّ خَبْطًا وَخَبَلًا فِي النَّظَرِ كَمَا تَقَدَّمَ تَصْوِيرُهُ وَتَقْدِيرُهُ، فَذَلِكَ يَقْتَضِي خَلْعًا وَانْخِلَاعًا، عَلَى مَا سَأُفَصِّلُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. 171 - وَانْقِطَاعُ نَظَرِ الْإِمَامِ بِأَسْرٍ بَعْدَ انْفِكَاكِهِ، أَوْ بِسُقُوطِ طَاعَتِهِ، أَوْ مَرْضَةٍ مُزْمِنَةٍ، يَتَضَمَّنُ اخْتِلَالًا بَيِّنًا وَاضِحًا، وَخَرْمًا فِي الرَّأْيِ لَائِحًا، يُوجِبُ الْخَلْعَ. 172 - وَخَلَلُ الْحَوَاسِّ، وَنُقْصَانُ الْأَعْضَاءِ يَنْدَرِجَانِ تَحْتَ ضَبْطٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الدَّوَامِ بِالِابْتِدَاءِ. فَهَذِهِ مَجَامِعُ الْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا. 173 - وَلَوْ كَانَ الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَتَعَاطَى عَلَى الدَّوَامِ مَا هُوَ

مِنْ قَبِيلِ الْكَبَائِرِ كَالشُّرْبِ فِي أَوَانٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُثَابِرًا عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْقَطْعِ عِنْدِي، وَقَدْ يَخْطُرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ذَلِكَ خَرْمًا وَفَتْقًا، وَلَمْ يَمْنَعِ الْإِمَامُ ذَا حَقٍّ حَقًّا، فَفَرْضُ الدَّوَامِ فِيهِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ كَبِيرَةٍ تَنْدُرُ، وَتَصْدُرُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْتَضِي انْقِطَاعَ أَثَرٍ، وَارْتِفَاعَ نَظَرٍ. 174 - وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ مُؤَثِّرٌ، فَإِنَّ الْكَبِيرَةَ إِذَا كَانَتْ عَثْرَةً، فَإِنَّهَا لَمْ تَجُرَّ خَبَالًا، وَلَمْ تَتَضَمَّنْ سُوءَ الظُّنُونِ، وَإِذَا تَتَابَعَ فِي فَنٍّ مِنَ الْعِصْيَانِ، أَشْعَرَ بِاجْتِرَاءِ الْإِمَامِ، وَاسْتِهَانَتِهِ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ الثِّقَةَ بِالدِّينِ، وَيُمْرِضُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَظْنُونٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَقَدْ أَسْلَفْتُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَسَائِلَ الْإِمَامَةِ بَعْضُهَا مَقْطُوعٌ بِهِ، وَبَعْضُهَا يُتَلَقَّى مِنْ طَرَائِقِ الظُّنُونِ

فصل الفرق بين الخلع والانخلاع

[فَصْلٌ الفرق بين الْخَلْعَ وَالِانْخِلَاعَ] فَصْلٌ. 175 - قَدْ أَجْرَيْنَا الْخَلْعَ وَالِانْخِلَاعَ فِي أَدْرَاجِ الْبَابِ، وَالْإِحَاطَةُ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ، فَنَقُولُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَهُوَ رَبُّ الْأَرْبَابِ. الْجُنُونُ الْمُطْبِقُ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ يَتَضَمَّنُ الِانْخِلَاعَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِنْشَاءِ خَلْعٍ وَرَفْعٍ، وَكَيْفَ يُتَوَقَّعُ ذَلِكَ، وَالْمَجْنُونُ مُوَلًّى عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ؟ وَعَيْنُ جُنُونِهِ يُوجِبُ اطِّرَادَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِي خَاصَّتِهِ، فَكَيْفَ يُقَدَّرُ إِمَامًا إِلَى اتِّفَاقِ جَرَيَانِ خَلْعِهِ؟ فَالْجُنُونُ كَالْمَوْتِ إِذًا، وَإِذَا بَقِيَ مُكَلَّفًا، وَلَكِنْ عَرَاهُ خَبَلٌ وَعَتَهٌ مَأْيُوسُ الزَّوَالِ، بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ فِي دَرْكِهِ إِلَى اجْتِهَادٍ وَافْتِكَارٍ وَنَظَرٍ وَاعْتِبَارٍ، فَهَذَا عِنْدِي نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْجُنُونِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الِانْخِلَاعَ بِنَفْسِهِ. 176 - فَأَمَّا الْفِسْقُ الْمُؤَثِّرُ، فَالْقَوْلُ فِيهِ يَنْقَسِمُ: فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ فِي إِظْهَارِ خَلَلِهِ إِلَى اجْتِهَادٍ، فَلَا نَقْضِي بِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الِانْخِلَاعَ

بِنَفْسِهِ، بَلِ الْأَمْرُ فِيهِ مُفَوَّضٌ إِلَى نَظَرِ النَّاظِرِينَ، وَاعْتِبَارِ الْمُعْتَبِرِينَ. 177 - وَإِذَا أُسِرَ الْإِمَامُ وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ كَمَا سَبَقَتْ صِفَتُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِنْشَاءِ الْخَلْعِ. 178 - فَالْقَوْلُ الضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا ظَهَرَ وَبَعُدَ زَوَالُهُ، فَهُوَ مُوجِبُ الِانْخِلَاعَ، وَمَا احْتِيجَ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَعِبَرٍ، لَمْ يَتَضَمَّنْ بِنَفْسِهِ انْخِلَاعًا، وَوُقُوعُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرِ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ لَا أَرَاهُ مُقْتَضِيًا انْخِلَاعًا، فَإِنَّ فَرْضَ فَكِّهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاخْتِيَارِ وَالْإِيثَارِ مِنْ آسِرِيهِ، وَلَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْعِهِ كَانَ إِمَامًا. فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا يَنْخَلِعُ الْمَأْسُورُ مَا لَمْ يُخْلَعْ.

279 - فَالَّذِي يَقْتَضِي الِانْخِلَاعَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، وَيَبْعُدُ ارْتِقَابُ زَوَالِهِ، وَلَا يُقَدَّرُ تَعَلُّقُ زَوَالِهِ بِاخْتِيَارِ مُخْتَارٍ، وَإِيثَارِ مُؤْثِرٍ، فَمَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الِانْخِلَاعَ، كَالْجُنُونِ الْمُزِيلِ لِلتَّكْلِيفِ إِذَا اسْتُحْكِمَ، وَالْعَتَهِ وَالْخَبَلِ الَّذِي يَظْهَرُ خَلَلُهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى نَظَرٍ، وَيَكُونُ مَأْيُوسَ الزَّوَالِ، وَكُلُّ سَبَبٍ يَحْتَاجُ فِي إِظْهَارِ خَلَلِهِ إِلَى نَظَرٍ. فَإِنِ اقْتَضَى خَلْعًا فَهُوَ إِلَى النَّاظِرِينَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي خَاتِمِ الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. 180 - وَإِنْ ظَهَرَ السَّبَبُ كَالْأَسْرِ، وَارْتُقِبَ ارْتِفَاعُهُ بِاخْتِيَارٍ، فَهُوَ مَا يَقْتَضِي إِنْشَاءَ الْخَلْعِ، وَلَا يُوجِبُ الِانْخِلَاعَ، وَكَذَلِكَ سُقُوطُ الطَّاعَةِ. 181 - فَإِنْ قِيلَ: كَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِذَا حُوصِرَ فِي الدَّارِ سَاقِطَ الطَّاعَةِ، فَمَا قَوْلُكُمْ فِي إِمَامَتِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ إِلَى أَنِ اسْتُشْهِدَ؟ ؟ .

قُلْنَا كَانَ إِمَامًا إِلَى أَنْ أَدْرَكَتْهُ سَعَادَةُ الشَّهَادَةِ، وَمَا كَانَ سُقُوطُ الطَّاعَةِ مَأْيُوسَ الزَّوَالِ، وَإِنَّمَا حَاصَرَهُ شِرْذِمَةٌ مِنَ الْهَمَجِ الْأَرْذَالِ، وَنُزَّاعِ الْقَبَائِلِ، وَكَانَ يَرَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُتَارَكَةَ وَالِاسْتِسْلَامَ وَالْإِذْعَانَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُؤْثِرْ أَنْ يُرَاقَ بِسَبَبِهِ مِحْجَمَةُ دَمٍ، حَتَّى قَالَ لِغِلْمَانِهِ: " مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ، فَهُوَ حُرٌّ " فَلَمْ تَجْرِ مُحَاصَرَتُهُ مَجْرَى الْأَسْرِ الْمُقَدَّمِ تَصْوِيرُهُ. 182 - فَإِنْ قِيلَ: رَدَّدْتُمْ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ذِكْرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ النَّاظِرِينَ مِمَّا يُوجِبُ الْخَلْعَ فَأَبِينُوهُ وَاذْكُرُوا الْمَعْنِيَّ بِالنَّظَرِ. قُلْنَا: لَمْ نُرِدْ بِالنَّظَرِ مَا يَجُرُّ غَلَبَاتِ الظُّنُونِ، كَنَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي فُنُونِ الْمَظْنُونَاتِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ الطَّارِئُ مُجْتَهَدًا فِيهِ لَمْ يَسُغْ خَلْعُ الْإِمَامِ بِهِ قَطْعًا، فَلْنُثْبِتْ هَذَا أَصْلًا فِي الْبَابِ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَاتِ

بِجُمْلَتِهَا لَا وَقْعَ لَهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ يَسْتَتْبِعُ الْمُجْتَهِدِينَ أَجْمَعِينَ، وَلَا يَتْبَعُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا عَنَيْنَا بِالنَّظَرِ مَزِيدَ فِكْرٍ وَتَدَبُّرٍ مِنْ أَهْلِهِ، يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْقَطْعَ بِاخْتِلَالِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، بِسَبَبِ مَا طَرَأَ مِنْ فِسْقٍ، أَوْ خَبَلٍ. 183 - فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَدَّمْتُمْ أَنَّ وَجْهَ خَلْعِ الْإِمَامِ نَصْبُ إِمَامٍ ذِي عُدَّةٍ، فَمَا تَرْتِيبُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ؟ . قُلْنَا: الْوَجْهُ خَلْعُ الْمُتَقَدَّمِ، ثُمَّ نَصْبُ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّانِي يَدْفَعُهُ دَفْعَهُ لِلْبُغَاةِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ يَخْلَعُهُ؟ . قُلْنَا: الْخَلْعُ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ الْعَقْدُ، وَقَدْ سَبَقَ وَصْفُ الْعَاقِدِينَ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَبَلَاغٌ تَامٌّ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُخْبَرْ هَذِهِ الْحَقَائِقَ إِلَى أَنَّا نَشْتَرِطُ الْإِجْمَاعَ فِي الْخَلْعِ، وَإِنْ لَمْ نَشْتَرِطْهُ فِي الْعَقْدِ. وَهَذَا زَلَلٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تُرْهِقُ إِلَى الْخَلْعِ، وَلَوِ انْتُظِرَ وِفَاقُ عُلَمَاءِ الْآفَاقِ، لَاتَّسَعَ الْخَرْقُ، وَعَظُمَ الْفَتْقُ. نَعَمْ لَا بُدَّ فِي الْخَلْعِ وَالْعَقْدِ مِنِ اعْتِبَارِ شَوْكَةٍ،

وَقَدْ أَوْضَحْنَا كَيْفِيَّةَ اعْتِبَارِهَا فِي الْبَابَيْنِ. 184 - وَالْآنَ كَمَا انْتَهَى مَقْصِدُنَا فِي هَذِهِ الْفُنُونِ، وَقَدْ جَرَتْ بِيُمْنِ أَيَّامِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَهْفِ الْأَنَامِ عَلَى رَمْزَةٍ، لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا، وَلَمْ يَجْرِ فِي تَصَانِيفِ الْمُتَقَدِّمِينَ شَكْلُهَا، وَنَبَّهْتُ عَلَى دَقَائِقَ لَمْ يَخْطِرْ لِلْغَوَّاصِينَ فَرْعُهَا وَأَصْلُهَا، عَلَى أَنِّي لَمْ أَذْكُرْ - وَاللَّهِ - إِلَّا أَطْرَافًا، وَلَمْ أَقْصِدْ إِلَّا اسْتِطْرَافًا، فَإِنَّ كِتَابَ الْإِمَامَةِ لَيْسَ مَقْصُودِي فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَحَقُّ التَّابِعِ أَنْ يُوجَزَ، وَنُؤَخِّرُ جُمَامَ الْكَلَامِ إِلَى الْمُتَوَقَّعِ.

فصل ليس من حق العاقدين خلع الإمام بدون سبب

[فَصْلٌ ليس من حق العاقدين خلع الإمام بدون سبب] فَصْلٌ. 185 - الْإِمَامُ إِذَا لَمْ يَخْلُ عَنْ صِفَاتِ الْأَئِمَّةِ، فَرَامَ الْعَاقِدُونَ لَهُ عَقْدَ الْإِمَامَةِ أَنْ يَخْلَعُوهُ، لَمْ يَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ. فَإِنَّ عَقْدَ الْإِمَامَةِ لَازِمٌ، لَا اخْتِيَارَ فِي حَلِّهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ، وَلَا تَنْتَظِمُ الْإِمَامَةُ، وَلَا تُفِيدُ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إِلَّا مَعَ الْقَطْعِ بِلُزُومِهَا، وَلَوْ تَخَيَّرَ الرَّعَايَا فِي خَلْعِ إِمَامٍ الْخُلُقَ عَلَى حُكْمِ الْإِيثَارِ وَالِاخْتِيَارِ، لَمَا اسْتَتَبَّ لِلْإِمَامِ طَاعَةٌ، وَلِمَا اسْتَمَرَّتْ لَهُ قُدْرَةٌ وَاسْتِطَاعَةٌ، وَلَمَا صَحَّ لِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ مَعْنًى. 186 - فَأَمَّا الْإِمَامُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ، فَقَدِ اضْطَرَبَتْ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: فَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ، وَقَضَى بِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَلْزَمُ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ لُزُومَهَا مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدِينَ، وَكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

187 - وَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ، وَاسْتَمْسَكَ بِمَا صَحَّ تَوَاتُرًا وَاسْتِفَاضَةً مِنْ خَلْعِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَفْسَهُ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَبْدُ مِنْ أَحَدٍ نَكِيرٌ عَلَيْهِ. 188 - وَالْحَقُّ الْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ خَلَعَ نَفْسَهُ، لَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَزُلْزِلَتِ الثُّغُورُ، وَانْجَرَّ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ضِرَارٌ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ، وَهُوَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ كَالْوَاقِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي صَفِّ الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ. إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْهَزِمَ، وَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِهَذَا السَّبَبِ يَكَادُ أَنْ يَنْثَلِمَ وَيَنْخَرِمَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُصَابَرَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ الِابْتِدَارُ لِلْجِهَادِ مَعَ قِيَامِ الْكُفَاةِ بِهِ. 189 - وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ خَلْعَهُ نَفْسَهُ لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يُطْفِئُ نَائِرَةً ثَائِرَةً، وَيَدْرَأُ فِتَنًا مُتَظَافِرَةً، وَيَحْقِنُ دِمَاءً فِي أُهَبِهَا، وَيُرِيحُ طَوَائِفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ نَصَبِهَا، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ.

وَهَكَذَا كَانَ خَلْعُ الْحَسَنِ نَفْسَهُ، وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ كَانَ الْحَسَنُ صَبِيًّا رَضِيعًا كَانَ يُمِرُّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ: " «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ» "، وَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " أَقِيلُونِي فَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرِكُمْ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ انْفِرَادًا وَاسْتِبْدَادًا فِي الْخَلْعِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْإِقَالَةَ ; فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ. 190 - وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ مِنِ ارْتِبَاطِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ بِاسْتِمْرَارِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَإِدَامَةِ الْإِمَامَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهَا. وَكَانَ لَا يَسُدُّ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ مَسَدَّهُ، كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي إِمَامَةِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَلَوْ كَانَ لَا يُؤَثِّرُ خَلْعُهُ نَفْسَهُ فِي إِلْحَاقِ ضِرَارٍ، وَلَا فِي تَسْكِينِ ثَائِرَةٍ، وَلَوْ خَلَعَ الْإِمَامُ نَفْسَهُ، لَقَامَ آخَرُ مُسْتَصْلَحٌ لِلْإِمَامَةِ مَقَامَهُ، فَلَسْتُ قَاطِعًا فِي ذَلِكَ جَوَابًا، بَلْ أَرَى الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مُتَكَافِئَيْنِ، قَرِيبَيِ الْمَأْخَذِ. 191 - وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ حَاوَلَ اسْتِخْلَاءً بِنَفْسِهِ، وَاعْتِزَالًا لِطَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَمْ يَمْتَنِعْ، وَذَلِكَ مَظْنُونٌ، لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَطْعٌ، فَلْيَقَعْ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْمَظْنُونَاتِ.

فصل فيمن يستنيبه الإمام

[فَصْلٌ فِيمَنْ يَسْتَنِيبُهُ الْإِمَامُ] فَصْلٌ. فِيمَنْ يَسْتَنِيبُهُ الْإِمَامُ. 192 - قَدِ انْقَضَى بِنِجَازِ هَذِهِ الْفُصُولِ مَبْلَغُ غَرَضِنَا فِي ذِكْرِ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ أَوَّلًا، وَذِكْرِ صِفَاتِ الْأَئِمَّةِ، وَنُعُوتِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ عَقْدَ الْإِمَامَةِ، وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، ثُمَّ ذَكَرْنَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْأَئِمَّةِ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الِانْخِلَاعِ، أَوْ تُسَلِّطُ عَلَى الْخَلْعِ. 193 - وَنَحْنُ نَرَى الْآنَ أَنْ نَذْكُرَ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ الْإِمَامُ فِي مَكَرِّ الدُّهُورِ، وَيُوَلِّيهِ مَقَالِيدَ الْأُمُورِ، وَنُوَضِّحُ مَرَاتِبَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ، وَمَا يَقْتَضِيهِ كُلُّ مَنْصِبٍ مِنَ الْخِلَالِ وَالْخِصَالِ، فَإِنَّ غَرَضَنَا

لَا يُفْضَى إِلَى قُصَارَاهُ، وَلَا يُبْلَغُ مُنْتَهَاهُ، مَا لَمْ نُمَهِّدْ فِي الْوُلَاةِ أَجْمَعِينَ قَوَاعِدَ تُنَبِّهُ عَلَى صِفَاتِ الْحُمَاةِ، عَلَى تَبَايُنِ الرُّتَبِ وَالدَّرَجَاتِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى النَّاظِرُ إِلَيْهَا، وَانْجَرَّتِ الْمُقَدِّمَاتُ إِلَى فَرْضِ خُلُوِّ الْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسْتَجْمِعِينَ لِأَوْصَافِ الْوُلَاةِ، وَاسْتَبَانَ مَوَاقِعَ الْكَلَامِ، وَتَفَطَّنَ لِمَوَاضِعِ الْمَغْزَى وَالْمَرَامِ، كَانَ خَوْضُهُ فِي مَقْصُودِ الْكِتَابِ عَلَى بَصِيرَةٍ، إِذَا جَرَى عَلَى هَذِهِ الْوَتِيرَةِ. 194 - فَلْيَقَعِ الْخَوْضُ فِي تَقَاسِيمِ الْمُسْتَنَابِينِ مِمَّنْ يُرَتِّبُهُ الْإِمَامُ بِمَقَامٍ عَلَى أَنْحَاءَ وَأَقْسَامٍ، وَنَحْنُ نَبْغِي ضَبْطَهَا، وَجَمْعَهَا وَرَبْطَهَا، عَلَى إِتْقَانٍ وَإِحْكَامٍ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. 195 - فَالَّذِي يُنَصِّبُهُ الْإِمَامُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يَحُلُّ مَحَلَّ الْإِمَامِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ اسْتِيعَابًا، وَإِلَى مَنْ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، بَلْ يَخْتَصُّ بِتَوَلِّي بَعْضِهَا.

حكم تولية العهد

196 - فَأَمَّا مَنْ يَسْتَقِلُّ بِجُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الْمُرْتَبِطَةِ بِالْأَئِمَّةِ، فَيَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يُوَلِّيهِ الْإِمَامُ عَهْدَ الْإِمَامَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَإِلَى مَنْ يُقِيمُهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ. [حكم تولية العهد] 197 - فَأَمَّا مَنْ يُوَلِّيهِ الْعَهْدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَهَذَا إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَوَزَرُ الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ، وَكَهْفُ الْعَالِمِينَ، وَأَصْلُ تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ ثَابِتٌ قَطْعًا مُسْتَنِدٌ إِلَى إِجْمَاعِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَهِدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَوَلَّاهُ الْإِمَامَةَ بَعْدَهُ، لَمْ يُبْدِ أَحَدٌ مِنْ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَكِيرًا، ثُمَّ اعْتَقَدَ كَافَّةُ عُلَمَاءِ الدِّينِ تَوْلِيَةَ الْعَهْدِ مَسْلَكًا فِي إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ فِي حَقِّ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ الْمُوَلَّى، وَلَمْ يَنْفِ أَحَدٌ أَصْلَهَا أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مَنْ تَرَدَّدَ وَتَبَلَّدَ، فَفِي صِفَةِ الْمُوَلَّى أَوِ الْمُوَلِّي، فَأَمَّا أَصْلُ الْعَهْدِ، فَثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. ثُمَّ تَكَلَّمُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفَاصِيلِ تَوْلِيَةِ الْعُهُودِ، وَانْتَهَوْا إِلَى كُلِّ مَقْصُودٍ.

198 - وَنَحْنُ نُوَضِّحُ مِمَّا أَوْرَدُوهُ عُيُونَهُ، وَنِصْفُ ضُرُوبَ الْكَلَامِ وَفُنُونَهُ، وَنُوَضِّحُ الْقَطْعِيَّاتِ وَالْمَسَائِلَ الْمَظْنُونَةَ. 199 - فَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَصْلُ التَّوْلِيَةِ، فَإِنَّهُ مُعْتَضَدٌ مُتَأَيَّدٌ بِالْإِطْبَاقِ وَالْوِفَاقِ، وَالْإِجْمَاعِ الْوَاجِبِ الِاتِّبَاعِ، وَفِي الْإِجْمَاعِ بَلَاغٌ فِي رَوْمِ الْقَطْعِ وَإِقْنَاعٌ. وَلَكِنْ مَعْنَى تَصْحِيحِ التَّوْلِيَةِ وَاضِحٌ فِي مَسَالِكِ الْإِيَالَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ لَهُ. فَإِذَا كَانَتِ الْإِمَامَةُ تَنْعَقِدُ بِاخْتِيَارِ وَاحِدٍ أَوْ جَمْعٍ مِنَ الْمُخْتَارِينَ، كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ، وَتَحَقَّقَ تَحْصِيلُهُ، فَالْإِمَامُ الَّذِي هُوَ قُدْوَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَوْئِلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ مَارَسَ الْأُمُورَ وَقَارَعَ الدُّهُورَ، وَخَبَرَ الْمَيْسُورَ وَالْمَعْسُورَ، وَسَبَرَ - عَلَى مَكَرِّ الْعُصُورِ - النَّقَائِصَ وَالْمَزَايَا، وَدَانَ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ وَالرَّعَايَا، وَهُوَ فِي اسْتِمْرَارِ سُلْطَانِهِ، وَاسْتِقْرَارِ وِلَايَتِهِ فِي زَمَانِهِ، أَوْلَى بِأَنْ يُنْفِذَ تَوْلِيَتَهُ،

الشروط الواجبة فيمن يتولى العهد

وَيُعْمِلَ خِيَرَتَهُ. فَإِذًا هَذَا مَعْلُومٌ قَطْعًا. [الشروط الواجبة فيمن يتولى العهد] 200 - وَمِمَّا نَقْطَعُ بِهِ [فِي هَذَا الْفَنِّ] اشْتِرَاطُ صِفَاتِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ [بَعْدَ مَوْتِ مُوَلِّيهِ] إِمَامٌ حَقًّا مُتَصَدٍّ لِلْمَنْصِبِ الْأَبْهَى، رَاقٍ إِلَى الْمَرْقَى الْأَعْلَى. 201 - وَمِمَّا نَعْلَمُهُ مِنْ غَيْرِ مِرَاءٍ، أَنَّ تَوْلِيَةَ الْعَهْدِ لَا تَثْبُتُ مَا لَمْ يَقْبَلِ الْمَعْهُودُ إِلَيْهِ الْعَهْدَ ; فَإِنَّ الْمُوَلَّى وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَابَ الْإِمَامِ، فَالتَّوْلِيَةُ مِنَ الْإِمَامِ الْعَاهِدِ الْمُوَلِّي عَقْدَ الْإِمَامَةِ لِلْمُوَلَّى. وَلَا تَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ لِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَقْبَلِ الْمُعَيَّنُ. 202 - وَمِمَّا يُدْرَكُ بِمَدَارِكِ الْقَطْعِ أَنَّ وَلِيَّ الْعَهْدِ لَا يَلِي شَيْئًا فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا ابْتِدَاءُ إِمَامَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، إِذَا قَضَى الْإِمَامُ الَّذِي تَوَلَّى نَصْبَهُ نَحْبَهُ. 203 - فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَسَنَسْرِدُ أُمُورًا وَاقِعَةً فِي مَسَالِكِ الظُّنُونِ، مَعَ أَحْكَامٍ تَسْتَنِدُ إِلَى الْقَوَاطِعِ، وَلَمْ نُبْدِ الْفَصْلَ بَيْنَ

حكم تولية الإمام العهد لابنه

الْمَقْطُوعِ بِهِ وَبَيْنَ الْمَظْنُونِ تَمْيِيزًا وَتَحْيِيزًا، وَأَنَا أَسُوقُهَا عَلَى وُجُوهِهَا، وَأَفْصِلُ فِي أَدْرَاجِ الْكَلَامِ، وَتَقَاسِيمِ الْأَحْكَامِ، بَيْنَ الْمَعْلُومِ مِنْهَا وَبَيْنَ الْمَظْنُونِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. [حكم تولية الإمام العهد لابنه] 204 - فَمِنَ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ، أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ عَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ، أَوْ وَالِدِهِ، فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَحِّحِ الْعَقْدَ بِتَوْلِيَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَزْكِيَةَ الْمُوَلِّي وَشَهَادَتَهُ بِاسْتِجْمَاعِ خِصَالِ الْكَمَالِ وَالِاتِّصَافِ بِالْخِصَالِ الَّتِي تُرْعَى فِي الْمَنْصِبِ الْأَعْلَى، فَإِذَا كَانَ لَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلثَّانِي فِي أَمْرٍ نَزْرٍ يَسِيرٍ، وَخَطْبٍ حَقِيرٍ، فَلِأَنْ لَا تُقْبَلَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَرْفَعِ الْمَنَاصِبِ أَوْلَى. 205 - وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ الْعَقْدَ وَالْعَهْدَ، وَزَكَّى الْإِمَامَ عَنِ ارْتِقَابِ التُّهَمِ، وَالصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْإِمَامَةِ مَشْهُورَةٌ غَيْرُ مَنْكُورَةٍ، وَلَا يُفْرَضُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ لُهِجَ بِمَعَالِيهِ، وَطَيَّبَ

خِطَّةَ الْإِسْلَامِ بِمَنَاقِبِهِ وَمَسَاعِيهِ، وَمَنِ انْتَهَى فِي صِفَاتِهِ وَسِمَاتِهِ إِلَى التَّفَرُّدِ وَالتَّوَحُّدِ عَنْ طَبَقَاتِ الْخَلَائِقِ، بِالرُّقِيِّ إِلَى الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا فِي الْفَضَائِلِ، وَحَمِيدِ الطَّرَائِقِ، لَمْ يَكُنْ ظُهُورُ تَخَصُّصِهِ بِالْمَزَايَا الَّتِي فَضَلَ بِهَا الْبَرَايَا مُفْتَقِرًا إِلَى تَزْكِيَةِ مُزَكٍّ، وَإِطْرَاءِ مُطْرٍ. وَلَوِ اشْتَهَرَ رَجُلٌ بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ، وَاسْتِقَامَةِ الْحَالَةِ، فَشَهِدَ أَبُوهُ عَلَى شَهَادَتِهِ قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ ; فَإِنَّ عَدَالَةَ الْأَصْلِ الْمَشْهُودِ عَلَى شَهَادَتِهِ لَا تَتَوَقَّفُ بِثُبُوتِهَا عَلَى بِنَاءِ الْفَرْعِ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَوْ أَمَّنَ مُسْلِمٌ ابْنَهُ الْكَافِرَ، صَحَّ أَمَانُهُ، فَإِنَّ عَقْدَ الْأَمَانِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُبَاحَثَةٍ فِي الصِّفَاتِ، وَفَحْصٍ عَنْ تَفَاصِيلِ الْحَالَاتِ. 206 - فَالظَّاهِرُ عِنْدِي تَصْحِيحُ تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ مِنَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، [إِذَا ثَبَتَ بِقَوْلِ غَيْرِ الْمُوَلِّي اسْتِجْمَاعُ الْمُوَلِّي لِلشَّرَائِطِ الْمَرْعِيَّةِ

الخلاف في اشتراط رضا أهل الاختيار والعقد

فِيهِ] وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَظْنُونَةٌ، لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ قَطْعِيٌّ، وَلَمْ أَرَ التَّمَسُّكَ بِمَا جَرَى مِنَ الْعُهُودِ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى بَنِيهِمْ ; لِأَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَ مُنْقَرَضِ الْأَرْبَعَةِ الرَّاشِدِينَ شَابَتْهَا شَوَائِبُ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَأَضْحَى الْحَقُّ الْمَحْضُ فِي الْإِمَامَةِ مَرْفُوضًا، وَصَارَتِ الْإِمَامَةُ مُلْكًا عَضُوضًا. [الخلاف في اشتراط رضا أهل الاختيار والعقد] 207 - فَإِنْ قِيلَ إِذَا وَلَّى الْإِمَامُ ذَا عَهْدٍ، فَهَلْ يَتَوَقَّفُ تَنْفِيذُ عَهْدِهِ عَلَى رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ مِنْ بَعْدِهِ؟ . قُلْنَا: ذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ خِلَافًا، وَالَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ ; فَإِنَّا عَلَى اضْطِرَارٍ نَعْلَمُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَلَّى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُقَدِّمْ عَلَى تَوْلِيَتِهِ مُرَاجَعَةً وَاسْتِشَارَةً وَمُطَالَعَةً، وَإِذَ أَمْضَى فِيهِ مَا حَاوَلَهُ لَمْ يَسْتَرْضِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ عَلَى تَوَافُرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.

غمز وهجوم على الماوردي صاحب الأحكام السلطانية

نَعَمْ. رُوِيَ أَنَّ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: لَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ: أَجْلِسُونِي فَأُجْلِسَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَقَالَ: لَئِنْ سَأَلَنِي رَبِّي عَنْ تَفْوِيضِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى عُمَرَ، لَقُلْتُ، اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِكَ خَيْرَ أَهْلِكَ. 208 - وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي اشْتِرَاطِ مُرَاجَعَةِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فِي تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ خِلَافًا، وَأَجْرَى الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْخِلَافِ فِي الْمَظْنُونَاتِ، وَوُضُوحُ غَرَضِنَا فِي ذَلِكَ يُغْنِي عَنْ بَسْطِ الْقَوْلِ فِيهِ. [غمز وهجوم على الماوردي صاحب الأحكام السلطانية] 209 - وَالشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ ثُمَّ إِلَى كُلِّ مُحَصِّلٍ مُمَيِّزٍ، مِنْ تَصَانِيفَ

أَلَّفَهَا مَرْمُوقٌ، مُتَضَمَّنُهَا تَرْتِيبٌ وَتَبْوِيبٌ، وَنَقْلُ أَعْيَانِ كَلَامِ الْمَهَرَةِ الْمَاضِينَ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى مَا تَعِبَ فِيهِ السَّابِقُونَ، مَعَ خَبْطٍ كَثِيرٍ فِي النَّقْلِ وَتَخْلِيطٍ، وَإِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ، لَا يَرْضَى بِالتَّلَقُّبِ بِالتَّصْنِيفِ مَعَ الِاكْتِفَاءِ بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ حَصِيفٌ، ثُمَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَأْلِيفِهِ وَتَصْنِيفِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، لَمْ يَتَمَيَّزْ لَهُ الْمَظْنُونُ عَنِ الْمَعْلُومِ، وَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ مَسَالِكُ الظُّنُونِ بِمَدَارِكِ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا جَرَّ هَذِهِ الشِّكَايَةَ نَظَرِي فِي كِتَابٍ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مُتَرْجَمٌ بِالْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، مُشْتَمِلٌ عَلَى حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ، وَرِوَايَةِ الْآرَاءِ وَالْمَطَالِبِ، مِنْ غَيْرِ دِرَايَةٍ وَهِدَايَةٍ، وَتَشَوُّفٍ إِلَى مَدْرَكِ غَايَةٍ، وَتَطَلُّعٍ إِلَى مَسْلَكٍ يُفْضِي إِلَى نِهَايَةٍ، وَإِنَّمَا مَضْمُونُ الْكِتَابِ نَقْلُ

مَقَالَاتٍ عَلَى جَهْلٍ وَعَمَايَةٍ، وَشَرُّ مَا فِيهِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُعْضِلُ الَّذِي يَعْسُرُ تَلَافِيهِ، سِيَاقَةُ الْمَظْنُونِ وَالْمَعْلُومِ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى ارْتِبَاكِ الْمَسَالِكِ، وَاشْتِبَاكِ الْمَدَارِكِ، وَالْتِبَاسِ الْيَقِينِ بِالْحُدُوسِ، وَاعْتِيَاصِ طَرَائِقِ الْقَطْعِ فِي هَوَاجِسِ النُّفُوسِ. 210 - وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْمُشْكِلَةِ فِي سُبُلِ الظَّنِّ فِي هَذَا الْفَنِّ، أَنَّ الْمَعْهُودَ إِلَيْهِ مَتَى يَدْخُلُ وَقْتُ قَبُولِهِ الْعَهْدَ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ أَوَانُ الْقَبُولِ بِمَوْتِ الْمُوَلِّي، كَمَا يَدْخُلُ وَقْتُ قَبُولِ الْوِصَايَةِ بِمَوْتِ الْمُوصِي، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُوَلَّى صَاحِبَ الْعَهْدِ أَحْكَامَ الزَّعَامَةِ وَالْإِمَامَةِ، وَلَا يَسْتَقِلُّ بِالْإِيَالَةِ وَالسِّيَاسَةِ، مَا دَامَ الْمُوَلِّي الْعَاهِدُ حَيًّا، فَلَا مَعْنًى لِلْقَبُولِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَالْوِصَايَةِ. 211 - وَصَارَ صَائِرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ فِي حَيَاةِ الْعَاهِدِ ; فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْعَهْدِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا يَعْهَدُ الْإِمَامُ إِلَى مُسْتَجْمِعٍ لِشَرَائِطِ

الْإِمَامَةِ، نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِيثَاقًا فِي الدِّينِ، وَسُكُونًا إِلَى إِعْدَادِ وَزَرٍ وَمَلَاذٍ، وَرُكُونًا إِلَى اعْتَادِ مَوْئِلٍ وَمَعَاذٍ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْغَرَضُ بِأَنْ تَلْزَمَ التَّوْلِيَةُ فِي حَيَاتِهِ، فَيُقَدَّرُ وَفَاتُهُ وَالْإِمَامَةُ مَعْقُودَةٌ، وَسَاحَةٌ لِلْإِمَامِ مَوْرُودَةٌ مَصْمُودَةٌ، فَيَجُرُّ فِي الْإِمَامَةِ أَذْيَالَهَا، وَلَا تَنْتَثِرُ أَحْوَالُهَا. 212 - وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَمْرُ خَلْعِ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ، فَمَنْ أَخَّرَ الْقَبُولَ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مَلَّكَ الْمُوَلِّي صَرْفَ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ، كَمَا يَصْرِفُ الْمُوصِي الْمُوصَى إِلَيْهِ. وَمَنْ نَجَّزَ الْقَبُولَ مَنَعَ خَلْعَ الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ، وَصَيَّرَ الْإِمَامَ الْعَاهِدَ كَالْمُخْتَارِ الْعَاقِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ لَمْ يَمْلِكِ الْخَلْعَ عَلَى حُكْمِ الْإِيثَارِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمُوَلِّي الْعَاهِدِ، مَعَ [الْمُوَلَّى] الْمَعْهُودِ إِلَيْهِ، وَيَنْقَدِحُ فِي ذَلِكَ لِلْخِلَافِ وَجْهٌ فَإِنَّ الْإِمَامَةَ مَا تَمَّتْ بَعْدُ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ بِخِلَافِ مَنْ عَقَدَ لَهُ الْإِمَامَةَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ.

213 - وَالْأَظْهَرُ مَنْعُ الْخَلْعِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُهُ. 214 - وَلَوْ عَيَّنَ الْإِمَامُ مَنْ لَيْسَ عَلَى شَرَائِطِ الْإِمَامَةِ، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَ التَّوْلِيَةَ عَلَى اسْتِجْمَاعِ الصِّفَاتِ الْمَرْعِيَّةِ، فَالْوَجْهُ بُطْلَانُ التَّوْلِيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَسَاءَ فِي الِاخْتِيَارِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْعَهْدِ تَنْجِيزُ نَظَرٍ، وَكِفَايَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ هَوَاجِمَ خَطَرٍ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي عَلَى أَقْصَى الْإِمْكَانِ فِي الْحَالِ وَالْأَوَانِ. 215 - وَلَيْسَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضًا فَلِلِاحْتِمَالِ عِنْدَ انْعِدَامِ الْقَوَاطِعِ، وَانْحِسَامِ الْبَرَاهِينِ السَّوَاطِعِ مُضْطَرَبٌ رَحْبٌ، وَلِلظُّنُونِ مَجَرٌّ وَسَحْبٌ. 216 - وَمَنْ قَالَ: مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ: إِذَا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيَّ، فَوَلِيُّ عَهْدِي فُلَانٌ، ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَيْهِ النَّوْبَةُ، لَمْ يَكُنْ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ وَقْعٌ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، فَإِنَّهُ تَصَرَّفَ وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ.

حكم تولية العهد لأكثر من واحد على سبيل الشورى والاختيار

[حكم تولية العهد لأكثر من واحد على سبيل الشورى والاختيار] 217 - وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الْمَقْطُوعِ بِهِ أَنَّ الْعَاهِدَ لَوْ جَعَلَ الْإِمَامَةَ شُورَى بَيْنَ مَحْصُورِينَ صَالِحِينَ لِلزَّعَامَةِ، فَالْأَمْرُ يَنْحَصِرُ فِيهِ، وَالْمُسْتَنَدُ الْقَطْعِيُّ فِيهِ مَا جَرَى لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِذْ جَعَلَ الْأَمْرَ فَوْضَى بَيْنَ السِّتَّةِ الْمَشْهُورِينَ. فَإِذَا اتَّفَقَ ذَلِكَ مِنْ إِمَامٍ، فَتَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ إِلَى مَنْ جَعَلَ الْإِمَامُ التَّعْيِينَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّضِ التَّعْيِينَ إِلَى أَحَدٍ، فَإِلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يُعَيِّنُوا أَفْضَلَ الْمَذْكُورِينَ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي إِمَامَةِ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. 218 - وَلَوْ رَتَّبَ الْعَاهِدُ التَّوْلِيَةَ فِي مَذْكُورِينَ صَالِحِينَ لِلْأَمْرِ، فَقَالَ: وَلِيُّ الْعَهْدِ فُلَانٌ، فَإِنْ مَاتَ فِي حَيَاتِي فَفُلَانٌ، فَإِنِ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ مَوْتِي، فَفُلَانٌ، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَعَهْدُهُ مُتَّبَعٌ، فَإِنْ ذَكَرَ صَالِحِينَ لِلْأَمْرِ، وَرَأَى أَنْ يُرَتِّبَ مَرَاتِبَهُمْ، فَلَيْسَ مَا جَاءَ بِهِ مُنَافِيًا لِلنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَزِمَ تَنْفِيذُهُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ. وَاسْتَأْنَسَ الْأَئِمَّةُ مَعَ الْقَطْعِ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَرَاءِ

جَيْشِ مُؤْتَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ صَاحِبُ الرَّايَةِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ، فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ. 219 - وَلَوْ قَالَ الْعَاهِدُ: الْإِمَامُ بَعْدِي فُلَانٌ، ثُمَّ الْإِمَامَةُ بَعْدَهُ، لِفُلَانٍ، ثُمَّ الْإِمَامَةُ بَعْدَهُ لِفُلَانٍ، فَرَتَّبَ الْخِلَافَةَ فِي مَذْكُورِينَ مُعَيَّنِينَ لِلْإِمَامَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَأَمَّا الْمُعَيَّنُ لِلْأَمْرِ أَوَّلًا فَتُفْضَى الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ، فَفِي إِفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إِلَى الْمَذْكُورِينَ بَعْدَهُ خِلَافٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذِكْرِهِ مُتَرَتِّبِينَ فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ تَقْدِيرِ وَفَاتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَرَتَّبُونَ عَلَى تَقْدِيرِهِ مَعَ اسْتِمْرَارِ سُلْطَانِهِ، وَامْتِدَادِ زَمَانِهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ كَانَتْ تَوْلِيَةُ أُمَرَاءِ جَيْشِ مُؤْتَةَ.

220 - وَإِذَا ذَكَرَ الْعَاهِدُ أَوْلِيَاءَ عُهُودٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَأَفْضَتِ الْإِمَارَةُ إِلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، فَعَهِدَ هُوَ إِلَى غَيْرِ مَنْ ذَكَرَهُ الْعَاهِدُ الْأَوَّلُ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي تَقْدِيمُ عَهِدِهِ عَلَى عَهْدِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَفْضَى إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَقَدْ صَارَ الْوَالِيَ الْمُسْتَقِلَّ بِأَعْبَاءِ الْإِمَامَةِ. وَالْعَهْدُ الصَّادِرُ مِنْهُ أَحَقُّ بِالْإِمْضَاءِ مِنْ عَهْدٍ نَبَذَهُ الْعَاهِدُ الْأَوَّلُ وَرَاءَ أَيَّامِهِ، وَبَيْنَ مُنْقَرَضِ زَمَانِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَبَيْنَ نُفُوذِ عَهْدِهِ الثَّانِي اعْتِقَابُ أَيَّامٍ وَنَوْبَةُ إِمَامٍ. 221 - وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ خَاضَ فِي هَذَا الْفَنِّ أَنَّ تَرْتِيبَ عَهْدِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ لَا يُتْبَعُ بِالنَّقْضِ، وَلَا يُتَعَقَّبُ بِالرَّفْضِ. وَالصَّحِيحُ مَا اخْتَرْنَاهُ الْآنَ، مِنْ تَنْفِيذِ عَهْدِ مَنْ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ، وَلَوْ شَعَّبَ مُشَعِّبٌ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ، لَكَثُرَتِ الْمَسَائِلُ وَتَضَاعَفَتِ الْغَوَائِلُ، وَلَا يَكَادُ يَخْفَى مَدْرَكُهَا عَلَى ذَوِي الْبَصَائِرِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَمَا مَهَّدْنَاهُ مُغْنٍ عَنِ الْإِمْعَانِ وَالْإِبْلَاغِ، فَفِيهِ أَكْمَلُ مَقْنَعٍ وَبَلَاغٍ.

المستناب في حياة الإمام ومدى سلطانه

وَالَّذِي يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ تَمْيِيزُ الْمَقْطُوعِ بِهِ عَنِ الْمَظْنُونِ، وَمُسْتَنَدُ الْقَطْعِ الْإِجْمَاعُ، فَمَا اتَّفَقَ ذَلِكَ فِيهِ تَعَيَّنَ فِيهِ الِاتِّبَاعُ، وَمَا لَمْ نُصَادِفْ فِيهِ إِجْمَاعًا عَرَضْنَاهُ عَلَى مَسَالِكِ النَّظَرِ، وَأَعْمَلْنَا فِيهِ طُرُقَ الْمَقَايِيسِ، وَأَرْمَيْنَا فِيهِ سُبُلَ الِاجْتِهَادِ، فَهَذَا مُنْتَهَى مَقْصِدِنَا فِي اسْتِنَابَةِ الْخَلِيفَةِ إِمَامًا بَعْدَهُ. [المستناب في حياة الإمام ومدى سلطانه] 222 - فَأَمَّا إِذَا اسْتَنَابَ فِي حَيَاتِهِ نَائِبًا، وَفَوَّضَ إِلَى نَظَرِهِ تَنْفِيذَ الْأُمُورِ النَّاجِزَةِ. نُظِرَ: فَإِنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَقَالِيدَ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَجَعَلَهُ يَسْتَقِلُّ وَيُنَفِّذُ، وَيَقْضِي وَيُمْضِي، وَيَعْقِدُ وَيَحِلُّ، وَيُوَلِّي وَيَعْزِلُ، وَهُوَ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا لَا يُطَالِعُ الْإِمَامَ، وَلَا يُرَاجِعُهُ، بَلْ يَنْفَرِدُ وَيَسْتَبِدُّ، فَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ، فَإِنَّ فِي تَجْوِيزِهِ جَمْعَ إِمَامَيْنِ، وَسَنَعْقِدُ فِي امْتِنَاعِ ذَلِكَ بَابًا، وَفَاءً بِتَرَاجِمِ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. 223 - فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْمُرَشَّحُ لِلِاسْتِبْدَادِ مُتَوَحِّدٌ بِالْأُمُورِ، وَالْإِمَامُ

لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ انْتِصَابُ إِمَامَيْنِ قَائِمَيْنِ بِالْأُمُورِ. قُلْنَا: هَذَا أَبْعَدُ مِنَ الْجَوَازِ ; فَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يَنْتَصِبُ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّظَرِ فِي مُهِمَّاتِ الْأَنَامِ بِعَيْنٍ سَاهِرَةٍ، فَإِذَا آثَرَ السُّكُونَ إِلَى التَّعْطِيلِ وَاخْتَارَ الرُّكُونَ إِلَى التَّوَدُّعِ ; كَانَ الْإِمَامُ تَارِكًا مَنْصِبَهُ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَيْسَ إِمَامًا مُتَصَدِّيًا لِلْإِمَامَةِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسَوَّغٍ قَطْعًا، فَهَذَا إِنْ سَلَّمَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَالِاسْتِبْدَادِ. 224 - وَإِنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْأُمُورَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ بِمَرْأَى مِنِ الْإِمَامِ وَمَسْمَعٍ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ ذَاهِلًا عَنْ مَجَامِعِ أُمُورِهِ، وَكَانَ الْمُتَصَرِّفُ الْمُسْتَنَابُ يُرَاجِعُ الْإِمَامَ فِيمَا يُجْرِيهِ وَيُمْضِيهِ، فَهَذَا جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنَعٍ، وَهَذَا الْمَنْصِبُ هُوَ الْمُسَمَّى الْوِزَارَةُ. 225 - ثُمَّ الْإِمَامُ لَا يَسْتَوْزِرُ إِلَّا شَهْمًا كَافِيًا، ذَا نَجْدَةٍ،

وَكِفَايَةٍ، وَدِرَايَةٍ، وَنَفَاذِ رَأْيٍ، وَاتِّقَادِ قَرِيحَةٍ، وَذَكَاءِ فَطِنَةٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَلَفِّعًا مِنْ جَلَابِيبِ الدِّيَانَةِ بِأَسْبَغِهَا وَأَضْفَاهَا وَأَصْفَاهَا رَاقِيًا مِنْ أَطْوَادِ الْمَعَالِي إِلَى ذُرَاهَا ; فَإِنَّهُ مُتَصَدٍّ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ جَسِيمٍ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَرَاتِبِ عَلَى قَدْرِ أَخْطَارِ الْمَنَاصِبِ. وَقَدْ قِيلَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْتَوْزَرِ اجْتِمَاعُ شَرَائِطِ الْإِمَامَةِ إِلَّا النَّسَبَ وَالِاعْتِزَاءَ إِلَى شَجَرَةِ قُرَيْشٍ، وَأَنَا أَقُولُ: أَمَّا النَّجْدَةُ وَالْكِفَايَةُ، فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ الْوَرَعُ، فَإِنَّهُ رَأْسُ الْخَيْرَاتِ وَأَسَاسُ الْمَنَاقِبِ، وَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ فَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَآثِرِ تَصِيرُ وَسَائِلَ وَوَصَائِلَ إِلَى الشَّرِّ، وَطَرَائِقَ إِلَى اجْتِلَابِ الضُّرِّ، وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّ الْفَطِنَ الْمَاجِنَ غَيْرَ الْمُرْضِيِّ، أَضَرُّ عَلَى خَلِيقَةِ اللَّهِ مِنَ الْأَحْمَقِ الْغَبِيِّ. وَلَا شَكَّ

أَنَّ الْعَقْلَ أَصْلُ الْفَضَائِلِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْوَرَعُ وَالتَّقْوَى، انْقَلَبَ ذَرِيعَةً إِلَى الْفَسَادِ، وَمَطِيَّةً جَائِرَةً عَنْ مَنْهَجِ الرَّشَادِ، فَوَجَبَ اشْتِرَاطُ اسْتِجْمَاعِ الْوَزِيرِ شَرَائِطَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَرَاتِبَ الْأَئِمَّةِ فِي عُلُومِ الدِّينِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ فِي التَّصَدِّي لِهَذَا الْمَنْصِبِ الْعَلِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدْعًا مِنْ أَصْلِ هَذَا الْحَبْرِ، وَسَنُقَرِّرُ مِنْ طَرِيقَتِهِ اشْتِرَاطَ اسْتِجْمَاعِ الْقُضَاةِ رُتَبَ الْمُجْتَهِدِينَ. فَإِذَا كَانَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهِمْ فَمَنْ إِلَيْهِ نَصْبُ الْقُضَاةِ وَصَرْفِهِمْ، وَتَرْشِيحُ الْوُلَاةِ لِمُهِمَّاتِ الْأَنَامِ، فِي خِطَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى فِي مُعْتَقَدِهِ بِالْإِمَامَةِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَعِلْمِ الشَّرِيعَةِ. 226 - وَأَنَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ، آتٍ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ، وَأُمَهِّدُ فِي هَذَا لِلنَّاظِرِينَ مَدْرَكَ الْيَقِينِ، وَالْمُسْتَعَانُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. 227 - فَأَقُولُ: أَمَّا الْإِمَامُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا مَبْلَغَ

الْمُجْتَهِدِينَ قَطْعًا ; فَإِنَّهُ وَزَرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمَوْئِلُ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ مَرْجِعُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ فِي مُهِمَّاتِهِمْ عَلَى تَفَنُّنِ حَالَاتِهِمْ، وَأَوْلَى الْأُمُورِ بِالرِّعَايَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِي قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَضَبْطِ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ فِي الدِّينِ عَلَى أَعْلَى مَنْصِبٍ وَمَقَامٍ، لَكَانَ مُقَلِّدًا تَابِعًا غَيْرَ مَتْبُوعٍ، وَلَمَا كَانَ مَلَاذًا لِلَّائِذِينَ، وَمَعَاذًا لِلْمُسْلِمِينَ، جَامِعًا لِشَتَاتِ الْآرَاءِ، مُحْتَوِيًا عَلَى مَقَالِيدِ الشَّرِيعَةِ، مُسْتَقِلًّا بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ الْمِلَّةِ. وَلَئِنْ سَاغَ أَنْ لَا يُرْتَبِطَ أَمْرُ الدِّينِ بِرَأْيٍ قَوَّامٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ، فَلْيَجُزْ تَرْكُ الْأَمْرِ سُدًى مَجْرًى يَخْتَبِطُ النَّاسُ فِيهَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا إِنَّمَا تُرْعَى مِنْ حَيْثُ يُسْتَمَدُّ اسْتِمْرَارُ قَوَاعِدِ الدِّينِ مِنْهَا، فَهِيَ مَرْعِيَّةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ، وَلَوْلَا مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، لَكَانَتِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةُ حَرِيَّةً بِأَنْ نُضْرِبَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ. 228 - وَالَّذِي يَكْشِفُ الْغِطَاءَ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّقْلِيدَ إِنَّمَا يُسَوَّغُ عِنْدَ

تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الِاسْتِبْدَادِ بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ عَلَى الْمُقَلِّدِ نَظَرٌ ضَعِيفٌ فِي تَخَيُّرِ قُدْوَةٍ وَتَعْيِينِ أُسْوَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُقَلِّدًا لَحَمَلَ النَّاسَ عَلَى مُقْتَضَى تَقْلِيدِهِ، وَمُوجَبِ نَظَرِهِ الْوَاهِي فِي تَعْيِينِ مَنْ يُقَلِّدُهُ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ ذُو تَحْصِيلٍ، فَإِذًا الْإِمَامُ مِنْ حَيْثُ كَانَ قُدْوَةَ الْخَلْقِ، وَحَامِلَهُمْ عَلَى مَسَالِكِ الْحَقِّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَالِاسْتِجْمَاعِ لِخِلَالَ الْكَمَالِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَإِلَيْهِ الرُّجُوعُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَكَانَ تَابِعًا غَيْرَ مَتْبُوعٍ. 229 - فَأَمَّا مَنْ سِوَى الْإِمَامِ، فَأَحْرَى الْمَنَازِلِ بِاجْتِمَاعِ الْفَضَائِلِ مَنْصِبُ الْوَزِيرِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْإِمَامِ، فِي تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ نَظَرَهُ يَعُمُّ عُمُومَ نَظَرِ الْإِمَامِ فِي خِطَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ لَيْسَ لَهُ رُتْبَةُ الِاسْتِقْلَالِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُرَاجِعَ الْإِمَامَ فِي مَجَامِعِ الْخُطُوبِ لَا يَبْلُغُ اشْتِرَاطُ بُلُوغِهِ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ رُتْبَةَ الْقَطْعِ، فَإِنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ يُنْفِذُ الْأُمُورَ، فَإِذَا اعْتَاصَ عَلَيْهِ أَمْرٌ رَاجَعَ الْإِمَامَ،

أَوْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُرَاجَعَةِ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَحَمْلَةِ الشَّرِيعَةِ. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هُجُومًا عَلَى مُخَالَفَةِ مَقْطُوعٍ بِهِ ; إِذْ مَرْتَبَةُ الْوَزِيرِ وَإِنْ عَلَتْ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ رُتْبَةُ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَقِلُّ الْإِمَامُ. عَلَى أَنَّ الْأَظْهَرَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْوَزِيرِ الَّذِي إِلَيْهِ تَنْفِيذُ الْأُمُورِ إِمَامًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مَا يَتَعَاطَاهُ عَظِيمُ الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ، وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ مُرَاجَعَةُ الْإِمَامِ فِي تَفَاصِيلِ الْوَقَائِعِ، وَإِنَّمَا يُطَالِعُ الْإِمَامَ فِي الْأُصُولِ وَالْمَجَامِعِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامًا فِي الدِّينِ لَمْ يُؤْمَنْ زَلَلُهُ فِي أُمُورٍ لِلْمُسْلِمِينَ، يَتَعَذَّرُ تَلَافِيهَا، كَالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، وَمَا فِي مَعَانِيهَا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصِّفَاتِ فِي الْوَزِيرِ الَّذِي إِلَيْهِ تَنْفِيذُ الْأُمُورِ. 230 - فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَتَوَلَّى التَّنْفِيذَ ; وَالْمُتَصَدِّي لِلْوِزَارَةِ يَظْهَرُ ; فَلَيْسَ إِلَيْهِ افْتِتَاحُ أَمْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّفِيرِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالرَّعِيَّةِ.

231 - فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَسْتَضِيءُ بِرَأْيهِ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، فَهُوَ مُسْتَشَارٌ مُبَلِّغٌ، وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنِ الْوِلَايَةِ شَيْءٌ، فَلَا يَشْتَرِطُ فِيهِ إِلَّا أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِهِ بِحَيْثُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، فَإِنَّ مِلَاكَ أَمْرِهِ إِخْبَارُ الْجُنْدِ وَالرَّعَايَا بِمَا يُنْفِذُهُ الْإِمَامُ، وَهَذَا يَسْتَدْعِي الْوَرَعَ وَصِدْقَ اللَّهْجَةِ، وَالتَّنْفِيذُ وَالثِّقَةُ تُشْعِرُ بِهِمَا. وَالثَّانِي: الْفِطْنَةُ وَالْكِيَاسَةُ ; فَإِنَّ عَظَائِمَ الْأُمُورِ لَا يُدْرِكُ مَعَانِيهَا لِيَنْقُلَهَا إِلَّا فَطِنٌ، لَا يُؤْتَى عَنْ غَفْلَةٍ وَذُهُولٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فَطِنًا لَمْ يُوثَقْ بِفَهْمِهِ لِمَا يُنْهِيهِ، وَلَمْ يُؤْمَنْ خَطَؤُهُ فِيمَا يُبَلِّغُهُ وَيُؤَدِّيهِ. وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ هَذَا الْمَنْصِبِ عَبْدًا مَمْلُوكًا، فَإِنَّ الَّذِي يُلَابِسُهُ لَيْسَ وِلَايَةً، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْبَاءٌ وَإِخْبَارٌ، وَالْمَمْلُوكُ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ الْأَخْبَارِ. 232 - وَذَكَرَ مُصَنِّفُ الْكِتَابِ الْمُتَرْجَمِ بِالْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ

أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَنْصِبِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، وَهَذِهِ عَثْرَةٌ لَيْسَ لَهَا مَقِيلٌ، وَهِيَ مُشْعِرَةٌ بِخُلُوِّ صَاحِبِ الْكِتَابِ عَنِ التَّحْصِيلِ، فَإِنَّ الثِّقَةَ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَتِهَا، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ مَوْثُوقًا بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَتَصَارِيفِ أَحْوَالِهِ، وَرِوَايَتُهُ مَرْدُودَةٌ، وَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُسْنِدُهُ وَيَعْزِيهِ إِلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ، وَلَا يُوثَقُ بِهِ فِي قَوْلٍ وَفِعْلٍ، كَيْفَ يَنْتَصِبُ وَزِيرًا؟ وَكَيْفَ يَنْتَهِضُ مُبَلِّغًا عَنِ الْإِمَامِ سَفِيرًا، عَلَى أَنَّا لَا نَأْمَنُ فِي أَمْرِ الدِّينِ شَرَّهُ، بَلْ نَرْتَقِبُ - نَفَسًا فَنَفَسًا - ضُرَّهُ، وَقَدْ تَوَافَتْ شَهَادَةُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ، وَالْمَنْعِ مِنِ ائْتِمَانِهِمْ، وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَى الْأَسْرَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} .

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» ". وَاشْتَدَّ نَكِيرُ عُمَرَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا اتَّخَذَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - عَلَى أَنَّ الْمُتَرْجِمَ الَّذِي يُنْهِي إِلَى الْقَاضِي مَعَانِيَ لُغَاتِ الْمُدَّعِينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَدْلًا رِضًا، وَلَسْتُ أَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَقْطَارِ. فَكَيْفَ يُسَوَّغُ أَنْ يَكُونَ السَّفِيرُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ؟ . 233 - فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَسْتَجِيزُ التَّصَدِّي لِلتَّصْنِيفِ مَنْ هَذَا مُنْتَهَى فَهْمِهِ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ؟ ، وَمَنِ اسْتَجْرَأَ عَلَى تَأْلِيفِ الْكُتُبِ تَعْوِيلًا عَلَى ذَرَابَةٍ فِي عَذَبَةِ لِسَانِهِ، وَاسْتِمْكَانِهِ مِنْ طَرَفٍ مِنَ

الْبَسْطِ فِي بَيَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَحْرًا مَعْلُومًا فِي الْعُلُومِ لَا يُنْكَشْ، وَلَا يُغَضْغَضْ، وَنَهْرًا مَعْدُودًا لَا يُنْزَفْ وَلَا يُمْخَضْ، فَقَدْ تَهَدَّفَ فِيمَا صَنَّفَ، وَاقْتَحَمَ الْمَهَاوِي وَتَعَسَّفَ، وَلَسْتُ - وَاللَّهِ - فِي ذَلِكَ أَتَغَلَّبُ وَأَتَصَلَّفُ. [حكم الأطراف وولاة المدن والأقطار 234 - فَهَذَا انْتِهَاءُ مَرَامِنَا فِيمَنْ يَسْتَنِيبُهُ الْإِمَامُ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ فِي اسْتِمْرَارِ حَيَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ. فَأَمَّا الَّذِينَ يَسْتَنِيبُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْصَارِ وَالْأَقْطَارِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ، فَأَنَا الْآنَ بَعْدَ تَقْدِيمِ اللِّيَاذَ بِرَبِّ الْبَرِيَّةِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، أَذْكُرُ فِي مُسْتَنَابِيهِ قَوْلًا كَافِيًا شَافِيًا، وَمَجْمُوعًا وَجِيزًا وَافِيًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَقُولُ:

235 - أَوَّلًا: الِاسْتِنَابَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا غِنًى عَنْهَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَوَلِّي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَتَعَاطِيهَا، وَلَا يَفِيءُ نَظَرُهُ بِمُهِمَّاتِ الْخِطَّةِ وَلَا يَحْوِيهَا، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ بَيِّنَةٌ فِي ضَرُورَاتِ الْعُقُولِ لَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ فِيهَا، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَوِّقَ الْكُفَاةَ الْأَعْمَالَ، ثُمَّ يَقْطَعَ الْبَحْثَ عَنْهُمْ، وَيُضْرِبَ عَنْ سَبْرِ أَحْوَالِهِمْ ; فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَكَانَ مُعَطِّلًا فَائِدَةَ الْإِمَامَةِ، مُبْطِلًا سِرَّ الزَّعَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُمَهِّدَ مَسَالِكَ انْتِهَاءِ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ إِلَيْهِ فِي مَجَامِعِ الْخُطُوبِ. وَيُنَصِّبَ مُرَتَّبِينَ لِلْإِنْهَاءِ وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ، حَتَّى تَكُونَ الْخِطَّةُ بِكِلَاءَتِهِ مَرْبُوطَةً، وَبِرِعَايَتِهِ مَحُوطَةً، وَمَجَامِعُ الْأُمُورِ بِرَأْيهِ مَنُوطَةً، وَاطِّلَاعَاتُهُ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ مَبْسُوطَةً، فَهُوَ يَرْعَاهُمْ كَأَنَّهُ يَرَاهُمْ، وَإِنْ شَطَّ الْمَزَارُ وَتَقَاصَتِ الدِّيَارُ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِحَاطَةَ بِتَفَاصِيلِ الْأُمُورِ وَآحَادِ أَفْرَادِهَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَغْفَلُ عَنْ مَجَامِعِهَا

وَأُصُولِهَا، وَاسْتِبْرَاءِ أَحْوَالِ أَصْحَابِ الْأَعْمَالِ، وَأَقْوَى ذَرَائِعَهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَى أَحْوَالِ الْعُمَّالِ دُعَاؤُهُ الْمُتَظَلِّمِينَ إِلَى خِبَائِهِ، وَاسْتِحْثَاثُهُ أَصْحَابَ الْحَاجَاتِ عَلَى شُهُودِ بَابِهِ. 236 - فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ، فَإِنْ سُئِلْنَا بَعْدَهَا عَنْ تَفَاصِيلِ الْمُسْتَنَابِينَ وَأَعْدَادِهِمْ. قُلْنَا: اسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ مَا يُنَاطُ بِالْإِمَامِ مِنْ أَشْغَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ ; وَسَنَعْقِدُ فِي ذَلِكَ بَابًا جَامِعًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَضْمُونُهُ عَمْرَةُ الْكِتَابِ وَالْمَقْصِدِ وَاللُّبَابِ. ثُمَّ إِذَا تَبَيَّنَ مَا يَرْتَبِطُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يَسْتَنِيبُ فِيمَا إِلَيْهِ الْكُفَاةَ الْمُسْتَقِلِّينَ بِالْأُمُورِ، وَيَجْمَعُ جَمِيعَهُمُ اشْتِرَاطُ الدِّيَانَةِ وَالثِّقَةِ وَالْكِفَايَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالشُّغُلِ الْمُفَوَّضِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فِي الْبَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَفْصِيلِ مَا يَتَوَلَّاهُ الْأَئِمَّةُ.

237 - وَالَّذِي نَذْكُرُهُ الْآنَ اشْتِرَاطُ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَنَفْيُ اشْتِرَاطِهَا. فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ الْمُفَوَّضُ إِلَى الْمُسْتَنَابِ أَمْرًا خَالِصًا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ، فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَابُ فِيهِ إِمَامًا فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتَصُّ أَثَرَ النَّصِّ، وَيَرْتَادُ اتِّبَاعَ الْمِثَالِ، وَتَكْفِيهِ فِيمَا يُرَشَّحُ لَهُ الدِّيَانَةُ وَالِاسْتِقْلَالُ بِالْأَمْرِ الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ، وَالْهِدَايَةُ إِلَيْهِ. 238 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَضْبِطُهُ النَّصُّ، وَلَكِنْ كَانَ لَا يَسْتَدْعِي الْقِيَامُ بِهِ الِاطِّلَاعَ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ، بَلْ يَكْفِي مِنَ الْبَصِيرَةِ مَا يَنْتَهِضُ رُكْنًا وَذَرِيعَةً إِلَى تَحْصِيلِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ فِي الْأَمْرِ الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ: فَالَّذِي يَنْتَصِبُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْأَمْوَالِ الزَّكَاتِيَّةِ وَنُصُبِهَا وَأَوْقَاصِهَا، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ فِيهَا. وَأُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَأَصْحَابُ الْأَلْوِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مُحِيطِينَ بِمَا تَقْتَضِيهِ مَنَاصِبُهُمْ.

239 - وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ الْمُفَوَّضُ مِمَّا لَا تَضْبِطُهُ النُّصُوصُ مِنَ الْمُوَلِّي، وَكَانَ عَظِيمَ الْوَقْعِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ، لَا يَكْفِي فِيهِ فَنٌّ مَخْصُوصٌ مِنَ الْعُلُومِ، كَالْقَضَاءِ، فَالَّذِي يُؤْثِرُهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُعْظَمُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي لِلْقَضَاءِ مُجْتَهِدًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا، يَسْتَفْتِي فِيمَا يَعِنُّ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الْمُفْتِي. وَيَحْكُمُ بِمُوجَبِهِ. 240 - وَهَذَا عِنْدَنَا مَظْنُونٌ لَا يَتَطَرَّقُ الْقَطْعُ إِلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِ. وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مَشْرُوحًا مُوَضَّحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ الْآنَ جُمَلٌ تَجْرِي مَجْرَى الْأَسَاسِ وَالتَّوْطِئَةِ، وَتَمْهِيدِ الْقَوَاعِدِ، وَنَحْنُ نَخْتِمُ هَذَا الْبَابَ بِنُكَتَةٍ لَا بُدَّ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِهَا فَنَقُولُ: 241 - قَدْ دَلَّتِ الْمَرَامِزُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى صِفَاتِ الْوُلَاةِ،

فَأَمَّا إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِمْ أَحْوَالٌ لَوْ كَانُوا عَلَيْهَا ابْتِدَاءً لَمَا جَازَ نَصْبُهُمْ، فَوَجْهُ الْقَوْلِ فِي طَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ كَوَجْهِهِ فِي طَرَيَانِ الصِّفَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِعَقْدِ الْإِمَامَةِ عَلَى الْإِمَامِ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فِي الْبَيَانِ، وَلَكِنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِسْقَ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى الْعَثْرَةِ لَا يُوجِبُ خَلْعَ الْإِمَامِ، وَلَا انْخِلَاعَهُ. فَلَوْ فُرِضَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَنَابِينِ فَالْإِمَامُ يَخْلَعُهُ، وَلَا يَجْرِي أَمْرُ الْمُسْتَنَابِ الَّذِي هُوَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، مَجْرَى الْإِمَامِ الَّذِي لَوْ تَعَرَّضَ لِخَلْعِهِ لَمَادَتِ الْمَمْلَكَةُ بِأَكْنَافِهَا، وَلَارْتَجَّتْ خِطَّةُ الْإِسْلَامِ بِأَعْطَافِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَخْلَعُ الْقَاضِيَ الْإِمَامُ، وَيَدُ الْخَلِيفَةِ لَا تُطَاوِلُهَا يَدٌ، وَلَوْ سُوِّغَ خَلْعُ الْإِمَامِ، لَاسْتَحَالَ أَنْ يَتَصَدَّى لِخَلْعِ الْإِمَامِ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَقَدْ مَضَى مِنْ ذَلِكَ مَا فِي بَعْضِهِ إِقْنَاعٌ، وَسَتَأْتِي صِفَاتُ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ اقْتِرَانًا بِالتَّوْلِيَةِ وَطَرَيَانًا، وَمَا يُوجِبُ الْخَلْعَ وَالِانْخِلَاعَ.

الباب السادس في إمامة المفضول

[الْبَابُ السَّادِسُ فِي إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ] الْبَابُ السَّادِسُ. فِي إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ. 242 - اخْتَلَفَ الْخَائِضُونَ فِي هَذَا الْفَنِّ، فِي إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ، عَلَى آرَاءَ مُتَفَاوِتَةٍ، وَمَذَاهِبَ مُتَهَافِتَةٍ، وَلَوْ ذَهَبْتُ أَذْكُرُ الْمَقَالَاتِ وَأَسْتَقْصِيهَا، وَأَنْسِبُهَا إِلَى قَائِلِيهَا وَأَعْزِيهَا، لَخِفْتُ خَصْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: خَصْلَةٌ أَحَاذِرُهَا فِي مُصَنَّفَاتِي وَأَتَّقِيهَا، وَتَعَافُّهَا نَفْسِي الْأَبِيَّةُ وَتَجْتَوِيهَا، وَهِيَ سَرْدُ فَصْلٍ مَنْقُولٍ، عَنْ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَقُولٌ. وَهَذَا عِنْدِي يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الِاخْتِزَالِ وَالِانْتِحَالِ، وَالتَّشْيِيعِ بِعُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَالْإِغَارَةِ عَلَى مُصَنَّفَاتِ الْأَفَاضِلِ، وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ تَتَقَاضَاهُ قَرِيحَتُهُ تَأْلِيفًا، وَجَمْعًا، وَتَرْصِيفًا، أَنْ يَجْعَلَ مَضْمُونَ كِتَابِهِ أَمْرًا لَا يُلْفَى فِي مَجْمُوعٍ، وَغَرَضًا لَا يُصَادَفُ فِي تَصْنِيفٍ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ ذِكْرِهَا أَتَى بِهِ فِي مَعْرِضِ التَّذَرُّعِ وَالتَّطَلُّعِ إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمَعْمُودُ، فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ.

وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: اجْتِنَابُ الْإِطْنَابِ، وَتَنَكُّبُ الْإِسْهَابِ فِي غَيْرِ مَقْصُودِ الْكِتَابِ. 243 - فَأَعُودُ وَأَقُولُ: ذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمُ الزَّيْدِيَّةُ إِلَى تَصْحِيحِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لِلْمَفْضُولِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْإِرْسَالِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ، وَالَّذِي يَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فِي صَدْرِ الْبَابِ، أَنَّ الَّذِي يَقَعُ التَّعَرُّضُ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ، وَالْقَوْلِ فِي الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ، لَيْسَ هُوَ عَلَى أَعْلَى الْقَدْرِ وَالْمَرْتَبَةِ وَارْتِفَاعِ الدَّرَجَةِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي عَمَلِهِ، فَرُبَّ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ هُوَ قُطْبُ الْأَرْضِ، وَعِمَادُ الْعَالَمِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، وَفِي الْعَصْرِ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، فَالْمَعْنِيُّ بِالْفَضْلِ اسْتِجْمَاعُ الْخِلَالِ الَّتِي يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهَا فِي الْمُتَصَدِّي لِلْإِمَامَةِ. فَإِذَا أَطْلَقْنَا الْأَفْضَلَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنَيْنَا بِهِ الْأَصْلَحَ لِلْقِيَامِ

عَلَى الْخَلْقِ بِمَا يَسْتَصْلِحُهُمْ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَسَيَأْتِي مَشْرُوحًا فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ. 244 - فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَارَ طَوَائِفُ مِنْ أَئِمَّتِنَا إِلَى تَجْوِيزِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لِلْمَفْضُولِ، مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَقْدِ لِلْأَفْضَلِ الْأَصْلَحِ، وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الْمَفْضُولَ إِذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِلشَّرَائِطِ الْمَرْعِيَّةِ، فَاخْتِصَاصُ الْفَاضِلِ بِالْمَزَايَا اتِّصَافٌ بِمَا لَا تَفْتَقِرُ الْإِمَامَةُ إِلَيْهِ، فَإِذَا عُقِدَتِ الْإِمَامَةُ لِمَنْ لَيْسَ عَارِيًا عَنِ الْخِلَالِ الْمُعْتَبَرَةِ، اسْتَقَلَّتْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا مَنْدُوحَةَ، وَلَيْسَ لِلْفَضَائِلِ نِهَايَةٌ وَغَايَةٌ. 245 - وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْأُصُولِ مِنْ جِلَّةِ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ لِلْمَفْضُولِ مَعَ إِمْكَانِ الْعَقْدِ لِلْفَاضِلِ، ثُمَّ تَحَزَّبَ هَؤُلَاءِ حِزْبَيْنِ، وَتَصَدَّعُوا صَدْعَيْنِ: فَذَهَبَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّ مَدْرَكَ ذَلِكَ الْقَطْعُ، وَصَارَ فَرِيقٌ إِلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنَ المَظْنُونَاتِ الَّتِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا أَسَالِيبُ الْعُقُولِ، وَلَا قَوَاطِعُ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ.

246 - وَمَسْلَكُ الْحَقِّ الْمُبِينِ، مَا أُوَضِّحُهُ الْآنَ لِلْمُسْتَرْشِدِ الْمُسْتَبِينِ. فَأَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا عَسُرَ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِلْفَاضِلِ، وَاقْتَضَتْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ تَقْدِيمَ الْمَفْضُولِ، وَذَلِكَ لِصَغْوِ النَّاسِ، وَمَيْلِ أُولِي الْبَأْسِ وَالنَّجْدَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ فُرِضَ تَقْدِيمُ الْفَاضِلِ لَاشْرَأَبَّتِ الْفِتَنُ، وَثَارَتِ الْمِحَنُ، وَلَمْ نَجِدْ عَدَدًا، وَتَفَرَّقَتِ الْأَجْنَادُ بَدَدًا، فَإِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ فِي مُقْتَضَى الْإِيَالَةِ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْمَفْضُولِ، قُدِّمَ لَا مَحَالَةَ ; إِذِ الْغَرَضُ مِنْ نَصْبِ الْإِمَامِ اسْتِصْلَاحُ الْأُمَّةِ، فَإِذَا كَانَ فِي تَقْدِيمِ الْفَاضِلِ اخْتِبَاطُهَا وَفَسَادُهَا، وَفِي تَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ ارْتِبَاطُهَا وَسَدَادُهَا، تَعَيَّنَ إِيثَارُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْخَلِيقَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قُدِّمَ فَاضِلٌ، وَاتَّسَقَتْ لَهُ الطَّاعَةُ، وَنَشَأَ فِي الزَّمَنِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَلَا يُتْبَعُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِلْأَوَّلِ بِالْقَطْعِ وَالرَّفْعِ. 247 - فَإِذَا وَضُحَ مَا ذَكَرْتُهُ فَأَقُولُ: إِنْ تَهَيَّأَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ تَقْدِيمَ الْفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ مُدَافِعٍ،

وَتَحَقَّقَ الِاسْتِكْمَانُ مِنْ تَرْشِيحِ الْأَصْلَحِ، فَيَجِبُ الْقَطْعُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِإِيجَابِ تَقْدِيمِ الْأَفْضَلِ الْأَصْلَحِ، وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا تَصَدَّى لَهُ مَسْلَكَانِ فِي مُهِمٍّ أَلَمَّ، وَخَطْبٍ أَعْضَلَ وَادْلَهَمَّ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ آثَرَهُ وَاخْتَارَهُ، لَعَمَّتْ فَائِدَتُهُ وَعَائِدَتُهُ، وَعَظُمَ وَقْعُهُ نَفْعًا وَدَفْعًا، وَلَوْ سَلَكَ الْمَسْلَكَ الثَّانِيَ، لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا فِي مُقْتَضَى الِاخْتِيَارِ مِنْ مَدَارِكِ الرَّشَادِ، وَلَا جَارًّا إِضْرَارًا، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُ الْأَنْفَعِ، وَإِذَا كَانَ يَتَحَتَّمُ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى الْإِمَامِ الْمُطَاعِ عَلَى أَقْصَى مَا يُسْتَطَاعُ، فَلِأَنْ يَجِبَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يُؤْثِرُوا الْأَكْمَلَ وَالْأَفْضَلَ أَوْلَى، فَإِنَّ مَزِيدَ الْكِفَايَةِ، وَمَزِيَّةَ الْهِدَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، لَيْسَ هَيِّنَ الْأَثَرِ، قَرِيبَ الْوَقْعِ، فَلَا ارْتِيَابَ فِي إِيجَابِ تَحْصِيلِ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ، إِذَا سَهُلَ مَدْرَكُهُ، وَلَمْ يَتَوَعَّرْ مَسْلَكُهُ. 248 - وَلَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ فِي اخْتِيَارِنَا إِلَّا بِعَقْدِ مَنْ يُسْتَعْقَبُ عَقْدُهُ مَنْعَةً وَشَوْكَةً لِلْإِمَامِ الْمَعْقُودِ لَهُ، بِحَيْثُ

لَا يَبْعُدُ مِنَ الْإِمَامِ أَنْ يُصَادِمَ بِهَا مَنْ نَابَذَهُ وَنَاوَاهُ، وَيُقَارِعَ مَنْ خَالَفَهُ وَعَادَاهُ، وَإِذَا فُرِضَ الْعَقْدُ لِلْمَفْضُولِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَفِي الْحُكْمِ بِأَنَّ الْإِمَامَةَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ لَهُ فِتَنٌ ثَائِرَةٌ، وَهَيَجَانُ نَائِرَةٍ، وَقَدْ يَهْلَكُ فِيهَا أُمَمٌ، وَيُصْرَعُ الْأَبْطَالُ الَّذِينَ هُمْ نَجْدَةُ الْإِسْلَامِ، عَلَى السَّوَاعِدِ وَاللَّمَمِ، وَلَا يَفِي مَا كُنَّا نَتَرَقَّبُهُ مِنْ مَزَايَا الْفَوَائِدِ، بِتَقْدِيمِ الْفَاضِلِ بِمَا نُحَاذِرُهُ الْآنَ مِنْ تَأْخِيرِ الْمَفْضُولِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ إِذَا اقْتَضَتْ تَقْدِيمَ الْمَفْضُولِ، قَدَّمْنَاهُ. 249 - فَآلَ حَاصِلُ الْكَلَامِ وَمُنْتَهَى الْمَرَامِ، إِلَى أَنَّا نَقْطَعُ بِتَحْرِيمِ تَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ تَقْدِيمِ الْفَاضِلِ، وَلَكِنْ إِذَا اتَّفَقَ تَقْدِيمُ الْمَفْضُولِ وَاخْتِيَارُهُ، مَعَ مَنْعَةٍ تَتَحَصَّلُ مِنْ مُشَايَعَةِ أَشْيَاعٍ، وَمُتَابَعَةِ أَتْبَاعٍ، فَقَدْ نَفَذَتِ الْإِمَامَةُ نُفُوذًا لَا يُدْرَأُ. وَإِنْ جَرَى الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ مَنْعَةٍ فَالْإِمَامَةُ لِلْفَاضِلِ عِنْدِي لَا تَنْعَقِدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. فَمَا الظَّنُّ بِالْمَفْضُولِ؟ وَهَذَا مُشْكِلٌ عَظِيمٌ بَيَّنْتُهُ، وَسِرٌّ جَسِيمٌ فِي الْإِيَالَةِ أَعْلَنْتُهُ، وَلَا يَحْظَى - وَاللَّهِ - بِهَذَا الْكِتَابِ إِلَّا

مَنْ وَافَقَهُ التَّوْفِيقُ، وَسَاوَقَهُ التَّحْقِيقُ، فَكَمْ فِيهِ مِنْ عُقَدٍ فِي مُشْكِلَاتٍ فَضَضْتُهَا، وَأَبْكَارٍ مِنْ بَدَائِعِ الْمَعَانِي افْتَضَضْتُهَا، فَإِذَا وَضَحَ الْقَوْلُ فِي إِمَامَةِ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ، فَأَنَا وَرَاءُ ذَلِكَ أَقُولُ: 250 - قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْأَصْلَحُ، فَلَوْ فَرَضْنَا مُسْتَجْمِعًا لِلشَّرَائِطِ بَالِغًا فِي الْوَرَعِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى، وَقَدَّرْنَا آخَرَ أَكْفَأَ مِنْهُ، وَأَهْدَى إِلَى طُرُقِ السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَعِ مِثْلُهُ، فَالْأَكْفَأُ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ. وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ، وَالثَّانِي أَعْرَفَ بِتَجْنِيدِ الْجُنُودِ، وَعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ وَالْبُنُودِ، وَجَرِّ الْعَسَاكِرِ وَالْمَقَانِبِ، وَتَرْتِيبِ الْمَرَاتِبِ وَالْمَنَاصِبِ، فَلْيَنْظُرْ ذُو الرَّأْيِ إِلَى حُكْمِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْنَافُ خِطَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَالْمَمَالِكُ مُنْتَفِضَةً عَنْ ذَوِي الْعَرَامَةِ، وَلَكِنْ ثَارَتْ بِدَعٌ وَأَهْوَاءٌ، وَاضْطَرَبَتْ مَذَاهِبُ وَمَطَالِبُ وَآرَاءُ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إِلَى مَنْ يَسُوسُ الْأُمُورَ الدِّينِيَّةَ أَمَسُّ، فَالْأَعْلَمُ أَوْلَى.

251 - وَإِنْ تُصُوِّرَتِ الْأُمُورَ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى شَهَامَةٍ وَصَرَامَةٍ، وَبَطَّاشٍ، يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَا يُحَاشِ، فَالْأَشْهَمُ أَوْلَى بِأَنْ يُقَدَّمَ. وَالْآنَ كَمَا وَضُحَ الْمَقَالُ، وَزَالَ الْإِشْكَالُ، فَلْنَخْتِمِ الْكَلَامَ، وَلْنَخُضْ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

الباب السابع في منع نصب إمامين

[الْبَابُ السَّابِعُ فِي مَنْعِ نَصْبِ إِمَامَيْنِ] الْبَابُ السَّابِعُ. فِي مَنْعِ نَصْبِ إِمَامَيْنِ. 252 - إِذَا تَيَسَّرَ نَصْبُ إِمَامٍ وَاحِدٍ يُطَبِّقُ خِطَّةَ الْإِسْلَامِ نَظَرُهُ، وَيَشْمَلُ الْخَلِيقَةَ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهَا فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا أَثَرُهُ، تَعَيَّنَ نَصْبُهُ، وَلَمْ يَسُغْ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - نَصْبُ إِمَامَيْنِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَا يُلْفَى فِيهِ خِلَافٌ، وَلَمَّا اسْتَتَبَّتِ الْبَيْعَةُ لِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ الْخِلَافَةُ إِلَى مُنْقَرَضِ زَمَنِ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فُهِمَ عَلَى الِاضْطِرَارِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى نَقْلِ أَخْبَارٍ، مِنْ مَذَاهِبِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَنَّ مَبْنَى الْإِمَامَةِ عَلَى أَنْ لَا يَتَصَدَّى لَهَا إِلَّا فَرْدٌ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا إِلَّا وَاحِدٌ فِي الدَّهْرِ، وَمَنْ لَمْ يُحِطْ بِدَرْكِ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ الْعَاقِدِينَ وَالَّذِينَ عُقِدَ لَهُمْ، فَهُوَ بَعِيدُ الْفَهْمِ، فَدْمُ الْقَرِيحَةِ، مُسْتَمِيتُ الْفِكْرِ. 253 - وَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْإِمَامَةِ

جَمْعُ الْآرَاءِ الْمُشَتَّتَةِ، وَارْتِبَاطُ الْأَهْوَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَلَيْسَ بِالْخَافِي عَلَى ذَوِي الْبَصَائِرِ أَنَّ الدُّوَلَ إِنَّمَا تَضْطَرِبُ بِتَحَزُّبِ الْأُمَرَاءِ، وَتَفَرُّقِ الْآرَاءِ، وَتَجَاذُبِ الْأَهْوَاءِ، وَنِظَامُ الْمُلْكِ، وَقِوَامُ الْأَمْرِ بِالْإِذْعَانِ، وَالْإِقْرَارُ لِذِي رَأْيٍ ثَابِتٍ لَا يَسْتَبِدُّ، وَلَا يَنْفَرِدُ، بَلْ يَسْتَضِيءُ بِعُقُولِ الْعُقَلَاءِ، وَيَسْتَبِينُ بِرَأْيِ طَوَائِفِ الْحُكَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَيَسْتَثْمِرُ لُبَابَ الْأَلْبَابِ، فَيَحْصُلُ مِنِ انْفِرَادِهِ الْفَائِدَةُ الْعُظْمَى فِي قَطْعِ الِاخْتِلَافِ، وَيَتَحَقَّقُ بِاسْتِضَاءَتِهِ اسْتِثْمَارُ عُقُولِ الْعُقَلَاءِ. 254 - فَالْغَرَضُ الْأَظْهَرُ إِذًا مِنَ الْإِمَامَةِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِانْفِرَادِ الْإِمَامِ، وَهَذَا مُغْنٍ بِوُضُوحِهِ عَنِ الْإِطْنَابِ وَالْإِسْهَابِ، مُسْتَنِدٌ إِلَى الْإِطْبَاقِ وَالِاتِّفَاقِ، إِذْ دَاعِيَةُ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالشِّقَاقِ رَبْطُ الْأُمُورِ بِنَظَرِ نَاظِرَيْنِ، وَتَعْلِيقُ التَّقَدُّمِ بِأَمِيرَيْنِ، وَإِنَّمَا تَسْتَمِرُّ أَكْنَافُ الْمَمَالِكِ بِرُجُوعِ أُمَرَاءِ الْأَطْرَافِ إِلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ ضَابِطٍ، وَنَظَرٍ مُتَّحِدٍ رَابِطٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَوْئِلٌ عَنْهُ يَصْدُرُونَ، وَمَطْمَحٌ إِلَيْهِ يَتَشَوَّفُونَ، تَنَافَسُوا وَتَتَطَاوَلُوا، وَتَغَالَبُوا وَتَصَاوَلُوا، وَتَوَاثَبُوا عَلَى

ابْتِغَاءِ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَتَغَالَبُوا غَيْرَ مُكْتَرِثِينَ بِاسْتِئْصَالِ الْجَمَاهِيرِ وَالدَّهْمَاءِ، فَتَكُونُ الدَّاهِيَةُ الدَّهْيَاءُ، وَهَذَا مَثَارُ الْبَلَايَا، وَمَهْلَكَةُ الْبَرَايَا، وَفِيهِ تَنْطَحِنُ السَّلَاطِينُ وَالرَّعَايَا. 255 - فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ نَصْبَ إِمَامَيْنِ مَدْعَاةُ الْفَسَادِ، وَسَبَبُ حَسْمِ الرَّشَادِ، ثُمَّ إِنْ فُرِضَ نَصْبُ إِمَامَيْنِ عَلَى أَنْ يَنْفَذَ أَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْخِطَّةِ، جَرَّ ذَلِكَ تَدَافُعًا وَتَنَازُعًا، وَأَثَرُ ضُرِّ نَصْبِهِمَا يُبِرُّ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ مُهْمَلًا سُدًى. وَإِنْ نُصِبَ إِمَامٌ فِي بَعْضِهَا، وَآخَرُ فِي بَاقِيهَا، مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ نَصْبِ إِمَامٍ نَافِذِ الْأَمْرِ فِي جَمِيعِ الْخِطَّةِ، كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا إِجْمَاعًا، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَفِيهِ إِبْطَالُ فَائِدَةِ الْإِمَامَةِ الْمَنُوطَةِ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَجْمَعُ الْآرَاءَ كَمَا سَبَقَ إِيضَاحُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ. 256 - وَالَّذِي تَبَايَنَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ أَنَّ الْحَالَةَ إِذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَنْبَسِطُ رَأْيُ إِمَامٍ وَاحِدٍ عَلَى الْمَمَالِكِ، وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بِأَسْبَابٍ

لَا تَغْمُضُ: مِنْهَا: اتِّسَاعُ الْخِطَّةِ، وَانْسِحَابُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَقْطَارٍ مُتَبَايِنَةٍ، وَجَزَائِرَ فِي لُجُجٍ مُتَقَاذِفَةٍ، وَقَدْ يَقَعُ قِيَامُ قَوْمٍ مِنَ النَّاسِ نُبْذَةً مِنَ الدُّنْيَا لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِمْ نَظَرُ الْإِمَامِ، وَقَدْ يَتَوَلَّجُ خِطَّةٌ مِنْ دِيَارِ الْكُفْرِ بَيْنَ خِطَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيَنْقَطِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ نَظَرُ الْإِمَامِ عَنِ الَّذِينَ وَرَاءَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. 257 - فَإِذَا اتَّفَقَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَدْ صَارَ صَائِرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى تَجْوِيزِ نَصْبِ إِمَامٍ فِي الْقُطْرِ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ أَثَرُ نَظَرِ الْإِمَامِ، وَيُعْزَى هَذَا الْمَذْهَبُ إِلَى شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ، وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِمَا، وَابْتَغَى هَؤُلَاءِ مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ، وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْإِمَامَةِ اسْتِصْلَاحَ الْعَامَّةِ، وَتَمْهِيدَ الْأُمُورِ، وَسَدَّ الثُّغُورِ، فَإِذَا تَيَسَّرَ نَصْبُ إِمَامٍ وَاحِدٍ نَافِذِ الْأَمْرِ، فَهُوَ أَصْلَحُ لَا مَحَالَةَ فِي مُقْتَضَى السِّيَاسَةِ وَالْإِيَالَةِ، وَإِنْ عَسُرَ

ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ نَظَرُ الْإِمَامِ مُهْمَلِينَ لَا يَجْمَعُهُمْ وَازِعٌ، وَلَا يَرْدَعُهُمْ رَادِعٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَنْصِبُوا فِي نَاحِيَتِهِمْ وَزَرًا يَلُوذُونَ بِهِ، إِذْ لَوْ بَقَوْا سُدًى، لَتَهَافَتُوا عَلَى وَرَطَاتِ الرَّدَى. وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ. 258 - وَأَنَا أَقُولُ فِيهِ: مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ تَعَالَى: إِنْ سَبَقَ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِصَالِحٍ لَهَا، وَكُنَّا نَرَاهُ عِنْدَ الْعَقْدِ مُسْتَقِلًّا بِالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ، ثُمَّ ظَهَرَ مَا يَمْنَعُ مِنِ انْبِثَاثِ نَظَرِهِ، أَوْ طَرَأَ، فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الَّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ أَمْرُ الْإِمَامِ مُهْمَلِينَ، وَلَكِنَّهُمْ يُنَصِّبُونَ أَمِيرًا يَرْجِعُونَ إِلَى رَأْيِهِ وَيَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَيَلْتَزِمُونَ شَرِيعَةَ الْمُصْطَفَى فِيمَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمَنْصُوبُ إِمَامًا، وَلَوْ زَالَتِ الْمَوَانِعُ، وَاسْتَمَكْنَ الْإِمَامُ مِنَ النَّظَرِ لَهُمْ، أَذْعَنَ الْأَمِيرُ وَالرَّعَايَا لِلْإِمَامِ، وَأَلْقَوْا إِلَيْهِ السَّلَمَ، وَالْإِمَامُ يُمَهِّدُ عُذْرَهُمْ، وَيَسُوسُ أَمْرَهُمْ، فَإِنْ رَأَى تَقْرِيرَ مَنْ نَصَّبُوهُ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى تَغْيِيرَ الْأَمْرِ، فَرَأْيُهُ الْمَتْبُوعُ، وَإِلَيْهِ الرُّجُوعُ. 259 - وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ نَصْبُ إِمَامٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَصْوِيرُهُ، وَلَكِنْ

خَلَا الدَّهْرُ عَنْ إِمَامٍ فِي زَمَنِ فَتْرَةٍ، وَانْفَصَلَ شَطْرٌ مِنَ الْخِطَّةِ عَنْ شَطْرٍ، وَعَزَّ نَصْبُ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يَشْمَلُ رَأْيُهُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، فَنُصِبَ أَمِيرٌ فِي أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ لِلضَّرُورَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَنُصِبَ أَمِيرٌ فِي الْقُطْرِ الْآخَرِ مَنْصُوبٌ، وَلَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ عَلَى حُكْمِ الْعُمُومِ، إِذَا كَانَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ، فَالْحَقُّ الْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَيْسَ إِمَامًا، إِذِ الْإِمَامُ هُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي بِهِ ارْتِبَاطُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ. وَلَسْتُ أُنْكِرُ تَجْوِيزَ نَصْبِهِمَا عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ، وَنُفُوذَ أَمْرِهِمَا عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ زَمَانٌ خَالٍ عَنِ الْإِمَامِ، وَسَيَأْتِي فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَكْمَلُ شَرْحٍ وَتَفْصِيلٍ، فَهُوَ أَحَدُ غَرَضَيِ الْكِتَابِ اللَّذَيْنِ عَلَيْهِمَا التَّعْوِيلُ. فَإِنِ اتَّفَقَ نَصْبُ إِمَامٍ، فَحَقٌّ عَلَى الْأَمِيرَيْنِ أَنْ يَسْتَسْلِمَا لَهُ

لِيَحْكُمَ عَلَيْهِمَا بِمَا يَرَاهُ صَلَاحًا أَوِ اسْتِصْلَاحًا. وَهَذَا بَيَانُ مَضْمُونِ الْبَابِ، وَإِيضَاحُ سِرِّهِ. 260 - ثُمَّ فَرَّعَ الْمُتَكَلِّفُونَ مَسَائِلَ لَا يَكَادُ يَخْفَى مَدْرَكُهَا عَلَى الْمُحَصِّلِ الْمُتَأَمِّلِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِيهِ مَا يَتَّضِحُ بِهِ الْغَرَضُ، وَيُرْشِدُ إِلَى أَمْثَالِهِ وَأَشْكَالِهِ. فَلَوِ اتَّفَقَ نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي قُطْرَيْنِ، وَكَانَا صَالِحَيْنِ لِلْإِمَامَةِ مُسْتَجْمِعَيْنِ لِلصِّفَاتِ الْمَرْعِيَّةِ، وَعُقِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الْإِمَامَةُ عَلَى حُكْمِ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَشْعُرِ الْعَاقِدُونَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ بِمَا جَرَى فِي النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، وَلَكِنْ بَيَّنَ كُلُّ قَوْمٍ مَا أَنْشَأُوهُ مِنْ الِاخْتِيَارِ وَالْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَتَفَرَّدَ مَنِ اخْتَارُوهُ بِالْإِمَامَةِ. فَإِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنْ لَا تَثْبُتَ الْإِمَامَةُ لَهُمَا ; لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَإِنَّ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ بِالْأَشْغَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَمْعُ مُسْتَقِلَّيْنِ بِالزَّعَامَةِ الْكُبْرَى مُحَالٌ. 261 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ نَصْبِ قَاضِيَيْنِ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ عُمُومِ وِلَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْبُقْعَةِ، وَالْأَصَحُّ مَنْعُ ذَلِكَ فِي الْقَاضِيَيْنِ، وَذَلِكَ مَظْنُونٌ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ وَرَاءِ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ، وَالْمُسْتَنَابِينَ فِي الْأَعْمَالِ. فَإِنْ فُرِضَ تَنَازُعٌ، وَتَمَانُعٌ بَيْنَ وَالِيَيْنِ كَانَ وَزَرُ الْمُسْلِمِينَ مَرْجُوعًا إِلَيْهِ فِي الْخُصُومَاتِ الشَّاجِرَةِ

الباب الثامن فيما يناط بالأئمة والولاة من أحكام الإسلام

262 - وَأَمَّا الْإِمَامَةُ فَهِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، وَلَيْسَ بَعْدَهَا تَقْدِيرُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ وَمَتْبُوعٍ ; فَيَسْتَحِيلُ فَرْضُ إِمَامَيْنِ نَافِذَيِ الْحُكْمِ عُمُومًا. فَإِذَا عُقِدَتِ الْإِمَامَةُ لِرَجُلَيْنِ كَمَا سَبَقَ تَصْوِيرُهُ، نُظِرَ: فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ مَعًا، لَمْ يَصِحَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَيَبْتَدِئُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ عَقْدَ الْإِمَامَةِ لِمُسْتَصْلِحٍ لَهَا، وَإِنْ تَقَدَّمَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ، فَهُوَ النَّافِذُ، وَالْمُتَأَخِّرُ مَرْدُودٌ. وَإِنْ غَمُضَ التَّارِيخُ، وَعَسُرَ إِثْبَاتُ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا بِالْبَيِّنَةِ، كَانَ كَمَا لَوْ تَحَقَّقْنَا وُقُوعَ الْعَقْدَيْنِ مَعًا، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَعْطِيلِ الْبَيْضَةِ عَنْ مَنْصِبِ الْإِمَامِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ الْأَمْرِ مُبْهَمًا، مَعَ تَحْقِيقِ الْيَأْسِ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى تَارِيخِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِيقَاعِ. وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُخْتَارَيْنِ تَقَدُّمًا، وَرَامَ تَحْلِيفَ الثَّانِي لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الْخَطْبَ الْعَظِيمَ يَجِلُّ عَنِ الْإِثْبَاتِ بِالْيَمِينِ وَالنُّكُولِ، وَالْإِمَامُ نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْلِيفِ النَّائِبِ، وَمَقْصُودُ الْحَقِّ لِغَيْرِهِ، فَهَذَا الْمِقْدَارُ مُقْنِعٌ كَافٍ فِي غَرَضِ الْبَابِ. [الْبَابُ الثَّامِنُ فِيمَا يُنَاطُ بِالْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ] [مقدمات الباب]

الْبَابُ الثَّامِنُ. فِيمَا يُنَاطُ بِالْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. مُقَدِّمَاتُ الْبَابِ. 263 - لِيَعْلَمَ طَالِبُ الْحَقِّ وَبَاغِي الصِّدْقِ أَنَّ مَطْلُوبَ الشَّرَائِعِ مِنَ الْخَلَائِقِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْمِلَلِ وَالطَّرَائِقِ، وَالِاسْتِمْسَاكُ بِالدِّينِ وَالتَّقْوَى، وَالِاعْتِصَامُ بِمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَالتَّشْمِيرُ لِابْتِغَاءِ مَا يُرْضِي اللَّهَ تَقَدَّسَ وَتَعَالَى، وَالِاكْتِفَاءُ بِبَلَاغٍ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَالنَّدْبُ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى، وَالِانْحِجَازِ عَنْ مَسَالِكِ الْمُنَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَطَرَ الْجِبِلَّاتِ عَلَى التَّشَوُّفِ وَالشَّهَوَاتِ، وَنَاطَ بَقَاءَ الْمُكَلَّفِينَ بِبُلْغَةٍ وَسَدَادٍ، فَتَعَلَّقَتِ التَّكَالِيفُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى تَمْهِيدِ الْمَطَالِبِ وَالْمَكَاسِبِ، وَتَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ، وَتَهْذِيبِ مَسَالِكِ الْأَحْكَامِ عَلَى فِرَقِ الْأَنَامِ، فَجَرَتِ الدُّنْيَا مِنَ الدِّينِ مَجْرَى

الْقِوَامِ، وَالنِّظَامُ مِنَ الذَّرَائِعِ إِلَى تَحْصِيلِ مَقَاصِدِ الشَّرَائِعِ. 264 - وَمِنَ الْعِبَارَاتِ الرَّائِقَةِ الْفَائِقَةِ الْمُرْضِيَةِ فِي الْإِعْرَابِ عَنِ الْمَقَاصِدِ الْكُلِّيَّةِ فِي الْقَضَايَا الشَّرْعِيَّةِ: أَنَّ مَضْمُونَهَا دُعَاءٌ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ نَدْبًا وَاسْتِحْبَابًا، وَحَتْمًا وَإِيجَابًا، وَالزَّجْرُ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَمَا يُخَالِفُ الْمَعَالِيَ، تَحْرِيمًا وَحَظْرًا، وَكَرَاهِيَةً تُبَيِّنُ عِيَافَةً وَحَجْرًا، وَإِبَاحَةٌ تُغْنِي عَنِ الْفَوَاحِشِ، كَإِبَاحَةِ النِّكَاحِ الْمُغْنِي عَنِ السِّفَاحِ، أَوْ تُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتُعْضِدُ أَسْبَابَ الْقُوَّةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ. 265 - ثُمَّ لَمَّا جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ الْعَاجِلِ، وَالتَّطَلُّعِ إِلَى الضِّنَّةِ بِالْحَاصِلِ، وَالتَّعَلُّقِ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا بِالْوَصَائِلِ وَالْوَسَائِلِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِالْمَهَالِكِ وَالْغَوَائِلِ، وَالتَّهَالُكِ عَلَى جَمْعِ الْحُطَامِ مِنْ غَيْرِ تَمَاسُكٍ وَتَمَالُكٍ ; وَهَذَا يَجُرُّ التَّنَافُسَ وَالِازْدِحَامَ، وَالنِّزَاعَ وَالْخِصَامَ، وَاقْتِحَامَ الْخُطُوبِ الْعِظَامِ، فَاقْتَضَى الشَّرْعُ فَيْصَلًا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِنْصَافًا وَانْتِصَافًا بَيْنَ طَبَقَاتِ الْأَنَامِ، وَتَعْلِيقَ

الْإِقْدَامِ عَلَى الْقُرْبِ وَالطَّاعَاتِ بِالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، فَيَرْبِطُ اقْتِحَامَ الْآثَامِ بِالْعِقَابِ. 266 - ثُمَّ لَمْ يَنْحَجِزْ مُعْظَمُ النَّاسِ عَنِ الْهَوَى بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّهْذِيبِ، فَقَيَّضَ اللَّهُ السَّلَاطِينَ وَأُولِي الْأَمْرِ وَازِعِينَ، لِيُوَفِّرُوا الْحُقُوقَ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَيُبْلِغُوا الْحُظُوظَ ذَوِيهَا، وَيَكُفُّوا الْمُعْتَدِينَ، وَيُعَضِّدُوا الْمُقْتَصِدِينَ، وَيُشَيِّدُوا مَبَانِيَ الرَّشَادِ، وَيُحْسِمُوا مَعَانِيَ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، فَتَنْتَظِمُ أُمُورُ الدُّنْيَا، وَيُسْتَمَدُّ مِنْهَا الدِّينُ الَّذِي إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى. 267 - وَمَا ابْتَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ حَتَّى أَيَّدَهُ وَعَضَّدَهُ بِسُلْطَانٍ ذِي عُدَّةٍ وَنَجْدَةٍ، وَمِنَ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ وَالْأَيْدُ وَالْقُوَّةُ كَدَاوُدَ وَمُوسَى وَسُلَيْمَانَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَلَمَّا اخْتَتَمَ اللَّهُ الرِّسَالَةَ فِي الْعَالَمِ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَيَّدَهُ بِالْحُجَّةِ الْبَيْضَاءِ، وَالْمَحَجَّةِ الْغَرَّاءِ، وَشَدَّ بِالسَّيْفِ أَزْرَهُ، وَضَمِنَ إِظْهَارَهُ وَنَصْرَهُ، وَجَعَلَهُ إِمَامَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمَلَاذَ الْخَلْقِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، ثُمَّ

نظر الإمام في الأمور المتعلقة بالدين

أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ وَاخْتَتَمَ الْوَحْيَ، فَاسْتَأْثَرَ بِرَسُولِهِ سَيِّدِ النَّبِيِّينَ، فَخَلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِيَدْعُوَ إِلَى اللَّهِ دُعَاهُ، وَيُقَرِّرَ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَرَاشِدِهَا، وَيَنْتَحِي فِي اسْتِصْلَاحِ الْعِبَادِ انْتِحَاهُ. 268 - وَغَرَضُنَا مِنْ تَقْدِيمِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ تَوْطِئَةُ طُرُقِ الْأَفْهَامِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْأَحْكَامِ بِالْإِمَامِ. فَالْقَوْلُ الْكُلِّيُّ: أَنَّ الْغَرَضَ اسْتِيفَاءُ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَالْمَقْصِدُ الدِّينُ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اسْتَمَدَّ اسْتِمْرَارَهُ مِنَ الدُّنْيَا، كَانَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مَرْعِيَّةً، ثُمَّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَئِمَّةِ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ. وَنَحْنُ الْآنَ - بَعْدَ هَذَا التَّرْتِيبِ - نَذْكُرُ نَظَرَ الْإِمَامِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ، ثُمَّ نَذْكُرُ نَظَرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَبِنِجَازِ الْقِسْمَيْنِ يَحْصُلُ الْغَرَضُ الْأَقْصَى مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَئِمَّةِ وَالْوَرَى. [نَظَرُ الْإِمَامِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ] [وَاجِبُ الْإِمَامِ نَحْوَ أَصْلِ الدِّينِ] أ - نَظَرُ الْإِمَامِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ. فَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الدِّينِ، فَيَنْقَسِمُ إِلَى النَّظَرِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَإِلَى النَّظَرِ فِي فُرُوعِهِ.

فَصْلٌ. وَاجِبُ الْإِمَامِ نَحْوَ أَصْلِ الدِّينِ. 269 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي أَصْلِ الدِّينِ فَيَنْقَسِمُ إِلَى: حَفِظِ الدِّينِ بِأَقْصَى الْوُسْعِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَدَفْعِ شُبُهَاتِ الزَّائِغِينَ، كَمَا سَنُقَرِّرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَإِلَى دُعَاءِ الْجَاحِدِينَ وَالْكَافِرِينَ، إِلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ الْمُبِينِ. فَلْتَقَعِ الْبِدَايَةُ الْآنَ بِتَقْرِيرِ سَبِيلِ الْإِيقَانِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَنَقُولُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ: إِنْ صَفَا الدِّينُ عَنِ الْكَدَرِ وَالْأَقْذَاءِ، وَانْتَفَضَ عَنْ شَوَائِبِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، كَانَ حَقًّا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَرْعَاهُمْ بِنَفْسِهِ وَرُقَبَائِهِ، بِالْأَعْيُنِ الْكَالِئَةِ، فَيَرْقُبُهُمْ بِذَاتِهِ وَأُمَنَائِهِ بِالْآذَانِ الْوَاعِيَةِ، وَيُشَارِفُهُمْ مُشَارَفَةَ الضَّنِينِ ذَخَائِرُهُ، وَيَصُونُهُمْ عَنْ نَوَاجِمِ الْأَهْوَاءِ، وَهَوَاجِمِ الْآرَاءِ، فَإِنَّ مَنْعَ الْمَبَادِي أَهْوَنُ مِنْ قَطْعِ التَّمَادِي. 270 - فَإِنْ قِيلَ: بِمَ يَزِيغُ عَنِ الْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ؟ . قُلْنَا: إِنْ كَانَ مَا انْتَحَلَهُ ذَلِكَ الزَّائِغُ النَّابِغُ رِدَّةً اسْتَتَابَهُ. فَإِنْ

أَبَى وَاسْتَقَرَّ وَأَصَرَّ، تَقَدَّمَ بِضَرْبِ رَقَبَتِهِ. وَالْقَوْلُ فِي الْمُرْتَدِّ وَحُكْمِهِ يَحْوِيهِ كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، فَمَنْ أَرَادَ الِاحْتِوَاءَ عَلَى التَّفَاصِيلِ، فَلْيَطْلُبْهُ مِنْ فَنِّ الْفِقْهِ. وَإِنْ تَابَ وَاتَّهَمَهُ الْإِمَامُ بِالِاتِّقَاءِ مَعَ الِانْطِوَاءِ عَلَى نَقِيضِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ التَّوْبَةِ، فَسَيَأْتِي ذَلِكَ عِنْدَ الْقَوْلِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ. 271 - وَإِنْ كَانَ مَا صَارَ إِلَيْهِ النَّاجِمُ بِدْعَةً لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الرِّدَّةِ، فَيَتَحَتَّمُ عَلَى الْإِمَامِ الْمُبَالَغَةُ فِي مَنْعِهِ وَدَفْعِهِ، وَبَذْلُ كُنْهَ الْمَجْهُودِ فِي رَدْعِهِ وَوَزْعِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَاسْتِمْرَارِهِ فِي دَعْوَتِهِ يَخْبِطُ الْعَقَائِدَ، وَيَخْلِطُ الْقَوَاعِدَ، وَيَجُرُّ الْمِحَنَ وَيُثِيرُ الْفِتَنَ، ثُمَّ إِذَا رَسَخَتِ الْبِدَعُ فِي الصُّدُورِ، أَفْضَتْ إِلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَتَرَقَّتْ إِلَى حَلِّ عِصَامِ الْإِسْلَامِ. 272 - فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْبِدْعَةُ رِدَّةً، وَأَصَرَّ عَلَيْهَا مُنْتَحِلُهَا، فَبِمَاذَا يَدْفَعُ الْإِمَامُ غَائِلَتَهُ؟ . قُلْنَا: سَنَعْقِدُ بَابًا فِي تَقَاسِيمِ الْعُقُوبَاتِ وَمَرَاتِبِهَا، وَتَفَاصِيلِهَا وَمَنَاصِبِهَا، وَنَعْزِي كُلَّ عُقُوبَةٍ إِلَى مُقْتَضِيهَا وَمُوجِبِهَا، وَفِيهِ يَتَبَيَّنُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

273 - فَإِنْ قِيلَ: فَصِّلُوا مَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ، وَمَا يُوجِبُ التَّبْدِيعَ وَالتَّضْلِيلَ. قُلْنَا: هَذَا طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ ; فَإِنَّ هَذَا بَعِيدُ الْمَدْرَكِ مُتَوَعِّرُ الْمَسْلَكِ، يُسْتَمَدُّ مِنْ تَيَّارِ بِحَارِ عُلُومِ التَّوْحِيدِ، وَمَنْ لَمْ يُحِطْ بِنِهَايَاتِ الْحَقَائِقِ، لَمْ يَتَحَصَّلْ فِي التَّكْفِيرِ عَلَى وَثَائِقَ، وَلَوْ أَوْغَلْتُ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَطْرَافُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، لَبَلَغَ مُجَلَّدَاتٍ ; ثُمَّ لَا يَبْلُغُ مُنْتَهَى الْغَايَاتِ. فَالْوَجْهُ الْبَسْطُ فِي مَقْصُودِ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَإِيثَارُ الْقَبْضِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِهِ، وَإِحَالَةُ الِاسْتِقْصَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى مَحَلِّهِ وَفَنِّهِ. 274 - فَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ إِذَا أَخَذَتِ الْبِدَعُ تَبْدُو، أَوْ أَمْكَنَ قَطْعُهَا، فَأَمَّا إِذَا شَاعَتِ الْأَهْوَاءُ وَذَاعَتْ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاسْتَمَرَّتِ الْمَذَاهِبُ الزَّائِغَةُ، وَاشْتَدَّتِ الْمَطَالِبُ الْبَاطِلَةُ ; فَإِنِ اسْتَمْكَنَ الْإِمَامُ مِنْ مَنْعِهِمْ لَمْ يَأْلُ فِي مَنْعِهِمْ جَهْدًا، وَلَمْ يُغَادِرْ فِي ذَلِكَ قَصْدًا، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ شَوْفَهُ الْأَعْظَمَ، وَأَمْرَهُ الْأَهَمَّ، وَشُغْلَهُ الْأَطَمَّ، فَإِنَّ الدِّينَ أَحْرَى بِالرِّعَايَةِ، وَأَوْلَى بِالْكِلَاءَةِ، وَأَخْلَقُ بِالْعِنَايَةِ، وَأَجْدَرُ بِالْوِقَايَةِ، وَأَلْيَقُ بِالْحِمَايَةِ.

وَقَدْ أَدْرَجْنَا فِي أَثْنَاءِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاهْتِمَامِ الْإِمَامِ الدِّينُ وَالنَّظَرُ فِي الدُّنْيَا تَابِعٌ عَلَى قَطْعٍ وَيَقِينٍ، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دَفْعِهِمْ إِلَّا بِقِتَالٍ، وَاعْتِنَاقِ أَهْوَالٍ، فَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي الْبَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَقَاسِيمِ الْعُقُوبَاتِ، وَضُرُوبِ السِّيَاسَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَجُرُّ عَسَاكِرَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْبُغَاةِ، وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَأَثَرُ امْتِنَاعِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ، وَالْخُرُوجِ عَنْ رِبْقَةِ الْجَمَاعَةِ، آيِلٌ إِلَى فَرْعِ الدِّينِ، فَمَا يَئُولُ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ أَوْلَى بِاعْتِنَاءِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَنَقُولُ ذَلِكَ مَشْرُوحًا، إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ عَزَّتْ قُدْرَتُهُ. فَهَذَا إِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقْتَدِرًا عَلَى النَّابِغِينَ، وَصَدِّ الْمُمْتَنِعِينَ الْمُبْتَدِعِينَ. 275 - وَإِنْ تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَفَاتَ اسْتِدْرَاكُهُ الْإِطَاقَةَ، وَعَسُرَتْ مُقَاوَمَةُ وَمُصَادَمَةُ ذَوِي الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مُسَالَمَتَهُمْ وَمُتَارَكَتَهُمْ وَتَقْرِيرَهُمْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ وَجْهُ الرَّأْيِ، وَلَوْ

جَاهَرَهُمْ لَتَأَلَّبُوا وَتَأَشَّبُوا، وَنَابَذُوا الْإِمَامَ، مُكَاوِحِينَ مُكَافِحِينَ، وَسَلُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ، لَخَرَجَ تَدَارُكُ الْأُمُورِ عَنِ الطَّوْقِ وَالِاسْتِطَاعَةِ، وَقَدْ يَتَدَاعَى الْأَمْرُ إِلَى تَعْطِيلِ الثُّغُورِ فِي الدِّيَارِ، وَاسْتِجْرَاءِ الْكُفَّارِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يُظْهِرْ مَا يَخْرُقُ حِجَابَ الْهَيْبَةِ، وَيَجُرُّ مُنْتَهَاهُ عُسْرًا وَخَيْبَةً، لَكِنْ إِنْ أَغْمَدَ عَنْهُمْ صَوَارِمَهُ، لَمْ يَكُفَّ عَنْهُمْ صَرَائِمَهُ، وَعَزَائِمَهُ، وَتَرَبَّصَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، وَاضْطَرَّهُمْ بِالرَّأْي الثَّاقِبِ إِلَى أَضْيَقِ الْمَصَائِرِ، وَأَتَاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَحَرَصَ أَنْ يَسْتَأْصِلَ رُؤَسَاءَهُمْ، وَيَجْتَثَّ كُبَرَاءَهُمْ، وَيَقْطَعَ بِلُطْفِ الرَّأْيِ عَدَدَهُمْ، وَيُبَدِّدَ فِي الْأَقْطَارِ الْمُتَبَايِنَةِ عَدَدَهُمْ، وَيَحْسِمُ عَنْهُمْ عَلَى حَسْبِ الْإِمْكَانِ مَدَدَهُمْ، وَيَعْمَلَ بِمُغْمَضَاتِ الْفِكْرِ فِيهِمْ سُبُلَ الْإِيَالَةِ، وَالْمَرْءُ يَعْجِزُ لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا هَيِّنٌ إِذَا لَمْ يُبْدُوا شِرَاسًا، وَلَمْ يَنْصِبُوا لِلْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ رَاسًا، فَإِذَا وَهَتْ قَوَّتُهُمْ وَوَهَنَتْ، صَالَ عَلَيْهِمْ صَوْلَةً تَكْفِي

شَرَّهُمْ، وَسَطَا بِهِمْ سَطْوَةً تَمْحَقُ ضُرَّهُمْ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي أَنْحَاءِ حَالَةِ السِّيَاسَاتِ. 276 - وَإِنِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى تَفَاقُمِهِمْ عَلَى الْإِمَامِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ، فَنَذْكُرُ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِبَابِ السِّيَاسَاتِ، عِنْدَ تَفْصِيلِنَا صُفُوفَ الْقِتَالِ، وَعَلَى اللَّهِ الِاتِّكَالُ. 277 - وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّ مَا أَطَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ هُوَ الْحَيِّدُ عَنْ مَسْلَكِ الْحَقِّ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ، فَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَمَسَالِكِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ، وَالتَّأَخِّي مِنْ طُرُقِ الظُّنُونِ، فَعَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ، وَانْقَرَضَ صَحْبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَكْرَمُونَ، وَاخْتِلَافُهُمْ سَبَبُ الْمُبَاحَثَةِ عَنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَنِعْمَةٌ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» " فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ الْإِمَامُ لِفُقَهَاءِ

الْإِسْلَامِ فِيمَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ ; بَلْ يُقِرُّ كُلُّ إِمَامٍ وَمُتَّبِعِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ مَسْلَكِهِمْ وَمَطْلَبِهِمْ. 278 - فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحَقُّ الَّذِي يَحْمِلُ الْإِمَامُ الْخَلْقَ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِقَادِ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ؟ . قُلْنَا: هَذَا لَا يَحْوِي الْغَرَضَ مِنْهُ أَسْطُرٌ وَأَوْرَاقٌ، وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَكُلُّ فِئَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا النَّاجِيَةُ، وَمَنْ عَدَاهُمْ هَالِكُونَ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِالْهَيِّنِ، فَمَدْرَكُ الْحَقِّ بَيِّنٌ، فَمَنْ أَرَادَ التَّنَاهِي فِي ذَلِكَ لِيَكُونَ قُدْوَةً وَأُسْوَةً اسْتَحَثَّتْهُ النَّفْسُ الطُّلَعَةُ عَلَى نَزْفِ بُحُورٍ، وَمُقَارَعَةِ شَدَائِدَ وَأُمُورٍ، وَطَيِّ رُقْعَةِ الْعُمْرِ عَلَى الْعَنَاءِ وَالْمَضَضِ وَالصَّبْرِ. 279 - وَمَنْ رَامَ اقْتِصَادًا، وَحَاوَلَ تَرَقِّيًا عَنِ التَّقْلِيدِ وَاسْتِبْدَادًا، فَعَلَيْهِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُتَرْجَمِ بِالنِّظَامِيِّ، فَهُوَ مُحْتَوٍ عَلَى لُبَابِ الْأَلْبَابِ، وَفِيهِ سِرُّ كُلِّ كِتَابٍ، فِي أَسَالِيبِ الْعُقُولِ. 280 - وَالَّذِي أَذْكُرُهُ الْآنَ لَائِقًا بِمَقْصُودِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الَّذِي يَحْرِصُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ جَمْعُ عَامَّةِ الْخَلْقِ عَلَى مَذَاهِبِ السَّلَفِ السَّابِقَيْنِ ; قَبْلَ أَنْ نَبَغَتِ الْأَهْوَاءُ، وَزَاغَتِ الْآرَاءُ ; وَكَانُوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -

يَنْهَوْنَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْغَوَامِضِ، وَالتَّعَمُّقِ فِي الْمُشْكِلَاتِ، وَالْإِمْعَانِ فِي مُلَابَسَةِ الْمُعْضِلَاتِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِجَمْعِ الشُّبُهَاتِ، وَتَكَلُّفِ الْأَجْوِبَةِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ مِنَ السُّؤَالَاتِ، وَيَرَوْنَ صَرْفَ الْعِنَايَةِ إِلَى الِاسْتِحْثَاثِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَكَفِّ الْأَذَى، وَالْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ حَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَمَا كَانُوا يَنْكَفُّونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَمَّا تَعَرَّضَ لَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ عَيٍّ وَحَصْرٍ، وَتَبَلُّدٍ فِي الْقَرَائِحِ. هَيْهَاتَ، قَدْ كَانُوا أَذْكَى الْخَلَائِقِ أَذْهَانًا، وَأَرْجَحَهُمْ بَيَانًا، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ اقْتِحامَ الشُّبُهَاتِ دَاعِيَةُ الْغِوَايَاتِ، وَسَبَبُ الضَّلَالَاتِ، فَكَانُوا يُحَاذِرُونَ فِي حَقِّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَا هُمُ الْآنَ بِهِ مُبْتَلُونَ، وَإِلَيْهِ مَدْفُوعُونَ. فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ الْعَوَامِّ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ الْأَسْلَمُ، وَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، النَّاجِي مِنْهَا وَاحِدَةٌ» " فَاسْتَوْصَفَهُ الْحَاضِرُونَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . وَنَحْنُ عَلَى قَطْعٍ وَاضْطِرَارٍ مِنْ عُقُولِنَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَ الْخَوْضَ فِي الدَّقَائِقِ، وَمَضَايِقِ الْحَقَائِقِ، وَلَا كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى التَّسَبُّبِ إِلَيْهَا، بَلْ كَانُوا يَشْتَدُّونَ عَلَى مَنْ يَفْتَتِحُ الْخَوْضَ فِيهَا.

281 - وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ أَسَالِيبَ الْعُقُولِ لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا إِلَّا الْفَذُّ الْفَرْدُ الْمَرْمُوقُ الَّذِي تُثْنَى عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ الْأَصَاغِرُ وَالْأَكَابِرُ، ثُمَّ هُوَ عَلَى أَغْرَارٍ وَأَخْطَارٍ، إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللَّهُ. فَكَيْفَ يَسْلَمُ مِنْ مَهَاوِي الْأَفْكَارِ الْغِرُّ الْغَبِيُّ، وَالْحَصِرُ الْعَيِيُّ؟ وَكَيْفَ الظَّنُّ بِالْعَوَامِّ إِذَا اشْتَبَكُوا فِي أَحَابِيلِ الشُّبُهَاتِ، وَارْتَبَكُوا فِي وَرَطَاتِ الْجَهَالَاتِ؟ . 282 - فَلْيَجْعَلِ الْإِمَامُ مَا وَصَفْنَاهُ الْآنَ أَكْبَرَ هَمِّهِ ; فَهُوَ مَحْسَمَةُ الْفِتَنِ، وَمَدْعَاةٌ إِلَى اسْتِدَادِ الْعَوَامِّ عَلَى مَمَرِّ الزَّمَنِ، فَإِنِ انْبَثَّتْ فِي الْبَرِيَّةِ غَوَائِلُ الْبِدَعِ، وَاحْتَوَتْ عَلَى الشُّبُهَاتِ أَحْنَاءُ الصُّدُورِ، وَنَشَرَ دُعَاةُ الضَّلَالَةِ أَعْلَامَ الشُّرُورِ، فَلَوْ تُرِكُوا وَقَدْ أَخَذَتْ مِنْهُمُ الشُّبُهَاتُ مَأْخَذَهَا، لَضَلُّوا وَارْتَكَسُوا، وَذَلُّوا وَانْتَكَسُوا، فَالْوَجْهُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - أَنْ يَبُثَّ فِيهِمْ دُعَاةَ الْحَقِّ، وَيَتَقَدَّمَ إِلَى الْمُسْتَقِلِّينَ بِالْحَقَائِقِ حَتَّى يَسْعَوْا فِي إِزَاحَةِ الشُّبُهَاتِ بِالْحُجَجِ

وَالْبَيِّنَاتِ، وَيَتَنَاهَوْا فِي بُلُوغِ قُصَارَى الْغَايَاتِ، وَإِيضَاحِ الدَّلَالَاتِ، وَارْتِيَادِ أَوْقَعِ الْعَبَّارَاتِ، وَيَدْرَءُوا أَصْحَابَ الضَّلَالَاتِ فَيَجْتَمِعُ انْحِسَامُ كَلَامِ الزَّائِغِينَ، وَظُهُورُ دَعْوَةِ الْمُتَوَحِّدِينَ، وَإِيضَاحُ مَسَالِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ. وَحُكْمُ الزَّمَانِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. 283 - وَهَذِهِ تَفَاصِيلُ مِنْ أَحَقِّ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ نَظَرُهُ فِي الْبِلَادِ عَلَى حَسَبِ تَبَايُنِ أَحْوَالِ الْعِبَادِ، فَيَرَى فِي بَعْضِهَا الْحَمْلَ عَلَى مَذَاهِبِ السَّابِقِينَ، وَفِي بَعْضِهَا حَمْلَ دُعَاةِ الْحَقِّ عَلَى إِبْدَاءِ مَسَالِكِ الصِّدْقِ، وَهَذَا مَغَاصٌ يَهْلَكُ فِيهِ الْأَنَامُ بِزَلَّةِ الْإِمَامِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لِلْمَأْمُونِ

وَكَانَ فِي أَمْجَدِ الْخُلَفَاءِ وَأَقْصَدِهِمْ - خُطَّةٌ ظَهَرَتْ هَفْوَتُهُ فِيهَا، وَعَسُرَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ تَلَافِيهَا، فَإِنَّهُ رَأَى تَقْرِيرَ كُلِّ ذِي مَذْهَبٍ عَلَى رَأْيِهِ، فَنَبَغَ النَّابِغُونَ، وَزَاغَ الزَّائِغُونَ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَتَطَوَّقَ خَطْبًا هَائِلًا، وَانْتَهَى زَلَلُهُ وَخَطَلُهُ، إِلَى أَنْ سَوَّغَ لِلْمُعَطِّلَةِ أَنْ يُظْهِرُوا آرَاءَهُمْ، وَرَتَّبَ مُتَرْجِمِينَ لِيَرُدُّوا كُتُبَ الْأَوَائِلِ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، وَهَلُمَّ جَرَّا، إِلَى أَحْوَالٍ يَقْصُرُ الْوَصْفُ عَنْ أَدْنَاهَا. وَلَوْ قُلْتُ: إِنَّهُ مُطَالَبٌ بِمَغَبَّاتِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، فِي الْمَوْقِفِ الْأَهْوَلِ فِي الْعَرَصَاتِ، لَمْ أَكُنْ مُجَازِفًا. 284 - فَالَّذِي تَحَصَّلَ مِمَّا سَلَفَ بَعْدَ الْإِطْنَابِ، وَمُجَاوَزَةِ الِاقْتِصَادِ إِلَى الْإِسْهَابِ، أَنَّ التَّعَرُّضَ لِحَسْمِ الْبِدَعِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ

الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمَتُ فِي وَجْهِ الِانْتِدَابِ لِذَلِكَ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَبَلَاغٌ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتُهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الدِّينِ، وَهُوَ حِفْظُهُ عَلَى أَهْلِهِ. 285 - وَالْقِسْمُ الثَّانِي فِي أَصْلِ الدِّينِ: السَّعْيُ فِي دُعَاءِ الْكَافِرِينَ إِلَيْهِ فَأَقُولُ: قَدْ أَيَّدَ اللَّهُ عَزَّتْ قُدْرَتُهُ الدِّينَ بِالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ، وَالْحُجَجِ اللَّائِحَةِ، وَحَفَّهُ بِالْقُوَّةِ وَالْعُدَّةِ وَالشَّوْكَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَالْإِمَامُ الْقَوَّامُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَأْمُورٌ بِاسْتِعْمَالِ مِنْهَاجِ الْحِجَاجِ فِي أَحْسَنِ الْجِدَالِ، فَإِنْ نَجَعَ، وَإِلَّا تَرَقَّى إِلَى أَعْمَالِ الْأَبْطَالِ الْمُصْطَلِينَ بِنَارِ الْقِتَالِ، فَلِلدُّعَاءِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ مَسْلَكَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحُجَّةُ وَإِيضَاحُ الْمَحَجَّةِ. وَالثَّانِي: الِاقْتِهَارُ بِغِرَارِ السُّيُوفِ، وَإِيرَادِ الْجَاحِدِينَ

الْجَاهِدِينَ مَنَاهِلَ الْحُتُوفِ. وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ ; فَإِنْ بَلَغَ الْإِمَامُ تَشَوُّفَ طَوَائِفَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ لَوْ وَجَدُوا مُرْشِدًا، أَشْخَصَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْبَغِي أَنْ نَتَخَيَّرَ لِذَلِكَ فَطِنًا لَبِيبًا، بَارِعًا أَرِيبًا، مُتَهَدِّيًا أَدِيبًا، يَنْطَبِقُ عَلَى عِرْفَانِهِ بَيَانُهُ، وَيُطَاوِعُهُ فِيمَا يُحَاوِلُ لِسَانُهُ، ذَا عِبَارَةٍ رَشِيقَةٍ، مُشْعِرَةٍ بِالْحَقِيقَةِ، وَأَلْفَاظٍ رَائِقَةٍ مُتَرَقِّيَةٍ عَنِ الرَّكَاكَةِ، مُنْحَطَّةٍ عَنِ التَّعَمُّقِ، وَشَوَارِدِ الْأَلْفَاظِ، مُطَبِّقَةٍ مَفْصَلَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ وَلَا ازْدِيَادٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَهَدِّيًا إِلَى التَّدَرُّجِ إِلَى مَسَالِكِ الدَّعْوَةِ، رَفِيقًا مَلِقًا شَفِيقًا، خَرَّاجًا وَلَّاجًا، جَدِلًا مِحْجَاجًا، عَطُوفًا رَحِيمًا رَءُوفًا. 286 - فَإِنْ لَمْ تَنْجَحِ الدَّعْوَةُ، وَظَهَرَ الْجَحْدُ وَالنَّبْوَةُ، تَطَرَّقَ إِلَى

فصل نظر الإمام في فروع الدين

اسْتِفْتَاحِ مَسَالِكِ النَّجَاحِ، بِذَوِي النَّجْدَةِ وَالسِّلَاحِ، وَهَذَا يَتَّصِلُ الْآنَ بِذِكْرِ الْجِهَادِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَقْصُودِ الْكِتَابِ فِي أَثْنَاءِ الْأَبْوَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَهَذَا مُنْتَهَى الْغَرَضِ فِي النَّظَرِ الْكُلِّيِّ فِي أُصُولِ الدِّينِ. [فَصْلٌ نَظَرُ الْإِمَامِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ] فَصْلٌ. نَظَرُ الْإِمَامِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ. 287 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي ذِكْرِ تَفَاصِيلِ نَظَرِ الْإِمَامِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ فَهَذَا مِمَّا يَتَّسِعُ فِيهِ الْكَلَامُ، وَتَكْثُرُ الْأَقْسَامُ، وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا نُقَصِّرُ فِي التَّقْرِيبِ، وَتَحْسِينِ التَّرْتِيبِ، وَالنَّظْمِ الْبَدِيعِ الْعَجِيبِ، فَذُو الْبَيَانِ مَنْ إِذَا تَبَدَّدَ الْمَقْصِدُ وَانْتَشَرَ، لَأَمَ الْأَطْرَافَ وَضَمَّ النَّشَرَ، وَإِذَا ضَاقَ نِطَاقُ النُّطْقِ، اسْتَطَالَ بِعَذَبَةِ لِسَانِهِ، وَعَبَّرَ عَنْ غَايَةِ الْمَقْصُودِ بِأَدْنَى بَيَانِهِ. 288 - فَأَقُولُ: قَدْ يَبْتَدِرُ إِلَى ظَنِّ الْمُنْتَهِي إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَنِّي أُرِيدُ بِمَا أَفْتَتِحُهُ تَفْصِيلَ تَصَرُّفَاتِ الْإِمَامِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ الْأَمْر كَذَلِكَ ; فَإِنَّ الْغَرَضَ الْآنَ بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، لِيَتْلُوَ الْقَوْلُ فِيهَا مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي أَصْلِ

الدِّينِ، وَيَنْتَظِمَ أَصْلُ الدِّينِ بِفَرْعِهِ، وَذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَئِمَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ سَيَأْتِي فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ نَظَرِ الْإِمَامِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. فَنَعُودُ إِلَى الْمَقْصُودِ النَّاجِزِ ; وَنَقُولُ: 289 - الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهَا الْمُكَلَّفِينَ، لَا تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهَا بِنَظَرِ الْإِمَامِ، وَإِذَا أَقَامَهَا الْمُتَعَبِّدُونَ عَلَى شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَأَوَانِهَا، صَحَّتْ وَوَقَعَتْ مَوْقِعَ الِاعْتِدَادِ. وَقَدْ زَلَّ مَنْ شَرَطَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ تَعَلُّقُهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. وَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَطْلُوبٌ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْعِبَادَاتِ بِنَظَرِ الْإِمَامِ؟ . 290 - قُلْنَا: مَا كَانَ مِنْهَا شِعَارًا ظَاهِرًا فِي الْإِسْلَامِ، تَعَلَّقَ بِهِ نَظَرُ الْإِمَامِ. وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى: مَا يَرْتَبِطُ بِاجْتِمَاعِ عَدَدٍ كَبِيرٍ، وَجَمٍّ غَفِيرٍ، كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَمَجَامِعِ الْحَجِيجِ.

مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِاجْتِمَاعٍ، كَالْأَذَانِ وَعَقْدِ الْجَمَاعَاتِ فِيمَا عَدَا الْجُمُعَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ. فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِشُهُودِ جَمْعٍ كَبِيرٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَغْفَلَ عَنْهُ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا كَثُرُوا عَظُمَ الزِّحَامُ، وَجَمَعَ الْمَجْمَعُ أَخْيَافًا ; وَأَلَّفَ أَصْنَافًا، خِيفَ فِي مُزْدَحَمِ الْقَوْمِ أُمُورٌ مَحْذُورَةٌ. فَإِذَا كَانَ مِنْهُمْ ذُو نَجْدَةٍ وَبَأْسٍ، يَكُفُّ عَادِيَةً إِنْ هَمَّ بِهَا مُعْتَدُونَ كَانَ الْجَمْعُ مَحْرُوسًا، وَدَرَأَتْ هَيْبَةُ الْوَالِي ظُنُونًا وَحُدُوسًا، وَلِذَلِكَ أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْحَجِيجِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتْ تِلْكَ السُّنَّةُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَلَمْ يَخْلُ حَجٌّ عَنْ إِمَامٍ، أَوْ مُسْتَنَابٍ مِنْ جِهَةِ إِمَامٍ، وَلِذَلِكَ صَدَّرَ الْخُلَفَاءُ مَيَاسِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَذَوِي الْأَلْوِيَةِ بِإِقَامَةِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الْجَمَاعَاتِ، وَهِيَ إِنْ لَمْ تُصَنْ عُرْضَةُ الْفِتَنِ وَالْآفَاتِ.

فَهَذَا وَجْهُ نَظَرِ الْإِمَامِ فِي الشِّعَارِ الَّذِي يَجْمَعُ جَمْعًا كَثِيرًا. 291 - فَأَمَّا الشِّعَارُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ اجْتِمَاعَ جَمَاعَاتٍ، فَهُوَ كَالْأَذَانِ وَإِقَامَةِ الْجَمَاعَاتِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ عَطَّلَ أَهْلُ نَاحِيَةٍ الْأَذَانَ وَالْجَمَاعَاتِ، تَعَرَّضَ لَهُمُ الْإِمَامُ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى إِقَامَةِ الشِّعَارِ، فَإِنْ أَبَوْا فَفِي الْعُلَمَاءِ مَنْ يُسَوِّغُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، وَتَفْصِيلُهَا مَوْكُولٌ إِلَى الْفُقَهَاءِ. 292 - فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ شِعَارًا ظَاهِرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، فَلَا يَظْهَرُ تَطَرُّقُ الْإِمَامِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ تُرْفَعَ إِلَيْهِ وَاقِعَةٌ فَيَرَى فِيهَا رَأْيَهُ. مِثْلُ أَنْ يُنْهَى إِلَيْهِ أَنَّ شَخْصًا تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَامْتَنَعَ عَنْ قَضَائِهَا. فَقَدْ نَرَى قَتْلَهُ عَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَحَبْسَهُ وَتَعْذِيبَهُ عَلَى رَأْيِ الْآخَرِينَ. فَهَذَا مَجْمُوعُ الْقَوْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ.

نظر الإمام في الأمور المتعلقة بالدنيا

[نَظَرُ الْإِمَامِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدُّنْيَا] [خُطَّةٌ وَتَرْتِيبٌ] ب - نَظَرُ الْإِمَامِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدُّنْيَا. خُطَّةٌ وَتَرْتِيبٌ. 293 - فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَئِمَّةِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَنُقَدِّمُ فِيهِ أَوَّلًا تَرْتِيبًا ضَابِطًا يُطْلِعُ عَلَى غَرَضٍ كُلِّيٍّ، وَيُفِيدُ النَّاظِرَ الْعِلْمَ بِانْحِصَارِ الْقَضَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَئِمَّةِ، ثُمَّ نَخُوضُ فِي إِيضَاحِ الْأَقْسَامِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْكِتَابُ، فَنَقُولُ: عَلَى الْإِمَامِ بَذْلُ كُنْهِ الِاجْتِهَادِ فِي ابْتِغَاءِ الِازْدِيَادِ فِي خِطَّةِ الْإِسْلَامِ. وَالسَّبِيلُ إِلَيْهِ الْجِهَادُ وَمُنَابَذَةُ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَعَلَيْهِ الْقِيَامُ بِحِفْظِ الْخِطَّةِ، فَالتَّقْسِيمُ الْأَوَّلِيُّ الْكُلِّيُّ طَلَبُ مَا لَمْ يَحْصُلْ، وَحِفْظُ مَا حَصَلَ. 294 - وَالْقَوْلُ فِي حِفْظِ مَا حَصَلَ يَنْقَسِمُ إِلَى حِفْظِهِ عَنِ الْكُفَّارِ، وَإِلَى حِفْظِ أَهْلِهِ عَنِ التَّوَاثُبِ وَالتَّغَالُبِ، وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّوَاصُلِ. فَأَمَّا حِفْظُ الْخِطَّةِ عَنِ الْكُفَّارِ، فَهُوَ بِسَدِّ الثُّغُورِ، وَإِقَامَةِ الرِّجَالِ عَلَى الْمَرَاصِدِ. عَلَى مَا سَيَأْتِي الشَّرْحُ عَلَيْهِ. 295 - وَأَمَّا حِفْظُ مَنْ تَحْوِيهِ الْخِطَّةُ فَيَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِمَرَاتِبِ الْكُلِّيَّاتِ وَعَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُزْئِيَّاتِ.

296 - فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ نَقْضُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ الْغَرَامَةِ، وَالْمُتَلَصِّصِينَ وَالْمُتَرَصِّدِينَ لِلرِّفَاقِ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ صَرْفُ الِاهْتِمَامِ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى تَنْتَفِضَ الْبِلَادُ عَنْ كُلِّ غَائِلَةٍ، وَتَتَمَهَّدُ السُّبُلُ لِلسَّابِلَةِ. 297 - وَأَمَّا مَا يَرْتَبِطُ بِالْجُزْئِيَّاتِ، فَتَحْصُرُهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: فَصْلُ الْخُصُومَاتِ الثَّائِرَةِ، وَقَطْعُ الْمُنَازَعَاتِ الشَّاجِرَةِ، وَهَذَا يُنَاطُ بِالْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ. وَإِنَّمَا عَدَدْنَا ذَلِكَ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَإِنَّ الْحُكُومَاتِ تَنْشَأُ مِنَ الْآحَادِ وَالْأَفْرَادِ، وَالْغَوَائِلُ مِنَ الْمُتَلَصِّصِينَ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ تَثْبُتُ بِاجْتِمَاعِ أَقْوَامٍ. ثُمَّ إِذَا رَتَّبَ السُّلْطَانُ بِحَسْمِ مَوَادِّهِمْ رِجَالًا، لَمْ

يَثُورُوا، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَظَرًا كُلِّيًّا فِي كِفَايَةِ أَهَمِّ الْأَشْغَالِ. وَتَصَدِّي الْقُضَاةِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا يَحْسِمُ ثَوَرَانَ الْخُصُومَةِ، بَلْ إِذَا ثَارَتْ فَصَلَهَا الْحُكَّامُ. 298 - وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فِي نَظَرِهِ الْجُزْئِيِّ فِي حِفْظِ الْمَرَاشِدِ عَلَى أَهْلِ الْخِطَّةِ. يَكُونُ بِإِقَامَةِ السِّيَاسَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ الزَّاجِرَةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُوبِقَاتِ. 299 - وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْقِيَامُ عَلَى الْمُشْرِفِينَ عَلَى الضَّيَاعِ بِأَسْبَابِ الصَّوْنِ وَالْحِفْظِ وَالْإِنْقَاذِ وَهَذَا يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَالثَّانِي: فِي سَدِّ حَاجَاتِ الْمَحَاوِيجِ. 300 - فَهَذِهِ جَوَامِعُ مَا يَرْعَى بِهِ الْإِمَامُ مَنْ فِي الْخِطَّةِ. ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى الِاسْتِقْلَالُ بِهَذَا الْمَنْصِبِ إِلَّا بِنَجْدَةٍ عَظِيمَةٍ تُطَبِّقُ

الْخِطَّةَ وَتَفْضُلُ عَنْهَا، فَتَتَقَاذَفُ إِلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ، وَالنَّجْدَةُ بِالرِّجَالِ، وَيُرَتِّبُ الرِّجَالَ بِالْعُدَدِ وَالْأَمْوَالِ. 301 - وَالْأَمْوَالُ الَّتِي تَمْتَدُّ يَدُ الْإِمَامِ إِلَيْهَا قِسْمَانِ: أَحَدُهَا: مَالَا يَتَعَيَّنُ مَصَارِفُهُ. وَالثَّانِي مَا لَا يَتَخَصَّصُ بِمَصَارِفَ مَضْبُوطَةٍ، بَلْ يُضَافُ إِلَى عَامَّةِ الْمَصَالِحِ. فَأَمَّا مَا يَتَعَيَّنُ مَصْرِفُهُ فَالزَّكَوَاتُ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ خُمُسِ الْفَيْءِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ. وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ لَهَا مَصَارِفُ مَعْلُومَةٌ مُسْتَقْصَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ نَرْمُزُ إِلَيْهَا فِي تَفْصِيلِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي يَعُمُّ وُجُوهَ الْخَيْرِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ

الْمُرْصَدَ لِلْمَصَالِحِ، فَهُوَ خُمُسُ خُمُسِ الْفَيْءِ، وَخُمُسُ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَيَنْضَمُّ إِلَيْهَا تَرِكَةُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُخْلِفْ وَارِثًا خَاصًّا، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ الَّتِي أُيِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَالِكِهَا كَمَا سَنَذْكُرُهَا. فَهَذِهِ مَآخِذُ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْإِمَامُ وَيَصْرِفُهَا إِلَى مَصَارِفِهَا. وَقَدْ نَجَزَ التَّقْسِيمُ الْمُحْتَوِي الضَّابِطُ عَلَى مَا يُنَاطُ بِالْأَئِمَّةِ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. 302 - وَالْآنَ نَرْجِعُ إِلَى تَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِمَقْصُودِ هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ أَطْرَافُ الْكَلَامِ بِأَحْكَامٍ فِقْهِيَّةٍ، أَحَلْنَاهَا عَلَى كُتُبِ الْفِقْهِ، فَإِنَّا لَمْ نَخُضْ فِي تَأْلِيفِ هَذَا وَغَرَضُنَا تَفَاصِيلُ الْأَحْكَامِ ; وَإِنَّمَا حَاوَلْنَا تَمْهِيدَ الْإِيَالَاتِ الْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ كُتُبُ الْفِقْهِ عَتِيدَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا. 303 - وَالْعَجَبُ لِمَنْ صَنَّفَ الْكِتَابَ الْمُتَرْجَمَ بِالْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ.

تفصيل ما أجمله من خطة وترتيب

حَيْثُ ذَكَرَ جُمَلًا فِي أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى نَقْلِ الْمَذَاهِبِ، وَلَمْ يُقْرِنِ الْمُخْتَارَ مِنْهَا بِحِجَاجِ وَإِيضَاحِ مِنْهَاجٍ بِهِ اكْتِرَاثٌ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ تَرْتِيبُ أَبْوَابٍ، وَذِكْرُ تَقَاسِيمَ وَأَلْقَابٍ، ثُمَّ لَيْسَ لِتَقَاسِيمِهِ صَدَرٌ عَنْ دِرَايَةٍ وَهِدَايَةٍ إِلَى دَرْكِ مَنْشَأِ الْأَقْسَامِ عَنْ قَوَاعِدِهَا وَأُصُولِهَا، وَجَرَى لَهُ اخْتِبَاطٌ وَزَلَلٌ كَثِيرٌ فِي النَّقْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ كُتُبًا مِنِ الْفِقْهِ فَسَرَدَهَا سَرْدًا وَطَرْدَهَا عَلَى مَسَالِكِ الْفُقَهَاءِ طَرْدًا، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا مُنَقِّحًا مُوَضِّحًا عَلَى طُرُقِ الْفُقَهَاءِ، فَذَكَرَ طَرَفًا مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ، وَقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَأَدَبِ الْقُضَاةِ، وَقَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ. وَلَمْ أَذْكُرْ مَا ذَكَرْتُهُ غَايِبًا ثَالِبًا، بَلْ ذَكَرْتُهُ تَمْهِيدًا لِعُذْرِي أَنْ قَبَضْتُ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ مَقْصُودِ الْكِتَابِ، وَأَحَلْتُهُ عَلَى فَنِّ الْفِقْهِ. [تفصيل ما أجمله من خطة وترتيب] [فَصْلٌ طَلَبُ مَا لَمْ يَحْصُلْ] فَصْلٌ. طَلَبُ مَا لَمْ يَحْصُلْ. 304 - فَأَعُودُ الْآنَ إِلَى تَفْصِيلِ الْأَقْسَامِ. فَأَمَّا الْجِهَادُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ، وَقَدْ يَغْفُلُ الْمُتَجَرِّدُ لِلْفِقْهِ عَنْهُ، فَأَقُولُ:

ابْتَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَحَتَّمَ عَلَى الْمُسْتَقِلِّينَ بِأَعْبَاءِ شَرِيعَتِهِ دَعْوَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الدَّعْوَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا إِزَالَةُ الشُّبُهَاتِ، وَإِيضَاحُ الْبَيِّنَاتِ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْحَقِّ بِأَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ. وَالْأُخْرَى: الدَّعْوَةُ الْقَهْرِيَّةُ الْمُؤَيَّدَةُ بِالسَّيْفِ الْمَسْلُولِ عَلَى الْمَارِقِينَ الَّذِينَ أَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ الْمُبِينِ. فَأَمَّا الْبَرَاهِينُ، فَقَدْ ظَهَرَتْ وَلَاحَتْ وَمُهِّدَتْ، وَالْكُفَّارُ بَعْدَ شُيُوعِهَا فِي رُتْبِ الْمُعَانِدِينَ، فَيَجِبُ وَضْعُ السَّيْفِ فِيهِمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهَا إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ. 305 - وَقَدْ قَالَ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ: الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَعَطَّلَ الْجِهَادُ حَرِجَ الْكَافَّةُ، عَلَى تَفَاصِيلَ مَعْرُوفَةٍ فِي مَسَالِكِ الْفِقْهِ.

ثُمَّ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِضَ إِلَى كُلِّ صَوْبٍ مِنْ أَصَوَابِ بِلَادِ الْكُفْرِ فِي الْأَقْطَارِ، عِنْدَ الِاقْتِدَارِ عَسْكَرٌ جَرَّارٌ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَزَعَمُوا أَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِذَلِكَ. 306 - وَهَذَا عِنْدِي ذُهُولٌ عَنِ التَّحْصِيلِ ; فَيَجِبُ إِدَامَةُ الدَّعْوَةِ الْقَهْرِيَّةِ فِيهِمْ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَا يَتَخَصَّصُ ذَلِكَ بِأَمَدٍ مَعْلُومٍ فِي الزَّمَانِ، فَإِنِ اتَّفَقَ جِهَادٌ فِي جِهَةٍ، ثُمَّ صَادَفَ الْإِمَامُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ غِرَّةً، وَاسْتَمْكَنَ مِنْ فُرْصَةٍ، وَتَيَسَّرَ إِنْهَاضُ عَسْكَرٍ إِلَيْهِمْ، تَعَيَّنَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. وَلَوِ اسْتَشْعَرَ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفًا، وَرَأَى أَنْ يُهَادِنَ الْكُفَّارَ عَشْرَ سِنِينَ، سَاغَ ذَلِكَ، فَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ الْإِمْكَانُ لَا الزَّمَانُ. وَلَكِنَّ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمْرِ الْوَسَطِ الْقَصْدِ فِي غَالِبِ الْعُرْفِ، فَإِنَّ جُنُودَ الْإِسْلَامِ إِذَا لَمْ يَلْحَقْهَا وَهَنٌ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ عَدَدُهُمْ وَعُدَدُهُمُ الْمَعْرُوفَ فِي مُسْتَمَرِّ الْعُرْفِ، فَإِذَا غَزَتْ فِرَقًا

أَحْزَابًا فِي أَقْطَارِ الدِّيَارِ، فَكَابَدُوا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْعَنَاءِ وَوَعْثَاءِ الْأَسْفَارِ، وَمُصَادَمَةِ أَبْطَالِ الْكُفَّارِ مَا كَابَدُوا، وَعَضَّهُمُ السِّلَاحُ، وَفَشَى فِيهِمُ الْجِرَاحُ، وَهَزَلَتْ دَوَابُّهُمْ، وَتَبَتَّرَتْ أَسْبَابُهُمْ، فَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ لَا يَقْوَوْنَ عَلَى افْتِتَاحِ غَزْوَةٍ أُخْرَى، مَا لَمْ يَتَوَدَّعُوا سَنَةً، فَجَرَى مَا ذَكَرُوهُ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ. فَأَمَّا إِذَا كَثُرَ عَدَدُ جُنْدِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَمْكَنَ الْإِمَامُ مِنْ تَجْهِيزِ جَيْشٍ بَعْدَ انْصِرَافِ جَيْشٍ، فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ جَادًّا مُجْتَهِدًا، عَالِمًا بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِمُكَاوَحَةِ الْكُفَّارِ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ فِي أَقَاصِي الدِّيَارِ دِيَارٌ، ثُمَّ لَا يُؤْثَرُ لِذَوِي الْبَأْسِ وَالنَّجْدَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الِاسْتِئْثَارُ، وَالِانْفِرَادُ وَالِاسْتِبْدَادُ بِالْأَنْفُسِ فِي الْجِهَادِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيِ صَاحِبِ الْأَمْرِ، حَتَّى يَكُونَ كَالِئَهُمْ، وَرِدْأَهُمْ، وَمُرَاعِيَهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَلَا يَضِيعُونَ فِي غَالِبِ الظُّنُونِ.

307 - وَمِمَّا يَجِبُ الْإِحَاطَةُ بِهِ أَنَّ مُعْظَمَ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ مِمَّا لَا تَتَخَصَّصُ بِإِقَامَتِهَا الْأَئِمَّةُ، بَلْ يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ أَهْلِ الْإِمْكَانِ أَنْ لَا يُغْفِلُوهُ، وَلَا يَغْفَلُوا عَنْهُ، كَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى، وَدَفْنِهِمْ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْجِهَادُ فَمَوْكُولٌ إِلَى الْإِمَامِ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِدَامَةُ النَّظَرِ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَيَصِيرُ أَمْرُ الْجِهَادِ فِي حَقِّهِ بِمَثَابَةِ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَطَوَّقَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَصَارَ مَعَ اتِّحَادِ شَخْصِهِ كَأَنَّهُ الْمُسْلِمُونَ بِأَجْمَعِهِمْ، فَمِنْ حَيْثُ انْتَاطَ جَرُّ الْجُنُودِ وَعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ وَالْبُنُودِ بِالْإِمَامِ، وَهُوَ نَائِبٌ عَنْ كَافَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، صَارَ قِيَامُهُ بِهَا عَلَى أَقْصَى الْإِمْكَانِ بِهِ كَصَلَاتِهِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي يُقِيمُهَا. 308 - وَأَمَّا سَائِرُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَإِنَّهَا مُتَوَزِّعَةٌ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْبِلَادِ، وَلَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِالْإِمَامِ. نَعَمْ. إِنِ ارْتَفَعَ إِلَى مَجْلِسِ

فصل حفظ ما حصل

الْإِمَامِ أَنَّ قَوْمًا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ يُعَطِّلُونَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ زَجَرَهُمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ. فَهَذَا مُنْتَهَى مَا أَرَدْنَاهُ فِي الْجِهَادِ. 309 - ثُمَّ الْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِتَالِ وَالْغَنَائِمِ وَالْأَسْرَى مِنَ النِّسَاءِ وَالذَّرَّارِي وَالْمُقَاتِلَةِ يُسْتَقْصَى فِي كِتَابِ السِّيَرِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. [فَصْلٌ حِفْظُ مَا حَصَلَ] [عناية الأمة بالثغور والحصون والقلاع] فَصْلٌ. حِفْظُ مَا حَصَلَ. 310 - وَأَمَّا اعْتِنَاءُ الْإِمَامِ بِسَدِّ الثُّغُورِ، فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُحَصِّنَ أَسَاسَ الْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ، وَيَسْتَذْخِرَ لَهَا بِذَخَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، وَمُسْتَنْقَعَاتِ الْمِيَاهِ، وَاحْتِفَارِ الْخَنَادِقِ، وَضُرُوبِ الْوَثَائِقِ، وَإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ وَالْعَتَادِ، وَآلَاتِ الصَّدِّ وَالدَّفْعِ، وَيُرَتِّبَ فِي كُلِّ ثَغْرٍ مِنَ الرِّجَالِ مَا يَلِيقُ بِهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرُوا فَيَجُوعُوا، أَوْ يُقِلُّوا فَيَضِيعُوا. وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ ثَغْرٍ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ أَتَاهُ جَيْشٌ، لَاسْتَقَلَّ

أَهْلُهُ بِالدِّفَاعِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُمُ الْإِمَامَ، أَوْ مَنْ يَلِيهِ مِنْ أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يُرَتِّبَ فِي نَاحِيَةٍ جُنْدًا ضَخْمًا يَسْتَقِلُّونَ بِالدَّفْعِ لَوْ قُصِدُوا، وَيَشُنُّونَ الْغَارَاتِ عَلَى أَطْرَافِ دِيَارِ الْكُفَّارِ، فَيُقَدِّمُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَرَاهُ الْأَصْوَبَ وَالْأَصْلَحَ، وَالْأَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ الْغَرَضِ. وَالْأَصَحُّ مُعَوَّلًا، بَعْدَ جِدِّهِ عَلَى فَضْلِ رَبِّهِ لَا عَلَى جَدِّهِ. 311 - وَأَمَّا نَفْضُ أَهْلِ الْغَرَامَةِ مِنْ خِطَّةِ الْإِسْلَامِ، فَفِيهِ انْتِظَامُ الْأَحْكَامِ، وَلَا تَصْفُو نِعْمَةٌ عَنِ الْأَقْذَاءِ، مَا لَمْ يَأْمَنْ أَهْلُ الْإِقَامَةِ وَالْأَسْفَارِ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالْأَغْرَارِ، فَإِذَا اضْطَرَبَتِ الطُّرُقُ، وَانْقَطَعَتِ الرِّفَاقُ، وَانْحَصَرَ النَّاسُ فِي الْبِلَادِ، وَظَهَرَتْ دَوَاعِي الْفَسَادِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ غَلَاءُ الْأَسْعَارِ، وَخَرَابُ الدِّيَارِ، وَهَوَاجِسُ الْخُطُوبِ الْكِبَارِ، فَالْأَمْنُ وَالْعَافِيَةُ قَاعِدَتَا النِّعَمِ كُلِّهَا، وَلَا يُهْنَأُ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَهَا ; فَلْيَنْتَهِضِ الْإِمَامُ لِهَذَا الْمُهِمِّ، وَلِيُوَكِّلْ بِذَلِكَ

فصل الخصومات

الَّذِينَ يَخِفُّونَ وَإِذَا حَزَبَ خَطْبٌ لَا يَتَوَاكَلُونَ، وَلَا يَتَجَادَلُونَ، وَلَا يَرْكَنُونَ إِلَى الدَّعَةِ وَالسُّكُونِ، وَيَتَسَارَعُونَ إِلَى لِقَاءِ الْأَشْرَارِ بَدَارَ الْفَرَاشِ إِلَى النَّارِ، فَلَيْسَ لِلنَّاجِمِينَ مِنَ الْمُتَلَصِّصِينَ مِثْلُ أَنْ يُبَادَرُوا قَبْلَ أَنْ يَتَجَمَّعُوا أَوْ يَتَأَلَّبُوا، وَتَتَّحِدَ كَلِمَتُهُمْ، وَيَسْتَقِرُّ قَدَمُهُمْ. ثُمَّ يَنْدُبُ لِكُلِّ صُقْعٍ مِنْ ذَوِي الْبَأْسِ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِكِفَايَةِ هَذَا الْمُهِمِّ. 312 - وَإِذَا تَمَهَّدَتِ الْمَمَالِكُ، وَتَوَطَّدَتِ الْمَسَالِكُ، انْتَشَرَ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَدَرَجُوا فِي مَدَارِجِهِمْ، وَتَقَاذَفَتْ أَخْبَارُ الدِّيَارِ مَعَ تَقَاصِي الْمَزَارِ إِلَى الْإِمَامِ، وَصَارَتْ خِطَّةُ الْإِسْلَامِ كَأَنَّهَا بِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ، وَاتَّسَقَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَاطْمَأَنَّ إِلَى الْأَمَنَةِ الْوَرَى، وَالْإِمَامُ فِي حُكْمِ الْبَذْرَقَةِ فِي الْبِلَادِ لِلسُّفْرَةِ وَالْحَاضِرَةِ، فَلْيَكْلَأْهُمْ بِعَيْنٍ سَاهِرَةٍ، وَبَطْشَةٍ قَاهِرَةٍ. [فَصْلُ الْخُصُومَاتِ] 313 - فَأَمَّا فَصْلُ الْخُصُومَاتِ فَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَلَوْلَاهُ لَتَنَازَعَ الْخَلْقُ، وَتَمَانَعُوا وَتَدَافَعُوا، فَلْيُرَتِّبِ الْإِمَامُ لَهَا الْقُضَاةَ، ثُمَّ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِهِمْ، مُسْتَقْصًى فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ مِنَ الْفِقْهِ.

314 - وَأَمَّا زَجْرُهُ الْغُوَاةَ، وَرَدْعُ الطُّغَاةِ، بِضُرُوبِ الْعُقُوبَاتِ، فَنَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهِ قَلِيلًا فِي أَحْكَامِ الْإِيَالَاتِ، فَنَقُولُ: الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى الزَّجْرِ بِنَصْبِ الْقِتَالِ، وَإِلَى إِقَامَةِ عُقُوبَاتٍ وَنَكَالٍ عَلَى آحَادٍ مِنَ الرِّجَالِ. فَأَمَّا الْقِتَالُ، فَالْقَوْلُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَتَفْصِيلِ صِفَاتِهِمْ، وَحَالَاتِهِمْ، وَدَفْعِهِمْ عَنِ الْبِلَادِ الَّتِي احْتَوَوْا عَلَيْهَا بِتَقْدِيمِ الْعُذْرِ أَوَّلًا، وَبِالْمُبَاحَثَةِ عَمَّا نَقَمُوهُ، وَإِسْعَافِهِمْ بِمُنَاهُمْ، إِنْ دَعَوْا إِلَى حَقٍّ، وَادَّعَوْا عَلَى صِدْقٍ، وَإِبَانَةِ حَيْدِهِمْ عَنْ سَنَنِ الصَّوَابِ، إِنْ عَرَتْهُمْ شَائِبَةُ الِارْتِيَابِ. فَإِنْ أَبَوْا آذَنَهُمْ بِحَرْبٍ. كُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ مَشْهُورٌ. 315 - وَيَتَعَلَّقُ الْقِتَالُ بِقُطَّاعِ الطُّرُقِ وَالرَّاصِدِينَ لِلطَّارِقِينَ، وَالْمُجَاهِدِينَ بِشَهْرِ الْأَسْلِحَةِ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِ الْقُطَّاعِ، بِمَا فِيهِ أَكْمَلُ إِقْنَاعٍ. وَكُلُّ مَنِ امْتَنَعَ عَنْ الِاسْتِسْلَامِ لِلْإِمَامِ وَالْإِذْعَانِ لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الِامْتِنَاعِ مَنْعَةٌ وَشَوْكَةٌ، اقْتُهِرَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ.

الحكم في أهل البدع

وَإِنِ اسْتَظْهَرَ الْمُمْتَنِعُونَ بِشَوْكَةٍ دُعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ عَادُوا فَذَاكَ، وَإِلَّا صَدَمَهُمُ الْإِمَامُ بِشَوْكَةٍ تَفُضُّ صَدْمَتَهُمْ، وَتَفُلُّ غَرْبَهُمْ وَمَنْعَتَهُمْ. [الحكم في أهل البدع] 316 - وَمِمَّا أَحَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ مِمَّا تَقَدَّمَ: الْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ إِذَا كَثُرُوا، فَيَدْعُوهُمُ الْإِمَامُ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَبَوْا زَجَرَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ إِظْهَارِ الْبِدَعِ، فَإِنْ أَصَرُّوا، سَطَا بِهِمْ عِنْدَ امْتِنَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ الطَّاعَةِ، وَقَاتَلَهُمْ مُقَاتَلَةَ الْبُغَاةِ، وَهَذَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ جَمْعٍ يَعْتَزُونَ إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذَا سَلُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ رِبْقَةِ الطَّاعَةِ. وَإِنْ ضَمِنُوا لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُظْهِرُوا الْبِدَعَ، وَعَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُمْ سَيَبُثُّونَ الدَّعْوَةَ سِرًّا، وَيَجُرُّونَ إِلَى عَامَّةِ الْخَلْقِ شَرًّا، وَإِنْ لَمْ يَتَظَاهَرُوا بِهَا جَهْرًا، فَيَحْرِصُ الْإِمَامُ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمْ عَلَى خَافِيَةٍ، بَعْدَ تَقْدِيمِ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ يَتَنَاهَى فِي تَعْزِيرِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ. فَإِنْ جَانَبُوا الِائْتِلَافَ، وَأَبْدَوْا صَفْحَةَ الْخِلَافِ، وَتَمَيَّزُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَتَجَمَّعُوا لِلْخُرُوجِ عَنْ رَبْطِ الطَّاعَةِ، نَصَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ إِذَا امْتَنَعُوا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَعِظَمِ شَوْكَتِهِمْ لَا يُطَاقُونَ.

فَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِي الْبَاغِي إِذَا اسْتَحْفَلَ شَأْنُهُ، وَتَمَادَى زَمَانُهُ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَوْ صَادَفَهُ، وَدَافَعَهُ بِمَنْ مَعَهُ، لَاصْطَلَمَ الْبَاغِي أَتْبَاعَهُ وَأَشْيَاعَهُ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ بِلِقَائِهِ إِلَّا فِرَطَ عَنَائِهِ، وَاسْتِئْصَالَ أَوْلِيَائِهِ. 317 - فَالْوَجْهُ أَنْ يُدَارِيَ وَيَسْتَعِدَّ جُهْدَهُ، فَإِنْ سَقَطَتْ مُنَّةُ الْإِمَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا إِمَامٌ سَقَطَتْ طَاعَتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْأَئِمَّةِ. 318 - فَهَذَا بَيَانُ الْقَوْلِ فِي مُقَاتَلَةِ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَتِمَّةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ إِذَا أَدَّى إِلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ مَظْنُونَةٍ، وَدَعَا إِلَى مُوجَبِ اجْتِهَادِهِ قَوْمًا فَيَتَحَتَّمُ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، فَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ، كَمَا قَاتَلَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَانِعِي الزَّكَاةِ، فِي الْقِصَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، ثُمَّ قِتَالُهُ إِيَّاهُمْ لَا يَعْتَمِدُ ظَنًّا، فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ تَعْرِيضَ الْمُسْلِمِينَ لِلْقَتْلِ مِنَ الْفِئَتَيْنِ عَلَى ظَنٍّ وَحَدْسٍ، وَتَخْمِينِ نَفْسٍ، بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ قَطْعًا فِيمَا يَرَاهُ مِنَ الْمُجْتَهِدَاتِ ; فَيُرَتَّبُ الْقِتَالُ عَلَى أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ فِي الْأَمْرِ

العقوبات التي يقيمها على آحاد الناس

الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَظْنُونًا، وَلَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ إِتِّبَاعُ الْإِمَامِ فِي مَسَائِلِ التَّحَرِّي لَمَا تَأْتِي فَصْلَ الْخُصُومَاتِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ، وَلَاسْتَمْسَكَ كُلُّ خَصْمٍ بِمَذْهَبِهِ وَمَطْلَبِهِ، وَبَقِيَ الْخُصَمَاءُ فِي مَجَالِ خِلَافِ الْفُقَهَاءِ مُرْتَبِكِينَ فِي خُصُومَاتٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَمُعْظَمُ حُكُومَاتِ الْعِبَادِ فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ. قَدْ نَجُزَ مِقْدَارُ غَرَضِنَا مِنْ نَصْبِ الْقِتَالِ عَلَى الْمَارِقِينَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الْإِمَامِ. [الْعُقُوبَاتُ الَّتِي يُقِيمُهَا عَلَى آحَادِ النَّاسِ] 319 - فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الَّتِي يُقِيمُهَا عَلَى آحَادِ النَّاسِ فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ. فَأَمَّا الْحُدُودُ فَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي مُقْتَضَيَاتِهَا، وَتَفَاصِيلُ الْمَذَاهِبِ فِي كَيْفِيَّاتِهَا، وَإِقَامَاتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَسَبِيلُ إِثْبَاتِهَا، وَذِكْرُ مُسْقِطَاتِهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهِيَ بِجُمْلَتِهَا مُفَوَّضَةٌ إِلَى الْأَئِمَّةِ، وَالَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْأُمُورَ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ. فَإِنْ كَانَ خَالِصَ حَقِّ الْآدَمِيِّ ; فَلَيْسَ لِمُسْتَحِقِّيهِ اسْتِيفَاؤُهُ دُونَ الرَّفْعِ إِلَى السُّلْطَانِ.

320 - وَأَمَّا التَّعْزِيرَاتُ، فَهِيَ أَيْضًا مُفَصَّلَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي أَبْوَابٍ مُتَعَلِّقَاتٍ بِمُوجِبَاتٍ لَهَا وَأَسْبَابٍ: فَمِنْهَا مَا يَكُونُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ، وَيُسْتَوْفَى بِطَلَبِهِ، وَمِنْهَا مَا يَثْبُتُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِارْتِبَاطِهِ بِسَبَبٍ هُوَ حَقُّ اللَّهِ. ثُمَّ رَأَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّعْزِيرَاتِ لَا تَتَحَتَّمُ تَحَتُّمَ الْحُدُودِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ إِذَا ثَبَتَتْ فَلَا خِيرَةَ فِي دَرْئِهَا، وَلَا تَرَدُّدَ فِي إِقَامَتِهَا، وَالتَّعْزِيرَاتُ مُفَوَّضَةٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. فَإِنْ رَأَى التَّجَاوُزَ وَالصَّفْحَ تَكَرُّمًا، فَعَلَ، وَلَا مُعْتَرِضَ عَلَيْهِ، فِيمَا عَمِلَ. وَإِنْ رَأَى إِقَامَةَ التَّعْزِيرِ تَأْدِيبًا وَتَهْذِيبًا فَرَأْيُهُ الْمُتَّبَعُ، وَفِي الْعَفْوِ وَالْإِقَالَةِ مُتَّسَعٌ. وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ تَحَيُّزًا مُسْتَنِدًا إِلَى التَّمَنِّي، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يَرَى مَا هُوَ الْأَوْلَى، وَالْأَلْيَقُ وَالْأَحْرَى، فَرُبَّ عَفْوٍ هُوَ أَوْزَعُ لِكَرِيمٍ مِنْ تَعْزِيرٍ، وَقَدْ يَرَى مَا صَدَرَ عَنْهُ عَثْرَةً هِيَ بِالْإِقَالَةِ حَرِيَّةٌ، وَالتَّجَاوُزُ عَنْهَا يَسْتَحِثُّ عَلَى اسْتِقْبَالِ الشِّيَمِ الْمُرْضِيَّةِ، وَلَوْ يُؤَاخِذُ الْإِمَامُ النَّاسَ بِهَفَوَاتِهِمْ، لَمْ يَزَلْ دَائِبًا فِي عُقُوبَاتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الْمُصْطَفَى

- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» " وَلَوْ تَجَاوَزَ عَنْ عَرِمٍ خَبِيثٍ لَا يَزْدَادُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْهُ إِلَّا تَمَادِيًا وَاسْتِجْرَاءً، وَتَهَجُّمًا وَاعْتِدَاءً، فَلَيْسَ لَهُ الصَّفْحُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. 321 - ثُمَّ التَّعْزِيرَاتُ لَا تَبْلُغُ الْحُدُودَ عَلَى مَا فَصَلَهُ الْفُقَهَاءُ. وَمَا يَتَعَيَّنُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ الْآنَ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْفَصْلِ أَنَّ أَبْنَاءَ الزَّمَانِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنَاصِبَ السَّلْطَنَةِ وَالْوِلَايَةِ لَا تَسْتَدُّ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ يَرَى الِازْدِيَادَ عَلَى مَبَالِغِ الْحُدُودِ فِي التَّعْزِيرَاتِ، وَيُسَوِّغُ لِلْوَالِي أَنْ يَقْتُلَ فِي التَّعْزِيرِ. وَنَقَلَ النَّقَلَةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ ثُلُثَ الْأُمَّةِ فِي اسْتِصْلَاحِ ثُلُثَيْهَا. 322 - وَذَهَبَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ عَنْ غِرَّةٍ وَغَبَاوَةٍ أَنَّ مَا جَرَى فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّخْفِيفَاتِ، كَانَ سَبَبَهَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ

بِصَفْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَكْفِي فِي رَدْعِهِمُ التَّنْبِيهُ الْيَسِيرُ وَالْمِقْدَارُ الْقَرِيبُ مِنَ التَّعْزِيرِ، وَأَمَّا الْآنَ، فَقَدْ قَسَتِ الْقُلُوبُ، وَبَعُدَتِ الْعُهُودُ، وَوَهَنَتِ الْعُقُودُ، وَصَارَ مُتَشَبَّثَ عَامَّةِ الْخَلْقِ الرَّغَبَاتُ وَالرَّهَبَاتُ، فَلَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، لَمَا اسْتَمَرَّتِ السِّيَاسَاتُ. 323 - وَهَذَا الْفَنُّ قَدْ يَسْتَهِينُ بِهِ الْأَغْبِيَاءُ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَسَبُّبٌ إِلَى مُضَادَّةِ مَا ابْتُعِثَ بِهِ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تُتَلَقَّى مِنِ اسْتِصْلَاحِ الْعُقَلَاءِ، وَمُقْتَضَى رَأْيِ الْحُكَمَاءِ، فَقَدْ رَدَّ الشَّرِيعَةَ، وَاتَّخَذَ كَلَامَهُ هَذَا إِلَى رَدِّ الشَّرَائِعِ ذَرِيعَةً. وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَسَاغَ رَجْمُ مَنْ لَيْسَ مُحْصَنًا إِذَا زَنَا فِي زَمَنِنَا هَذَا لِمَا خَيَّلَهُ هَذَا الْقَائِلُ، وَلَجَازَ الْقَتْلُ بِالتُّهَمِ فِي الْأُمُورِ الْخَطِيرَةِ، وَلَسَاغَ إِهْلَاكُ مَنْ يَخَافُ غَائِلَتَهُ فِي بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، إِذَا ظَهَرَتِ الْمَخَايِلُ وَالْعَلَامَاتُ، وَبَدَتِ الدَّلَالَاتُ، وَلَجَازَ الِازْدِيَادُ عَلَى مَبَالِغِ الزَّكَوَاتِ عِنْدَ ظُهُورِ الْحَاجَاتِ.

324 - وَهَذِهِ الْفُنُونُ فِي رَجْمِ الظُّنُونِ، لَوْ تَسَلَّطَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الدِّينِ، لَاتَّخَذَ كُلُّ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ فِكْرَهُ شَرْعًا، وَلَانْتَحَاهُ رَدْعًا وَمَنْعًا، فَتَنْتَهِضُ هَوَاجِسُ النُّفُوسِ حَالَّةً مَحَلَّ الْوَحْيِ إِلَى الرُّسُلِ. ثُمَّ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ ; فَلَا يَبْقَى لِلشَّرْعِ مُسْتَقَرٌّ وَثَبَاتٌ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ. ثَقُلَ الِاتِّبَاعُ عَلَى بَعْضِ بَنِي الدَّهْرِ، فَرَامَ أَنْ يَجْعَلَ عَقْلَهُ الْمَعْقُولَ عَنْ مَدَارِكِ الرَّشَادِ، فِي دِينِ اللَّهِ أَسَاسًا، وَلِاسْتِصْوَابِهِ رَاسًا، حَتَّى يَنْفُضَ مِذْرَوَيْهِ، وَيَلْتَفِتَ فِي عِطْفَيْهِ اخْتِيَالًا وَشِمَاسًا. فَإِذًا لَا مَزِيدَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَبَالِغِ التَّعْزِيرِ. 325 - فَإِنْ سَطَا مُعْتَدٍ، وَتَعَدَّى مَرَاسِمَ الشَّرْعِ، فَلْيُرَ ذَلِكَ حَيْدًا عَنْ دِينِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقَطْعِ، وَمَنِ اعْتَدَى عَالِمًا أَنَّهُ

ارْتَكَبَ ذَنْبًا وَاقْتَحَمَ حُوبًا، فَهُوَ عَاصٍ غَيْرُ آيِسٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ يَقْتَرِفُ الْكَبَائِرَ، وَيَرَاهَا بِمُقْتَضَى الِاسْتِصْوَابِ الَّذِي عَنَّ لَهُ عَنْ دِينِ الْمُصْطَفَى. فَالْحَقُّ الْمُتَّبَعُ مَا نَقَلَهُ الْأَثْبَاتُ عَنْ سَيِّدِ الْوَرَى، وَمَا سِوَاهُ مُحَالٌ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟ . وَمَا أَقْرَبَ هَذَا الْمَسْلَكُ مِنْ عَقْدِ مَنْ يَتَّخِذُ سَنَنَ الْأَكَاسِرَةِ وَالْمُلُوكِ الْمُنْقَرِضِينَ عُمْدَةَ الدِّينِ، وَمَنْ تَشَبَّثَ بِهَذَا، فَقَدِ انْسَلَّ عَنْ رِبْقَةِ الدِّينِ انْسِلَالَ الشَّعْرَةِ عَنِ الْعَجِينِ. 326 - وَإِنَّمَا أَرْخَيْتُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَضْلَ زِمَامِي ; وَجَاوَزْتُ حَدَّ الِاقْتِصَادِ فِي كَلَامِي، لِأَنِّي تَخَيَّلْتُ انْبِثَاثَ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، فَقَدْ حَكَى لِي بَعْضُ الْمَرْمُوقِينَ بِالْعَقْلِ الرَّاجِحِ حِكَايَةً، فَقَالَ: دَخَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ، فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ عَنِ الْوِقَاعِ

فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَقَالَ مُجِيبًا: عَلَى مَنْ يَصْدُرُ ذَلِكَ مِنْهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَقِيلَ لِلْعَالِمِ - بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنِ الْمَجْلِسِ - أَلَيْسَ إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الصِّيَامِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِرِ عَلَيْهِ؟ وَالسَّائِلُ كَانَ مَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي تَرْكَعُ لَهُ التِّيجَانُ. فَقَالَ: لَوْ ذَكَرْتُ لَهُ الْإِعْتَاقَ لَاسْتَهَانَ بِالْوِقَاعِ فِي رَمَضَانَ، وَلَأَعْتَقَ عَبْدًا عَلَى الْفَوْرِ فِي الْمَكَانِ. فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ صَوْمُ شَهْرَيْنِ تِبَاعًا ذَكَرْتَهُ لِيُفِيدَهُ ارْعِوَاءً وَامْتِنَاعًا. 327 - وَأَنَا أَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا مِنْ مُعْتَزٍ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَافْتَرَى، وَظَلَمَ نَفْسَهُ، وَاعْتَدَى، وَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى، وَدَلَّ عَلَى انْتِهَائِهِ فِي الْخِزْيِ إِلَى الْأَمْرِ الْأَقْصَى، ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ لَوْ أَرَادَ مَسْلَكًا رَادِعًا، وَقَوْلًا وَازِعًا

فَاجِعًا، لَذَكَرَ مَا يَتَعَرَّضُ لِصَاحِبِ الْوَاقِعَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ، وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَحَاقِّ عَذَابِهِ، وَأَبَانَ لَهُ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ، وَإِنْ أَتَتْ عَلَى ذَخَائِرِ الدُّنْيَا، وَاسْتَوْعَبَتْ خَزَائِنَ مَنْ غَبَرَ وَمَضَى، لَمَا قَابَلَتْ هَمًّا بِخَطِيئَةٍ فِي شَهْرِ اللَّهِ الْمُعَظَّمِ وَحِمَاهُ الْمُحَرَّمِ. وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لَمْ تَثْبُتْ مُمَحِّصَاتٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَكَانَ يُغْنِيهِ الْحَقُّ عَنِ التَّصْرِيفِ وَالتَّحْرِيفِ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَكْذِبُ لِلْمُلُوكِ وَنُطَبِّقُ أَجْوِبَةَ مَسَائِلِهِمْ عَلَى حَسَبِ اسْتِصْلَاحِهِمْ طَلَبًا لِمَا نَظُنُّهُ مِنْ فَلَاحِهِمْ لَغَيَّرْنَا دِينَ اللَّهِ بِالرَّأْيِ، ثُمَّ لَمْ نَثِقْ بِتَحْصِيلِ صَلَاحٍ وَتَحْقِيقِ نَجَاحٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشِيعُ فِي ذَوِي الْأَمْرِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْعَصْرِ يُحَرِّفُونَ الشَّرْعَ بِسَبَبِهِمْ، فَلَا يَعْتَمِدُونَهُمْ، وَإِنْ صَدَقُوهُمْ. فَلَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَّا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَالسُّقُوطَ عَنْ مَرَاتِبِ الصَّادِقِينَ، وَالِالْتِحَاقَ بِمَنَاصِبِ الْمُمَخْرِقِينَ الْمُنَافِقِينَ.

329 - فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ رُوِيَ أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ كَانَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ رَأَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا تَتَابَعَ النَّاسُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَاسْتَقَلُّوا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْجَلْدِ أَنْ يَجْلِدَ الشَّارِبَ ثَمَانِينَ، وَسَاعَدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. قُلْنَا: هَذَا قَوْلُ مَنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ مِنْ بُعْدٍ! ! ! لِيَعْلَمَ هَذَا السَّائِلُ أَنَّ عُقُوبَةَ الشَّارِبِ لَمْ تَثْبُتْ مُقَدَّرَةً مَحْدُودَةً فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ «رُوِيَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى مَجْلِسِهِ شَارِبٌ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ الْحَاضِرِينَ بِأَنْ يَضْرِبُوهُ بِالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، وَيُبَكِّتُوهُ، وَيُحْثُوا التُّرَابَ عَلَيْهِ» . ثُمَّ رَأَى أَبُو بَكْرٍ الْجَلْدَ، فَكَانَ يَجْلِدُ أَرْبَعِينَ. مُجْتَهِدًا غَيْرَ بَانٍ عَلَى تَوْقِيفٍ وَتَقْدِيرٍ فِي الْحَدِّ، ثُمَّ رَأَى عُمَرُ مَا رَأَى.

وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لَا أَحُدُّ رَجُلًا فَيَمُوتَ، فَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا مِنْ أَنَّ الْحَقَّ قَتَلَهُ إِلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ: فَإِنَّهُ شَيْءٌ رَأَيْنَاهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". فَكَأَنَّ عُقُوبَةَ الشَّارِبِ تُضَاهِي التَّعْزِيرَاتِ الْمُفَوَّضَةَ إِلَى رَأْيِ الْأَئِمَّةِ فِي مِقْدَارِهَا. وَإِنْ كَانَ لَا يَسُوغُ الصَّفْحُ عَنْهَا. فَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ السَّائِلُ أَنْ يَتَّخِذَ قِصَّةً مُشْكِلَةً عَلَى الصَّحَابَةِ مَلَاذَهُ فِي تَغْيِيرِ دِينِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذْ قَضَيْتُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ وَطَرِي فَأَقُولُ بَعْدَهُ: 330 - لَسْتُ أَرَى لِلسُّلْطَانِ اتِّسَاعًا فِي التَّعْزِيرِ إِلَّا فِي إِطَالَةِ الْحَبْسِ، وَهُوَ صَعْبُ الْمَوْقِعِ جِدًّا، وَلَيْسَ الْحَبْسُ ثَابِتًا فِي

حَدٍّ، حَتَّى يُحَطَّ التَّعْزِيرُ عَنْهُ، وَيَسُوغُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَ فِي دِرْهَمٍ أَمَدًا بَعِيدًا إِلَى اتِّفَاقِ الْقَضَاءِ أَوِ الْإِبْرَاءِ. وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَبْلِيغَ مُدَّةِ الْحَبْسِ فِي التَّعْزِيرِ سَنَةً نَظَرًا إِلَى مُدَّةِ التَّغْرِيبِ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَهَذَا فَاسِدٌ عِنْدِي ; لِمَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ ; وَلَيْسَ التَّغْرِيبُ حَدًّا كَامِلًا فَيَنْقُصُ عَلَيْهِ تَعْزِيرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ حَدٍّ فَلْيَتَفَطَّنْ لِذَلِكَ النَّاظِرُ. 331 - وَقَدْ كُنْتُ أَحَلْتُ عَلَى هَذَا الْفَصْلَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَهَذَا أَوانُ الْوَفَاءِ بِهِ، فَأَقُولُ: إِنْ نَبَغَ فِي النَّاسِ دَاعٍ فِي الضَّلَالَةِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَنْكَفُّ عَنْ دَعْوَتِهِ وَنَشْرِ غَائِلَتِهِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَمْنَعَهُ وَيَنْهَاهُ وَيَتَوَعَّدَهُ لَوْ حَادَ عَنِ ارْتِسَامِ أَمْرِهِ وَأَبَاهُ، فَلَعَلَّهُ يَنْزَجِرُ وَعَسَاهُ، ثُمَّ يَكِلُ بِهِ مَوْثُوقًا بِهِ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَلَا يَرَاهُ، فَإِنْ عَادَ إِلَى مَا عَنْهُ نَهَاهُ، بَالَغَ فِي تَعْزِيرِهِ، وَرَاعَى حَدَّ الشَّرْعِ، وَتَحَرَّاهُ، ثُمَّ يُثَنِّي عَلَيْهِ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ، وَيُبَالِغُ فِي مُرَاقَبَتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، وَيُرَشِّحُ مَجْهُولِينَ

يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ عَلَى هَيْئَاتٍ مُتَفَاوِتَاتٍ، وَيَعْتَزُونَ إِلَى مَذْهَبِهِ، وَيَسْتَرْشِدُونَهُ، وَيَتَدَرَّجُونَ إِلَى التَّعَلُّمِ وَالتَّلَقِّي مِنْهُ. فَإِنْ أَبْدَى شَيْئًا أَطْلَعُوا السُّلْطَانَ عَلَيْهِ ; فَيَتَسَارَعُ إِلَى تَأْدِيبِهِ، وَالتَّنْكِيلِ بِهِ، وَإِذَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، أَوْشَكَ أَنْ يَمْتَنِعَ وَيَرْتَدِعَ. ثُمَّ إِنِ انْكَفَّ، فَهُوَ الْغَرَضُ، وَإِنْ تَمَادَى فِي دَعَوَاتِهِ أَعَادَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ تَنْكِيلَهُ وَعُقُوبَاتِهِ، فَتَبْلُغُ الْعُقُوبَاتُ مَبَالِغَ تُرْبِي عَلَى الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا يَتَسَبَّبُ إِلَى تَكْثِيرِ الْعُقُوبَاتِ بِأَنْ يُبَادِرَهُ بِالتَّأْدِيبِ مَهْمَا عَادَ، وَإِذَا تَخَلَّلَتِ الْعُقُوبَاتُ فِي أَثْنَاءِ مُوجِبَاتِهَا، تَعَدَّدَتْ وَتَجَدَّدَتْ، فَلَا يَبْرَأُ جِلْدُهُ عَنْ تَعْزِيرٍ وَجَلَدَاتِ نَكَالٍ، حَتَّى تَحِلَّ بِهِ عُقُوبَةٌ أُخْرَى. 332 - وَالَّذِي يُبْدِيهِ أَصْحَابُ السِّيَاسَاتِ أَنَّ التَّعْزِيرَ الْمَحْطُوطَ عَنِ الْحَدِّ لَا يُزَعُ وَلَا يُدْفَعُ، وَغَايَتُهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى مَوَاقِفِ الشَّرِيعَةِ، وَيَتَعَدَّوْهَا لِيَتَوَصَّلُوا بِزَعْمِهِمْ إِلَى أَغْرَاضٍ رَأَوْهَا فِي الْإِيَالَةِ.

وَالْمَسْلَكُ الَّذِي مَهَّدْنَاهُ يَتَضَمَّنُ الزَّجْرَ الْأَعْظَمَ، وَالرَّدْعَ الْأَتَمَّ، وَاسْتِمْرَارَ الْعُقُوبَاتِ، مَعَ تَقْدِيرِ الْمُعَاوَدَاتِ. فَإِنِ انْكَفَّ بِالْقَلِيلِ - وَالْكَثِيرُ مُحَرَّمٌ - فَلَا أَرَبَ فِي تَعْذِيبِ مُسْلِمٍ، وَإِنْ أَبَى عُدْنَا لَهُ. وَإِنَّمَا يَنْسَلُّ عَنْ ضَبْطِ الشَّرْعِ مَنْ لَمْ يُحِطْ بِمَحَاسِنِهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى خَفَايَاهُ وَمَكَامِنِهِ، فَلَا يَسْبِقُ إِلَى مَكْرُمَةٍ سَابِقٌ إِلَّا وَلَوْ بَحَثَ عَنِ الشَّرِيعَةِ، لَأَلْفَاهَا أَوْ خَيْرًا مِنْهَا فِي وَضْعِ الشَّرْعِ. وَلَوْ لَمْ يَأْمَنِ الْإِمَامُ مَعَ التَّنَاهِي فِي الْمُرَاقَبَةِ وَالْمُثَابَرَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ غَائِلَةَ الْمُبْتَدِعِ أَطَالَ حَبْسَهُ وَحَصَرَ نَفْسَهُ. 333 - فَهَذَا مَسْلَكُ السَّدَادِ، وَمَنْهَجُ الرَّشَادِ وَالِاقْتِصَادِ، وَمَا عَدَاهُ سَرَفٌ وَمُجَاوَزَةُ حَدٍّ، وَغُلُوٌّ وَعُتُوٌّ، وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَبْعُوثُونَ بِحَسْمِ الْمَرَاسِمِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى قَصْدِ الْأُمُورِ. 334 - وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّ الْمُتَعَلِّقِينَ بِضَبْطِ الْأَحْوَالِ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِصْوَابِ فِي كُلِّ بَابٍ، يَرَوْنَ رَدْعَ أَصْحَابِ التُّهَمِ قَبْلَ إِلْمَامِهِمْ بِالْهَنَاتِ، وَالسَّيِّئَاتِ، وَالشَّرْعُ لَا يُرَخِّصُ فِي ذَلِكَ.

وَالَّذِي انْتَزَعْتُ مِنَ الشَّرْعِ مَا يُقَرِّبُ سُبُلَ تَحْصِيلِ الْغَرَضِ فِي هَذَا: فَمِنْ آدَابِ الدِّينِ أَنْ لَا يَقِفَ الْإِنْسَانُ فِي مَوَاقِفِ التُّهَمِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَنْهَى الْإِمَامُ مَنْ يَتَصَدَّى لَهَا عَنْ ذَلِكَ عَلَى جَزْمٍ وَبَتٍّ، فَإِنْ عَادَ عَاقَبَهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ أَمْرَ سُلْطَانِهِ، وَاسْتِجْرَائِهِ عَلَى وَالِي زَمَانِهِ، فَيَكُونُ هَذَا تَطَرُّقًا إِلَى الرَّدْعِ عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ. 335 - وَمِمَّا كُنْتُ أَحَلْتُهُ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ الْقَوْلُ فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأَمَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ بَعْدَمَا ظَهَرَتْ زَنْدَقَتُهُ، فَإِنَّ مَنْ عَقْدِهِ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ، وَيَتَّقِي النَّاسَ، وَيُبْدِي الْوِفَاقَ ; وَيُضْمِرَ الِالْتِبَاسَ فَالَّذِي أَبْدَاهُ مِنْ تَوْبَتِهِ عَيَّنَ مَذْهَبَهُ فِي زَنْدَقَتِهِ.

336 - وَهَذَا خَارِجٌ عِنْدِي عَنْ قَاعِدَةِ الشَّرِيعَةِ ; فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ خِلَافًا أَنَّ عَسْكَرًا مِنْ عَسَاكِرِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَنَاخُوا بِسَاحَةِ الْكُفَّارِ، فَلَمَّا أَظَلَّتْهُمُ السُّيُوفُ، وَعَايَنُوا مَخَايِلَ الْحُتُوفِ، نَطَقُوا بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِمْ، وَإِنْ تَحَقَّقْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يُلْهَمُوا الْهِدَايَةَ لِدِينِ الْحَقِّ الْآنَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَارِي الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْقَطْعِ وَتَوَاتُرِ الْوَحْيِ بِنِفَاقِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ وَالْأُسْوَةُ، فَالْوَجْهُ إِذًا فِي كَفِّ شَرِّ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي دَفْعِ عَادِيَةِ الدَّاعِي إِلَى بِدْعَتِهِ، وَالتَّسَبُّبُ إِلَى الْحَبْسِ بِالْمَسْلَكِ الْمَذْكُورِ لَائِقٌ بِالزَّنَادِقَةِ. فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُدْرِكُ مَا ضَمَّنَّاهُ هَذَا الْفَصْلَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ مَقَاصِدِ ذَوِي الْإِيَالَةِ وَمُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ، إِلَّا مَنْ وَفَرَ حَظُّهُ مِنَ الْعُلُومِ، وَدُفِعَ إِلَى مَضَائِقِ الْحَقَائِقِ، وَاللَّهُ الْمَشْكُورُ عَلَى الْمَيْسُورِ وَالْمَعْسُورِ، إِنَّهُ الْوَدُودُ الْغَفُورُ. انْتَهَى مَرَامُنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُقُوبَاتِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيَالَاتِ.

القيام على المشرفين على الضياع

الْقِيَامُ عَلَى الْمُشْرِفِينَ عَلَى الضَّيَاعِ. [القيام على المشرفين على الضياع] 337 - وَلَمْ يَبْقَ مِمَّا رَسَمْنَاهُ فِي حِفْظِ مَنْ فِي الْخِطَّةِ إِلَّا الْقِيَامُ عَلَى الْمُشْرِفِينَ عَلَى الضَّيَاعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى الْوِلَايَاتِ، وَإِلَى سَدِّ الْحَاجَاتِ، وَإِنْقَاذِ ذَوِي الْفَاقَاتِ. فَأَمَّا الْوِلَايَةُ، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ. وَاسْتِيفَاءُ الْقَوْلِ فِي الْوِلَايَتَيْنِ مِنْ فَنِّ الْفِقْهِ، فَلْيَطْلُبْهُ طَالِبُهُ مِنَ الْمُشْتَغِلِينَ بِهِ. 338 - وَأَمَّا سَدُّ الْحَاجَاتِ وَالْخَصَاصَاتِ فَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْكَلَامِ الْكُلِّيِّ، وَقَدْ لَا يُلْفَى مَجْمُوعًا فِي الْفِقْهِ. فَأَقُولُ: إِذَا بَنَيْنَا عَلَى غَالِبِ الْأَمْرِ فِي الْعَادَاتِ، وَفَرَضْنَا انْتِفَاءَ الزَّمَانِ عَنِ الْحَوَائِجِ وَالْعَاهَاتِ، وَضُرُوبِ الْآفَاتِ، وَوُفِّقَ

الْمُثْرُونَ الْمُوسِرُونَ لِأَدَاءِ الزَّكَوَاتِ، انْطَبَقَتْ فَضَلَاتُ أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى أَقْدَارِ الْحَاجَاتِ. وَإِنْ قُدِّرَتْ آفَةٌ وَأَزْمٌ وَقَحْطٌ وَجَدْبٌ، عَارَضَهُ تَقْدِيرُ رَخَاءٍ فِي الْأَسْعَارِ تَزِيدُ مَعَهُ أَقْدَارُ الزَّكَوَاتِ عَلَى مَبَالِغِ الْحَاجَاتِ، فَالْوَجْهُ اسْتِحْثَاثُ الْخَلْقِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فِي السُّنَّةِ، فَإِنِ اتَّفَقَ مَعَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي ذَلِكَ فُقَرَاءُ مُحْتَاجُونَ لَمْ تَفِ الزَّكَوَاتُ بِحَاجَاتِهِمْ، فَحَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ الِاعْتِنَاءَ بِهِمْ مِنْ أَهَمِّ أَمْرٍ فِي بَالِهِ، فَالدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَا تَعْدِلُ تَضَرُّرَ فَقِيرٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي ضُرٍّ، فَإِنِ انْتَهَى نَظَرُ الْإِمَامِ إِلَيْهِمْ، رَمَّ مَا اسْتَرَمَّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مِنَ الْجِهَاتِ الَّتِي سَيَأْتِي عَلَيْهَا شَرَحُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

339 - فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَظَرُ الْإِمَامِ، وَجَبَ عَلَى ذَوِي الْيَسَارِ وَالِاقْتِدَارِ الْبِدَارُ إِلَى رَفْعِ الضِّرَارِ عَنْهُمْ، وَإِنْ ضَاعَ فَقِيرٌ بَيْنَ ظَهَرَانِي مُوسِرِينَ، حَرِجُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ، وَبَاءُوا بِأَعْظَمِ الْمَآثِمِ، وَكَانَ اللَّهُ طَلِيبَهُمْ وَحَسِيبَهُمْ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَبِيتَنَّ لَيْلَةً شَبْعَانَ وَجَارُهُ طَاوٍ» " وَإِذَا كَانَ تَجْهِيزُ الْمَوْتَى مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَحِفْظُ مُهَجِ الْأَحْيَاءِ، وَتَدَارُكُ حَشَاشَةَ الْفُقَرَاءِ أَتَمُّ وَأَهَمُّ. 340 - وَمَقْصُودُ هَذَا الْفَصْلِ مَا نَذْكُرُهُ الْآنَ: فَلَوْ بُلِيَ أَهْلُ بَلَدٍ بِقَحْطٍ، وَكَشَّرَتِ الشِّدَّةُ عَنْ أَنْيَابِهَا، وَبَثَّتِ الْمَنُونُ بَدَائِعَ أَسْبَابِهَا، وَعَلِمَ مَنْ مَعَهُ بَلَاغٌ أَنَّهُمْ لَوْ صَفَّرُوا أَيْدِيَهُمْ، وَفَرَّقُوا مَا مَعَهُمْ، لَافْتَقَرُوا افْتِقَارَهُمْ، فَلَا نُكَلِّفُهُمْ أَنْ

يُنْهُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الضَّرَرِ النَّاجِزِ، وَالِافْتِقَارِ الْعَاجِلِ ; فَإِنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ هَلَكُوا مَعَ الْهَالِكِينَ، وَلَوْ تَمَاسَكُوا أَوْشَكَ أَنْ يَبْقَوْا، وَيَبْقَى بِبَقَائِهِمْ مِنْ نَفَضَاتِ أَمْوَالِهِمْ مَضْرُورُونَ، وَغَايَتُنَا أَنْ نَذْكُرَ الْأَصْلَحَ عَلَى أَقْصَى الْإِمْكَانِ، وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ كَانَ. 341 - وَلَا يَبِينُ مَا نُحَاوِلُهُ إِلَّا بِذِكْرِ مَسْأَلَةٍ عَلَى الْأَحْكَامِ تُخَالِفُ بِظَاهِرِهَا مَا افْتَتَحْنَاهُ: فَلَوْ فَرَضْنَا مُصْطَحِبَيْنِ فِي الْأَسْفَارِ فِي بَعْضِ الْقِفَارِ، وَانْتَهَى أَحَدُهُمَا إِلَى الْمَخْمَصَةِ، وَمَعَ الثَّانِي مَا يُبْلِغُهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ إِلَى الْعُمْرَانِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَسُدَّ رَمَقَ رَفِيقِهِ، وَيَكْتَفِيَ بِبَلَاغٍ يَكْفِيهِ فِي طَرِيقِهِ. وَلَا نُكَلِّفُ الْمُوسِرِينَ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى كِفَايَةِ يَوْمِهِمْ، وَيُفَرِّقُوا بَاقِيَ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْمَحَاوِيجِ، وَيَرْقُبُوا أَمْرَ اللَّهِ فِي غَدِهِمْ، وَلَا يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَغْفُلُوا عَنْ أُمُورِ الْمَسَاكِينِ أَصْلًا، وَيَتْرُكُوهُمْ يَمُوتُونَ هَزْلًا. وَالْأَمْرُ فِي الرَّفِيقَيْنِ مَفْرُوضٌ فِيهِ إِذًا قُرْبُ وُصُولِهِمَا إِلَى الْبُلْدَانِ

وَالْعُمْرَانِ، وَلَا يُعْوِزُ فِيهَا سَدَادٌ. وَامْتِدَادُ آمَادِ الْقَحْطِ لَا يُفْضِي إِلَى مُنْتَهَى الْعُلُومِ. وَهَذَا يُنَاظِرُ مَا لَوْ كَانَ الرَّفِيقَانِ فِي مَتَاهَاتٍ لَا يَدْرِيَانِ مَتَى تَنْتَهِي بِهِمَا إِلَى الْعُمْرَانِ، فَلَا نُكَلِّفُ مَنْ مَعَهُ زَادٌ وَاسْتِعْدَادٌ أَنْ يُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَجْتَزِئَ بِحَاجَةِ يَوْمِهِ أَوْ وَقْتِهِ. 342 - فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي إِذَا ظَهَرَ الضُّرُّ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَأَنْشَبَتِ الْمَنِيَّةُ أَظْفَارَهَا، وَأَشْفَى الْمَضْرُورُونَ، وَاسْتَشْعَرَ الْمُوسِرُونَ، أَنْ يَسْتَظْهِرَ كُلُّ مُوسِرٍ بِقُوتِ سَنَةٍ، وَيَصْرِفَ الْبَاقِي إِلَى ذَوِي الضَّرُورَاتِ، وَأَصْحَابِ الْخَصَاصَاتِ، وَلَسْتُ أَقُولُ أَنَّ مُنْقَرَضَ السَّنَةِ يَسْتَعْقِبُ انْجِلَاءَ الْمِحَنِ، وَانْفِصَالَ الْفِتَنِ عَلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ غَالِبٍ. وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ الْفُقَرَاءِ عَلَى ضُرِّهِمْ، وَلَا نَعْرِفُ تَوْفِيقًا فِي الشَّرْعِ ضَابِطًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ فِيمَا يَبْذُلُهُ الْمُوسِرُ، وَفِيمَا يُبْقِيهِ، وَرَأَيْنَا فِي السُّنَّةِ قَوَاعِدَ شَرْعِيَّةً تُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَفِي اعْتِبَارِ السَّنَةِ أَيْضًا حَالَةً ظَنِّيَّةً عَقْلِيَّةً.

343 - فَأَمَّا أَمَارَاتُ الشَّرْعِ فَمِنْ أَقْرَبِهَا تَعَلُّقُ وَظِيفَةَ الزَّكَاةِ بِانْقِضَاءِ السَّنَةِ، «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ لِنِسَائِهِ فِي أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ قُوتَ سَنَةٍ» . فَأَمَّا الْأَمْرُ الْعَقْلِيُّ، فَقَدْ يُظَنَّ أَنَّ الْأَحْوَالَ تَتَبَدَّلُ فِي انْقِضَاءِ السَّنَةِ، فَإِنَّهَا مُدَّةُ الْغَلَّاتِ، وَأَمَدُ الثَّمَرَاتِ، وَفِيهَا تَحُولُ الْأَحْوَالُ، وَتَزُولُ وَتَعْتَقِبُ الْفُصُولُ. ثُمَّ الْبَاذِلُونَ فِي بَذْلِهِمْ عَلَى غَرَرٍ وَخَطَرٍ. وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَقْصَدُ مُعْتَبَرٍ، وَمَا ذَكَرْتُهُ بَيَانُ مَا يَسُوغُ، وَلَيْسَ أَمْرًا مَجْزُومًا، وَلَا حُكْمًا مَحْتُومًا، فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِإِيثَارِ أَخِيهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْإِيثَارُ مِنْ شِيَمِ الصَّالِحِينَ، وَسِيَرِ الْمُوَفَّقِينَ. فَهَذَا مُنْقَرَضُ الْقَوْلِ فِي الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ، الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْإِمَامِ فِي حِفْظِ مَنْ فِي خِطَّةِ الْإِسْلَامِ. 344 - فَإِنْ قِيلَ: لَمْ تَذْكُرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. قُلْنَا: الشَّرْعُ مِنْ مُفْتَتَحِهِ إِلَى مُخْتَتَمِهِ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِمَامِ فِيهِ مَا فَصَّلْنَاهُ، وَالدُّعَاءُ إِلَى الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ

عَنِ الْمُنْكَرِ يَثْبُتُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا قَدِمُوا بِثَبْتٍ وَبَصِيرَةٍ، وَلَيْسَ إِلَى الرَّعِيَّةِ إِلَّا الْمَوَاعِظُ وَالتَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، مِنْ غَيْرِ فَظَاظَةٍ وَمَلَقٍ. وَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الصِّدْقُ وَالدِّيَانَةُ، وَتَجَرَّدَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَوْضَحَ الْحَقَّ وَأَبَانَهُ، عَلَى تَخَضُّعٍ لِلَّهِ وَاسْتِكَانَةٍ، ثُمَّ زَانَ بِرِفْقِهِ شَانَهُ، وَمَا دَخَلَ الرِّفْقُ أَمْرًا إِلَّا زَانَهُ، نَجَعَ كَلَامُهُ فِي الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي زَمَانِهِمْ، الْمُتَوَلِّينَ بِأَرْكَانِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَرْعُوا ; لَمْ يَكُنْ لِلرَّعِيَّةِ الْمُكَاوَحَةُ، وَشَهْرُ الْأَسْلِحَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُنْهُونَ الْأُمُورَ إِلَى الْوُلَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَرَوْنَ رَأْيَهُمْ فِي فُنُونِ الرَّدْعِ، كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهَا. 345 - فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْوُلَاةُ يَعْتَنُونَ بِتَقْوِيمِ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ؟ قُلْنَا: إِنْ تَوَلَّى السُّلْطَانُ أَبْوَابًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا مُعْتَرِضَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَكِنْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالسِّيَاسَةِ. وَلَوْ تَصَدَّى لِلْأَمْرِ بِالتَّقْوِيمِ، وَالْجَرَيَانِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، وَالْمَسْلَكِ

الْمُسْتَقِيمِ آحَادٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبِينَ، كَانُوا غَيْرَ مَمْنُوعِينَ، وَلَا مَدْفُوعِينَ. نَعَمْ يَتَعَلَّقُ بِالْوَالِي أَنْ يُكَلِّفَ الْمُتَّهَمَ بِالتَّطْفِيفِ عَرْضَ مِيزَانِهِ وَمِكْيَالِهِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ، وَهَذَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ فَصْلِ الْعُقُوبَاتِ، وَرَدْعِ الْمُتَّهَمِينَ بِمَا لَا يَرْضَى مِنَ الْخَيَالَاتِ، فَلَمْ أَرَ إِفْرَادَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ بِالذِّكْرِ. أَمَّا تَفَاصِيلُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَحْوِيهِ كِتَابٌ يَلِيقُ بِالْفُقَهَاءِ أَنْ يَسْتَقْصُوهُ، فَوَكَّلُوهُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِينَ، كَمَا وَكَّلُوا إِلَيْهِمُ التَّوْبَةَ، وَتَفَاصِيلَ الْأَقْوَالِ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْمَظَالِمِ، وَلَوْ حَاوَلْتُ قَوْلًا قَرِيبًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَسِيطًا، لَأَبَرَّ عَلَى قَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ حَاوِيًا بَسِيطًا. انْتَهَى الْقَوْلُ فِي الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ، مِمَّا يَسُوسُ بِهِ الْإِمَامُ الرَّعِيَّةَ.

نجدة الإمام وعدته

[نَجْدَةُ الْإِمَامِ وَعُدَّتُهُ] [خُطَّةٌ وَتَرْتِيبٌ] جـ - نَجْدَةُ الْإِمَامِ وَعُدَّتُهُ. خُطَّةٌ وَتَرْتِيبٌ. 346 - وَالْآنَ أَبْتَدِئُ ذِكْرَ نَجْدَةِ الْإِمَامِ وَعُدَّتِهِ: لَيْسَ يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّ الْإِمَامَ يَحْتَاجُ فِي مَنْصِبِهِ الْعَظِيمِ، وَخَطْبِهِ الشَّامِلِ الْعَمِيمِ، إِلَى الِاعْتِضَادِ بِالْعَدَدِ وَالْعَتَادِ، وَالِاسْتِعْدَادِ بِالْعَسَاكِرِ وَالْأَجْنَادِ، فَإِنَّهُ مُتَصَدٍّ لِحِرَاسَةِ الْبَيْضَةِ، وَحِفْظِ الْحَرِيمِ، وَالتَّشَوُّفِ إِلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ ; فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَسْكَرُهُ مَعْقُودًا، يَرَوْنَ التَّطَلُّعَ إِلَى أَوَامِرِهِ شَوْفًا مَقْصُودًا وَمَطْمَحًا مَعْمُودًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَوَّلُهُ الْمُتَطَوِّعَةَ الَّذِينَ لَا يَتَنَشَّئُونَ إِذَا نُدِبُوا مُبَادِرِينَ، حَتَّى يَتَأَهَّبُوا، وَيَسْتَعِدُّوا وَيَتَأَلَّبُوا وَلَنْ تَقُومَ الْمَمَالِكُ إِلَّا بِجُنُودٍ مُجَنَّدَةٍ، وَعَسَاكِرَ مُجَرَّدَةٍ، هُمْ مُشْرَئِبُّونَ لِلِانْتِدَابِ، مَهْمَا نُدِبُوا، بِعَزَائِمَ جَامِعَةٍ، وَآذَانٍ مُتَشَوِّفَةٍ إِلَى صَوْتِ هَائِعَةٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُرْتَزِقَةُ

لَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ الْبِدَارِ دَهْقَنَةٌ وَتِجَارَةٌ، وَلَا يُلْهِيهِمْ تُرْفَةٌ وَلَا عِمَارَةٌ. 347 - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِهِ لَا يُدَوِّنُ دِيوَانًا، وَلَا يُجَرِّدُ لِلْجِهَادِ أَعْوَانًا، إِذْ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَخِفُّونَ إِلَى ارْتِسَامِ أَوَامِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنَاةٍ وَاسْتِئْخَارٍ، وَانْقَرَضَ عَلَى ذَلِكَ زَمَنُ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ لَمَّا انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَنَّدَ الْجُنُودَ، وَعَسْكَرَ الْعَسَاكِرَ، وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، وَصَارَتْ سِيرَتُهُ وَإِيَالَتُهُ أُسْوَةً لِلْعَالَمِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. 348 - فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَتَحَتَّمُ اسْتِظْهَارُ الْإِمَامِ بِالْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ فَلَابُدَّ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ بِالْأَمْوَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي يَجْمَعُهَا وَيُجْبِيهَا وَيَطْلُبُهَا وَيَنْتَحِيهَا، تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَتَعَيَّنُ مَصْرِفُهُ، وَإِلَى مَا يَعُمُّ انْبِسَاطُهُ عَلَى وُجُوهِ الْمَصَالِحِ.

وَتَفَاصِيلُ [الْأَقْوَالِ] فِي الْأَمْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَلَكِنِّي أَذْكُرُ تَرَاجِمَهَا، وَأَبْسُطُ الْقَوْلَ قَلِيلًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَاتِ الْكَبِيرَةِ مِنْهَا. فَمِنَ الْأَمْوَالِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَصَارِفِ الزَّكَوَاتِ، وَهِيَ مَصْرُوفَةٌ إِلَى الْأَصْنَافِ الْمَوْصُوفِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَوْصَافٍ. وَالْقَوْلُ فِي أَقْدَارِهَا وَمَحَالِّهَا، وَفِي مَصَارِفِهَا مَذْكُورٌ فِي كِتَابَيْنِ مِنَ الْفِقْهِ، يُعْرَفُ أَحَدُهُمَا بِكِتَابِ الزَّكَاةِ، وَالثَّانِي بِكِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ. وَمِنْهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ. وَالْفَيْءُ مَالُ كَافِرٍ عُثِرَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْجِزْيَةُ، وَالْأَخْرِجَةُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمْوَالُ الْمُرْتَدِّينَ، وَمَا يَتَخَلَّى عَنْهُ الْكُفَّارُ مِنْ غَيْرِ قِتَالِ مَذْعُورِينَ أَوْ مُخْتَارِينَ.

فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَا وَصَفْنَاهُ تَخْتَصُّ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بِالْمُرْتَزِقَةِ وَالْجُنْدِ الْمُتَرَتِّبَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ. وَالْقَوْلُ فِيهِ وَفِي خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَخُمُسِ الْفَيْءِ، مَذْكُورٌ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ فِي فَنِّ الْفِقْهِ. 349 - وَأَمَّا الْمَالُ الْعَامُّ، فَهُوَ مَالُ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ خُمُسُ خُمُسِ الْفَيْءِ، وَخُمُسُ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَمَا يَخْلُفُهُ مُسْلِمٌ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ خَاصٌّ، وَيَلْتَحِقُ بِالْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ مَالٌ ضَائِعٌ لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَالِكِهِ وَمُسْتَحَقِّهِ. فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَحْوِيهَا يَدُ الْإِمَامِ، وَمَصَارِفُهَا مُقَرَّرَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ كَثُرَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ، وَمَسَالِكُ الظُّنُونِ، وَالْإِمَامُ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ، وَإِنِ اعْتَاصَتْ مَسْأَلَةٌ أَجَالَ فِيهَا فِكْرَهُ، وَرَدَّدَ نَظَرَهُ، وَاسْتَضَاءَ بِرَأْيِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا غَلَبَ ظَنُّهُ مَضَى قُدُمًا، وَأَمْضَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ. وَلَا يَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ التَّعَرُّضُ لِتَفَاصِيلِ الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ مَعَ اعْتِنَاءِ الْعُلَمَاءِ بِتَصْنِيفِهَا وَجَمْعِهَا وَتَأْلِيفِهَا. 350 - فَالَّذِي أَذْكُرُهُ فِي الْأَمْوَالِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تَفْتَقِرُ إِلَيْهَا الْإِيَالَةُ لَا مَحَالَةَ:

فصل الضابط في كلي المصارف

أَحَدُهَا: ذِكْرُ أَلْفَاظٍ وَجِيزَةٍ ضَابِطَةٍ لِجُمَلِ الْمَصَارِيفِ وَكُلِّيَّاتِهَا. وَالثَّانِي: فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ هَلْ يَنْزِفُ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ سَنَةٍ، أَوْ يَسْتَظْهِرُ بِذَخِيرَةٍ لِيَكُونَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ; وَالثَّالِثُ: تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ إِذَا نَفِدَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْحَسَمَتْ مَجَالِبُهَا وَمَكَاسِبُهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ مُضْطَرَبُهُ وَمَجَالُهُ؟ ، وَمِنْ أَيْنَ مَالُهُ؟ وَإِلَى مَاذَا يَئُولُ مَآلُهُ؟ . [فَصْلٌ الضَّابِطُ فِي كُلِّيِّ الْمَصَارِفِ] فَصْلٌ. 351 - فَأَمَّا الْقَوْلُ الضَّابِطُ فِي كُلِّيِّ الْمَصَارِفِ فَأَقُولُ: مَنْ يَرْعَاهُ الْإِمَامُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مِنْهُمْ مُحْتَاجُونَ، وَالْإِمَامُ يَبْغِي سَدَّ حَاجَاتِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ مُعْظَمُ مُسْتَحَقِّي الزَّكَوَاتِ فِي الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ: قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ. وَلِلْمَسَاكِينِ اسْتِحْقَاقٌ فِي خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ كَمَا

يَفْصِلُهُ الْفُقَهَاءُ، فَهَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ. 352 - وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَقْوَامٌ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ كِفَايَتُهُمْ، وَيَدْرَأُ عَنْهُمْ بِالْمَالِ الْمُوَظَّفِ لَهُمْ حَاجَتَهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ مَكْفِيِّينَ، لِيَكُونُوا مُتَجَرِّدِينَ لِمَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ مُهِمِّ الْإِسْلَامِ. وَهَؤُلَاءِ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرْتَزِقَةُ، وَهُمْ نَجْدَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُدَّتُهُمْ، وَوَزَرُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهِمْ مَا يَرُمُّ خَلَّتَهُمْ، وَيَسُدُّ حَاجَتَهُمْ، وَيَسْتَعِفُّوا بِهِ عَنْ وُجُوهِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَطَالِبِ، وَيَتَهَيَّأُوا لِمَا رُشِّحُوا لَهُ، وَتَكُونُ أَعْيُنُهُمْ مُمْتَدَّةٌ إِلَى أَنْ يُنْدَبُوا فَيَخِفُّوا عَلَى الْبِدَارِ، وَيُنْتَدَبُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَثَاقَلُوا، وَيَتَشَاغَلُوا بِقَضَاءِ أَرَبٍ، وَتَمْهِيدِ سَبَبٍ، وَغَرَضُنَا الِاكْتِفَاءُ بِتَرَاجِمَ كُلِّيَّةٍ فِي التَّقَاسِيمِ. وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَقِلُّونَ بِإِيضَاحِ التَّفَاصِيلِ، فَهَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنَ الصِّنْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ آخِرًا. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الَّذِينَ انْتَصَبُوا لِإِقَامَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ

وَانْقَطَعُوا بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ بِهَا عَنِ التَّوَسُّلِ إِلَى مَا يُقِيمُ أَوَدَهُمْ، وَيَسُدُّ خَلَّتَهُمْ، وَلَوْلَا قِيَامُهُمْ بِمَا لَابَسُوهُ لَتَعَطَّلَتْ أَرْكَانُ الْإِيمَانِ. فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكْفِيَهُمْ مُؤَنَهُمْ، حَتَّى يَسْتَرْسِلُوا فِيمَا تَصَدَّوْا لَهُ بِفَرَاغِ جَنَانٍ، وَتَجَرُّدِ أَذْهَانٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ: الْقُضَاةُ، وَالْحُكَّامُ، وَالْقُسَّامُ، وَالْمُفْتُونَ، وَالْمُتَفَقِّهُونَ، وَكُلُّ مَنْ يَقُومُ بِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، يُلْهِيهِ قِيَامُهُ عَمَّا فِيهِ سَدَادُهُ وَقِوَامُهُ. فَأَمَّا الْمُرْتَزِقَةُ، فَالْمَالُ الْمَخْصُوصُ يَعُمُّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: يُدِرُّ عَلَيْهِمْ كِفَايَتَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. وَقَدْ أَتَى مَسَاقُ التَّقْسِيمِ عَلَى صِنْفَيْنِ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ. 353 - وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: قَوْمٌ تُصْرَفُ إِلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى غِنَاهُمْ وَاسْتِظْهَارِهِمْ، وَلَا يُوقَفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى سَدِّ حَاجَةٍ، وَلَا اسْتِبْقَاءِ كِفَايَةٍ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ الْمُسَمَّوْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذَا الْقُرْبَى. فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا مِنْ

فصل هل للإمام أن ينزف بيت المال كل سنة

خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَاجَةٍ وَكِفَايَةٍ، عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، وَالنُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ، وَسِيَرُ الْخُلَفَاءِ، وَمَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ، قَبْلَ ظُهُورِ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ. فَهَذِهِ جُمَلٌ فِي مَصَارِفِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، يَلِيقُ بِالْإِيَالَةِ الْعُظْمَى حِفْظُهَا. وَقَدِ انْتَهَى الْغَرَضُ فِي هَذَا الْفَنِّ. [فَصْلٌ هل للإمام أن ينزف بيت المال كل سنة] فَصْلٌ. 354 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي نَزْفِ الْأَمْوَالِ، أَوْ الِاسْتِظْهَارِ بِالذَّخَائِرِ، فَهَذَا الْفَنُّ أَلْيَقُ بِأَحْكَامِ السِّيَاسَاتِ مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَدْ ذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَوْصَلَ كُلَّ ذِي حَقٍّ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقَّهُ، فَفَضَلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَبْقِيَتِهِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ تَفْرِيقُهُ، وَاسْتِيعَابُ جَمِيعِ مَا احْتَوَتْهُ يَدُ الْإِمَامِ مِنَ الْأَمْوَالِ.

355 - أَمَّا الْمُرْتَزِقَةُ إِنْ تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِمْ كِفَايَتُهُمْ، وَانْسَدَّتْ خَلَّاتُهُمْ، وَفَضَلَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَاضِلٌ، فَيَجِبُ فَضُّ الْفَاضِلِ عَلَيْهِمْ عَلَى أَقْدَارِ أَعْطِيَتِهِمْ وَأَقْسَاطِهِمْ. 356 - وَأَمَّا الزَّكَوَاتُ، إِنِ انْتَهَى مُسْتَحِقُّوهَا إِلَى مُقَارَبَةِ الِاسْتِقْلَالِ، وَاكْتَفَوْا بِمَا نَالُوهُ مِنْهَا، فَلَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّ فَاضِلِ الزَّكَوَاتِ عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّ أَسْبَابَ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنْ حَاجَاتِهِمْ ; فَإِذَا زَالَ أَسْبَابُ الِاسْتِحْقَاقِ، زَالَ الِاسْتِحْقَاقُ بِزَوَالِهَا، فَالْفَاضِلُ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ - إِنْ تُصُوِّرَ اسْتِغْنَاءُ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ فِي قُطْرٍ وَنَاحِيَةٍ - مَنْقُولٌ إِلَى مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى. وَإِنْ بَالَغَ مُصَوِّرٌ فِي تَصْوِيرِ شُغُورِ الْخِطَّةِ عَنْ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَهَذَا خَرْقُ الْعَوَائِدِ، وَتَصْوِيرٌ عَسِرٌ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ رُبَّمَا يَفْرِضُونَ صُوَرًا بَعِيدَةً، وَغَرَضُهُمْ بِفَرْضِهَا وَتَقْدِيرِهَا تَمْهِيدُ حَقَائِقِ الْمَعَانِي، فَإِنِ احْتَمَلْنَا تُصَوِّرَ ذَلِكَ، فَالْفَاضِلُ مِنَ الزَّكَوَاتِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَرْدُودٌ إِلَى سَهْمِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. 357 - وَأَمَّا الْمَالُ الْمُرْصَدُ لِلْمَصَالِحِ، فَلَا نَتَصَوَّرُ انْقِطَاعَ مَصَارِفِهِ.

وَالْإِمَامُ يَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، فَإِنْ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى ضَمِّ طَائِفَةٍ مِنْهُ إِلَى مَالِ الْمُرْتَزِقَةِ، أَوْ صَفِرَ بَيْتُ الْمَالِ عَنِ الْفَيْءِ، فَأَهَمُّ الْمَصَالِحِ تَمْهِيدُ كِفَايَةِ الْمُرْتَزِقَةِ، وَإِنْ لَمْ تَفِ الزَّكَوَاتُ بِحَاجَاتِ الْمَحَاوِيجِ سَدَّ الْإِمَامُ حَاجَتَهُمْ بِمَالِ الْمَصَالِحِ. فَإِذًا مَالُ الْمَصَالِحِ مُعَدٌّ لِكُلِّ مَصْلَحَةٍ لَيْسَ لَهَا عَلَى الْخُلُوصِ وَالْخُصُوصِ مَالٌ، وَكُلُّ مَصْرِفٍ قَصُرَ عَنْهُ الْمَالُ الْمُعَدُّ لَهُ، فَمَالُ الْمَصَالِحِ يَسْتَتِمُّهُ وَيَسْتَكْمِلُهُ، وَلَوْ فُرِضَ زَوَالُ الْحَاجَاتِ، وَارْتِفَاعُ الضَّرُورَاتِ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: فَاضِلُ مَالِ الْمَصَالِحِ يُبْنَى بِهِ الرِّبَاطَاتُ وَالْقَنَاطِرُ وَالْمَسَاجِدُ وَغَيْرُهَا مِنْ جِهَاتِ الْخَيْرِ. 358 - فَحَاصِلُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي مُنْقَرَضِ كُلِّ سَنَةٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، وَيُرَتِّبُ فِي اسْتِقْبَالِ السَّنَةِ الْمُنْتَظَرَةِ أَمْوَالَهَا. وَهَؤُلَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - مَا كَانُوا يَسْتَظْهِرُونَ بِأَمْوَالٍ وَذَخَائِرَ، وَهُمْ أُسْوَةُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي أُمُورِ الْإِمَامَةِ، إِنْ حَاوَلُوا السَّدَادَ وَالِاسْتِقَامَةَ.

359 - وَالَّذِي أَقْطَعُ بِهِ أَنَّ الْحَاجَاتِ إِذَا انْسَدَّتْ، فَاسْتَمْكَنَ الْإِمَامُ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ بِالِادِّخَارِ، فَحَتْمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَسْتُ أَرَى ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ التَّحَرِّي الَّتِي تَتَقَابَلُ فِيهَا مَسَالِكُ الظُّنُونِ. وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِظْهَارَ بِالْجُنُودِ وَالْعَسْكَرِ الْمَعْقُودَ عِنْدَ التَّمَكُّنِ حَتْمٌ، وَإِنْ بَعُدَ الْكُفَّارُ، وَتَقَاصَتِ الدِّيَارُ، لِأَنَّ الْخِطَّةَ إِذَا خَلَتْ عَنْ نَجْدَةٍ مُعَدَّةٍ، لَمْ نَأْمَنِ الْحَوَادِثَ وَالْبَوَائِقَ وَالْآفَاتِ وَالطَّوَارِقَ، وَإِذَا ارْتَبَطَ النَّظَرُ بِالْأَمْرِ الْكُلِّيِّ، وَآلَ الْخَوْفُ وَالِاسْتِشْعَارُ إِلَى الْبَيْضَةِ وَالْحَوْزَةِ، فَقَدْ عَظُمَ الْخَطَرُ، وَتَفَاقَمَ الْغَرَرُ، وَصَعُبَ مَوْقِعُ تَقْدِيرِ الزَّلَلِ وَالْخَطَلِ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِظْهَارُ بِالْجُنُودِ مَحْتُومًا، فَلَا مُعَوَّلَ عَلَى مَمْلَكَةٍ لَا مُعْتَضَدَ، وَلَا مُسْتَنَدَ لَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهَا شَوْفُ الرِّجَالِ، وَمُرْتَبَطُ الْآمَالِ، وَمَنْ أَلِفَ مَبَادِئَ النَّظَرِ فِي تَصَارِيفِ الْأَحْوَالِ فِي الْإِيَالَاتِ، لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْحَقِّ فِي هَذَا الْمَقَالِ. وَإِذَا كَانَ مَنْصِبُ الْإِمَامِ الْقَوَّامِ عَلَى طَبَقَاتِ الْأَنَامِ مُقْتَضِيًا أَنْ يَتَحَرَّى الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِنَظَرِ ذِي تَحْقِيقٍ أَنْ

يُبَدِّدَ الْأَمْوَالَ فِي ابْتِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالدَّسَاكِرِ، وَيَتْرُكَ مَا هُوَ مَلَاذُ الْعَسَاكِرِ؟ وَالْإِطْنَابُ فِي الْوَاضِحَاتِ سيُزْرِي بِذَوِي الْأَلْبَابِ. فَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى الْإِمَامِ الِاحْتِفَاظُ بِفَضَلَاتِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهَا تُنَزَّلُ مِنْ نَجْدَةِ الْإِسْلَامِ مَنْزِلَةَ السُّورِ مِنَ الثُّغُورِ. 360 - فَإِنْ قِيلَ: إِنِ احْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى مَالٍ أَخَذَهُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يَأْخُذُ مِنْهَا لَوْ صَفِرَ بَيْتُ الْمَالِ. قُلْنَا: هَذَا [ضَعْفٌ] بَيِّنٌ فِي الرَّأْيِ، وَانْحِلَالٌ وَاضِحٌ فِي النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ، وَلَا يَسْتَتِبُّ بِهَذَا النَّظَرِ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِسِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ، لَجَازَ أَلَّا يَسْتَظْهِرَ بِالْجُنُودِ الْمَعْقُودَةِ، وَيُعَوِّلَ عَلَى اسْتِنْفَارِ الْمُطَّوَّعَةِ، مَهْمَا عَنَّتْ حَاجَةٌ، وَأَلَمَّتْ مُلِمَّةٌ. وَهَذَا بَاطِلٌ لَا سَبِيلَ إِلَى الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ. 361 - وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ سِيَرِ الْخُلَفَاءِ، فَحَقٌّ عَلَى

الْمُنْتَهِي إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُنْعِمَ نَظَرَهُ، وَيُجَرِّدَ لِدَرْكِ [التَّحْقِيقِ] فِكْرَهَ، فَنَقُولُ: مَا كَانَتِ الْأَمْوَالُ تَبْلُغُ فِي زَمَنِهِمْ مَبْلَغًا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ ; فَإِنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بُلِيَ فِي مُعْظَمِ زَمَانِهِ بِقِتَالِ الرِّدَّةِ، وَمَا اتَّفَقَتْ مَغَانِمُ بِهَا اكْتِرَاثٌ وَاحْتِفَالٌ، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَمْرَ وَاتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْإِسْلَامِ، وَانْتَشَرَتْ رَايَاتُ الدِّينِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثُرَتِ الْغَزَوَاتُ، وَانْبَثَّتِ الدَّعَوَاتُ، وَكَسَرَ جُنْدُ الْإِسْلَامِ صَوْلَ كِسْرَى، وَقَصَّرَ طُولَ قَيْصَرَ، وَاسْتَمَدَّتِ الدَّوْلَةُ وَعَظُمَتِ الصَّوْلَةُ، وَوَفَرَتِ الْمَغَانِمُ، وَتَجَرَّدَتْ لِلْجِهَادِ وَالْعَزَائِمِ. وَأَلْقَتِ الْمَمَالِكُ إِلَى حُمَاةِ الْإِسْلَامِ مَقَالِيدَهَا، وَلَيَّنَتْ كُلُّ جَنَبَةٍ أَبِيَّةٍ لِلْأَحْكَامِ جِيدَهَا، وَفُتِحَتِ [الْكُوَرُ] وَالْأَمْصَارُ، وَكَثُرَ الْأَعْوَانُ [وَالْأَنْصَارُ] فَقَدْ يَعْتَقِدُ الْمُعْتَقِدُ إِمْكَانَ الِادِّخَارِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ:

362 - كَانَ مُعْظَمُ الْأَمْوَالِ غَنَائِمَ احْتَوَى عَلَيْهَا عَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَلَيْسَ يَخْفَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا مَصْرُوفَةٌ إِلَى الْمُصْطَلِينَ بِنَارِ الْقِتَالِ: أَسْلَابًا، وَسِهَامًا، وَأَرْضَاخًا. وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَتَّبَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ حُمَاةً وَكُفَاةً، وَأُمَرَاءَ وَوُلَاةً، وَوَلَّاهُمْ أُمُورَ الْأَمْوَالِ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ الْأَحْكَامَ عَلَى تَصَارِيفِ الْأَحْوَالِ، وَرَسَمَ لَهُمْ مَرَاسِمَ يَقْتَدُونَ بِهَا، وَنَصَبَ لَهُمْ مَعَالِمَ فِي أَخْمَاسِ الْمَغَانِمِ يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، وَكَانُوا يَبُثُّونَ مَا يَتَّفِقُ مِنْ مَالٍ فِي الْعَسَاكِرِ الْمُرْتَزِقَةِ الْمُتَرَتِّبِينَ فِي النَّاحِيَةِ، فَلَا يَفْضُلُ إِلَّا النَّزْرَ، ثُمَّ مَا كَانَ يَفْضُلُ، وَيُجْبَى إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُفَرِّقُهُ عَلَى الَّذِينَ فِي جَزَائِرِ الْعَرَبِ، وَيَتَتَبَّعُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كُلَّ سَبَبٍ. فَمَا كَانَ يَفْضُلُ وَيُجْبَى مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَجْنِيَّةِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي انْقِضَاءِ السَّنَةِ [مَا يَفْرِضُ] ذَخِيرَةً. 363 - وَلَمَّا ضُرِبَ الْخَرَاجُ عَلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ جَرَى الْأَمْرُ فِي

الْأَمْوَالِ الْمُسْتَفَادَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذْ كَانَ كَثُرَ الْجُنْدُ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَهُمُ النَّجْدَةُ الْكُبْرَى فِي وَجْهِ الرُّومِ وَمُلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَأَعْنَاقُهُمْ [صُورٌ] إِلَى بِلَادِ الشَّرْقِ، وَسَائِرِ الْأَكْنَافِ. وَلَا نَقْطَعُ بِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ خَلَا فِي زَمَانِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ الْأَمْوَالِ، بَلْ نَظُنُّ ظَنًّا غَالِبًا أَنَّهُ كَانَ اسْتَظْهَرَ بِذَخَائِرَ، عَلَى تَطَلُّعٍ إِلَى الْعَوَاقِبِ وَبَصَائِرَ، حَتَّى اشْرَأَبَّتِ الْفِتَنُ، وَثَارَتِ الْمِحَنُ، وَاضْطَرَبَ الزَّمَنُ، وَتَقَلْقَلَتِ الْخِلَافَةُ فِي نِصَابِهَا، وَأُصِيبَتِ الْمِلَّةُ بِسَنَدِهَا وَنَابِهَا، وَمَا اتَّسَقَ بَعْدَهُ أَمْرٌ، وَمَا اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ يُعْهَدُ عَصْرٌ. وَلَمْ يَتَفَرَّغْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مِنْ مُصَادَمَةِ الْبُغَاةِ، وَمُكَاوَحَةِ الطُّغَاةِ، إِلَى تَجْهِيزِ الْغُزَاةِ، وَجَرَتْ هَنَاةٌ عَلَى أَثَرِ هَنَاةٍ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ مَقْتَلِهِ رَسْمُ الْخِلَافَةِ مَرْفُوضًا، وَانْقَلَبَ الْأَمْرُ مُلْكًا

عَضُوضًا، وَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ وَالزَّمَانُ، وَاللَّهُ جَلَّتْ (135) قُدْرَتُهُ أَعْلَمُ بِمَا جَرَى وَكَانَ. 364 - فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَاذَا تَحْمِلُونَ الْأَمْرَ فِي زَمَانِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْنَا: كَانَ صَحْبُهُ الْأَكْرَمُونَ الْأَنْصَارُ وَالْمُهَاجِرُونَ لَمَّا نُدِبُوا إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [تَعَالَى] ، وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ يُصَادِمُونَ الْمَارِقِينَ عَلَى الضُّرِّ [وَاللَّأْوَاءِ] ، وَيَطِيرُونَ إِلَى الْغَزَوَاتِ صَابِرِينَ عَلَى الْبَأْسَاءِ، وَمُعْظَمُهُمْ فِي مُلْتَطِمِ أَهْوَالِ الْقِتَالِ رِجَالٌ، وَجَرَتْ نَهَضَاتٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَعِزَّةِ فِي رَمْضَاءِ الْحِجَازِ حُفَاةٌ، وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَمِدُّ مِنْ أَمْوَالِ الْمُوسِرِينَ فِي تَجْهِيزِ الْمُجَاهِدِينَ، إِذَا أَهَمَّ أَمْرٌ، وَادْلَهَمَّ خَطْبٌ، كَمَا جَرَى فِي تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ. وَهَذَا الْمِقْدَارُ فِيهِ إِقْنَاعٌ وَعِبْرَةٌ. 365 - فَأَمَّا الْآنُ فَقَدِ اتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ عَلَى الِازْدِيَادِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَمَرِّ الْأَيَّامِ، وَلِكُلِّ زَمَانٍ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ. وَنَحْنُ عَلَى ارْتِجَالٍ مِنْ عُقُولِنَا نَعْلَمُ فِيمَا نَمْضِي، وَنَحْكُمُ أَنَّ صَاحِبَ الْأَمْرِ لَوْ لَمْ

فصل ما الحكم إذا صفرت يد راعي الرعية

يَجْعَلِ الِاسْتِظْهَارَ بِالِادِّخَارِ أَكْثَرَ هَمِّهِ عِنْدَ الْإِيثَارِ، وَاطِّرَادِ أَسْبَابِ الِاخْتِيَارِ - لَعَظُمَ الْفَتْقُ، وَعَسُرَ الرَّتْقُ، وَأَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عَظَائِمَ لَا يُحِيطُ بِهَا مَجَارِي الْأَفْكَارِ. فَهَذَا الْقَدْرُ فِيهِ مَقْنَعٌ وَبَلَاغٌ، وَلِلِازْدِيَادِ عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مُضْطَرَبٌ رَحْبٌ وَمَسَاغٌ. وَقَدِ انْتَهَى الْمَرَامُ، وَغَرَضُ الْكَلَامِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَرْجَمَةِ أَوَّلًا فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ. [فَصْلٌ ما الحكم إذا صفرت يد راعي الرعية] [فَصْلٌ] 366 - فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْهَا، وَهُوَ أَهَمُّهَا. فَالْغَرَضُ ذِكْرُ مَا تَقْتَضِيهِ الْإِيَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالسِّيَاسَةُ الدِّينِيَّةُ فِيهِ، إِذَا صَفِرَتْ يَدُ رَاعِي الرَّعِيَّةِ عَنِ الْأَمْوَالِ، وَالْحَاجَاتُ مَاسَّةٌ. فَلَيْتَ شِعْرِي، كَيْفَ الْحُكْمُ (136) وَمَا وَجْهُ الْقَضِيَّةِ؟ فَإِنِ ارْتَقَبَ الْإِمَامُ حُصُولَ أَمْوَالٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ، ضَاعَ رِجَالُ الْقِتَالِ، وَجَرَّ ضَيَاعُهُمْ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ.

وَإِنِ اسْتَرْسَلَ فِي مَدِّ الْيَدِ إِلَى مَا يُصَادِفُهُ مِنْ مَالٍ مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ أَفْضَى إِلَى الِانْحِلَالِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الشَّرْعِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا سَبَقَ، أَنَّا لَا نُحْدِثُ لِتَرْبِيَةِ الْمَمَالِكِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِصْوَابِ مَسَالِكَ، لَا يُرَى لَهَا مِنْ شِرْعَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدَارِكُ. 367 - فَإِنْ بُلِيَ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَلْيَتَّئِدْ، وَلِيُنْعِمِ النَّظَرَ هُنَالِكَ فَقَدَ دُفِعَ إِلَى [خَطْبَيْنِ عَظِيمَيْنِ] : [أَحَدُهُمَا]- تَعْرِيضُ الْخُطَّةِ لِلضَّيَاعِ. [وَالثَّانِي]- أَخْذُ أَمْوَالٍ فِي غَيْرِ إِسْنَادِ اسْتِحْقَاقِهِ إِلَى مُسْتَنَدٍ مَعْرُوفٍ مَأْلُوفٍ. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ وَالتَّيْسِيرِ وَهُوَ بِإِسْعَافِ رَاجِيهِ جَدِيرٌ. 368 - فَنَقُولُ: إِذَا خَلَا بَيْتُ الْمَالِ انْقَسَمَتِ الْأَحْوَالُ، وَنَحْنُ نُرَتِّبُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَنَأْتِي فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا بِمَا هُوَ مَأْخَذُ الْأَحْكَامِ. وَطَرْحُ الْقَضَايَا السِّيَاسِيَّةِ بِالْمُوجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا يَخْلُو الْحَالُ، وَقَدْ صَفِرَ بَيْتُ الْمَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ:

أَحَدُهَا - أَنْ يَطَأَ الْكُفَّارُ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - دِيَارَ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي - أَلَّا يَطَئُوهَا، وَلَكِنَّا نَسْتَشْعِرُ مِنْ جُنُودِ الْإِسْلَامِ اخْتِلَالًا، وَنَتَوَقَّعُ انْحِلَالًا وَانْفِلَالًا، لَوْ لَمْ نُصَادِفْ مَالًا، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِجْرَاءُ الْكُفَّارِ فِي الْأَقْطَارِ، وَتَشَوُّفُهُمْ إِلَى وَطْءِ أَطْرَافِ الدِّيَارِ. وَالثَّالِثُ - أَنْ يَكُونَ جُنُودُ الْإِسْلَامِ فِي الثُّغُورِ وَالْمَرَاصِدِ عَلَى أُهَبٍ وَعَتَادٍ، وَشَوْكَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ، لَوْ وَقَفُوا، وَلَوْ نُدِبُوا لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، لَاحْتَاجُوا إِلَى ازْدِيَادٍ فِي الِاسْتِعْدَادِ، وَفَضْلِ اسْتِمْدَادٍ، وَلَوْ لَمْ يُمَدُّوا لَانْقَطَعُوا عَنِ الْجِهَادِ (137) . فَهَذِهِ التَّقَاسِيمُ قَاعِدَةُ الْفَصْلِ: فَلْنَقُلْ فِيهَا أَوَّلًا، وَلْنَذْكُرْ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مُعَوِّلًا ثُمَّ نَنْظُرْ إِلَى مَا وَرَاءَهَا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا نُحَاوِلُهُ مِنَ الْبَيَانِ. 369 - فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ الْكُفَّارُ دِيَارَ الْإِسْلَامِ، فَقَدِ اتَّفَقَ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخِفُّوا وَيَطِيرُوا إِلَى مُدَافَعَتِهِمْ زَرَافَاتٍ وَوِحْدَانًا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَنَّ الْعَبِيدَ يَنْسَلُّونَ

عَنْ رِبْقَةِ طَاعَةِ السَّادَةِ، وَيُبَادِرُونَ الْجِهَادَ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا دِينُ [اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، دِينُ] الْأُمَّةِ، وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ، فَأَيُّ مِقْدَارٍ لِلْأَمْوَالِ فِي هُجُومِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَهْوَالِ، لَوْ مَسَّتْ إِلَيْهَا الْحَاجَةُ، وَأَمْوَالُ الدُّنْيَا لَوْ قُوبِلَتْ بِقَطْرَةِ دَمٍ، لَمْ تَعْدِلْهَا، وَلَمْ تُوَازِنْهَا. فَإِذَا وَجَبَ تَعْرِيضُ الْمُهَجِ لِلتَّوَى، وَتَعَيَّنَ فِي مُحَاوَلَةِ الْمُدَافَعَةِ التَّهَاوِي عَلَى وَرَطَاتِ الرَّدَى، وَمُصَادَمَةِ الْعِدَا، وَمَنْ أَبْدَى فِي ذَلِكَ تَمَرُّدًا فَقَدْ ظَلَمَ وَاعْتَدَى. 370 - فَإِذَا كَانَتِ الدِّمَاءُ تَسِيلُ عَلَى حُدُودِ الظُّبَّاتِ، فَالْأَمْوَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْمُسْتَحْقَرَاتِ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَجْمَعُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ فِي الزَّمَانِ مُضَيَّعُونَ فُقَرَاءُ مُمْلِقُونَ تَعَيَّنَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ أَنْ يَسْعَوْا فِي كِفَايَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا كَافَّةً عَلَى وُجُوبِ بَذْلِ الْأَمْوَالِ فِي تَجْهِيزِ الْمَوْتَى وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَاتِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَلَاحَ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَبْذُلُوا فَضَلَاتِ أَمْوَالِهِمْ

- كَمَا سَنُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ -، حَتَّى تَنْجَلِيَ هَذِهِ الدَّاهِيَةُ، وَتَنْكَفَّ الْفِئَةُ الْمَارِقَةُ الطَّاغِيَةُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْقِدَ النَّاظِرُ الْآنَ فِكْرَهُ بِالتَّفْصِيلِ ; فَأَنَا بَعْدُ فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّأْصِيلِ. وَسَيَأْتِي فِي شَرْحِ ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ التَّعْوِيلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَهَذَا بَيَانُ مِقْدَارِ غَرَضِنَا الْآنَ، إِذَا وَطِئَ الْكُفَّارُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ. 371 - فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجْرِ ذَلِكَ بَعْدُ، وَلَكِنَّا نُحَاذِرُهُ وَنَسْتَشْعِرُهُ لِانْقِطَاعِ مَوَادِّ الْأَمْوَالِ، وَاخْتِلَالِ الْحَالِ، وَإِشَارَةِ الزَّمَنِ إِلَى سُوءِ الْمَغَبَّاتِ فِي الْمَآلِ، وَلَوْ لَمْ نَتَدَارَكْ مَا نَخَافُ وُقُوعَهُ لَوَقَعَ فِي غَالِبِ الظَّنِّ، فَهَذَا الْفَنُّ مُلْحَقٌ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَطْعًا. وَلَا يَحِلُّ فِي الدِّينِ تَأْخِيرُ النَّظَرِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ إِلَى اتِّفَاقِ اسْتِجْرَاءِ الْكَافِرِينَ. وَلَوْ فُرِضَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ تَوَقُّفٌ وَتَمَكُّثٌ، لَانْحَلَّ الْعِصَامُ وَانْتَثَرَ النِّظَامُ، وَالدَّفْعُ أَهْوَنُ مِنَ الرَّفْعِ وَأَمْوَالُ [الْعَالَمِينَ] لَا تُقَابِلُ غَائِلَةَ وَطْأَةِ الْكُفَّارِ فِي قَرْيَةٍ مِنْ

قُرَى الدِّيَارِ، وَفِيهَا سَفْكُ دَمِ الْمُسْلِمِينَ، أَوِ امْتِدَادُ يَدٍ إِلَى الْحُرَمِ، وَلَوْ وَقَعَ وَتَمَّ، فَلَا مُسْتَدْرَكَ لَمَا انْقَضَى وَتَقَدَّمَ، إِلَّا التَّأَسُّفُ وَقَرْعُ سِنِّ النَّدَمِ، فَإِذَنْ يَلْتَحِقُ هَذَا الْقِسْمُ بِمَا تَقَدَّمَ. 372 - فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ - وَهُوَ أَلَّا نَخَافَ مِنَ الْكُفَّارِ هُجُومًا، لَا خُصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ وَلَا عُمُومًا. وَلَكِنِ الِانْتِهَاضُ إِلَى الْغَزَوَاتِ وَالِانْتِدَابُ لِلْجِهَادِ فِي الْبِلَادِ يَقْتَضِي مَزِيدَ عَتَادٍ وَاسْتِعْدَادٍ، فَهَلْ يُكَلِّفُ الْإِمَامُ الْمُثْرِينَ وَالْمُوسِرِينَ أَنْ يَبْذُلُوا مَا يَسْتَعِدُّونَ بِهِ؟ هَذَا مَوْقِعُ النَّظَرِ، وَمَجَالُ الْفِكَرِ. ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُهُمْ ذَلِكَ، بَلْ يَرْتَقِبُ فِي تَوْجِيهِ الْعَسَاكِرِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْأَمْوَالِ. 373 - وَالَّذِي أَخْتَارُهُ قَاطِعًا بِهِ أَنَّ الْإِمَامَ يُكَلِّفُ الْأَغْنِيَاءَ مِنْ بَذْلِ فَضَلَاتِ الْأَمْوَالِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ وَالْغِنَاءُ ; فَإِنَّ إِقَامَةَ الْجِهَادِ فَرْضٌ عَلَى الْعِبَادِ، وَتَوْجِيهَ الْأَجْنَادِ عَلَى أَقْصَى الْإِمْكَانِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْبِلَادِ مَحْتُومٌ لَا تَسَاهُلَ فِيهِ. وَمَا أَقْرَبَ تَقَاعُدَنَا عَنْهُمْ إِلَى مَسِيرِهِمْ إِلَيْنَا وَاسْتِجْرَائِهِمْ عَلَيْنَا.

وَإِذَا كُنَّا لَا نُسَوِّغُ تَعْطِيلَ شَيْءٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَأَحْرَى فَنُونِهَا بِالْمُرَاعَاةِ الْغَزَوَاتُ. وَالْأُمُورُ فِي الْوِلَايَاتِ إِذَا لَمْ تُؤْخَذُ مِنْ مَبَادِيهَا جَرَّتْ أُمُورًا يَعْسُرُ تَدَارَكُهَا عِنْدَ تَمَادِيهَا. وَقَدْ أَجْرَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الدُّنْيَا تَبَعُ الدِّينِ، وَأَنَّ صَاحِبَنَا بُعِثَ لِتَأْسِيسِ الدِّينِ، وَتَأْدِيَةِ الرِّسَالَةِ، وَالْإِبْلَاغِ وَالِاكْتِفَاءِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا بِبَلَاغٍ، فَمِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ تَرْكُ الْأَجْنَادِ، وَتَعْطِيلُ الْجِهَادِ، وَانْحِصَارُ الْعَسَاكِرِ فِي الثُّغُورِ. 374 - فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ تَمْتَدُّ يَدُ الْإِمَامِ إِلَى أَمْوَالِ الْمُوسِرِينَ عِنْدَ الْهَمِّ بِتَجْهِيزِ الْأَجْنَادِ إِلَى الْجِهَادِ، فَمَا قَوْلُكُمْ فِيهِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُرْتَزِقَةِ كِفَايَتُهُمْ وَعُدَّتُهُمْ فِي إِقَامَتِهِمْ وَنَهْضَتِهِمْ، وَمُرَابَطَتِهِمْ وَغَزْوَتِهِمْ، فِي أَوَانِهَا وَإِبَّانِهَا وَلَكِنْ خَلَا بَيْتُ الْمَالِ

أَوْ كَادَ أَنْ يَخْلُوَ وَخَافَ الْإِمَامُ غَائِلَةً هَائِلَةً مِنْ خُلُوِّ بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ [عَكْرَةِ الْكُفَّارِ] ، أَوْ دَبْرَةٍ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ النَّافِعُ الْوَاقِعُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِظْهَارِ بِالذَّخَائِرِ، وَتَنْزِيلِ إِعْدَادِ الْمَالِ مَنْزِلَةَ إِعْدَادِ الرِّجَالِ، وَلَوْ وَهَتْ كِفَايَةُ الرِّجَالِ، امْتَدَّتْ يَدُ الْإِمَامِ إِلَى الْأَمْوَالِ. وَالذَّخِيرَةُ إِحْدَى الْعُدَّتَيْنِ. فَمَا الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ؟ 375 - قُلْتُ: هَذَا الْآنَ دُونَ التَّقْسِيمِ الْأَخِيرِ الَّذِي تَقَرَّرَ نِجَازُهُ فَإِنَّ الْمُرْتَزِقَةَ، إِذَا لَزِمُوا الثُّغُورَ وَالْمَرَاصِدَ، وَتَقَاعَدُوا عَنِ الِانْبِعَاثِ إِلَى الْمَقَاصِدِ، كَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا تَعْطِيلَ الْجِهَادِ نَاجِزًا. وَفِيهِ خَصْلَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ مُعْظَمَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ مِمَّا تَحْوِيهِ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكَافِرِينَ فَإِذَا انْقَطَعَ (140) الْجِهَادُ،

انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِهِ وُجُوهُ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَنْصَبُّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَيَتَدَاعَى ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَالٍ وَانْحِلَالٍ، يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْمُرَابَطَةُ ; فَإِنَّ الْمُؤَنَ إِذَا كَانَتْ دَارَّةً بِجِمَامِهَا، وَقَدْ [أَكْدَتِ] الْمَطَالِبُ، وَعَسُرَتْ وُجُوهُهَا ; لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي نَظَرٍ فِي الْعَوَاقِبِ - إِفْضَاءُ الْأَمْرِ عَلَى قُرْبٍ وَكَثَبٍ، إِلَى انْقِطَاعِ أَصْلِ السَّبَبِ. 376 - وَالْقَيِّمُ الْمَنْصُوبُ فِي مَالِ طِفْلٍ مَأْمُورٌ بِأَلَّا [يُقْصِرَ] نَظَرَهُ عَلَى ضَرُورَةِ حَالَةٍ، بَلْ يَنْظُرُ فِي حَالِهِ بِاسْتِنْمَاءِ مَالِهِ، وَطَلَبِ الْأَغْبَطِ، فَالْأَغْبَطِ فِي جَمِيعِ أَمْوَالِهِ وَلَيْسَ أَمْرُ كُلِّيِّ [الْمِلَّةِ] بِأَقَلَّ مَنْ أَمْرِ طِفْلٍ، وَلَا نَظَرُ الْإِمَامِ الْقَوَّامِ عَلَى خُطَّةِ الْإِسْلَامِ بِأَقْصَرَ نَظَرًا وَفِكْرًا مِنْ قَيَّمٍ. وَهَذَا وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِمَدْرِكِهِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْجِهَادِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ جُنُودُ الْإِسْلَامِ مُشَمِّرِينَ لِلْجِهَادِ، فَالْوُجُوهُ الَّتِي

مِنْهَا تَنْتَظِمُ الْأَمْوَالُ غَيْرُ مُنْحَسِمَةٍ، وَالْأَحْوَالُ مُتَّسِقَةٌ مُنْتَظِمَةٌ فَيَبْعُدُ تَنْجِيزُ التَّعَرُّضِ لِأَمْوَالِ النَّاسِ لِأَمْرٍ مُقَدَّرٍ عَلَى نَأْيٍ وَبُعْدٍ. وَلَا يَنْجَلِي هَذَا الْفَصْلُ حَتَّى أَذْكُرَ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ أَمْرًا يُوَضِّحُ الِانْفِصَالَ عَمَّا تَضَمَّنَهُ هَذَا السُّؤَالُ مِنَ الْإِشْكَالِ. وَلَكِنَّ الَّذِي ذَكَرْتُهُ الْآنَ فِيهِ بِلَاغٌ وَاسْتِقْلَالٌ. 377 - فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ فِي التَّقَاسِيمِ الَّتِي قَدَّمْتُمْ أَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَمِدُّ مِنْ أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، فَأَبِينُوهُ وَفَصِّلُوهُ، وَبُوحُوا بِالْغَرَضِ [وَحَصِّلُوهُ] وَأَوْضِحُوا الْمَآخِذَ وَالْوُجُوهَ. قُلْنَا: قَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ فِي مَقْصُودِ الْفَصْلِ إِلَى غَمْرَةٍ تُغْرِقُ الْجَهُولَ، وَتُحَيِّرُ الْعُقُولَ، وَمَا أَرَاهَا تُخِيضُ إِلَّا مَنْ كَانَ التَّوْفِيقُ مَطِيَّتَهُ وَالِابْتِهَالُ إِلَى اللَّهِ طَوِيَّتَهُ، وَالتَّبَحُّرُ فِي بُحُورِ الْعُلُومِ عُدَّتَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى خَطَرِهِ وَغَرَرِهِ، ثُمَّ نَنْدَفِعُ فِي دُرَرِ الْكَلَامِ وَغَرَرِهِ، فَالْخَائِضُ فِيمَا انْتَهَى الْكَلَامُ (141) إِنْ لَمْ يُعْصَمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ الْقَدَمُ، بَيْنَ شَوْفَيْنِ عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إِلَى طَرَفَيْنِ: فَإِنْ وَقَعَ

قضية جديدة كيف أفتى فيها إمام الحرمين

نَظَرُهُ فِي الِانْكِفَافِ عَنِ الْأَمْوَالِ، الْتَزَمَ مَصِيرَ الْإِسْلَامِ إِلَى أَسْوَأِ الْمَصَايِرِ وَالْأَحْوَالِ. وَإِنِ اسْتَرْسَلَ فِي إِطْلَاقِ الْأَيْدِي فِي الْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ اقْتِصَادٍ، انْتَصَبَ إِلَى إِحْدَاثِ مُطَالَبَاتٍ كُلِّيَّةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْقَضَايَا الشَّرْعِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّدَابِيرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَنِ الشَّرْعِ صَدْرٌ فَالْهُجُومُ عَلَيْهَا خَطَرٌ. ثُمَّ قُصَارَاهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُقَيَّدَةً بِمَرَاسِمِ الْإِسْلَامِ، مُؤَيَّدَةً بِمُوَافَقَةِ مَنَاظِمِ الْأَحْكَامِ - ضَرَرٌ. [قضية جديدة كيف أفتى فيها إمام الحرمين] 378 - فَأَعُودُ وَأَقُولُ: لَسْتُ [أُحَاذِرُ] إِثْبَاتَ حُكْمٍ لَمْ يُدَوِّنْهُ الْفُقَهَاءُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْعُلَمَاءُ، فَإِنَّ مُعْظَمَ مَضْمُونِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُلْفَى مُدَوَّنًا فِي كِتَابٍ، وَلَا مُضَمَّنًا لِبَابٍ. وَمَتَى انْتَهَى مَسَاقُ الْكَلَامِ إِلَى أَحْكَامٍ نَظَّمَهَا أَقْوَامٌ، أَحَلْتُهَا عَلَى أَرْبَابِهَا وَعَزَيْتُهَا إِلَى كُتَّابِهَا. وَلَكِنِّي لَا أَبْتَدِعُ، وَلَا أَخْتَرِعُ شَيْئًا، بَلْ أُلَاحِظُ وَضْعَ الشَّرْعِ، وَأَسْتَثِيرُ مَعْنًى يُنَاسِبُ مَا أَرَاهُ وَأَتَحَرَّاهُ. وَهَكَذَا سَبِيلُ التَّصَرُّفِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُسْتَجَدَّةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِيهَا أَجْوِبَةُ الْعُلَمَاءِ مُعَدَّةً، وَأَصْحَابُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَسَلَّمَ]- وَرَضِيَ عَنْهُمْ، لَمْ يَجِدُوا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا نُصُوصًا مَعْدُودَةً وَأَحْكَامًا مَحْصُورَةً

مَحْدُودَةً، ثُمَّ حَكَمُوا فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ عَنَّتْ، وَلَمْ يُجَاوِزُوا وَضْعَ الشَّرْعِ، وَلَا تَعَدَّوْا حُدُودَهُ ; فَعَلَّمُونَا أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَنَاهَى فِي الْوَقَائِعِ، وَهِيَ مَعَ انْتِفَاءِ النِّهَايَةِ عَنْهَا صَادِرَةٌ عَنْ قَوَاعِدَ مَضْبُوطَةٍ. 379 - فَلْيَكُنِ الْكَلَامُ فِي الْأَمْوَالِ وَقَدْ صَفِرَ بَيْتُ الْمَالِ وَاقِعَةً لَا يُعْهَدُ فِيهَا لِلْمَاضِينَ مَذْهَبًا، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مَطْلَبًا، وَلْنَجْرِ فِيهِ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ (142) الْأَوَّلُونَ إِذْ دُفِعُوا إِلَى وَقَائِعَ لَمْ يَكُونُوا يَأْلَفُوهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ لَهُمْ مَذَاهِبُ، وَلَمْ يَعْرِفُوهَا. وَإِذَا اسْتَدَّ النَّاظِرُ، اسْتَوَى الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ. فَنَقُولُ: 380 - لِلنَّاسِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا - أَنْ يَعْدِمُوا قُدْوَةً وَأُسْوَةً وَإِمَامًا يَجْمَعُ شَتَاتَ الرَّأْيِ، وَيُرَدُّوا إِلَى الشَّرْعِ الْمُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ وَحَادٍ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ، فَمُوجِبُ الشَّرْعِ وَالْحَالَةِ هَذِهِ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ أَنْ يَحْرَجَ الْمُكَلَّفُونَ الْقَادِرُونَ لَوْ عَطَّلُوا فَرْضًا وَاحِدًا، وَلَوْ أَقَامَهُ مَنْ فِيهِ الْكِفَايَةُ، سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ. فَلَا يَثْبُتُ لِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ

تَوْجِيهُ الطَّلَبِ عَلَى آخَرِينَ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مُنْقَسِمِينَ إِلَى دَاعٍ وَمَدْعُوٍّ، وَحَادٍ وَمَحْدُوٍّ، وَلَيْسَ [الْفَرْضُ] مُتَعَيِّنًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، فَلَا يُعْقَلُ تَثْبِيتُ التَّكْلِيفِ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مَعَ عَدَمِ الْوَالِي إِلَّا كَذَلِكَ. 381 - فَلْيُضْرَبْ فِي ذَلِكَ الْجِهَادُ مَثَلًا، فَنَقُولُ: لَوْ شَغَرَ الزَّمَانُ عَنْ وَالٍ، تَعَيَّنَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِمُجَاهَدَةِ الْجَاحِدِينَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ عُصَبٌ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ ; [فَهَذَا] إِذَا عَدِمُوا وَالِيًا. 382 - فَأَمَّا إِذَا وَلِيَهُمْ إِمَامٌ مُطَاعٌ، فَإِنَّهُ يَتَوَلَّى جَرَّ الْجُنُودِ وَعَقْدَ الْأَلْوِيَةِ وَالْبُنُودِ، وَإِبْرَامَ الذِّمَمِ وَالْعُهُودِ. وَلَوْ نَدَبَ طَائِفَةً إِلَى الْجِهَادِ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ مُبَادَرَةُ الِاسْتِعْدَادِ، مِنْ غَيْرِ تَخَاذُلٍ وَتَوَاكُلٍ وَاتِّئَادٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ مَا نُدِبْنَا إِلَيْهِ مُتَعَيِّنًا عَلَيْنَا ; فَلْيَقُمْ بِهِ غَيْرُنَا، فَإِنَّا قَدْ أَثْبَتْنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا نَصَبُوا وَالِيًا يُدَبِّرُهُمْ فِي إِصْدَارِهِمْ وَإِيرَادِهِمْ تَدْبِيرَ الْآبَاءِ فِي أَوْلَادِهِمْ.

وَلَوْ سَاغَ مُقَابَلَةُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِمَا يُوهِي شَأْنَهُ وَيُوهِيهِ، لَمَا اسْتَتَبَّ لَهُ مَقْصِدٌ فِيمَا يَذَرُهُ وَيَأْتِيهِ، وَلَأَفْضَى إِلَى عُسْرٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَلَافِيهِ. وَلَوْ وَكَلَ [كُلُّ] مَنْدُوبٍ (143) ارْتِسَامَ مَرَاسِمِ الْوَالِي الْمَنْصُوبِ إِلَى غَيْرِهِ، لَمَا اسْتَقَرَّتْ لِلْإِمَامِ طَاعَةٌ فِي سَاعَةٍ. فَإِذَا رَأَى الْوَالِي الْمَنْصُوبُ رَأْيًا مِنْ هَذَا الْفَنِّ كَانَ مُتَّبَعًا، وَلَمْ تَجِدِ الرَّعَايَا دُونَ اتِّبَاعِهِ مَحِيدًا وَمُتَّسَعًا. 383 - فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، بَنَيْنَا عَلَيْهِ أَمْرَ الْمَالِ قَائِلِينَ: لَوْ شَغَرَتِ الْأَيَّامُ عَنْ قِيَامِ إِمَامٍ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ، وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ فِي إِقَامَةِ الْجِهَادِ إِلَى مَالٍ وَعَتَادٍ، وَأُهَبٍ وَاسْتِعْدَادٍ، كَانَ وُجُوبُ بَذْلِهِ عِنْدَ تَحْقِيقِ الْحَاجَاتِ عَلَى مِنْهَاجِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَلَيْسَتِ الْأَمْوَالُ بِأَعَزَّ مِنَ الْمُهَجِ الَّتِي يَجِبُ تَعْرِيضُهَا لِلْأَغْرَارِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الرَّدَى وَالتَّوَى. 384 - فَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَانِ وَزَرٌ يُلَاذُ بِهِ. فَإِذَا سَاسَ الْمُسْلِمِينَ وَالٍ، وَصَفِرَتْ يَدُهُ عَنْ عُدَّةٍ وَمَالٍ، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ بَعْضَ الْمُوسِرِينَ لِبَذْلِ مَا تَقْتَضِيهِ ضَرُورَةُ الْحَالِ، لَا مَحَالَةَ،

كَمَا يَنْدُبُ مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِلِانْتِدَابِ. فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَبْعِدَ الْمَرْءُ حُكْمَ الْإِمَامِ فِي فَلْسِهِ مَعَ [نُفُوذِ] حُكْمِهِ فِي رُوحِهِ وَنَفْسِهِ. 385 - وَلَسْتُ أَقُولُ ذَلِكَ عَنْ حُسْبَانٍ وَمُخَالَجَةِ رَيْبٍ، بَلْ أَقْطَعُ بِهِ عَلَى الْغَيْبِ. وَسَيَزْدَادُ ذَلِكَ وُضُوحًا وَانْشِكَافًا إِذَا ذَكَرْتُ مِنْ تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَطْرَافًا، وَكَيْفَ يَبْعُدُ مَدْرَكُ ذَلِكَ عَلَى الْفَطِنِ الْأَرِيبِ، وَفِي أَخْذِ فَضَلَاتٍ مِنْ أَمْوَالِ رِجَالٍ تَخْفِيفُ أَعْبَاءٍ عَنْهُمْ وَأَثْقَالٍ، وَإِقَامَةُ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى أُبَّهَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي أَحْسَنِ حَالٍ. وَلَوْ لَمْ يَتَدَارَكِ الْإِمَامُ مَا اسْتَرَمَّ مِنْ سُورِ الْمَمَالِكِ، لَأَشْفَى الْخَلَائِقُ عَلَى وَرَطَاتِ الْمَهَالِكِ، وَلَخِيفَتْ خَصْلَةٌ لَوْ تَمَّتْ -[لَا كَانَتْ وَلَا أَلَمَّتْ] لَكَانَ أَهْوَنُ فَائِتٍ فِيهَا أَمْوَالَ الْأَغْنِيَاءِ، وَقَدْ يَتَعَدَّاهَا إِلَى إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَهَتْكِ السُّتُورِ، وَعَظَائِمِ الْأُمُورِ. 386 - فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَاهُ (144) فَلْنَقُلْ بَعْدَهُ: لَيْسَ لِلْإِمَامِ [فِي] شَيْءٍ مِنْ مَجَارِي الْأَحْكَامِ أَنْ يَتَهَجَّمَ وَيَتَحَكَّمَ، فِعْلَ مَنْ يَتَشَهَّى وَيَتَمَنَّى، وَلَكِنَّهُ يَبْنِي أُمُورَهُ كُلَّهَا، دِقَّهَا وَجُلَّهَا، عَقْدَهَا

وَحَلَّهَا عَلَى وَجْهِ الرَّأْيِ وَالصَّوَابِ فِي كُلِّ بَابٍ، فَلَا يَنْدُبُ قَوْمًا لِلْجِهَادِ إِلَّا إِذَا رَأَى تَعَيُّنَهُمْ مَنْهَجَ الرَّشَادِ، وَمَسْلَكَ السَّدَادِ، ثُمَّ يَحْزُبُ النَّاسَ حِزْبًا، وَيَجْعَلُ نَدْبَهُمْ إِلَى الْجِهَادِ نُوَبًا، وَكَذَلِكَ يُجَهِّزُ إِلَى كُلِّ جِيلٍ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يَلِيهِمْ فِي صَوْبِ تِلْكَ الدِّيَارِ. وَهَذَا يُغْنِي وُضُوحُهُ فِي طُرُقِ الْإِيَالَةِ عَنِ الْإِطْنَابِ وَالْإِطَالَةِ. 387 - وَالْأَمْرُ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ يَجْرِي عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَلْيُشِرْ [عَلَى أَغْنِيَاءَ كَلِّ] صُقْعٍ بِأَنْ يَبْذُلُوا مِنَ الْمَالِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِقْلَالُ. وَلَيْسَ لِتَفَاصِيلِ الرَّأْيِ غَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، فَلْيَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ كُلَّهُ رَأْيَهُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ [لَيْسَ] حَصْرًا وَضَبْطًا فِي الْمَقَالِ، وَلَكِنَّا جِئْنَا بِهِ ضَرْبًا لِلْأَمْثَالِ، وَعَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بَعْدَ عَوْنِ اللَّهِ الِاتِّكَالُ فِي مُضْطَرَبِ الْأَحْوَالِ. 388 - وَمِنْ تَتِمَّةِ الْقَوْلِ فِي هَذَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا وَجَدُوا مُعَاذًا

وَاتَّخَذُوا لِمُهِمَّاتِهِمْ مَلَاذًا، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُضَادَّتُهُ وَمُرَادَّتُهُ، وَمُعَانَدَتُهُ وَمُحَادَثَتُهُ. فَإِنْ رَأَى إِذَا وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ عَامَّةٌ، وَدَاهِيَةٌ مُطْبِقَةٌ لِلْخُطَّةِ طَامَّةٌ، وَمَسَّتِ الضَّرُورَاتُ فِي دِفَاعِهَا إِلَى عُدَّةٍ، وَمَادَّةٍ مِنَ الْمَالِ تَامَّةٍ. وَيَدُ الْإِمَامِ صَافِرَةٌ، وَبُيُوتُ الْأَمْوَالِ شَاغِرَةٌ - أَنْ يَتَسَبَّبَ إِلَى [اسْتِيدَاءِ] مَالٍ مِنْ مُوسِرِي الْمُؤْمِنِينَ -[فَإِنَّهُ] يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى مُوجَبِ الِاسْتِصْوَابِ مَا أَرَادَ، وَعَمَّمَ أَهْلَ [الِاقْتِدَارِ] وَالْيَسَارِ فِي أَقَاصِي الْبِلَادِ، وَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ نَاحِيَةٍ فِي تَحْصِيلِ الْمُرَادِ، ذَا كِفَايَةٍ، وَدُرْبَةٍ وَسَدَادٍ. فَإِنْ عَسُرَ التَّبْلِيغُ إِلَى الِاسْتِيعَابِ، وَرَأَى فِي وَجْهِ

الصَّوَابِ أَنْ يُخَصِّصَ أَقْوَامًا، ثُمَّ يَجْعَلَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ فِئَامًا، فَيَسْتَأْدِيَ عِنْدَ كُلِّ مُلِمَّةٍ، مِنْ (145) فِرْقَةٍ أُخْرَى، وَأُمَّةٍ اتُّبِعَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوَامِرُهُ، وَاجْتُنِبَ زَوَاجِرُهُ، ثُمَّ [لْيَكُنْ] فِي ذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ نَظَرٍ، وَأَسَدِّ فِكْرٍ وَعِبَرٍ. 389 - فَإِنِ اقْتَضَى الرَّأْيُ تَعْيِينَ أَقْوَامٍ عَلَى التَّنْصِيصِ، تَعَرَّضَ لَهُمْ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَنَظَرَ إِلَى مَنْ كَثُرَ مَالُهُ وَقَلَّ عِيَالُهُ، وَقَدْ يَتَخَيَّرُ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ مَالِهِ أَنْ يَطْغَى، وَلَوْ تُرِكَ لَفَسَدَ، وَلَوْ غُضَّ مِنْ غُلَوَائِهِ قَلِيلًا، لَأَوْشَكَ أَنْ يَقْتَصِدَ وَ [يَسْتَدَّ] . وَإِذَا لَمْ يَخْلُ الْمُتَصَدِّي لِلْإِمَامَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَنْ تَحْدِيدِ النَّظَرِ، وَتَسْدِيدِ الْفِكْرِ، فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَصْرِيحًا أَوْ رَمَزْنَا إِلَيْهِ تَلْوِيحًا لَهُ مُعْتَبَرٌ. 390 - ثُمَّ إِذْ قَدْ لَاحَتِ الْمَرَاشِدُ، وَوَضَحَتِ الْمَقَاصِدُ، فَنَذْكُرُ بَعْدَهَا ثَلَاثَةَ فُصُولٍ، بَعْدَ تَمْهِيدِ مَا سَبَقَ مِنَ الْأُصُولِ.

من الناس من قال إن ما يأخذه الإمام يكون قرضا على بيت المال

[من الناس من قال إن ما يأخذه الإمام يكون قرضا على بيت المال] فَصْلٌ 391 - أَحَدُهَا - أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ فِي مَعْرِضِ الِاقْتِرَاضِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ [ثَابَتْ] مَدَارُّهُ وَمَجَالِبُهُ، تَعَيَّنَ رَدُّ مَا اقْتَرَضَ. وَ [الْمُقْرِضُ] يُطَالِبُهُ. 392 - وَقَالَ قَائِلُونَ: إِنْ عَمَّمَ بِالِاسْتِيدَاءِ مَيَاسِيرَ الْبِلَادِ، وَالْمُثْرِينَ مِنْ طَبَقَاتِ الْعِبَادِ، فَلَا مَطْمَعَ فِي الرَّدِّ وَالِاسْتِرْدَادِ، وَإِنْ خَصَّصَ بَعْضًا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا قَرْضًا. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ، ثُمَّ نَذْكُرُ مَسْلَكَ التَّحْقِيقِ. 393 - فَمَنْ قَالَ: الْإِمَامُ يَسْتَقْرِضُ اسْتَمْسَكَ بِأَنَّ أَقْدَارَ الْوَاجِبَاتِ مَضْبُوطَةُ الْجِهَاتِ فِي قَوَاعِدِ الدِّينِ وَمَذَاهِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَضَاقَ الْمَحَاوِيجُ وَالْفُقَرَاءُ، اسْتَسْلَفَ مِنَ

الْأَغْنِيَاءِ، وَرُبَّمَا اسْتَعْجَلَ الزَّكَوَاتِ، فَلَوْ كَانَ يُسَوِّغُ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَاضٍ، لَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَهُ لِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ عِنْدَ فَرْضِ الْإِضَاقَةِ. وَرُبَّمَا تَعَلَّقَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ مَآخِذَ الْأَمْوَالِ لَوْ تَعَدَّتِ الطُّرُقَ الْمَضْبُوطَةَ، وَالْمَسَالِكَ الْمُوَضَّحَةَ فِي الشَّرِيعَةِ، لَانْبَسَطَتِ (146) الْأَيْدِي إِلَى الْأَمْوَالِ، وَيَجُرُّ ذَلِكَ فُنُونًا مِنَ الْخَبَالِ، وَلَمْ يَثِقْ ذُو مَالٍ بِمَالِهِ لَا فِي حَالِهِ، وَلَا فِي مَآلِهِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ ضَبْطِ الدِّينِ، وَحَلٌّ لِعِصَامِ الْإِسْلَامِ عَنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. 394 - وَالْمَرْضِيُّ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جُبْنٌ وَخَوَرٌ وَذُهُولٌ عَنْ سُنَنِ النَّظَرِ فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْجِهَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَا يَرَاهُ سَادًّا لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْهَاجَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْرَاضُ سَوَاءٌ فَرَضَ أَخْذَهُ مِنْ مُعَيَّنِينَ، أَوْ مِنَ الْمَيَاسِيرِ أَجْمَعِينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا خُلُوَّ الزَّمَانِ عَنْ مُطَاعٍ، لَوَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الْقِيَامُ بِفَرَائِضِ الْكِفَايَاتِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْتَقِبُوا مَرْجِعًا، فَإِذَا وَلِيَهُمْ إِمَامٌ فَكَأَنَّهُمْ وَلَّوْهُ أَنْ يُدَبِّرَهُمْ تَعْيِينًا وَتَبْيِينًا، فِيمَا كَانَ فَرْضًا بَيْنَهُمْ فَوْضَى، وَلَوْلَاهُ لَأَوْشَكَ أَنْ يَتَخَاذَلُوا، وَيُحِيلَ الْبَعْضُ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى

الْبَعْضِ ثُمَّ تَنْسَحِبُ الْمَآثِمُ عَلَى كَافَّتِهِمْ، وَالْإِمَامُ الْقَوَّامُ يَدْفَعُ التَّخَاذُلَ وَالتَّغَالُبَ، وَيَحْمِلُ الْأَعْيَانَ عَلَى التَّنَاوُبِ فِيمَا عَلَى الْكَافَّةِ [الْخُرُوجُ] عَنْ عُهْدَتِهِ. وَالَّذِي يُوَضِّحُ الْمَقْصِدَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَقْرَضَ، لَكَانَ يُؤَدِّي مَا اقْتَرَضَهُ مِنْ مَالٍ فَاضِلٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَرُبَّمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى مَا يُقَدِّرُهُ فِي الْحَالِ فَاضِلًا، ثُمَّ يَقْتَضِي الْحَالُ اسْتِرْدَادَ مَا وَفَّيْنَاهُ عَلَى الْمُقْرِضِ، وَيَسْتَدْبِرُ التَّدْبِيرَ، فَلَا يَزَالُ فِي رَدٍّ وَاسْتِرْدَادٍ، وَمَا أَدَّى إِلَى التَّسَلْسُلِ، فَهُوَ فِي وَضْعِهِ لَا يَتَحَصَّلُ. 395 - وَالَّذِي يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ تَعَيَّنَ عَلَى مُلْتَزِمِي الْإِسْلَامِ أَنْ يُقِيمُوا أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا، إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ إِذَا فَقَدُوا مَنْ يَلِيهِمْ، أَوْ بِأَنْ يَتَّبِعُوا أَمْرَ وَالِيهِمْ. فَإِذَا امْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ بِأَمْوَالِهِمْ عَلَى تَفَنُّنِ أَحْوَالِهِمْ، فَارْتِقَابُهُمْ (147) رُجُوعًا فِي مَالِهِمْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُتَأَصِّلِينَ فِيمَا كَلَّفَهُمْ رَبُّهُمْ. وَهَذَا ظَنٌّ كَاذِبٌ وَرَأْيٌ غَيْرُ صَائِبٍ، فَالْمُسْلِمُونَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَالْإِمَامُ فِي الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَوَاحِدٍ مِنَ الْأَنَامِ، وَلَكِنَّهُ

مُسْتَنَابٌ فِي تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، فَإِذَا نُفِّذَتْ، فَلَا مَطْمَعَ فِي مَرْجِعٍ، فَإِنْ دَرَّ لِبَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، فَحَظُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ تَهَيُّؤُهُ لِلْحَاجَاتِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ. فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ فِي هَذَا الْفَنِّ. 396 - وَأَقُولُ الْآنَ: لَسْتُ أَمْنَعُ الْإِمَامَ مِنَ الِاقْتِرَاضِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، إِنْ رَأَى ذَلِكَ اسْتِطَابَةً لِلْقُلُوبِ، وَتَوَصُّلًا إِلَى تَيْسِيرِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَالِ، مَهْمَا اتَّفَقَتْ وَاقِعَةٌ أَوْ هَجَمَتْ هَاجِمَةٌ. وَالَّذِي قَدَّمْتُهُ لَيْسَ تَحْرِيمًا لِلِاسْتِقْرَاضِ، وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِمَا يَسُوغُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالْأَمْرُ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِهِ، أَوِ اسْتِصْوَابِهِ فِي افْتِتَاحِ كُلِّ أَمْرِهِ وَمَآبِهِ. وَالْجُمْلَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَلَمَّتْ مُلِمَّةٌ، وَاقْتَضَى إِلْمَامُهَا مَالًا، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، اسْتَمَدَّتْ كِفَايَتَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، نَزَلَتْ عَلَى أَمْوَالِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كُفِيَتْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَقَدِ انْقَضَتْ، وَانْقَطَعَتْ تَبِعَاتُهَا، وَعَلَائِقُهَا، فَإِذَا حَدَثَ مَالٌ، تَهَيَّأَ مَا حَدَثَ لِلْحَوَادِثِ، [الْمُسْتَقْبَلَةِ]

فَهَذِهِ مُعْضِلَاتٌ لَا يَسْتَدُّ فِيهَا إِلَّا مُؤَيِّدٌ وَلَا يُطَبِّقُ مُفَصَّلَ الْحَقِّ فِيهَا إِلَّا مُسَدَّدٌ. 397 - فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنْ مَعَهُ طَعَامٌ إِذَا وَجَدَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ وَاقِعًا فِي الْمَخْمَصَةِ، مُشْفِيًا عَلَى الْهَلَاكِ، لَمْ يَلْزَمْ مَالِكَ الطَّعَامِ بَذْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَإِحْيَاءُ الْمُهَجِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ عَلَى مَجْرَى الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ إِذَا انْفَرَدَ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى مُضْطَرٍّ أَنْ يَبْذُلَ [كُنْهَ] الْجِدِّ (148) وَيَسْتَفْرِغُ غَايَةَ الْوُسْعِ فِي إِنْقَاذِهِ، ثُمَّ لَا يَجِبُ التَّبَرُّعُ وَالتَّطَوُّعُ بِالْبَذْلِ. قُلْنَا: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَنَا فِيهِ إِذَا كَانَ لِلْمُضْطَرِّ مَالٌ غَائِبٌ أَوْ حَاضِرٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَيَجِبُ سَدُّ جَوَّعَتِهِ، وَرَدُّ خَلَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ عِوَضًا. وَلَا أَعْرِفُ خِلَافًا أَنَّ سَدَّ خَلَّاتِ الْمُضْطَرِّينَ فِي شَتَّى الْمَجَاعَاتِ، مَحْتُومٌ عَلَى الْمُوسِرِينَ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ إِذَا انْسَلُّوا مِنْ تَحْتِ كَلَاكِلِ الْفِتَنِ. وَفُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُتَوَسِّلِيهِمْ كَالِابْنِ الْفَقِيرِ فِي حَقِّ أَبِيهِ، لَيْسَ لِلْأَبِ الْمُوسِرِ أَنْ يَلْزَمَ ابْنَهُ الِاسْتِقْرَاضُ مِنْهُ إِلَى أَنْ

يَسْتَغْنِيَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَلَوْ كَانَ لِوَلَدِهِ مَالٌ غَائِبٌ أَقْرَضَ وَلَدَهُ أَوِ اسْتَقْرَضَ لَهُ إِنْ كَانَ مُوَلِيًّا عَلَيْهِ. وَالَّذِي يَكْشِفُ الْغِطَاءَ فِيهِ أَنَّ مَنْ رَأَى مُسْلِمًا مُشْرِفًا عَلَى حَرِيقٍ أَوْ غَرِيقٍ، وَاحْتَاجَ إِنْقَاذَهُ إِلَى إِنْقَاذِ سَبَبِهِ، وَإِكْدَادِ حَدَبِهِ لَمْ يَجِدَّ فِي مُقَابَلَةِ سَعْيِهِ. 398 - وَمَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ مِنَ اسْتِسْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَاتِ، وَاسْتِعْجَالِهِ الزَّكَوَاتِ، فَلَسْتُ أُنْكِرُ جَوَازَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أُجَوِّزُ الِاسْتِقْرَاضَ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْحَالِ، وَانْقِطَاعِ الْأَمْوَالِ، وَمَصِيرِ الْأَمْرِ إِلَى مُنْتَهًى يَغْلِبُ الظَّنُّ فِيهِ اسْتِيعَابَ الْحَوَادِثِ لِمَا يَتَجَدَّدُ فِي الِاسْتِقْبَالِ. 399 - وَأَمَّا مَا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَأْخُذُ إِلَّا وَظِيفَةً حَاقَّةً فِي أَوَانِ حُلُولِهَا أَوْ يَسْتَقْرِضُ، فَهَذَا زَلَلٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا حَاوَلَ تَجْهِيزَ جُنْدٍ أَشَارَ عَلَى الْمَيَاسِيرِ مِنْ أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَبْذُلُوا

الفصل الثاني إذا كثرت عساكر الإسلام ولم تف موارد بيت المال بمؤنتهم

فَضَلَاتِ أَمْوَالِهِمْ، وَالْأَقَاصِيصُ الْمَأْثُورَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي ذَلِكَ بَالِغَةٌ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَكَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (149) يَتَبَادَرُونَ ارْتِسَامَ مَرَاسِمِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى طَوَاعِيَةٍ وَطِيبِ أَنْفُسٍ، وَيَزْدَحِمُونَ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ حَائِزِينَ بِهِ أَكْرَمَ الْوَسَائِلِ، ازْدِحَامَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ عَلَى الْمَنَاهِلِ، وَكَانَتْ مَبَادِئُ إِشَارَاتِهِ أَنْجَعَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنْ سُيُوفِ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالْبَأْسِ فِي أَهْلِ الْعِنَادِ وَالشِّرَاسِ. 400 - وَمَا شَبَّهُوا بِهِ مِنْ أَدَاءِ الْأَمْرِ إِلَى إِخْلَالٍ وَإِفْضَائِهِ إِلَى امْتِدَادِ الْأَيْدِي إِلَى الْأَمْوَالِ فَلَا احْتِفَالَ بِالْأَمْوَالِ عِنْدَ إِطْلَالِ الْأَهْوَالِ عَلَى بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَسُوغُ أَخْذُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْإِهْمَالِ هَزْلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ. فَإِنْ سُئِلْنَا الدَّلِيلَ، فَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ أَكْمَلَ مَقْنَعٍ وَبَلَاغٍ. فَهَذَا نُجَازُ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْمَوْعُودَةِ بَعْدَ تَمْهِيدِ الْأُصُولِ. فَأَمَّا. [الْفَصْلُ الثَّانِي إذا كثرت عساكر الإسلام ولم تف موارد بيت المال بمؤنتهم] الْفَصْلُ الثَّانِي وَبِهِ يَتِمُّ الْمَقْصِدُ فِي بَعْضِ مَا سَبَقَ. 401 - وَهُوَ أَنَّ عَسَاكِرَ الْإِسْلَامِ إِذَا كَثُرُوا، أَعْنِي الْمُرْتَزِقَةَ الْمُتَرَتِّبِينَ

فِي دِيوَانِ الْجُنُودِ [الْمَعْقُودِ] وَعَظُمَتِ الْمُؤَنُ الْقَائِمَةُ بِكِفَايَتِهِمْ، وَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْأَوْقَاتِ حَسَبَ تَوَالِي الْحَاجَاتِ، الَّتِي تَتَقَاضَاهَا الْفَطِنُ وَالْجِبِّلَاتُ. وَكَانَ اتِّسَاعُ الرِّقَاعِ وَالْأَصْقَاعِ، وَكَثْرَةُ الثُّغُورِ وَالْمَرَاصِدِ فِي الْبِقَاعِ - لَا يَسْتَقِلُّ إِلَّا بِكَثْرَةِ الرِّجَالِ الْمُتَرَصِّدِينَ لِلْقِرَاعِ، وَقَدْ قَسَّمَهُمُ الْإِمَامُ عَلَى أَصْنَافٍ وَأَنْوَاعٍ، وَصَفَّفَهُمْ [جِيلًا جِيلًا] ، [وَرَعِيلًا رَعِيلًا] . فَمِنْهُمْ مَنْدُوبُونَ لِنَفَضِ حَرِيمِ الْبِلَادِ عَنِ الْمُتَلَصِّصِينَ ذَوِي الْعَرَامَةِ، وَمِنْهُمْ مُتَصَرِّفُونَ فِي الْبِلَادِ لِرَدْعِ النَّابِغِينَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، الزَّائِغِينَ عَنْ مِنْهَاجِ السَّدَادِ، وَمِنْهُمْ مُرَتَّبُونَ فِي مُرَابَطَةِ الْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ، وَآخَرُونَ فِي الْمَضَايِقِ وَالْمَرَاصِدِ. وَالنَّجْدَةُ الْكُبْرَى مُحْتَفُّونَ بِالْإِمَامِ، وَبِأُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي الْبِلَادِ. 402 - وَإِذَا انْتَهَى تَدْبِيرُ الْمَمَالِكِ إِلَى ذَلِكَ، فَالْغَالِبُ أَنَّ مَا يُنْفَقُ

مِنْ أَخْمَاسِ الْغَنَائِمِ وَالْفَيْءِ لَا (150) يُقِيمُ الْأَوَدَ، وَلَا يُدِيمُ الْعُدَدَ، فَإِنَّا كَمَا نُصِيبُ نُصَابُ، وَالْحَرْبُ سَجَالٌ، وَالْقِتَالُ مُضْطَرِبٌ، وَتَبَايُنُ أَحْوَالٍ. وَمَنْ ظَنَّ [مِمَّنْ] يُلَاقِي الْحُرُوبَ بِأَنْ لَا يُصَابَ، فَقَدْ ظَنَّ عَجْزًا وَالْمَغَانِمُ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً ; فَإِنَّ الْغَرَضَ التَّجَرُّدُ لِلْجِهَادِ إِعْلَاءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَحِيَاطَةَ الْمِلَّةِ، وَالْمَغَانِمُ لَيْسَتْ مَعْمُودَةً مَقْصُودَةً ; إِذْ لَا يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ نَجْعَلَ بَذْلَ الْمُهَجِ، وَالتَّغْرِيرَ بِالْأَرْوَاحِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَغَارِمِ ذَرِيعَةً. فَإِذًا لَا تَقُومُ الْمَمْلَكَةُ بِتَوَقُّعِ الِاغْتِنَامِ، وَلَا بُدَّ لِلْإِمَامِ مِنَ الِاعْتِصَامِ بِأَوْثَقِ عِصَامٍ، عَلَى مَمَرِّ الْأَيَّامِ، [وَوَزَرُ] الْإِسْلَامِ مَأْمُورٌ بِأَقْصَى الِاحْتِيَاطِ، وَالْحِفْظِ بِاللَّحْظِ بَعْدَ اللَّحْظِ. وَلَا أَشْبَهَ مَا يَرْتَقِبُ مِنْ مَغْنَمٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُؤَنِ [الْقَارَّةِ] إِلَّا [بِمَا] يَقْتَنِصُهُ

الْقَانِصُونَ مِنَ الصُّيُودِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى النَّفَقَاتِ الدَّائِرَةِ فَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ الْمَكَاسِبَ مُعَوِّلِينَ عَلَى الِاصْطِيَادِ، لَهَلَكُوا وَضَاعُوا، وَاضْطَرَبُوا وَجَاعُوا. فَهَذِهِ التَّشْبِيهَاتُ قَدَّمْتُهَا لِتَوْطِئَةِ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عِنْدِي قَدْ يَأْبَاهُ الْمُقَلِّدُونَ الَّذِينَ لَا تَقْتَضِيهِمْ نُفُوسُهُمُ التَّحْوِيمَ عَلَى الْحَقَائِقِ فَضْلًا عَنْ وُرُودِهَا، وَكُلَّمَا ظَهَرَتْ حَقِيقَةٌ، وَلَاحَتْ إِلَى دَرْكِهَا طَرِيقَةٌ صَبَرُوا لِجُحُودِهَا. 403 - فَأَقُولُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ: لَا بُدَّ مِنْ تَوْظِيفِ أَمْوَالٍ يَرَاهَا الْإِمَامُ قَائِمَةً بِالْمُؤَنِ الرَّاتِبَةِ، أَوْ مُدَانِيَةً لَهَا، وَإِذَا وَظَّفَ الْإِمَامُ عَلَى الْغَلَّاتِ وَالثَّمَرَاتِ وَضُرُوبِ الزَّوَائِدِ وَالْفَوَائِدِ مِنَ الْجِهَاتِ يَسِيرًا مِنْ كَثِيرٍ، سَهُلَ احْتِمَالُهُ، وَوَفَرَ بِهِ أُهَبُ الْإِسْلَامِ وَمَالُهُ، وَاسْتَظْهَرَ رِجَالُهُ، وَانْتَظَمَتْ قَوَاعِدُ الْمُلْكِ وَأَحْوَالُهُ. وَلَوْ عَدِمَ النَّاسُ سُلْطَانًا يَكُفُّ عَنْ زَرْعِهِمْ وَضَرْعِهِمْ عَادِيَّةَ النَّاجِمِينَ وَتَوَثُّبَ الْهَاجِمِينَ (151) ، لَاحْتَاجُوا فِي إِقَامَةِ حُرَّاسٍ مِنْ ذَوِي الْبَأْسِ إِلَى أَضْعَافِ مَا رَمَزْنَا إِلَيْهِ. فَإِنِ اسْتَنْكَرَ ذَلِكَ غِرٌّ غَبِيٌّ. قُلْنَا: أَتُنْكِرُ أَنَّ مَا ذَكَرْتُهُ وَجْهُ

الرَّأْيِ؟ فَإِنْ أَبَاهُ وَادَّعَى خِلَافَهُ تَرَكْتُهُ وَدَعْوَاهُ، وَلَنْ يُفْلِحَ قَطُّ مُقَلِّدٌ يَتَّبِعُ فِي تَقْلِيدِهِ هَوَاهُ. وَإِنِ اعْتَرَفَ بِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الِاسْتِظْهَارَ بِأَقْصَى الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ مَحْتُومٌ، وَلَا يَفِي بِهِ تَوَقُّعٌ مَغْنُومٌ، وَمَفْهُومٌ أَنَّهُ لَوِ اسْتَفَزَّتْنَا دَاهِيَةٌ وَوَقَعَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ خَرْمٌ فِي نَاحِيَةٍ - لَاضْطُرِرْنَا فِي دَفْعِ الْبَأْسِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ لَوْ تَقَدَّمْنَا بِوَجْهِ رَأْيٍ لَظَنَنَّا أَنَّ الْأُمُورَ فِي اسْتِتْبَابِهَا تَجْرِي عَلَى سُنَنِ صَوَابِهَا. 404 - فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. قُلْنَا: لَمَّا انْتَشَرَتِ الرَّعِيَّةُ وَكَثُرَتِ الْمُؤَنُ الْمَعْنِيَّةُ تَسَبَّبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ وَالْأَرْفَاقِ عَلَى أَرَاضِي الْعِرَاقِ بِإِطْبَاقٍ وَاتِّفَاقٍ، وَالَّذِي يُؤْثَرُ مِنْ خِلَافٍ فِيهِ فَهُوَ فِي كَيْفِيَّتِهِ، لَا فِي أَصْلِهِ. 405 - فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مَذْهَبُ إِمَامِكُمُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

أَنَّ الْخَرَاجَ الْمُسْتَأْدَى مِنْ غَيْرِ أَرَاضِي الْعِرَاقِ غَيْرُ ثَابِتٍ؟ قُلْنَا: مَذْهَبُهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ الْمَضْرُوبَةَ عَلَى أَرَاضِي الْكُفَّارِ بِاسْمِ الْخَرَاجِ تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ الْمُوَزَّعَةُ عَلَى رِقَابِهِمْ. وَهُوَ كَمَا قَالَ. 406 - وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَمْرٌ كُلِّيٌّ بَعِيدُ الْمَأْخَذِ مِنْ آحَادِ الْمَسَائِلِ. وَمَنْشَؤُهُ الْإِيَالَةُ الْكُبْرَى، مَعَ الشَّهَادَاتِ الْبَاتَّةِ الْقَاطِعَةِ مِنْ قَاعِدَةِ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى اسْتِمْدَادِ نَجْدَةِ الدِّينِ [وَحِرْسَةِ] الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَقَعِ الِاجْتِزَاءُ وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا يَتَوَقَّعُ عَلَى الْمَغِيبِ مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ، وَتَحَقُّقِ الِاضْطِرَارِ، فِي إِدَامَةِ الِاسْتِظْهَارِ، وَإِقَامَةِ حِفْظِ الدِّيَارِ إِلَى عَوْنٍ مِنَ الْمَالِ مُطَّرِدٍ دَارٍّ، وَلَوْ عَيَّنَ الْإِمَامُ (152) أَقْوَامًا مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ، لَجَرَّ ذَلِكَ حَزَازَاتٍ فِي النُّفُوسِ، [وَفِكَرًا سَيِّئَةً] فِي الضَّمَائِرِ وَالْحُدُوسِ، وَإِذَا رَتَّبَ عَلَى الْفَضَلَاتِ وَالثَّمَرَاتِ وَالْغَلَّاتِ قَدْرًا قَرِيبًا كَانَ طَرِيقًا فِي رِعَايَةِ الْجُنُودِ وَالرَّعِيَّةِ مُقْتَصِدَةً مَرْضِيَّةً.

ثُمَّ إِنِ اتَّفَقَتْ مَغَانِمُ، وَاسْتَظْهَرَ بِأَخْمَاسِهَا بَيْتُ الْمَالِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اطِّرَادُ الْكِفَايَةِ، إِلَى أَمَدٍ مَظْنُونٍ وَنِهَايَةٍ، [فَيَغُضُّ] حِينَئِذٍ وَظَائِفَهُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَاتٍ تَوْقِيفِيَّةً وَمُقَدَّرَاتٍ شَرْعِيَّةً وَإِنَّمَا رَأَيْنَاهَا نَظَرًا إِلَى الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، فَمَهْمَا اسْتَظْهَرَ بَيْتُ الْمَالِ وَاكْتَفَى حَطَّ الْإِمَامُ مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ وَعَفَا، فَإِنْ عَادَتْ مَخَايِلُ حَاجَةٍ أَعَادَ الْإِمَامُ مِنْهَاجَهُ. 407 - وَهَذَا الْفَصْلُ الَّذِي أَطَلْتُ أَنْفَاسِي فِيهِ يَلْتَفِتُ عَلَى أَمْرٍ قَدَّمْتُهُ فِي الِاسْتِظْهَارِ بِالِادِّخَارِ، فَلَسْتُ أَرَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِيَبْتَنِيَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ حِرْزًا، وَيَقْتَنِيَ ذَخِيرَةً وَكَنْزًا، وَيَتَأَثَّلَ مَفْخَرًا وَعِزًّا. وَلَكِنْ يُوَجِّهُ لِدُرُورِ الْمُؤَنِ عَلَى مَمَرِّ الزَّمَنِ مَا سَبَقَ رَسْمُهُ، فَإِنِ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِأَمْوَالٍ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَفَّ طَلِبَتَهُ عَلَى الْمُوسِرِينَ. 408 - فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا طَالَعَ هَذَا الْفَصْلَ وَأَنْصَفَ وَانْتَصَفَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ [جَادَّةُ] تَقْلِيدِهِ، وَلَمْ يَتَعَسَّفْ، فَالَّذِي حَوَاهُ هَذَا

الفصل الثالث في الرد على من يجوز التأديب والتعزير بمصادرة الأموال

الْفَصْلُ أَقْصَدُ الطَّرَائِقِ، وَأَسَدُّ الْمَسَالِكِ إِلَى مَدَارِكِ الْحَقَائِقِ. وَقَدْ نَجَزَ الْفَصْلُ الثَّانِي. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ في الرد على من يجوز التأديب والتعزير بمصادرة الأموال] فَأَمَّا: الْفَصْلُ الثَّالِثُ 409 - فَمَضْمُونُهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَرَى تَعْزِيرَ الْمُسْرِفِينَ الْمُوغِلِينَ بِاتِّبَاعِ الشُّبُهَاتِ، وَاقْتِرَافِ السَّيِّئَاتِ، وَاتِّبَاعِ الْهَنَاتِ بِالْمُصَادَرَاتِ، مِنْ غَيْرِ فَرْضِ افْتِقَارٍ وَحَاجَاتٍ. وَهَذَا مَذْهَبٌ جِدًّا رَدِيٌّ، وَمَسْلَكٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ اقْتِحَامَ الْمَآثِمِ يُوَجِّهُ إِلَى مُرْتَكِبِيهَا ضُرُوبَ (153) الْمَغَارِمِ، وَلَيْسَ فِي أَخْذِ أَمْوَالٍ مِنْهُمْ أَمْرٌ كُلِّيٌّ، يَتَعَلَّقُ بِحِفْظِ الْحَوْزَةِ، وَالذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ، وَلَيْسَ يَسُوغُ لَنَا أَنْ نَسْتَحْدِثَ وُجُوهًا فِي اسْتِصْلَاحِ الْعِبَادِ، وَجَلْبِ أَسْبَابِ الرَّشَادِ، لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ هَذَا يَجُرُّ خَرْمًا عَظِيمًا، وَخَطْبًا هَائِلًا جَسِيمًا. 410 - فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتَ تَسْوِيغَ وَظَائِفَ لَمْ يَحُمْ عَلَيْهَا طَائِفٌ، فَكَيْفَ تَأْبَى التَّهْذِيبَ وَالتَّأْدِيبَ بِقَطْعِ مَادَّةِ الْفَسَادِ

وَإِنْ لَمْ يُعْهَدْ ذَلِكَ مَنْصُوصًا مَذْكُورًا فِي الشَّرْعِ مَخْصُوصًا. قُلْنَا: مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْوَظَائِفِ مُسْتَنَدُهُ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً حَيْثُ نَزَلُوا [وَارْتَحَلُوا] ، وَعَقَدُوا أَوْ حَلُّوا - عَلَى وُجُوبِ الذَّبِّ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ. فَإِذَا لَمْ نُصَادِفْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالًا اضْطُرِرْنَا لِتَمْهِيدِ الدِّينِ، وَحِفْظِ حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ - إِلَى الْأَخْذِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُوسِرِينَ، ثُمَّ عَرَّفْنَا عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ الِاقْتِصَادَ مَسْلَكُ الرَّشَادِ، وَلَمْ نَرَ فِي تَفْصِيلِ مِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ فَنَتْبَعَهُ، فَتَبَيَّنَّا قَطْعًا. أَنَّ مَا عَمَّ وَقْعُهُ، وَشَمَلَ وَضْعُهُ، وَعَظُمَ نَفْعُهُ، فَهُوَ أَقْرَبُ مُعْتَبَرٍ. وَأَمَّا نَزْفُ أَمْوَالِ الْعُصَاةِ، فَلَا نَرَى لَهُ أَصْلًا. 411 - نَعَمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْتَنِيَ الْإِمَامُ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَاتِ بِأَمْوَالِ الْعُتَاةِ، وَهَذَا فِيهِ أَكْمَلُ مَرْدَعٍ وَمَقْنَعٍ، فَإِنَّ الْعُتَاةَ الْعُصَاةَ إِذَا عَلِمُوا تَرَصُّدَ الْإِمَامِ لِأَمْوَالِهِمْ لِاضْطِرَابِ حَالَاتِهِمْ عِنْدَ اتِّفَاقِ إِضَافَةِ أَعْوَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحَاجَاتِهِمْ - كَانَ ذَلِكَ وَازِعًا لَهُمْ عَنْ مَخَازِيهِمْ وَزَلَّاتِهِمْ.

412 - فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَاطَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مَالَهُ، وَشَاطَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ مَالَهُ، حَتَّى أَخَذَ رَسُولُهُ إِلَيْهِ نِصْفَ عِمَامَتِهِ، وَفَرْدَ نَعْلِهِ؟ قُلْنَا: مَا فَعَلَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى مَحْمَلٍ سَائِغٍ (154) وَاضِحٍ، وَسَبِيلٍ بَيِّنٍ لَائِحٍ، وَهُوَ أَنَّهُمَا كَانَا خَامَرَا فِي إِمْرَةِ الْأَجْنَادِ وَالْبِلَادِ أَمْوَالًا لِلَّهِ، وَكَانَ لَا يَشِذُّ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَجَارِي أَحْوَالِ مُسْتَخْلِفِيهِ، فَلَعَلَّهُ رَآهُمَا مُجَاوَزِينَ حُدُودَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُمَّ أَنْعَمَ النَّظَرَ، وَأَطَالَ الْفِكْرَ، وَقَدَّمَ الرَّأْيَ وَأَخَّرَ، فَرَأَى مَا أَمْضَى، وَشَهِدَ وَغِبْنَا، وَقَدْرُهُ أَجَلُّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَتَجَاوَزَ وَيَتَعَدَّى. 413 - فَهَذِهِ جُمَلٌ مِنْ أَبْوَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ طَرِيقِ الْإِيَالَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْحَقِّ، الْمُقَيَّدَةِ بِشَهَادَةِ [الشَّرْعِ] وَالصِّدْقِ كَافِيَةٌ، وَمَسَالِكُ مُرْشِدَةٌ شَافِيَةٌ، أَبْرَزْتُهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْإِشْكَالِ إِلَى ضَاحِيَةِ الْإِيضَاحِ، كَأَنَّهَا غَيْدَاءُ، مُشَنَّفَةٌ مُقَرَّطَةٌ بِالدُّرَرِ وَالْأَوْضَاحِ. فَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ الْفُصُولُ مِنْ كُتُبٍ مَضْمُونُهَا أَقْوَالٌ وَ [إِغَارَةٌ]

القول في مستخلفي الإمام

عَلَى كُتُبِ رِجَالٍ، مَعَ اخْتِبَاطٍ وَاخْتِبَالٍ، [وَاخْتِزَاءٍ] وَافْتِضَاحٍ؟ وَلَكِنْ سَلِ الْحَسْنَاءَ عَنْ بَخْتِ الْقِبَاحِ! ! . 414 - انْتَهَى مَجَامِعُ الْقَوْلِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَنَجَزَ بِنَجَازِهَا غَرَضُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي تَفْصِيلِ مَا إِلَى الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ. وَنَحْنُ الْآنُ نَعْقِدُ فَصْلًا فِي مُسْتَخْلِفِي الْإِمَامِ، وَقَدْ مَضَى فِيمَا تَقَدَّمَ صَدْرٌ صَالِحٌ فِيهِمْ، وَلَكِنَّا أَحَلْنَا اسْتِقْصَاءَ الْمَقَاصِدِ، وَاسْتِيفَاءَ سُبُلِ الْمَرَاشِدِ عَلَى هَذَا الْبَابِ. وَالْآنَ نَفِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَوَاعِيدِ، وَنَسْتَعِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى. [الْقَوْلُ فِي مُسْتَخْلِفِي الْإِمَامِ] [فَصْلٌ لا بد للإمام من وكلاء ونواب] [د - الْقَوْلُ فِي مُسْتَخْلِفِي الْإِمَامِ]

فَصْلٌ 415 - لَيْسَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَعَاطَى الْإِمَامُ مُهِمَّاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْخُطَّةِ، وَقَدِ اتَّسَعَتْ أَكْنَافُهَا، وَانْتَشَرَتْ أَطْرَافُهَا، وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي أَحْكَامِهَا، وَيَسْتَخْلِفَ فِي نَقْضِهَا، أَوْ فِي إِبْرَامِهَا وَإِحْكَامِهَا. 416 - وَشُغْلُهُ الَّذِي لَا يُخْلِفُهُ فِيهِ أَحَدٌ مُطَالَعَاتُ كُلِّيَّاتِ الْأُمُورِ، إِذْ لَوْ وَكَلَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، وَعَمِلَ عَلَى أَنْ لَا يَبْحَثَ، وَلَا يَخْبُرَ، وَلَا يَفْحَصَ، وَلَا يَنْقُرَ، وَفَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى مَوْثُوقٍ بِهِ، وَرَسَمَ لَهُ التَّشْمِيرَ، وَالْبَحْثَ وَالتَّنْقِيرَ، وَآثَرَ التَّخَلِّيَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَالِانْحِجَازَ عَنِ النَّظَرِ فِي أَمْرِ الْمِلَّةِ، وَاخْتَارَ الرَّفَاهِيَةَ، وَالرَّغَدَ، وَالدَّعَةَ، وَ [الدَّدَ]- فَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِحَقِّ الْأُمَّةِ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ مُطَالَبٌ أَوْ مُعَاتَبٌ مُعَاقَبٌ، وَإِذَا تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ يَنْتَهِي الْأَمْرُ إِلَى التَّفْسِيقِ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ. 417 - فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ قَوْلٌ بَالِغٌ، وَبَيَانٌ شَافٍ سَائِغٌ. 418 - فَإِذًا مَنْصِبُ الْإِمَامِ يَقْتَضِي الْقِيَامَ بِالنَّظَرِ الْعَامِّ فِي حُقُوقِ الرَّعَايَا وَالْمُسْتَخْلَفِينَ عَلَيْهِمْ عَلَى مَمَرِّ الْأَيَّامِ. 419 - فَأَمَّا تَفَاصِيلُ الْأُمُورِ، فَمَا تَوَلَّاهُ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْأَصْلُ، وَمَا اسْتُخْلِفَ فِيهِ كَافِيًا، مُسْتَقِلًّا، دَارِئًا، مُتَيَقِّظًا فِيمَا نِيطَ بِهِ وَاعِيًا، فَالِاسْتِخْلَافُ فِي تَفَاصِيلِ الْأَعْمَالِ سَائِغٌ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ مَا يَسْتَخْلِفُ فِيهِ يَنْقَسِمُ إِلَى أَمْرٍ خَاصٍّ يَحْتَوِي عَلَى الْغَرَضِ مِنْهُ مَرَاسِمُ يُبَيِّنُهَا، وَمَعَالِمُ يُعَيِّنُهَا، فَيَعْقِدُ الْإِمَامُ [بِمَضْمُونِهَا] [مَنْشُورًا] وَيَتَّخِذُهُ الْمَوْلَى دُسْتُورًا. وَإِلَى أَمْرٍ عَامٍّ مُنْتَشِرِ الْقَضَايَا عَلَى الرَّعَايَا، لَا يُضْبَطُ مَقْصُودُهُ بِرُسُومٍ، وَلَا مَنْشُورٍ مَنْظُومٍ.

420 - فَأَمَّا الْأَمْرُ الْخَاصُّ، فَهُوَ كَجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ وَالْمُوَظَّفَاتِ عَلَى الْمَعَادِنِ وَالْمَقْطَعَاتِ، وَمَا ضَاهَاهَا مِنَ الْجِهَاتِ، فَمَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ صِنْفًا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُوَلَّى مُسْتَجْمِعًا خَصْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الصِّيَانَةُ وَالدِّيَانَةُ. وَالثَّانِيَةُ: الشَّهَامَةُ، وَالْكِفَايَةُ اللَّائِقَةُ بِمَا يَتَوَلَّاهُ وَيَتَعَاطَاهُ، وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا بَالِغًا مَبْلَغَ الْمُفْتِينَ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يَرْسُمُ لَهُ مَقَادِيرَ النُّصُبِ وَالزَّكَوَاتِ، وَتَفَاصِيلَ الْأَسْنَانِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فِي الْبَيَانِ، فَيَمْضِي الْمُوَلَّى قُدُمًا وَيَتَّخِذُ الْمَرَاسِمَ قُدْوَةً وَأُمَمًا (156) وَلَوْ كَانَ الْمَنْصُوبُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَبْدًا مَمْلُوكًا - سَاغَ، فَإِنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَيْسَتْ وِلَايَةً عَلَى الْكَمَالِ. 421 - وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَفْوِيضُ جَرِّ الْأَجْنَادِ إِلَى بِلَادِ الْكُفْرِ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - فَلْيَجْتَمِعْ فِيمَنْ يُقَلِّدُ الْأَمْرَ الثِّقَةُ، وَالصَّرَامَةُ، وَالشَّهَامَةُ، وَلْيَكُنْ مِمَّنْ حَنَّكَتْهُ التَّجَارِبُ، وَهَذَّبَتْهُ الْمَذَاهِبُ [لَا

يَسْتَفِزُّهُ نَزَقٌ] وَلَا يُضْجِرُهُ حَنَقٌ، وَلَا يُبْطِئُهُ عَنِ الْفُرَصِ إِذَا أَمْكَنَتْ خَوَرٌ، بِطُرُقٍ لِلْخُدَعِ، كَالصُّلِّ النَّضْنَاضِ، وَيَتَوَثَّبُ فِي أَوَانِ الْفُرْصَةِ كَالصَّقْرِ يَهْوِي فِي الِانْقِضَاضِ، وَلْيَكُنْ طَبًّا بِالْغَرَرِ هُجُومًا فِي مَظَانِّ الْحَاجَاتِ عَلَى الْغُرَرِ. عَارِفًا بِغَوَائِلِ الْقِتَالِ مُصْطَبِرًا فِي مُلْتَطِمِ الْأَهْوَالِ، مُحَبَّبًا فِي الْجُنْدِ، لَا يُمْقَتُ لِفَرْطِ فَظَاظَةٍ، مَهِيبًا لَا يُرَاجِعُ فِي الدَّنِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، ثُمَّ الْإِمَامُ يُقَدِّمُ لَهُ مَرَاسِمَ فِي الْمَغَانِمِ وَالْأَسْرَى، يَتَّخِذُهَا وُزُرًا وَذِكْرَى. وَهَذِهِ الْإِمْرَةُ قَرِيبَةٌ أَيْضًا إِذَا اخْتُصَّتْ بِجَرِّ الْعَسَاكِرِ، وَيَكْفِي فِيهَا الثِّقَةُ، وَاسْتِجْمَاعُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْبَصَائِرِ، وَعُمْدَتُهَا الشَّجَاعَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، وَالتَّيَقُّظُ اللَّائِقُ بِهَذِهِ الشَّأْنِ ; فَالرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ. 422 - فَأَمَّا الْأَمْرُ الَّذِي يَعُمُّ، وَلَا يَنْضَبِطُ مَقْصُودُهُ، فَهُوَ كَالْقَضَاءِ وَالْجُلُوسِ لِفَصْلِ الْحُكُومَاتِ بَيْنَ الْخُصَمَاءِ، وَقَدْ يَرْتَبِطُ بِهِ

أُمُورُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالدِّمَاءِ، وَإِقَامَةُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى ذَوِي الِاعْتِدَاءِ وَالْإِنْصَافُ وَالِانْتِصَافُ، وَالْمَنْعُ مِنْ سُلُوكِ مَسَالِكِ الِاعْتِسَافِ، وَهَذَا أَعْظَمُ الْأَشْغَالِ وَالْأَعْمَالِ، فَيَقْتَضِي هَذَا الْمَنْصِبُ خِلَالًا فِي الْكَمَالِ، سَيَأْتِي شَرْحُنَا عَلَيْهَا. مِنْهَا: الدِّينُ، وَالثِّقَةُ، وَالتَّلَفُّعُ بِجِلْبَابِ الدِّيَانَةِ، وَالتَّشَبُّثُ بِأَسْبَابِ الْأَمَانَةِ وَالصِّيَانَةِ، وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ الثَّاقِبُ، وَالرَّأْيُ الْمُسْتَدُّ الصَّائِبُ، وَالْحَرِيَّةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ. ثُمَّ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْمُطَّلِبِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْنِ عَمِّ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَنَّ شَرْطَ التَّصَدِّي لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ اسْتِجْمَاعُ صِفَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فُنُونِ مَسَالِكِ الظُّنُونِ. 423 - وَالَّذِي أَرَاهُ الْقَطْعَ بِاشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ، وَسَأُوَضِّحُ فِيهِ مَنْهَجَ السَّدَادِ بِتَقْدِيمِ أَصْلٍ عَظِيمِ الْغَنَاءِ فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ،

فَأَقُولُ، وَعَلَى طَوْلِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ الِاعْتِمَادُ، وَبِفَضْلِهِ الِاعْتِضَادُ: عَلَى الْمُقَلِّدِ ضَرْبٌ مِنَ النَّظَرِ فِي تَعْيِينِ مُقَلِّدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُفْتِينَ مَعَ تَبَايُنِ الْمَذَاهِبِ، وَتَبَاعُدِ الْآرَاءِ وَالْمَطَالِبِ، وَكَيْفَ يُسَوِّغُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَخْذِ بِمَذْهَبِ التَّحْرِيمِ وَمَذْهَبِ التَّحْلِيلِ؟ وَلَا يَتَصَوَّرُ الْمَصِيرَ إِلَى هَذِهِ السَّبِيلِ مَعَ تَفَاوُتِ مَنَاصِبِ الْمُفْتِينَ وَأَهْلِ التَّحْصِيلِ. وَإِذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلْيَتَمَهَّلِ النَّظَرَ هُنَالِكَ. فَمَنْ عَنَّ لَهُ مِنَ الْمُقَلِّدَةِ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ -[رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ]- أَرْجَحُ، وَمَسْلَكُهُ أَوْضَحُ، لِأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ اعْتَقَدَهَا، وَقَضِيَّةٍ لَائِقَةٍ بِمِقْدَارِ بَصِيرَتِهِ اعْتَمَدَهَا، فَلَيْسَ يَعْتَقِدُ - إِنْ كَانَ مَعَهُ مَسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ، وَتَشَوُّفٌ إِلَى مُقَدِّمَاتٍ مِنَ الْفَضْلِ - أَنَّ إِمَامَهُ تَجِبُ لَهُ الْعِصْمَةُ عَنِ الزَّلَلِ وَالْخَطَلِ، بَلْ لَا مَعْصُومَ إِلَّا الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْإِنْبَاءِ. فَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ تَتَّفِقُ إِلَّا وَالْمُقَلِّدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِمَامُهُ زَالًّا فِي مَعَانِيهَا، وَظُهُورُ الْحَقِّ مَعَ مَنْ يُخَالِفُهُ فِيهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي غَلَبَ عَلَى وَهْمِهِ عَلَى مَبْلَغِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ أَنَّ إِمَامَهُ بِالْإِصَابَةِ فِي

مُعْظَمِ الْمَسَائِلِ (158) جَدِيرٌ، فَهَذَا غَايَةُ مَا يَدُورُ فِي الضَّمِيرِ. 424 - وَأَقُولُ بَعْدَ تَقْدِيمِ ذَلِكَ: مَنِ انْتَحَلَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ طَبَقَاتِ الْمُقَلِّدِينَ وَاتَّفَقَ فِي عَصْرِهِ إِمَامٌ لَا يُبَارَى، وَمُجْتَهِدٌ لَا يُضَاهَى وَلَا يُوَازَى وَكَانَ يُعْزَى هَذَا الْمُجْتَهِدُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُتَّبِعًا مَذْهَبَ إِمَامٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ، مُوَافِقًا رَأْيَهُ وَمَسْلَكَهُ، فَإِنَّ الظُّنُونَ تَخْتَلِفُ طُرُقُهَا، وَتَتَفَاوَتُ سُبُلُهَا، وَتَتَرَدَّدُ أَنْحَاؤُهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالطِّبَاعِ. وَلَيْسَ بِالْإِجْمَاعِ فِي مُعْظَمِ الْمَسَائِلِ امْتِنَاعٌ ; فَإِنَّ أُصُولَ الْمَذَاهِبِ تُؤْخَذُ مِنْ [مَأْخَذِ] الْقَطْعِ، وَهِيَ الَّتِي تَصْدُرُ مِنْهَا تَفَارِيعُ الْمَسَائِلِ، وَقَدْ يَفْرِضُ الْوِفَاقُ فِي مُعْظَمِ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. 425 - فَإِذَا اشْتَمَلَتِ الْأَيَّامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِمَامِ تَعَيَّنَ عَلَى كَافَّةِ الْمُقَلِّدِينَ اتِّبَاعُهُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَاضِينَ الْمُنْقَرِضِينَ فِي حُكْمِ النَّاخِلِ لِلْمَذَاهِبِ، وَالسَّابِرِ لِتَبَايُنِ الْمُطَالِبِ، وَسَبْرُهُ لَهَا أَثْبَتُ مِنْ نَظَرِ الْمُقَلِّدِ.

426 - وَالَّذِي وَضَّحَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ زُمَرَ الْمُقَلِّدِينَ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يَتَّبِعُوا مَذْهَبَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَإِنَّ الَّذِينَ اسْتَأْخَرُوا بِالْأَعْصَارِ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُمَّةِ أَخْبَرُ بِمَذَاهِبِ الْأَوَّلِينَ، وَأَعْرَفُ بِطُرُقِ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَكْرَمِينَ، وَقَدْ كَفَوْا مَنْ بَعْدَهُمُ النَّظَرَ فِي طَرَائِقِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَبَوَّبُوا الْأَبْوَابَ، وَمَهَّدُوا الْأَسْبَابَ، وَمَا كَانَتِ الْمَسَائِلُ مُتَرَتِّبَةً مُتَهَذِّبَةً فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، فَاسْتَبَانَ أَنَّ حَقَّ الْمُقَلِّدِ أَنْ يَرْبُطَ اسْتِفْتَاءَهُ بِالْأَدْنَى فَالْأَدْنَى، وَالْإِمَامُ الَّذِي وَصَفْنَاهُ فِي عَصْرِنَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ حَيْثُ نَخَلَ مَذَاهِبَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَإِذَا حَقَّ عَلَى الْمُقَلِّدِ أَنْ يَسْتَفْتِيَ إِمَامَ عَصْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي زَمَانِهِ إِمَامًا اتَّبَعَ الَّذِينَ مَضَوْا وَعَوَّلَ عَلَى نَظَرٍ يَصْدُرُ مِنْ مِثْلِهِ. 427 - فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ أَطَلْتُ الْقَوْلَ فِيهَا، وَالْغَرَضُ مِنْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ الْمُتَحَاكِمِينَ

إِلَى مَجْلِسِهِ، وَلَا يَتَّبِعُهُمْ، فَإِنَّ تَكْلِيفَهُ اتِّبَاعَ الْمُخَالِفِينَ عَلَى تَبَاعُدِ الْمَذَاهِبِ يَجُرُّ تَنَاقُضًا لَا سَبِيلَ إِلَى الْوَفَاءِ بِهِ، وَمَنْصِبُ الْوِلَايَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي مَتْبُوعًا لَا مَحَالَةَ، فَلَئِنِ اسْتَتْبَعَ الْوَالِي الْبَالِغُ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُقَلِّدِينَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدْعًا، فَإِنَّهُ أَبَرُّ عَلَيْهِمْ بِمَنْصِبِ الْوِلَايَةِ ثُمَّ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ فَإِنِ اسْتَتْبَعَ مُجْتَهِدًا فَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ وَإِنْ سَاوَاهُ فِي الِاجْتِهَادِ، [فَقَدْ] أَرْبَى عَلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ، وَهِيَ تَقْتَضِي الِاسْتِيلَاءَ [وَالِاسْتِعْلَاءَ] وَالِاحْتِوَاءَ عَلَى تَفَنُّنِ الْآرَاءِ. 428 - فَأَمَّا إِذَا فَرَضْنَا الْقَاضِي مُقَلِّدًا، فَإِنْ قَلَّدَ إِمَامَ عَصْرِهِ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ مُجْتَهِدِي الزَّمَانِ عَلَى فَتْوَى مَنْ يُقَلِّدُهُ، وَمُعْتَمَدُهُ وَمُعْتَضَدُهُ الِاجْتِهَادُ الضَّعِيفُ الَّذِي يُعِينُ بِهِ مُقَلِّدَهُ، فَكَأَنَّهُ يَحْمِلُ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى حُكْمِ نَظَرِهِ الضَّعِيفِ. وَهَذَا مُحَالٌ، لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ عَلَى الْمُحَصِّلِ. 429 - وَإِنَّ قَلَّدَ الْقَاضِي بَعْضَ الْأَئِمَّةِ الْمُنْقَرِضِينَ، فَتَقْلِيدُهُ هَذَا أَضْعَفُ، فَإِنَّهُ اعْتَقَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ أَنَّ الَّذِي يُقَلِّدُهُ

أَوْلَى مَنْ غَيْرِهِ، فَيَنْضَمُّ إِلَى ضَعْفِ نَظَرِهِ الْكُلِّيِّ مَزِيدُ ضَعْفٍ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ حَمْلُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَظَرِ مُقَلِّدٍ فِي تَخَيُّرِ مُقَلِّدٍ؟ . 430 - وَالَّذِي يُقَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّ نَظَرَ الْمُقَلِّدِ فِي تَعْيِينِ [إِمَامٍ] (160) لَيْسَ نَظَرًا حَقِيقِيًّا، وَكَيْفَ يَنْظُرُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ، فَهُوَ إِذَنْ نَظَرٌ مَسْلَكُهُ الضَّرُورَةُ، إِذْ لَوْلَاهُ، لَتَعَارَضَ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ، وَمَا جَرَى مَجْرَى الضَّرُورَاتِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُضْطَرِّ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى مَنْ عَدَاهُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ يَخْتَصُّ إِبَاحَتُهُ بِمَنْ ظَهَرَتْ ضَرُورَتُهُ، وَاسْتَبَانَتْ مَخْمَصَتُهُ. فَهَذَا قَوْلِي فِي اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ فِي الَّذِي يَتَصَدَّى لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ بَيْنَ الْعِبَادِ. 431 - وَلَئِنْ عَدَّ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ مِنَ الْمَظْنُونَاتِ، فَلَسْتُ أَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الشَّطْرَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَابُ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْحُكُومَاتِ فَطِنًا مُتَمَيِّزًا عَنْ رِعَاعِ النَّاسِ، مَعْدُودًا مِنَ الْأَكْيَاسِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ [يَفْهَمَ] الْوَاقِعَةَ الْمَرْفُوعَةَ إِلَيْهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا،

وَيَتَفَطَّنَ لِمَوْقِعِ الْإِعْضَالِ، وَمَوْضِعِ السُّؤَالِ، وَمَحَلِّ الْإِشْكَالِ مِنْهَا، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مُفْتِيًا. وَيَعْتَقِدُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَقِّهِ بِمَثَابَةِ قَوْلِ الرَّسُولِ فِي حَقِّ الَّذِينَ عَاصَرُوهُ، فَيَتَّخِذُهُ قُدْوَةً وَأُسْوَةً، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَفْهَمِ الْوَاقِعَةَ فَكَيْفَ يَفْرِضُ نُفُوذَ [حُكْمِهِ] فِيهَا، وَلَيْسَ فِي عَالَمِ اللَّهِ أَخْزَى مِنْ مُتَصَدٍّ لِلْحُكْمِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصِفَ مَا حَكَمَ بِهِ، لَمْ يَسْتَطِعْهُ. 432 - وَمِمَّا يَقْضِي اللَّبِيبُ الْعَجَبَ مِنْهُ انْتِصَابُ غِرٍّ لِلْقَضَاءِ، لَا يَقِفُ عَلَى الْوَاقِعَةِ الَّتِي فِيهَا الْقَضِيَّةُ، وَلَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ، وَيُصْغِي إِلَى صُكُوكٍ وَقُبَالَاتٍ مُتَضَمَّنُهَا أَلْفَاظٌ عَوِيصَةٌ، لَا يُحِيطُ بِفَحْوَاهَا وَمُقْتَضَاهَا إِلَّا مُبَرِّزٌ تُثْنَى عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ، وَيُعَدُّ مِنَ الْمَرْمُوقِينَ وَالْأَكَابِرِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ مِنْهَا صَدَرُ الْأَلْفَاظِ فِي

أُصُولِ الْفِقْهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالِاسْتِثْنَاءَاتِ، وَسَائِرِ الْقَضَايَا وَالْمُوجِبَاتِ فِي فَنِّ الْفِقْهِ (161) فَإِلَيْهِ الرُّجُوعُ فِي مَآخِذِ الْأَحْكَامِ وَالنَّقْضِ وَالْإِبْرَامِ. فَلَيْتَ شِعْرِي مَا يُعْتَاصُ مَدْرَكُهُ، وَيُسْتَصْعَبُ مَسْلَكُهُ عَلَى الْمُرْتَوِي مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ كَيْفَ يُنْفِذُ فِيهَا قَضَاءً مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ تَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ، وَلَا يَعْرِفُ قَبِيلَهُ مِنْ دَبِيرِهِ؟ ! وَقَدْ بَدَتْ مَخَايِلُ الْخَرَفِ. وَ [انْتَهَى] مِنْهُ إِلَى الطَّرْفِ، وَلَوِ اسْتَوْعَبَ عُمُرَهُ الْمُوفِيَ عَلَى [السَّرَفِ] بِأَقْصَى تَشْمِيرِهِ، لَمْ يَقِفْ مِنْ مَضْمُونِ الصَّكِّ عَلَى عُشْرٍ مِنْ عُشَيْرِهِ، فَهَلْ فِي عَالَمِ اللَّهِ خِزْيٌ [يُبَرُّ] عَلَى خُطُوطٍ سَطَرَهَا مَنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ - وَاللَّهِ - بِحُرُوفِ التَّهَجِّي مِنْهَا، حَتَّى نَظَمَهَا لَهُ نَاظِمَانِ مِنْ جَانِبَيْهِ، وَأَلَّفَهَا مُتَطَلِّعَانِ عَلَيْهِ، وَمَضْمُونُهَا هَذَا حُكْمِي

وَقَضَائِي، وَقَدْ أَشْهَدْتُ عَلَيْهِ مَنْ حَضَرَ مَجْلِسِي. وَتَقْدِيرُهُ هَذَا حُكْمِي بِمَا لَمْ أَفْهَمْهُ، وَقَضَائِي فِيمَا لَمْ أَعْلَمْهُ، وَقَدْ أَشْهَدْتُ مَنْ هُوَ حَاضِرِي بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي خَاطِرِي. مَا لَهُ؟ قَاتَلَهُ اللَّهُ كَيْفَ خُرُوجُهُ عَنْ عُهْدَةٍ مِثْلِ هَذَا الْقَضَاءِ، إِذَا حُشِرَ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةُ فِي قَضَاءٍ؟ وَالْتَقَى الْخُصَمَاءُ وَأُقِيدَ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، وَجَثَى عَلَى الرُّكَبِ الْأَنْبِيَاءُ؟ اللَّهُمَّ غَفْرًا. لَوْلَا حَذَارُ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْوَقِيعَةِ لَنَدَبْتُ الْإِسْلَامَ، وَرَثَيْتُ الشَّرِيعَةَ، قَدْ تَعَرَّضْتُ - وَحَقِّ الْحَقِّ الْأَعْظَمِ - لِلْغَرَرِ، وَتَنَاهَيْتُ فِي اقْتِحَامِ جَرَاثِيمِ الْخَطَرِ، " وَالرَّأْيُ يَهْلِكُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ ". 433 - فَهَذَا مِقْدَارُ غَرَضِي اللَّائِقِ لِهَذَا الْمَجْمُوعِ فِي ذِكْرِ صِفَاتِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ. وَفِي آدَابِ الْقُضَاةِ، وَالدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ، وَمَرَاتِبِ الشَّهَادَاتِ كُتُبٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْفِقْهِ، فَلْيَتَّبِعْهَا مَنْ يَنْتَحِيهَا، وَلْيَطْلُبْهَا مَنْ يَدْرِيهَا.

وَقَدْ نَجَزَ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَمَنِّهِ. وَحُسْنِ تَأْيِيدِهِ، جَوَامِعُ الْكَلَامِ فِيمَا يُنَاطُ بِالْأَئِمَّةِ مِنْ أَحْكَامِ الْأُمَّةِ، وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ بَعْدَ نَجَازِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ إِلَى الْمَغْزَى وَاللُّبَابِ، فَأَحْسِنُوا الْإِصَاخَةَ مَعْشَرَ الطُّلَّابِ إِلَى تَجْدِيدِ الْعَهْدِ بِغَرَضِ الْكِتَابِ. 434 - فَأَقُولُ: مَا تَقَدَّمَ وَإِنِ احْتَوَى عَلَى كُلِّ بِدَعٍ عُجَابٍ فِي حُكْمِ التَّوْطِئَةِ، وَتَمْهِيدِ الْأَسْبَابِ، فَالْمَقْصِدُ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا - تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِمَامِ عِنْدَ تَقْدِيرِ شُغُورِ الْأَيَّامِ عَنْ وَزَرٍ يَلُوذُ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي - بَيَانُ مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْمُكَلَّفُونَ فِيمَا كُلِّفُوهُ مِنْ وَسِيلَةٍ وَذَرِيعَةٍ، إِذَا عَدِمُوا الْمُفْتِينَ، وَحَمَلَةَ الشَّرِيعَةِ. [وَ] إِذَا انْقَضَى الْفَصْلَانِ نَجَزَ بِانْقِضَائِهِمَا مَضْمُونُ هَذَا التَّصْنِيفِ وَالِاتِّكَالُ فِي التَّيْسِيرِ عَلَى لُطْفِ الْخَبِيرِ اللَّطِيفِ. 435 - فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْفَصْلَانِ الْغَرَضَ، فَلِمَ أَطَلْتَ فِيمَا قَدَّمْتَ الْقَوْلَ فِي أَبْوَابِ الْإِمَامَةِ، وَأَحْكَامِ الرِّئَاسَةِ وَالزَّعَامَةِ؟

قُلْتُ: لَا يَتَأَتَّى الْوُصُولُ إِلَى دَرْكِ تَصْوِيرِ الْخُلُوِّ عَنِ الْإِمَامِ لِمَنْ لَمْ يُحِطْ بِصِفَاتِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يَتَقَرَّرُ الْخَوْضُ فِي تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ شُغُورِ الْأَيَّامِ، مَا لَمْ تَتَّفِقِ الْإِحَاطَةُ بِمَا يُنَاطُ بِالْإِمَامِ. فَلَمْ أَذْكُرِ الْمُقَدِّمَةَ، وَمُسْتَغْنٍ عَنْهَا. عَلَى أَنِّي أَتَيْتُ فِيهَا بِسِرِّ الْإِيَالَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَسَرَدْتُ أُمُورًا تَتَضَاءَلُ عَنْهَا الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ، وَتَرَكْتُهَا مُنْتَهَى الْأُمْنِيَةِ، تُذْعِنُ لَهَا الْقُلُوبُ الْأَبِيَّةُ، وَتُقْرِنُ لِبَدَائِعِهَا النُّفُوسُ الْعَصِيَّةُ، وَتَبْتَدِرُهَا أَيْدِي النُّسَّاخِ فِي الْأَصْقَاعِ الْقَصِيَّةِ، وَكَأَنِّي بِهَا [وَ] قَدْ عَمَّتْ بِيُمْنِ أَيَّامِ مَوْلَانَا الْخِطَطُ الْمَشْرِقِيَّةُ وَالْمَغْرِبِيَّةُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ.

الركن الثاني القول في خلو الزمان عن الإمام

[الرُّكْنُ الثَّانِي الْقَوْلُ فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْإِمَامِ] [خطة الركن] [الرُّكْنُ الثَّانِي] (الْكِتَابُ الثَّانِي) الْقَوْلُ فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْإِمَامِ 346 - مَضْمُونُ هَذَا الْفَنِّ يَحْوِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: أَحَدُهَا: فِي تَصَوُّرِ انْخِرَامِ الصِّفَاتِ الْمَرْعِيَّةِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا. وَالثَّانِي - فِي اسْتِيلَاءِ مُسْتَوْلٍ مُسْتَظْهِرٍ بِطَوْلٍ وَشَوْكَةٍ وَصَوْلٍ. وَالثَّالِثُ: فِي شُغُورِ الدَّهْرِ جُمْلَةً عَنْ وَالٍ بِنَفْسِهِ، أَوْ مُتَوَلٍّ بِتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ.

الباب الأول في انخرام الصفات المعتبرة في الأئمة

[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي انْخِرَامِ الصفات الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْأَئِمَّةِ] الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي انْخِرَامِ الصِّفَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْأَئِمَّةِ 437 - قَدْ تَقَدَّمَ قَوْلٌ شَافٍ بَالِغٌ كَافٍ، فِيمَا يُشْتَرَطُ اسْتِجْمَاعُ الْإِمَامِ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ. وَنَحْنُ الْآنُ نَفْرِضُ فِي تَعَذُّرِ آحَادِهَا وَأَفْرَادِهَا عَلَى التَّدْرِيجِ، وَنَبْدَأُ بِأَقَلِّهَا غِنَاءً، ثُمَّ نَتَرَقَّى إِلَى مَا [يُبَرُّ] وَقْعُهُ وَأَثَرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، حَتَّى نَسْتَوْعِبَ مَعْقُودَ الْبَابِ وَمَقْصُودَهُ، بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَمَنِّهِ وَتَسْدِيدِهِ. 438 - فَالَّذِي يَقْتَضِي التَّرْتِيبُ تَقْدِيمَهُ: النَّسَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى قُرَيْشٍ مُعْتَبَرٌ فِي مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ، فَلَوْ لَمْ نَجِدْ قُرَشِيًّا يَسْتَقِلُّ بِأَعْبَائِهَا، وَلَمْ نَعْدِمْ شَخْصًا يَسْتَجْمِعُ بَقِيَّةَ الصِّفَاتِ، نَصَّبْنَا مَنْ وَجَدْنَاهُ عَالِمًا كَافِيًا وَرِعًا، وَكَانَ إِمَامًا مُنَفِّذَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَإِنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ اشْتِرَاطُهُ ; تَشْرِيفًا لِشَجَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَسَلَّمَ]- ; إِذْ لَا يَتَوَقَّفُ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ عَلَى الِاعْتِزَاءِ إِلَى نَسَبٍ، وَالِانْتِمَاءِ إِلَى حَسَبٍ. وَنَحْنُ

نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْإِمَامَ زِمَامُ الْأَيَّامِ، وَشَوْفُ الْأَنَامِ، وَالْغَرَضُ مِنْ نَصْبِهِ انْتِظَامُ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُتْرَكَ الْخَلْقُ سُدًى لَا رَابِطَ لَهُمْ، وَيُخَلَّوْا فَوْضَى لَا ضَابِطَ لَهُمْ، فَيَغْتَلِمُ مِنَ الْفِتَنِ بَحْرُهَا الْمَوَّاجُ، وَيَثُورُ لَهَا كُلُّ نَاجِمٍ مُهْتَاجٍ. وَنَحْنُ فِي ذَلِكَ نَرْقُبُ قُرَشِيًّا، وَالْخَلْقُ يَتَهَاوَوْنَ فِي مُهَاوِي الْمَهَالِكِ، وَيَلْتَطِمُونَ فِي الْخُطَطِ وَالْمَمَالِكِ. فَإِذًا عَدَمُ النَّسَبِ لَا يَمْنَعُ نَصْبَ كَافٍ، ثُمَّ يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرَشِيِّ. 439 - وَالَّذِي يَعْتَرِضُ فِي ذَلِكَ أَنَا إِذَا نَصَّبْنَا قُرَشِيًّا مُسْتَجْمِعًا لِلْخِلَالِ الْمَرَضِيَّةِ، وَالْخِصَالِ الْمَرْعِيَّةِ، وَلَمْ نَرَ إِذْ نَصَّبْنَاهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، ثُمَّ نَشَأَ فِي الزَّمَانِ مَنْ يَفْضُلُهُ، فَلَا نَخْلَعُ الْمَفْضُولَ لِظُهُورِ الْفَاضِلِ. وَلَوْ نَصَّبْنَا مَنْ لَيْسَ قُرَشِيًّا، إِذْ لَمْ نَجِدْ مُنْتَسِبًا إِلَى قُرَيْشٍ، ثُمَّ نَشَأَ فِي الزَّمَانِ قُرَشِيٌّ عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَطْلُوبَةِ، فَإِنْ عَسُرَ خَلْعُ مَنْ (164) لَيْسَ نَسِيبًا أَقْرَرْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ خَلْعُهُ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي تَسْلِيمُ الْأَمْرِ إِلَى الْقُرَشِيِّ، فَإِنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَحَقِّ

لِلْمُعْتَزِينَ إِلَى شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ، وَالَّذِي قَدَّمْنَا نَصْبَهُ فِي مَنْزِلَةِ الْمُسْتَنَابِ عَمَّنْ يَجْمَعُ إِلَى فَضَائِلَ الْأَسْبَابِ شَرَفَ الِانْتِسَابِ، فَإِذَا تَمَكَّنَّا مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى النِّصَابِ، ابْتَدَرْنَاهُ بِلَا ارْتِيَابٍ. وَهَذَا كَالْقَاضِي يَنُوبُ بِالتَّصَرُّفِ عَمَّنْ غَابَ، فَإِذَا حَضَرَ مُسْتَحِقُّ الْحَقِّ وَآبَ، اطَّرَدَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ عَلَى اسْتِتْبَابٍ، وَانْحَسَمَ عَنْهُ كُلُّ بَابٍ. فَهَذَا مَا حَاوَلْنَاهُ فِي فَرْضِ تَعَذُّرِ النَّسَبِ. 440 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي فَقْدِ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، فَقَدْ مَضَى أَنَّ اسْتِجْمَاعَ صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ شَرْطُ الْإِمَامَةِ، فَلَوْ لَمْ نَجِدْ مَنْ يَتَصَدَّى لِلْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَلَكِنْ صَادَفْنَا شَهْمًا ذَا نَجْدَةٍ وَكِفَايَةٍ، وَاسْتِقْلَالٍ بِعَظَائِمِ الْأُمُورِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُ الْكِفَايَةِ، فَيَتَعَيَّنُ نَصْبُهُ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَنْفُذُ أَحْكَامُهُ كَمَا تَنْفُذُ أَحْكَامُ الْإِمَامِ الْمَوْصُوفِ بِخِلَالِ الْكَمَالِ، الْمَرْعِيِّ فِي مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ. وَأَئِمَّةُ الدِّينِ وَرَاءَ إِرْشَادِهِ وَتَسْدِيدِهِ وَتَبَيُّنِ مَا يُشْكِلُ فِي الْوَاقِعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَالْعِلْمُ وَإِنْ كَانَ شَرْطُهُ فِي مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ مَعْقُولًا، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ نَجِدْ عَالِمًا فَجَمْعُ النَّاسِ عَلَى كَافٍ يَسْتَفْتِي فِيمَا

يَسْنَحُ وَيَعِنُّ لَهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِمْ سُدًى، مُتَهَاوِينَ عَلَى الْوَرَطَاتِ، مُتَعَرِّضِينَ لِلتَّغَالُبِ وَالتَّوَاثُبِ، وَضُرُوبِ الْآفَاتِ. 441 - فَإِنْ لَمْ نَجِدْ كَافِيًا وَرِعًا مُتَّقِيًا، وَوَجَدْنَا ذَا كِفَايَةٍ يَمِيلُ إِلَى الْمُجُونِ، وَفُنُونِ الْفِسْقِ، فَإِنْ كَانَ فِي انْهِمَاكِهِ، [وَانْتِهَاكِهِ] الْحُرُمَاتِ، وَاجْتِرَائِهِ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ بِحَيْثُ لَا يُؤْمَنُ غَائِلَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَصْبِهِ، فَإِنَّهُ لَوِ (165) اسْتَظْهَرَ بِالْعَتَادِ، وَتَقَوَّى بِالِاسْتِعْدَادِ، لَزَادَ ضَيْرُهُ عَلَى خَيْرِهِ، وَلَصَارَتِ الْأُهَبُ وَالْعُدَدُ الْعَتِيدَةُ لِلدِّفَاعِ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ ذَرَائِعَ لِلْفَسَادِ، وَوَصَائِلَ إِلَى الْحَيْدِ مِنْ مَسَالِكِ الرَّشَادِ، وَهَذَا نَقِيضُ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ بِنَصْبِ الْأَئِمَّةِ وَلَوْ. 442 - فُرِضَ إِلْمَامُ مُهِمٍّ يَتَعَيَّنُ مُبَادَرَتُهُ فِي حُكْمِ الدِّينِ، قَبْلَ أَنْ يَطَأَ الْكُفَّارُ طَرَفًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ جَرِّ عَسْكَرٍ، وَصَادَفْنَا فَاسِقًا نُقَلِّدُهُ الْإِمَارَةَ، وَعَسُرَ انْجِرَارُ الْعَسْكَرِ دُونَ مَرْمُوقٍ مُطَاعٍ، وَلَمْ نَتَمَكَّنْ مَنْ تَقِيٍّ دَيِّنٍ، وَإِنْ بَذْلَنَا كُنْهَ الْمُسْتَطَاعِ، فَقَدْ نَضْطَرُّ إِذَا اسْتَفَزَّتْنَا دَاهِيَةٌ تَتَعَيَّنُ الْمُسَارَعَةُ [إِلَى

دَفْعِهَا إِلَى] تَقْلِيدِ الْفَاسِقِ جَرَّ الْعَسْكَرِ. 443 - وَلَوْ فُرِضَ فَاسِقٌ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُوبِقَاتِ، وَكُنَّا نَرَاهُ حَرِيصًا، مَعَ مَا يُخَامِرُهُ مِنَ الزَّلَّاتِ، وَضُرُوبِ الْمُخَالَفَاتِ، عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، مُشَمِّرًا فِي الدِّينِ، لِانْتِصَابِ أَسْبَابِ الصَّلَاحِ الْعَامِّ الْعَائِدِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ ذَا كِفَايَةٍ، وَلَمْ نَجِدْ غَيْرَهُ، فَالظَّاهِرُ عِنْدِي نَصْبُهُ مَعَ الْقِيَامِ بِتَقْوِيمِ أَوَدِهِ عَلَى أَقْصَى الْإِمْكَانِ. فَإِنَّ تَعْطِيلَ الْمَمَالِكِ عَنْ [رَاعٍ] يَرْعَاهَا، وَوَالٍ يَتَوَلَّاهَا، عَظِيمُ الْأَثَرِ وَالْمَوْقِعِ فِي انْحِلَالِ الْأُمُورِ، وَتَعْطِيلِ الثُّغُورِ، فَإِنْ كُنَّا نَتَوَسَّمُ مِمَّنْ نُنَصِّبُهُ الِانْتِدَابَ وَالِانْتِصَابَ لِلْإِمْرَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْكِفَايَةِ وَالشَّهَامَةِ، وَكَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْضِ الْمَمَالِكِ وَالْمَسَالِكِ عَنْ ذَوِي الْعَرَامَةِ، فَنَصْبُهُ أَقْرَبُ إِلَى اسْتِصْلَاحِ الْخَلْقِ مِنْ تَرْكِهِمْ مُهْمَلِينَ، وَلَا يَعْدِلُ مَا نَتَوَقَّعُهُ مِنَ الشَّرِّ مِنْ فَسَادِهِ، وَمَا ضَرِيَ بِهِ مَنْ شِرَّتِهِ مَا يَعِنُّ مِنْ خَبَالِ الْخَلْقِ، إِذَا عَدِمُوا بَطَّاشًا يَسُوسُهُمْ، وَيَمْنَعُ الثُّوَّارَ النَّاجِمِينَ مِنْهُمْ: فَإِذًا نَصْبُ مَنْ وَصَفْنَاهُ (166) فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي حُكْمِ الضَّرُورَةِ.

444 - وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْإِمَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَرْعِيَّةً فَالْغَرَضُ الْأَظْهَرُ مِنْهَا: الْكِفَايَةُ، وَالِاسْتِقْلَالُ بِالْأَمْرِ. فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ هِيَ الْأَصْلُ وَلَكِنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَنْجَحُ مَعَ الِانْهِمَاكِ فِي الْفِسْقِ، وَالِانْسِلَالِ عَنْ رِبْقَةِ التَّقْوَى، وَقَدْ تَصِيرُ مَجْلَبَةً لِلْفَسَادِ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا اسْتِعْدَادٌ. 445 - ثُمَّ الْعِلْمُ يَلِي الْكِفَايَةَ وَالتَّقْوَى، فَإِنَّهُ الْعُدَّةُ الْكُبْرَى، وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَبِهِ يَسْتَقِلُّ الْإِمَامُ بِإِمْضَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. 446 - فَأَمَّا النَّسَبُ [وَإِنْ] كَانَ مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَلَيْسَ لَهُ غِنَاءٌ مَعْقُولٌ، وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ الْمُعْتَمِدُ الْمُسْتَنَدُ فِي اعْتِبَارِهِ. وَالْآنَ تَتَهَذَّبُ أَغْرَاضُ الْبَابِ [بِمَسَائِلَ] نَفْرِضُهَا مُسْتَعِينِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى. 447 - فَإِنْ قِيلَ: مَا قَوْلُكُمْ فِي قُرَشِيٍّ لَيْسَ بِذِي دِرَايَةٍ، وَلَا بِذِي كِفَايَةٍ إِذَا عَاصَرَهُ عَالِمٌ كَافٍ تَقِيٌّ، فَمَنْ أَوْلَى بِالْأَمْرِ مِنْهُمَا؟

قُلْنَا: لَا نُقَدِّمُ إِلَّا الْكَافِيَ التَّقِيَّ الْعَالِمَ، وَمَنْ لَا كِفَايَةَ فِيهِ، فَلَا احْتِفَالَ بِهِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَكَانِهِ أَصْلًا. 448 - فَإِنْ قِيلَ: إِذَا اجْتَمَعَ فِي عَصْرٍ وَدَهْرٍ قُرَشِيٌّ عَالِمٌ، لَيْسَ بِذِي كِفَايَةٍ وَاسْتِقْلَالٍ، وَكَافٍ شَهْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَمْرِ، فَمَنْ نُقَدِّمُ مِنْهُمَا؟ قُلْنَا: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقُرَشِيُّ ذَا خَرَقٍ وَحُمْقٍ، وَكَانَ لَا يُؤْتَى عَنْ عَتَهٍ وَخَبَلٍ، وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ نُبِّهَ لِمَرَاشِدِ الْأُمُورِ لَفَهِمَهَا وَأَحَاطَ بِهَا، وَعَلِمَهَا، ثُمَّ انْتَهَضَ لَهَا - فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ. وَسَبِيلُهُ إِذَا وَلِيَهَا أَلَّا يُقْدِمَ عَلَى خَطْبٍ انْفِرَادًا مِنْهُ بِرَأْيِهِ وَاسْتِبْدَادًا، وَيَسْتَضِيءُ بِرَأْيِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ، ثُمَّ إِذَا عَزَمَ تَوَكَّلَ. وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّنْ مَعَهُ حُظْوَةٌ صَالِحَةٌ مِنَ الْفِطْنَةِ، وَإِدْرَاكُ (167) وَجْهِ الصَّوَابِ، وَمِثْلُ هَذَا حَرِيٌّ بِأَنْ يَتَخَرَّجَ إِذَا تَدَرَّبَ وَتَهَذَّبَ، وَقَارَعَ كَرَّ الزَّمَانِ، [وَفَرَّهُ] ، وَذَاقَ حُلْوَهُ وَمُرَّهُ. وَإِنْ كَانَ فَدْمَ الْقَرِيحَةِ، مُسْتَمِيتَ الْخَاطِرِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَى وَجْهِ الرَّأْيِ، فَإِنْ أَمْضَى أَمْرًا وَأَبْرَمَ حُكْمًا، كَانَ مُقَلِّدًا، وَقَدْ ظَهَرَتْ

بَلَادَتُهُ وَخَرَقُهُ، وَاسْتَمَرَّتْ [جَسَاوَتُهُ] وَحُمْقُهُ فَمِثْلُهُ لَا يُحْسَبُ فِي الْحِسَابِ، وَلَا يُرْبَطُ بِهِ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْكَافِي الْوَرِعُ أَوْلَى بِالْأَمْرِ مِنْهُ. 449 - فَالِاسْتِقْلَالُ بِالنَّجْدَةِ وَالشَّهَامَةِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ وَالِاخْتِيَارِ مِنَ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ نَجْدَةٍ وَكِفَايَةٍ، وَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوْضَحَ الْكِفَايَةُ، وَمَا عَدَاهَا فِي حُكْمِ الِاسْتِكْمَالِ وَالتَّتِمَّةِ لَهَا. 450 - وَإِذَا عَدِمْنَا كَافِيًا، فَقَدْ فَقَدْنَا مَنْ يُؤْثَرُ نَصْبُهُ وَالِيًا وَيَتَحَقَّقُ عِنْدَ ذَلِكَ شُغُورُ الزَّمَانِ عَنِ الْوُلَاةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -.

الباب الثاني القول في ظهور مستعد بالشوكة مستول

[الْبَابُ الثَّانِي الْقَوْلُ فِي ظُهُورِ مُسْتَعْدٍ بِالشَّوْكَةِ مُسْتَوْلٍ] [أقسام المستولي بالشوكة والمنعة] 451 - قَدْ سَبَقَ فِيمَا تَمَهَّدَ مِنَ الْأَبْوَابِ بَيَانُ خِلَالِ الْكَمَالِ، وَذِكْرُ انْخِرَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّا إِذَا وَجَدْنَا كَافِيًا نَصَبْنَاهُ، وَمَا وَافَقَ مِنْ أَحْكَامِهِ مُوجَبَ الشَّرْعِ نَفَّذْنَاهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا كِفَايَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مَوْثُوقًا بِهِ لِفِسْقِهِ، لَمْ يَجُزْ نَصْبُهُ، وَلَوْ نُصِبَ، لَمْ يَكُنْ لِنَصْبِهِ حُكْمٌ أَصْلًا. وَمَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيمَنْ يَسْتَبِدُّ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِعْلَاءِ مِنْ غَيْرِ نَصْبٍ مِمَّنْ يَصِحُّ نَصْبُهُ. 452 - فَإِذَا اسْتَظْهَرَ الْمَرْءُ بِالْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الطَّاعَةِ، فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَظْهِرُ بِعُدَّتِهِ وَمُنَّتِهِ صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ عَلَى كَمَالِ شَرَائِطِهَا. وَالثَّانِي - أَلَّا يَكُونَ مُسْتَجْمِعًا لِلصِّفَاتِ (168) الْمُعْتَبَرَةِ جُمَعَ وَلَكِنْ كَانَ مِنَ الْكُفَاةِ.

استيلاء صالح للإمامة

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوْلِيَ مِنْ غَيْرِ صَلَاحٍ لِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ وَلَا اتِّصَافٍ بِنَجْدَةٍ وَكِفَايَةٍ. [اسْتِيلَاءُ صَالِحٍ لِلْإِمَامَةِ] 453 - فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْتَظْهِرُ صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ، وَلْيَقَعِ الْفَرْضُ فِيهِ إِذَا كَانَ أَصْلَحَ النَّاسِ لِهَذَا الْمَنْصِبِ. فَالْقَوْلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنْ يَخْلُوَ الزَّمَانُ عَمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ وَالِاخْتِيَارِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَانِ مَنْ يَسْتَجْمِعُ صِفَاتِ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، وَكَانَ الدَّاعِي إِلَى اتِّبَاعِهِ عَلَى الْكَمَالِ الْمَرْعِيِّ، فَإِذَا اسْتَظْهَرَ بِالْقُوَّةِ، وَتَصَدَّى لِلْإِمَامَةِ، كَانَ إِمَامًا حَقًّا، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْعَاقِدِ وَالْمَعْقُودِ لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الِافْتِقَارَ إِلَى الْإِمَامِ ظَاهِرٌ. وَالصَّالِحُ لِلْإِمَامَةِ وَاحِدٌ، وَقَدْ خَلَا الدَّهْرُ عَنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَلَا وَجْهَ لِتَعْطِيلِ الزَّمَانِ عَنْ وَالٍ يَذُبُّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَيَحْمِي

الْحَوْزَةَ، وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ لَا يَخْفَى دَرَكُهُ عَلَى مَنْ يُحِيطُ بِقَاعِدَةِ الْإِيَالَةِ. 454 - فَأَمَّا إِذَا اتَّحَدَ مَنْ يَصْلُحُ، وَفِي الْعَصْرِ مَنْ يَخْتَارُ وَيَعْقِدُ، فَهَذَا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنْ يَمْتَنِعَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ عَنِ الِاخْتِيَارِ وَالْعَقْدِ، بَعْدَ عَرْضِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ عَلَى قَصْدٍ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُتَّحَدُ فِي صَلَاحِهِ لِلْإِمَامَةِ يَدْعُو النَّاسَ، وَيَتَعَيَّنُ إِجَابَتُهُ وَاتِّبَاعُهُ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَلَا يَسُوغُ الْفُتُورُ عَنْ مُوَافَقَتِهِ - الْحَالَةَ هَذِهِ - فِي سَاعَةٍ، وَوُجُودُ ذَلِكَ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْعَقْدِ وَعَدَمُهُ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ [لِلَّذِي] أَبْدَى امْتِنَاعًا عُذْرٌ فِي امْتِنَاعِهِ، وَتَرْكِ مُوَافَقَةِ الْمُتَعَيِّنِ لِلْأَمْرِ وَاتِّبَاعِهِ. [فَالْأَمْرُ] يَنْتَهِي إِلَى خُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، لِمَا تَشَبَّثَ بِهِ مِنَ التَّمَادِي فِي الْفِسْقِ وَالْعُدْوَانِ، فَإِنَّ تَأْخِيرَ مَا (169) يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ الْكُلِّيِّ فِي حِفْظِ خُطَّةِ الْإِسْلَامِ تَحْرِيمُهُ وَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَلَيْسَ التَّوَانِي فِيهِ بِالْقَرِيبِ الْهَيِّنِ. فَهَذَا أَحَدُ قِسْمَيِ الْكَلَامِ.

455 - وَالثَّانِي - أَلَّا يَمْتَنِعَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ. وَلَكِنْ هَلْ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْإِمَامَةِ - وَالْأَمْرُ مَفْرُوضٌ فِي اتِّحَادِ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا - عَلَى الْعَقْدِ أَوْ عَلَى الْعَرْضِ عَلَى الْعَاقِدِ. هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْخَائِضُونَ فِي هَذَا الْفَنِّ: فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ، وَهُوَ السَّبَبُ فِي إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ. 456 - وَالْمَرَضِيُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى إِنْشَاءِ عَقْدٍ، وَتَجْرِيدِ اخْتِيَارٍ وَقَصْدٍ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الزَّمَانَ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اخْتِيَارٍ يُعِينُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، إِذْ لَيْسَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَلَوْ لَمْ نُقَدِّرِ اخْتِيَارًا مَعَ وُضُوحِ وُجُوبِ اتِّخَاذِ الْإِمَامِ، لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى النِّزَاعِ وَالْخِصَامِ، فَلَا أَثَرَ لِلِاخْتِيَارِ وَالْعَقْدِ وَالْإِيثَارِ إِلَّا قَطْعُ الشِّجَارِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ الِاخْتِيَارُ مُفِيدًا تَمْلِيكًا، أَوْ حَاكِمًا بِأَنَّ الْعَاقِدَ فِي إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ يَصِيرُ شَرِيكًا. فَإِذَا اتَّحَدَ

فِي الدَّهْرِ، وَتَجَرَّدَ فِي الْعَصْرِ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الشَّأْنِ، فَلَا حَاجَةَ [إِلَى] تَعْيِينٍ مِنْ عَاقِدٍ وَبَيَانٍ. وَالَّذِي يُوَضِّحُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا تُصُوِّرَ كَذَلِكَ فَحَتْمٌ عَلَى مَنْ إِلَيْهِ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يُبَايِعَ وَيُتَابِعَ وَيَخْتَارَ وَيُشَايِعَ، وَلَوِ امْتَنَعَ، لَاسْتَمَرَّتِ الْإِمَامَةُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الِاخْتِيَارِ، وَلَيْسَ إِلَى مَنْ يَفْرِضُ عَاقِدًا اخْتِيَارٌ. فَإِذًا تَعَيُّنُ الْمُتَّحِدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِهَذَا الشَّأْنِ يُغْنِيهِ عَنْ تَعْيِينٍ وَتَنْصِيصٍ، يَصْدُرُ عَنْ إِنْسَانٍ. 457 - وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَرَامِ يَسْتَدْعِي ذِكْرَ أَمْرٍ: وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ الْفَرْدَ وَإِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الِاخْتِيَارِ وَالْعَقْدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَظْهِرَ (170) بِالْقُوَّةِ وَالْمِنَّةِ، وَيَدْعُو الْجَمَاعَةَ إِلَى بَذْلِ الطَّاعَةِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الْوِفَاقِ وَالِاتِّبَاعِ، وَعَلَى أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالِامْتِنَاعِ.

458 - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَظْهِرًا بِعُدَّةٍ وَنَجْدَةٍ، فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَرْتَبِطُ بِفَنَّيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُهُ، لِتَعَيُّنِهِ لِهَذَا الْمَنْصِبِ، وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى [وَزَرٍ] يَرْمُقُ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَإِنْ كَاعُوا، وَمَا أَطَاعُوا - عَصَوْا. وَلْنَفْرِضْ هَذَا فِيهِ إِذَا عَدِمْنَا مَنْ نَرَاهُ أَهْلًا لِلْعَقْدِ وَالِاخْتِيَارِ، فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَصَدَّى لِهَذَا الشَّأْنِ، حَتَّى يُقَالَ: يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ عَلَى صُدُورِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ، فَعَلَى النَّاسِ كَافَّةً أَنْ يُطِيعُوهُ إِذَا كَانَ فَرِيدَ دَهْرِهِ، وَوَحِيدَ عَصْرِهِ فِي التَّصَدِّي لِلْإِمَامَةِ. 459 - فَإِذَا دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِذْعَانِ لَهُ وَالْإِقْرَانِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ طَائِعِينَ، فَقَدِ اتَّسَقَتِ الْإِمَامَةُ، وَاطَّرَدَتِ الرِّيَاسَةُ الْعَامَّةُ. 460 - وَإِنْ أَطَاعَهُ قَوْمٌ يَصِيرُ مُسْتَظْهِرًا بِهِمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ عَلَيْهِ وَالْمَارِقِينَ مِنْ طَاعَتِهِ - تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ أَيْضًا.

461 - وَإِنْ لَمْ يُطِعْهُ أَحَدٌ أَوِ اتَّبَعَهُ ضُعَفَاءُ لَا تَقُومُ بِهِمْ شَوْكَةٌ، [فَهَذِهِ] الصُّورَةُ تَضْطَرِبُ فِيهَا مَسَالِكُ الظُّنُونِ، وَتَقَعُ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى فُنُونٍ. 462 - فَيَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَثْبُتُ إِذْ لَمْ يَجْرِ عَقْدٌ مِنْ مُخْتَارٍ، وَلَا طَاعَةٌ تُفِيدُ عُدَّةً، وَمُنَّةٌ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاخْتِيَارِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَحْكَامِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا انْصَرَفَ الْخَلْقُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَمُشَايَعَتِهِ، كَانَ ذَلِكَ كَوُقُوعِهِ فِي أَسْرٍ يَبْعُدُ تَوَقُّعُ انْفِكَاكِهِ عَنْهُ. نَعَمْ، تَعْصِي الْخَلَائِقُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا لِمُخَالَفَةِ مَنْ [تَوَحَّدَ] لِاسْتِحْقَاقِ التَّقَدُّمِ. وَسَبَبُ تَعْصِيَتِهِمْ تَقَاعُدُهُمْ عَنْ نَصْبِ إِمَامٍ يَنْدَفِعُ بِهِ النِّزَاعُ وَالدِّفَاعُ، وَالْخُصُومَاتُ الشَّاجِرَةُ (171) وَالْفِتَنُ الثَّائِرَةُ، وَتَتَّسِقُ بِهِ الْأُمُورُ، وَتَنْتَظِمُ بِهِ الْمُهِمَّاتُ وَالْغَزَوَاتُ وَالثُّغُورُ. 463 - وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ صَائِرٌ إِلَى أَنَّهُ إِمَامٌ وَإِنْ لَمْ يُطِعْ، وَيَنْفُذُ مَا يُمْضِيهِ مِنْ أَحْكَامِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ وَضْعِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ إِضْرَابُ الْخَلْقِ [عَنْ] طَاعَتِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، كَمَا سَبَقَ

تَصْوِيرُهُ وَتَقْرِيرُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَبْوَابِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ ذَاكَ مَفْرُوضٌ فِيهِ إِذَا سَقَطَتْ طَاعَةُ الْإِمَامِ، وَوَجَدْنَا غَيْرَهُ، وَصَغْوُ النَّاسِ وَمَيْلُهُمْ إِلَى غَيْرِهِ. فَالَّذِي يَلِيقُ بِاسْتِصْلَاحِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ نَصْبُ مَنْ هُوَ شَوْفُ النُّفُوسِ. وَالَّذِي نَحْنُ فِيهِ مُصَوَّرٌ فِيهِ إِذَا تَفَرَّدَ فِي الزَّمَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَيَّنَتْ طَاعَةُ مِثْلِ هَذَا عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِمَامِ إِمَامًا إِلَّا أَنَّ طَاعَتَهُ وَاجِبَةٌ. وَهَذَا الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَهُوَ إِمَامٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فَتَنْفُذُ إِذًا أَحْكَامُهُ. 464 - وَهَذَا مُتَّجِهٌ عِنْدِي وَاضِحٌ. وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بَعِيدًا أَيْضًا، فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْإِمَامَةِ الِاسْتِظْهَارُ بِالْمُنَّةِ، وَالِاسْتِكْثَارُ بِالْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الَّذِي لَمْ يُطَعْ. فَهَذَا أَحَدُ الْفَنَّيْنِ. 465 - وَالْفَنُّ الثَّانِي مِنَ الْكَلَامِ أَنِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلدُّعَاءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَالتَّسَبُّبِ إِلَى تَحْصِيلِ الطَّاعَةِ، وَالِانْتِهَاضِ لِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْدَمْ مَنْ يُطِيعُهُ،

الحكم إذا كان المستولي الصالح غير متوحد

وَآثَرَ التَّقَاعُدَ، وَالِاسْتِخْلَاءَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ [عَزَّ وَجَلَّ] مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسُدُّ أَحَدٌ مَسَدَّهُ - كَانَ ذَلِكَ عِنْدِي مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَأَعْظَمِ الْجَرَائِرِ، وَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ انْصِرَافَهُ وَانْحِرَافَهُ سَلَامَةٌ، كَانَ مَا حَسِبَهُ بَاطِلًا قَطْعًا، وَالْقِيَامُ بِهَذَا الْخَطْبِ الْعَظِيمِ إِذَا كَانَ فِي النَّاسِ كُفَاةٌ فِي حُكْمِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا اسْتَقَلَّ بِهِ وَاحِدٌ، سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَإِذَا تَوَحَّدَ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ صَارَ الْقِيَامُ بِهِ فَرْضَ عَيْنٍ. وَسَنَعُودُ إِلَى تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ، وَنَأْتِي بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. 466 - ثُمَّ إِنِ اجْتَنَبَ وَتَنَكَّبَ، وَلَمْ يَدْعُ إِلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَصِرْ بِنَفْسِ اسْتِحْقَاقِهِ إِمَامًا، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ أَجْمَعِينَ. فَهَذَا بَيَانُ الْمُرَادِ فِيهِ إِذَا اسْتَوْلَى مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِلْإِمَامَةِ، وَكَانَ فَرِيدَ الدَّهْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْمَنْصِبِ. [الحكم إذا كان المستولي الصالح غير متوحد] 467 - فَلَوِ اشْتَمَلَ الزَّمَانُ عَلَى طَائِفَةِ صَالِحِينَ لِلْإِمَامَةِ فَاسْتَوْلِي وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، عَلَى قَضِيَّةِ الِاسْتِبْدَادِ، مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَعَقْدٍ، وَكَانَ الْمُسْتَظْهِرُ بِحَيْثُ لَوْ صَادَفَهُ عَقْدٌ مُخْتَارٌ، لَانْعَقَدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ. فَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ يَعْسُرُ تَصَوُّرُهُ.

468 - وَنَحْنُ نَقُولُ فِيهِ: إِنْ قَصَّرَ الْعَاقِدُونَ فِيهِ وَأَخَّرُوا تَقْدِيمَ إِمَامٍ، فَطَالَتِ الْفَتْرَةُ، وَتَمَادَتِ الْعُسْرَةُ، وَانْتَشَرَتْ أَطْرَافُ الْمَمْلَكَةِ، وَظَهَرَتْ دَوَاعِي الْخَلَلِ، فَتَقَدَّمَ صَالِحٌ لِلْإِمَامَةِ دَاعِيًا إِلَى نَفْسِهِ، مُحَاوِلًا ضَمَّ النَّشْرِ، وَرَدَّ مَا ظَهَرَ مِنْ دَوَاعِي الْغَرَرِ، فَإِذَا اسْتَظْهَرَ بِالْعُدَّةِ التَّامَّةِ مَنْ وَصَفْنَاهُ، فَظُهُورُ هَذَا لَا يُحْمَلُ عَلَى الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَالْمُرُوقِ، فَإِذَا جَرَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَجُرُّ صَرْفُهُ وَنَصْبُ غَيْرِهِ فِتَنًا، وَأُمُورًا مَحْذُورَةً، فَالْوَجْهُ أَنْ يُوَافَقَ، وَيُلْقَى إِلَيْهِ السَّلَمُ، وَتُصَفِّقَ لَهُ أَيْدِي الْعَاقِدِينَ. وَهَلْ تَثْبُتُ لَهُ الْإِمَامَةُ بِنَفْسِ الِاسْتِظْهَارِ وَالِانْتِدَابِ لِلْأَمْرِ؟ مَا أَرَاهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اخْتِيَارٍ وَعَقْدٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَوَحِّدًا فَنَقْضِي بِتَعَيُّنِ الْإِمَامَةِ لَهُ. وَثُبُوتُ الْإِمَامَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةِ عَهْدٍ مِنْ إِمَامٍ أَوْ صُدُورِ بَيْعَةٍ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ أَوِ اسْتِحْقَاقٍ بِحُكْمِ التَّفَرُّدِ وَالتَّوَحُّدِ كَمَا سَبَقَ - بِعِيدٌ.

469 -[وَقَدْ] قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا إِذَا عَسُرَتْ مُدَافَعَتُهُ، وَفِي اسْتِمْرَارِهِ عَلَى مَا تَصَدَّى (173) لَهُ تَوْفِيَةٌ لِحُقُوقِ الْإِمَامَةِ، فَيَتَعَيَّنُ تَقْرِيرُهُ، وَإِذَا تَعَيَّنَ الْأَمْرُ لَمْ يَبْقَ لِلِاخْتِيَارِ اعْتِبَارٌ، فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ إِنَّمَا يُفْرَضُ لَهُ أَثَرٌ إِذَا تَقَابَلَ مُمْكِنَانِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الثَّانِي، وَلَمْ يَتَأَتَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَيُعَيِّنُ الِاخْتِيَارُ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ. فَالِاسْتِظْهَارُ مَعَ تَعَذُّرِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ يَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ الْإِمَامَةِ. وَالْمَرَضِيُّ عِنْدَنَا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ فَيَجِبُ الْعَقْدُ لَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ غَرَضِ الْإِمَامَةِ، وَإِقَامَةِ حُقُوقِهَا، وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ الثَّائِرَةِ وَتَطْفِيَةِ النَّائِرَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ بَايَعَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا رَأَيَاهُ مُسْتَقِلًّا، وَعَلِمَا مَا فِي مُدَافَعَتِهِ مِنْ فُنُونِ الْفِتَنِ، وَضُرُوبِ الْمِحَنِ. 470 - وَغَائِلَةُ هَذَا الْفَصْلِ فِي تَصْوِيرِهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَنْتَهِضُ لِهَذَا الشَّأْنِ لَوْ بَادَرَهُ مِنْ غَيْرِ بَيْعَةٍ وَحَاجَةٍ حَافِزَةٍ، وَضَرُورَةٍ مُسْتَفِزَّةٍ، أَشْعَرَ ذَلِكَ بِاجْتِرَائِهِ، وَغُلُوِّهِ فِي اسْتِيلَائِهِ، وَتَشَوُّفِهِ إِلَى اسْتِعْلَائِهِ، وَذَلِكَ يَسِمُهُ بِابْتِغَاءِ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ.

471 - وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِفَاسِقٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَوْرَتُهُ لِحَاجَةٍ ثُمَّ زَالَتْ وَحَالَتْ، فَاسْتَمْسَكَ بِعُدَّتِهِ مُحَاوِلًا حَمْلَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْمُطَاوَلَةِ وَالْمُصَاوَلَةِ، وَحَمْلُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ عَلَى الْعَقْدِ لَهُ بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ، وَهَذَا ظُلْمٌ وَغَشْمٌ يَقْتَضِي التَّفْسِيقَ. فَإِذَا تُصُوِّرَتِ الْحَالَةُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَايَعَ، وَإِنَّمَا التَّصْوِيرُ فِيهِ إِذَا ثَارَ لِحَاجَةٍ، ثُمَّ تَأَلَّبَتْ عَلَيْهِ جُمُوعٌ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ لَمْ يَسْتَطِعْ، وَكَانَ يَجُرُّ مُحَاوَلَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ فِتَنًا لَا تُطَاقُ، وَمِحَنًا يَضِيقُ عَنِ احْتِمَالِهَا النِّطَاقُ، وَفِي اسْتِقْرَارِهِ الِاتِّسَاقُ وَالِانْتِظَامُ، وَرَفَاهِيَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَيَجِبُ تَقْرِيرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. 472 - وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ تَقْرِيرُهُ، فَلَا يَكُونُ إِمَامًا، مَا لَمْ تَجْرِ الْبَيْعَةُ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَظْنُونَةٌ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ وُجُوبُ تَقْرِيرِهِ.

استيلاء كاف ذي نجدة غير مستوفي الصفات

هَذَا كُلُّهُ فِي اسْتِيلَاءِ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ، وَهُوَ قِسْمٌ وَاحِدٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَرْسُومَةِ فِي صَدْرِ الْبَابِ. . [اسْتِيلَاءُ كَافٍ ذِي نَجْدَةٍ غَيْرِ مُسْتَوْفِي الصِّفَاتِ] 473 - فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ كَافٍ ذُو اسْتِقْلَالٍ بِالْأَشْغَالِ، وَلَيْسَ عَلَى خِلَالِ الْكَمَالِ الْمَرْعِيِّ فِي الْإِمَامَةِ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ يَنْقَسِمُ: فَلَا يَخْلُو الزَّمَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ مُسْتَجْمِعٍ لِشَرَائِطِ الْإِمَامَةِ، أَوْ لَا يَكُونُ شَاغِرًا عَنْ صَالِحٍ لَهَا. 474 - فَإِنَّ خَلَا الزَّمَانُ عَنْ كَامِلٍ عَلَى تَمَامِ الصِّفَاتِ، نُظِرَ: فَإِنْ نَصَبَ أَهْلُ النَّصْبِ كَافِيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ انْخِرَامِ الصِّفَاتِ، عَلَى تَرْتِيبٍ قَدَّمْتُهُ فِي الرُّتَبِ وَالدَّرَجَاتِ - نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ فِي إِمْضَاءِ [الْأَحْكَامِ] وَتَمْهِيدِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا. 475 - وَإِنِ اسْتَوْلَى بِنَفْسِهِ، وَاسْتَظْهَرَ بِعُدَّتِهِ، وَقَامَ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَحَوْزَتِهِ - فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ يَنْقَسِمُ حَسَبَ انْقِسَامِ الْكَلَامِ فِيهِ، إِذَا كَانَ الْمُسْتَوْلِي صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ.

حكم المستولي الكافي الذي لا يشاركه غيره

[حُكْمُ الْمُسْتَوْلِي الْكَافِي الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ] 476 - فَإِنْ تُصُوِّرَ تَوَحُّدُ كَافٍ فِي الدَّهْرِ لَا تُبَارَى شَهَامَتُهُ، وَلَا تُجَارَى صَرَامَتُهُ، وَلَمْ نَعْلَمْ مُسْتَقِلًّا بِالرِّئَاسَةِ الْعَامَّةِ غَيْرَهُ - فَيَتَعَيَّنُ نَصْبُهُ. ثُمَّ تَفْصِيلُ تَعَيُّنِهِ كَتَفْصِيلِ تَعَيُّنِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ حَرْفًا حَرْفًا. 477 - وَالْآنَ أَمُدُّ فِي ذَلِكَ أَنْفَاسِي، فَإِنَّهُ مِنْ أَهَمِّ الْمَقَاصِدِ، وَأَعَمِّ الْفَوَائِدِ، وَهُوَ مُفْتَتَحُ الْقَوْلِ فِي بَيَانِ مَا دُفِعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الزَّمَانِ. . وَالْمَقَاصِدُ مِنْ ذَلِكَ يَحْصُرُهَا أُمُورٌ: أَحُدُهَا: أَنَّ الْقَائِمَ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي خُلُوِّ الدَّهْرِ، وَشُغُورِ الْعَصْرِ فِي حُكْمِ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ (175) بِالْوَاضِحَةِ، وَالْحُجَّةِ اللَّائِحَةِ، حَتَّى إِذَا تَقَرَّرَتِ الْقَاعِدَةُ،

رَتَّبْنَا عَلَيْهَا مَا يَتَّضِحُ بِهِ الْمَقْصُودُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ الْمَحْمُودُ. 478 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَفْرَادِ الْمُسْتَقِلِّينَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْمُرُوا بِوُجُوهِ الْمَعْرُوفِ، وَيَسْعَوْا فِي إِغَاثَةِ كُلِّ مَلْهُوفٍ، وَيُشَمِّرُوا فِي إِنْقَاذِ الْمُشْرِفِينَ عَلَى الْمَهَالِكِ وَالْمَتَاوِي وَالْحُتُوفِ. 479 - وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَأَى مُضْطَرًّا مَظْلُومًا، مُضْطَهَدًا مَهْضُومًا، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ مَنْ ظَلَمَهُ، وَمَنْعِ مَنْ غَشَمَهُ، فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ بِكُنْهِ جُهْدِهِ، وَغَايَةِ أَيْدِهِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ. 480 - وَلَوْ هَمَّ رَجُلٌ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ نَزْرٍ وَتَحٍ مِنْ

مَالِ إِنْسَانٍ، فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَإِنْ أَتَى الدَّفْعُ عَلَى الْقَاصِدِ ظُلْمًا، كَانَ دَمُهُ مُهْدَرًا مُحْبَطًا، مَطْلُولًا مُسْقَطًا. 481 - فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ الدَّفْعُ عَنِ الْفَلْسِ وَالنَّفْسِ بِاللِّسَانِ وَالْخَمْسِ، ثُمَّ بِالسِّلَاحِ وَالْجِرَاحِ، مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ بِزُهُوقِ الْأَرْوَاحِ، مَعَ التَّعَرُّضِ لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْإِخْفَاقِ وَالْإِنْجَاحِ، فَلَوِ انْتَفَضَ الدَّهْرُ عَنْ إِمَامٍ ذِي اسْتِقْلَالٍ، وَقِيَامٍ بِمُهِمَّاتِ الْأَنَامِ، وَلَا خَبَالَ فِي عَالَمِ اللَّهِ يُبِرُّ عَلَى الْتِطَامِ الرِّعَاعِ وَالطَّغَامِ، وَهَمَجِ الْعَوَامِّ. وَلَوْ جَرَتْ فَتْرَةٌ فِي بَعْضِ الْأَعْوَامِ، وَجَرَى مَا نُحَاذِرُهُ مِنْ خُرُوجِ الْأُمُورِ عَنْ مَسَالِكِ الِانْتِظَامِ لَلَقِيَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ أَحْوَالًا وَاخْتِلَالًا، لَا يُحِيطُ بِوَصْفِهِ غَايَاتُ الْإِطْنَابِ فِي الْكَلَامِ وَلَأَكَلَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا، وَارْتَجَّتِ الْمَمَالِكُ، وَاضْطَرَبَتِ الْمَسَالِكُ طُولًا وَعَرْضًا. ثُمَّ إِذَا خَلَتِ الدِّيَارُ عَنِ الْجُنُودِ الْمَعْقُودَةِ وَالْأَنْصَارِ، اسْتَجْرَأَ

الْكُفَّارُ، وَتَمَادَى الْفَسَادُ وَالِانْتِشَارُ، وَعَمَّ الشَّرُّ وَالضُّرُّ (176) وَظَهَرَ الْخَبَالُ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ: فَكَمْ مِنْ دِمَاءٍ لَوْ أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ تُسْفَكُ، وَكَمْ مِنْ حُرُمَاتٍ تُهْتَكُ، وَكَمْ مِنْ حُدُودٍ تَضِيعُ وَتُهْمَلُ، وَكَمْ ذَرِيعَةٍ فِي تَعْطِيلِ الشَّرِيعَةِ تَعْمَلُ، وَكَمْ مِنْ مَنَاظِمَ لِلدِّينِ تَدْرَسُ، وَكَمْ مَعَالِمَ تُمْحَقُ وَتُطْمَسُ. وَقَدْ يَتَدَاعَى الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِ الْمِلَّةِ، وَيُفْضِي إِلَى عَظَائِمَ تَسْتَأْصِلُ الدِّينَ كُلَّهُ، [إِذَا] لَمْ يَنْتَهِضْ مَنْ يَحْمِلُ عَنَاءَ الْإِسْلَامِ وَكَلَّهُ. 482 - فَلَوِ انْتَهَى الْخَطْبُ إِلَى هَذَا الْمُنْتَهَى، وَاسْتَمْكَنَ مُتَوَحِّدٌ فِي الْعَالَمِ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَمُوَافَاةِ الْأَقْدَارِ، وَمُصَافَاةِ الْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ. وَثَقَابَةِ الرَّأْيِ وَالنَّهْيِ وَعَزِيمَةٍ فِي الْمُعْضِلَاتِ لَا تُفَلُّ، وَشَكِيمَةٍ لَا تُحَلُّ، وَصَرَامَةٍ فِي [الْمُلِمَّاتِ] يَكِلُّ عَنْ نَفَاذِهَا ظُبَاتُ السُّيُوفِ، وَشَهَامَةٌ فِي الدَّوَاهِي الْمُدْلَهِمَّاتِ تَسْتَهِينُ بِاقْتِحَامِ جَرَاثِيمِ الْحُتُوفِ، وَأَنَاةٍ يَخِفُّ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا الْأَطْوَادُ الرَّاسِخَةُ. وَخِفَّةٍ إِلَى مُصَادَمَةِ الْعَظَائِمِ تَسْتَفِزُّ ثِقَلَ الْأَوْتَادِ الشَّامِخَةِ، إِذَا حَسَبَ تَبَلَّدَ بَيْنَ يَدَيْهِ كُلُّ

مَاهِرٍ [حَسُوبٍ] ، وَإِذَا شَمَّرَ، خَضَعَ لِجَدِّهِ وَجِدِّهِ مُعَوِّصَاتُ الْخُطُوبِ، وَقَدْ طَبَعَ الْفَاطِرُ عَلَى الْإِذْعَانِ لَهُ حَبَّاتِ الْقُلُوبِ، كُلَّمَا ازْدَادَتِ الْأُمُورُ عُسْرًا، ازْدَادَ صَدْرُهُ الرَّحِيبُ انْفِسَاحًا، وَغُرَّتُهُ الْمَيْمُونَةُ بِشْرًا. إِنْ نَطَقَ فَجَوَامِعُ الْكَلِمِ وَبَدَائِعُ الْحِكَمِ، تَنْتَزِعُ عَنِ الْأَصْمِخَةِ صِمَامَ الصَّمَمِ، وَإِنْ رَمَزَ وَأَشَارَ فَالشَّهْدُ الْجِنِّيُّ الْمُشَارُ. وَإِنْ وَقَعَ أَعْرَبَ وَأَبْدَعَ، وَخَفَضَ وَرَفَعَ، وَفَرَّقَ وَجَمَعَ، وَنَفَعَ وَدَفَعَ، الْعِفَّةُ حُكْمُ خَلَائِقِهِ، وَالِاسْتِقَامَةُ نَظْمُ طَرَائِقِهِ، وَقَدْ حَنَّكَتْهُ التَّجَارِبُ، وَهَذَّبَتْهُ الْمَذَاهِبُ، يُسْكِتُهُ حِلْمُهُ، وَيُنْطِقُهُ عِلْمُهُ، وَتُغْنِيهِ اللَّحْظَةُ، وَتُفْهِمُهُ اللَّفْظَةُ، يَخْدُمُهُ السَّيْفُ وَالْقَلَمُ (177) ، وَيَعْشُو إِلَى ضَوْءِ رَأْيِهِ الْأُمَمُ. إِنْ سَطَا عَلَى

الْعُتَاةِ بِعُنْفِهِ شَامِخًا بِأَنْفِهِ، ارْفَضَّتْ رَوَاسِي الْجِبَالِ، وَتَقَطَّعَتْ نِيَاطُ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَإِنْ لَاحَظَ الْعُفَاةَ بِطَوْلِهِ أَزْهَرَتْ رِيَاضُ الْآمَالِ. وَهَذِهِ الْخِلَالُ إِلَى اسْتِمْسَاكٍ مِنَ الدِّينِ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ، وَاعْتِصَامٍ بِعُرَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَلِيَاذٍ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ بِثَلْجِ الصَّدْرِ، وَبَرْدِ الْيَقِينِ، وَثِقَةٍ بِفَضْلِ اللَّهِ لَا يُكَدِّرُهَا نَوَائِبُ الْأَزْمَانِ، وَلَا يُغَيِّرُهَا طَوَارِقُ الْحَدَثَانِ. وَحَقُّ الْمَلِيكِ الدَّيَّانِ أَنَّهُ يَقْصُرُ عَنْ أَدْنَى مَعَانِيهِ وَمَعَالِيهِ غَايَاتُ الْبَيَانِ. 483 - هَذِهِ كِنَايَاتٌ عَنْ سَيِّدِ الدَّهْرِ، وَصَدْرِ الْعَصْرِ، وَمَنْ إِلَى جَنَابِهِ مُنْتَهَى الْعُلَا وَالْفَخْرِ، وَقَدْ قَيَّضَهُ اللَّهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، لِتَوَلِّي أُمُورِ الْعَالَمِينَ وَتَعَاطِيهَا، وَأُعْطِيَ الْقَوْسُ بَارِيهَا. فَهُوَ عَلَى الْقَطْعِ فِي الذَّبِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَالنِّضَالِ عَنِ الْمِلَّةِ وَتَرْفِيهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كُلِّ مَدْحَضَةٍ وَمَزَلَّةٍ، وَتَنْقِيَةِ الشَّرِيعَةِ [عَنْ] كُلِّ بِدْعَةٍ شَنْعَاءَ مُضِلَّةٍ، وَكَفِّ الْأَكُفِّ الْعَادِيَّةِ. وَعَضُدِ الْفِئَةِ الْمُرْشِدَةِ الْهَادِيَةِ فِي

مَقَامٍ شَفِيقٍ رَفِيقٍ، قَوَّامٍ عَلَى كَفَالَةِ أَيْتَامٍ: يَنْتَحِي غِبْطَتَهُمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَثْرَتَهُمْ وَسَقْطَتَهُمْ. 484 - وَإِذَا كَانَ يَقُومُ الرَّجُلُ الْفَرْدُ بِالذَّبِّ عَنْ أَخِيهِ، وَبِهِدَايَةِ مَنْ يَسْتَهْدِيهِ، وَنُصْرَةِ مَنْ يَنْدُبُهُ وَيَسْتَدْعِيهِ، فَالْإِسْلَامُ فِي حُكْمِ شَخْصٍ مَائِلٍ يَلْتَمِسُ مَنْ يُقِيمُ أَوَدَهُ، وَيَجْمَعُ شَتَاتَهُ وَبَدَدَهُ، وَيَكُونُ عَضُدَهُ وَمَدَدَهُ، وَوَزَرَهُ وَعُدَدَهُ. فَلَئِنْ وَجَبَ إِسْعَافُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِمُنَاهُ [وَإِجَابَتُهُ] فِي اسْتِنْجَادِهِ وَاسْتِرْفَادِهِ إِلَى مَهْوَاهُ فَالْإِسْلَامُ أَوْلَى بِالذَّبِّ، وَالنَّادِبُ إِلَيْهِ اللَّهُ. 485 - وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ لِآحَادِ النَّاسِ شَهْرُ السِّلَاحِ، وَمُحَاوَلَةُ الْمِرَاسِ فِي رِعَايَةِ الصَّلَاحِ وَالِاسْتِصْلَاحِ (178) لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْرَةِ النُّفُوسِ، وَالْإِبَاءِ وَالنِّفَاسِ، وَالْإِفْضَاءِ إِلَى التَّهَارُشِ وَالشِّمَاسِ. 486 - وَالَّذِي يُزِيلُ أَصْلَ الْإِشْكَالِ وَالْإِلْبَاسِ أَنَا نُجَوِّزُ لِلْمُطَّوَّعَةِ فِي الْجِهَادِ الْإِيغَالَ فِي بِلَادِ أَهْلِ الْعِنَادِ مِنَ الْكُفَّارِ، عَلَى الِاسْتِبْدَادِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ صَدْرُهُمْ عَنْ رَأْيِ الْإِمَامِ الَّذِي إِلَيْهِ الِاسْتِنَادُ،

فَلَمَّا كَانَ غَايَتَهُمُ الِاسْتِشْهَادُ - وَالشَّهَادَةُ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ - لَمْ يُمْنَعِ الْمُطَّوِّعَةُ مِنَ التَّشْمِيرِ لِلْقِتَالِ. وَالنِّزَاعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَحْذُورٌ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَيْهِ مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ. فَإِذَا اسْتَقَلَّ فَرْدُ الزَّمَانِ بِعُدَّةٍ لَا تَصَادُمَ، وَاسْتَطَالَتْ يَدُهُ الطُّولَى، عَلَى الْمَمَالِكِ عَرْضًا وَطُولًا، وَاسْتَتَبَّتِ الطَّاعَةُ، وَأَمْكَنَتِ الِاسْتِطَاعَةُ فَقِيَامُهُ بِمَصَالِحِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، كَقِيَامِ الْوَاحِدِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بِاللِّسَانِ. وَهَا أَنَا الْآنَ أُنْهِي الْقَوْلَ فِيهِ، إِلَى قُصَارَى الْبَيَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ. 487 -[فَالْمُتَّبَعُ] فِي [حَقِّ الْمُتَعَبِّدِينَ] الشَّرِيعَةُ وَمُسْتَنَدُهَا الْقُرْآنُ، ثُمَّ الْإِيضَاحُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْبَيَانُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ الْمُنْعَقِدُ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْإِيمَانِ. فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ. وَمَا عَدَاهَا مِنْ مُسْتَمْسِكَاتِ الدِّينِ كَالْفُرُوعِ وَالْأَفْنَانِ.

488 - وَالْإِمَامُ فِي الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ، وَتَطَوُّقِ الْإِسْلَامِ كَوَاحِدٍ مِنْ مُكَلَّفِي الْأَنَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ فِي حَمْلِ النَّاسِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى صَالِحَيْنِ لِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ، فَالِاخْتِيَارُ يَقْطَعُ الشِّجَارَ، وَيَتَضَمَّنُ التَّعْيِينَ وَالِانْحِصَارَ، وَلَا حُكْمَ مَعَ قِيَامِ الْإِمَامِ إِلَّا لِلْمَلِيكِ الْعَلَّامِ. 489 - فَإِذَا لَمْ يَتَّفِقْ مُسْتَجْمِعٌ لِلصِّفَاتِ الْمَرْعِيَّةِ، وَاسْتَحَالَ تَعْطِيلُ الْمَمَالِكِ وَالرَّعِيَّةِ، وَتَوَحَّدَ شَخْصٌ بِالِاسْتِعْدَادِ بِالْأَنْصَارِ، وَالِاسْتِظْهَارِ بِعَدَدِ الِاقْتِهَارِ وَالِاقْتِسَارِ (179) [وَالِاسْتِيلَاءِ] عَلَى مَرَدَةِ الدِّيَارِ، وَسَاعَدَتْهُ مُوَاتَاةُ الْأَقْدَارِ، وَتَطَامَنَتْ لَهُ أَقَاصِي الْأَقْطَارِ، وَتَكَامَلَتْ أَسْبَابُ الِاقْتِدَارِ. فَمَا الَّذِي [يُرَخِّصُ] لَهُ فِي الِاسْتِئْخَارِ عَنِ النُّصْرَةِ وَالِانْتِصَارِ؟ وَالْمُمْتَثِلُ أَمْرَ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ، كَيْفَ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَاسْتَدَارَ. 490 - فَالْمَعْنَى الَّذِي يُلْزِمُ الْخَلْقَ طَاعَةَ الْإِمَامِ، وَيُلْزِمُ الْإِمَامَ الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ أَيْسَرُ مَسْلَكٍ فِي إِمْضَاءِ

الْأَحْكَامِ، وَقَطْعِ النِّزَاعِ وَالْإِلْزَامِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ وُجُودِ مُقْتَدِرٍ عَلَى الْقِيَامِ بِمُهِمَّاتِ الْأَنَامِ، مَعَ شُغُورِ الزَّمَانِ عَنْ إِمَامٍ. 491 - فَقَدْ تَحَقَّقَ مَا أُحَاوِلُهُ قَطْعًا عَلَى اللَّهِ الْعَظِيمِ شَانُهُ، وَوَضَحَ كَفَلَقِ الصُّبْحِ دَلِيلُهُ وَبُرْهَانُهُ، فَامْضِ يَا صَدْرَ الزَّمَانِ

قُدُمًا وَلَا تُؤَخِّرِ الِانْتِهَاضَ لِمَا رَشَّحَكَ اللَّهُ لَهُ [قُدُمًا] . وَأُقَدِّرُ الْآنَ أَسْئِلَةً مُخَيَّلَةً وَأَنْوِي بِيُمْنِ أَيَّامِ مَوْلَانَا جَوَابًا عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ يُوَضِّحُ تَحْقِيقَهُ وَتَحْصِيلَهُ، ثُمَّ يَنْتَجِزُ بِانْقِضَاءِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَقْصُودُ هَذَا الْفَصْلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. 492 - فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ يَسْتَقِيمُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَيَسْتَمِرُّ مَا كَرَّرْتُمُوهُ لَوْ كَانَتِ الْأُمُورُ جَارِيَةً عَلَى سُنَنِ السَّدَادِ وَمَنَاهِجِ الرَّشَادِ، فَأَمَّا وَالْأَيْدِي عَادِيَةٌ، وَوُجُوهُ الْخَبَلِ وَالْفَسَادِ بَادِيَةٌ، وَنُفُوسُ الْمُتَمَرِّدِينَ عَلَى الطُّغْيَانِ وَالْعُدْوَانِ مُتَمَادِيَةٌ، وَلَيْسَ لِلْمُلْكِ عِصَامٌ ضَابِطٌ، وَلَا

دفاع إمام الحرمين عن نظام الملك

انْتِظَامٌ رَابِطٌ، وَرِبْقَةُ الْإِيَالَةِ مَحْلُولَةٌ، وَحُدُودُ السِّيَاسَةِ مَفْلُولَةٌ، وَسُيُوفُ الِاعْتِدَاءِ مَسْلُولَةٌ، وَرِبَاطُ الْعَزَائِمِ مُنْحَلَّةٌ، وَرِقَابُ الطَّغَامِ عَنْ جَامِعَةِ الْوُلَاةِ مُنْسَلَّةٌ، وَمَعَالِمُ الْعَدْلِ مُنْدَرِسَةٌ، وَمَنَاظِمُ الْإِنْصَافِ مُنْطَمِسَةٌ. فَالْبُعْدُ مِنْ هَذِهِ الْفِئَةِ الطَّاغِيَةِ أَسْلَمُ، وَالنَّأْيُ عَنْهُمْ أَحْزَمُ، وَإِذَا اسْتَبْدَلَ الزَّمَانُ عَنِ الرُّشْدِ غَيًّا، فَلَا نَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيًّا. [دفاع إمام الحرمين عن نظام الملك] 493 - قُلْتُ: هَذَا الْآنُ تَدْلِيسٌ وَإِلْغَازٌ وَتَلْبِيسٌ (180) وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ وَصَوَّرَهُ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ مَبْسُوطَةٌ، وَعُرَى الْمُلْكِ بِرَأْيِ سُلْطَانِ الزَّمَانِ مَنُوطَةٌ، وَحَوْزَةُ الْإِسْلَامِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ - مَحُوطَةٌ، وَالْأُبَّهَةُ قَائِمَةٌ، وَالْأَرْكَانُ وَارِفَةُ الْأَفْنَانِ، رَحْبَةُ الْأَعْطَانِ. وَقَاعِدَةُ الْمُلْكِ رَاسِخَةٌ، وَأَطْوَادُ الْهَيْبَةِ شَامِخَةٌ، وَأَوْتَادُ الدَّوْلَةِ بَاذِخَةٌ، وَالسَّلْطَنَةُ بِمَائِهَا، وَالْمَمْلَكَةُ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى عَلَائِهَا،

وَالْعِزَّةُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي غُلَوَائِهَا، وَرِوَاقُ الْجِدِّ مَمْدُودٌ، وَلِوَاءُ النَّصْرِ مَعْقُودٌ، مَا نَجَمَ نَاجِمٌ إِلَّا قَصَمَهُ مِنَ الْقَدَرِ الْغَالِبِ قَاصِمٌ، وَمَا هَجَمَ ثَائِرٌ هَاجِمٌ إِلَّا صَدَمَهُ صَادِمٌ. وَلَوْ ذَهَبْتُ أَبْسُطُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَقَالًا، لَصَادَفْتُ مُضْطَرَبًا رَحْبًا وَمَجَالًا. [أَمَّا] تَعَدِّي الْأَجْنَادِ بَعْضَ حُدُودِ الِاقْتِصَادِ، فَلَمْ يَخْلُ مِنْهُ زَمَانٌ، وَلَمْ يَعْرَ مِنْهُ أَوَانٌ، وَنِعْمَ الْحُكْمُ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ، فَلْنَضْرِبْ عَمَّا يَجْرِي فِي الْأَكْنَافِ وَالْأَطْرَافِ، وَلْنَعْمَلْ عَلَى تَنْكُّبِ الِاعْتِسَافِ، فَنَقُولُ: 494 - مَرْمُوقُ الْخَلَائِقِ عَلَى [تَفَنُّنِ] الْآرَاءِ وَالطَّرَائِقِ الدِّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ وَالْحُرَمُ. أَمَّا الدِّمَاءُ فَمَحْقُونَةٌ فِي أُهُبِهَا فِي أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، فَإِنْ فُرِضَتْ فَتْكَةٌ وَاغْتِيَالٌ، وَهَتْكَةٌ وَاحْتِيَالٌ تَدَارَكَهَا الْمُتَرَصِّدُونَ لِهَذِهِ الْأَشْغَالِ. وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَمُعْظَمُ الطَّلَبَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ الضَّبْطِ مَحْسُومَةٌ، [وَأَسْبَابُ] الْمَكَاسِبِ مَنْظُومَةٌ، وَمَطَالِعُ مَطَامِعِ الْمُتَعَدِّينَ

أَطْوَارُهُمْ مَرْدُومَةٌ، وَالتَّوْزِيعَاتُ وَالْقِسَمُ مَرْفُوضَةٌ، وَقَوَاعِدُ الْمُطَالَبَاتِ وَالْمُصَادَرَاتِ مَنْقُوضَةٌ، وَالرِّفَاقُ مِنْ أَقَاصِي الْآفَاقِ عَلَى أَطْرَافِ الطُّرُقِ فِي خَفْضِ الْأَمْنِ وَادِعُونَ، وَأَصْحَابُ الْعَرَامَاتِ مُطْرِقُونَ، تَحْتَ هَيْبَةِ السَّلْطَنَةِ خَاشِعُونَ، وَلَوْ قِيسَ هَذَا (181) الزَّمَانُ اللَّاحِقُ بِالزَّمَانِ السَّابِقِ لَظَهَرَ اخْتِصَاصُهُ بِفُنُونٍ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْأَمَنَةِ، لَا يَصِفُهَا الْوَاصِفُونَ، وَلَا يَقُومُ بِكَشْفِهَا الْكَاشِفُونَ وَأَمَّا الْحُرَمُ فَمَصُونَةٌ، مِنْ جِهَةِ صَدْرِ جُنُودِ الْإِسْلَامِ مَرْعِيَّةٌ مَحْفُوظَةٌ مِنْ نَزَغَاتِهِمْ وَنَزَقَاتُهُمْ مَحْمِيَّةٌ مَلْحُوظَةٌ مِنْ رُعَاةِ الرَّعِيَّةِ. وَإِنْ فُرِضَتْ لَطْمَةٌ وَبَلِيَّةٌ كَانَتْ فِي حُكْمِ عَثْرَةٍ يُرْخَى عَلَيْهَا السِّتْرُ وَتُقَالُ أَوْ يُلْحَقُ بِمَنْ يَأْتِيهَا الْخِزْيُ وَالنَّكَالُ. 495 - هَذَا حُكْمٌ كُلِّيٌّ عَلَى مَنَاظِمِ الْمَمْلَكَةِ، فَإِنِ انْسَلَّتْ عَنِ الرَّبْطِ بَوَادِرُ وَنَوَادِرُ غَيْرُ مُدْرَكَةٍ، وَفَارَقَتْ مَنْهَجَ الضَّبْطِ وَمَسْلَكَهُ أَوْ هَاجَتْ فِي أَكْنَافِ الْخُطَّةِ فِتْنَةٌ ثَائِرَةٌ، وَنَائِرَةٌ جَرَّتْ مَهْلَكَةً،

فَمَنِ الَّذِي يَضْمَنُ [نَفْضَ] الدُّنْيَا عَنْ بَوَائِقِهَا وَيُرَخِّصُهَا عَنْ دَوَاهِيهَا وَعَوَائِقِهَا هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا دَارَ الْفَلَكُ عَلَى شَكْلِهِ، وَمَا قَامَتِ النِّسَاءُ عَلَى مِثْلِهِ، دَرَّتْ أَخْلَافُ الدِّينِ فِي زَمَنِهِ ثَرَّةٌ، وَسَاسَ حَوْزَةَ الْإِسْلَامِ بِدِرَّةٍ وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّةً: لَوْ تُرِكَتْ جَرْبَاءُ عَلَى ضَفَّةِ الْفُرَاتِ لَمْ تُطْلَ بِالْهِنَاءِ، فَأَنَا الْمُطَالَبُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ثُمَّ صَادَفَ عِلْجٌ مِنْهُ غِرَّةً، وَقَتَلَهُ قِتْلَةً مُرَّةً، فَلَمْ يَنْفَعْهُ عَزْمُهُ وَحَزْمُهُ، لَمَّا نَفَذَ فِيهِ قَضَاءُ اللَّهِ وَحُكْمُهُ، وَلَمْ نَجِدْ لِقَضَاءِ اللَّهِ مَرَدًّا. وَإِنْ كَانَ سُورًا حَوْلَ الْإِسْلَامِ وَسَدًّا. وَلَوْ أَرْخَيْتُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَضْلَ عَنَانِي وَأَرْسَلْتُ عَذَبَةَ لِسَانِي وَقَصَصْتُ مِنْ بَدَائِعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، لَجَاوَزْتُ الْقَوَاعِدَ مِنْ مَقَاصِدِي فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ وَالْمَبَانِي. 496 - ثُمَّ أَخْتَتِمُ هَذَا الْفَصْلِ بِمَا هُوَ غَايَاتُ الْأَمَانِي، وَأُنْهِيهِ مَبْلَغًا يَعْتَرِفُ بِمَوْضُوعِهِ الْقَاصِي وَالدَّانِي، فَأَقُولُ: مَا تَشَبَّثَ بِهِ الطَّاعِنُونَ

مِنْ هَنَاتٍ وَعَثَرَاتٍ، صَدَرُهَا عَنْ مَعَرَّةِ (182) الْأَجْنَادِ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ سُنَنِ الِاقْتِصَادِ، فِي أَطْرَافِ الْمَمَالِكِ وَالْبِلَادِ. لَوْ سُلِّمَ لَهُمْ كَمَا يَدَّعُونَ، تُوبِعُوا فِيمَا يَأْتُونَ وَيَذَرُوَنَ، وَغُضَّ عَنْهُمْ طَرْفُ الِانْتِقَادِ فِيمَا يَبْتَدِعُونَ وَيَخْتَرِعُونَ فَأَنَّى يَقَعُ مَا يَقُولُونَ مِمَّا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ مُعْضِلَاتِ الْأُمُورِ، وَيَدْرَأُ بِسَبَبِهِمْ مِنْ فُنُونِ الدَّوَاهِيَ عَلَى كُرُورِ الدُّهُورِ؟ أَلَيْسَ بِهِمِ انْحِصَارُ الْكُفَّارِ فِي أَقَاصِي الدِّيَارِ؟ وَبِهِمْ تُخْفِقُ بُنُودُ الدِّينِ عَلَى الْخَافِقَيْنِ، وَبِهِمْ أُقِيمَتْ دَعْوَةُ الْحَقِّ فِي الْحَرَمَيْنِ، وَأُثْبِتَتْ كَتَائِبُ الْمِلَّةِ فِي الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ، [وَارْتَدَّتْ] مَنَاظِمُ الْكُفَّارِ مَنْكُوسَةً، وَمَعَالِمُهُمْ مَعْكُوسَةً. وَبَذَلَ عَظِيمُ الرُّومِ الْجِزْيَةَ وَالدَّنِيَّةَ، وَصَارَتِ الْمُسَالَمَةُ وَالْمُتَارَكَةُ لَهُ قُصَارَى الْأُمْنِيَةِ، وَانْبَسَطَتْ هَيْبَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَصْقَاعِ الْقَصِيَّةِ، وَأَطَلَّتْ عَلَى قِمَمِ الْمَارِدِينَ رَايَتُهُ الْعَلِيَّةُ، وَأَضْحَتْ ثُغَرُ صُدُورِهِمْ لِأَسِنَّةِ عَسَاكِرِ الْإِسْلَامِ دَرِيَّة.

هَذِهِ رَمْزَةٌ إِلَى أَدْنَى الْآثَارِ فِي دِيَارِ الْكُفَّارِ. 497 - فَأَمَّا مَا دَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَضُرُوبِ الْآرَاءِ فَلَا يَحْتَوِي عَلَيْهَا نِهَايَاتُ الْأَوْصَافِ وَالْأَنْبَاءِ: أَلَيْسَ اقْتَلَعُوا قَاعِدَةَ الْقَرَامِطَةِ مِنْ دِيَارِهَا وَاسْتَأْصَلُوا مَا أَعْيَا ذَوِي النَّجْدَةِ وَالْبَاسِ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْ آثَارِهَا؟ وَأَوْطَئُوا رِقَابَ الزَّنَادِقَةِ، وَكُلَّ فِئَةٍ مَارِقَةٍ سَنَابِكَ الْخَيْلِ. وَانْتَهَى رُعْبُهُمْ حَيْثُ انْتَهَى اللَّيْلُ، فَلَمْ يَبْقَ فِي خُطَّةِ الْإِسْلَامِ مُتَظَاهِرٌ بِالْبِدْعَةِ، إِلَّا أَضْحَى مَنْكُوبًا مَرْعُوبًا مَكْبُوبًا، فَإِنْ أُلْفِيَ زَائِغٌ مُرَاوِغٌ، يَدُبُّ الضَّرَّاءَ، وَيَمْشِي الْخَمَرَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَعْظَمِ الْغَرَرِ. فَإِذَا كَانُوا عِصَامًا لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَوَزَرًا لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي (183) ابْتُعِثَ بِهَا سَيِّدُ الْأَنَامِ فَأَيُّ قَدْرٍ لِلدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الدِّينِ؟ وَأَيُّ احْتِفَالٍ بِأَعْرَاضِهَا مَعَ اسْتِمْرَارِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَالْمِنَّةُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

498 - وَلَوْ أَرْخَيْتُ فِي ذَلِكَ الطِّوَلِ لَخِفْتُ انْتِهَاءَ الْكَلَامِ إِلَى الْإِطْنَابِ وَالْمَلَلِ، وَرُبَّمَا كَانَ مَا قَلَّ وَدَلَّ، أَنْجَعَ مِمَّا يَطُولُ فَيُمَلُّ، فَمَنْ لَا يُحِيطُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ فِي [اسْتِدَادِهَا] فَلْيَتَخَيَّلْ جَرَيَانَ نَقَائِضِهَا وَأَضْدَادِهَا. وَلَوْ فُرِضَتْ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - فَتْرَةٌ تَجَرَّأَ بِسَبَبِهَا الثُّوَّارُ مِنَ الدِّيَارِ، وَنَبَغَ ذَوُو [الْعَرَامَةِ] الْأَشْرَارُ، وَانْسَلُّوا عَنْ ضَبْطِ بِطَاشٍ فِي الزَّمَانِ ذِي اقْتِدَارٍ، لَافْتَدَى ذَوُو الثَّرْوَةِ وَالْيَسَارِ أَنْفُسَهُمْ وَحُرَمَهُمْ بِأَضْعَافِ مَا هُمُ الْآنَ بَاذِلُونَ فِي دَفْعِ أَدْنَى مَا يَنَالُهُمْ مِنَ الضِّرَارِ. 499 - نَعَمْ. وَلَوْ [تَذَاكَرْنَا] الْوَاقِعَةَ الَّتِي أُرِّخَتْ فِي تَوَارِيخِ الْأَخْبَارِ، لَأَغْنَتْنَا عَنْ إِطَالَةِ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، لِمَا انْجَرَّ مِنْ أَقَاصِي بِلَادِ الرُّومِ وَالْعَسْكَرِ الْجَرَّارِ وَانْسَدَّتِ السُّبُلُ، وَضَاقَتِ الْحِيَلُ، وَغُصَّ الْجَوُّ بِالْخِرْصَانِ، وَجَاشَ جَيْشُ الْكُفْرِ بِالْفُرْسَانِ، وَلَمْ يَشُكُّوا أَنَّهُمْ يَطْوُونَ مِنَ الْأَرْضِ مَنَاكِبِهَا، وَيَمْلِكُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا. وَأَضْحَتْ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ وَاجِفَةً، وَأَحْشَاؤُهُمْ رَاجِفَةً، وَآرَاؤُهُمْ

مُتَفَاوِتَةً، وَعُقُولُهُمْ مُتَهَافِتَةً، فَمَالَ مَلِكُ الْإِسْلَامِ، أَلْبْ أَرْسَلَانْ - تَغَمَّدَ اللَّهُ رُوحَهُ بِالرَّوْحِ وَالرِّضْوَانِ - إِلَيْهِمْ وَانْقَضَّ انْقِضَاضَ الصَّقْرِ عَلَيْهِمْ، وَغَضِبَ لِلَّهِ غَضْبَةً تَسْتَجْفِلُ الْآسَادَ عَنْ أَشْبَالِهَا، وَانْغَمَسَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ فِي غَمْرَةِ الدَّاهِيَةِ، غَيْرَ مُحْتَفِلٍ بِأَهْوَالِهَا. وَكَانَ الْكُفَّارُ اغْتَرُّوا بِوُفُورِ جَمْعِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مِنْ وَرَاءِ قَمْعِهِمْ، فَرَضِيَ مَلِكُ الْإِسْلَامِ بِمَقْدُورِ الْقَضَاءِ، وَمَدَّ عِلْمَ الْحَقِّ (184) إِلَى الْفَضَاءِ فَأَضَاءَتْهُ مِنْ جُنُودِ الْإِسْلَامِ بُرُوقُ السُّيُوفِ، وَمَطَرَتْ سَحَائِبُ الْحُتُوفِ، وَتَكَشَّرَتْ أَنْيَابُ الْهَيْجَاءِ، وَدَارَتِ الرَّحَا عَلَى الدِّمَاءِ، وَاسْتَمَرَّتِ الْحَرْبُ سَجَالًا، وَنَالَ كُلٌّ مِنْ قِرْنِهِ مَنَالًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْتَقَى الصَّفَّانِ، وَالْتَحَمَ الْفِئَتَانِ، وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ.

فَقَالَ الْمَلِكُ أَلْبْ أَرْسَلَانْ: طَارِدُوهُمْ حَتَّى تُوَافُوا [أَوَانَ] دَعْوَةِ الْخُطَبَاءِ فِي أَقَاصِي الْبُلْدَانِ، فَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ حَتَّى زَالَتْ أَعْلَامُهُمْ، وَزَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ، وَبُلِّغْتُ أَنَّ قَائِدَهُمُ الْمُلَقَّبَ بِقَيْصَرَ لَمَّا نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مَنَاخِرِهِ، وَعَمِيَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ آخِرِهِ، أَقْدَمَ مُتَابِعًا قَائِدَ غَيِّهِ وَضَلَالِهِ، مُجِيبًا دَاعِيَ جَهْلِهِ وَخَبَالِهِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَبْدَتِ الْحَرْبُ مَقَاتِلَهُ وَأَرْسَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ كَلَاكِلَهُ، فَحَصَلَ فِي قَبْضَةِ الْأَسْرِ، وَانْبَسَطَتْ عَلَيْهِ يَدُ الْقَسْرِ، وَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ، وَأَذَاقَهُ وَبَالَ أَمْرِهِ، فَبَاتَ مَعَ الْمُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ، وَاللَّهُ لِلْبَاغِينَ بِالْمِرْصَادِ. فَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَمِلْ بِهِ مَهْوَى الْهَوَى عَنِ الصِّدْقِ تَبَيَّنَ عَلَى الْبِدَارِ وَالسَّبْقِ أَنَّ خَزَائِنَ الْعَالَمِينَ، وَذَخَائِرَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ وَكُنُوزَ الْمُنْقَرِضِينَ، لَوْ قُوبِلَتْ بِوَطْأَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَطْرَافِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ، لَكَانَتْ مُسْتَحْقَرَةً مُسْتَنْزَرَةً. فَكَيْفَ لَوْ تَمَلَّكُوا الْبِلَادَ

وَقَتَلُوا الْعِبَادَ، وَقَرَعُوا الْحُصُونَ وَالْأَسْدَادَ، وَخَرَقُوا عَنْ ذَوَاتِ الْخُدُورِ حُجُبَ الرَّشَادِ، وَمَالَ إِلَيْهِمْ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ مِنْ حُثَالَةِ النَّاسِ بِالِارْتِدَادِ، وَتَخَلَّلَ الْحَرَائِرَ الْعُلُوجُ، وَهَتَكَ حِجَالَهُنَّ التَّبَذُّلُ وَالْبُرُوجُ، وَهُدِّمَتِ الْمَسَاجِدُ، وَرُفِعَتِ الشَّعَائِرُ وَالْمَشَاهِدُ، وَانْقَطَعَتِ الْجَمَاعَاتُ وَالْأَذَانُ وَشُهِرَتِ النَّوَاقِيسُ وَالصُّلْبَانُ وَتَفَاقَمَتْ دَوَاعِي الِاجْتِرَاءِ (185) وَالِافْتِضَاحِ، وَصَارَتْ خُطَّةُ الْإِسْلَامِ بَحْرًا طَافِحًا بِالْكُفْرِ الصُّرَاحِ؟ فَمَا الْقَوْلُ فِي أَقْوَامٍ بَذَلُوا فِي الذَّبِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ حُشَاشَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَرَكِبُوا نِهَايَاتِ الْغَرَرِ مُتَجَرِّدِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْكِفَاحِ، وَوَاصَلُوا الْمَسَاءَ بِالصَّبَاحِ، وَالْغُدُوَّ بِالرَّوَاحِ، وَرَكِبُوا إِلَى الْمَوْتِ أَجْنِحَةَ الرِّيَاحِ، مُتَشَوِّفِينَ إِلَى مَنْهَلِ الْمَنَايَا عَلَى هِزَّةٍ وَارْتِيَاحٍ؟ حَتَّى وَافَوْا بَحْرًا مِنْ جَمْعِ الْكُفَّارِ لَا يَنْزِفُهُ إِدْمَانُ الِانْتِزَاحِ، فَرَكَنُوا لِلْمَوْتِ. وَتَنَادَوْا لَا بَرَاحَ، وَأَلَمُّوا بِهِمْ إِلْمَامَ الْقَدْرِ الْمُتَاحِ، وَمَا وَهَنُوا

وَمَا اسْتَكَانُوا وَإِنْ عَضَّهُمُ السِّلَاحُ، وَفَشَا فِيهِمِ الْجِرَاحُ حَتَّى أَهَبَّ اللَّهُ رِيَاحَ النَّصْرِ مِنْ مَهَابِّهَا، وَرَدَّ شَعَائِرَ الْحَقِّ إِلَى نِصَابِهَا، وَقَيَّضَ مِنْ أَلْطَافِهِ بَدَائِعَ أَسْبَابِهَا. أَيَثْقُلُ هَؤُلَاءِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِنَزْرٍ مِنَ الْحُطَامِ؟ وَهُمُ الْقِوَامُ وَالنِّظَامُ. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ كَفَفْتُ فِيهَا غَرْبَ الْكَلَامِ، وَدَلَلْتُ بِالْمَرَامِزِ عَلَى نِهَايَاتِ الْمَرَامِ. 500 - وَالْآنَ آخُذُ فِي فَنٍّ [آخَرَ] وَأَنْتَحِي فِيهِ فَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ وَالْإِتْمَامَ، فَأَقُولُ: لَوْ سَلَّمْتُ لِلطَّاعِنِينَ غَايَةَ مَا حَاوَلُوهُ جَدَلًا، وَلَمْ أُنَازِعْهُمْ مَثَلًا، وَضَرَبْتُ عَنْ مُحَاقَّتِهِمْ حَوْلًا، فَهَلْ هُمْ مُنْصِفِيَّ فِي خُطَّةٍ أُسَائِلُهُمْ

عَنْ سِرِّهَا وَأُبَاحِثُهُمْ فِي خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَنَفْعِهَا وَضُرِّهَا وَحُلُوِهَا وَمُرِّهَا، فَأَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا خُلُوَّ الزَّمَانِ عَمَّنْ تَشْكُونَ مِنَ الْأَقْوَامِ وَتَعَرَّى الْخَوَاصُّ وَالْعَوَّامُّ، عَنْ مُسَيْطِرٍ بَطَّاشٍ قَوَّامٍ. أَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى السَّدَادِ وَالِانْتِظَامِ، أَمْ قِيَامُهُمْ عَلَى الثُّوَّارِ وَالطَّغَامِ، مَعَ امْتِدَادِ الْأَيْدِي إِلَى نَزْرٍ مِمَّا جَمَعُوهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالْحَرَامِ، مَعَ اسْتِمْسَاكِهِمْ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ بِأَقْوَى عِصَامٍ، وَوُقُوفِهِمْ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ، كَأَنَّهُمْ أُسُودٌ آجَامٌ؟ فَالْوَجْهُ رُؤْيَةُ (186) أَنْعُمِ اللَّهِ فِي مَثَارِهَا، وَالِابْتِهَالُ إِلَيْهِ فِي دَفْعِ غَوَائِلِ الطَّوَارِقِ وَمَضَارِّهَا، وَمَنْ طَلَبَ زَمَانًا صَافِيًا عَنِ الْأَقْذَاءِ وَالْأَكْدَارِ، فَقَدْ حَاوَلَ مَا يَنِدُّ عَنِ الْإِمْكَانِ وَالْأَقْدَارِ: وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ. وَقَدْ حَانَ الْآنَ أَنْ نَضْرِبَ فِي مَعْنًى آخَرَ مُسْتَجَدٍّ مُسْتَجَادٍ، وَنُمْعِنَ

فِي مَنْهَجٍ حَدِيثٍ مُسْتَفَادٍ، فَنَقُولُ: 501 - لَوْ قَدَّرْنَا مَنْ تَشْكُونَهُمْ عَلَى مَا تُقَدِّرُونَهُمْ، فَهَلْ تُسَلِّمُونَ مَا يَدْفَعُ اللَّهُ مِنْ شَرِّهِمْ، وَيَدْرَأُ مَنْ [ضُرِّهِمْ] ، بِسَبَبِ مَنْ هُوَ سَيِّدُ الْأُمَّةِ وَمَلَاذُهَا، وَسَنَدُهَا وَمَعَاذُهَا؟ وَهَلْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ لَوْلَا هَيْبَتُهُ الْقَاهِرَةُ، وَسَطْوَتُهُ الْقَاسِرَةُ، لَانْسَلَّ عَنْ لُجُمِ الضَّبْطِ الْعُتَاةُ، وَاسْتَرْسَلَتْ عَلَى [انْهِتَاكِ] الْحُرُمَاتِ، وَاقْتِحَامِ الْمُنْكَرَاتِ - الطُّغَاةُ؟ وَلَبَلَغَ الْأَمْرُ مَبْلَغًا لَا تَأْتِي عَلَيْهِ الصِّفَاتُ؟ . 502 - فَإِنْ أَبْدَى الطَّاعِنُونَ صَفْحَةَ الْخِلَافِ، وَجَانَبُوا وَجْهَ الْإِنْصَافِ كَانُوا فِي حُكْمِ مَنْ يُعَانِدُ الْمَحْسُوسَاتِ، وَيُجَاحِدُ الْبَدَائِهِ وَالضَّرُورَاتِ. وَإِنْ أَذْعَنُوا لِلْحَقِّ، وَبَاحُوا بِالصِّدْقِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ ظَاهِرٌ لَا سُبُلَ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَمَنْ جَحَدَهُ، شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَدَائِعُ آثَارِهِ. فَنَقُولُ:

503 - إِذَا جَلَّ قَدْرُ مَنْ يَدْرَأُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَضُرُوبِ الْمُعْضِلَاتِ، فَالْقِيَامُ بِدَفْعِهَا تَصَدٍّ لِكِفَايَةِ الْمُسْلِمِينَ مَتَاوِيَ وَمَعَاطِبَ، وَفُنُونًا مِنَ الدَّوَاهِي، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِقْلَالِ بِدَفْعِ مُهِمَّاتٍ إِمْكَانُ دَفْعِ سَائِرِهَا. وَمَنْ رَأَى أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ، وَصَادَفَ مَالَهُ مُتَعَرِّضًا لِلضَّيَاعِ، وَاسْتَمْكَنَ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِنْقَاذِ مَالِهِ، فَيَتَعَيَّنُ الدَّفْعُ (187) عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ عَسُرَ تَخْلِيصُ مَالِهِ. فَالَّذِي نَاطَ اللَّهُ عَزَّتْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى بِمَنْصِبِ صَدْرِ الزَّمَانِ، مِنْ دَفْعِ طَوَارِقِ الْحَدَثَانِ، لَا يَأْتِي عَلَى أَدْنَاهُ غَايَاتُ الْبَيَانِ، وَالَّذِي يَعْسُرُ دَفْعُهُ، وَرَدُّهُ وَمَنْعُهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ دِرَاءِ مَا يَسْهُلُ دَرْؤُهُ. 504 - – وَأَنَا أَسْتَوْضِحُ مَرَامِيَّ بِضَرْبِ مَثَلٍ، فَأَقُولُ: إِنْ بُلِيَ الْمُسْلِمُونَ [بِجَدْبٍ] فِي بَعْضِ سِنِي الْأَزْمِ، وَأَلَمَّ بِالنَّاسِ مَوْتَانِ، فَالْآفَاتُ السَّمَاوِيَّةُ لَا يَدْخُلُ دَفْعُهَا تَحْتَ الْإِيثَارِ وَالْأَقْدَارِ، وَلَكِنْ مَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، وَيَرْتَبِطُ بِالْإِيثَارِ وَالِاخْتِيَارِ مَنْعُهُ، مِنْ هَرْجٍ

حكم تخلي الإمام عن منصبه

أَوْ ثَوَرَانِ مُتَلَصِّصٍ، أَوِ اسْتِجْمَاعِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، أَوْ وَطْءِ طَوَائِفَ مِنَ الْكُفَّارِ أَطْرَافَ دِيَارِ الْإِسْلَامِ، فَيَتَعَيَّنُ الْقِيَامُ بِالدَّفْعِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ يَغْشَى الْخَلَائِقَ مِنْ ضُرُوبِ الْبَوَائِقِ، مَا لَا اسْتِمْكَانَ فِي دَرْئِهِ، فَمَا يَصْدُرُ مِنَ الْأَجْنَادِ، مِمَّا يَتَعَذَّرُ تَقْدِيرُ دَفْعِهِ كَآفَاتٍ سَمَاوِيَّةٍ. وَمَا تَيَسَّرَ دَفْعُهُ يَتَعَيَّنُ التَّشْمِيرَ، وَاجْتِنَابَ التَّقْصِيرِ فِي دَفْعِهِ. فَقَدْ بَلَغَ الْكَلَامُ فِي فَنِّهِ نِهَايَةَ الْإِيضَاحِ وَلَاحَ كَفَلَقِ الصَّبَاحِ وَقَدِ انْتَهَى مِقْدَارُ الْغَرَضِ فِي الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ وَاحِدٍ أَنَا الْآنَ آخُذُ فِي ضَرْبٍ آخَرَ فِي مَعْرِضِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ عَنْهُ. [حُكْمُ تَخَلِّي الْإِمَامِ عَنْ مَنْصِبِهِ] 505 - فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يُرَخِّصُ الشَّارِعُ لِلْمُسْتَقِلِّ بِالْمَنْصِبِ الَّذِي وَصَفْتُمُوهُ النُّزُولَ عَنْهُ، وَالتَّخَلِّيَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِيثَارَ الِامْتِيَازِ

وَالِانْحِجَازِ عَنْ مَظَانِّ الْغَرَرِ، وَمَوَاقِعِ الْخَطَرِ، وَتَفْوِيضِ أَمْرِ الْعِبَادِ إِلَى خَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ؟ قُلْنَا: لَا يَحِلُّ لِلْقَائِمِ بِالْأَمْرِ الِانْسِلَالُ وَالِانْخِزَالُ عَمَّا تَصَدَّى لَهُ مِنْ كِفَايَةِ الْمُسْلِمِينَ عَظَائِمَ الْأَشْغَالِ، إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْلُفُهُ مَنْ يَسُدُّ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَسَدَّهُ، وَيَرُدُّ بَوَادِرَ الظَّلَمَةِ رَدَّهُ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ يَتَشَوَّفُ إِلَى (188) الِاسْتِقْلَالِ بِالْأَشْغَالِ، لَا يَبُوءُ بِالْأَعْبَاءِ وَالْأَثْقَالِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى حِشْمَةٍ وَأُبَّهَةٍ رَادِعَةٍ، وَرَأْيٍ مُطَاعٍ، وَاسْتِبْدَادٍ بِمُتَابَعَةِ أَشْيَاعٍ، وَمُشَايَعَةِ أَتْبَاعٍ، وَتَوَفُّرٍ مِنْ هِمَمِ الْخَلْقِ وَدَوَاعٍ فِي الْإِذْعَانِ وَالْأَتْبَاعِ، وَإِصْفَاقٍ وَإِطْبَاقٍ مِنْ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ فِي الْآفَاقِ. عَلَى الثِّقَةِ بِأَقْوَالِهِ، وَالرُّكُونِ إِلَى مُتَصَرِّفَاتِ أَحْوَالِهِ، وَاعْتِقَادٌ مُصَمِّمٌ مِنْ كَافَّةِ الْوَرَى، مَنْ يَرَى وَمَنْ لَا يَرَى، أَنَّهُ إِذَا تَعَطَّفَ [وَتَرَأَّفَ] فَكَأُمِّكَ

شَفِيقٌ، وَنَاصِحٌ رَفِيقٌ، وَإِنِ اسْتَجَارَ مَلْهُوفٌ بِذُرَاهُ فَرُكْنٌ وَثِيقٌ، وَإِنْ تَغَشَّتْ سَخْطَتُهُ جَبَابِرَةَ الْأَرْضِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ فِي الْحَنَاجِرِ رِيقٌ. يَعُمُّ أَهْلَ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ نُصْحُهُ وَإِشْفَاقُهُ، وَيُطَبِّقُ طَبَقَاتِ الْخَلَائِقِ مَبَارُّهُ وَإِرْفَاقُهُ، وَيَسْتَنِيمُ إِلَى مَأْمَنِ إِنْصَافِهِ كُلُّ خَتَّارٍ غَادِرٍ، وَيَسْتَكِينُ لِهَيْبَتِهِ كُلُّ جَبَّارٍ قَاسِرٍ، قَدِ اسْتَطَالَ عَلَى الرِّقَابِ الْغُلْظِ فُرْسَانُهُ، وَاسْتَمَالَ حَبَّاتِ الْقُلُوبِ إِحْسَانُهُ. 506 - فَإِلَى مَتَى أُطِيلُ طِوَلَ الْكَلَامِ، وَقَدْ تَنَاهَى الْوُضُوحُ وَالْكُنَى وَالْحَالُ يُصَرِّحُ وَيَبُوحُ، وَمَنْ تُسْتَجْمَعُ لَهُ هَذِهِ الْخِلَالُ، إِلَّا فَرْدُ الدَّهْرِ وَمَرْمُوقُ الْعَصْرِ؟ وَمَنْ يَتَصَدَّى فِي مُتَّسَعِ الْأَرْضِ - إِذَا تَأَمَّلَ الْبَاحِثُ عَنْهَا الطُّولَ مِنْهَا وَالْعَرْضَ - لِأَدْنَى مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ؟ وَمَنْ يَرْقَى إِلَى أَقْرَبِ دَرَجَةٍ مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، لَمْ يَأْتِ وَاللَّهِ [بِمِثْلِهِ] مَكْرُ الْأَدْوَارِ، وَلَمْ يَحْتَوِ عَلَى شَكْلِهِ مُحَدَّبُ الْفَلَكِ الدَّوَّارِ، وَلَمْ يَسْمَحْ بِنَظِيرِهِ مُنْقَلَبُ [الْأَيَّامِ] وَالْأَقْدَارِ، وَمُضْطَرَبُ الدُّهُورِ وَالْأَعْصَارِ وَمَنْ قَدَّرَ لَهُ

فِي الْعَالَمِينَ ضَرِيبًا، اسْتَطَالَتْ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ تَفْنِيدًا وَتَكْذِيبًا. 507 - وَلَوْ فَرَضَ فَارِضٌ مُسْتَظْهِرًا بِالْعُدَدِ بَطَّاشًا بِأَنْصَارٍ، مِنْ غَيْرِ (189) رُجُوعٍ إِلَى اعْتِزَامٍ وَافْتِكَارٍ، وَنَظَرٍ فِي مُهِمَّاتِ الرَّعَايَا وَاعْتِبَارٍ، لَصَارَتِ الْخُطَّةُ فِرَاشًا لِكُلِّ [عَارٍ] ، وَفَرَاشًا لِكُلِّ نَارٍ. ثُمَّ مَنْ يَنْتَهِضُ لِدِينِ اللَّهِ بِالذَّبِّ وَالِانْتِصَارِ؟ وَمَنْ يَتَعَطَّفُ عَاطِفَتَهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْأَقْطَارِ؟ وَمَنْ يَكْلَأُ بِالْعَيْنِ السَّاهِرَةِ شِعَارَ الدِّينِ فِي أَقَاصِي الدِّيَارِ وَالْأَمْصَارِ؟ وَمَنْ يَحْسِمُ غَوَائِلَ الْبِدَعِ بِالرَّأْيِ الثَّاقِبِ مِنْ غَيْرِ إِثَارَةِ فِتْنَةٍ وَإِظْهَارِ ضِرَارٍ؟ . وَمَنْ يُدَارِي بِلُطْفِ الْخُلُقِ مَا يَكِلُّ عَنْهُ غِرَارُ الْحُسَامِ الْبَتَّارِ؟ وَمَنْ يَهْتَمُّ بِالْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ وَالْمَجَالِسِ وَالْمَدَارِسِ فِي الْأَمْصَارِ، وَمِنَ الَّذِي يَحِنُّ إِلَى سُدَّتِهِ زُمَرُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَخْيَارِ، حَنِينَ الطَّيْرِ إِلَى الْأَوْكَارِ؟ وَمَنِ الَّذِي يَسْتَوْظِفُ مُعْظَمَ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْإِصَاخَةِ إِلَى كَلَامِ الْمَلْهُوفِينَ مِنْ غَيْرِ تَبَرُّمٍ وَاسْتِكْبَارٍ؟ . فَإِذَا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مَقَامَهُ فِي أَدْنَى هَذِهِ الْآثَارِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَطْعًا عَلَى اللَّهِ

منزلة فروض الكفايات

الْعَظِيمِ شَأْنُهُ الثُّبُوتُ وَالِاصْطِبَارُ، وَالِانْتِدَابُ لِلَّهِ عَزَّتْ قُدْرَتُهُ فِي هَذِهِ الْمَآرِبِ وَالْأَوْطَارِ. 508 - – وَأَنَا الْآنَ أَذْكُرُ فُصُولًا مَجْمُوعَةً، أَنْتَحِي فِيهَا مَنْشَأَ الْحَقِّ وَيَنْبُوعَهُ، وَأَسْتَرْسِلُ فِي الْعِبَارَاتِ الْقَرِيبَةِ الْمَطْبُوعَةِ، فَإِنَّ نِهَايَاتِ الْمَعَانِي، لَا تَحْوِيهَا الْأَلْفَاظُ الْمَصْنُوعَةُ، وَالْكَلِمُ الْمُرَصَّعَةُ الْمَسْجُوعَةُ. فَأَقُولُ مُعَوِّلًا عَلَى التَّأْيِيدِ مِنَ اللَّهِ وَالتَّوْفِيقِ: لَيْسَ يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْبَصَائِرِ وَالتَّحْقِيقِ، أَنَّ الْقِيَامَ بِالذَّبِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَحِفْظِ الْحَوْزَةِ مَفْرُوضٌ، وَذَوُو التَّمَكُّنِ وَالِاقْتِدَارِ مُخَاطَبُونَ بِهِ، فَإِنِ اسْتَقَلَّ بِهِ كُفَاةٌ، سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَقَاعَدُوا وَتَجَادَلُوا وَتَقَاعَسُوا وَتَوَاكَلُوا، عَمَّ كَافَّةَ الْمُقْتَدِرِينَ الْحَرَجُ عَلَى تَفَاوُتِ الْمَنَاصِبِ وَالدَّرَجِ (190) . [مَنْزِلَةُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ] 509 - ثُمَّ الَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْقِيَامَ بِمَا هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ أَحْرَى بِإِحْرَازِ الدَّرَجَاتِ، وَأَعْلَى [فِي] فُنُونِ الْقُرُبَاتِ مِنْ فَرَائِضِ

الْأَعْيَانِ فَإِنَّ مَا تَعَيَّنَ عَلَى الْمُتَعَبِّدِ الْمُكَلَّفِ، لَوْ تَرَكَهُ، وَلَمْ يُقَابِلْ أَمْرَ الشَّارِعِ فِيهِ بِالِارْتِسَامِ، اخْتَصَّ الْمَأْثَمُ بِهِ، وَلَوْ أَقَامَهُ، فَهُوَ الْمُثَابُ. وَلَوْ فُرِضَ تَعْطِيلُ فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَعَمَّ الْمَأْثَمُ عَلَى الْكَافَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الرُّتَبِ وَالدَّرَجَاتِ، فَالْقَائِمُ بِهِ كَافٍ نَفْسَهُ وَكَافَّةَ الْمُخَاطَبِينَ الْحَرَجَ وَالْعِقَابَ، وَآمِلٌ أَفْضَلَ الثَّوَابِ، وَلَا يَهُونُ قَدْرُ مَنْ يَحُلُّ مَحَلَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي الْقِيَامِ لِمُهِمٍّ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ. 510 - ثُمَّ مَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، قَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ رَفِيقُهُ فِي طَرِيقِهِ، وَلَمْ يَحْضُرْ مَوْتَهُ غَيْرُهُ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِغَسْلِهِ وَدَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ. وَمَنْ عَثَرَ عَلَى بَعْضِ الْمُضْطَرِّينَ وَانْتَهَى إِلَى ذِي مَخْمَصَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَمْكَنَ مِنْ سَدِّ جَوْعَتِهِ، وَكِفَايَةِ حَاجَتِهِ وَلَوْ

تَعَدَّاهُ، وَوَكَلَهُ إِلَى مَنْ عَدَاهُ، لَأَوْشَكَ أَنْ يَهْلِكَ فِي ضَيْعَتِهِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَاثِرِ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِ. 511 - وَأَقْرَبُ مِثَالٍ إِلَى مَا نُحَاوِلُ الْخَوْضَ فِيهِ - الْجِهَادُ، فَهُوَ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ مَعَ اسْتِقْرَارِ الْكُفَّارِ فِي الدِّيَارِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَلَوْ فُرِضَ مَنْ [هُوَ مِنْ] أَهْلِ الْقِتَالِ فِي الصَّفِّ، وَعَدَدُ الْكُفَّارِ غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى الضِّعْفِ، ثُمَّ آثَرَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لِلْمُنَاجَزَةِ الْمُحَاجَزَةَ وَالِانْصِرَافَ مِنْ غَيْرِ تَحَرُّفٍ لِقِتَالٍ، أَوْ تَحَيُّزٍ إِلَى فِئَةٍ، فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، فَيَصِيرُ مَا كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ مُتَعَيِّنًا بِالْمُلَابَسَةِ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى صَوْبِ الْجِهَادِ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ، دُونَ إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ، وَلَوْ خَرَجَ (191) دُونَهُمَا كَانَ عَاقًّا، مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ مُشَاقًّا، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَانْغَمَسَ فِي الْقِتَالِ، لَمَا الْتَقَى الصَّفَّانِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ الْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ اسْتِئْذَانٌ، وَكَانَ خُرُوجُهُ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوقِ وَالْعِصْيَانِ. .

وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْقِنُّ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجِهَادِ دُونَ إِذْنِ مَوْلَاهُ، فَلَوِ اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَخَرَجَ، كَانَ شَارِدًا آبِقًا مُتَمَرِّدًا عَلَى مَالِكِ رِقِّهِ، تَارِكًا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّهِ. وَهُوَ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَتَرَدُّدَاتِهِ فِي جَمِيعِ تَارَاتِهِ، وَحَالَاتِهِ مُعَرَّضٌ لِسُخْطِ اللَّهِ، وَسُوءِ عِقَابِهِ، ثُمَّ لَوْ تَمَادَى عَلَى إِبَاقِهِ وَشِرَادِهِ، وَوَقَفَ فِي الصَّفِّ عَلَى اسْتِبْدَادِهِ، تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ الْمُصَابَرَةُ، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. فَهَذِهِ جُمَلٌ قَدَّمْنَا تِذْكَارَهَا، وَأَنَا أُوَضِّحُ الْآنَ مَوَاقِعَهَا وَآثَارَهَا، فَأَقُولُ: 512 - قَدْ تَحَقَّقَ أَنَّ صَدْرَ الْوَرَى، وَكَهْفَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، احْتَمَلَ أَعْبَاءَ الْمِلَّةِ وَأَثْقَالَهَا، وَتَقَلَّدَ أَشْغَالَهَا، وَجَرَّدَتْ إِلَيْهِ الْخَلِيقَةُ آمَالَهَا، جَرَّرَتْ إِلَيْهِ الْأَمَانِي أَذْيَالَهَا، وَرَبَطَتْ مُلُوكُ الْأَرْضِ بِعَالِي رَأْيِهِ [سِلْمَهَا] وَقِتَالَهَا، وَوِفَاقَهَا وَجِدَالَهَا، وَوَاصَلَتِ الْبَرِّيَّةُ فِي اللِّيَاذِ بِهِ غَدُوَّهَا وَآصَالَهَا. وَلَوْ آثَرَ الْإِيدَاعَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً لَبُدِّلَتِ الِاسْتِقَامَةُ أَحْوَالَهَا وَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَبْدَتْ غَوَائِلُ الدَّهْرِ

أَهْوَالَهَا، وَبَلَغَ الْأَمْرُ مَبْلَغًا يَعْسُرُ فِيهِ التَّدَارُكُ، وَلَا يُرْجَى مَعَهُ التَّمَاسُكُ. 513 - فَإِذَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ إِذَا لَابَسَ الْقِتَالَ وَوَقَفَ فِي صَفِّ الْأَبْطَالِ أَنْ يُصَابِرَ، وَيَسْتَقِرَّ وَيُثَابِرَ، لِأَنَّهُ لَوِ انْصَرَفَ لَأَفْضَى انْصِرَافُهُ، وَانْعِطَافُهُ إِلَى إِهْلَاكِ الْجُنْدِ، وَانْحِلَالِ الْعُقَدِ. 514 - ثُمَّ إِذَا كَثُرَ الْجَمْعُ فِي صَفِّ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ يَقِلُّ أَثَرٌ وَاحِدٌ يَنْسَلُّ وَيَنْفَكُّ، وَرُبَّمَا (192) لَا يَسْتَبِينُ لَهُ وَقْعٌ، وَلَا يَظْهَرُ لِوُقُوفِهِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ نَفْعٌ وَلَا دَفْعٌ، إِذَا كَانَتْ بُنُودُ الْإِسْلَامِ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ مَثَلًا، أَوْ يَزِيدُونَ، وَلَكِنْ حَسَمَ الشَّرْعُ سَبِيلَ الِانْصِرَافِ وَالِانْكِفَافِ، فَإِنَّ تَسْوِيغَ الِانْفِلَالِ لِلْوَاحِدِ يُؤَدِّي إِلَى تَسْوِيغِهِ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا يَتَدَاعَى إِلَى خُرُوجِ الْأَمْرِ عَنِ الضَّبْطِ، إِذِ النُّفُوسُ تَتَشَوَّفُ إِلَى الْفِرَارِ مِنْ مُوَاطِنِ الرَّدَى، وَتَتَنَكَّبُ أَسْبَابَ الْتَّوَى. 515 - فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ فَمَنْ وَقَفَ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِمُهِمَّاتِ الْمُسْلِمِينَ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الدِّينِ، مَوْقِفَ مَنْ هُوَ فِي الزَّمَانِ

صَدْرُ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ فُرِضَ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - تَقَاعُدُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْإِسْلَامِ، لَانْقَطَعَ قَطْعًا سِلْكُ النِّظَامِ، فَلَأَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْمُصَابَرَةُ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَسُدُّ أَحَدٌ فِي عَالَمِ اللَّهِ مَسَدَّهُ بَعْدَهُ، وَقَدْ أَضْحَى لِلدِّينِ وَزَرًا، وَعُدَّةً وَانْتُدِبَ لِلسُّنَّةِ، وَالْإِسْلَامِ جُنَّةً وَحْدَهُ - أَوْلَى. . 516 - فَخَرَجَ مِنْ تَرْدِيدِ الْمَقَالِ فِي هَذَا الْمَجَالِ، وَالِاسْتِشْهَادِ بِالْأَمْثَالِ قَوْلٌ مَبْتُوتٌ، لَا مِرَاءَ فِيهِ، وَلَا جِدَالَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى صَدْرِ الدِّينِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ - الِاسْتِثْبَاتُ عَلَى مَا يُلَابِسُهُ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَأَنَا أَتَحَدَّى عُلَمَاءَ الدَّهْرِ فِيمَا أَوْضَحْتُ فِيهِ مَسْلَكَ الِاسْتِدْلَالِ، فَمَنْ أَبْدَى مُخَالَفَةً فَدُونَهُ وَالنِّزَالُ فِي مَوَاقِفِ الرِّجَالِ. وَهُوَ قَوْلٌ أَضْمَنُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَتِهِ فِي الْيَوْمِ الْجَمِّ الْأَهْوَالِ، إِذَا حَقَّتِ الْمُحَاقَّةُ فِي السُّؤَالِ، مِنَ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ، ذِي الْجَلَالِ

حكم خروج نظام الملك للحج

ثُمَّ قُرُبَاتُ الْعَالَمِينَ، وَتَطَوُّعَاتُ الْمُتَقَرِّبِينَ، لَا تُوَازِي وَقْفَةً مِنْ وَقَفَاتِ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي الذَّبِّ عَنِ الدِّينِ. [حُكْمُ خُرُوجِ نِظَامِ الْمُلْكِ لِلْحَجِّ] 517 - وَمِمَّا يَتَعَيَّنُ الْآنَ إِيضَاحُهُ قَضِيَّةٌ نَاجِزَةٌ، يَئُولُ أَثَرُ ضُرِّهَا، وَخَيْرِهَا، إِلَى الْخَلَائِقِ، عَلَى تَفَاوُتِ مَنَاصِبِهَا، وَيَظْهَرُ (193) وَقْعُهَا فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا. وَهِيَ أَنَّهُ شَاعَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ [تَشَوُّفُ] صَدْرِ الْأَنَامِ، إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَقَدْ طَوَّقَ اللَّهُ هَذَا الدَّاعِيَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ إِيضَاحَ الْكَلَامِ، فِي هَذَا الْمَرَامِ، وَكَشْفَ أَسْبَابِ الِاسْتِبْهَامِ وَالِاسْتِعْجَامِ، فَأَقُولُ وَبِفَضْلِ اللَّهِ الِاعْتِصَامُ: إِنْ كَانَ مَا صَمَّمَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ الرَّأْيَ وَالِاعْتِزَامَ، مِنَ ابْتِغَاءِ تِيكَ الْمَشَاعِرِ الْعِظَامِ، مُتَضَمِّنًا قَطْعَ نَظَرِهِ عَنِ الْخَلِيقَةِ، فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ. 518 - – وَأَنَا أُوَضِّحُ الْمَسْلَكَ فِي ذَلِكَ، وَأُبَيِّنُ طَرِيقَهُ، فَلَيْسَتِ

الْأَعْمَالُ قُرُبًا لِأَعْيَانِهَا، وَذَوَاتِهَا، وَلَيْسَتْ عِبَادَاتٍ لِمَا هِيَ عَلَيْهَا مِنْ خَصَائِصِ صِفَاتِهَا، وَإِنَّمَا تَقَعُ طَاعَةً مِنْ حَيْثُ تُوَافِقُ قَضَايَا أَمْرِ اللَّهِ فِي أَوْقَاتِهَا. فَالصَّلَاةُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الْعَبْدِ لَوْ أَتَى بِهَا عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فِي الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالْخُشُوعِ، قَبْلَ أَوَانِهَا، لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الِاعْتِدَادِ، وَالصَّلَاةُ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، وَلَوْ أَقْدَمَ عَلَيْهَا مُحْدِثٌ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ. 519 - فَالْحَجُّ إِحْرَامٌ وَوُقُوفٌ، وَإِفَاضَةٌ وَطَوَافٌ بِبَيْتٍ [مَشِيدٍ] مِنْ أَحْجَارٍ سُودٍ، وَتَرَدُّدٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، عَلَى طَوْرَيِ الْمَشْيِ وَالسَّعْيِ، وَحِلَاقٌ إِلَى هَيْآتٍ وَآدَابٍ، وَإِنَّمَا تَقَعُ هَذِهِ الْأَفْعَالُ قُرُبًا مِنْ حَيْثُ تُوَافِقُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إِفْضَاءُ خُرُوجِهِ إِلَى الْحَجِّ إِلَى تَعَرُّضِهِ أَوْ تَعَرُّضِ طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَرَرِ وَالْخَطَرِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ وَبِذَوِيهِ، وَمَنْ يَتَّصِلُ

بِهِ وَيَلِيهِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ مَا يَنْتَحِيهِ، إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ تَمَامُ الِاسْتِمْكَانِ فِيهِ. وَهَذَا فِي آحَادِ النَّاسِ وَمَنْ يَخْتَصُّ أَمْرُهُ بِهِ، وَبِأَخَصِّهِ. 520 - فَأَمَّا مَنْ نَاطَ اللَّهُ بِهِ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَبَطَ بِنَظَرِهِ مَعَاقِدَ (194) الدِّينِ، وَظَلَّ لِلْإِسْلَامِ كَافِلًا وَمَلَاذًا، وَكَهْفًا وَمُعَاذًا، وَلَوْ قَطَعَ عَنِ اسْتِصْلَاحِ الْعَالَمِينَ، وَمَنْعِ الْغَاشِمِينَ، وَدَفْعِ الظَّالِمِينَ، وَقَمْعِ النَّاجِمِينَ - نَظَرَهُ، لَارْتَبَكَ الْعِبَادُ، وَالرَّعَايَا وَالْأَجْنَادُ، فِي مَهَاوِي الْعَبَثِ وَالْفَسَادِ، وَاسْتَطَالَ الْمُبْتَدِعَةُ الرَّاتِعُونَ، وَثَارَ فِي أَطْرَافِ الْخُطَّةِ النَّابِغُونَ، وَزَالَتْ نَضَارَةُ السُّنَّةِ وَبَهْجَتُهَا، وَدَرَسَتْ أَعْلَامُهَا وَمَحَجَّتُهَا. 521 - فَكَيْفَ يَحِلُّ لِمَنْ يَحُلُّ فِي دِينِ اللَّهِ هَذَا الْمَحَلَّ، وَقَدْ أَحَالَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَقْدَ وَالْحَلَّ، وَأَنَاطَ بِإِقْبَالِهِ وَإِعْرَاضِهِ الْعِزَّ وَالذُّلَّ، وَعَلَّقَ بِمَنْحِهِ وَمَنْعِهِ الْكُثْرِ وَالْقِلَّ، وَرَبَطَ بِلِحَاظِهِ وَتَوْقِيعَاتِهِ وَأَلْفَاظِهِ الرَّفْعَ وَالْخَفْضَ، وَالْإِبْرَامَ وَالنَّقْضَ، وَالْبَسْطَ وَالْقَبْضَ - أَنْ يُقَدِّمَ نُسُكًا يَخُصُّهُ، عَلَى الْقِيَامِ بِمَنَاظِمِ الْإِسْلَامِ،

وَمَصَالِحِ الْأَنَامِ وَأَيَّةُ حُجَّةٍ تَعْدِلُ هَذِهِ الْخُطُوبَ الْجِسَامَ، وَالْأُمُورَ الْعِظَامَ بِحَجِّهِ؟ 522 - فَإِنِ اعْتَرَضَ مُتَكَلِّفٌ فِي أَدْرَاجِ الْكَلَامِ، وَقَالَ: مَنْ جَرَّدَ الِاعْتِصَامَ بِطَوْلِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، وَوَصَلَ حَبْلَ أَمَلِهِ بِحَبْلِهِ، كَفَاهُ مُلَاحَظَةَ الْأَغْيَارِ، وَوَقَاهُ مَا يُحَاذِرُ وَيَجْتَنِبُ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنَ الدِّينِ نِظَامَهُ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَالِاسْتِمْسَاكُ بِكِفَايَةِ رَبِّ الْأَرْبَابِ أَوْلَى مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى الْأَسْبَابِ. قُلْتُ: هَذَا مِنَ الطَّوَامِّ الَّتِي لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهَا طَائِلٌ، وَلَا يَعْثُرُ الْبَاحِثُ عَنْهَا عَلَى حَاصِلٍ، كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، وَلَوْ حَكَّمْنَا مَسَاقَ هَذِهِ الطَّامَّاتِ لَجَرَّتْنَا إِلَى تَعْطِيلِ الْقُرُبَاتِ، وَحَسْمِ أَسْبَابِ الْخَيْرَاتِ، وَلَاسْتَوَتْ عَلَى حُكْمِهَا الطَّاعَاتُ وَالْمُنْكَرَاتُ، وَبَطَلَتْ قَوَاعِدُ الشَّرَائِعِ، وَاتَّجَهَتْ إِلَيْهَا ضُرُوبُ الْوَقَائِعِ وَأَضْحَى مَا شَبَّبَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ فِي التَّعْطِيلِ مِنْ أَقْوَى الذَّرَائِعِ. (195) فَمَضْمُونُ

مَا بَلَغَهُ الْمُرْسَلُونَ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَاجْتِنَابُ دَوَاعِي الضَّيْرِ، ثُمَّ الْأَكْلُ سَبَبُ الشِّبَعِ، وَالشُّرْبُ سَبَبُ الرِّيِّ، وَهَلُمَّ جَرَّا، إِلَى كُلِّ مَسْخُوطٍ وَمَرَضِيٍّ. 523 - وَيَجِبُ مِنْ مَسَاقِ ذَلِكَ رَدُّ أَمْرِ الْخَلْقِ إِلَى خَالِقِهِمْ، وَالِانْكِفَافُ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالِانْصِرَافُ عَنْ إِغَاثَةِ كُلِّ مَلْهُوفٍ. وَبِهَذِهِ التُّرَّهَاتِ يُعَطَّلُ طَوَائِفُ مِنْ نَاشِئَةِ الزَّمَانِ، وَاغْتَرُّوا بِالتَّخَاوُضِ وَالتَّفَاوُضِ بِهَذَا الْهَذَيَانِ. فَالْأُمُورُ كُلُّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ مُوجِبَةً وَلَا عِلَّةً. وَلَكِنَّ الْمُوَفَّقَ لِمَدْرَكِ الرَّشَادِ، وَمَسْلَكِ السَّدَادِ، مَنْ يَقُومُ بِمَا كَلَّفَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ يَرَى فَوْزَهُ وَنَجَاتَهُ بِحُكْمِ رَبِّ الْأَرْبَابِ. 524 - فَإِذَا وَضَحَ أَنَّ قِيَامَ صَدْرِ الدَّهْرِ، وَسَيِّدِ الْعَصْرِ، بِمُهِمَّاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَحَاجَاتِ الْوَرَى - سَبَبٌ أَقَامَهُ اللَّهُ مَطْمَحًا لِأَعْيُنِ الْعَالَمِينَ، وَشَوْقًا لِلْآمِلِينَ، فَلَا تَبْدِيلَ لِمَا وَضَعَ، وَلَا وَاضِعَ لِمَنْ رَفَعَ فَلْنَضْرِبْ عَنْ هَذِهِ الْفُنُونِ إِضْرَابَ مَنْ لَا يَسْتَبْدِلُ عَنْ مَدَارِكِ الْيَقِينِ مَسَالِكَ الظُّنُونِ.

اللَّهُمَّ يَسِّرْ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ مَنْهَجَ الصَّوَابِ، وَجَنِّبْنِي غَوَائِلَ التَّعَمُّقِ وَالْإِطْنَابِ. وَبَعْدُ: 525 - فَالَّذِي يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْقِفِ الْعَلِيِّ، وَالْمَنْصِبِ السَّنِيِّ فِي أَمْرِ الْحَجِّ، مَا أَنَا وَاصِفُهُ، وَمُوَضِّحُهُ وَكَاشِفُهُ، فَأَقُولُ: إِنِ ارْجَحَنَّ رَأْيُ مَوْلَانَا إِلَى تَوْطِئَةِ الطُّرُقِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْمُعَظَّمِ، وَحِمَاهُ الْمُحَرَّمِ، وَمَالَ اعْتِزَامُهُ إِلَى تَقْرِيبِ الْمَسَالِكِ وَتَمْهِيدِهَا، وَتَذْلِيلِهَا وَتَعْبِيدِهَا، وَنَفْضِهَا عَنِ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَقَاطِعِي الطُّرُقِ عَلَى الْعِبَادِ. وَمَا أَهْوَنَ تَحْصِيلَ هَذَا الْمُرَادِ، عَنْ مَنِ اسْتَمَرَّ تَحْتَ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ كُلُّ مُتَوَّجٍ صَعْبِ (196) الْقِيَادِ، كَيْفَ وَقَدْ أَطَافَتْ بِأَكْنَافِ الْبَرِّيَّةِ خُطَّةُ الْمَمْلَكَةِ فِي الْأَغْوَارِ وَالْأَنْجَادِ، وَاسْتَدَارَتْ عَلَى أَطْرَافِهَا مِنْ رُقْعَةِ الْمُلْكِ الْقُرَى وَالْبِلَادُ. 526 - أَمَّا الْكُوفَةُ، فَإِنَّهَا بِنَجْدَةِ الدَّوْلَةِ مَكْنُوفَةٌ، وَبِرِجَالِ الْبَأْسِ مَحْفُوفَةٌ. وَأَمَّا بِلَادُ الشَّامِ، فَقَدِ احْتَوَى عَلَيْهَا أَقْوَامٌ مُنْتَفَضُونَ عَنْ حَوَاشِي الْجُنْدِ الْمَعْقُودِ، مَعَ [الْإِقْرَانِ] لِمَلِكِ الْإِسْلَامِ، وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِاسْتِسْلَامِ.

متى يجوز لنظام الملك الحج

وَأَمَّا الْحَرَمُ، فَقَدِ اسْتَمَرَّ فِيهِ الْوِفَاقُ وَاسْتَتَمَّ. وَعُرْبَانُ الْبَرِّيَّةِ مِنْ أَضْعَفِ الْخَلِيقَةِ وَالْبَرِيَّةِ، وَلَا حَاجَةَ فِي اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ وَاقْتِلَاعِ كَافَّتِهِمْ إِلَى صَدَمَاتٍ مُبِيرَةٍ، وَكَتَائِبَ هَجَّامَةٍ مُغِيرَةٍ، بَلْ يَكْفِيهِمْ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُمْ مِنْ أَطْرَافِ الْبِلَادِ الْمِيرَةَ، وَلَيْسَتْ كِفَايَةُ غَوَائِلِهِمْ بِالْعَسِيرَةِ. وَلَوْلَا حِذَارُ الْإِطَالَةِ لَبَسَطْتُ فِي ذَلِكَ الْمَقَالَةَ، وَمَوْلَانَا أَخْبَرُ بِطُرُقِ الْإِيَالَةِ لَا مَحَالَةَ، وَتَمْهِيدُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ هَيِّنٌ عَلَى مُسْتَخْدِمٍ مِنْ ذَلِكَ الْجَنَابِ مُسْتَنَابٍ، وَلَكِنْ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ خَبَرَهُمْ دَهْرًا، وَعَاشَرَهُمْ عَصْرًا، وَعَرَفَ مَدَاخِلَهُمْ وَمَخَارِجَهُمْ، وَمَسَالِكَهُمْ وَمَدَارِجَهُمْ. [مَتَى يَجُوزُ لِنِظَامِ الْمُلْكِ الْحَجُّ] 527 - ثُمَّ إِذَا تَمَهَّدَتِ السُّبُلُ، وَانْزَاحَتِ الْعَوَائِقُ وَالْعِلَلُ، وَأَظَلَّتْ مِنَ الْأَمَنَةِ عَلَى الطَّارِقِينَ الظُّلَلُ، [وَآضَتْ] عَلَى الْبَخَاتِيِّ الْمَجْنَحَاتُ

وَالْكِلَلُ، وَسَفَرَتِ الْحِيَاضُ، وَحُمِيَتْ عَلَى الْحَجِيجِ الرِّيَاضُ وَالْغِيَاضُ، وَعُمِرَتِ الْأَمْيَالُ، وَأُقِيمَتْ عَلَى الْمَتَاعَاتِ الصُّوَى، وَالْأَطْلَالُ، وَتُفُقِّدَتِ الْآبَارُ، وَتُعُهِّدَتِ الْأَعْلَامُ وَالْآثَارُ، وَرُتِّبَ عَلَى الْمِيَاهِ الْعِدَّةِ، ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْعُدَّةِ. وَتَمَادَتْ عَلَى اطِّرَادِ الْمَأْمَنِ الْمُدَّةُ [فَإِذْ] ذَاكَ يَنْتَهِضُ صَدْرُ الزَّمَانِ، مَحْفُوفًا بِحِفْظِ اللَّهِ وَرِعَايَتِهِ، مَكْفُوفًا بِأَنْعُمِهِ وَكِلَاءَتِهِ، وَالسَّعَادَةُ خَدِينُهُ، وَالْيُمْنُ قَرِينُهُ، فِي كَتِيبَةٍ بَاسِلَةٍ، تَرْتَجُّ لَهَا الْأَدَانِي وَالْأَقَاصِي، وَيَتَطَامَنُ لِوَقْعِ سَنَابِكِهَا الصَّيَاصِي، وَيَسْتَكِينُ لِنَجْدَتِهَا النَّوَاصِي. تَخْفِقُ عَلَيْهَا رَايَتُهُ الْعَلِيَّةُ، [وَيَسْطَعُ] لَأْلَاءُ الْعُلَا مِنْ غُرَّتِهِ الْبَهِيَّةِ، يَجْنُبُهُ النَّجَاحُ، وَيَحْتَوِشُ مَوْكِبَهُ الْفَلَاحُ، وَالْبَرِّيَّةُ يَطْوِي مَنَازِلَهَا، وَيُقَرِّبُ مَنَاهِلَهَا، فَيُوَافِي الْمِيقَاتَ

الْمَشْرِقِيَّ بِذَاتِ عِرْقٍ، وَأَمْرُهُ السَّامِي مُنْسَحِبٌ عَلَى أَقْصَى بِلَادِ الشَّرْقِ. هَذِهِ النَّهْضَةُ هِيَ الَّتِي تَلِيقُ بِسُدَّتِهِ الْمُنِيفَةِ، وَسَاحَتِهِ السَّامِيَةِ الشَّرِيفَةِ. 528 - فَأَمَّا مُبَادَرَةُ الْمَنَاسِكِ، وَمُسَارَعَةُ الْمَدَارِكِ، قَبْلَ اسْتِمْرَارِ الْمَسَالِكِ، فَمَحْذُورٌ مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ، وَمِنْ جَلَّ فِي الدِّينِ خَطَرُهُ، دَقَّ فِي مَرَاتِبِ الدِّيَانَاتِ نَظَرُهُ. 529 - فَهَذِهِ تَرَاجِمُ مُنَبِّهَةٌ عَلَى مَنَاظِمِ الْمَقَاصِدِ، لَا يَجْحَدُهَا جَاحِدٌ وَلَا يَأْبَاهَا إِلَّا مُعَانِدٌ، لَمْ أُورِدْهَا تَشَدُّقًا، وَلَمْ أَتَكَلَّفْهَا تَعَمُّقًا، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ إِيضَاحَهَا فِي دِينِ اللَّهِ مَحْتُومًا، وَكَشْفَهَا فَرْضًا مُتَعَيِّنًا مَجْزُومًا. فَإِنْ تَعَدَّيْتُ مَرَاسِمَ الْأَدَبِ، فَالصِّدْقَ قَصَدْتُ، وَالْحَقَّ أَرَدْتُ وَقَدْ - وَاللَّهِ - أَوْضَحْتُ وَأَبْلَغْتُ وَأَنْهَيْتُ حُكْمَ اللَّهِ وَبَلَّغْتُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. 530 - وَقَدْ حَانَ أَنَّ أَكُفَّ غَرْبِي، وَأَسْتَوْقِفَ فِي هَذَا الْفَنِّ سِرْبِي، وَأَسْتَفْتِحُ فَنًّا لَا يَثْقُلُ عَلَى الرَّأْيِ السَّامِي وَقْعُهُ، وَيَتَخَلَّدُ عَلَى مُعْتَقَبِ الْجَدِيدَيْنِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - نَفْعُهُ.

واجبات الإمام

531 - فَأَقُولُ: مَا قَدَّمْتُهُ مَرَامِزُ إِلَى مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ صَدْرَ الْعَالَمِ مِنَ الْمَنْصِبِ الْأَسْمَى، فِي الِاقْتِدَارِ وَالْإِمْكَانِ، وَالِاحْتِكَامِ عَلَى بَنِي الزَّمَانِ، وَالِاسْتِمْكَانِ مِنْ رَدْعِ الْمُتَشَوِّفِينَ إِلَى الْعُدْوَانِ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَطْمَعُ اللَّبِيبُ فِي اسْتِيعَابِ ذِكْرِهَا وَمُحَاوَلَةِ (198) إِحْصَائِهَا وَحَصْرِهَا، وَالْإِحَاطَةِ بِمَبْلَغْ قَدْرِهَا، وَلَوْ حَاوَلَ الْأَرْذَلُونَ وَالْأَدْنَوْنَ حُظُوظًا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ أَنْ يَعُدُّوهَا، لَمْ يَسْتَقْصُوهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا. [وَاجِبَاتُ الْإِمَامِ] [يُقَدِّمُهَا (لِنِظَامِ الْمُلْكِ) ] 532 - وَأَذْكُرُ الْآنَ مَا عَلَى صَدْرِ الزَّمَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْمَلِيكِ الدَّيَّانِ، بَعْدَ أَنْ أُوَضِّحَ مَا إِلَيْهِ مِنْ مَقَالِيدِ أُمُورِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَأَقُولُ: قَدْ قَدَّمْتُ فِي الْأَبْوَابِ الْمُقَدَّمَةِ مَا يَتَوَلَّاهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ أُمُورِ الْإِمَامَةِ، وَأَوْرَدْتُهُ عَلَى صِيَغِ التَّقَاسِيمِ، وَبَلَغْتُ الْكَلَامَ فِيهِ قُصَارَى الْكَشْفِ وَالتَّتْمِيمِ، وَلَمْ أُغَادِرْ لِبَاحِثٍ مُنْقَلَبًا، وَلِمُسْتَفْصِلٍ مُضْطَرَبًا. وَأَنَا الْآنَ أَقُولُ:

533 - كُلُّ مَا نِيطَ بِالْأَئِمَّةِ مِمَّا مَضَى مُوَضَّحًا مُحَصَّلًا، مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ صَدْرِ الدِّينِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ إِنَّمَا تَوَلَّوْا أُمُورَهُمْ، لِيَكُونُوا ذَرَائِعَ إِلَى إِقَامَةِ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، فَإِذَا فَقَدْنَا مَنْ يَسْتَجْمِعُ الصِّفَاتِ الْمَرْعِيَّةَ فِي الْمَنْصِبِ الْأَعْلَى، وَوَجَدْنَا مَنْ يَسْتَقِلُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْهَضُ بِأَثْقَالِ الْعَالَمِينَ، وَيَحْمِلُ أَعْبَاءَ الدِّينِ، وَلَوْ تَوَانَى فِيهَا لَانْحَلَّتْ مِنَ الْإِسْلَامِ شَكَائِمُهُ، وَلَمَالَتْ دَعَائِمُهُ. وَالْغَرَضُ اسْتِصْلَاحُ أَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى أَقْصَى مَا يُفْرَضُ فِيهِ الْإِمْكَانُ. وَلَوْ بَغَتْ فِئَةٌ عَلَى الْإِمَامِ الْمُسْتَجْمِعِ لِخِلَالِ الْإِمَامَةِ، وَتَوَلَّوْا بِعُدَّةٍ وَعَتَادٍ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَقْطَارٍ وَبِلَادٍ، وَاسْتَظْهَرُوا بِشَوْكَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ، وَاسْتَقَلُّوا بِنَصْبِ قُضَاةٍ وَوُلَاةٍ عَلَى انْفِرَادٍ وَاسْتِدَادٍ، فَيَنْفُذُ مِنْ قَضَاءِ قَاضِيهِمْ مَا يَنْفُذُ مِنْ قَضَاءِ قُضَاةِ الْإِمَامِ الْقَائِمِ بِأُمُورِ الْإِسْلَامِ. 534 - وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْ قُطْرِ الْبُغَاةِ مِنَ الْإِمَامِ نَظَرُهُ، إِلَى أَنْ يَتَّفِقَ اسْتِيلَاؤُهُ وَظَفَرُهُ، فَلَوْ رَدَدْنَا أَقَضِيَتَهُمْ لَتَعَطَّلَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَبَطَلَتْ قَوَاعِدُ مِنَ الدِّينِ.

535 - فَإِذَا كَانَ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْبُغَاةِ مَعَ قِيَامِ الْإِمَامِ، فَلَأَنْ يَنْفُذَ أَحْكَامُ وُزَرَاءِ الْإِسْلَامِ (199) مَعَ شُغُورِ الْأَيَّامِ أَوْلَى. فَهَذَا بَيَانُ مَا إِلَيْهِ. 536 - فَأَمَّا إِيضَاحُ مَا عَلَيْهِ فَأَذْكُرُ فِيهِ لَفْظًا وَجِيزًا مُحِيطًا بِالْمَعْنَى، حَاوِيًا لِلْغَرَضِ وَالْمَغْزَى، ثُمَّ أَنْدَفِعُ بَعْدَ الْإِيجَازِ وَالضَّبْطِ فِي طُرُقٍ مِنَ الْبَسْطِ، فَأَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ مَا إِلَى الْأَئِمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَوَضَحَ أَنَّ جَمِيعَهَا مَنُوطَ بِرَأْيِ صَدْرِ الْأَيَّامِ وَسَيِّدِ الْأَنَامِ، فَيَأْخُذُ مَا عَلَيْهِ مِمَّا إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي إِقَامَةِ مَا إِلَيْهِ وَهَذَا عَلَى إِيجَازِهِ مُشِيرٌ إِلَى النِّهَايَاتِ مُشْعِرٌ بِالْغَايَاتِ. وَلَكِنِّي أَعْرِضُ عَلَى الرَّأْيِ الْأَسْمَى كُلَّ أَمْرِ تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَأُوَضِّحُ مَسْلَكَهُ وَمِنْهَاجَهُ، وَأَنْتَدِبُ فِي بَعْضِ مَجَارِي الْكَلَامِ

واجبات نظام الملك وما عليه

مُحَرِّرًا مُقَدِّرًا، وَأُشِيرَ إِلَى الْمَغْزَى وَالْمَرَامِ مُذَكِّرًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَكْرَمِينَ: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . نَعَمْ. وَالتَّذْكِيرُ يَنْزِعُ صِمَامَ الصَّمَمِ عَنْ صِمَاخِ اللُّبِّ، وَيَقْشَعُ غَمَامَ الْغَمَمِ عَنْ سَمَاءِ الْقَلْبِ. [وَاجِبَاتُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَمَا عَلَيْهِ] فَأَقُولُ: 537 - حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبِيدِهِ عَلَى قَدْرِ النِّعَمِ، وَالْهُمُومُ بِقَدْرِ الْهِمَمِ، وَأَنْعُمُ اللَّهِ إِذَا لَمْ تُشْكَرْ نِقَمٌ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ تَنَبَّهَ لِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَزِلَّ بِهِ الْقَدَمُ، وَحُظُوظُ الدُّنْيَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ، لَا تَبْقَى عَلَى مَكَرِّ الزَّمَنِ، وَالْمُسَدَّدُ مَنْ نَظَرَ فِي أُولَاهُ لِعَاقِبَتِهِ، وَتَزَوَّدَ مِنْ مُكْنَتِهِ فِي دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ.

[أ - الْإِحَاطَةُ بِالْأَخْبَارِ وَالْأَحْوَالِ] 538 - فَمِمَّا أَعْرِضُهُ عَلَى الْجَنَابِ الْعَالِي أَمْرٌ يَعْظُمُ وَقْعُهُ عَلَى [اعْتِقَابِ] الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَهُوَ الِاهْتِمَامُ بِمَجَارِي الْأَخْبَارِ فِي أَقَاصِي الدِّيَارِ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي أُمُورِ الرَّعَايَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَوَامِضِ وَالْخَفَايَا، وَإِذَا انْتَشَرَتْ مِنْ خُطَّةِ الْمَمْلَكَةِ الْأَطْرَافُ، وَأَسْبَلَتِ الْعَمَايَةُ دُونَ مَعْرِفَتِهَا أَسَدَادَ الْأَعْرَافِ، وَلَمْ تَطْلُعْ شَمْسُ رَأْيِ رَاعِي الرَّعِيَّةِ عَلَى صِفَةِ الْإِشْرَاقِ وَالْإِشْرَافِ. امْتَدَّتْ أَيْدِي الظَّلَمَةِ (200) إِلَى الضَّعَفَةِ بِالْإِهْلَاكِ وَالْإِتْلَافِ [وَالثُّلَّةُ] إِذَا نَامَ عَنْهَا رَاعِيهَا عَاشَتْ طُلْسُ الذِّئَابِ فِيهَا، وَعَسُرَ تَدَارَكُهَا وَتَلَافِيهَا، وَالتَّيَقُّظُ وَالْخِبْرَةُ أُسُّ الْإِيَالَةِ، وَقَاعِدَةُ الْإِمْرَةِ، وَإِذَا عَمَّى الْمُعْتَدُونَ أَخْبَارَهُمْ، أَنْشَبُوا فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ أَظْفَارَهُمْ، وَاسْتَجْرَؤُوا [ثَمَّ] عَلَى الِاعْتِدَاءِ. ثُمَّ طَمَسُوا عَنْ مَالِكِ الْأَمْرِ آثَارَهُمْ وَيَخُونُ حِينَئِذٍ الْمُؤْتَمَنُ، وَيَغُشُّ النَّاصِحُ، وَتَشِيعُ الْمَخَازِي وَالْفَضَائِحُ، وَتَبْدُو

فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ دَوَاعِي الِاخْتِزَالِ وَالِاسْتِزْلَالِ وَالْغُلُولِ، وَيَمْحَقُ فِي أَدْرَاجِ خَمْلِ الْخُمُولِ، وَقَدْ يُفْضِي الْأَمْرُ إِلَى ثَوَرَانِ الثُّوَّارِ فِي أَقَاصِي الدِّيَارِ، وَاسْتِمْرَارِ تَطَايُرِ شِرَارِ الْأَشْرَارِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَزْمِ الثِّقَةُ بِمُوَاتَاةِ الْأَقْدَارِ وَالِاسْتِنَامَةُ إِلَى مَدَارِ الْفَلَكِ الدَّوَّارِ، فَقَدْ يَثُورُ الْمَخْدُورُ مِنْ مَكْمَنِهِ، وَيُؤْتَى الْوَادِعُ الْآمِنُ مِنْ مَأْمَنِهِ، ثُمَّ مَا أَهْوَنَ الْبَحْثَ وَالتَّنْقِيرَ عَلَى مَنْ إِلَيْهِ مَقَالِيدُ التَّدْبِيرِ. 539 - عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَطْبَ الْخَطِيرَ قَرِيبُ الْمَدْرَكِ يَسِيرٌ، فَلَوِ اصْطَنَعَ صَدْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ كُلِّ بَلْدَةٍ زُمَرًا مِنَ الثِّقَاتِ عَلَى مَا يَرَى، وَرَسَمَ لَهُمْ أَنْ يُنْهُوا إِلَيْهِ تَفَاصِيلَ مَا جَرَى، فَلَا يُغَادِرُوا نَفْعًا وَلَا ضُرًّا إِلَّا بَلَغُوهُ اخْتِفَاءً وَسِرًّا، لَتَوَافَتْ دَقَائِقُ الْأَخْبَارِ وَحَقَائِقُ الْأَسْرَارِ عَلَى مُخَيَّمِ الْعِزِّ غَضَّةً طَرِيَّةً، وَتَرَاءَتْ لِلْحَضْرَةِ

الْعَلِيَّةِ مَجَارِي الْأَحْوَالِ فِي الْأَعْمَالِ الْقَصِيَّةِ. فَإِذَا اسْتَشْعَرَ أَهْلُ الْخَبَلِ وَالْفَسَادِ أَنَّهُمْ مِنْ صَاحِبِ الْأَمْرِ بِالْمِرْصَادِ، آثَرُوا الْمَيْلَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، إِلَى مَسَالِكِ الرَّشَادِ، وَانْتَظَمَتْ أُمُورُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ. وَمَا ذَكَرْتُهُ - لَوْ قَدَّرَ اللَّهُ - نَتِيجَةُ خَطْرَةٍ وَفِكْرَةٍ، وَمُوجَبُ الْتِفَاتَةٍ مِنَ الرَّأْيِ السَّامِي وَنَظْرَةٍ. وَهَذَا (201) الَّذِي رَمَزْتُ إِلَيْهِ عَلَى قُرْبِ مَدْرَكِهِ وَيُسْرِهِ [مَدْرَأَةٌ] لِغَائِلَةِ كُلِّ أَمْرٍ وَعُسْرِهِ، مِنْ غَيْرِ بَذْلِ مُؤْنَةٍ، وَاسْتِمْدَادِ مَعُونَةٍ. [ب - وُجُوبُ مُرَاجَعَةِ الْعُلَمَاءِ] 540 - وَمِمَّا أُلْقِيهِ إِلَى الْمَجْلِسِ السَّامِي: وُجُوبُ مُرَاجَعَةِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، فَإِنَّهُمْ قُدْوَةُ الْأَحْكَامِ وَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ، وَوَرَثَةُ النُّبُوَّةِ، وَقَادَةُ الْأُمَّةِ، وِسَادَةُ الْمِلَّةِ، وَمَفَاتِيحُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَصْحَابُ الْأَمْرِ اسْتِحْقَاقًا،. [وَذَوُو]

النَّجْدَةِ مَأْمُورُونَ بِارْتِسَامِ مَرَاسِمِهِمْ، وَاقْتِصَاصِ أَوَامِرِهِمْ وَالِانْكِفَافِ عَنْ مَزَاجِرِهِمْ. وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْأَمْرِ مُجْتَهِدًا، فَهُوَ الْمَتْبُوعُ، الَّذِي يَسْتَتْبِعُ الْكَافَّةَ فِي اجْتِهَادِهِ وَلَا يَتْبَعُ. 541 - فَأَمَّا إِذَا كَانَ سُلْطَانُ الزَّمَانِ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الِاجْتِهَادِ فَالْمَتْبُوعُونَ الْعُلَمَاءُ، وَالسُّلْطَانُ نَجَدَتُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ، وَقُوَّتُهُمْ وَبَذْرَقَتُهُمْ، فَعَالِمُ الزَّمَانِ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي نُحَاوِلُهُ، وَالْغَرَضِ الَّذِي نُزَاوِلُهُ كَنَبِيِّ الزَّمَانِ، وَالسُّلْطَانُ مَعَ الْعَالِمِ كَمَلِكٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ، مَأْمُورٌ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى مَا يُنْهِيهِ إِلَيْهِ النَّبِيُّ. 542 - وَالْقَوْلُ الْكَاشِفُ لِلْغِطَاءِ، الْمُزِيلُ لِلْخَفَاءِ، أَنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ وَالنَّبِيُّ مُنْهِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَصْرِ نَبِيٌّ، فَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الشَّرِيعَةِ، وَالْقَائِمُونَ فِي إِنْهَائِهَا مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْ بَدِيعِ الْقَوْلِ فِي مَنَاصِبِهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ يُتَوَقَّعُ فِي دَهْرِهِمْ تَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ بِالنَّسْخِ، وَطَوَارِئُ الظُّنُونِ عَلَى فِكْرِ الْمُفْتِينَ، وَتُغَايِرُ اجْتِهَادَاتِهِمْ يُغَيِّرُ أَحْكَامَ اللَّهِ عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ، فَتَصِيرُ خَوَاطِرُهُمْ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَالَّةً مَحَلَّ مَا يَتَبَدَّلُ مِنْ قَضَايَا أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّسْخِ.

وَهَذِهِ مَرَامِزُ تُومِئُ إِلَى أُمُورٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أُطْنِبْ فِيهَا ; مَخَافَةَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْإِطْرَاءِ، وَالْإِفْرَاطِ فِي الثَّنَاءِ. . [جـ - التَّيَقُّظُ لِلْفِتْنَةِ] 543 - وَمِمَّا أُنْهِيهِ إِلَى صَدْرِ الْعَالَمِ بَعْدَ تَمْهِيدِ الْاطِّلَاعِ عَلَى أَخْبَارِ الْبِقَاعِ وَالْأَصْقَاعِ فِتْنَةٌ هَاجِمَةٌ فِي الدِّينِ، وَلَوْ لَمْ تُتَدَارَكْ، لَتَقَاذَفَتْ إِلَى مُعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَتَفَاقَمَتْ غَائِلَتُهَا، وَأَعْضَلَتْ وَاقِعَتُهَا وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الطَّوَامِّ عَلَى الْعَوَامِّ. وَحَقٌّ عَلَى مَنْ أَقَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى ظَهْرًا لِلْإِسْلَامِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ فِي [رَحْضِ] الْمِلَّةِ عَنْهَا اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ وَأَقْصَى اقْتِدَارِي فِيهِ إِنْهَاؤُهَا كَمَا نَبَغَ ابْتِدَاؤُهَا، وَعَلَى مَنْ مَلَّكَهُ اللَّهُ أَعِنَّةَ الْمُلْكِ التَّشْمِيرُ لِإِبْعَادِ الْخَلْقِ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلْكِ. 544 - وَقَدْ نَشَأَ - حَرَسَ اللَّهُ أَيَّامَ مَوْلَانَا - نَاشِئَةٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ

وَالْمُعَطِّلَةِ، وَانْبَثُّوا فِي الْمَخَالِيفِ وَالْبِلَادِ، وَشَمَّرُوا لِدَعْوَةِ الْعِبَادِ، إِلَى الِانْسِلَاخِ عَنْ مَنَاهِجِ الرَّشَادِ، وَاسْتَنَدُوا إِلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمَرْمُوقِينَ الْمُغْتَرِّينَ، وَأَضْحَى أُولَئِكَ عَنْهُمْ ذَابِّينَ، وَلَهُمْ مُنْتَصِرِينَ. وَصَارَ الْمُغْتَرُّونَ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَتُرْفَةِ الْمَعِيشَةِ، يَتَّخِذُونَ فُكَاهَةَ مَجَالِسِهِمْ، وَهُزْوَ مَقَاعِدِهِمْ - الِاسْتِهَانَةَ بِالدِّينِ، وَالتَّرَامُزَ وَالتَّغَامُزَ بِشَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَعَدَّى أَثَرُ مَا يُلَابِسُونَهُ إِلَى أَتْبَاعِهِمْ، وَأَشْيَاعِهِمْ مِنَ الرِّعَاعِ الْمُقَلِّدِينَ، وَفَشَا فِي عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ شَبَهُ الْمُلْحِدِينَ، وَغَوَائِلُ الْجَاحِدِينَ، وَكَثُرَ التَّخَاوُضُ وَالتَّفَاوُضُ فِي مَطَاعِنِ الدِّينِ. 545 - وَمِنْ أَعْظَمِ الْمِحَنِ، وَأَطَمِّ الْفِتَنِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، انْحِلَالُ عِصَامِ التَّقْوَى عَنِ الْوَرَى، وَاتِّبَاعُهُمْ نَزَعَاتِ الْهَوَى، وَتَشَوُّفُهُمْ إِلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِحُطَامِ الْمُنَى، وَعُرُّوُهُمْ عَنِ الثِّقَةِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي الْعُقْبَى، وَاعْتِلَاقُهُمْ بِالِاعْتِيَادِ الْمَحْضِ فِي مَرَاسِمِ الشَّرِيعَةِ تُسْمَعُ وَتُرْوَى، حَتَّى كَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ أَسْمَارٌ تُحْكَى وَتُطْوَى، وَهُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ مِنَ الرَّدَى. فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى مَا هُمْ مَدْفُوعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلْوَى، دَعْوَةُ

الْمُعَطِّلَةِ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، خِيفَ مِنَ انْسِلَالِ مُعْظَمِ الْعَوَامِّ عَنْ دِينِ الْمُصْطَفَى، وَلَوْ لَمْ تُتَدَارَكْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ الثَّائِرَةُ، أَحْوَجَتِ الْإِيَالَةَ إِلَى إِعْمَالِ بَطْشَةٍ قَاهِرَةٍ، وَوَطْأَةٍ غَامِرَةٍ. [تَرْكُ الْبَاقِي مِنَ الْوَاجِبَاتِ لِنَظَرِ (نِظَامِ الْمُلْكِ) ] 546 - وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَى الرَّأْيِ السَّامِي مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا أُمُورًا، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أَجْمَعَ أَطْرَافَ الْكَلَامِ. وَمَوْلَانَا أَمْتَعَ اللَّهُ بِبَقَائِهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ أَخْبَرُ بِمَبَالِغِ الْإِمْكَانِ، فِي هَذَا الزَّمَانِ. 547 - وَقَدْ لَاحَ بِمَضْمُونِ مَا رَدَّدْتُهُ مِنَ الْإِيضَاحِ وَالْبَيَانِ، مَا إِلَى مَوْلَانَا عَلَيْهِ، فِي حُكْمِ الْإِيمَانِ، فَإِنْ رَأَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلِيكِ الدَّيَّانِ بُلُوغَهُ فِيمَا تَطَوَّقَهُ غَايَةَ الِاسْتِمْكَانِ، فَلَيْسَ فَوْقَ ذَلِكَ مَنْصِبٌ مُرْتَقَبٌ، مِنَ الْقُرُبَاتِ وَمَكَانٌ، وَإِنْ فَاتَ مَبْلَغَ الْإِيثَارِ وَالِاقْتِدَارِ حَالَةٌ، لَا يَرَى دَفْعَهَا، فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَمَوْلَانَا بِالنَّظَرِ فِي مَغَبَّاتِ الْعَوَاقِبِ أَحْرَى. 548 - وَقَدْ قَالَ الْمُصْطَفَى فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ: " «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» " وَقَدْ عَظُمَ وَاللَّهِ الْخَطَرُ لِمَقَامٍ مُسْتَقِلٍّ فِي الْإِسْلَامِ، مَنْ حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْأَنَامِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ عَلَى

ضِفَّةِ الْفُرَاتِ مَضْرُورٌ، أَوْ ضَاعَ عَلَى شَاطِئِ الْجَيْحُونِ مَقْرُورٌ، أَوْ تُصُوِّرَ فِي أَطْرَافِ خُطَّةِ الْإِسْلَامِ مَكْرُوبٌ مَغْمُومٌ. أَوْ تَلَوَّى فِي مُنْقَطِعِ الْمَمْلَكَةِ مُضْطَهَدٌ مَهْمُومٌ أَوْ جَأَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَظْلُومٌ، أَوْ بَاتَ تَحْتَ الضُّرِّ خَاوٍ، أَوْ مَاتَ عَلَى الْجُوعِ وَالضَّيَاعِ طَاوٍ، فَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهَا، وَالْمُطَالِبُ بِهَا فِي مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، " {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} . {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ". 549 - وَفِي الْجُمْلَةِ فَفَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَوْلَانَا عَمِيمٌ، وَالْخَطَرُ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِالشُّكْرِ عَظِيمٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى رَؤُوفٌ رَحِيمٌ. 550 - وَمَعَ هَذَا فَمَنْ سَوَّغَ لِمَوْلَانَا الْإِحْجَامَ عَنْ مُطَالَعَةِ مَصَالِحِ الْأَنَامِ فَقَدْ غَشَّهُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَفَارَقَ مَأْخَذَ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا مُقَرَّرًا عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ. وَقَدْ نَجَزَ مُنْتَهَى الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الْمَرَامِ، وَبِعَوْنِ اللَّهِ آخُذُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ.

الباب الثالث في شغور الدهر عن وال بنفسه أو متول بغيره

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي شُغُورِ الدَّهْرِ عَنْ وَالٍ بِنَفْسِهِ أَوْ مُتَوَلٍّ بِغَيْرِهِ] الْبَابُ الثَّالِثُ فِي شُغُورِ الدَّهْرِ عَنْ وَالٍ بِنَفْسِهِ أَوْ مُتَوَلٍّ بِغَيْرِهِ فَأَقُولُ: 551 - قَدْ تَقَرَّرَ الْفَرَاغُ عَنِ الْقَوْلِ فِي اسْتِيلَاءِ مُسْتَجْمِعٍ لِشَرَائِطِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ فِي اسْتِعْلَاءِ ذِي نَجْدَةٍ وَشَهَامَةٍ، وَقَدْ حَانَ الْآنَ أَنْ أَفْرِضَ خُلُوَّ الزَّمَانِ عَنِ الْكُفَاةِ ذَوِي الصَّرَامَةِ، خُلُوَّهُ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ، وَالتَّصْوِيرُ فِي هَذَا عَسِرٌ ; فَإِنَّهُ يَبْعُدُ عُرُوُّ الدَّهْرِ عَنْ عَارِفٍ بِمَسَالِكِ السِّيَاسَةِ، وَنَحْنُ لَا نَشْتَرِطُ انْتِهَاءَ الْكَافِي إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، بَلْ كَفَى أَنْ يَكُونَ ذَا حَصَاةٍ وَأَنَاةٍ، وَدِرَايَةٍ وَهِدَايَةٍ، وَاسْتِقْلَالٍ بِعَظَائِمِ الْخُطُوبِ، وَإِنْ دَهَتْهُ مُعْضِلَةٌ اسْتَضَاءَ فِيهَا بِرَأْيِ ذَوِي الْأَحْلَامِ، ثُمَّ انْتَهَضَ مُبَادِرًا وَجْهَ الصَّوَابِ بَعْدَ إِبْرَامِ الِاعْتِزَامِ، وَلَا يَكَادُ تَخْلُو الْأَوْقَاتُ عَنْ مُتَّصِفٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. 552 - وَلَكِنْ قَدْ يَسْهُلُ [تَقْدِيرُ] مَا نَبْغِيهِ، بِأَنْ يُفْرَضَ

ذُو الْكِفَايَةِ [وَالدِّرَايَةِ] مُضْطَهَدًا مَهْضُومًا، مَنْكُوبًا بِعُسْرِ الزَّمَانِ مَصْدُومًا، مُحَلَّأً عَنْ وِرْدِ النَّيْلِ مَحْرُومًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَثْبُتُ دُونَ اعْتِضَادٍ بِعُدَّةٍ وَاسْتِعْدَادٍ بِشَوْكَةٍ وَنَجْدَةٍ، فَكَذَلِكَ الْكِفَايَةُ بِمُجَرَّدِهَا مِنْ غَيْرِ اقْتِدَارٍ وَاسْتِمْكَانٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي إِقَامَةِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ; فَإِذَا شَغَرَ الزَّمَانُ عَنْ كَافٍ مُسْتَقِلٍّ بِقُوَّةٍ وَمُنَّةٍ، فَكَيْفَ تَجْرِي قَضَايَا الْوِلَايَاتِ، وَقَدْ بَلَغَ تَعَذُّرُهَا مُنْتَهَى الْغَايَاتِ. فَنَقُولُ: 553 - أَمَّا مَا يَسُوغُ اسْتِقْلَالُ النَّاسِ [فِيهِ] بِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّ الْأَدَبَ يَقْتَضِي فِيهِ مُطَالَعَةَ ذَوِي الْأَمْرِ، وَمُرَاجَعَةَ مَرْمُوقِ الْعَصْرِ، كَعَقْدِ الْجُمَعِ، وَجَرِّ الْعَسَاكِرِ إِلَى الْجِهَادِ، وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرْفِ، فَيَتَوَلَّاهُ النَّاسُ عِنْدَ خُلُوِّ الدَّهْرِ. وَلَوْ سَعَى عِنْدَ شُغُورِ الزَّمَانِ طَوَائِفُ مِنْ ذَوِي النَّجْدَةِ وَالْبَأْسِ فِي نَفْضِ الطُّرُقِ عَنِ السُّعَاةِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، [فَهُوَ] مِنْ أَهَمِّ أَبْوَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

554 - وَإِنَّمَا يَنْهَى آحَادُ النَّاسِ عَنْ شَهْرِ الْأَسْلِحَةِ اسْتِبْدَادًا إِذَا كَانَ فِي الزَّمَانِ [وَزَرٌ] قَوَّامٌ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا خَلَا الزَّمَانُ عَنِ السُّلْطَانِ، وَجَبَ الْبِدَارُ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ إِلَى دَرْءِ الْبَوَائِقِ عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَنَهْيُنَا الرَّعَايَا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِالْأَنْفُسِ مِنْ قَبِيلِ [الِاسْتِحْثَاثِ] عَلَى مَا هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الصَّلَاحِ، وَالْأَدْنَى إِلَى النَّجَاحِ، فَإِنَّ مَا يَتَوَلَّاهُ السُّلْطَانُ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ أَوْقَعُ وَأَنْجَعُ، وَأَدْفَعُ لِلتَّنَافُسِ، وَأَجْمَعُ لِشَتَاتِ الرَّأْيِ فِي تَمْلِيكِ الرَّعَايَا أُمُورَ الدِّمَاءِ، وَشَهْرَ الْأَسْلِحَةِ، وَجُوهٌ مِنَ الْخَبَلِ لَا [يُنْكِرُهَا] ذَوُو الْعَقْلِ. وَإِذَا لَمْ يُصَادِفِ النَّاسُ قَوَّامًا بِأُمُورِهِمْ يَلُوذُونَ بِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُؤْمَرُوا بِالْقُعُودِ عَمَّا يَقْتَدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ دَفْعِ الْفَسَادِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ تَقَاعَدُوا عَنِ الْمُمْكِنِ، عَمَّ الْفَسَادُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ. وَإِذَا أُمِرُوا بِالتَّقَاعُدِ فِي قِيَامِ السُّلْطَانِ، كَفَاهُمْ ذُو الْأَمْرِ الْمُهِمَّاتِ، وَأَتَاهَا عَلَى أَقْرَبِ الْجِهَاتِ. 555 - وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَوْ خَلَا الزَّمَانُ عَنِ السُّلْطَانِ فَحَقٌّ عَلَى قُطَّانِ كُلِّ بَلْدَةٍ، وَسُكَّانِ كُلِّ قَرْيَةٍ، أَنْ يُقَدِّمُوا مِنْ ذَوِي

الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، وَذَوِي الْعُقُولِ وَالْحِجَا مَنْ يَلْتَزِمُونَ امْتِثَالَ إِشَارَاتِهِ وَأَوَامِرِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَنْ مَنَاهِيهِ وَمَزَاجِرِهِ ; فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، تَرَدَّدُوا عِنْدَ إِلْمَامِ الْمُهِمَّاتِ، وَتَبَلَّدُوا عِنْدَ إِظْلَالِ الْوَاقِعَاتِ. 556 - وَلَوِ انْتُدِبَ جَمَاعَةٌ فِي قِيَامِ الْإِمَامِ لِلْغَزَوَاتِ، وَأَوْغَلُوا فِي مُوَاطِنِ الْمَخَافَاتِ، تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُنَصِّبُوا مَنْ يَرْجِعُونَ إِلَى رَأْيِهِ إِذْ لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَهَوَوْا فِي وَرَطَاتِ الْمَخَافَاتِ، وَلَمْ يَسْتَمِرُّوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَالَاتِ (206) . 557 - وَمِمَّا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ أُمُورُ الْوِلَايَاتِ الَّتِي كَانَتْ مَنُوطَةً بِالْوُلَاةِ كَتَزْوِيجِ الْأَيَامَى، وَالْقِيَامِ بِأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، فَأَقُولُ: ذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ إِلَى أَنَّ [مِمَّا] يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَايَةِ تَزْوِيجَ الْأَيَامَى، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَطَوَائِفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَلِيٌّ زَوَّجَهَا، وَإِلَّا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ حَاضِرٌ، وَشَغَرَ الزَّمَانُ عَلَى السُّلْطَانِ، فَنَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَسْمَ بَابِ النِّكَاحِ مُحَالٌ

فِي الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ أَبْدَى فِي ذَلِكَ تَشَكُّكًا، فَلَيْسَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِوَضْعِ الشَّرْعِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى سَدِّ بَابِ الْمَنَاكِحِ يُضَاهِي الذَّهَابَ إِلَى تَحْرِيمِ الِاكْتِسَابِ، كَمَا سَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي الرُّكْنِ الْأَخِيرِ فِي الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ لَا مِرَاءَ فِيهِ، فَلْيَقَعِ النَّظَرُ وَرَاءَ ذَلِكَ فِي تَفْصِيلِ التَّزْوِيجِ، فَأَقُولُ: 558 - إِنْ كَانَ فِي الزَّمَانِ عَالِمٌ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي تَفَاصِيلِ النَّقْضِ وَالْإِبْرَامِ وَمَآخِذِ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الْمَنَاكِحَ الَّتِي كَانَ يَتَوَلَّاهَا السُّلْطَانُ إِذْ كَانَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّ مَنْ حَكَمَ مُجْتَهِدًا فِي زَمَانِ قِيَامِ الْإِمَامِ بِأَحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهَلْ يَنْفُذُ مَا حَكَمَ بِهِ الْمُحَكَّمُ؟ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ حُكْمِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ حُكْمِ الْقَاضِي الَّذِي يَتَوَلَّى مَنْصِبَهُ مِنْ تَوْلِيَةِ الْإِمَامِ. وَهَذَا قَوْلٌ مُتَّجَهٌ فِي الْقِيَاسِ، لَسْتُ أَرَى الْإِطَالَةَ بِذِكْرِ تَوْجِيهِهِ.

وَغَرَضِي مِنْهُ [أَنَّهُ] إِذَا انْقَدَحَ الْمَصِيرُ إِلَى تَنْفِيذِ أَمْرٍ مُحَكَّمٍ مِنَ الْمُفْتِينَ فِي اسْتِمْرَارِ الْإِمَامَةِ، وَاطِّرَادِ الْوِلَايَةِ وَالزَّعَامَةِ، مَعَ تَرَدُّدٍ وَتَحَرٍّ وَاجْتِهَادٍ وَتَأَخٍّ. فَإِذَا خَلَا الزَّمَانُ وَتَحَقَّقَ مِنْ مُوجَبِ الشَّرْعِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ اسْتِحَالَةُ تَعْطِيلِ الْمَنَاكِحِ، فَالَّذِي كَانَ نُفُوذُهُ (207) مِنْ أَمْرِ الْمُحَكَّمِ مُجْتَهِدًا فِيهِ فِي قِيَامِ الْإِمَامِ يَصِيرُ مَقْطُوعًا بِهِ فِي شُغُورِ الْأَيَّامِ، وَهَذَا إِذَا صَادَفْنَا عَالِمًا يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَى عِلْمِهِ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُ حُكْمِهِ. 559 - فَإِنْ عَرِيَ الزَّمَانُ عَنِ الْعُلَمَاءِ عُرُوَّهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ ذَوِي الْأَمْرِ، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ يَقَعُ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ مِنَ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ، وَسَنُوَضِّحُ مَقْصِدَنَا فِيهِ عَلَى مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ، وَنَأْتِي بِالْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ، وَنُبْدِي مِنْ سِرِّ الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَجْرِ فِي مَجَارِي الْخَطَرَاتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. 560 - ثُمَّ كُلُّ أَمْرٍ يَتَعَاطَاهُ الْإِمَامُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُفَوَّضَةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ،

فَإِذَا شَغَرَ الزَّمَانُ عَنِ الْإِمَامِ وَخَلَا عَنْ سُلْطَانٍ ذِي نَجْدَةٍ وَكِفَايَةٍ وَدِرَايَةٍ، فَالْأُمُورُ مَوْكُولَةٌ إِلَى الْعُلَمَاءِ، وَحَقٌّ عَلَى الْخَلَائِقِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى عُلَمَائِهِمْ، وَيُصْدِرُوا فِي جَمِيعِ قَضَايَا الْوِلَايَاتِ عَنْ رَأْيِهِمْ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَدْ هُدُوا إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَصَارَ عُلَمَاءُ الْبِلَادِ وُلَاةَ الْعِبَادِ. 561 - فَإِنْ عَسُرَ جَمْعُهُمْ عَلَى وَاحِدٍ اسْتَبَدَّ أَهْلُ كُلِّ صُقْعٍ وَنَاحِيَةٍ بِاتِّبَاعِ عَالِمِهِمْ. وَإِنْ كَثُرَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّاحِيَةِ، فَالْمُتَّبَعُ أَعْلَمُهُمْ، وَإِنْ فُرِضَ اسْتِوَاؤُهُمْ، فَفَرْضُهُمْ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يَقَعُ، فَإِنِ اتَّفَقَ فَإِصْدَارُ الرَّأْيِ عَنْ جَمِيعِهِمْ مَعَ تَنَاقُضِ الْمَطَالِبِ وَالْمَذَاهِبِ مُحَالٌ فَالْوَجْهُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَقْدِيمِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. فَإِنْ تَنَازَعُوا وَتَمَانَعُوا، وَأَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى شِجَارٍ وَخِصَامٍ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي قَطْعِ النِّزَاعِ الْإِقْرَاعُ، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، قُدِّمَ. 562 - وَالْقَوْلُ الْمُقْنِعُ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ [الْمُسْتَجْمِعِينَ]

لِخِصَالِ الْمَنْصَبِ الْأَعْلَى لَيْسَ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِنْهَاءُ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَإِيصَالُهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا (208) إِلَى مَقَارِّهَا، ثُمَّ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي اسْتِصْلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا رَبْطُ الْإِيَالَاتِ بِمَتْبُوعٍ وَاحِدٍ إِنْ تَأَتَّى ذَلِكَ. فَإِنْ عَسُرَ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ، تَعَلَّقَ إِنْهَاءُ أَحْكَامِ اللَّهِ [تَعَالَى] إِلَى الْمُتَعَبِّدِينَ بِهَا بِمَرْمُوقِينَ فِي الْأَقْطَارِ وَالدِّيَارِ. 563 - وَمِنَ الْأَسْرَارِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الزَّمَانِ كَافٍ ذُو شَهَامَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى مَرْتَبَةِ الِاسْتِقْلَالِ، وَقَدِ اسْتَظْهَرَ بِالْعُدَدِ وَالْأَنْصَارِ، وَعَاضَدَتْهُ مُوَاتَاةُ الْأَقْدَارِ، فَهُوَ الْوَالِي وَإِلَيْهِ أُمُورُ الْأَمْوَالِ وَالْأَجْنَادِ وَالْوِلَايَاتِ، لَكِنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَلَّا يَبُتَّ أَمْرًا دُونَ مُرَاجَعَةِ الْعُلَمَاءِ. 564 - فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا جَزَمْتَ الْقَوْلَ بِأَنَّ عَالِمَ الزَّمَانِ هُوَ الْوَالِي [وَ] حَقٌّ عَلَى ذِي النَّجْدَةِ [وَالْبَاسِ] اتِّبَاعُهُ، وَالْإِذْعَانُ لِحُكْمِهِ، وَالْإِقْرَارُ لِمَنْصِبِ عِلْمِهِ. قُلْنَا: إِنْ كَانَ الْعَالِمُ ذَا كِفَايَةٍ وَهِدَايَةٍ إِلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ، فَحَقٌّ

عَلَى ذِي الْكِفَايَةِ الْعَرِيِّ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَتْبَعَهُ إِنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَالِمُ ذَا دِرَايَةٍ وَاسْتِقْلَالٍ بِعَظَائِمِ الْأَشْغَالِ، فَذُو الْكِفَايَةِ الْوَالِي قَطْعًا، وَعَلَيْهِ الْمُرَاجَعَةُ وَالِاسْتِعْلَامُ فِي مَوَاقِعِ الِاسْتِبْهَامِ، وَمَوَاضِعِ الِاسْتِعْجَامِ. 565 - ثُمَّ إِذَا كَانَتِ الْوِلَايَةُ مَنُوطَةً بِذِي الْكِفَايَةِ وَالْهِدَايَةِ، فَالْأَمْوَالُ مَرْبُوطَةٌ بِكِلَاءَتِهِ، وَجَمْعِهِ وَتَفْرِيقِهِ وَرِعَايَتِهِ ; فَإِنَّ عِمَادَ الدَّوْلَةِ الرِّجَالُ، وَقِوَامُهُمُ الْأَمْوَالُ. فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ. 566 - وَقَدِ انْتَهَى الْقَوْلُ إِلَى الرُّكْنِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يُطْبِقُ طَبَقَ الْأَرْضِ فَائِدَتُهُ، وَتَسْتَفِيضُ عَلَى طَبَقَاتِ الْخَلْقِ عَائِدَتُهُ. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ.

الركن الثالث

[الرُّكْنُ الثَّالِثُ] [مقدمة الركن وخطته] [الرُّكْنُ الثَّالِثُ] (الْكِتَابُ الثَّالِثُ) فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ وَنَقَلَةِ الْمَذَاهِبِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِ مَرَاتِبُ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى (الْبَابُ الْأَوَّلُ) : فِي اشْتِمَالِ الزَّمَانِ عَلَى الْمُفْتِينَ الْمُجْتَهِدِينَ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ (الْبَابُ الثَّانِي) : فِيمَا إِذَا خَلَا الزَّمَانُ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ وَبَقِيَ نَقَلَةُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ (الْبَابُ الثَّالِثُ) : فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْمُفْتِينَ وَنَقَلَةِ الْمَذَاهِبِ. الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ (الْبَابُ الرَّابِعُ) : فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.

الْقَوْلُ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ. [الْكِتَابُ الثَّالِثُ] . [مُقَدِّمَةُ الرُّكْنِ] . 567 - مَضْمُونُ هَذَا الرُّكْنِ يَسْتَدْعِي نَخْلَ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَطْلَعِهَا إِلَى مَقْطَعِهَا، وَتَتَبُّعَ مَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا (209) وَاخْتِصَاصَ مَعَاقِدِهَا وَقَوَاعِدِهَا، وَإِنْعَامَ النَّظَرِ فِي أُصُولِهَا وَفُصُولِهَا، وَمَعْرِفَةَ فُرُوعِهَا وَيَنْبُوعِهَا، وَالِاحْتِوَاءَ عَلَى مَدَارِكِهَا وَمَسَالِكِهَا، وَاسْتِبَانَةَ كُلِّيَّاتِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَالْاطِّلَاعَ عَلَى مَعَالِمِهَا وَمَنَاظِمِهَا، وَالْإِحَاطَةَ بِمَبْدَئِهَا وَمَنْشَئِهَا، وَطُرُقِ تَشَعُّبِهَا وَتَرَتُّبِهَا، وَمَسَاقِهَا وَمَذَاقِهَا، وَسَبَبِ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِطْبَاقِهَا، وَعِلَّةِ اخْتِلَافِهَا وَافْتِرَاقِهَا. وَلَوْ ضَمَّنْتُ هَذَا الْمَجْمُوعَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَنَصَصْتُ عَلَيْهِ لَمْ يَقْصُرْ عَنْ أَسْفَارٍ ثُمَّ لَا يَحْوِي مُنْتَهَى الْأَوْطَارِ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِيَعْتَقِدَ النَّاظِرُ فِي هَذَا الْفَنِّ أَنَّهُ نَتِيجَةُ بُحُورٍ مِنَ الْعُلُومِ، لَا [يَعْبُرُهَا] الْعَوَامُّ وَلَا تَفِي بِبَدَائِعِهَا الْأَيَّامُ وَالْأَعْوَامُ، وَقَلَّمَا تَسْمَحُ بِجَمْعِهَا لِطَالِبٍ وَاحِدٍ الْأَقْدَارُ وَالْأَقْسَامُ وَلَوْلَا حَذَارُ انْتِهَاءِ

الْأَمْرِ إِلَى حَدِّ التَّصَلُّفِ وَالْإِعْجَابِ، لَآثَرْتُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى [عُلُوِّ] قَدْرِ هَذَا الرُّكْنِ التَّنَاهِيَ فِي الْإِطْنَابِ. 568 - وَالْآنَ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ، أُرَتِّبُ الْقَوْلَ فِي هَذَا الرُّكْنِ عَلَى مَرَاتِبَ، وَأُوَضِّحُ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ التَّحْقِيقِ. فَنَذْكُرُ أَوَّلًا اشْتِمَالَ الزَّمَانِ عَلَى الْمُفْتِينَ. ثُمَّ نَذْكُرُ خُلُوَّ الدَّهْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ بِمَنْصَبِ الِاجْتِهَادِ، مَعَ انْطِوَاءِ الزَّمَانِ عَلَى نَقَلَةِ مَذَاهِبِ الْمَاضِينَ. ثُمَّ نَذْكُرُ شُغُورَ الْعَصْرِ عَنِ الْأَثْبَاتِ وَالثِّقَاتِ، رُوَاةِ الْآرَاءِ وَالْمَذَاهِبِ، مَعَ بَقَاءِ مَجَامِعِ الشَّرْعِ وَشُيُوعِ أَرْكَانِ الدِّينِ عَلَى الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ نَذْكُرُ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي دُرُوسِ الشَّرِيعَةِ، وَانْطِمَاسِ قَوَاعِدِهَا، وَحُكْمِ التَّكْلِيفِ - لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ - عَلَى الْعُقَلَاءِ. فَالْمَرَاتِبُ الَّتِي نَرُومُهَا فِي غَرَضِ هَذَا الْبَابِ أَرْبَعُ.

المرتبة الأولى الباب الأول في اشتمال الزمان على المفتين المجتهدين

[الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي اشْتِمَالِ الزَّمَانِ عَلَى الْمُفْتِينَ الْمُجْتَهِدِينَ] 569 - فَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى، فَنَقُولُ فِيهَا مُسْتَعِينِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى: حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ، وَالْمُسْتَقِلُّونَ (210) بِهَا هُمُ الْمَفْتُونَ الْمُسْتَجْمِعُونَ لِشَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْعُلُومِ، [وَالضَّامُّونَ] إِلَيْهَا التَّقْوَى وَالسَّدَادَ. 570 - وَإِنْ دُفِعْنَا إِلَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِقْلَالُ فِي ذِكْرِ الْخِصَالِ الْمَرْعِيَّةِ فِي الِاجْتِهَادِ، مَعَ إِيضَاحِ مَا عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ مِنْ تَخَيُّرِ الْمُفْتِينَ، فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي مُصَنَّفَاتٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ اسْتِيعَابَ الْقَوْلِ فِي صِفَاتِ الْمُفْتِينَ، وَآدَابِ الْمُسْتَفْتِينَ، وَتَفَاصِيلِ حَالَاتِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْآنَ مِنْهَا جُمَلًا مُقْنِعَةً يَفْهَمُهَا الشَّادِي الْمُبْتَدِئُ، وَيُحِيطُ بِفَوَائِدِهَا الْمُنْتَهِي مَعَ الْإِضْرَابِ عَنِ الْإِطْنَابِ، وَتَوَقِّي الْإِسْهَابِ. فَلْتَقَعِ الْبِدَايَةُ بِأَوْصَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْوَجْهُ أَنْ أَجْمَعَ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ.

صفات المفتي

[صِفَاتُ الْمُفْتِي] 571 - إِنَّ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْمُفْتِي سِتٌّ: أَحَدُهَا - الِاسْتِقْلَالُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; فَإِنَّ شَرِيعَةَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَلَقَّاهَا وَمُسْتَقَاهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَنُ، وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَوَقَائِعُهُمْ، وَأَقْضِيَتُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَكُلُّهَا بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وَأَشْرَفِ الْعِبَارَاتِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الِارْتِوَاءِ [مِنَ] الْعَرَبِيَّةِ، فَهِيَ الذَّرِيعَةُ إِلَى مَدَارِكِ الشَّرِيعَةِ. 572 - وَالثَّانِيَةُ - مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ [مِنْ] آيَاتِ الْكِتَابِ، وَالْإِحَاطَةُ بِنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، عَامِّهَا وَخَاصِّهَا، وَتَفْسِيرُ مُجْمَلَاتِهَا ; فَإِنَّ مَرْجِعَ الشَّرْعِ وَقُطْبَهُ الْكِتَابُ. 573 - وَالثَّالِثَةُ - مَعْرِفَةُ السُّنَنِ، فَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْكُبْرَى ; فَإِنَّ مُعْظَمَ أُصُولِ التَّكَالِيفِ مُتَلَقًّى مِنْ أَقْوَالِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْعَالِهِ وَفُنُونِ أَحْوَالِهِ، وَمُعْظَمُ آيِ الْكِتَابِ لَا يَسْتَقِلُّ دُونَ بَيَانِ الرَّسُولِ.

ثُمَّ لَا يَتَقَرَّرُ الِاسْتِقْلَالُ بِالسُّنَنِ إِلَّا بِالتَّبَحُّرِ فِي مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ، وَالْعِلْمِ بِالصَّحِيحِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالسَّقِيمِ، وَأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَمَا عَلَيْهِ التَّعْوِيلُ فِي صِفَاتِ الْأَثْبَاتِ مِنَ الرُّوَاةِ وَالثِّقَاتِ، وَالْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ، وَالتَّوَارِيخِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا اسْتِبَانَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ مَا وَصَفْنَاهُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَقَضَايَا التَّكْلِيفِ، دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْأَقَاصِيصِ وَالْمَوَاعِظِ. 574 - وَالرَّابِعَةُ - مَعْرِفَةُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَاضِينَ فِي الْعُصُرِ الْخَالِيَةِ، وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِمَذَاهِبِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَرُبَّمَا يَهْجُمُ فِيمَا يُجَرِّئُهُ عَلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، وَالِانْسِلَالِ عَنْ رِبْقَةِ الْوِفَاقِ. 575 - وَالْخَامِسَةُ - الْإِحَاطَةُ بِطُرُقِ الْقِيَاسِ وَمَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ ; فَإِنَّ الْمَنْصُوصَاتِ مُتَنَاهِيَةٌ مَضْبُوطَةٌ، وَالْوَقَائِعَ الْمُتَوَقَّعَةَ لَا نِهَايَةَ لَهَا. 576 - وَالسَّادِسَةُ - الْوَرَعُ وَالتَّقْوَى، فَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يُوثَقُ بِأَقْوَالِهِ، وَلَا يُعْتَمَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ.

577 - وَقَدْ جَمَعَ الْإِمَامُ الْمُطَّلِبِيُّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي كَلِمَةٍ وَجِيزَةٍ، فَقَالَ: " مَنْ عَرَفَ كِتَابَ اللَّهِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا اسْتَحَقَّ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ ". . 578 - وَالتَّفَاصِيلُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمِ ; فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْكِتَابِ تَسْتَدْعِي لَا مَحَالَةَ الْعِلْمَ بِاللُّغَةِ ; فَإِنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى اتِّبَاعِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ وَتَحَفُّظِهَا كَانَ مُقَلِّدًا وَلَمْ يَكُنْ عَارِفًا. وَالشَّافِعِيُّ [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] اعْتَبَرَ الْمَعْرِفَةَ وَالِاسْتِقْلَالَ بِالْأَخْبَارِ الشَّرْعِيَّةِ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الْمُنْقَرِضِينَ، وَالِاسْتِنْبَاطُ الَّذِي [ذَكَرَهُ] مُشْعِرٌ بِالْقِيَاسِ وَمَعْرِفَةِ تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ. ثُمَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْوَرَعِ، فَإِنْ قَالَ: اسْتَحَقَّ الْإِمَامَةَ. وَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ; فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ اسْتَمْسَكَ بِالْوَرَعِ وَالتَّقْوَى وَاحْتَرَزَ (212) عَنِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى لَمَّا قَالَ: اسْتَحَقَّ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ.

579 - فَهَذَا مَا رَأَيْنَا نَقْلَهُ مِنْ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ فِي صِفَاتِ الْمُفْتِينَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. 580 - فَالْقَوْلُ الْوَجِيزُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ دَرْكِ أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ عَلَى يَسِيرٍ مِنْ غَيْرِ مُعَانَاةِ [تَعَلُّمٍ] . وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَسْتَدْعِي ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ الْعُلُومِ: 581 - أَحَدُهَا - اللُّغَةُ وَالْعَرَبِيَّةُ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَمُّقُ، وَالتَّبَحُّرُ فِيهَا حَتَّى يَصِيرَ الرَّجُلُ عَلَّامَةَ الْعَرَبِ، وَلَا يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ [بِالِاسْتِطْرَافِ] وَتَحْصِيلِ الْمَبَادِئِ وَالْأَطْرَافِ، بَلِ الْقَوْلُ الضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحَصِّلَ مِنَ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، مَا يَتَرَقَّى بِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْمُقَلِّدِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا يَسْتَدْعِي مَنْصِبًا وَسَطًا فِي عِلْمِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ. 582 - وَالصِّنْفُ الثَّانِي - مِنَ الْعُلُومِ الْفَنُّ الْمُتَرْجَمُ بِالْفِقْهِ،

وَلَا بُدَّ مِنَ التَّبَحُّرِ فِيهِ، وَالِاحْتِوَاءِ عَلَى قَوَاعِدِهِ، وَمَآخِذِهِ وَمَعَانِيهِ. ثُمَّ هَذَا الْفَنُّ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ نَقْلِ مَذَاهِبِ الْمَاضِينَ وَيَنْطَوِي عَلَى ذِكْرِ وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ، وَيَحْتَوِي عَلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْكَامِ التَّكَالِيفِ مَعَ الِاعْتِنَاءِ. بِذِكْرِ الرُّوَاةِ وَالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. فَإِنِ اقْتَضَتِ الْحَالَةُ مَزِيدَ نَظَرٍ فِي خَبَرٍ، فَالْكُتُبُ الْحَاوِيَةُ عَلَى ذِكْرِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عَتِيدَةٌ، وَمُرَاجَعَتُهَا مَعَ الِارْتِوَاءِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ يَسِيرَةٌ غَيْرُ عَسِيرَةٍ، وَأَهَمُّ الْمَطَالِبِ فِي الْفِقْهِ التَّدَرُّبُ فِي مَآخِذِ الظُّنُونِ فِي مَجَالِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا [هُوَ] الَّذِي يُسَمَّى فِقْهَ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنْفَسُ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ. 583 - وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنَ الْعُلُومِ - الْعِلْمُ الْمَشْهُورُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ، وَمِنْهُ يُسْتَبَانُ مَرَاتِبُ (213) الْأَدِلَّةِ وَمَا يُقَدَّمُ مِنْهَا وَمَا يُؤَخَّرُ، وَلَا يَرْقَى الْمَرْءُ إِلَى مَنْصِبِ الِاسْتِقْلَالِ. دُونَ الْإِحَاطَةِ بِهَذَا الْفَنِّ. فَمَنِ اسْتَجْمَعَ هَذِهِ الْفُنُونَ فَقَدْ عَلَا إِلَى رُتْبَةِ الْمُفْتِينَ. 584 - وَالْوَرَعُ لَيْسَ شَرْطًا فِي حُصُولِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ مَنْ رَسَخَ فِي الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَاجْتِهَادُهُ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقْتَضِيَ فِيمَا

يَخُصُّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مُوجَبَ النَّظَرِ. وَلَكِنَّ الْغَيْرَ لَا يَثِقُ بِقَوْلِهِ لِفِسْقِهِ. 585 - وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الِاكْتِفَاءِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِصَالِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَصِيرِ إِلَى مَبْلَغٍ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى طَلَبٍ وَتَفَكُّرٍ فِي الْوَقَائِعِ مُحَالٌ، إِذِ الْوَقَائِعُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَالْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ لَا تَفِي بِتَحْصِيلِ كُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ، سِيَّمَا مَعَ قِصَرِ الْأَعْمَارِ ; فَيَكْفِي الِاقْتِدَارُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْغَرَضِ عَلَى يَسِيرٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى مُعَانَاةِ تَعَلُّمٍ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي اسْتِعْدَادًا وَاسْتِمْدَادًا مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَا مَحَالَةَ. 586 - وَالثَّانِي - أَنَّا سَبَرْنَا أَحْوَالَ الْمُفْتِينَ مِنْ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَكْرَمِينَ، فَأَلْفَيْنَاهُمْ مُقْتَدِرِينَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، وَمَسَالِكِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَقِلِّينَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، وَمَا كَانَ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ فَحْوَى خِطَابِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَافِيَةٌ، وَقَدْ عَاصَرُوا صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ، وَعَلِمُوا أَنَّ مُعْظَمَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَنَاطُ الشَّرْعِ، وَاعْتَنَوْا عَلَى اهْتِمَامٍ

صَادِقٍ بِمُرَاجَعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا كَانَ يَسْنَحُ لَهُمْ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، فَنَزَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ تَدَرُّبِ الْفَقِيهِ مِنَّا فِي مَسَالِكِ الْفِقْهِ. 587 - وَأَمَّا الْفَنُّ الْمُتَرْجَمُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ، فَحَاصِلُهُ نَظْمُ مَا وَجَدْنَا مِنْ [سِيَرِهِمْ] وَضَمُّ مَا بَلَغَنَا مِنْ خَبَرِهِمْ، وَجَمْعُ مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ نَظَرِهِمْ، وَتَتَبُّعُ مَا سَمِعْنَا مِنْ [عِبَرِهِمْ] ، وَلَوْ كَانُوا عَكَسُوا التَّرْتِيبَ، لَاتَّبَعْنَاهُمْ. نَعَمْ. مَا كَانَ يَعْتَنِي الْكَثِيرُ مِنْهُمْ بِجَمْعِ مَا بَلَغَ الْكَافَّةَ مِنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ كَانَتِ الْوَاقِعَةُ تَقَعُ، فَيَبْحَثُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَكَانَ مُعْظَمُ الصَّحَابَةِ لَا يَسْتَقِلُّ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوهَا اعْتَبَرُوا، وَنَظَرُوا، وَقَاسُوا. 588 - فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُفْتِيَ مِنْهُمْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لِإِمْكَانِ الطَّلَبِ عَارِفًا بِمَسَالِكِ النَّظَرِ مُقْتَدِرًا عَلَى مَأْخَذِ الْحُكْمِ مَهْمَا عَنَّتْ وَاقِعَةٌ.

589 - فَقَدْ تَحَقَّقَ لِمَنْ أَنْصَفَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي صِفَاتِ الْمُفْتِينَ هُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. 590 - وَإِنَّمَا بَلَائِي كُلُّهُ حَرَسَ اللَّهُ مَوْلَانَا مِنْ نَاشِئَةٍ فِي الزَّمَانِ شَدَوْا طَرَفًا مِنْ مَقَالَاتِ الْأَوَّلِينَ، رَكَنُوا إِلَى التَّقْلِيدِ الْمَحْضِ، وَلَمْ يَتَشَوَّفُوا إِلَى انْتِحَاءِ دَرْكِ الْيَقِينِ، وَابْتِغَاءِ ثَلْجِ الصُّدُورِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُشَمِّرُوا لِلطَّلَبِ، ثُمَّ يَنْجَحُوا أَوْ يُحَقِّقُوا. ثُمَّ إِذَا رَأَوْا مَنْ لَا يَرَى التَّعْرِيجَ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَيَشْرَئِبُّ إِلَى مَدَارِكِ الْعُلُومِ، وَيُحَاوِلُ الِانْتِفَاضَ مَنْ [وَضَرِ] الْجَهْلِ، نَفَرُوا نِفَارَ الْأَوَابِدِ، وَنَخَرُوا نَخِيرَ الْحُمُرِ الْمُسْتَنْفِرَةِ، وَأَضْرَبُوا عَنْ إِجَالَةِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، وَارْجَحَنُّوا إِلَى الْمَطَاعِنِ عَلَى مَنْ يُحَاوِلُ الْحَقَائِقَ وَيُلَابِسُ الْمَضَايِقَ وَقَنَعُوا مِنْ مَنْصِبِ الْعُلَمَاءِ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَبْغِي الْعِلْمَ وَالتَّرَقِّي عَنِ الْجَهَالَاتِ وَالْبَحْثِ عَنْ حَقَائِقِ الْمَقَالَاتِ. 591 - وَلَمْ أَجْمَعْ فُصُولَ هَذَا الْكِتَابِ مُضَمَّنَةً بِمَبَاحِثِي وَاخْتِيَارَاتِي، إِلَّا وَمُعَوَّلِي ثَقَابَةُ رَأْيِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا، كَهْفِ الْوَرَى،

وَسَيِّدِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَاتِّقَادِ قَرِيحَتِهِ الْمُتَطَلِّعَةِ عَلَى حُجُبِ الْمُغْمَضَاتِ، وَمَسْتُورِ الْمُعْوِصَاتِ (215) فَهَذَا مَبْلَغٌ فِي صِفَاتِ الْمُفْتِينَ مُقْنِعٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. 592 - وَلَا يَتِمُّ الْمَقْصِدُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، مَا لَمْ أُمَهِّدْ فِي أَحْكَامِ الْفَتْوَى قَاعِدَةً يَتَعَيَّنُ الِاعْتِنَاءُ بِفَهْمِهَا وَالِاهْتِمَامُ بِعِلْمِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مِنَ النَّظَرِ فِي تَعْيِينِ الْمُفْتِي الَّذِي يُقَلِّدُهُ وَيَعْتَمِدُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَ فِي مَسَائِلِهِ كُلَّ مُتَلَقِّبٍ بِالْعِلْمِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ (النِّظَامِيِّ) وَلَسْتُ أُعِيدَ مَا ذَكَرْتُهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَلَكِنِّي آخُذُ فِي فَنٍّ آخَرَ لَائِقٍ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَأَقُولُ: 593 - اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْأُصُولِيِّينَ فِيمَا عَلَى الْمُسْتَفْتِي مِنَ النَّظَرِ فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَمْتَحِنَ مَنْ يُرِيدُ تَقْلِيدَهُ، وَسَبِيلُ امْتِحَانِهِ أَنْ يَتَلَقَّنَ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً تَلِيقُ بِالْعُلُومِ الَّتِي يُشْتَرَطُ اسْتِجْمَاعُ الْمُفْتِي

لَهَا وَيُرَاجِعُهُ فِيهَا، فَإِنْ أَصَابَ فِيهَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا وَيُقَلِّدُهُ حِينَئِذٍ. وَإِنْ تَعَثَّرَ فِيهَا تَعَثُّرًا مُشْعِرًا بِخُلُوِّهِ عَنْ قَوَاعِدِهَا، لَمْ يَتَّخِذْهُ قُدْوَتَهُ وَأُسْوَتَهُ. 594 - وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا إِلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يَجِبُ وَلَكِنْ يَكْفِي أَنْ يَشْتَهِرَ فِي النَّاسِ اسْتِجْمَاعُ الرَّجُلِ صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَيَشِيعُ ذَلِكَ شُيُوعًا مُغَلِّبًا عَلَى الظَّنِّ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَيْسَ لِلْمُسْتَفْتِي اعْتِمَادُ قَوْلِ الْمُفْتِي، فَإِنَّ وَصْفَهُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فِي حُكْمِ الْإِطْرَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَقَوْلُ الْمَرْءِ فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِ نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ. 595 - وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يَتَحَتَّمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَرْفَعُونَ وَقَائِعَهُمْ، وَيُنْهُونَ مَسَائِلَهُمْ إِلَى أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ كَانُوا لَا يُقَدِّمُونَ عَلَى اسْتِفْتَائِهِمْ إِلْقَاءَ الْمَسَائِلِ، وَالِامْتِحَانَ بِهَا، وَكَانَ (216) عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ لَا يَأْمُرُونَ عَوَامَّهُمْ وَمُسْتَفْتِيهِمْ بِأَنْ يُقَدِّمُوا امْتِحَانَ الْمُقَلَّدِينَ. 596 - وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ مَنْ ظَهَرَ وَرَعُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَبَعُدَ عَنْ مَظَانِّ

التُّهَمِ، فَيَجُوزُ لِلْمُسْتَفْتِينَ اعْتِمَادُ قَوْلِهِ إِذَا ذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى، فَنَعْلَمُ أَنَّ الْغَرِيبَ كَانَ يَرِدُ وَيَسْأَلُ مَنْ يَرَاهُ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُشْتَهَرًا مُسْتَفِيضًا مِنْ دَأْبِ الْوَافِدِينَ وَالْوَارِدِينَ، وَلَمْ يَبْدُ نَكِيرٌ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ وَكُبَرَائِهِمْ. فَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ حُصُولَ غَلَبَةِ ظَنِّ الْمُسْتَفْتِي، فَهِيَ تَحْصُلُ بِاعْتِمَادِ قَوْلِ مَنْ ظَهَرَ وَرَعُهُ، كَمَا تَحْصُلُ بِاسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ عَنْهُ. وَلَيْسَ لِلْمُسْتَفْتِي سَبِيلٌ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ رُتْبَةِ الْمُفْتِي مَعَ عُرُّوِهِ عَنْ مَوَادِّ الْعُلُومِ، سِيَّمَا إِذَا فُرِضَ الْقَوْلُ فِي غَبِيٍّ عَرِيٍ عَنْ مَبَادِئِ الْعُلُومِ، وَالِاسْتِئْنَاسِ بِأَطْرَافِهَا. 597 - وَمِمَّا يَتَعَيَّنُ ذِكْرُهُ أَنَّ مَنْ وَجَدَ فِي زَمَانٍ مُفْتِيًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْقَى إِلَى مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَاقِعَةٍ، وَفَتْوَى مُفْتِي الزَّمَانِ خَالَفَتْ مَذْهَبَهُ فَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ

الْمُقَلِّدِ أَنْ يُؤْثِرَ تَقْدِيمَ مَذْهَبِ أَبِي بَكْرٍ [الصِّدِّيقِ] مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي عَقْدِهِ أَفْضَلُ الْخَلِيفَةِ بَعْدَ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَإِنْ كَانُوا صُدُورَ الدِّينِ، وَأَعْلَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَفَاتِيحَ الْهُدَى وَمَصَابِيحَ الدُّجَى، فَمَا كَانُوا يُقَدِّمُونَ تَمْهِيدَ الْأَبْوَابِ، وَتَقْدِيمَ الْأَسْبَابِ لِلْوَقَائِعِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَقَدْ كَفَانَا الْبَحْثُ عَنْ مَذَاهِبِهِمُ الْبَاحِثُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمُعْتَنُونَ بِنَخْلِ مَذَاهِبِ الْمَاضِينَ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْثِرَ مَذْهَبَ أَبِي بَكْرٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ; إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ (217) لَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُ مَذْهَبِ أَبِي بَكْرٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةِ نُقِلَ مَذْهَبُهُ فِيهَا، ثُمَّ مَذْهَبُ عُمَرَ، ثُمَّ هَكَذَا عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي الْمَنَاقِبِ وَالْمَرَاتِبِ. 598 - فَإِذَا وَضَحَ ذَلِكَ، بَنَيْنَا عَلَيْهِ مُعْضِلَةً مِنْ أَحْكَامِ الْفَتْوَى، وَقُلْنَا: مَنْ نَظَرَ مِنَ الْمُسْتَفْتِينَ نَظَرًا يَلِيقُ بِهِ - كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ - فَأَدَّاهُ نَظَرُهُ إِلَى تَقْلِيدِ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ الشَّافِعِيِّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - ;

وَلَكِنْ كَانَ فِي زَمَانِهِ مُفْتٍ مُسْتَجْمِعٌ لِلشَّرَائِطِ الْمَرْعِيَّةِ، وَكَانَتْ فَتْوَاهُ قَدْ تُخَالِفُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ، فَالْمُسْتَفْتِي الَّذِي اعْتَقَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ اتِّبَاعَ الشَّافِعِيِّ (رَحِمَهُ اللَّهُ) يُقَلِّدُ مُفْتِيَ زَمَانِهِ، أَمْ يَتَّبِعُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] وَيَتَلَقَّفُهُ عَلَى حَسَبِ مَسِيسِ الْحَاجَةِ مِنْ نَاقِلِيهِ؟ . 599 - فَنَقُولُ: أَوَّلًا مَنْ تَرَقَّى إِلَى رُتْبَةِ الْفَتْوَىِ وَاسْتَقَلَّ بِمَنْصِبِ الِاسْتِبْدَادِ فِي الِاجْتِهَادِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي مُطَّرِدِ الِاعْتِيَادِ انْطِبَاقُ فَتَاوِيهِ وَاخْتِيَارَاتِهِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ ; فَإِنَّ مَسَالِكَ الِاجْتِهَادِ وَأَسَالِيبَ الظُّنُونِ كَثِيرَةٌ، وَجِهَاتُ النَّظَرِ لَا يَحْوِيهَا حَصْرٌ. 600 - نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُؤْثِرَ مُفْتٍ قَوَاعِدَ الشَّافِعِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] مَثَلًا فِي وَضْعِ الْأَدِلَّةِ وَالْمَآخِذِ الْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنِ اخْتِلَافٍ فِي تَفَاصِيلِ النَّظَرِ. فَالْمُسْتَفْتِي إِذًا يَعْتَمِدُ مَذْهَبَ الْحَبْرِ الَّذِي اعْتَقَدَ تَقَدُّمَهُ عَلَى مَنْ عَدَاهُ، أَمْ يَرْجِعُ إِلَى مُفْتِي زَمَانِهِ؟ .

601 - فَقَدْ يَتَّجِهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مُفْتِي دَهْرِهِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ الْمَاضِيَ، وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ وَعَلَا مَنْصِبُهُ، فَهُوَ مِنْ حَيْثُ تَقَدَّمَ وَسَبَقَ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ هَذَا الْمُسْتَفْتِي يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ [أَئِمَّةِ] الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَتَتَبَّعَ مَذَاهِبَ الصَّحَابَةِ (218) وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَوْلَى بِالْبَحْثِ عَنْ مَذَاهِبِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُسْتَفْتِينَ. كَذَلِكَ مُفْتِي الزَّمَانِ فِي تَفَاصِيلِ الْمَسَائِلِ أَحَقُّ بِالْبَحْثِ مِنَ الْمُسْتَفْتِي. 602 - وَلَئِنْ كَانَ يَنْقَدِحُ لِلْمُسْتَفْتِي وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ فِي تَقْدِيمِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ نَظَرٌ كُلِّيٌّ لَا يَلُوحُ فِي تَفَاصِيلِ الْمَسَائِلِ، وَنَظَرُ الْمُفْتِي فِي الْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ، وَتَعْيِينُ جِهَاتِ النَّظَرِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ أَصَحُّ وَأَوْثَقُ مِنْ ظَنٍّ عَلَى الْجُمْلَةِ لِمُسْتَفْتٍ، لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالتَّفْصِيلِ. فَهَذَا وَجْهٌ. 603 - وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ لَا تَنْقَطِعُ

بِمَوْتِهِمْ، فَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] وَإِنِ انْقَلَبَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيٌّ ذَابٌّ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَلَوْ فَرَضْنَا مُعَاصَرَةَ هَذَا الْمُسْتَفْتِي الشَّافِعِيَّ، وَقَدْ خَالَفَهُ الْمُفْتِي الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ فِي الزَّمَانِ، لَكَانَ الْمُسْتَفْتِي يَتَتَبَّعُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لَا مَحَالَةَ. 604 - وَلَيْسَ مَا ذَكَرْنَاهُ خَارِمًا لِمَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ لَا يَتَّبِعُ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَا كَانُوا يَضَعُونَ الْمَسَائِلَ لِتَمْهِيدِ الْقَوَاعِدِ، وَتَبْوِيبِ الْأَبْوَابِ، وَالْمُسْتَفْتِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَسَالِكِ الْبَاحِثِينَ الْفَاحِصِينَ عَنْ أَقَاصِيصِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَطُرُقِ الْمَاضِينَ. 605 - وَالشَّافِعِيُّ مِنَ الْمُتَنَاهِينَ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْمَطَالِبِ، وَنَخْلِ الْمَذَاهِبِ، وَالِاهْتِمَامِ بِالنَّظَرِ فِي الْمَنَاصِبِ وَالْمَرَاتِبِ، وَنَظَرُهُ فِي التَّأْصِيلِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالتَّنْوِيعِ وَالتَّفْرِيعِ - أَغْوَصُ مِنْ نَظَرِ عُلَمَاءِ الزَّمَانِ، وَمُجَرَّدُ تَارِيخِ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ - مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الْمَذَاهِبَ لَا تَزُولُ بِزَوَالِ مُنْتَحِلِيهَا - لَا أَثَرَ لَهُ. فَهَذَانِ وَجْهَانِ مُتَعَارِضَانِ وَاحْتِمَالَانِ مُتَقَابِلَانِ، وَلَا يَبْلُغُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مَبْلَغَ الْقَطْعِ. 606 - وَالْأَوْجَهُ عِنْدِي أَنْ يُقَلِّدَ الْمُسْتَفْتِي مُفْتِيَ زَمَانِهِ. ثُمَّ تَحْقِيقُ

الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: حَقٌّ [عَلَى] الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْتَفْتِيَ (219) مُفْتِيَ زَمَانِهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي فِيهَا مَخَاضُنَا الْآنَ ;فَإِنَّهَا مَسْأَلَةٌ لَا يَتَّضِحُ فِيهَا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَنْصِيصٌ عَلَى مَذْهَبٍ، فَلْيَقُلْ لِمُفْتِي الزَّمَانِ: مُعْتَقَدِي تَقْدِيمُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ خَالَفَ مَذْهَبُكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي دُفِعْتُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] فَمَا تَرَى لِي فِي طَرِيقِ الِاسْتِفْتَاءِ؟ أَأَنْزِلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؟ أَمْ أَتَّبِعُكَ فِي فَتْوَاكَ؟ ! . 607 - فَإِنْ أَدَّى اجْتِهَادُ الْمُفْتِي إِلَى تَكْلِيفِهِ اتِّبَاعَهُ، اتَّبَعَهُ وَقَلَّدَهُ، وَإِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى تَكْلِيفِهِ تَقْلِيدَ إِمَامِهِ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ، وَنَقَلَ لَهُ مَذْهَبَ إِمَامِهِ. وَهَذَا مِنَ الْأَسْرَارِ فَلْيَتَأَمَّلْهُ الْمُنْتَهِي إِلَيْهِ. 608 - وَهَذَا فِيهِ إِذَا كَانَ لِلْإِمَامِ الْمُقَدَّمِ مَذْهَبٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَصِحَّ [لَهُ] مَذْهَبٌ فَلَيْسَ إِلَّا تَقْلِيدَ مُفْتِي الزَّمَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

609 - وَلَوْ أَخَذْتُ فِي تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الْفَتْوَى، لَأَطَلْتُ أَنْفَاسِي، وَفِيهَا مَجْمُوعَاتٌ مُعَلَّقَةٌ عَنِّي، وَمُصَنَّفَةٌ لِي، فَلْيَطْلُبْهَا مَنْ تَتَشَوَّفُ هِمَّتُهُ إِلَيْهَا. 610 - وَغَرَضِي مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ اسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْمُفْتِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ طَرَفًا مِنْ صِفَاتِ الْمُفْتِينَ وَأَحْكَامِهِمْ لِيَتَبَيَّنَ لِلنَّاظِرِ خُلُوُّ الدَّهْرِ عَنِ الْمُفْتِينَ عِنْدَ خَوْضِنَا فِيهِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ، وَهُوَ بِإِسْعَافِ رَاجِيهِ حَقِيقٌ. وَقَدْ نَجَزَ مَقْصِدُنَا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى.

المرتبة الثانية الباب الثاني فيما إذا خلا الزمان عن المجتهدين

[الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ الْبَابُ الثَّانِي فِيمَا إِذَا خَلَا الزَّمَانُ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ] َ وَبَقِيَ نَقَلَةُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ] 611 - فَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ فِيهِ إِذَا خَلَا الزَّمَانُ عَنِ الْمُفْتِينَ الْبَالِغِينَ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرَ الدَّهْرُ عَنْ نَقَلَةِ الْمَذَاهِبِ الصَّحِيحَةِ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ، وَتَكَادُ هَذِهِ الصُّورَةُ تُوَافِقُ هَذَا الزَّمَانَ وَأَهْلَهُ. وَالْوَجْهُ تَقْدِيمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاقِلِ وَصِفَتِهِ ثُمَّ الْخَوْضُ فِي ذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُسْتَفْتُونَ فَأَقُولُ: 612 - لَا يَسْتَقِلُّ بِنَقْلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَنْ يَعْتَمِدُ الْحِفْظَ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى كَيْسٍ وَفِطْنَةٍ وَفِقْهٍ (220) طَبْعٌ ; فَإِنَّ [تَصْوِيرَ] مَسَائِلِهَا أَوَّلًا، وَإِيرَادَ صُوَرِهَا عَلَى وُجُوهِهَا لَا يَقُومُ بِهَا إِلَّا فَقِيهٌ. ثُمَّ نَقْلُ الْمَذَاهِبِ بَعْدَ اسْتِتْمَامِ التَّصْوِيرِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ مَرْمُوقٍ فِي الْفِقْهِ خَبِيرٍ، فَلَا يَنْزِلُ نَقْلُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَنْزِلَةَ نَقْلِ الْأَخْبَارِ وَالْأَقَاصِيصِ وَالْآثَارِ. وَإِنْ فُرِضَ النَّقْلُ فِي الْجَلِيَّاتِ [مِنْ وَاثِقٍ بِحِفْظِهِ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي أَمَانَتِهِ، لَمْ يُمْكِنْ فَرْضُ نَقْلِ الْخَفِيَّاتِ] مِنْ غَيْرِ اسْتِقْلَالٍ بِالدِّرَايَةِ. 613 - فَإِذَا وَضَحَ مَا حَاوَلْنَاهُ مِنْ صِفَةِ النَّاقِلِ، فَالْقَوْلُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ.

فَإِذَا وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصَادِفَ النَّقَلَةُ فِيهَا جَوَابًا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَجِدُوا فِيهَا بِعَيْنِهَا جَوَابًا. فَإِنْ وَجَدُوا فِيهَا مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، نَقَلُوهُ وَاتَّبَعَهُ الْمُسْتَفْتُونَ. وَلَا بُدَّ مِنْ إِزَالَةِ اسْتِبْهَامٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ. 614 - فَإِذَا نَقَلَ النَّاقِلُونَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنَقَلُوا مَذَاهِبَ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ عَصْرِهِ، [فَالْمُسْتَفْتِي] يَتَّبِعُ أَيَّ الْمَذَاهِبِ؟ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ مَنْ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُوَازِيهِ، وَلَا يُدَانِيهِ؟ . 615 - هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَا أَجْرَيْتُهُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا الرُّكْنِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ عَاصَرَ مُفْتِيًا، وَصَادَفَ مَذْهَبَهُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ الْبَاحِثِينَ وَالْمُمَهِّدِينَ لِأَبْوَابِ الْأَحْكَامِ قَبْلَ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ، فَإِنَّهُ يَتَّبِعُ مَذْهَبَ الْمُفْتِي أَوْ مَذْهَبَ الْإِمَامِ الْمُقَدَّمِ الْمُتَقَادِمِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ تَرَدَّدٌ، وَوَضَحَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ اتِّبَاعُ مُفْتِي الزَّمَانِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِتَأَخُّرِهِ سَبَرَ مَذْهَبَ مَنْ كَانَ

قَبْلَهُ، وَنَظَرُهُ فِي التَّفَاصِيلِ [أَسَدُّ] مِنْ نَظَرِ الْمُقَلِّدَ عَلَى الْجُمْلَةِ. 616 - فَإِذَا تَجَدَّدَ الْعَهْدُ بِهَذَا، فَقَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ عَلَى مُوجَبِ ذَلِكَ (221) أَنَّ اتِّبَاعَ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى وَإِنْ فَاقَهُمُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَضْلًا، فَإِنَّهُمْ بِاسْتِئْخَارِهِمُ اخْتَصُّوا بِمَزِيدِ بَحْثٍ وَسَبْرٍ. 617 - وَالَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْقَطْعُ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ الْمُقَدَّمِ، وَالْإِضْرَابُ عَنْ مَذَاهِبِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْهُ قَدْرًا وَعَصْرًا. وَإِنْ كُنْتُ أَرَى تَقْلِيدَ مُفْتِي الزَّمَانِ لَوْ صُودِفَ ; لَأَنَّ الَّذِي يُوجَدُ لَا يَعْسُرُ تَقْلِيدُهُ، وَتَطْوِيقُهُ أَحْكَامَ الْوَقَائِعِ. فَأَمَّا تَكْلِيفُ الْمُسْتَفْتِينَ الْإِحَاطَةَ بِمَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - مَثَلًا - عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَتَفَاوُتِ مَنَاصِبِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ، فَعُسْرٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ إِلَّا مَنْ وَفَرَتْ حُظُوظُهُ مِنْ عُلُومٍ. 618 - وَإِنَّمَا رَأَيْتُ هَذَا مَقْطُوعًا بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقَلِّدِينَ الْمُسْتَفْتِينَ عَلَى مَذَاهِبِ مَنْ دُونَ الْإِمَامِ الْمُقَدَّمِ، وَلَكِنْ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُفْتِيًا، جَزَمَ فَتْوَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَذْهَبَ

مَنْ سِوَاهُ، وَمَنْ قَدَّرَ نَفْسَهُ نَاقِلًا، أَحَالَ الْمُرَاجِعِينَ عَلَى مَذَاهِبِ الْحَبْرِ الْمُتَقَدِّمِ. وَهَذَا لَائِحٌ لَا يَجْحَدُهُ مُحَصِّلٌ. فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَاقِعَةَ إِذَا نَقَلَ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ مَذْهَبَ إِمَامٍ مُقَدَّمٍ [قَدْ] ظَهَرَ لِلْمُسْتَفْتِي بِمَا كُلِّفَهُ مِنَ النَّظَرِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ الْبَاحِثِينَ، فَالْمُسْتَفْتِي يَتَّبِعُ مَا صَحَّ النَّقْلُ فِيهِ. 619 - وَإِنْ وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ لَمْ يُصَادِفِ النَّقَلَةُ فِيهَا مَذْهَبًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لِلْإِمَامِ الْمُقَدَّمِ، وَقَدْ عَرِيَ الزَّمَانُ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَهَذَا مَقَامٌ يَتَعَيَّنُ صَرْفُ الِاهْتِمَامِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْمَغْزَى مِنْهُ وَالْمَرَامِ، وَهُوَ سِرُّ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ. فَأَقُولُ: 620 - قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَقْلَ الْفِقْهِ يَسْتَدْعِي كَيْسًا وَفَطِنَةً وَحُظْوَةً بَالِغَةً فِي الْفِقْهِ. ثُمَّ الْفَقِيهُ النَّاقِلُ يُفْرَضُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ فِي الْفِقْهِ عَلَى مَبْلَغٍ يَتَأَتَّى مِنْهُ بِسَبَبِهِ نَقْلُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجَلِيَّاتِ (222) وَالْخَفَايَا تَصْوِيرًا، وَتَحْرِيرًا، وَتَقْرِيرًا، وَلَا يَكُونُ فِي فَنِّ الْفِقْهِ بِحَيْثُ يَسْتَدُّ لَهُ قِيَاسُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، اعْتُمِدَ فِيمَا نَقَلَ. 621 - وَإِنْ وَقَعَتْ وَاقِعَاتٌ لَا نُصُوصَ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ فِي أَعْيَانِهَا، فَمَا تَعَرَّى عَنِ النَّصِّ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي دَرْكِ ذَلِكَ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ، وَسَبْرِ عِبَرٍ، وَإِنْعَامِ فِكْرٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ يَخْلُوَ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِمَدَارِكِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِنَقْلِ الْفِقْهِ، فَلْيَلْحَقْ فِي هَذَا الْقِسْمِ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. 622 - وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالْمِثَالِ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّارِعِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ صَاحِبِهِ» " فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَمَةَ الْمُشْتَرِكَةَ فِي مَعْنَى الْعَبْدِ الَّذِي اتَّفَقَ النَّصُّ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَحْصِ وَالتَّنْقِيرِ عَنْ مَبَاحِثِ الْأَقْيِسَةِ.

فَإِذَا جَرَى لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَمْ يَشُكَّ الْمُسْتَقِلُّ بِنَقْلِ مَذْهَبِهِ فِي هَذَا الضَّرْبِ فِي إِلْحَاقِ مَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. 623 - وَإِذَا احْتَوَى الْفَقِيهُ عَلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ مُقَدَّمٍ حِفْظًا وَدِرَايَةً، وَاسْتَبَانَ أَنَّ غَيْرَ الْمَذْكُورِ مُلْتَحِقٌ بِالْمَذْكُورِ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اسْتِثَارَةِ مَعَانٍ، وَاسْتِنْبَاطِ عِلَلٍ، فَلَا يَكَادُ يَشِذُّ عَنْ مَحْفُوظِ هَذَا النَّاقِلِ حُكْمُ وَاقِعَةٍ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَاتِ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ لَا تَخْلُو فِي كُلِّ كِتَابٍ، بَلْ فِي كُلِّ بَابٍ عَنْ جَوَامِعَ وَضَوَابِطَ، وَتَقَاسِيمَ، تَحْوِي طَرَائِقَ الْكَلَامِ فِي الْمُمْكِنَاتِ، مَا وَقَعَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ أَوْضَحْتُ مَا أُحَاوِلُهُ بِضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ لَاحْتَجْتُ إِلَى ذِكْرِ (223) صَدْرٍ صَالِحٍ مِنْ فَنِّ الْفِقْهِ، مِنْ غَيْرِ مَسِيسِ الْحَاجَةِ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الَّذِي أَفْضَى الْكَلَامُ إِلَيْهِ طَائِفَتَانِ: فُقَهَاءُ نَاقِلُونَ مُعْتَمَدُونَ فِيمَا يَنْقُلُونَ، وَمُسْتَفْتُونَ رَاجِعُونَ إِلَى الْمُسْتَقِلِّينَ بِنَقْلِ مَذَاهِبِ الْمَاضِينَ.

624 - فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مَضْمُونُ مَا ذَكَرْتُهُ قَطْعًا، وَأَمَّا الْمُسْتَفْتُونَ، فَلَا يُحِيطُونَ بِسِرِّ الْغَرَضِ فِيهِ، وَإِنْ بُسِطَ لَهُمُ الْمَقَالُ، وَأُكْثِرَتْ لَهُمُ الْأَمْثَالُ فَتُصِيبُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ مُرَاجَعَةُ الْفُقَهَاءِ، وَالنُّزُولُ عَلَى مَا يُنْهُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ فَهِمَ عَنَّا مَنْ نَاجَيْنَاهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَا أَرَدْنَاهُ، وَاتَّضَحَ الْمَقْصِدُ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ. 625 - ثُمَّ لَسْنَا نَضْمَنُ مَعَ مَا قَرَّبْنَاهُ اشْتِمَالَ الْحِفْظِ عَلَى قَضَايَا جَمِيعِ مَا يُتَوَقَّعُ وُقُوعُهُ مِنَ الْوَقَائِعِ. فَإِنْ فُرِضَتْ وَاقِعَةٌ لَا يَحْوِيهَا نُصُوصٌ، وَلَا تَضْبُطُهَا حُدُودٌ رَوَابِطُ، وَجَوَامِعُ ضَوَابِطُ. وَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى مَا انْطَوَتِ النُّصُوصُ عَلَيْهِ. فَالْقَوْلُ فِيهَا يَلْتَحِقُ بِالْكَلَامِ [فِيمَا] إِذَا خَلَا الزَّمَانُ عَنْ نَقَلَةِ الْمَذَاهِبِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الرُّكْنِ الثَّالِثِ، وَمَا عَدَاهَا كَالْمُقَّدِمَاتِ وَالتَّسْبِيبِ.

626 - وَمَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ نَاقِلُ الْمَذَاهِبِ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى مَسَالِكِ الْأَقْيِسَةِ، وَيَسْتَمْكِنُ مِنَ الِاسْتِدَادِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي. 627 - فَأَمَّا مَنْ كَانَ فَقِيهَ النَّفْسِ، مُتَوَقِّدَ الْقَرِيحَةِ، بَصِيرًا بِأَسَالِيبِ الظُّنُونِ، خَبِيرًا بِطُرُقِ الْمَعَانِي فِي هَذِهِ الْفُنُونِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، لِقُصُورِهِ عَنِ الْمَبْلَغِ الْمَقْصُودِ فِي الْآدَابِ أَوْ لِعَدَمِ تَبَحُّرِهِ فِي الْفَنِّ الْمُتَرْجَمِ بِأُصُولِ الْفِقْهِ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ الْفَقِيهُ الْمَرْمُوقُ وَالْفَطِنُ فِي أَدْرَاجِ الْفِقْهِ - وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَظْمِ أَبْوَابِهِ، وَتَهْذِيبِ أَسْبَابِهِ، فَمِثْلُ هَذَا الْفَقِيهِ إِذَا أَحَاطَ بِمَذْهَبِ (224) إِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ، وَذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي ظَهَرَ فِي ظَنِّ الْمُسْتَفْتِينَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمُقَدَّمِينَ الْبَاحِثِينَ، [فَمَا] يَجِدُهُ مَنْصُوصًا مِنْ مَذْهَبِهِ يُنْهِيهِ وَيُؤَدِّيهِ، وَيَلْحَقُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ، كَمَا سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.

628 - وَإِذَا عَنَّتْ وَاقِعَةٌ لَا بُدَّ مِنْ إِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِيهَا [فَقَدْ] خَبَرَ الْفَقِيهُ الْمُسْتَقِلُّ بِمَذْهَبِ إِمَامِهِ مَسَالِكَ أَقْيِسَتِهِ وَطُرُقَ تَصَرُّفَاتِهِ فِي إِلْحَاقَاتِهِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِلشَّارِعِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَا يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ قِيَاسَ مَذْهَبِ إِمَامِهِ. 629 - ثُمَّ الَّذِي أَقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي اتِّبَاعُ اجْتِهَادِ مِثْلِ هَذَا الْفَقِيهِ فِي إِلْحَاقِهِ - بِطُرُقِ الْقِيَاسِ الَّتِي أَلِفَهَا وَعَرَفَهَا -[مَا] لَا نَصَّ فِيهِ لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ بِقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْبَالِغَ مَبْلَغَ أَئِمَّةِ الدِّينِ صِفَتُهُ أَنَّهُ أَنِسَ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَاحْتَوَى عَلَى الْفُنُونِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْإِحَاطَةِ بِأُصُولِ الْمَسْأَلَةِ، وَالِاسْتِمْكَانِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا. [فَإِذَا] اسْتَجْمَعَهَا الْعَالِمُ كَانَ عَلَى ظَنٍّ غَالِبٍ فِي إِصَابَةِ مَا كُلِّفَ فِي مَسَالِكِ الِاجْتِهَادِ. 630 - فَالَّذِي أَحَاطَ بِقَوَاعِدِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا، وَتَدَرَّبَ فِي مَقَايِيسِهِ، وَتَهَذَّبَ فِي أَنْحَاءِ نَظَرِهِ وَسَبِيلِ تَصَرُّفَاتِهِ يَنْزِلُ فِي

الْإِلْحَاقِ بِمَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ مَنْزِلَةَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِطُرُقِ الظُّنُونِ إِلْحَاقَ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ. 631 - وَلَعَلَّ الْفَقِيهَ الْمُسْتَقِلَّ بِمَذْهَبِ إِمَامٍ أَقْدَرُ عَلَى الْإِلْحَاقِ بِأُصُولِ الْمَذْهَبِ الَّذِي حَوَاهُ - مِنَ الْمُجْتَهِدِ فِي مُحَاوَلَتِهِ الْإِلْحَاقَ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ ; فَإِنَّ الْإِمَامَ الْمُقَلِّدَ الْمُقَدَّمَ بَذَلَ كُنْهَ مَجْهُودِهِ فِي الضَّبْطِ، وَوَضَعَ الْكِتَابَ بِتَبْوِيبِ الْأَبْوَابِ (225) وَتَمْهِيدِ مَسَالِكِ الْقِيَاسِ وَالْأَسْبَابِ، وَالْمُجْتَهِدَ الَّذِي يَبْغِي رَدَّ الْأَمْرِ إِلَى أَصْلِ الشَّرْعِ لَا يُصَادِفُ فِيهِ مِنَ التَّمْهِيدِ وَالتَّقْعِيدِ مَا يَجِدُهُ نَاقِلُ الْمَذْهَبِ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ الْمُهَذَّبِ [الْمُفَرَّعِ] الْمُرَتَّبِ. 632 - وَالَّذِي يُحَقِّقُ الْغَرَضَ فِي ذَلِكَ إِذَا عَدِمْنَا مُجْتَهِدًا، وَوَجَدْنَا فَقِيهًا دَرِبًا قَيَّاسًا، وَحَصَلْنَا عَلَى ظَنٍّ غَالِبٍ فِي الْتِحَاقِ مَا لَا نَصَّ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْتَحِلُهُ بِالْمَنْصُوصَاتِ، فَإِحَالَةُ الْمُسْتَفْتِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيَةِ وَقَائِعَ عَنِ التَّكَالِيفِ، وَإِحَالَةِ الْمُسْتَرْشِدِينَ

عَلَى عَمَايَاتٍ وَأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُنَا عَلَيْهِ فِي الْمَرْتَبَةِ التَّالِيَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ -. وَهَذَا فَتْحٌ عَظِيمٌ فِي الشَّرْعِ لَائِقٌ بِحَاجَاتِ أَهْلِ الزَّمَانِ، وَقَدْ وَفَّقَ اللَّهُ شَرْحَهُ. 633 - وَتَنَخَّلَ مِنْ مُحَصَّلِ الْكَلَامِ أَنَّ الْفَقِيهَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ يَحُلُّ فِي حَقِّ الْمُسْتَفْتِي مَحَلَّ الْإِمَامِ الْمُجْتَهِدِ الرَّاقِي إِلَى الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا فِي الْخِلَالِ الْمَرْعِيَّةِ نَاقِلًا، وَمُلْحِقًا وَقَايِسًا. ثُمَّ يُقَلِّدُ الْمُسْتَفْتِي ذَلِكَ الْإِمَامَ الْمُقَدَّمَ الْمُنْقَلِبَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ [تَعَالَى] وَرِضْوَانِهِ، لَا الْفَقِيهَ النَّاقِلَ الْقَيَّاسَ. 634 - فَإِنَ فَرَضَ فَارِضٌ مِنْ مَثَلِ الْفَقِيهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَرَدُّدًا وَتَبَلُّدًا فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ عَلَى نُدُورٍ، فَقَدْ يُتَصَوَّرُ [تَوَقَّفُ] الْمُجْتَهِدِ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ.

635 - وَبِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ أَذْكُرُ فِي آخِرِ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي آحَادِ الْوَقَائِعِ، إِذَا تَوَقَّفَ فِيهَا الْمُفْتُونُ، أَوْ تَرَدَّدَ فِيهَا النَّاقِلُونَ، وَنُوَضِّحُ مَا عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَهَذَا مُنْتَهَى الْمَطْلُوبِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ.

المرتبة الثالثة الباب الثالث في خلو الزمان عن المفتين ونقلة المذاهب

[الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ الْبَابُ الثَّالِثُ فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْمُفْتِينَ وَنَقَلَةِ الْمَذَاهِبِ] الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ (الْبَابُ الثَّالِثُ) [فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْمُفْتِينَ وَنَقَلَةِ الْمَذَاهِبِ] 636 - مَضْمُونُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ذِكْرُ [مُتَعَلِّقِ] التَّكَالِيفِ إِذَا خَلَا الزَّمَانُ عَنِ الْمُفْتِينَ وَعَنْ نَقَلَةٍ [لِمَذَاهِبِ] الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ، فَمَاذَا يَكُونُ مَرْجِعُ الْمُسْتَرْشِدِينَ الْمُسْتَفْتِينَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ؟ . 637 - وَمِلَاكُ الْأَمْرِ فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الدَّهْرُ عَنِ الْمَرَاسِمِ (226) الْكُلِّيَّةِ، وَلَا تَعْرَى الصُّدُورُ عَنْ حِفْظِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَعْتَاصُ التَّفَاصِيلُ وَالتَّقَاسِيمُ وَالتَّفْرِيغُ. وَلَا يَجِدُ الْمُسْتَفْتِي مَنْ يَقْضِي عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ عَلَى التَّعْيِينِ. 638 - فَإِذَا لَاحَ لِلنَّاظِرِ تَصْوِيرُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ نُقَدِّمُ عَلَى الْخَوْضِ فِي مَقْصُودِهَا الْخَاصِّ أَمْرًا كُلِّيًّا فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، يَقْضِي اللَّبِيبُ مِنْ حُسْنِهِ الْعَجَبَ، وَيَتَهَذَّبُ بِهِ الْكَلَامُ

فِي غَرَضِ الْمَرْتَبَةِ وَيَتَرَتَّبُ، وَيَجْرِي مَجْرَى الْأُسِّ وَالْقَاعِدَةِ، وَالْمَلَاذِ الْمَتْبُوعِ، الَّذِي إِلَيْهِ الرُّجُوعُ. فَنَقُولُ: 639 - لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ شَدَا طَرَفًا مِنَ التَّحْقِيقِ أَنَّ مَآخِذَ الشَّرِيعَةِ مَضْبُوطَةٌ مَحْصُورَةٌ، وَقَوَاعِدَهَا مَعْدُودَةٌ مَحْدُودَةٌ ; فَإِنَّ مَرْجِعَهَا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْآيُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَبَيَانِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَعْلُومَةٌ، وَالْأَخْبَارُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّكَالِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ مُتَنَاهِيَةٌ. 640 - وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُفَوَّضْ إِلَى ذَوِي الرَّأْيِ وَالْأَحْلَامِ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَسْتَصْوِبُونَ فَكَمْ مِنْ أَمْرٍ تَقْضِي الْعُقُولُ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ فِي حُكْمِ الْإِيَالَةِ وَالسِّيَاسَةِ، وَالشَّرْعُ وَارِدٌ بِتَحْرِيمِهِ. [وَلَسْنَا] نُنْكِرُ تَعَلُّقَ مَسَائِلِ الشَّرْعِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَلَكِنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى الْأُصُولِ الْمَحْصُورَةِ، وَلَيْسَتْ ثَابِتَةً عَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الِاسْتِصْلَاحِ، وَمَسَالِكِ الِاسْتِصْوَابِ. ثُمَّ نَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو وَاقِعَةٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُتَعَبِّدِينَ.

641 - وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ تَقْدِيرُ وَاقِعَةٍ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا وَزَعَمَ إِنَّهَا إِذَا اتَّفَقَتْ فَلَا تَكْلِيفَ عَلَى الْعِبَادِ فِيهَا. وَهَذَا زَلَلٌ ظَاهِرٌ. 642 - وَالْمُعْتَقَدُ أَنَّهُ لَا يُفْرَضُ وُقُوعُ وَاقِعَةٍ مَعَ بَقَاءِ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ حَمَلَتِهَا إِلَّا وَفِي الشَّرِيعَةِ (227) مُسْتَمْسِكٌ بِحُكْمِ اللَّهِ فِيهَا. 643 - وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَسَلَّمَ] ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ - اسْتَفْتَحُوا النَّظَرَ فِي الْوَقَائِعِ وَالْفَتَاوَى وَالْأَقْضِيَةِ فَكَانُوا يَعْرِضُونَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ [تَعَالَى] ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا فِيهَا مُتَعَلَّقًا، رَاجَعُوا سُنَنَ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا فِيهَا شِفَاءً، اشْتَوَرُوا، وَاجْتَهَدُوا، وَعَلَى ذَلِكَ دَرَجُوا فِي تَمَادِي دَهْرِهِمْ، إِلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ، ثُمَّ اسْتَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ بِسُنَّتِهِمْ، فَلَمْ [تَتَّفِقْ] فِي مَكَرِّ الْأَعْصَارِ، وَمَمَرِّ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاقِعَةٌ نَقْضِي بِعُرُّوِهَا عَنْ مُوجِبٍ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّكْلِيفِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ

مُمْكِنًا لَكَانَ يَتَّفِقُ وُقُوعُهُ عَلَى تَمَادِي الْآمَادِ، مَعَ التَّطَاوُلِ وَالِامْتِدَادِ. فَإِذَا لَمْ يَقَعُ عَلِمْنَا اضْطِرَارًا [مِنْ] مُطَّرَدِ الِاعْتِيَادِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَشْتَمِلُ كُلَّ وَاقِعَةٍ مُمْكِنَةٍ، وَلَمَّا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] : " بِمَ تَحْكُمُ يَا مُعَاذُ؟ " فَقَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ "؟ قَالَ: أَجْتَهِدْ رَأْيِي» . فَقَرَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَسَلَّمَ]- وَصَوَّبَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنْ قَصَرَ عَنْكَ اجْتِهَادُكَ، فَمَاذَا تَصْنَعُ؟ . فَكَانَ ذَلِكَ نَصًّا عَلَى أَنَّ الْوَقَائِعَ تَشْمَلُهَا الْقَوَاعِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُعَاذٌ. 644 - فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا يَتَوَقَّعُ وُقُوعَهُ مِنَ الْوَقَائِعِ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَمَآخِذُ الْأَحْكَامِ مُتَنَاهِيَةٌ، فَكَيْفَ يَشْتَمِلُ مَا يَتَنَاهَى عَلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَهَذَا إِعْضَالٌ لَا يَبُوءُ بِحَمْلِهِ إِلَّا مُوَفَّقٌ رَيَّانُ مِنْ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ.

645 - فَنَقُولُ: [لِلشَّرْعِ] مَبْنًى بَدِيعٌ، وَأُسُّ هُوَ مَنْشَأُ كُلِّ تَفْصِيلٍ وَتَفْرِيعٍ، وَهُوَ مُعْتَمَدُ الْمُفْتِي فِي الْهِدَايَةِ الْكُلِّيَّةِ وَالدِّرَايَةِ وَهُوَ الْمُشِيرُ إِلَى اسْتِرْسَالِ أَحْكَامِ اللَّهِ عَلَى الْوَقَائِعِ مَعَ نَفْيِ النِّهَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ مُتَقَابِلَةٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِطْلَاقِ (228) وَالْحَجْرِ، وَالْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ، وَلَا يَتَقَابَلُ قَطُّ أَصْلَانِ إِلَّا وَيَتَطَرَّقُ الضَّبْطُ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَتَنْتَفِي النِّهَايَةُ عَنْ مُقَابِلِهِ وَمُنَاقِضِهِ. 646 - وَنَحْنُ نُوَضِّحُ ذَلِكَ بِضَرْبِ أَمْثَالٍ، ثُمَّ نَسْتَصْحِبُ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الشَّرِيفَةِ فِي تَفَاصِيلِ الْأَغْرَاضِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ فِي كُلٍّ حِينٍ وَأَوَانٍ، فَنَقُولُ: 647 - قَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ [بِتَنْجِيسِ] أَعْيَانٍ، وَمَعْنَى النَّجَاسَةِ التَّعَبُّدُ بِاجْتِنَابِ مَا نَجَسَّهُ الشَّرْعُ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ عَلَى تَفَاصِيلَ يَعْرِفُهَا حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ فِي الْحَالَاتِ، ثُمَّ مَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِنَجَاسَتِهِ يَنْحَصِرُ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا، وَمَا لَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِنَجَاسَتِهِ

لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي ضَبْطِنَا، فَسَبِيلُ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَطْلُبَ مَا يُسْأَلُ عَنْ نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ [مِنَ] الْقِسْمِ الْمُنْحَصِرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ مَنْصُوصًا فِيهِ، وَلَا مُلْتَحِقًا بِهِ، [بِالْمَسْلَكِ] الْمَضْبُوطِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِهِ، أَلْحَقَهُ بِمَقَابِلِ الْقِسْمِ وَمُنَاقِضِهِ، وَحَكَمَ بِطَهَارَتِهِ. 648 - فَاسْتَبَانَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ خُلُوُّ وَاقِعَةٍ فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ [تَعَالَى] فِيهَا. ثُمَّ هَذَا الْمَسْلَكُ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْهُ يَنْبَسِطُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. 649 - وَهَذَا السِّرُّ فِي قَضَايَا التَّكَالِيفِ لَا يُوَازِنُهُ مَطْلُوبٌ مِنْ هَذَا الْفَنِّ عُلُوًّا وَشَرَفًا، وَسَيَزْدَادُ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهِ كُلَّمَا نَهَجَ فِي النَّظَرِ مِنْهَاجًا، ثُمَّ يَزْدَادُ اهْتِزَازًا وَابْتِهَاجًا. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا نَقُولُ: 650 - الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَنْ نَذْكُرَ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْ

أُصُولِ الشَّرِيعَةِ قَاعِدَةً تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، وَالْأُسِّ مِنَ الْمَبْنَى، وَنُوَضِّحُ أَنَّهَا مَنْشَأُ التَّفَارِيعِ وَإِلَيْهِ انْصِرَافُ الْجَمِيعِ. وَالْمَسَائِلُ النَّاشِئَةُ مِنْهَا تَنْعَطِفُ عَلَيْهَا انْعِطَافَ بَنِي الْمُهُودِ مِنَ الْحَاضِنَةِ إِلَى حِجْرِهَا، وَتَأْزِرُ إِلَيْهَا كَمَا تَأَزِرُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا. 651 - وَلَوْ أَرَدْتُ (229) أَنْ أَصِفَ مَضْمُونَ هَذَا الرُّكْنِ بِالتَّرَاجِمِ وَالْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَوَامِعِ وَالْجُمَلِ، انْعَقَدَ الْكَلَامُ، وَلَمْ يُحِطْ بِهِ فَهْمُ الْمُنْتَهِي إِلَيْهِ. 652 - وَإِذَا فَصَّلْتُ مَا أَبْتَغِيهِ فَصْلًا فَصْلًا، وَذَكَرْتُ مَا أُحَاوِلُهُ أَصْلًا أَصْلًا، تَبَيَّنَ الْغَرَضُ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَعَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ التَّعْوِيلُ. فَلْتَقَعِ الْبِدَايَةُ بِكِتَابِ الطَّهَارَةِ.

كتاب الطهارة

[كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [فصل في المياه] [فَصْلٌ] فَنَقُولُ: فِي حُكْمِ الْمِيَاهِ: 653 - قَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ الطَّهُورِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} . وَالطَّهُورُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ هُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ. وَيَطْرَأُ عَلَى الْمَاءِ الطَّهُورِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا - النَّجَاسَةُ. وَالثَّانِي - الْأَشْيَاءُ الطَّاهِرَةُ. وَالثَّالِثُ الِاسْتِعْمَالُ. 654 - فَأَمَّا النَّجَاسَةُ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَاسْتَمْسَكَ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ بِمَا رُوِيَ

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» ". 655 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسِ قِرَبٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ، فَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، تَنَجَّسَ، تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. 656 - وَاضْطَرَبَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَسْتُ لِاسْتِقْصَاءِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ ; فَإِنَّ غَرَضِي وَرَاءَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ. 657 - فَإِنْ فُرِضَ عَصْرٌ خَالٍ عَنْ مَوْثُوقٍ فِي نَقْلِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ، وَالْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ، الَّتِي رَمَزْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَحَقَّقُوا أَنَّ النَّجَاسَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ مُجْتَنَبَةٌ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَى ذَوِي الْعُقُولِ أَنَّ النَّجَاسَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ، كَالْبِحَارِ وَالْأَوْدِيَةِ

الْغَزِيرَةِ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمِيَاهِ فِي [الطَّهَارَاتِ] وَالْأَطْعِمَةِ وَبِهِ قِوَامُ ذَوِي (230) الْأَرْوَاحِ. 658 - وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ هَذِهِ الْحَالَةُ أَنَّ مَنِ اسْتَيْقَنَ نَجَاسَةً اجْتَنَبَهَا، وَمَنِ اسْتَيْقَنَ [خُلُوَّ مَاءٍ] عَنِ النَّجَاسَةِ، لَمْ يَسْتَرِبْ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنْ شَكَّ، فَلَمْ يَدْرِ أَخَذَ بِالطَّهَارَةِ. فَإِنَّ تَكْلِيفَ مَاءٍ [مُسْتَيْقَنِ] الطَّهَارَةِ، بِحَيْثُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ إِمْكَانُ النَّجَاسَةِ عَسِرُ الْكَوْنِ، مُعْوِزُ الْوُجُودِ، وَفِي جِهَاتِ الْإِمْكَانِ مُتَّسَعٌ، وَلَوْ كُلِّفَ الْخَلْقُ طَلَبَ يَقِينِ الطَّهَارَةِ فِي الْمَاءِ، لَضَاقَتْ مَعَايِشُهُمْ، وَانْقَطَعُوا عَنْ مُضْطَرَبِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَصِلُوا آخِرًا إِلَى مَا يَبْغُونَ. 659 - فَهَذِهِ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ تُخَامِرُ الْعُقُولَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ لَا تَكَادُ تَخْفَى، وَإِنْ دَرَسَتْ تَفَاصِيلُ الْمَذَاهِبِ. 660 - وَإِنِ اسْتَيْقَنَ الْمَرْءُ وُقُوعَ نَجَاسَةٍ فِيمَا يُقَدِّرُهُ كَثِيرًا، وَقَدْ تَنَاسَى النَّاسُ الْقُلَّتَيْنِ، وَمَذْهَبُ الصَّائِرِ إِلَى اعْتِبَارِهِمَا، فَالَّذِي تَقْتَضِيهِ هَذِهِ الْحَالَةُ أَنَّ الْمُغْتَرِفَ مِنَ الْمَاءِ إِنِ اسْتَيْقَنَ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدِ

انْتَشَرَتْ إِلَى هَذَا الْمُغْتَرَفِ وَفِي اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ فَلَا يَسْتَعْمِلْهُ. وَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تَنْتَهِ إِلَى هَذَا الْمُغْتَرَفِ، اسْتَعْمَلَهُ، وَإِنَّ شَكَّ أَخَذَ بِالطَّهَارَةِ ; فَإِنَّ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي قَاعِدَةِ الشَّرِيعَةِ اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ بِيَقِينِ طَهَارَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهَا يَقِينُ النَّجَاسَةِ. 661 - وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآنَ. 662 - وَلَوْ تَرَدَّدَ الْإِنْسَانُ فِي نَجَاسَةِ شَيْءٍ وَطَهَارَتِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُخْبِرُهُ بِنَجَاسَتِهِ أَوْ طَهَارَتِهِ، مُفْتِيًا أَوْ نَاقِلًا، فَمُقْتَضَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْأَخْذُ بِالطَّهَارَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي قَاعِدَةِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي طَهَارَةِ ثَوْبٍ أَوْ نَجَاسَتِهِ فَلَهُ الْأَخْذُ بِطَهَارَتِهِ. 663 - فَإِذَا عَسِرَ دَرْكُ الطَّهَارَةِ مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَخَلَا الزَّمَانُ عَنْ مُسْتَقِلٍّ بِمَذْهَبِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، فَالْوَجْهُ رَدُّ الْأَمْرِ مَا ظَهَرَ فِي قَاعِدَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ الْأَغْلَبُ. 664 - وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ الْأَصْلَ (231) طَهَارَةُ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّ الْمَحْكُومَ بِنَجَاسَتِهِ مَعْدُودٌ مَحْدُودٌ. وَلَوْ وَجَدْنَا فِي تَوَافُرِ الْعُلَمَاءِ عَيْنًا،

وَجَوَّزْنَا أَنَّهَا دَمٌ، وَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ صَبِيغًا مُضَاهِيًا لِلدَّمِ فِي لَوْنِهِ وَقَوَامِهِ، وَاسْتَوَى الْجَائِزَانِ فِيهِ عِنْدَنَا، فَيَجُوزُ الْأَخْذُ بِطَهَارَتِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. 665 - فَالْتِبَاسُ الْمَذَاهِبِ، وَتَعَذُّرُ ذِكْرِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَصْرِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْتِبَاسِ الْأَحْوَالِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ مَعَ وُجُودِ الْعُلَمَاءِ. 666 - فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتَهُ اخْتِرَاعُ مَذْهَبٍ لَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَالَّذِينَ أَوْضَحُوا [مَذَاهِبَهُمْ] لَمْ يُخَصِّصُوهَا بِبَعْضِ الْأَعْصَارِ، بَلْ أَرْسَلُوهَا مُنْبَسِطَةً عَلَى الْأَزْمَانِ كُلِّهَا. 667 - قُلْنَا: هَذَا الْفَنُّ مِنَ الْكَلَامِ يَتَقَبَّلُهُ رَاكِنٌ إِلَى التَّقْلِيدِ، مُضْرِبٌ عَنِ الْمَبَاحِثِ كُلِّهَا، أَوْ مُتَبَحِّرٌ فِي تَيَّارِ بِحَارِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ بَالِغٌ فِي كُلِّ [غَمْرَةٍ] إِلَى مَقَرِّهَا، صَالٍ بِحَرِّهَا، صَابِرٌ عَلَى سَبْرِهَا، بَصِيرٌ بِمَآخِذِ الْأَقْيِسَةِ فِي مُعْضِلَاتِهَا، غَوَّاصٌ

عَلَى مَغَاصَاتِهَا، وَافِرُ الْحَظِّ فِي بَدَائِعِهَا، وَيُنْكِرُهَا الشَّادُونَ الْمُسْتَطْرِقُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَشَوَّفُوا بِهِمَمِهِمْ إِلَى دَرْكِ الْحَقَائِقِ، وَلَمْ يُضْطَرُّوا إِلَى الْمَآزِقِ وَالْمَضَايِقِ. 668 - وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْرِيرِ الِانْفِصَالِ عَنِ السُّؤَالِ قَبْلَ الِانْدِفَاعِ فِي مَجَالِ الْمَقَالِ. فَنَقُولُ: لَوْ عُرِضَتِ الْكُتُبُ الَّتِي صَنَعَهَا الْقَيَّاسُونَ فِي الْفِقْهِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُرَتَّبَةِ، وَالْأَبْوَابِ الْمُبَوَّبَةِ، وَالصُّوَرِ الْمَفْرُوضَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَبَدَائِعِ الْأَجْوِبَةِ فِيهَا، وَالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَرَعَةِ مِنْ مُسْتَمَسَكَاتِهِمْ فِيهَا اسْتِدْلَالًا، وَسُؤَالًا وَانْفِصَالًا، كَالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ، وَالنَّقْضِ وَالْمَنْعِ، وَالْقَلْبِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ، وَالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ، وَنَحْوِهَا، لَتَعِبَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَسَلَّمَ]- فِي فَهْمِهَا إِذْ لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ بِهَا، وَمَنْ فَاجَأَهُ شَيْءٌ

لَمْ يَعْهَدْهُ، احْتَاجَ إِلَى رَدِّ (232) الْفِكْرِ إِلَيْهِ، لِيَأْنَسَ بِهِ، ثُمَّ يَسْتَمِرَّ عَلَى أَمْثَالِهِ. وَمُعْظَمُ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَضَعُوهَا لَمْ يُلْفُوهَا بِأَعْيَانِهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهُمْ قَدَّرُوهَا عَلَى مُقَارَبَةٍ وَمُنَاسَبَةٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. 669 - فَتَقْدِيرُ [إِعْوَاصِ] الْمَذَاهِبِ وَالْتِبَاسِ الْآرَاءِ وَالْمَطَالِبِ إِذَا جَرَّ إِشْكَالًا فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ - وَاقِعَةٌ مَفْرُوضَةٌ، وَرَأَيْتُ فِيهَا قِيَاسَ الشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ الَّتِي أَنْتَجَهُ الْتِبَاسُ الْمَذَاهِبِ، عَلَى شَكٍّ يُنْتِجُهُ إِشْكَالٌ فِي الْأَحْوَالِ مَعَ بَقَاءِ الْمَذَاهِبِ. 670 - فَقُصَارَى الْقَوْلِ فِيهِ اعْتِبَارُ شَكٍّ بِشَكٍّ، وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى تَغْلِيبِ مَا قَضَى الشَّرْعُ بِتَغْلِيبِهِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ. 671 - وَالَّذِي يَكْشِفُ الْغِطَاءَ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ مَا ذَكَرْتُهُ قِيلَ: لَهُ: لَوْ قُدِّرَ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِتَفَاصِيلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَأَشْكَلَ عَلَى صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِمَّا

كَانَ يَعْفُو الْعُلَمَاءُ عَنْهُ، أَمْ لَا؟ وَلَا مَاءَ غَيْرَهُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَيُّهَا الْمُعْتَرِضُ الْمُنْكِرُ؟ أَتَقُولُ: يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، فَهَذَا إِنْ قُلْتَهُ، فَهُوَ مَذْهَبٌ مُخَالِفٌ مَذَاهِبَ الْأَوَّلِينَ. ثُمَّ يُعَارِضُهُ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَذَاهِبِ الْمُتَقَدِّمِينَ. فَهُمَا إِذًا مَسْلَكَانِ [وَالتَّجْوِيزُ] أَقْرَبُ مَآخِذِ الشَّرِيعَةِ فِي مَوَاقِعَ الشَّكِّ فِي النَّجَاسَاتِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. 672 - وَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا حُكْمَ لِلَّهِ فِي هَذَا الْمَاءِ فِي الزَّمَانِ الْخَالِي عَنِ الْعُلَمَاءِ، رُوجِعَ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ لَهُ عَنَيْتُ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْءِ فِيهِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ أَوْ أَضْرَبَ، فَهَذَا عَلَى التَّحْقِيقِ تَسْوِيغُ الِاسْتِعْمَالِ لِمَكَانِ الْإِشْكَالِ. 673 - وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَمْثَلُ، فَإِنَّ تَبْقِيَةَ رَبْطِ الشَّرْعِ عَلَى أَقْصَى الْإِمْكَانِ، نَظَرًا إِلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، أَصْوَبُ مِنْ حَلِّ رِبَاطِ التَّكَالِيفِ لِمَكَانِ اسْتِبْهَامِ التَّفَاصِيلِ. وَلَا يَخْفَى مَدْرَكُ الْحَقِّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى الْفَطِنِ. وَأَمَّا الْفَدْمُ

الْبَلِيدُ، فَلَا احْتِفَالَ بِهِ، وَمَنْ أَبَى مَسْلَكَنَا فَهُوَ (233) عَنُودٌ جَحُودٌ، أَوْ غَبِيٌّ بَلِيدٌ. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ بِمَنِّهِ وَلُطْفِهِ. 674 - فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَنَعُودُ إِلَى [سَيْرِ] الْكَلَامِ، [وَنَسْتَتِمُّ] غَرَضَنَا فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الْكَلَامِ، وَنَقُولُ رُبَّ نَجَاسَةٍ مُسْتَيْقَنَةٍ [يَقْضِي] الشَّرْعُ بِالْعَفْوِ عَنْهَا ثُمَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا لَا يُتَصَوَّرُ [التَّحَرُّزُ] عَنْهُ أَصْلًا، وَلَيْسَ مِنَ الْمُمْكِنِ الِاسْتِقْلَالُ بِاجْتِنَابِهِ، وَهُوَ كَالْغُبَارِ الثَّائِرِ مِنْ قَوَارِعِ الطُّرُقِ الَّتِي تَطْرُقُهَا الْبَهَائِمُ وَالدَّوَابُّ وَالْكِلَابُ، وَعَلَى الْقَطْعِ نَعْلَمُ نَجَاسَتَهَا، وَالنَّاسُ فِي تَرَدُّدَاتِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ يَعْرَقُونَ، وَالرِّيَاحُ تُثِيرُ الْغُبَارَ ; فَتَنَالُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو عَمَّا ذَكَرْنَاهُ الْبُيُوتُ وَالدُّورُ وَالْأَكْنَانُ. . وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ [التَّحَرُّزَ] مِنْ هَذَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الِاسْتِطَاعَةِ، ثُمَّ الْأَنْهَارُ يَنْتَشِرُ إِلَيْهَا الْغُبَارُ الْمُثَارُ قَطْعًا، فَكَيْفَ يُفْرَضُ غَسْلُ هَذَا النَّوْعِ، وَالْمَاءُ يَتَغَشَّاهُ مِنْهُ مَا يَتَغَشَّى غَيْرَهُ مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَبْدَانِ وَالْبِقَاعِ فَلَا خَفَاءَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْطُوطًا عَنِ الْمُكَلَّفِينَ أَجْمَعِينَ.

675 - وَمِنْ ضُرُوبِ النَّجَاسَاتِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِمْكَانِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا عَلَى عُسْرٍ، وَإِذَا اتَّصَلَتْ بِالْبَدَنِ وَالثَّوْبِ أَمْكَنَ غَسْلُهَا، وَلَكِنْ يَلْقَى الْمُكَلَّفُونَ فِيهِ مَشَقَّةً لَوْ كُلِّفُوا الِاجْتِنَابَ وَالْإِزَالَةَ. وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَقْدَارِ وَالتَّفَاصِيلِ، وَمِثَالُ هَذَا الْقِسْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ – دِمَاءُ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَثَرَاتِ إِذَا قَلَّتْ. وَلِلْأَئِمَّةِ فِي تَفْصِيلِ هَذَا الْفَنِّ مَذَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ، لَيْسَ نَقْلُهَا مِنْ غَرَضِنَا الْآنَ. 676 - وَنَحْنُ نَقُولُ وَرَاءَ ذَلِكَ: لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ الَّذِي لَمْ تُدْرَسْ فِيهِ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا الْتَبَسَتْ تَفَاصِيلُهَا أَنَّا غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِالتَّوَقِّي مِمَّا لَا يَتَأَتَّى التَّوَقِّي عَنْهُ، وَلَا يَخْلُو مِثْلُ هَذَا الزَّمَانِ عَنِ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ (234) التَّصَوُّنُ عَنْهُ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ مُتَصَوَّرًا عَلَى الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَكِنْ قَدْ يَخْفَى الْمَعْفُوُّ عَنْهُ قَدْرًا وَجِنْسًا، وَلَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِهِ وَتَفْصِيلِهِ. 677 - فَالْوَجْهُ عِنْدِي فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ التَّشَاغُلُ مِمَّا يُضَيِّقُ

[مُتَنَفَّسَ] الرَّجُلِ وَمُضْطَرَبَهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الَّتِي يُجْرِيهَا فِي عَادَاتِهِ، وَيُجْهِدُهُ وَيَكُدُّهُ مَعَ اعْتِدَالِ حَالِهِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ، فَإِنَّ مِمَّا اسْتَفَاضَ وَتَوَاتَرَ مِنْ شِيَمِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - التَّسَاهُلُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي، حَتَّى ظَنَّ طَوَائِفُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّ مُعْظَمَ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ طَاهِرَةٌ، لِمَا صَحَّ عِنْدَهُمْ مِنْ تَسَاهُلِ الْمَاضِينَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ. 678 - وَإِنْ لَمْ يَكُنِ التَّصَوُّنُ عَنْهَا مِمَّا يَجُرُّ مَشَقَّةً بَيِّنَةً مُذْهِلَةً عَنْ مُهِمَّاتِ الْأَشْغَالِ، فَيَجِبُ إِزَالَتُهَا. 679 - هَذَا مِمَّا يَقْضِي بِهِ كُلِّيُّ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ فَرْضِ دُرُوسِ الْمَذَاهِبِ فِي التَّفَاصِيلِ. 680 - فَهَذَا مَسْلَكٌ لِلْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ، وَلَوْ أَكْثَرْتُ فِي التَّفَاصِيلِ، لَكُنْتُ هَادِمًا مَبْنَى الْكِتَابِ، فَإِنَّ أَصْلَ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ عَلَى مُوجَبِ الْقَوَاعِدِ، مَعَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَلَوْ فَصَّلْنَا وَفَرَّعْنَا، لَكَانَ نَقْلُ تَفَاصِيلِ الْمَذَاهِبِ، الْمَضْبُوطَةِ أَوْلَى مِمَّا تَقَرَّرَ كَوْنُهُ عِنْدَ دُرُوسِهَا.

فَلْيَفْهَمْ هَذِهِ الْمَرَامِزَ مُطَالِعُهَا، مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ عَزَّتْ قُدْرَتُهُ. 681 - وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْبَابِ أَنَّ الْمَاءَ تَطْرَأُ عَلَيْهِ النَّجَاسَاتُ وَالْأَشْيَاءُ الطَّاهِرَةُ، وَالِاسْتِعْمَالُ. وَقَدْ نَجَزَ مِقْدَارُ غَرَضِنَا فِي أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ. 682 - فَأَمَّا طَرَيَانُ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ عَلَى الْمَاءِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَخْفَى مَعَ ظُهُورِ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فِي الزَّمَانِ أَنَّ مَا يَرِدُ عَلَى الْمَاءِ مِنَ الطَّاهِرَاتِ وَلَا يُغَيِّرُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، (235) فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي سَلْبِ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَتَطْهِيرِهِ. وَإِنْ غَيَّرَهُ مُجَاوِرًا أَوْ مُخَالِطًا فَهَذَا مَوْضِعُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى ذِكْرِهِ. وَلَكِنْ أَذْكُرُ مَا يَلِيقُ بِالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، فَأَقُولُ: 683 - تَخْصِيصُ الطَّهَارَاتِ بِالْمَاءِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ مِمَّا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ تَعَبُّدًا غَيْرَ مُسْتَدْرَكِ الْمَعْنَى، فَالْوَجْهُ فِيهِ اتِّبَاعُ اللَّفْظِ الْوَارِدِ شَرْعًا، فَلْنَتَّبِعِ اسْمَ الْمَاءِ ; فَكُلُّ تَغَيُّرٍ لَا يَسْلُبُ هَذَا الِاسْمَ لَا يُسْقِطُ التَّطْهِيرَ.

فصل في الأواني

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ كُلِّيًّا فِي تَقْدِيرِ دُرُوسِ تَفَاصِيلِ الْمَذَاهِبِ، هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي تَوْجِيهِ الْمَذْهَبِ الْمُرْتَضَى مِنْ بَيْنِ الْمَسَالِكِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ . 684 - وَأَمَّا طَرَيَانُ الِاسْتِعْمَالِ، فَالْمَذَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَالَّذِي يُوجِبُهُ الْأَصْلُ لَوْ نُسِيَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ فَتَنْزِيلُهُ عَلَى اسْمِ الْمَاءِ وَإِطْلَاقِهِ، [وَ] لَيْسَ يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ الْمُسْتَعْمَلِ مَاءً مُطْلَقًا. فَيُسَوَّغُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ التَّوَضُّؤُ بِهِ، تَمَسُّكًا بِالطَّهَارَةِ وَالِانْدِرَاجِ تَحْتَ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمِيَاهِ عَلَى مَقْصِدِنَا فِي هَذَا الرُّكْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْأَوَانِي] فَصْلٌ فِي الْأَوَانِي 685 - الدِّبَاغُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ نَقَلَةُ الْمَذَاهِبِ، وَفِيهِ

فصل في الأحداث الموجبة للوضوء والغسل

أَخْبَارٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَأَصَحُّهَا وَأَظْهَرُهَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ الدِّبَاغَ يُفِيدُ طَهَارَةَ جُلُودِ الْمَيْتَاتِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ. 686 - وَلَكِنْ لَوْ نُسِيَتِ الْمَذَاهِبُ وَالْأَصَحُّ مِنْهَا، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَنَّ مَا نَجَّسَهُ الْمَوْتُ لَا يَطْهُرُ بِنَشَفِ فُضُولٍ وَتَطْيِيبِ رَائِحَةٍ، وَالدِّبَاغُ الْآنَ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ فِي حُكْمِ رُخْصَةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِذَا دَرَسَ السَّبِيلُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ، فَالْمُكَلَّفُونَ يَتَعَبَّدُونَ بِلُزُومِ مُوجَبِ (236) الْأَصْلِ. وَهَذَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الرُّخَصِ عَلَى مَا سَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ مَشْرُوحًا. 687 - وَأَمَّا الشُّعُورُ وَالْأَوْبَارُ وَالْعِظَامُ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهَا، فَإِذَا انْحَسَمَ مَسْلَكُ نَقْلِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا، الْتَحَقَ الْقَوْلُ مِنْهَا بِمَا يُشَكُّ فِي نَجَاسَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ مَا يُشَكُّ فِي نَجَاسَتِهِ فَحُكْمُ الْأَصْلِ الْأَخْذُ بِطَهَارَتِهِ. [فَصْلٌ فِي الْأَحْدَاثِ الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ] 688 - مُوجِبَاتُ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ مَحْدُودَةٌ، وَالَّذِي لَا يَنْقُصُ

فصل في الغسل والوضوء

الْوُضُوءَ وَالْغَسْلَ لَا نِهَايَةَ لَهُ، كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي النَّجَاسَاتِ. وَمُوجَبُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي زَمَانِ دُرُوسِ التَّفَاصِيلِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ كُلَّ مَا أَشْكَلَ عَلَى أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ كَوْنُهُ حَدَثًا، فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِاسْتِصْحَابِ الطَّهَارَةِ مَعَ طَرَيَانِهِ، بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي أَنَّ مَنِ اسْتَيْقَنَ الطَّهَارَةَ، وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، لَمْ يَقْضِ بِانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ الْمُسْتَيْقَنَةِ أَوَّلًا بِسَبَبِ طَرَيَانِ الْحَدَثِ. فَهَذَا أَحَدُ مَا أَرَدْنَاهُ. 689 - وَالثَّانِي - أَنَّ بَنِي الزَّمَانِ لَوْ تَذَكَّرُوا أَنَّ مَسْأَلَةَ الْأَحْدَاثِ فِيهَا خِلَافٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مَذْهَبَ إِمَامِهِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ قُدْوَتَهُ وَأُسْوَتَهُ فَيَجُوزُ الْأَخْذُ بِاسْتِبْقَاءِ الطَّهَارَةِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُمَهَّدَةِ. [فَصْلٌ فِي الْغَسْلِ وَالْوُضُوءِ] 690 - أَصْلُ طَهَارَةِ الْحَدَثِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ آلَتُهَا

وَمَحَلُّهَا وَانْقِسَامُهَا إِلَى الْمَغْسُولِ وَالْمَمْسُوحِ، فَلَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ قَاعِدَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ نَعْتَمِدُهَا، وَإِنَّمَا مَرْجِعُهَا إِلَى التَّوْقِيفِ. 691 - وَقَدِ اشْتَمَلَتْ آيَةُ الْوُضُوءِ عَلَى بَيَانٍ بَالِغٍ فِيهِ، فَلْيَتَّخِذْهَا أَهْلُ الزَّمَانِ مَرْجِعَهُمْ، فِي أَصْلِ الْبَابِ، وَسَيُتْلَى الْقُرْآنُ إِلَى فَجْرِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ الَّذِي يَقْتَضِي الزَّمَانُ الْخَالِي عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَنَاقِلِي الْمَذَاهِبِ (237) أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ إِذْ لَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْكِتَابِ، وَلَمْ يُنْقَلِ الْوُضُوءُ نَقْلَ الْقُرَبِ الَّتِي شُرِعَتْ مَقْصُودَةً لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ [تَعَالَى] ، بَلْ نُقِلَتْ نَقْلَ

الذَّرَائِعِ وَالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا غَيْرُهَا، فَلَيْسَ فِي نَقْلِهِ الْمُطْلَقِ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّوَاتُرِ إِشْعَارٌ بِالنِّيَّةِ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَتَضَمَّنُهَا. 692 - وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي التَّيَمُّمِ ; فَإِنْ قِيلَ: التَّيَمُّمُ هُوَ الْقَصْدُ، فَهَلَّا أَشْعَرَ لَفْظُهُ بِالنِّيَّةِ؟ قُلْنَا: هُوَ بِمَعْنَى: الْقَصْدِ، وَلَكِنَّهُ مَرْبُوطٌ بِالصَّعِيدِ فَيَجِبُ، مِنْ مُقْتَضَاهُ الْقَصْدُ إِلَى التُّرَابِ. فَهَذَا حُكْمُ النِّيَّةِ فِي الزَّمَانِ الْعَارِي عَنْ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ. 693 - وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ بِحُكْمِ الْآيَةِ غَسْلُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَجْهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُوجِبُ غَسْلَ الْمَرْفِقَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِلَى الْمَرَافِقِ، فَلَئِنْ لَمْ يَقْتَضِ إِلَى تَحْدِيدًا [وَمُوجَبُهُ] إِخْرَاجُ الْحَدِّ عَنِ الْمَحْدُودِ فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي جَمْعًا وَضَمًّا، أَيْضًا، فَلَيْسَ فِيهَا اقْتِضَاءُ غَسْلِ الْمَرْفِقَيْنِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ [زُفَرُ] . 694 - وَكُلُّ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَأَصْلُهُ التَّوْقِيفُ، فَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى لَفْظِ الشَّارِعِ فَمَا اقْتَضَى اللَّفْظُ وُجُوبَهُ الْتُزِمَ، وَمَالَا يَقْتَضِي

اللَّفْظُ وُجُوبَهُ، فَلَا وُجُوبَ فِيهِ، لِأَنَّ التَّكَالِيفَ إِنَّمَا تَثْبُتُ إِذَا تَحَقَّقَ وُرُودُ أَمْرِ الْمُكَلَّفِ. . فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا وَجَبَ الْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ؟ قُلْنَا: لَمْ يَتَأَسَّسْ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ أَنَّ مَا شُكَّ فِي وُجُوبِهِ، وَجَبَ الْأَخْذُ بِوُجُوبِهِ نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مَأْخَذُ الِاحْتِيَاطِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ. 695 - فَأَمَّا غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، فَأَخْذُهُ مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ مُعْوِصٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَرْجُلَكُمْ) بِالْكَسْرِ وَالنَّصْبِ. وَلَكِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى بَقَاءِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ مِنَ الْأَذْكَارِ، وَدُرُوسِ تَفَاصِيلِ الْمَذَاهِبِ، وَنَقْلُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ عَنِ الرَّسُولِ، وَصَحْبِهِ مُتَوَاتِرٌ وَنِسْبَةُ الْمَصِيرِ إِلَى الْمَسْحِ إِلَى الشِّيعَةِ مُسْتَفِيضٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ انْدِرَاسُهُ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الْقَوَاعِدِ. فَإِنْ فُرِضَ زَوَالُ الْقَوَاعِدِ عَنِ الذِّكْرِ، وَقَعَ الْكَلَامُ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ

عَلَى مَا سَيَأْتِي مَشْرُوحًا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ [تَعَالَى] . 696 - فَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ يُتَّبَعُ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَذْكَارِ، وَيُسْتَمْسَكُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ وُجُوبُهُ، وَلَمْ يُشْعِرْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ، فَهُوَ مَحْطُوطٌ عَنْ أَهْلِ الزَّمَانِ ; فَإِنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِتَوَجُّهِهِ. 697 - فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ غَلَبَاتُ الظُّنُونِ مَنَاطُ [مُعْظَمِ] الْأَحْكَامِ؟ فَهَلَّا قُلْتُمْ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْتَرْشِدِ - فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْفُقَهَاءِ - وُجُوبُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِوُجُوبِهِ؟ . قُلْنَا: هَذَا قَوْلُ مَنْ يَقْنَعُ بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي التَّوَصُّلُ إِلَى الْحَقَائِقِ، فَلْيَعْلَمِ الْمُنْتَهِي إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّا نَعْلَمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُوجَبِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسُ فِي مَرْتَبَتِهِ عَلَى شَرْطِهِ، وَيَسْتَحِيلُ فِي مُقْتَضَى الْعُقُولِ أَنْ يُفِيدَ ظَنٌّ عِلْمًا، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِمُوجَبِ الْخَبَرِ الَّذِي نَقَلَهُ مُتَعَرِّضُونَ لِلْخَطَأِ مَعْلُومٌ، وَالْخَبَرُ فِي نَفْسِهِ مَظْنُونٌ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ.

698 - فَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ غَيْرُ مُتَرَتِّبٍ عَلَى عَيْنِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، فَالَّذِي اقْتَضَى الْعِلْمَ بِالْعَمَلِ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِمَا، كَمَا يُسْتَقْصَى فِي فَنِّ الْأُصُولِ. فَالْخَبَرُ وَالْقِيَاسُ يُعْمَلُ عِنْدَهُمَا، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي وُجُوبَ الْعَمَلِ عِنْدَ ثُبُوتِهِمَا. 699 - فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ وَالْمُكَلَّفُ فِي الزَّمَانِ الْعَرِيِّ عَنْ جُمْلَةِ التَّفَاصِيلِ مُوجِبًا، [فَكَيْفَ] يَعْلَمُ وُجُوبًا؟ وَظَنُّهُ الَّذِي لَا مُسْتَنَدَ لَهُ مِنْ تَحْقِيقِ مَا (239) انْتَصَبَ فِي الشَّرْعِ عَلَمًا انْتِصَابَ ظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَسَالِيبِ الْأَقْيِسَةِ، وَمُعْظَمُ أَصْنَافِ الظُّنُونِ مُطْرَحَةٌ، لَا احْتِفَالَ بِهَا. 700 - فَقَدْ تَقَرَّرَ مَا حَاوَلْنَاهُ لِكُلِّ فَطِنٍ، وَوَضَحَ أَنَّ تَعَذُّرَ الْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا كَانَ وَاجِبًا فِي الْعُصُورِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ تَعَذُّرِ وُقُوعِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ.

فصل في التيمم وما في معناه

[فَصْلٌ فِي التَّيَمُّمِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ] 701 - التَّيَمُّمُ رُخْصَةٌ لَا تَحْتَمِلُ مَعْنًى مُسْتَدْرَكًا، وَإِنَّمَا الْمُتَّبَعُ فِيهَا مَوَارِدُ التَّوْقِيفِ، فَمَا ظَهَرَ فِي الْعَصْرِ مِنَ التَّيَمُّمِ عَلَى تَحْقِيقٍ وَثَبَتٍ اتُّبِعَ. وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مُقْتَضِيهِ لَمْ تَثْبُتِ الرُّخْصَةُ بِظُنُونِ الْعَوَامِّ، وَهَذَا يَطَّرِدُ فِي الرُّخَصِ كُلِّهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآنَ أَنَّ ظَنَّ الْعَامِّيِّ لَا يُبَالَى بِهِ فِيمَا يَجُولُ فِي مِثْلِهِ قِيَاسُ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، وَالْأَقْيِسَةُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا جَرَيَانَ لَهَا فِي مُعْظَمِ أَبْوَابِ الرُّخَصِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ الرُّخَصُ بِظُنُونٍ لَا أَصْلَ لَهَا؟ . 702 - وَالَّذِي يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا فَعَلَ عِنْدَ إِعْوَازِ الْمَاءِ مَا عَلِمَهُ، وَقَدْ وَضَحَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ، فَإِذَا صَلَّى عَلَى حَسَبِ الْعِلْمِ وَالْإِمْكَانِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ مِمَّا تُقْضَى عِنْدَ زَوَالِ الْأَعْذَارِ أَمْ لَا، فَالَّذِي يَقْتَضِي الْأَصْلَ الْكُلِّيَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ، وَقَامَ بِمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ.

703 - وَقَدْ صَارَ إِلَى ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ مِنْهُمُ الْمُزَنِيُّ. وَيُعْزَى ذَلِكَ إِلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ خَارِجٌ عَلَى حُكْمِ الْقَاعِدَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي خُلُوِّ الْعَصْرِ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّفَاصِيلِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يُوجِبُهُ الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ ; إِذِ الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ لَا يُشْعِرُ إِلَّا بِهِ وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقِ امْتِثَالُهُ فِي الْوَقْتِ الْمَضْرُوبِ لَهُ، كَانَ مُوجَبُ الْأَمْرِ مُقْتَضِيًا فَوَاتَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَيْسَ فِي صِيغَتِهِ التَّعَرُّضُ لِلْقَضَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ إِلَّا بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ، فَإِذَا أَدَّى الْمُكَلَّفُ مَا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَمْرًا بِالْقَضَاءِ، وَلَمْ يُشْعِرْ بِهِ الْأَصْلُ فَإِيجَابُ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِهِ، لَا وَجْهَ لَهُ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. 704 - وَمِمَّا نَذْكُرُهُ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ فَتَرَ الزَّمَانُ وَشَغَرَ، كَمَا فَرَضْنَاهُ، وَقَامَ الْمُكَلَّفُونَ عَلَى مَبْلَغِ عِلْمِهِمْ بِمَا عَرَفُوهُ، [ثُمَّ] قَيَّضَ اللَّهُ تَعَالَى نَاشِئَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَحْيَا بِهِمْ مَا دَثَرَ مِنَ الْعُلُومِ، فَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الَّذِينَ أَقَامُوا فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ [مَا]

فصل في الحيض

تَمَكَّنُوا مِنْهُ، فَإِنَّ مِمَّا تَمَهَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ تَطَرَّقَ الْخَلَلُ إِلَى صَلَاتِهِ بِسَبَبِ عُذْرٍ نَادِرٍ دَائِمٍ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، فَإِنَّ الِاسْتِحَاضَةَ تَنْدُرُ، وَإِذَا وَقَعَتْ دَامَتْ وَامْتَدَّتْ فِي الْغَالِبِ، فَلَوْ شُفِيَتْ لَمْ [يَلْزَمْهَا] قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَقَامَتْهَا مَعَ اسْتِمْرَارِ الِاسْتِحَاضَةِ. وَتَقْدِيرُ خُلُوِّ الدَّهْرِ عَنْ حَمْلَةٍ لِلشَّرِيعَةِ اجْتِهَادًا وَنَقْلًا نَادِرٌ فِي التَّصْوِيرِ وَالْوُقُوعِ جِدًّا، وَلَوْ فُرِضَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كَانَ تَقْدِيرُ عَوْدِ الْعُلَمَاءِ أَبْدَعَ مِنْ كُلِّ بَدِيعٍ فَلْيُلْحَقْ ذَلِكَ بِالنَّادِرِ الدَّائِمِ. فَهَذَا مُنْتَهَى غَرَضِنَا فِي هَذَا الْفَنِّ. 705 - وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى ذِكْرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الرُّخَصِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الرُّخَصِ كُلِّهَا أَصْلًا مُمَهَّدًا فَلْيُتَّبَعْ فِي جَمِيعِهَا ذَلِكَ الْأَصْلُ. [فَصْلٌ فِي الْحَيْضِ] 706 - الْحَيْضُ حَالَةٌ تُبْتَلَى بِهَا بَنَاتُ آدَمَ مِنْ حَيْثُ الْفِطْرَةُ

وَالْجِبِلَّةُ، ابْتِلَاءً مُعْتَادًا عَلَى تَكَرُّرِ الْأَدْوَارِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِ الْأُصُولِ الَّتِي تَمَسُّ الْحَاجَةُ فِيهِ إِلَيْهَا. هَذَا حُكْمُ اطِّرَادِ الِاعْتِيَادِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الزَّمَانُ عَنِ الْعِلْمِ بِأَقَلِّ الْحَيْضِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَأَكْثَرِهِ، مَا دَامَ النَّاسُ مُهْتَمِّينَ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ. فَإِنْ فُرِضَ انْطِمَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتِمْرَارُ الْفَتْرَةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ (241) فَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ. فَإِذًا لَا يَكَادُ يَخْفَى مَعَ تَصْوِيرِ بَقَاءِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا، وَطَهُرَتْ عِشْرِينَ يَوْمًا مَثَلًا إِنَّهَا تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ، وَيَجْتَنِبُهَا زَوْجُهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} . وَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ لَا تُنْسَى مَا ذُكِرَتْ وَظَائِفُ الصَّلَوَاتِ. 707 - فَإِنْ زَادَ الدَّمُ عَلَى الْعَشَرَةِ فَهَذَا مَوْقِعُ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يَبْلُغُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عِنْدَ طَوَائِفَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ.

فَإِنْ زَادَ الْحَيْضُ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَقَدْ فُرِضَ دُرُوسُ التَّفَاصِيلِ فَقَدْ يَخْفَى كَوْنُهُ حَيْضًا عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ. وَمِمَّا يُقْضَى بِبَقَائِهِ فِي الِادِّكَارِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِالصَّلَاةِ فِي إِطْبَاقِ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَيْهَا، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُنْسَى مَعَ ذِكْرِ الْأُصُولِ قَطْعًا. فَالدَّمُ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ مَثَلًا، يَتَرَدَّدُ فِي ظَنِّ أَهْلِ الزَّمَانِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحَاضَةً، وَهَذَا الْآنَ فَنٌّ بَدِيعٌ فَلْيَتَأَمَّلْهُ الْمُوَفَّقُ، مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ عَزَّتْ قُدْرَتُهُ. 708 - فَأَقُولُ: قَدْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا شَكَّتْ فِي أَنَّ مَا تَرَاهُ حَيْضٌ أَمْ لَا؟ فَلَيْسَتْ عَلَى عِلْمٍ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يُعْلَمُ دُونَ الْعِلْمِ بِالْمُوجِبِ، فَقَدْ يُنْتِجُ هَذَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ مَعَ الشَّكِّ. 709 - وَلَكِنْ يُعَارِضُ هَذَا أَصْلٌ آخَرُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى النِّسَاءِ لَا يُسْقِطُهُ عَنْهُنَّ إِلَّا يَقِينُ الْحَيْضِ. وَالِاسْتِحَاضَةُ لَا تُنَافِي الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ، فَالْأَمْرُ إِذًا بِالصَّلَاةِ مُسْتَيْقَنٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَسُقُوطُهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَحُكْمُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنِ اسْتَيْقَنَ عَلَى الْجُمْلَةِ وُجُوبًا، ثُمَّ

يُعَارِضُ ظَنَّاهُ فِي سُقُوطِهِ، أَخَذَ بِاسْتِمْرَارِ الْوُجُوبِ (242) الثَّابِتِ وَعَلَى هَذَا بَنَى عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ مَسَائِلَ الْحَيْضِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالِاسْتِحَاضَةِ عِنْدَ الْإِشْكَالِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ. 710 - وَالَّذِي يُعَضِّدُ وَيُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَقِّ الزَّمَانِ الْعَارِي عَنِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاصِيلِ أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ لَيْسَ لَهُ ضَبْطٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَيُوقَفُ عِنْدَهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ [أَنَّ] دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ، فَلَوْ تَعَدَّتِ الْمَرْأَةُ مَبْلَغَ الْيَقِينِ فَأَيْنَ تَقِفُ؟ وَمَتَى تَعُودُ إِلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ؟ فَهَذَا ظَاهِرٌ، وَلَسْتُ أَنْفِي مَعَ ظُهُورِ هَذَا أَنْ يَخْطُرَ لِعَاقِلٍ فِي الزَّمَانِ الْخَالِي أَنَّ الصَّلَوَاتِ تَجِبُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً عَلَى اعْتِقَابِ وَظَائِفِ الْأَوْقَاتِ، وَلَيْسَتْ فِي حُكْمِ مَا عُلِمَ وُجُوبُهُ نَاجِزًا فِي الْحَالِ، وَشُكَّ فِي سُقُوطِهِ. فَالصَّلَوَاتُ الَّتِي تَدْخُلُ مَوَاقِيتُهَا فِي الْحَادِيَ عَشَرَ مَا سَبَقَ وَجُوبُهَا فِي الْعَاشِرِ، وَوُجُوبُهَا فِي الْحَادِيَ عَشَرَ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَقَدْ يُعَارِضُ اعْتِقَاَدَ الْوُجُوبِ اعْتِقَادُ تَحْرِيمِ الْإِقْدَامِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الطَّاهِرَةِ، مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْحَائِضِ.

711 - وَالَّذِي قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ مِنْ مَسَالِكِ الظُّنُونِ وَالتَّرْجِيحَاتِ الَّتِي يَتَمَسَّكُ بِهِمَا الْمُجْتَهِدُونَ. وَظُنُونُ الْعَوَامِّ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا، وَسَبِيلُ الْعِلْمِ مُنْحَسِمٌ قَطْعًا، وَلَيْسَ فِي الزَّمَانِ مُقَلِّدَ وَلَا نَاقِلٌ عَنْ مُقَلِّدٍ. فَمَا الْوَجْهُ إِذًا؟ [وَإِنَّمَا] قَدَّمْنَا وُجُوهَ الْكَلَامِ تَنْبِيهًا عَلَى تَقَابُلِ الظُّنُونِ، وَتَحْقِيقًا لِاخْتِصَاصِ هَذِهِ السُّبُلِ بِذَوِي الِاجْتِهَادِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَأَقُولُ: 712 - الْجَمْعُ بَيْنَ تَحْرِيمِ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَإِيجَابِ أَدَائِهَا مُحَالٌ، وَالْعِلْمُ لَا يَتَطَرَّقُ فِي حَقِّ هَذَا الشَّخْصِ إِلَى دَرْكِ التَّحْرِيمِ، وَلَا إِلَى دَرْكِ الْوُجُوبِ، وَلَا مَرْجِعَ لَهُ يَلُوذُ بِهِ، وَلَا حُكْمَ لِظَنِّهِ وَتَرَجُّحِهِ، فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ (243) عَنْهُ فِي هَذَا الْفَنِّ ; وَالْتِحَاقُهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ عَلَى الْخُصُوصِ بِمَنْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ. فَإِنْ فُرِضَتْ صُورَةُ الصَّلَاةَ لَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمُ [الْوُجُوبِ] ، وَلَا الْإِجْزَاءِ، وَلَا التَّحْرِيمِ، إِذْ شَرْطُ التَّكْلِيفِ إِمْكَانُ تَوَصُّلِ الْمُكَلَّفِ إِلَى دَرْكِ مَا كُلِّفَ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ تَكْلِيفُ الْمَجْنُونِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ فَهْمُ الْخِطَابِ وَدَرْكُ مَعْنَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَقَّقٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْخَاصِّ، فِي حَقِّ هَذَا الشَّخْصِ الْمَخْصُوصِ، وَإِنْ كَانَ التَّكْلِيفُ مُرْتَبِطًا بِهِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَلَوِ اسْتَحَاضَتِ الْمَرْأَةُ، وَالْتَبَسَ [حَيْضُهَا] بِاسْتِحَاضَتِهَا، فَأَحْكَامُ الْمُسْتَحَاضَةِ مِنْ أَغْمَضِ مَا خَاضَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. 713 - وَمِقْدَارُ غَرَضِنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مَهْمَا غَمُضَ عَلَيْهَا أَنَّهَا فِي حَيْضٍ أَوِ اسْتِحَاضَةٍ، وَقَدْ خَلَا الزَّمَانُ عَنْ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي تَفْصِيلِ الْمُسْتَحَاضَاتِ، وَقَدْ عَلِمَتْ مِنْ أَصْلِ الشَّرْعِ أَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ، وَيُحَرِّمُ إِقَامَتَهَا فِيهِ بِخِلَافِ الِاسْتِحَاضَةِ، فَيَتَصَدَّى لَهَا تَحْرِيمُ الصَّلَاةِ وَإِيجَابُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ عَنْهَا - فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ - فِي الصَّلَاةِ جُمْلَةً مَا اطَّرَدَ اللَّبْسُ عَلَيْهَا. وَهَذَا لَا يَغُوصُ عَلَى سِرِّهِ إِلَّا مُرْتَاضٌ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ. 714 - وَهَذَا الْمَجْمُوعُ يَحْوِي أُمُورًا يَشْتَرِكُ فِي اسْتِفَادَتِهَا الْمُبْتَدِئُونَ وَالْمُنْتَهُونَ، وَأُمُورٌ يَخْتَصُّ بِاسْتِدْرَاكِهَا أَخَصُّ الْخَوَاصِّ.

715 - وَقَدْ يَظُنُّ الْمُنْتَهِي إِلَى هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ فِيمَا ذَكَرْتُهُ يَخْتَصُّ بِخُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّفَاصِيلِ ; وَلَا يُتَصَوَّرُ مِثْلُهُ فِي زَمَنِ تَوَافُرِ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ بِحَمْلِ الشَّرِيعَةِ. وَأَنَا أُصَوِّرُ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ مَعَ اشْتِمَالِ الزَّمَانِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، فِي صُورَةٍ يَحَارُ الْفَطِنُ اللَّبِيبُ فِيهَا، فَأَقُولُ: 716 - لَوْ فُرِضَ بَيْتٌ مَشْحُونٌ بِالْمَرْضَى الْمُدْنَفِينَ (244) وَكَانَ [رَجُلٌ] يَخْطُو عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ وَلَا ظُلْمٍ، فَانْهَارَ السَّقْفُ، وَخَرَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مَرِيضٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ مَكَثَ عَلَيْهِ لَمَاتَ، وَلَوْ تَحَوَّلَ عَنْهُ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ تَوَطُّئِ مَرِيضٍ آخَرَ، وَلَوِ اتَّفَقَ ذَلِكَ، لَمَاتَ مَنْ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ التَّفَصِّي عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِهْلَاكِ نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى أَمْرِهِ بِالْمُكْثِ، وَلَا إِلَى أَمْرِهِ بِالِانْتِقَالِ، وَأَمْرُهُ بِالزَّوَالِ [عَمَّا] ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ إِلَى [قَتْلٍ] تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عِنْدَنَا.

717 - فَإِذًا هَذِهِ الصُّورَةُ وَإِنِ اتُّفِقَ وُقُوعُهَا، فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ، وَلَا طَلِبَةٌ عَلَى صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ بِمُكْثٍ، وَلَا انْتِقَالٍ، وَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْمُكْثِ وَالزَّوَالِ ; فَإِنَّ الْخِيَرَةَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. 718 - وَالَّذِي اعْتَاصَ قَضِيَّةً فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سَبِيلُهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا دُفِعَ إِلَيْهِ، كَسَبِيلِ بَهِيمَةٍ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا خِطَابٌ. 719 - وَقَدْ يَتَّفِقُ لِآحَادِ النَّاسِ فِي [بَقَاءِ] تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ فِي الِادِّكَارِ حَالَةٌ يُقَرِّبُ مَأْخَذَ الْقَوْلِ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي دُرُوسِ [الْفُرُوعِ] . فَإِذَا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ ثُمَّ ابْتُلِيَتْ بِالِاسْتِحَاضَةِ، وَصَارَتْ لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ،

فِي بُقْعَةٍ خَالِيَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَيَتَصَدَّى لَهَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمُهَا كَمَا قَدَّمْنَا تَصْوِيرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ، وَلَا تُمْضِي أَمْرًا إِلَى أَنْ تَخْبُرَ، وَتَسْأَلَ مَنْ يَعْلَمُ. 720 - فَقَدْ تَمَهَّدَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَصْلٌ عَظِيمٌ، سَيَنْعَطِفُ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ عَلَيْهِ، [وَهُوَ] يَتَهَذَّبُ لِسُؤَالٍ وَجَوَابٍ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَسْنَا نَعْلَمُ الْآنَ تَقَابُلَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ النَّاسِيَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ، وَنُغَلِّبُ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ، فَنَأْمُرُهَا بِإِقَامَةِ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَهَلَّا (245) غَلَّبَتِ الْمَرْأَةُ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى تَحْرِيمِ إِقَامَتِهَا فِي وَقْتِ الْفَتْرَةِ؟ . 721 - قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ [حَمَلَتِهَا] أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ أَغْلَبُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى تَحْرِيمِ إِقَامَتِهَا، وَنَحْنُ فَرَضْنَا خُلُوَّ الزَّمَانِ عَنِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاصِيلِ، وَاسْتِوَاءَ الْأَمْرِ فِي الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فِي اعْتِقَادِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ فِي الزَّمَانِ الْعِلْمُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَسْقُطُ وُجُوبُهَا إِلَّا بِيَقِينٍ، فَهَذَا يَتَّبِعُ الْأَصْلَ بِمُوجِبِهِ.

كتاب الصلاة

722 - فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ أَحْكَامَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ عَلَى بَقَاءِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنَ الْأُصُولِ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ دَهْرَهَا، فَلِمَ فَرَضْتُمْ ذَهَابَ هَذَا الْأَصْلِ عَنِ الْأَذْهَانِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ الْمُتَحَيِّرَةَ لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ؟ قُلْنَا: الِاطِّلَاعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ غَوَامِضِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي عَنَيْنَاهَا، فَإِنَّ أَهْلَ الدَّهْرِ لَوْ أَحَاطُوا بِجَمِيعِ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ، هَانَ عَلَيْهِمْ إِلْحَاقُ الْفُرُوعِ بِهَا، فَالْأُصُولُ الَّتِي قَدَّرْنَا بَقَاءَهَا كُلِّيَّاتٌ مُسْتَرْسَلَةٌ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْغَوَامِضِ. فَهَذَا تَمَامُ مَا أَرَدْنَا أَنَّ نُوَضِّحَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّأْيِيدِ وَالتَّوْفِيقِ، بِمَنِّهِ وَلُطْفِهِ. [كِتَابُ الصَّلَاةِ] 723 - هَذَا كِتَابٌ عَظِيمُ الْمَوْقِعِ فِي الشَّرْعِ، لَمْ يَتَشَعَّبْ أَصْلٌ فِي التَّكَالِيفِ تَشَعُّبَهُ، وَلَمْ يَتَهَذَّبْ بِالْمَبَاحِثِ قُطْبٌ مِنْ أَقْطَابِ الدِّينِ تَهَذُّبَهُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّاسُ عَلَى

تَارَاتِهِمْ وَتَبَايُنِ طَبَقَاتِهِمْ مُوَاظِبُونَ عَلَى إِقَامَةِ وَظَائِفِ الصَّلَوَاتِ، مُثَابِرُونَ عَلَى رِعَايَةِ الْأَوْقَاتِ، بَاحِثُونَ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ وَالْهَيْئَاتِ. فَهِيَ لِذَلِكَ لَا تَنْدَرِسُ عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ، وَلَا يُمْحَقُ ذِكْرُ أُصُولِهَا عَنِ الصُّدُورِ. وَلَيْسَ يَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ (246) ذِكْرُ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَمَسَائِلِهَا، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مُغْمَضَاتِهَا وَغَوَائِلِهَا فَإِنَّهَا مُسْتَقْصَاةٌ فِي فَنِّ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَنِّ مِنَ الْكَلَامِ فَصْلٌ وَاحِدٌ جَامِعٌ، يَحْوِي جَمِيعَ الْغَرَضِ. وَنَحْنُ نَسْتَاقُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - مُفَرَّعًا مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. فَنَقُولُ: 724 - مَا اسْتَمَرَّ فِي النَّاسِ الْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ فَإِنَّهُمْ يُقِيمُونَهُ، وَمَا ذَهَبَ عَنْ ذِكْرِ أَهْلِ الدَّهْرِ جُمْلَةً، فَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَسُقُوطُ مَا عَسِرَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ فِي الزَّمَانِ لَا يُسْقِطُ الْمُمْكِنَ ; فَإِنَّ مِنَ الْأُصُولِ

الشَّائِعَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُنْسَى، مَا أُقِيمَتْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ لَا يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ. 725 - وَإِنِ اعْتَرَضَ فِي هَذَا الدَّهْرِ شَيْءٌ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ، كَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَلِمَ بَنُو الزَّمَانِ الِاخْتِلَافَ، وَلَمْ يُحِيطُوا بِأَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ، أَوْ أَحَاطُوا بِهِمْ، وَلَكِنْ كَانَ دَرَسَ تَحْقِيقُ صِفَاتِهِمْ، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْمُسْتَرْشِدِينَ النَّظَرُ فِي أَعْيَانِ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاسْتِطَاعَتِهِمْ فِي تَخَيُّرِ الْأَئِمَّةِ. فَمَا يَقَعُ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَعَارَضَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ فِيهِ [وَنَفْيُ] الْوُجُوبِ فَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَظُنُّ الْفَطِنُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ [الْأَخْذُ] بِالْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى الظُّهْرَ [أَمْ] أَرْبَعًا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّلَاثِ الْمُسْتَيْقَنَةِ، وَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى، وَيَكُونُ الشَّكُّ فِي رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ كَالشَّكِّ فِي إِقَامَةِ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَلْيَكُنْ هَذَا رَأْيَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ. 726 - وَلَيْسَ هَذَا الْمَسْلَكُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ.

وَالنَّظَرُ فِي هَذَا مِنْ دَقِيقِ الْقَوْلِ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ، فَإِذَا كَانَ بِنَاءُ الْكَلَامِ عَلَى شُغُورِ الزَّمَانِ عَنِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاصِيلِ، فَلَيْسَ يَلِيقُ بِهَذَا الزَّمَانِ تَأْسِيسُ الْكَلَامِ عَلَى (247) مَظْنُونٍ فِيهِ فِي دَقِيقِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ ظَنَّ الْعَامِّيِّ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ سَبِيلُ تَأْسِيسِ التَّقْلِيدِ، وَتَخَيُّرِ الْمُفْتِي، فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِسُقُوطِ وُجُوبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَهْلُ الزَّمَانِ وُجُوبَهُ. وَإِنِ اعْتَرَضَتْ صُورَةٌ تَعَارَضَ فِيهَا إِمْكَانُ التَّحْرِيمِ وَالْوُجُوبِ وَلَمْ يَتَأَتَّ الْوُصُولُ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِأَحَدِهِمَا، فَهَذَا مِمَّا يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ فِيهِ رَأْسًا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ الْمُخْتَلِطِ بِالِاسْتِحَاضَةِ. فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِ الزَّمَانِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ. 727 - وَمِمَّا نُجْرِيهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا جَرَى فِي الصَّلَاةِ مَا أَشْكَلَ أَنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ أَمْ لَا، فَقَدْ يَخْطُرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ الْأَصْلَ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ بَقَاءُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْهَا. وَلَكِنَّ الَّذِي يَجِبُ الْجَرَيَانُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الزَّمَانِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ مَعَ التَّعَرِّي عَنِ التَّفَاصِيلِ الْجُزْئِيَّةِ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ ;

فَإِنَّ التَّفَاصِيلَ إِذَا دَرَسَتْ، لَمْ يَأْمَنْ مُصَلٍّ عَنْ جَرَيَانِ مَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْسِدَاتِ فِي صَلَاتِهِ وَلَكِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِهَذَا [شَدِيدَةٌ] ثُمَّ لَا يَأْمَنُ قَاضٍ فِي عَيْنِ قَضَائِهِ عَنْ قَرِيبٍ مِمَّا وَقَعَ لَهُ فِي الْأَدَاءِ، وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ قَاضِيَةٌ بِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ فِيمَا هَذَا سَبِيلُهُ. وَنَحْنُ نَجِدُ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً مَعَ الِاحْتِوَاءِ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَتَفَاصِيلِهَا فَإِنَّ مَنِ ارْتَابَ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي مَضَتْ هَلْ كَانَتْ عَلَى مُوجَبِ الشَّرْعِ؟ وَهَلِ اسْتَجْمَعَتْ شَرَائِطَ الصِّحَّةِ؟ وَهَلِ اتَّفَقَ الْإِتْيَانُ بِأَرْكَانِهَا فِي إِبَّانِهَا؟ فَلَا مُبَالَاةَ بِهَذِهِ الْخَطِرَاتِ إِذْ لَا يَخْلُو مِنْ أَمْثَالِهَا مُكَلَّفٌ، وَإِنْ بَذَلَ كُنْهَ جُهْدِهِ، وَتَنَاهَى فِي اسْتِفْرَاغِ جَدِّهِ. ثُمَّ لَا يَسْلَمُ الْقَضَاءُ مِنَ الِارْتِيَابِ الَّذِي فُرِضَ وُقُوعُهُ فِي الْأَدَاءِ. 728 - فَالَّذِي يَنْبَنِي الْأَمْرُ فِي عُرُوِّ الزَّمَانِ عَنْ ذِكْرِ التَّفَاصِيلِ أَنْ لَا يُؤَاخَذَ (248) أَهْلُ الزَّمَانِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ وُجُوبَهُ جُمْلَةً بَاتَّةً. 729 - وَمِمَّا يُهَذَّبُ بِهِ غَرَضُنَا فِي هَذَا الْفَنِّ أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الصَّلَاةِ مَا يَعْلَمُ الْمُصَلِّي أَنَّهُ يَقْتَضِي سُجُودَ السَّهْوِ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ وَلَوِ اسْتَرَابَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي السُّجُودَ، وَكَانَ مَحْفُوظًا فِي الزَّمَانِ أَنَّ

كتاب الزكاة

تَرْكَ سُجُودِ السَّهْوِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَالسُّجُودُ الزَّائِدُ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ مُقْتَضٍ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الْأَصْلُ أَنْ لَا يَسْجُدَ الْمُسْتَرِيبُ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ مَنْسِيًّا فِي الزَّمَانِ، فَسَجَدَ الْمُسْتَرِيبُ، لَمْ نَقْضِ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزِدْ سُجُودًا عَامِدًا. وَهَذَا يَلْتَحِقُ بِأَطْرَافِ الْكَلَامِ فِيمَا يَطْرَأُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَا يَدْرِي الْمُصَلِّي أَنَّهُ مُفْسِدٌ لَهَا. وَلَوْ فُرِضَ مِثْلُ هَذَا فِي الزَّمَانِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْعِلْمِ بِالتَّفَاصِيلِ، وَكَانَ [سَجَدَ] رَجُلٌ ظَانًّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسُّجُودِ، فَفَتْوَى مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. فَهَذَا مُنْتَهَى غَرَضِنَا مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ. [كِتَابُ الزَّكَاةِ] 730 - الْقَوْلُ فِيهَا مَعَ فَرْضِ دُرُوسِ التَّفَاصِيلِ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ مَا اسْتَيْقَنَ أَهْلُ الزَّمَانِ وُجُوبَهُ أَخْرَجُوهُ، وَأَوْصَلُوهُ

كتاب الصوم

إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ، وَمَا تَرَدَّدُوا فِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالْمُوجَبِ، وَمِنْ غَيْرِ اسْتِكْمَانِ مَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ خَالِيًا عَنْ حَمَلَةِ الْعُلُومِ بِالتَّفَارِيعِ، فَأَهْلُ الدَّهْرِ غَيْرُ مُسْتَمْكِنِينَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ. وَقَدْ وَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِتَقْيِيدِ الْكَلَامِ عَمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي تَوَافُرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِيهِ، فَإِنَّهُ مُسْتَمْكِنٌ مِنَ الْبَحْثِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَسَائِلِ أُولِي الْعِلْمِ. فَهَذَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ. 731 - وَالثَّانِي - أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ ضَرَرُ الْمُحْتَاجِينَ وَاعْتَاصَ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُوسِرِينَ الْمُثْرِينَ، فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ فِي إِنْقَاذِ الْمُشْرِفِينَ عَلَى الضَّيَاعِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ بِبَيَانٍ شَافٍ عَلَى الْإِشْبَاعِ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَزَّ (249) وَجَلَّ. [كِتَابُ الصَّوْمِ] 732 - فَأَمَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ [فَإِنَّهُ] عَلَى مُوجَبِ اطِّرَادِ

الْعُرْفِ لَا يُنْسَى مَا ذُكِرَتْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَالْمَرْعِيُّ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، فَمَا يُسْتَيْقَنُ فِي الزَّمَانِ وُجُوبُهُ، أَقَامَهُ الْمُكَلَّفُونَ، وَمَا شُكَّ فِي وُجُوبِهِ لَا يَجِبُ. 733 - وَلَوْ فُرِضَتْ صُورَةٌ يَتَعَارَضُ فِيهَا أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَقْرِيرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا - أَوْلَى بِالتَّخَيُّلِ وَالْحُسْبَانِ مِنَ الثَّانِي، فَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ فِيهِ أَصْلًا، مِثْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ إِمْكَانُ تَحْرِيمِ شَيْءٍ وَإِيجَابِهِ، كَمَا تَكَرَّرَ وَتَقَرَّرَ مِرَارًا فِيمَا تَقَدَّمَ. 734 - وَالْقَوْلُ فِي الْحَجِّ يَقْرُبُ مِنَ الْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ. 735 - وَسَبِيلُنَا أَنْ نَذْكُرَ الْآنَ بَابًا جَامِعًا، يَحْوِي أُمُورًا كُلِّيَّةً تَكْثُرُ فَائِدَتُهَا، وَتَظْهَرُ عَائِدَتُهَا، فِي تَقْدِيرِ خُلُوِّ الزَّمَانِ، وَلَا يَسْتَغْنِي بَنُو زَمَانِنَا عَنْهَا. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْإِعَانَةِ بِفَضْلِهِ وَطَوْلِهِ.

باب في الأمور الكلية والقضايا التكليفية

[بَابٌ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ وَالْقَضَايَا التَّكْلِيفِيَّةِ] 736 - فَنَقُولُ: لَا غَنَاءَ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِالْمَكَاسِبِ، فَإِنَّ فِيهَا قِوَامَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. فَنَذْكُرُ فِيهَا مَا يَلِيقُ بِالْأَغْرَاضِ الْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ نَذْكُرُ قَوَاعِدَ فِي الْمُنَاكَحَاتِ، ثُمَّ نَخْتِمُ الْكَلَامَ بِذِكْرِ فُصُولٍ فِي الزَّوَاجِرِ، وَالْإِيَالَاتِ، وَنَسْتَفْتِحُ الْقَوْلَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ -. 737 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي الْمَكَاسِبِ فَنُقَدِّمُ عَلَى مَقْصُودِنَا فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ فَصْلًا نَفِيسًا، وَنَتَّخِذُهُ تَأْصِيلًا لِغَرَضِنَا وَتَأْسِيسًا، وَهَذَا الْفَصْلُ لَا يُوَازِيهِ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ فَصْلٌ، وَلَا يُضَاهِيهِ فِي الشَّرَفِ أَصْلٌ، وَقَدْ حَارَ فِي مَضْمُونِهِ عُقُولُ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ، وَلَمْ يَحُمْ عَلَى الْمَدْرَكِ السَّدِيدِ فِيهِ أَحَدُ الْأَصْحَابِ. وَلَسْتُ أَنْتَقِصُ أَئِمَّةَ الدِّينِ، وَعُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَعْزِيهِمْ إِلَى الْفُتُورِ وَالْقُصُورِ عَنْ مَسَالِكِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلِينَ - رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمْ - مَا دَفَعُوا مَقْصُودَ هَذَا الْفَصْلِ، وَلَمْ تَتَغَشَّهُمْ (250) هَوَاجِمُ الْمِحَنِ وَالْفِتَنِ، وَكَانُوا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ لَا يَضَعُونَ الْمَسَائِلَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمَبَاحِثِ الَّتِي سَأَخُوضُ فِيهَا، وَلَمْ يَعْتَنُوا بِمَعَانِيهَا، وَهَا أَنَا أَذْكُرُ نُتَفًا، أَعْتَدُّهَا تُحَفًا عِنْدَ الْمُدَرَّعِينَ مَدَارِعَ الْوَرَعِ، وَأَتَّخِذُهَا يَدًا عِنْدَ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ جُمَعَ. 738 - فَأَفْرِضُ أَوَّلًا حَالَةً وَأُجْرِي فِيهَا مَقَاصِدَ، ثُمَّ أَبْتَنِي عَلَيْهَا قَوَاعِدَ، وَأَضْبُطُهَا بِرَوَابِطَ وَمَعَاقِدَ، وَأُمَهِّدُهَا أُصُولًا تَهْدِي إِلَى مَرَاشِدَ. فَأَقُولُ: لَوْ فَسَدَتِ الْمَكَاسِبُ كُلُّهَا، وَطَبَّقَ طَبَقَ الْأَرْضِ الْحَرَامُ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَمَا تَحْوِيهِ الْأَيْدِي - وَلَيْسَ حُكْمُ زَمَانِنَا بِبَعِيدٍ مِنْ هَذَا - فَلَوِ اتَّفَقَ مَا وَصَفْنَاهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى حَمْلِ الْخَلْقِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى الِانْكِفَافِ عَنِ الْأَقْوَاتِ، وَالتَّعَرِّي عَنِ الْبِزَّةِ. 739 - وَأَقْرَبُ مَسَالِكَ تَمْتَدُّ إِلَيْهَا بَصِيرَةُ الْفَطِنِ فِي ذَلِكَ تَلَقِّي الْأَمْرِ مِنْ إِبَاحَةِ الْمَيْتَاتِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَالضَّرُورَاتِ، وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ إِلَّا لِمُضْطَرٍّ، يَخَافُ عَلَى مُهْجَتِهِ وَحُشَاشَتِهِ، لَوْ لَمْ يَسُدَّ جَوْعَتَهُ. . ثُمَّ اضْطَرَبَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِي أَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ الْمَرْءُ، فَإِلَى أَيِّ حَدٍّ

يَسْتَبِيحُ مِنَ الْمِيتَةِ: فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ، وَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَصَارَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَسُدُّ جَوْعَتَهُ مِنَ الْمَيْتَةِ. وَلَوْ خُضْتُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ، لَطَالَ الْبَابُ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَقْصُودِ الْكِتَابِ. وَإِنَّ هَذَا فَصْلٌ يَقِلُّ فِي الزَّمَانِ مَنْ يُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، فَمَنْ أَرَادَهُ، فَلْيَطْلُبْهُ مِنْ تَعْلِيقَاتِ الْمُعْتَمِدِينَ عَنَّا، إِلَى أَنْ يُتِيحَ اللَّهُ لَنَا مَجْمُوعًا فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 740 - وَمِقْدَارُ غَرَضِنَا مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ حُكْمَ الْأَنَامِ إِذَا عَمَّهُمُ الْحَرَامُ حُكْمُ الْمُضْطَرِّ فِي تَعَاطِي الْمَيْتَةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَوِ ارْتَقَبُوا فِيمَا يَطْعَمُونَ أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَفِي الِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا (251) سُقُوطُ الْقُوَى، وَانْتِكَاثُ الْمِرَرِ، وَانْتِقَاضُ الْبِنْيَةِ، سِيَّمَا إِذَا تَكَرَّرَ اعْتِيَادُ الْمَصِيرِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَفِي ذَلِكَ انْقِطَاعُ الْمُحْتَرِفِينَ عَنْ حِرَفِهِمْ وَصِنَاعَاتِهِمْ، وَفِيهِ الْإِفْضَاءُ إِلَى ارْتِفَاعِ الزَّرْعِ وَالْحِرَاثَةِ، وَطَرَائِقِ الِاكْتِسَابِ،

وَإِصْلَاحِ الْمَعَايِشِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْخَلْقِ قَاطِبَةً وَقُصَارَاهُ هَلَاكُ النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَمِنْهُمْ ذُو النَّجْدَةِ وَالْبَأْسِ، وَحَفَظَةُ الثُّغُورِ مِنْ جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا وَهَوْا وَوَهَنُوا، وَضَعُفُوا وَاسْتَكَانُوا، اسْتَجْرَأَ الْكُفَّارُ، وَتَخَلَّلُوا دِيَارَ الْإِسْلَامِ، وَانْقَطَعَ السِّلْكُ [وَتَبَتَّرَ] النِّظَامُ. 741 - وَنَحْنُ عَلَى اضْطِرَارٍ مِنْ عُقُولِنَا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى بَوَارِ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَتْبَعُهَا انْدِرَاسُ الدِّينِ، وَإِنْ شَرَطْنَا فِي حَقِّ آحَادٍ مِنَ النَّاسِ فِي وَقَائِعَ نَادِرَةٍ أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى الضَّرُورَةِ، فَلَيْسَ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ مَا يَجُرُّ فَسَادًا فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ ضَعْفَ الْآحَادِ بِطَوَارِئَ نَادِرَةٍ، إِنْ جَرَّتْ أَمْرَاضًا وَأَعْرَاضًا، فَالدُّنْيَا قَائِمَةٌ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِقِوَامِهَا وَرِجَالِهَا، وَنَحْنُ مَعَ بَقَاءِ الْمَوَادِّ مِنْهَا نَرْجُو لِلْمَنْكُوبِينَ أَنْ يَسْلَمُوا وَيَسْتَبِلُّوا عَمَّا بُلُوا بِهِ. 742 - فَالْقَوْلُ الْمُجْمَلُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ نُفَصِّلَهُ: أَنَّ الْحَرَامَ إِذَا طَبَّقَ الزَّمَانَ وَأَهْلَهُ، وَلَمْ يَجِدُوا إِلَى طَلَبِ الْحَلَّالِ سَبِيلًا، فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ قَدَرَ الْحَاجَةِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الضَّرُورَةُ الَّتِي نَرْعَاهَا فِي إِحْلَالِ الْمَيْتَةِ فِي حُقُوقِ آحَادِ النَّاسِ، بَلِ الْحَاجَةُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً

تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ، فِي حَقِّ الْوَاحِدِ الْمُضْطَرِّ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ الْمُضْطَرَّ لَوْ صَابَرَ ضَرُورَتَهُ، وَلَمْ يَتَعَاطَ الْمَيْتَةَ، لَهَلَكَ. وَلَوْ صَابَرَ النَّاسُ حَاجَاتِهِمْ، وَتَعَدَّوْهَا إِلَى الضَّرُورَةِ، لَهَلَكَ النَّاسُ قَاطِبَةً، فَفِي تَعَدِّي الْكَافَّةِ الْحَاجَةَ مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ، مَا فِي تَعَدِّي الضَّرُورَةِ فِي حَقِّ الْآحَادِ. فَافْهَمُوا، تَرْشُدُوا. . 743 - بَلْ لَوْ هَلَكَ وَاحِدٌ، لَمْ يُؤَدِّ (252) هَلَاكُهُ إِلَى خَرْمِ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَلَوْ تَعَدَّى النَّاسُ الْحَاجَةَ، لَهَلَكُوا بِالْمَسْلَكِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. وَمَا عِنْدِي أَنَّهُ يَخْفَى مَدْرَكُ الْحَقِّ الْآنَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ عَلَى مُسْتَرْشِدٍ. 744 - فَإِذَا تَقَرَّرَ قَطْعًا أَنَّ الْمَرْعِيَّ الْحَاجَةُ، فَالْحَاجَةُ لَفْظَةٌ مُبْهَمَةٌ لَا يُضْبَطُ فِيهَا قَوْلٌ، وَالْمِقْدَارُ الَّذِي بَانَ أَنَّ الضَّرُورَةَ وَخَوْفَ الرُّوحِ لَيْسَ مَشْرُوطًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ فِي الْآحَادِ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ، وَطَعَامِ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ نَأْتِيَ بِعِبَارَةٍ عَنِ الْحَاجَةِ نَضْبُطُهَا ضَبْطَ التَّخْصِيصِ

وَالتَّمْيِيزِ حَتَّى تَتَمَيَّزَ تَمَيُّزَ الْمُسَمَّيَاتِ وَالْمُتَلَقَّبَاتِ، بِذِكْرِ أَسْمَائِهَا وَأَلْقَابِهَا، وَلَكِنَّ أَقْصَى الْإِمْكَانِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ تَقْرِيبٌ وَحُسْنُ تَرْتِيبٍ، يُنَبِّهُ عَلَى الْغَرَضِ، فَنَقُولُ: 745 - لَسْنَا نَعْنِي بِالْحَاجَةِ تَشَوُّفَ النَّاسِ إِلَى الطَّعَامِ، وَتَشَوُّقَهَا إِلَيْهِ، فَرُبَّ [مُشْتَهٍ] لِشَيْءٍ لَا يَضُرُّهُ الِانْعِكَافُ عَنْهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّشَهِّي وَالتَّشَوُّفِ، فَالْمَرْعِيُّ إِذًا دَفْعُ الضِّرَارِ، وَاسْتِمْرَارُ النَّاسِ عَلَى مَا يُقِيمُ قُوَاهُمْ، وَرُبَّمَا يُسْتَبَانُ الشَّيْءُ بِذِكْرِ نَقِيضِهِ. وَمِمَّا يُضْطَرُّ مُحَاوِلُ الْبَيَانِ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى مَا يَبْغِيهِ بِعِبَارَةٍ رَشِيقَةٍ، تُشْعِرُ بِالْحَقِيقَةِ، وَالْحَدِّ الَّذِي يُمَيِّزُ الْمَحْدُودَ عَمَّا عَدَاهُ، وَرُبَّمَا لَا يُصَادِفُ عِبَارَةً نَاصَّةً، فَتَقْتَضِي الْحَالَةُ أَنْ يَقْتَطِعَ عَمَّا يُرِيدُ تَمْيِيزَهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَلَا يَزَالُ يَلْقُطُ أَطْرَافَ الْكَلَامِ وَيَطْوِيهَا حَتَّى يُفْضِيَ بِالتَّفْصِيلِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ. وَهَذَا سَبِيلُنَا فِيمَا دُفِعْنَا إِلَيْهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَاجَةَ، وَهِيَ مُبْهَمَةٌ فَاقْتَطَعْنَا مِنَ الْإِبْهَامِ التَّشَوُّفَ وَالتَّشَهِّيَ الْمَحْضَ مِنْ غَيْرِ فَرْضِ ضِرَارٍ

مِنَ الِانْكِفَافِ، وَمِمَّا نَقْطَعُهُ أَنَّ الِانْكِفَافَ عَنِ الطَّعَامِ قَدْ لَا يَسْتَعْقِبُ ضَعْفًا وَوَهْنًا حَاجِزًا عَنِ التَّقَلُّبِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ إِذَا (253) تَكَرَّرَ الصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ مِنَ الْجُوعِ، أَوْرَثَ ضَعْفًا، فَلَا نُكَلِّفُ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الِامْتِنَاعِ. 746 - وَيَتَحَصَّلُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا نَفَيْنَا وَأَثْبَتْنَا أَنَّ النَّاسَ يَأْخُذُونَ مَا لَوْ تَرَكُوهُ لَتَضَرَّرُوا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ، وَالضِّرَارُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَدْرَاجِ الْكَلَامِ عَنَيْنَا بِهِ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ فَسَادُ الْبِنْيَةِ، أَوْ ضَعْفٌ يَصُدُّ عَنِ التَّصَرُّفِ وَالتَّقَلُّبِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ. 747 - فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا جَعَلْتُمُ الْمُعْتَبَرَ فِي الْفَصْلِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَنَاوِلُ؟ قُلْنَا: هَذَا سُؤَالُ [عَمٍ] عَنْ مَسَالِكِ الْمَرَاشِدِ، فَإِنَّا إِنْ أَقَمْنَا الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً مَقَامَ الضَّرُورَةِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ فِي اسْتِبَاحَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ فَرْضِ الِاخْتِيَارِ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يُسَوِّغَ الِازْدِيَادُ مِنَ الْحَرَامِ، انْتِفَاعًا، وَتَرَفُّهًا، وَتَنَعُّمًا. فَهَذَا مُنْتَهَى الْبَيَانِ فِي هَذَا الشَّأْنِ.

وَيَتَّصِلُ الْآنَ بِذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَجْنَاسِ الْمَطْعُومَاتِ، ثُمَّ إِذَا انْدَفَعْنَا فِي الْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَمَا فِي مَعَانِيهَا، فَنَقُولُ: الْأَقْوَاتُ بِجُمْلَتِهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ ضَبْطِ الْمُقَدَّمِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا اللُّحُومُ. 749 - فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا اكْتَفَى النَّاسُ بِالْخُبْزِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي ابْتِلَائِهِمْ بِمُلَابَسَةِ الْحَرَامِ؟ قُلْنَا: مَنْ أَحَاطَ بِمَا أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ، هَانَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّا اعْتَمَدْنَا الضِّرَارَ وَتَوَقُّعَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي انْقِطَاعِ النَّاسِ عَنِ اللُّحُومِ ضِرَارًا عَظِيمًا، يُؤَدِّي إِلَى إِنْهَاكِ الْأَنْفُسِ، وَحَلِّ الْقُوَى. ثُمَّ إِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَلَا تَعْيِينَ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ، مَعَ فَرْضِ الْقَوْلِ فِي أَنَّ جَمِيعَهَا مُحَرَّمٌ. فَلْيَقَعِ الْوُقُوفُ عَلَى الْمُنْتَهِي الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ فِي مُحَاوَلَةِ دَرْءِ الضِّرَارِ. 750 - وَأَمَّا الْأَدْوِيَةُ وَالْعَقَاقِيرُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ، [فَمَنْعُ] اسْتِعْمَالِهَا مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا يَجُرُّ ضِرَارًا. وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ. 751 - فَإِنْ قِيلَ: مَا تَرَوْنَ فِي الْفَوَاكِهِ الَّتِي لَيْسَتْ (254) أَقْوَاتًا وَلَا أَدْوِيَةً؟

752 - قُلْنَا: مَا مِنْ صِنْفٍ مِنْهَا إِلَّا يَسُدُّ مَسَدًّا، فَلْيُعْتَبَرْ فِيهَا دَرْءُ الضِّرَارِ بِهَا، فَمَا يَدْرَأُ اسْتِعْمَالُهُ ضِرَارًا، فَهُوَ مُلْتَحِقٌ بِالْأَجْنَاسِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ فِي صُنُوفِ الْأَطْعِمَةِ. 753 - فَأَمَّا الْمَلَابِسُ، فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا - مَا فِي اسْتِعْمَالِهِ دَرْءُ الضِّرَارِ، فَسَبِيلُ إِبَاحَتِهِ كَسَبِيلِ الْأَطْعِمَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي - مَا لَا يَدْرَأُ ضِرَارًا، وَلَكِنْ يَتَعَلَّقُ لُبْسُهُ بِسَتْرِ مَا يَجِبُ سَتْرُهُ، أَوْ بِرِعَايَةِ الْمُرُوءَةِ. 754 - فَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَهُوَ مُلْتَحِقٌ بِمَا يَدْفَعُ اسْتِعْمَالُهُ الضِّرَارَ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ، فَإِنَّ تَكْلِيفَ التَّعَرِّي عَظِيمُ الْوَقْعِ، وَهُوَ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ ضَرَرِ الْجُوعِ وَالضَّعْفِ، وَوُضُوحُ هَذَا يُغْنِي عَنِ الْإِطْنَابِ فِيهِ. وَنَحْنُ عَلَى قَطْعٍ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ تَكْلِيفُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ التَّعَرِّي، مَعَ إِمْكَانِ السَّتْرِ.

755 - وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُرُوءَةِ مِنَ اللَّبْسِ، فَأَذْكُرُ قَبْلَهُ مُعْتَبِرًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لِلْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالُوا: مَنْ أَفْلَسَ وَأَحَاطَتْ بِهِ الدُّيُونُ وَاقْتَضَى رَأْيُ الْقَاضِي ضَرْبَ حَجْرٍ عَلَيْهِ عِنْدَ اسْتِدْعَاءِ غُرَمَائِهِ، فَنُبْقِي لَهُ دَسْتَ ثَوْبٍ، وَلَا نَتْرُكُهُ بِإِزَارٍ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ. فَإِذَا أَبْقَوْا لَهُ إِقَامَةً لِمُرُوءَتِهِ [أَثْوَابًا] ، وَإِنْ كَانَ قَضَاءُ الدُّيُونِ الْحَالَّةِ مَحْتُومًا، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَسُوغَ فِي شُمُولِ التَّحْرِيمِ لُبْسُ مَا يَتَضَمَّنُ تَرْكُ لُبْسِهِ خَرْمًا لِلْمُرُوءَةِ. ثُمَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَنَاصِبِ وَالْمَرَاتِبِ. وَلَا يَتَبَيَّنُ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ إِلَّا بِمَزِيدِ كَشْفٍ. 756 - فَنَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ إِلَّا وَهُوَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ طَوْرَيْنِ فِي الْمِحْنَةِ وَالْمُعَافَاةِ، ثُمَّ بَيْنَ طَرَفَيْ حَالَيْهِ أَحْوَالٌ مُتَوَسِّطَةٌ، ثُمَّ لَهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهِ الَّتِي يُلَابِسُهَا اقْتِصَادٌ، وَتَوَسُّطٌ، وَاقْتِصَارٌ عَلَى الْأَقَلِّ، وَتَنَاهٍ فِي التَّحَمُّلِ، فَإِنِ اقْتَصَرَ، لَمْ يَعُدْ خَارِمًا لِمَنْصِبِهِ، وَإِنْ طَلَبَ النِّهَايَةَ، لَمْ يَعُدْ مُسْرِفًا، وَإِنِ اقْتَصَرَ كَانَ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِقْلَالِ

وَالْكَمَالِ، ثُمَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ الْمُفْلِسُ، يَتْرُكُ عَلَيْهِ دَسْتَ ثَوْبٍ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ، وَيَكْتَفِي بِأَقَلِّ الْمَنَازِلِ مَعَ رِعَايَةِ مَنْصِبِهِ. فَالْوَجْهُ أَنْ نَقُولَ: إِذَا عَمَّ التَّحْرِيمُ، اكْتَفَى كُلٌّ بِمَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ. 757 - فَإِنْ قِيلَ: لَوْ عَرِيَ رَجُلٌ، وَوَجَدَ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ لَيْسَ مَعَهُ مَالِكُهُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَارِيًا، وَلَا يَلْبَسُ مَا لَيْسَ لَهُ. قُلْنَا: لِأَنَّ الْمَرْعِيَّ فِي حَقِّ الْآحَادِ حَقِيقَةُ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُرْعَى فِيمَا يَعُمُّ الْكَافَّةَ الضَّرُورَةَ، بَلْ يُكْتَفَى بِحَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ. وَالْمِقْدَارُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ اللُّبْسِ فِي حُكْمِ الْحَاجَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حُكْمِ الْمُفْلِسِ. ثُمَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي لُبْسِ الْمُرُوءَةِ مَعَ عُمُومِ التَّحْرِيمِ ظَاهِرٌ فِي مَسَالِكِ الظُّنُونِ، وَلَا يَبْلُغُ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدِي مَبْلَغَ الْقَطْعِ. وَالَّذِي قَدَّمْتُهُ فِي الْمَطَاعِمِ مَقْطُوعٌ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ ; فَإِنَّ النَّاسَ يَنْقَطِعُونَ بِسَبَبِ التَّعَرِّي عَنِ التَّقَلُّبِ وَالتَّصَرُّفِ، كَمَا يَمْتَنِعُونَ بِضَعْفِ الْأَبْدَانِ، وَوَهْنِ الْأَرْكَانِ عَنِ الْمَكَاسِبِ. 758 - فَهَذِهِ جُمَلٌ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ كَامِلَةٌ أَتَيْنَا فِيهَا

بِالْبَدَائِعِ وَالْآيَاتِ، مُقَيَّدَةً بِالْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا مُتَعَمِّقٌ فِي الْعُلُومِ مُوَفَّقٌ. 759 - فَأَمَّا الْمَسَاكِنُ، فَإِنِّي أَرَى مَسْكَنَ الرَّجُلِ مِنْ أَظْهَرِ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ حَاجَتُهُ، [وَالَكِنُّ] الَّذِي يُؤْوِيهِ وَعَيْلَتَهُ وَذُرِّيَّتَهُ، مِمَّا لَا غَنَاءَ بِهِ عَنْهُ. وَهَذَا الْفَصْلُ مَفْرُوضٌ فِيهِ إِذَا عَمَّ التَّحْرِيمُ، وَلَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْأَصْقَاعِ وَالْبِقَاعِ مُتَحَوَّلًا عَنْ دِيَارِهِمْ إِلَى مَوَاضِعَ مُبَاحَةٍ، وَلِمَ يَسْتَمْكِنُوا مِنْ إِحْيَاءِ مَوَاتٍ (256) وَإِنْشَاءِ مَسَاكِنَ سِوَى مَا هُمْ سَاكِنُوهَا. 760 - فَإِنْ قِيلَ: مَا اتَّخَذْتُمُوهُ مُعْتَبَرَكُمْ فِي الْمَلَابِسِ الْمُفْلِسُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا يُتْرَكُ عَلَى الْمُفْلِسِ مَسْكَنُهُ. قُلْنَا: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ نَجِدُ كِنًّا بِأُجْرَةٍ نَزِرَةٍ، فَلْيَكْتَفِ بِذَلِكَ. وَالَّذِي دُفِعْنَا إِلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ، فَإِنَّ الْمُجْتَنَبَ عِنْدَ عُمُومِ التَّحْرِيمِ مُلَابَسَةُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَطَّرِدُ فِي الْبِقَاعِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَغَيْرِهَا. فَإِذَا تَقَرَّرَ الْتِحَاقُ الْمَسَاكِنِ بِالْحَاجَاتِ، وَبَطَلَ النَّظَرُ إِلَى

الْمَمْلُوكِ وَالْمُسْتَأْجَرِ [لِعُمُومِ] التَّحْرِيمِ، وَلَا طَرِيقَ إِلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ. 761 - ثُمَّ يَتَعَيَّنُ الِاكْتِفَاءُ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ، وَيَحْرُمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ. فَهَذَا مَبْلَغٌ كَافٍ فِيمَا أَرَدْنَاهُ، فَإِنْ شَذَّتْ عَنَّا صُوَرٌ فِي الْفَصْلِ الْمَفْرُوضِ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهَا، فَفِيمَا مَهَّدْنَاهُ بَيَانُ مَا تَرَكْنَاهُ. 762 - وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَتِمَّةِ الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيهِ إِذَا عَمَّتِ الْمُحَرَّمَاتُ، وَانْحَسَمَتِ الطُّرُقُ إِلَى الْحَلَالِ فَأَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ النَّاسُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا يَحِلُّ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْحَرَامِ، وَاحْتِمَالُ الْكُلِّ فِي كَسْبِ مَا يَحِلُّ، وَهَذَا فِيهِ إِذَا كَانَ مَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ مُغَنِّيًا كَافِيًا دَارِئًا لِلضَّرُورَاتِ، سَادًّا لِلْحَاجَةِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَسُدُّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ مَأْخَذًا، وَيَسُدُّ مَسَدًّا، فَيَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِتَحْصِيلِهِ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْحَاجَةِ تُتَدَارَكُ بِمَا لَا يَحِلُّ، عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُقَدَّمِ. 763 - فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِيهِ إِذَا طَبَّقَتِ الْمُحَرَّمَاتُ طَبَقَ الْأَرْضِ، وَاسْتَوْعَبَ الْحَرَامُ طَبَقَاتِ الْأَنَامِ. فَمَا الْقَوْلُ فِيهِ إِذَا اخْتَصَّ ذَلِكَ بِنَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي؟ .

قُلْنَا: إِنَّ تَمَكُّنَ أَهْلِهَا مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى مَوَاضِعَ، يَقْتَدِرُونَ فِيهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْحَلَالِ، تَعَيَّنَ ذَلِكَ. 764 - فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ جَمٌّ غَفِيرٌ، وَعَدَدٌ كَبِيرٌ (257) وَلَوِ اقْتَصَرُوا عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَانْتَظَرُوا انْقِضَاءَ أَوْقَاتِ الضَّرُورَاتِ، لَانْقَطَعُوا عَنْ مَطَالِبِهِمْ، فَالْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِي النَّاسِ كَافَّةً، فَلْيَأْخُذُوا أَقْدَارَ حَاجَتِهِمْ كَمَا فَصَّلْنَاهَا. فَهَذَا نِهَايَةُ الْمَطْلَبِ فِي دَارِيَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعَظِيمَةِ. 765 - فَإِنْ قِيلَ: أَطْلَقْتُمْ تَصْوِيرَ عُمُومِ التَّحْرِيمِ، فَأَبِينُوا مَا أَبْهَمْتُمُوهُ، وَأَوْضِحُوا مَا أَجْمَلْتُمُوهُ. قُلْنَا: إِذَا اسْتَوْلَى الظَّلَمَةُ، وَتَهَجَّمَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ الْغَاشِمُونَ، وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمُ اعْتِدَاءً إِلَى أَمْلَاكِهِمْ، ثُمَّ فَرَّقُوهَا فِي الْخَلْقِ وَبَثُّوهَا، وَفَسَدَتْ مَعَ ذَلِكَ السَّاعَاتُ، وَحَادَتْ عَنْ سُنَنِ الشَّرْعِ الْمُعَامَلَاتُ، وَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى نُدُورُ الْأَقْوَاتِ، وَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ الْأَوْقَاتُ، وَامْتَدَّتِ الْفَتَرَاتُ، وَلَا خَفَاءَ بِتَصْوِيرِ مَا نُحَاوِلُهُ.

ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الشُّبُهَاتُ، فَإِذَا جَازَ أَخْذُ الْكِفَايَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، لَمْ يَخْفَ جَوَازُهُ فِي مَظَانِّ الشُّبُهَاتِ. 766 - ثُمَّ تَخْتَصُّ هَذِهِ الْحَالَةُ بِحُكْمٍ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ صَادَفَ شَيْئًا فِي يَدِ إِنْسَانٍ، وَهُوَ يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ مِلْكًا، وَمَا عَمَّ التَّحْرِيمُ فِي الزَّمَانِ، فَيَجُوزُ لِلنَّاظِرِ إِلَى مَا فِي يَدِهِ الْأَخْذُ بِكَوْنِهِ مِلْكًا لَهُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ تَحْرِيمُهُ، وَكَيْفَ لَا وَالْقَاضِي يُجْرِيهِ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ فَرْضِ النِّزَاعِ، حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِمَنْ يَدَّعِيهِ، وَيَزْعُمُ كَوْنَ صَاحِبِ الْيَدِ مُبْطِلًا فِيهِ، وَهَذَا حُكْمُ الْجَوَازِ. وَلَا يَخْفَى مَأْخَذُ الْوَرَعِ عَلَى مَنْ يَنْتَحِيهِ. فَهَذَا الْفَصْلُ [الْعَظِيمُ] الْقَدْرِ الَّذِي رَأَيْنَا تَقْدِيمَهُ عَلَى الْخَوْضِ فِي غَرَضِنَا مِنَ الْعَصْرِ الَّذِي يَدْرُسُ فِيهِ الْعِلْمُ بِتَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ عَادَ بِنَا الْكَلَامُ إِلَيْهِ. 767 - فَنَقُولُ: إِذَا عَسِرَ مَدْرَكُ التَّفَاصِيلِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، فَنَتَكَلَّمُ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَجْنَاسِ، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْلَاكِ (258) ، وَحُقُوقِ النَّاسِ.

768 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِيمَا يَحْرُمُ وَيَحِلُّ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ - مَا بَقِيَتْ أُصُولُ الْأَحْكَامِ - أَنَّ مَرْجِعَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ كُلِّهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَبْيَنُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، قَوْلُ اللَّهِ الْعَزِيزِ: ( {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} ) . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ الَّتِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا تَعَارُضُ الِاحْتِمَالَاتِ ; وَطُرُقُ التَّأْوِيلَاتِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ عَلَى الْمُصْطَفَى، وَقَدِ انْطَبَقَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَوْ قُلْتُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مُعْضِلَةً عَلَيَّ [فِي] مُحَاوَلَةِ الذَّبِّ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَكُنْتُ مُظْهِرًا مَا لَا أُضْمِرُهُ. 769 - فَإِذَا نُسِيَتِ الْمَذَاهِبُ فَمَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ تَحْرِيمٌ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الْحِلِّ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلَّهِ حُكْمٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِذَا انْتَفَى دَلِيلُ التَّحْرِيمِ ثَمَّ اسْتَحَالَ الْحُكْمُ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَمَا انْتَفَى الدَّلِيلُ عَلَى التَّحْرِيمِ، انْتَفَى الدَّلِيلُ عَلَى التَّحْلِيلِ. قُلْنَا: إِذَا انْحَسَمَتْ مَسَالِكُ الْأَدِلَّةِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَمُوجَبُ انْتِفَائِهَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، وَإِذَا انْتَفَى الْحُكْمُ، الْتَحَقَ الْمُكَلَّفُونَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي تَحَقَّقَ انْتِفَاؤُهُ بِالْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ، لَمَا كَانَ عَلَى النَّاسِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَجْرٌ وَحَرَجٌ، ثُمَّ إِقْدَامُهُمْ وَإِحْجَامُهُمْ مَعَ انْتِفَاءِ الْحَجْرِ عَنْهُمْ يَسْتَوِيَانِ، وَمَقْصُودُ الْإِبَاحَةِ فِي الشَّرْعِ انْتِفَاءُ الْحَرَجِ، وَاسْتِوَاءُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ بِمَثَابَةِ انْتِفَاءِ الْأَحْكَامِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ. 770 - فَإِنْ قِيلَ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَعْيَانَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلْتَبْقَ عَلَى الْحَظْرِ إِلَى أَنْ يَرِدَ مِنْ مَالِكِ الْأَعْيَانِ (259) إِطْلَاقٌ. قُلْنَا: هَذَا قَوْلُ مَنْ يَرَى الْمَصِيرَ إِلَى الْحَظْرِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَى مُنْتَحِلِيهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَلْيَطْلُبْهُ مَنْ يُحَاوِلُهُ فِي ذَلِكَ الْفَنِّ.

771 - وَإِنْ زَعَمَ السَّائِلُ أَنَّ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِنَا أَلَّا تُنْسَى، وَإِنْ نُسِيَتِ التَّفَاصِيلُ، تَغَلَّظَ الْحَظْرُ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَذَاهِبَ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةٌ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ إِجْرَاءُ الْأَعْيَانِ عَلَى الْحَظْرِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ دِلَالَةٌ فِي الْحِلِّ. 772 - وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى التَّحْلِيلِ إِلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْحَظْرِ وَالتَّحْرِيمِ. 773 - وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَصْرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} ) الْآيَةَ. 774 - فَكَيْفَ يَكُونُ مَا قَدَّرَهُ السَّائِلُ أَصْلًا مَعَ تَعَارُضِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ؟ وَالْأَصْلُ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعُ بِهِ؟ . 775 - فَإِذَا دَرَسَتِ الْمَذَاهِبُ، فَلَيْسَ ادِّعَاءُ الْحَظْرِ أَوْلَى مِنَ ادِّعَاءِ

الْإِبَاحَةِ، وَإِذَا تَعَارَضَتِ الظُّنُونُ، انْتَفَى الْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْعِبَادَاتِ أَنَّ مَا انْتَفَى دَلِيلُ وُجُوبِهِ، لَمْ نُوجِبْهُ، وَالتَّحْرِيمُ إِذَا انْتَفَى دَلِيلُهُ كَالْوُجُوبِ إِذَا عُدِمَ دَلِيلُهُ. 776 - وَالْآنَ بَعْدَ نِجَازِ هَذَا أَقُولُ: فَاضِلُ هَذَا الزَّمَانِ مَنْ يَفْهَمُ مَدَاخِلَ هَذِهِ الْفُصُولِ وَمَخَارِجَهَا، وَيَسْتَبِينُ مَسَالِكَهَا وَمَنَاهِجَهَا، وَالْمَرْمُوقُ وَالَّذِي تُثْنِي عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ فِي الدَّهْرِ مَنْ يُحِيطُ بِشَرَفِ هَذَا الْكَلَامِ، وَيُمَيِّزُهُ عَنْ كَلَامِ بَنِي الزَّمَانِ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ التَّصَلُّفِ فِي مُصَاوَلَةِ الْعُلَمَاءِ، وَمُطَاوَلَتِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا كَفَانِيهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنِّي قَدْ أَرَى فِي أَثْنَاءِ مَا أُجْرِيهِ التَّنْبِيهَ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِ مَا يَجْرِي، حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ مُطَالِعُهُ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ فَتَنْفَلِتُ (260) عَنْهُ مَزَايَا الْفَوَائِدِ. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ بِمَنِّهِ وَلُطْفِهِ. فَهَذَا بَيَانُ مَا أَرَدْنَاهُ فِي تَحْلِيلِ الْأَجْنَاسِ وَتَحْرِيمِهَا. 777 - فَأَمَّا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْلَاكِ: فَالْأَمْلَاكُ مُحْتَرَمَةٌ

كَحُرْمَةِ مُلَّاكِهَا، وَالْقَوْلُ فِيهَا فِي مَقْصُودِ هَذَا الْكِتَابِ يَتَعَلَّقُ بِفَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا - فِي الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْمُلَّاكُ. وَالثَّانِي - فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَمْلَاكِ. 778 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ: فَالْأَصْلُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِيهَا اتِّبَاعُ تَرَاضِي الْمُلَّاكِ، وَالشَّاهِدُ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ( {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ) . فَالْقَاعِدَةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَنَّ الْمُلَّاكَ مُخْتَصُّونَ بِأَمْلَاكِهِمْ، لَا يُزَاحِمُ أَحَدٌ مَالِكًا فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ، ثُمَّ الضَّرُورَةُ تُحْوِجُ مُلَّاكَ الْأَمْوَالِ التَّبَادُلَ فِيهَا ; فَإِنَّ أَصْحَابَ الْأَطْعِمَةِ قَدْ يَحْتَاجُونَ إِلَى النُّقُودِ، وَأَصْحَابُ النُّقُودِ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْأَطْعِمَةِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ صُنُوفِ الْمَالِ. 779 - فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ تَحْرِيمُ التَّسَالُبِ وَالتَّغَالُبِ، وَمَدُّ الْأَيْدِي إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَإِذَا تَرَاضَوْا بِالتَّبَادُلِ فَالشَّرْعُ قَدْ يَضْرِبُ عَلَى الْمُتَعَبِّدِينَ ضُرُوبًا مِنَ الْحَجْرِ فِي كَيْفِيَّةِ

الْمُعَامَلَاتِ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ، وَطَلَبًا لِمَا هُوَ الْأَحْوَطُ وَالْأَغْبَطُ، ثُمَّ قَدْ يُعْقَلُ مَعَانِي بَعْضِهَا، وَقَدْ لَا يُعْقَلُ عِلَلُ بَعْضِهَا، وَاللَّهُ الْخَبِيرُ بِخَفَايَا لُطْفِهِ فِيهَا. 780 - ثُمَّ لَوْ تَرَاضَى الْمُلَّاكُ عَلَى تَعَدِّي الْحُدُودِ فِي الْعَقْدِ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمْ مَعَ التَّوَاطِي وَالتَّرَاضِي إِذَا بَقِيَتْ تَفَاصِيلُ الشَّرِيعَةِ. فَإِذَا دَرَسَتْ [وَقَدْ] عَرَفَ بَنُو الزَّمَانِ أَنَّهُ كَانَ فِي الشَّرْعِ تَعَبُّدَاتٌ مَرْعِيَّةٌ فِي الْعُقُودِ، وَقَدْ فَاتَتْهُمْ بِانْقِرَاضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُمْ لَا يَأْمَنُونَ أَنْ يُوقِعُوا الْعُقُودَ مَعَ الْإِخْلَالِ بِحُدُودِ الشَّرْعِ وَتَعَبُّدَاتِهِ، عَلَى وُجُوهٍ لَوْ أَدْرَكَهَا الْمَفْتُونُ لَعَلِمُوا بِفَسَادِهَا. وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْعُقُودِ بُدٌّ. وَوُضُوحُ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا يُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ بَسْطٍ فِيهَا، فَلْيُصْدِرُوا الْعُقُودَ عَنِ التَّرَاضِي، فَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُغْمَضُ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّرْعِ أَصْلٌ، وَلْيُجْرُوا الْعُقُودَ عَلَى حُكْمِ الصِّحَّةِ. 781 - وَفِي تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ مَا يُعَضِّدُ هَذَا، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَبَايَعَا، ثُمَّ تَنَازَعَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا جَرَيَانَ شَرْطٍ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ، فَأَنْكَرَهُ الثَّانِي، فَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ

أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَنْفِي الْمُفْسِدَ، وَالْعَقْدُ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ الصِّحَّةِ. وَهَذَا مَا ذَكَرْتُهُ إِينَاسًا وَتَوْطِئَةً لِمَسَاقِ الْكَلَامِ. وَإِلَّا فَلَا [مُعْتَضَدَ] فِي مِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَهْلِ زَمَانٍ دَرَسَتْ فِيهِ تَفَاصِيلُ الشَّرِيعَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْكَلَامَ يَجُرُّ الْكَلَامَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّمَانِ الْعَرِيِّ عَنِ التَّفَاصِيلِ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنَّ الْخَلْقَ مُضْطَرُّونَ إِلَى التَّعَامُلِ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْهُ بُدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَرَامَ إِذَا طَبَّقَ طَبَقَ الْأَرْضِ، أَخَذَ النَّاسُ مِنْهُ أَقْدَارَ حَاجَاتِهِمْ، لِمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ نُزُولِ الْحَاجَةِ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ فِي حَقِّ الْآحَادِ. وَهَذَا مَعَ بَقَاءِ الشَّرِيعَةِ بِتَمَامِهَا وَجُمْلَتِهَا، فَكَيْفَ إِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى [التَّعَامُلِ] ، وَلَمْ يَجِدِ الْخَلْقُ مَرْجِعًا فِي الشَّرْعِ يَلُوذُونَ بِهِ؟ 782 - ثُمَّ إِذَا سَاغَتِ الْمُعَامَلَاتُ، فَلَا تَخْصِيصَ بِالْجَوَازِ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَصِيلَةٌ إِلَى الْأَقْوَاتِ وَالْمَلَابِسِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهَا مَا هُوَ تَجَائِرُ، وَمَكَاسِبُ لَا سَبِيلَ إِلَى حَسْمِهَا، 783 - وَالْقَوْلُ الضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا لَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ مِنَ

الْمُعَامَلَاتِ، فَلَا حَجْرَ فِيهِ عِنْدَ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ عِلْمِ التَّفَاصِيلِ وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي إِبَاحَةِ الْأَجْنَاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا مُفَصَّلًا. وَهَذَا بَيَانُ الْعُقُودِ الصَّادِرَةِ عَنِ التَّرَاضِي. فَأَمَّا التَّغَالُبُ، فَلَا يَخْفَى تَحْرِيمُهُ، مَا بَقِيَتْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ. 784 - وَقَدْ (262) تَقَعُ صُورَةٌ عَوِيصَةٌ، لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِعِلْمِ التَّفْصِيلِ، مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ رَجُلٌ سَاجَةً، فَيُدْرِجَهَا فِي أَثْنَاءِ بِنَاءٍ لَهُ وَلَوِ انْتُزِعَ لَتَهَدَّمَ الْبِنَاءُ. فَقَدْ يَخْطُرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّ السَّاجَةَ تُنْتَزَعُ وَتُرَدُّ إِلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّهُ ظَالِمٌ لَمَّا غَصَبَ مِنْهُ مَلِكَهُ، وَقَدْ يَخْطُرُ لِلْآخَرِينَ أَنَّ فِي هَدْمِ بِنَاءِ الْغَاصِبِ تَخْسِيرَهُ، وَإِحْبَاطَ مِلْكِهِ، وَذُو السَّاجَةِ يَجِدُ بِثَمَنِهَا مِثْلَهَا، فَيَتَعَارَضُ فِي مِثْلِ هَذَا إِمْكَانُ النَّزْعِ وَتَحْرِيمُهُ، وَلَا سَبِيلَ لِأَهْلِ الزَّمَانِ إِلَى الْحُكْمِ بِالظَّنِّ. وَتَرْكُ الْخُصُومَةِ نَاشِبَةً بَيْنَهُمَا، يَجُرُّ ضِرَارًا عَظِيمًا.

وَلَوْ قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ فِي الْوَاقِعَةِ، فَفِي التَّوَقُّفِ اتِّبَاعُ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ مَالِكِ السَّاجَةِ [وَبَيْنَهَا] وَهُوَ تَنْجِيزُ مُرَادِ الْغَاصِبِ الْبَانِي. 785 - فَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَالَةُ أَنْ يَغْرَمَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ لِصَاحِبِ السَّاجَةِ قِيمَتَهَا، فَإِنَّ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيجٍ عَلَى ظَنٍّ أَنَّ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَمِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ مُحَالٌ، مَعَ إِمْكَانِ بَذْلِ الْعِوَضِ، وَرَدُّ عَيْنِ السَّاجَةِ مَظْنُونٌ، وَ [لَا] سَبِيلَ إِلَى بِنَاءِ الْأَمْرِ عَلَى الظُّنُونِ مَعَ عَدَمِ الْمُفْتِينَ، وَانْحِسَامِ الطُّرُقِ إِلَى دَرْكِ مَذَاهِبِهِمْ. فَلْيَتَّخِذِ الْفَطِنُ مَا ذَكَرْنَاهُ مُعْتَبَرًا فِي أَمْثَالِ مَا نَصَصْنَا عَلَيْهِ. 786 - وَإِنْ أَشْكَلَتْ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مُحَرَّمٌ أَمْ لَا؟ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَخْذَ الْحَاجَةِ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ إِذَا عَمَّتْ سَائِغٌ مَعَ اسْتِقْلَالِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّفَاصِيلِ، فَمَا الظَّنُّ وَالزَّمَانُ خَالٍ عَنْ مَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ؟ . 787 - وَيَجُوزُ الِازْدِيَادُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنِ الْمُشْتَبِهَاتِ ; فَإِنَّ أَهْلَ الزَّمَانِ لَمْ يَسْتَيْقِنُوا تَحْرِيمًا فِي الزَّائِدِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ، وَقَدْ تَمَهَّدَ أَنَّ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ، فَلَا حَرَجَ

فِيهِ فِي الزَّمَانِ الشَّاغِرِ عَنْ حَمَلَةِ الْعُلُومِ بِتَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ (263) فَهَذَا مُنْتَهَى الْمَقْصِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ. 788 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْوَالِ، فَالْمَسْلَكُ الْوَجِيزُ فِيهِ أَنَّ الْحُقُوقَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُفْرَضُ لِمُسْتَحِقِّينَ مُخْتَصِّينَ، وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَاتِ الْعَامَّةِ: فَأَمَّا مَا يُقَدَّرُ لِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، كَالنَّفَقَاتِ وَغَيْرِهَا، فَمَا عُلِمَ فِي الزَّمَانِ وُجُوبُهُ حُكِمَ بِهِ، وَمَا لَمْ يَعْلَمْ بَنُو الزَّمَانِ لُزُومَهُ، فَالْأَمْرُ يَجْرِي فِيهِ عَلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. 789 - وَأَنَا الْآنَ أَضْرِبُ مِنْ قَاعِدَةِ الشَّرْعِ مَثَلَيْنِ يَقْضِي الْفَطِنُ الْعَجَبَ مِنْهُمَا، وَغَرَضِي بِإِيرَادِهِمَا تَنْبِيهُ الْقَرَائِحِ لِدَرْكِ الْمَسْلَكِ الَّذِي مَهَّدْتُهُ فِي الزَّمَانِ الْخَالِي، وَلَسْتُ أَقْصِدُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا، فَإِنَّ الزَّمَانَ إِذَا فُرِضَ خَالِيًا عَنِ التَّفَارِيعِ وَالتَّفَاصِيلِ، لَمْ يَسْتَنِدْ أَهْلُ الزَّمَانِ إِلَّا إِلَى مَقْطُوعٍ بِهِ، فَالَّذِي أَذْكُرُهُ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ فِي تَفَاصِيلِ الظُّنُونِ. فَالْمَثَلَانِ: أَحَدُهُمَا - فِي الْإِبَاحَةِ، وَالثَّانِي - فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. 790 - فَأَمَّا مَا أَضْرِبُهُ فِي الْمُبَاحَاتِ مَثَلًا، فَأَقُولُ:

الصُّيُودُ مُبَاحَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ، فَلَوِ اخْتَلَطَ بِهَا صُيُودٌ مَمْلُوكَةٌ، وَالْتَبَسَ الْأَمْرُ، فَمَا مِنْ صَيْدٍ يَقْتَنِصُهُ الْمَرْءُ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ يَدُهُ الصَّيْدَ الْمَمْلُوكَ. ثُمَّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاصْطِيَادَ لَا يَحْرُمُ، لِأَنَّ مَا حَلَّ مِنَ الصُّيُودِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالْمُخْتَلِطُ بِهِ مَحْصُورٌ مُتَنَاهٍ. 791 - وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَا حَجْرَ لَا يَتَنَاهَى، وَإِنَّمَا الْمَعْدُودُ الْمَحْدُودُ مَا يَحْرُمُ، فَإِذَا الْتَبَسَ عَلَى بَنِي الزَّمَانِ أَعْيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ وَهِيَ مَضْبُوطَةٌ [لَمْ يَحْرُمْ] عَلَيْهِمْ مَالَا يَتَنَاهَى. 792 -[وَأَمَّا] الَّذِي أَضْرِبُهُ مَثَلًا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، فَأَقُولُ: لَوْ عَلِمَ رَجُلٌ أَنَّ لِإِنْسَانٍ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَالْتَبَسَ عَيْنُ ذَلِكِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ الْتِبَاسًا لَا يُتَوَقَّعُ ارْتِفَاعُهُ، فَمَنِ ادَّعَى مِنْ آحَادِ النَّاسِ مَعَ اطِّرَادِ الِالْتِبَاسِ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُدَّعَى (264) عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ شَيْءٌ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بَارَّةً، إِذْ لَوْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الْيَمِينِ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى النُّكُولِ وَغَرَّمْنَاهُ الْمُدَّعَى، فَقَدْ يَدَّعِي عَلَيْهِ آخَرُ ذَلِكَ الدَّيْنَ. قَائِلًا: إِنَّ الْأَوَّلَ كَانَ مُبْطِلًا، وَأَنَا

ذُو الْحَقِّ، ثُمَّ يَطَّرِدُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْبَرَاءَةِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا لَا يَنْحَصِرُونَ، فَتَغْلِيبُ مَا [انْتَفَتِ] النِّهَايَةُ عَنْهُ أَحْرَى. 793 - وَالَّذِي يُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أُخْتٌ مُحَرَّمَةٌ مِنَ الرِّضَاعِ مَثَلًا، وَقَدِ اخْتَلَطَتْ بِنِسْوَةٍ لَا يَنْحَصِرُونَ عِنْدَهَا، فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَنْكِحَ مِنْهُنَّ مَنْ شَاءَ. وَهَذَا أَبْدَعُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ مُغَلَّبٌ فِي الْأَبْضَاعِ. 794 - وَإِذَا تَقَابَلَ فِي امْرَأَةٍ سَبَبَا تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى الثَّانِي، فَالْحُرْمَةُ مُغَلَّبَةٌ فِي الْبُضْعِ عَلَى وَضْعِ الشَّرْعِ، وَمَعَ هَذَا [أَبَحْنَا لِلَّذِي] خَفِيَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهُ، وَاخْتَلَطَتْ بِنِسْوَةٍ غَيْرِ مُنْحَصِرَاتٍ عِنْدَنَا أَنْ يَنْكِحَ مِنْهُنَّ مَنْ يَشَاءُ، عَلَى شَرْطِ الشَّرْعِ. فَوَجَبَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مُوجَبَ تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ النَّظَرُ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِ بِأَنْ يَخْتَلِطَ بِهِ مَا يَتَنَاهَى.

795 - وَمِمَّا يَسْتَتِمُّ بِهِ هَذَا الْكَلَامُ إِذْ لَابَسْنَاهُ، أَنَّهُ إِذَا انْتَقَلَتْ حَمَامَاتُ بَلْدَةٍ وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَلَطَتْ بِحَمَامٍ [مُبَاحٍ] فَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الِاصْطِيَادُ بِسَبَبِ هَذَا الِاخْتِلَاطِ. 796 - وَإِنْ فُرِضَ اخْتِلَاطُ مَا لَا يَتَنَاهَى عِنْدَنَا بِمَا لَا يَتَنَاهَى، فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُهُ مَحْفُوظًا عِنْدَ أَهْلِ الزَّمَانِ بَنَوْا عَلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، عِنْدَ تَخَيُّلِ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيقَانٍ، وَكَذَلِكَ يَنْبَنِي الْأَمْرُ عَلَى الْحَلِّ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، فِيمَا لَا يُسْتَيْقَنُ فِيهِ تَحْرِيمٌ. 797 - وَإِنْ عَرِيَ الزَّمَانُ عَنِ الْإِحَاطَةِ (265) بِمَا ذَكَرْتُهُ فَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ نَفْيُ الْوُجُوبِ، فِيمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ [عَلَى وُجُوبِهِ، وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ فِيمَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَظْرٌ] فَإِذًا هَذَا مُسْتَبِينٌ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ [نُسِيَ] مَا قَدَّمْتُهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ [فِي] الِاخْتِلَاطِ. 798 - فَهَذَا آخِرُ مَا حَاوَلْنَاهُ الْآنَ فِي تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ لِمُعَيَّنِينَ بِأَمْوَالِ النَّاسِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.

799 - فَأَمَّا الْقَوْلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَاتِ الْعَامَّةِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَقَدْ أَحَلْنَا عَلَى هَذَا طَرَفًا مِنَ الْكَلَامِ فِي الزَّكَاةِ، فَنَقُولُ فِيهِ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ مَفْرُوضَةً فِي بَقَاءِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَذْكَارِ فَالْجِهَاتُ الْعَامَّةُ يَبْقَى الْعِلْمُ بِأَصْلِهَا شَائِعًا مُسْتَفِيضًا [ذَائِعًا] ، وَإِنْ فُرِضَ دُرُوسُ الذِّكْرِ فِيهِ، فَتَكُونُ سَائِرُ الْأُصُولِ دَارِسَةً عَنِ الْأَذْكَارِ، وَالْأَفْكَارِ أَيْضًا، وَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ حِينَئِذٍ فِيمَا لَا يُتَصَوَّرُ دُرُوسُهُ. وَالْكَلَامُ فِي بَقَاءِ الْأُصُولِ. 800 - فَالْوَاجِبُ إِنْقَاذُ الْمُشْرِفِينَ عَلَى الرَّدَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا فُرِضَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُسْلِمِينَ مَضْرُورٌ فِي مَخْمَصَةٍ، أَوْ جِهَةٍ أُخْرَى مِنْ جِهَاتِ الضَّرُورَةِ، وَاسْتَمْكَنَ الْمُثْرُونَ الْمُوسِرُونَ مِنْ إِنْقَاذِهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ. 801 - ثُمَّ يُدْرَكُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ وَرَاءَ ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ، فَقَدْ أَسْقَطَ الْفَرْضَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَالثَّانِي - أَنَّ الْمُوسِرِينَ بِأَجْمَعِهِمْ لَوْ تَوَاكَلُوا وَتَخَاذَلُوا [وَأَحَالَ]

فصل في المواريث

الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ، حَتَّى هَلَكَ الْمُضْطَرُّ، حَرِجُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ ; إِذْ لَيْسَ بَعْضُهُمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَى التَّضْيِيعِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ عَمَّهُمُ الْعِلْمُ، وَالتَّمَكُّنُ مِنَ الْكِفَايَةِ. وَهَذَا الَّذِي فَصَّلْنَاهُ مَعْنَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي قَاعِدَةِ الشَّرِيعَةِ. 802 - فَإِذَا هَذَا النَّوْعُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ عَلَى حُكْمِ الْكِفَايَةِ، [فَكُلُّ مَا] عُلِمَ فِي الزَّمَانِ الْمَفْرُوضِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - نُحِيَ بِهِ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكُلُّ مَا أَشْكَلَ وُجُوبُهُ (266) فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فِيهِ كَمَا سَبَقَ فِي حُقُوقِ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ. 803 - فَهَذَا مُنْتَهَى الْمَقْصُودِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْلَاكِ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَأَذْكُرُ الْآنَ فَصْلًا فِي الْمَوَارِيثِ حَتَّى يَتِمَّ الْكَلَامُ فِي فَنِّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. [فَصْلٌ في المواريث] [فَصْلٌ] 804 - نَقَلَ النَّقَلَةُ فِي مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنَّهَا تُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمٍ

يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي» " وَالْعِلْمُ بِالْفَرَائِضِ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَضٌّ طَرِيٌّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَفَحْوَى الْحَدِيثِ مُبَشِّرَةٌ بِبَقَاءِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ فِي عَصْرِنَا فَإِنَّهُ قَالَ إِنَّ عِلْمَ الْفَرَائِضِ أَوَّلُ مَا يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي. 805 - فَلَوْ أَعْضَلَتْ تَفَاصِيلُ الْفَرَائِضِ، وَهَذَا [يَعْسُرُ] مَعَ بَقَاءِ الذِّكْرِ فِي الْأُصُولِ، فَإِنْ [فُرِضَ] دُرُوسٌ فِي التَّفَاصِيلِ، فَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَسَاقِ الْكَلَامِ الَّذِي نُجْرِيهِ صِنْفَانِ: 806 - أَحَدُهُمَا - فِيهِ إِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ مُخْتَصِّينَ بِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ وَرَثَةٌ، وَلَكِنْ أَشْكَلَ مِقْدَارُ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ، فَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ، أَنَّهُمُ إِذَا اصْطَلَحُوا وَتَرَاضَوْا عَلَى أَمْرٍ، نَفَذَ مَا تَرَاضَوْا بِهِ. وَإِنْ أَبَوْا وَتَمَانَعُوا، فَالْوَجْهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُمْ مَعَ الْتِبَاسِ الْحَالِ مُتَسَاوُونَ، وَلَا مَطْمَعَ فِي ارْتِفَاعِ اللَّبْسِ مَعَ انْقِرَاضِ الْعُلَمَاءِ

وَلَا وَجْهَ لِتَبْقِيَةِ النِّزَاعِ بَيْنَهُمْ، مَعَ مَسِيسِ حَاجَتِهِمْ فَاقْتَضَى مَجْمُوعُ ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ. وَنَحْنُ نَضْرِبُ لِذَلِكَ مَثَلًا مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ لِلْإِينَاسِ وَالتَّشْبِيهِ بِحَالِ الِالْتِبَاسِ، فَنَقُولُ: 807 - لَوْ أَبْهَمَ الرَّجُلُ طَلْقَةً مُبِينَةً بَيْنَ نِسْوَةٍ لَهُ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَإِنَّا نَقِفُ لَهُنَّ مِيرَاثَ زَوْجَةٍ ثُمَّ سَبِيلُهُنَّ فِيمَا وَقَفَ لَهُنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنَ الِاصْطِلَاحِ أَوِ التَّسْوِيَةِ (267) وَهَذَا يُنَاظِرُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ. 808 - وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَخَلَّفَ طَائِفَةً مِنَ الْأَقَارِبِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَحْجُوبُونَ، وَقَدَّرَ كُلُّ وَاحِدٍ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَاسْتَوَوْا فِي هَذَا التَّرَدُّدِ، وَتَحَقَّقُوا أَنَّهُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ، أَوْ فِيهِمُ الْمُسْتَحِقُّونَ، فَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَاعِدَةُ الِاصْطِلَاحُ، أَوِ التَّسْوِيَةُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. فَهَذَا أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ. 809 - وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ

مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَفِيهِمْ مَنْ نَشُكُّ فِي أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَمْ لَا فَمَنْ لَا يَعْلَمُ قَطْعًا لِنَفْسِهِ اسْتِحْقَاقًا لَا نُثْبِتُ لَهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ. فَالَّذِي نَعْلَمُ كَوْنَهُ مُسْتَحِقًّا إِنْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ وَشَكَّ فِي أَنَّهُ هَلْ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ أَمْ يَسْتَحِقُّ الرَّجُلُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ؟ فَالَّذِي نَسْتَيْقِنُ اسْتِحْقَاقَهُ يَأْخُذُهُ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الْبَاقِي مُتَسَاوِيَانِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَا يَعْدُوهُمَا، فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَلَوْ لَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْلَمُ أَصْلَ الِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْتَيْقَنَ كَمْ ; فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ الْقَلِيلِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَكَانَ قَدْ دَرَسَتِ الْفَرَائِضُ وَالْمُقَدَّرَاتُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، إِذْ لَا مِقْدَارَ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَيْقِنُ أَقَلَّ مِنْهُ فَجَمِيعُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ الْمُقَدَّمِ فِيهِ إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِجَمِيعِ التَّرِكَةِ. 810 - وَلَوْ خَلَّفَ قَرِيبًا، وَجَوَّزَ أَهْلُ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا مُسْتَغْرِقًا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَصْرُوفًا إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ،

فَهَذِهِ الْجِهَةُ مَعَ الْوَارِثِ بِمَثَابَةِ قَرِيبَيْنِ الْتَبَسَ الْوَارِثُ مِنْهُمَا، فَلْتَجْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى (268) قَاعِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا - طَلَبُ الِاسْتِيقَانِ. وَالْأُخْرَى -[أَنَّ] الِاسْتِحْقَاقَ إِذَا دَارَ بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ أَشْخَاصٍ وَكَانَ لَا يَعْدُوهُمْ الِاسْتِحْقَاقُ، وَاسْتَوَوْا فِي جِهَاتِ الْإِمْكَانِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى الْبَيَانِ الْمُقَدَّمِ. 811 - وَنَحْنُ نَخْتِمُ هَذَا الْفَصْلَ الْآنَ بِمُشْكِلَةٍ عَجِيبَةٍ، وَمُعْضِلَةٍ غَرِيبَةٍ، نُورِدُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ، وَنُبَيِّنُ الْغَرَضَ [مِنْهَا] فِي مَعْرِضِ الِانْفِصَالِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ بَنَيْتُمْ فُصُولَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ عَلَى مُسْتَنَدَاتٍ مُسْتَيْقَنَةٍ، وَكَرَّرْتُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الظُّنُونَ لَا يَرْتَبِطُ فِي خُلُوِّ الدَّهْرِ عَنْ حَمْلَةِ الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ، فَإِنَّ ظُنُونَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَحْزَابِ الْعُلَمَاءِ لَا وَقْعَ لَهَا، وَصِرْتُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ إِلَّا بِقَطْعٍ، وَقَدْ نَاقَضْتُمُ الْآنَ مَا هُوَ قُطْبُ الْكَلَامِ، وَقَاعِدَةُ الْمَرَامِ، إِذْ قُلْتُمْ إِذَا دَارَتِ التَّرِكَةُ الْمُخَلَّفَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَجُوِّزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا مُسْتَغْرِقًا وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا مَزْحُومًا مَحْرُومًا، فَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ

وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى اسْتِيقَانٍ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. 812 - فَهَلَّا قُلْتُمْ بِنَاءً عَلَى الْيَقِينِ: لَا يَأْخُذُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ؟ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْكَنُ إِلَى قَطْعٍ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا، وَإِشْعَارُ ذَلِكَ بِتَوْزِيعِ التَّرِكَةِ عَلَيْهِمَا مِنْ أَدَقِّ مَسَالِكِ الظُّنُونِ، وَأَغْمَضِ فُنُونِ الْمُجْتَهَدَاتِ فِي الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهِ إِلَّا فَطِنٌ رَيَّانُ مِنْ عُلُومِ التَّفَاصِيلِ فِي التَّكَالِيفِ. وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مَبْنَاهَا عَلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَفُصُولِهَا مَعَ بَقَاءِ قَوَاعِدِهَا وَأُصُولِهَا؟ فَهَذَا هُوَ السُّؤَالُ. 813 - وَسَبِيلُ الِانْفِصَالِ عَنْهُ أَنْ نَعْتَرِفَ أَوَّلًا بِانْتِفَاءِ الْيَقِينِ كَمَا أَوْضَحَهُ السَّائِلُ، ثُمَّ نَعْتَرِفُ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنَ الرَّجُلَيْنِ غَيْرُ مُسْتَيْقِنٍ اسْتِحْقَاقَ (269) نَفْسِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: 814 - مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي آلَ إِلَيْهِ مَجَامِعُ الْكَلَامِ أَنَّهُ: إِذَا لَمْ يُسْتَيْقَنْ حَجْرٌ وَحَظْرٌ مِنَ الشَّارِعِ فِي شَيْءٍ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ تَحْرِيمٌ فِي

خُلُوِّ الزَّمَانِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا اسْتِحْقَاقًا، فَلَيْسَ نَعْلَمُ أَيْضًا حَجْرًا عَلَيْهِ فِيمَا يَأْخُذُهُ، وَقَدْ تَحَقَّقْنَا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَعْدُوهُمَا، فَعَدَمُ الِاسْتِيقَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ يُعَارِضُهُ انْتِفَاءُ الدَّلِيلِ فِي الْحَظْرِ، وَمُوجَبُ ذَلِكَ رَفْعُ الْحَجْرِ وَالْحَرَجِ. فَإِنِ اقْتَسَمَا عَلَى اصْطِلَاحٍ وَتَرَاضٍ، فَلَا إِشْكَالَ فِي انْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنْهُمَا، وَإِنْ تَنَازَعَا وَالنِّزَاعُ مَقْطُوعٌ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ - فَلَا مَسْلَكَ قَطْعًا فِي قَطْعِهِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. فَلْيُنْعِمِ الْمُنْتَهِي إِلَى هَذَا الْمُنْتَهَى نَظَرَهُ، فَفِيهِ بَيَانُ بَقَايَا تَرَكْتُهَا لِكُلِّ غَوَّاصِ مُنْتَهٍ، وَنَتَائِجُ الْقَرَائِحِ لَا تَنْتَهِي. 815 - فَإِنْ قِيلَ: لَا يَتَوَصَّلُ إِلَى هَذِهِ الدَّقَائِقِ إِلَّا مُدَرَّبٌ فِي مَأْخَذِ الْحَقَائِقِ، فَكَيْفَ يُدْرِكُهُ بَنُو الزَّمَانِ الشَّاغِرِ عَنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ؟ قُلْنَا: إِنْ ثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مُسْتَنَدُهُ الْقَطْعُ، فَعَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي دَرْكِهِ، فَإِذَا فَرَضْنَا بَقَاءَ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ،

القول في المناكحات

فَمِنْ أَجْلَاهَا عِلْمُ بَنِي الزَّمَانِ بِأَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ الْوُصُولُ إِلَى الِاسْتِيقَانِ فِيهِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَتَعَيَّنُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ. 816 - وَرُبَّ شَيْءٍ مَدْرَكُهُ الْقَطْعُ، وَفِي دَرْكِهِ عُسْرٌ وَعَنَاءٌ، وَهَذَا كَالْقَوْلِ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ، فَإِنَّا إِذَا أَوْجَبْنَا الْعِلْمَ بِهَا فَقَدْ يَدِقُّ مَدْرَكُهَا، وَيَتَوَعَّرُ مَسْلَكُهَا، وَلَكِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُسْتَدْرَكَةً بِأَسَالِيبِ الْعُقُولِ تَعَيَّنَ السَّعْيُ فِي إِدْرَاكِهَا. 817 - فَهَذَا نِهَايَةُ الْمَقْصُودِ فِي الْمَكَاسِبِ. وَمَنْ أَحَاطَ بِهَا، لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَسْلَكٌ يُطَالِعُ بِهِ، وَيُرَاجِعُ فِيهِ فِي جِهَاتِ الْمُطَالِبِ، وَفُنُونِ الْمَكَاسِبِ. [الْقَوْلُ فِي الْمُنَاكَحَاتِ] فَأَمَّا: الْقَوْلُ فِي الْمُنَاكَحَاتِ 818 - فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا لَا بُدَّ مِنْهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْأَقْوَاتِ، فَإِنَّ بِهَا بَقَاءَ النَّوْعِ، كَمَا بِالْأَقْوَاتِ (270) بَقَاءُ النُّفُوسِ. وَالنِّكَاحُ هُوَ الْمُغْنِي عَنِ السِّفَاحِ، وَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ - مَعَ بَقَاءِ الْعِلْمِ بِتَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ إِلَى الْمُنْتَهَى الَّذِي يُبَاحُ فِي مِثْلِهِ الْمَيْتَاتُ فِي أَمْرِ الْوِقَاعِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى ذَوِي الْمَكِنَةِ وَالْيَسَارِ،

وَأَصْحَابِ الِاقْتِدَارِ، أَنْ يُعِفُّوا الْفُقَرَاءَ الْمُتَعَزِّبِينَ، وَإِنِ اشْتَدَّتْ غُلْمَتُهُمْ، [وَظَهَرَ] تَوَقَانُهُمْ. وَلَكِنْ مَعَ هَذَا التَّنْبِيهِ، الْمَنَاكِحُ فِي حَقِّ النَّاسِ عَامَّةً فِي حُكْمِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عُمُومَ الْحَاجَةِ فِي حُقُوقِ النَّاسِ كَافَّةً، كَالضَّرُورَةِ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ. فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ رَأَيْنَا تَقْدِيمَهَا. 819 - وَأَوَّلُ مَا نَفْتَتِحُهُ بِنَاءً عَلَيْهَا، أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ فِي الزَّمَانِ الشَّرَائِطُ الْمَرْعِيَّةُ فِي النِّكَاحِ، وَلَمْ يَأْمَنْ كُلُّ مَنْ يُحَاوِلُ نِكَاحًا أَنَّهُ يُخِلُّ بِشَرْطٍ مُعْتَبَرٍ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ، فَلَا تَحْرُمُ الْمَنَاكِحُ بِتَوَقُّعِ ذَلِكَ ; فَإِنَّا لَوْ حَرَّمْنَاهَا، لَحَسَمْنَاهَا، وَلَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، لَتَسَبَّبْنَا إِلَى قَطْعِ النَّسْلِ، وَإِفْنَاءِ النَّوْعِ، ثُمَّ لَا تَعِفُّ النُّفُوسُ عَمُومًا، فَتَسْتَرْسِلُ فِي السِّفَاحِ، إِذَا صُدَّتْ عَنِ النِّكَاحِ. وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِيهِ إِذَا عَمَّتِ الشُّبُهَاتُ، أَوْ طَبَّقَتِ الْمُحَرَّمَاتُ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ. 820 - وَلَكِنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ التَّرَاضِي،

وَالْمَنْعُ مِنَ التَّغَالُبِ وَالتَّسَالُبُ، فَلَئِنْ قَامَتْ تَعَبُّدَاتٌ فِي تَفَاصِيلِ الْمُعَامَلَاتِ، فَاعْتِبَارُ التَّرَاضِي مَعْلُومٌ، لَا يُنْكَرُ مَا بَقِيَتِ الْأُصُولُ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْآنَ الْأَصْلَ الْمُعْتَبَرَ فِي النِّكَاحِ، فَنَقُولُ: 821 - لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي التَّمْيِيزِ أَنَّ الرِّضَا الْمُجَرَّدَ لَا يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ وَلَوْ أَقْنَعَ الرِّضَا لَكَانَ كُلُّ سِفَاحٍ بَيْنَ مُقْدِمٍ عَلَيْهِ، وَمُمَكِّنَةٍ مُطَاوِعَةٍ نِكَاحًا مُبَاحًا. فَمِمَّا لَا يَكَادُ يَخْفَى اعْتِبَارُهُ صُورَةُ الْعَقْدِ وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ (271) ، وَأَمَّا الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ، فَمِمَّا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَصْلِهِ وَتَفْصِيلِهِ. فَمَا غَمُضَ أَمْرُهُ [عَلَى] أَهْلِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ لَمْ يَأْمَنُوا أَنْ يَكُونُوا مُخِلِّينَ بِشَرْطِ الْعَقْدِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَرْكِهِ، فَهَذَا الظَّنُّ غَيْرُ ضَائِرٍ. 822 - وَإِنْ تَعَيَّنَ لَهُمْ شَيْءٌ، وَتَرَدَّدُوا فِي اشْتِرَاطِهِ، كَالْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ، فَقَدْ تَعَارَضَ هَاهُنَا ظَنَّانِ:

أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ شَرْطٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ. وَالثَّانِي - أَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ الْأَبْضَاعِ، فَلَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِثَبْتٍ وَتَحْقِيقٍ. 823 - وَلَكِنْ لَا مُعَوِّلَ عَلَى الظَّنِّ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّا نَرَى الْآنَ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ اسْتِبَاحَةَ الْأَنْكِحَةِ فِي مَجَالِ الظُّنُونِ وَالِاجْتِهَادِ. وَالثَّانِي - أَنَّ هَذَا التَّعَارُضَ لَا يَثْبُتُ عِلْمًا، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ عِلْمٌ بِاشْتِرَاطِ شَيْءٍ لَمْ يُشْتَرَطْ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ تَصْحِيحُ النِّكَاحِ، لَمْ نَحْكُمْ بِهِ، فَإِنَّا لَوْ شَرَطْنَا فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ الْعِلْمَ بِانْعِقَادِ النِّكَاحِ، وَاشْتِمَالَهُ عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَرْعِيَّةِ، وَعُرُوَّهُ عَنِ الْمُفْسِدَاتِ، لَمَا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ [نِكَاحٍ] أَصْلًا مَعَ دُرُوسِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاصِيلِ. 824 - وَمِمَّا لَا تَخْفَى رِعَايَتُهُ فِي النِّكَاحِ خُلُوُّ الْمَرْأَةِ عَنْ نِكَاحِ الْغَيْرِ، وَعَنِ اشْتِمَالِ الرَّحِمِ عَلَى مَاءٍ مُحْتَرَمٍ، فَإِنَّ الْغَرَضَ الْأَظْهَرَ

فِي إِحْلَالِ النِّكَاحِ، وَتَحْرِيمِ السَّفَّاحِ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ بَعْلٍ بِزَوْجَتِهِ وَلَا يَزْدَحِمَ نَاكِحَانِ عَلَى امْرَأَةٍ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ. 825 - وَأَمَّا أَمْرُ الْعِدَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فِي الْعَصْرِ - وَهُوَ الْغَالِبُ مَا بَقِيَتِ الْأُصُولُ - فَيُرَاعَى فِي النِّكَاحِ الْخُلُوُّ عَنِ الْعِدَّةِ. وَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَى بَنِي الزَّمَانِ تَفَاصِيلُ الْعِدَدِ فَلَا يَكَادُ يَخْفَى اعْتِبَارُ ظُهُورِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ عَنِ النَّاكِحِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ بِحَيْضِهِ ; وَلَمْ يَعْلَمْ بَنُو الدَّهْرِ اعْتِبَارَ الْعِدَدِ فِي الْأَقْرَاءِ، أَوْ مُضِيَّ زَمَنٍ لَوْ كَانَ حَمْلٌ لَظَهَرَ مَخَايِلُهُ، وَحَسِبَ النَّاسُ أَنَّ النِّكَاحَ (272) يَحِلُّ، أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا تَحْرِيمَهُ، فَهَذَا يَلْتَحِقُ بِإِيرَادِهِمْ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَدَّدُونَ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ، مِنْ جِهَةِ مُفْسِدٍ مُقْتَرِنٍ أَوْ إِخْلَالٍ بِشَرْطٍ فَالْوَجْهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ. 826 - فَأَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ طَارِئٌ، وَكَانَ حُكْمُهُ مَحْفُوظًا، فَلَا كَلَامَ. وَإِنْ غَمُضَ، فَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ قَاطِعٌ لِلنِّكَاحِ أَمْ لَا، فَالَّذِي

قول جامع في الزواجر والسياسات

يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ إِلَى اسْتِيقَانِ ارْتِفَاعِهِ، وَهَذَا يَشْهَدُ لَهُ حُكْمٌ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ، أَنَّ مَنْ شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ أَطَلَّقَ أَمْ لَا، [أَوِ] اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ تَلَفَّظَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا أَمْ لَا، فَالنِّكَاحُ مُسْتَدَامٌ مُسْتَصْحِبٌ وِفَاقًا. 827 - وَلَسْتُ أَسْتَدِلُّ بِهَذَا ; فَإِنَّ الْقَوْلَ مُصَوَّرٌ لِي فِي غُمُوضِ التَّفَاصِيلِ، فَلَا يَبْقَى شَاهِدٌ مِنَ التَّفَارِيعِ فِي الزَّمَانِ الْخَالِي عَنْ ذِكْرِهَا. وَلَكِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ التَّحْرِيمَ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَالْأَمْرُ يَجْرِي عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ. وَقَدْ كَرَّرْتُ هَذَا مِرَارًا مُحَاوِلًا الْإِينَاسَ بِهِ. وَالْكَلَامُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا ذُكِرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ يَتَعَدَّاهُ النَّاظِرُ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيجٍ عَلَى تَدَبُّرِهِ، فَتَفُوتُهُ الْفَائِدَةُ، وَإِذَا تَكَرَّرَ اسْتَبَانَ اعْتِنَاءُ مُكَرِّرِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى اتِّئَادٍ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَغْزَاهُ وَمُقْتَضَاهُ. فَهَذَا آخِرُ الْمَقْصُودِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَنْكِحَةِ وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا. [قول جامع في الزواجر والسياسات] وَقَدْ بَقِيَ مِنْ [تَمَامِ] الْكَلَامِ قَوْلٌ جَامِعٌ كُلِّيٌّ فِي الزَّوَاجِرِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيَالَةِ، فَنَقُولُ:

لَا يَكَادُ يَخْفَى جَوَازُ دَفْعِ الظَّلَمَةِ، وَإِنِ انْتَهَى الدَّفْعُ إِلَى شَهْرِ الْأَسْلِحَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَجْلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، دَفْعُ الْمُعْتَدِينَ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ وَلَوْ ثَارَتْ فِيهِ زَائِغَةٌ عَنِ الرَّشَادِ، وَآثَرُوا السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَلَمْ يَمْنَعُوا قَهْرًا، وَلَمْ يَدْفَعُوا قَسْرًا، لَاسْتَجْرَأَ الظَّلَمَةُ، وَلَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ. وَهَذَا يُغْنِي ظُهُورُهُ عَنِ الْإِمْعَانِ فِي الْبَيَانِ. 829 - فَأَمَّا إِذَا اعْتَدَى الْمُعْتَدُونَ، وَظَفِرْنَا بِهِمْ، فَأُصُولُ الْحُدُودِ لَا تَخْفَى مَا بَقِيَتْ شَرِيعَةُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْكَلَامُ الضَّابِطُ فِيهَا أَنَّ كُلَّ حَدٍّ اسْتَيْقَنَهُ أَهْلُ الْعَصْرِ أَقَامَهُ وُلَاةُ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ الشَّافِي الْبَالِغُ فِي أَحْكَامِ الْوُلَاةِ. فَإِذَا شَكَّ بَنُو الزَّمَانِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، لَمْ يُقِيمُوهُ أَصْلًا، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَهُوَ إِذَنْ مَظْنُونٌ وَكَانَ فِي مَحَلِّ التَّحَرِّي، إِذَا كَانَتِ التَّفَاصِيلُ مَذْكُورَةً مَحْفُوظَةً. فَإِذَا عَدِمَ أَهْلُ الزَّمَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ تَقْدِيمِ إِمَامٍ عَلَى

إِمَامٍ، فَقَدِ اسْتَوَى عِنْدَهُمُ الظَّنَّانِ، وَتَعَارَضَ الْمَذْهَبَانِ، وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى ظُنُونِ الْعَوَامِّ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْهُجُومِ عَلَى إِقَامَةِ الْعُقُوبَاتِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ مَعَ التَّرَدُّدِ. 830 - وَلَوْ وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ فِي حَدٍّ مَعَ بَقَاءِ الْفُرُوعِ، وَاسْتَوَى فِي ظَنِّ الْمُفْتِي إِيجَابُ الْحَدِّ وَنَفْيُهُ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُ الظَّنَّيْنِ عَلَى الثَّانِي، فَلَا يُفْتَى بِالْحَدِّ أَصْلًا، فَحُكْمُ أَهْلِ الزَّمَانِ الْخَالِي عَنْ عِلْمِ التَّفَاصِيلِ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى. 831 - وَمِمَّا يَلِيقُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا زَنَى رَجُلٌ، وَعُلِمَ أَنَّهُ اسْتَوْجَبَ الْحَدَّ، وَلَكِنْ لَمْ يُدْرَ أَمُحْصَنٌ هُوَ فَيُرْجَمُ؟ أَوْ بِكْرٌ فَيُجْلَدُ؟ فَلَا سَبِيلَ مَعَ الْإِشْكَالِ إِلَى رَجْمِهِ. فَأَمَّا الْجَلْدُ فَلَا يَجُوزُ جَلْدُ الْمُحْصَنِ كَمَا لَا يَجُوزُ رَجْمُ الْبِكْرِ، إِذْ لَا تَبَادُلَ فِي الْحُدُودِ. فَالْوَجْهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ أَنْ لَا يُحَدَّ أَصْلًا ; فَإِنَّا شَكَكْنَا فِي أَنَّ الْجَلْدَ هَلْ يَسُوغُ إِقَامَتُهُ أَمْ لَا، وَالْعُقُوبَةُ الْمَشْكُوكُ فِيهَا لَا تُقَامُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي دُفِعْنَا إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ.

832 - فَإِنْ قِيلَ: لَوْ زَنَى مُحْصَنٌ وَاسْتَوْجَبَ الرَّجْمَ، وَالشَّرِيعَةُ بِمَائِهَا (274) وَالْعُلَمَاءُ مُتَوَافِرُونَ وَحَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ مُسْتَقِلُّونَ بِضَبْطِ التَّفَاصِيلِ، وَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْصَنَ بِالسِّيَاطِ، وَيُحِلَّهَا مَحَلَّ الْأَحْجَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجَوَّزَ ذَلِكَ. وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهُ، فَلْيُجْلَدْ مَنِ اعْتَاصَ الْأَمْرُ فِي رَجْمِهِ وَجَلْدِهِ. فَإِنْ كَانَ مَرْجُومًا، فَقَدِ اقْتُصِرَ عَلَى بَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّ، وَإِنْ كَانَ مَجْلُودًا فَقَدْ أُقِيمُ عَلَيْهِ [حَقُّهُ] كَمَلًا. 833 - قُلْنَا: لَسْنَا نَرَى أَوَّلًا إِقَامَةَ السِّيَاطِ مَقَامَ الْأَحْجَارِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ لَا يَتَغَيَّرُ كَيْفِيَّاتُهَا وَلَا تُبَدَّلُ آلَاتُهَا. ثُمَّ إِنِ انْتَهَى مُجْتَهِدٌ إِلَى تَجْوِيزِ مَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ، فَهُوَ مِنْ دَقِيقِ الْقَوْلِ فِي أَسَالِيبِ الظُّنُونِ، فَكَيْفَ يُدْرِكُهُ أَهْلُ الزَّمَانِ الشَّاغِرِ عَنْ عُلَمَاءِ التَّفَاصِيلِ؟ . 834 - نَجَزَ الْكَلَامُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ قَيَّضَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا أُمُورًا بَدِيعَةً، لَا يُدْرِكُ عُلُوَّ قَدْرِهَا إِلَّا الْفَطِنُ الْغَوَّاصُ

وَ [مَنْ] هُوَ مِنْ أَخَصِّ الْخَوَاصِّ، وَكُنْتُ قَدْ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أَذْكُرَ فِي كُلِّ كِتَابٍ وَبَابٍ فُصُولًا، وَأُمَهِّدَ أُصُولًا، ثُمَّ رَأَيْتُ الِاكْتِفَاءَ بِهَذِهِ اللُّمَعِ ; إِذْ وَجَدْتُهَا تُرْشِدُ إِلَى مَسَالِكِ الْكَلَامِ فِي الْأُصُولِ [جُمَعَ] وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَسُرُّ الطَّالِبَ إِلَّا التَّنْبِيهَ عَلَى الْأُصُولِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا. 835 - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ بَنَيْتُمْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ عَلَى خُلُوِّ أَهْلِ الزَّمَانِ عَنْ ذِكْرِ التَّفَاصِيلِ، وَالَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مِمَّا يَغْمُضُ عَلَى مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ فِي الدَّهْرِ، فَكَيْفَ يُدْرِكُهُ أَهْلُ زَمَانٍ فَاتَتْهُمْ تَفْرِيعَاتُ الشَّرِيعَةِ وَتَفَاصِيلُهَا؟ فَلَيْسَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَنْ، وَالشَّرِيعَةُ مَحْفُوظَةٌ، فَإِذَا دَرَسَتْ فُرُوعُهَا، وَلَمْ يَسْتَقِلَّ النَّاسُ بِهَا، لَمْ يَفْهَمْهَا الْعَوَامُّ، فَهَذَا الْكَلَامُ إِذَنْ لَا يُجْدِي وَلَا يُفِيدُ عَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فِي الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ؟ 836 - قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ لَيْسَ خَالِيًا عَنْ فَوَائِدَ جَمَّةٍ مَعَ بَقَاءِ الْعُلُومِ بِتَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَفِيهَا (275) التَّنْبِيهُ عَلَى مَأْخَذِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَمَنْ أَحْكَمَهُ تَفَتَّحَتْ قَرِيحَتُهُ فِي مَبَاحِثِ الْمَعَانِي، وَعَرَفَ الْقَوَاعِدَ

وَالْمَبَانِيَ، وَرَقَى إِلَى مَرْقًى عَظِيمٍ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ لَا يُدْرِكُهُ الْمُتَقَاعِدُ الْوَانِي، [وَطُرُقُ] الْمَبَاحِثِ لَا تَتَهَذَّبُ إِلَّا بِفَرْضِ التَّقْدِيرَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَالِاحْتِوَاءِ عَلَى جُمَلِهَا، وَمَجْمُوعِهَا. فَهَذَا جَوَابٌ. وَلَسْتُ أَرْتَضِيهِ ; فَإِنِّي لَمْ أَجْمَعْ هَذَا الْكَلَامَ لِهَذَا الْغَرَضِ. 837 - فَالْجَوَابُ السَّدِيدُ أَنِّي وَضَعْتُ [هَذَا] الْكِتَابَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَإِنِّي تَخَيَّلْتُ انْحِلَالَ الشَّرِيعَةِ، وَانْقِرَاضَ حَمَلَتِهَا، وَرَغْبَةَ النَّاسِ عَنْ طَلَبِهَا، وَإِضْرَابَ الْخَلْقِ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِهَا، وَعَايَنْتُ فِي عَهْدِي الْأَئِمَّةَ يَنْقَرِضُونَ وَلَا يُخْلَفُونَ، وَالْمُتَّسِمُونَ بِالطَّلَبِ يَرْضَوْنَ بِالِاسْتِطْرَافِ، وَيَقْنَعُونَ بِالْأَطْرَافِ وَغَايَةُ مَطْلَبِهِمْ مَسَائِلُ خِلَافِيَّةٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، أَوْ فُصُولٌ مُلَفَّقَةٌ، وَكَلِمٌ مُرْتَقَةٌ فِي الْمَوَاعِظِ يَسْتَعْطِفُونَ بِهَا قُلُوبَ الْعَوَامِّ وَالْهَمَجِ الطَّغَامِ. فَعَلِمْتُ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ تَمَادَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَانْقَرَضَ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ عَلَى قُرْبٍ وَكَثَبٍ، وَلَا تَخْلُفُهُمْ إِلَّا التَّصَانِيفُ وَالْكُتُبُ. ثُمَّ لَا يَسْتَقِلُّ بِكُتُبِ

الشَّرِيعَةِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا مُسْتَقِلٌّ بِالْمُطَالَعَةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةٍ مَعَ مُرْشِدٍ، وَسُؤَالٍ عَنْ عَالِمٍ مُسَدَّدٍ. فَجَمَعْتُ هَذِهِ الْفُصُولَ، وَأَمَّلْتُ أَنْ يَشِيعَ مِنْهَا نَسْخٌ فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ، فَلَوْ عَثَرَ عَلَيْهَا بَنُو الزَّمَانِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُفْهِمُوهَا لِأَنَّهَا قَوَاطِعُ ثُمَّ ارْتَجَيْتُ أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَلَاذَهُمْ وَمَعَاذَهُمْ، فَيُحِيطُوا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَالِيفِ فِي زَمَانِهِمْ وَيَتَحَفَّظُونَهُ لِصِغَرِ حَجْمِهِ وَاتِّسَاقِ نَظْمِهِ. فَهَذَا مَا قَصَدْتُ. فَإِنَّ تَحْقِيقَ ظَنِّي فَهُوَ الْفَوْزُ الْأَكْبَرُ، وَإِلَّا فَالْخَيْرَ أَرَدْتُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

المرتبة الرابعة الباب الرابع في خلو الزمان عن أصول الشريعة

[الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ الْبَابُ الرَّابِعُ فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ] الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ (الْبَابُ الرَّابِعُ) فِي خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. 838 - قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ إِذَا دَرَسَتِ الْعُلُومُ بِتَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ (وَبَقِيَتْ أُصُولُهَا فِي الذِّكْرِ، وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَقْدِيرُ دُرُوسِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. وَقَدْ ذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْ عُلَمَائِنَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ ; فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تَبْقَى مَحْفُوظَةً عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ، إِلَى نَفْخَةِ الصُّوَرِ، وَاسْتَمْسَكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ) . 839 - وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ غَيْرُ مَرَضِيَّةٍ، وَالْآيَةُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ عَنِ التَّحْرِيفِ، وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّصْرِيفِ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي انْطِوَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَانْطِمَاسِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَانْدِرَاسِ مَعَالِمِ الْأَحْكَامِ، بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «سَيُقْبَضُ الْعِلْمُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الرَّجُلَانِ فِي فَرِيضَةٍ، وَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَعْرِفُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا» ".

فَالْقَوْلُ الْمُرْتَضَى فِي ذَلِكَ أَنَّ دُرُوسَ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي مُسْتَقَرِّ الْعَادَةِ فِي الْآمَادِ الدَّانِيَةِ، فَإِنِ انْقَرَضَ عُمُرُ الدُّنْيَا فِي مُطَّرِدِ الْعُرْفِ، وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ فِي الْأَعْصَارِ الْقَرِيبَةِ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَنُ، فَلَا يَبْعُدُ فِي مُطَّرَدِ الْعُرْفِ انْمِحَاقُ الشَّرِيعَةِ أَصْلًا أَصْلًا، حَتَّى تَدْرُسَ بِالْكُلِّيَّةِ وَعَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ [تُبْتَدَأُ] الْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَتَزِيدُ حَتَّى تَبْلُغَ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَنْحَطُّ وَتَنْدَرِسُ، حَتَّى تَنْقَضِيَ وَتَنْصَرِمَ كَأَنْ لَمْ تُعْهَدْ. 841 - فَإِنْ فُرِضَ ذَلِكَ قَدَّمْنَا عَلَى غَرَضِنَا مِنْ ذَلِكَ صُورَةً. وَهِيَ أَنَّ طَائِفَةً فِي جَزِيرَةٍ مِنَ الْجَزَائِرِ، لَوْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ، وَلَاحَتْ عِنْدَهُمْ دِلَالَةُ النُّبُوَّةِ، فَاعْتَرَفُوا بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَسْتَمْكِنُوا مِنَ [الْمَسِيرِ] إِلَى عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، فَالْعُقُولُ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْحَقِّ لَا تَقْتَضِي (277)

التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا فِي مَدْرَكِ قَضَايَا التَّكْلِيفِ تَعْوِيلٌ. 842 - وَهَذَا الْأَصْلُ مِنْ أَعْظَمِ الطَّوَامِّ وَهُوَ مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ، وَمَضَلَّةُ مُعْظَمِ الْأَنَامِ، وَلَوْ أَوْغَلْتُ فِيهَا لَأَرْبَى مَفَاتِيحُ الْكَلَامِ فِي حَوَاشِيهَا عَلَى مِقْدَارِ حَجْمِ الْكِتَابِ، فَالْوَجْهُ الِاكْتِفَاءُ بِنَقْلِ [الْمَذَاهِبِ] ، وَإِحَالَةِ مَنْ يُحَاوِلُ الْوُقُوفَ عَلَى [مَضَائِقِ] الْحَقَائِقِ [عَلَى] بَحْرِ الْكَلَامِ. 843 - فَمِقْدَارُ الْغَرَضِ فِيهِ الْآنَ أَنَّ الَّذِينَ فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيهِمْ لَا يَلْزَمُهُمْ إِلَّا اعْتِقَادٌ بِالتَّوْحِيدِ، وَنُبُوَّةُ النَّبِيِّ الْمُبْتَعَثِ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مَهْمَا صَادَفُوا أَسْبَابَ الْإِمْكَانِ، وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنَّ عُقُولَهُمْ تَسْتَحِثُّهُمْ فِي قَضِيَّاتِ الْجِبِلَّاتِ عَلَى الِانْكِفَافِ [عَنْ] مُقْتَضَيَاتِ الرَّدَى، وَالِانْصِرَافِ عَنْ

مُوجِبَاتِ [الْتَّوَى] وَلَكِنَّا لَا نَقْضِي بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُوجَبُ عُقُولِهِمْ. 844 - فَنَنْعَطِفُ الْآنَ عَلَى غَرَضِنَا، وَنَقُولُ: إِذَا دَرَسَتْ فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا، وَلَمْ يَبْقَ مُعْتَصِمٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ، انْقَطَعَتِ التَّكَالِيفُ عَنِ الْعِبَادِ، وَالْتَحَقَتْ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ، وَلَمْ تُنَطْ بِهِمْ شَرِيعَةٌ. 845 - وَإِنَّمَا جَعَلْتُ هَذَا الْفَصْلَ مُنْقَطِعَ الْكَلَامِ، لِأَنِّي افْتَتَحْتُ بِاسْمِ مَوْلَانَا نَضَّرَ اللَّهُ أَيَّامَهُ، وَأَسْبَغَ عَلَى سَاحَتِهِ السَّامِيَةِ أَنْعَامَهُ، كِتَابًا مَضْمُونُهُ ذِكْرُ مَدَارِكِ الْعُقُولِ، سَأَنْخُلُ فِيهَا ثَمَرَاتِ الْأَلْبَابِ، وَأَنْتَزِعُ مِنْ مُلْتَطِمِ الشُّبُهَاتِ صَفْوَةَ اللُّبَابِ، وَأَتْرُكُهُ عِبْرَةً فِي ارْتِبَاكِ الْمُشْكِلَاتِ، وَاشْتِبَاكِ الْمُعْضِلَاتِ، فَصَارَ مَا قَطَعْتُ عَلَيْهِ الْكَلَامَ [مُتَقَاضِيًا] مَا [افْتَتَحْتُهُ] وَاللَّهُ وَلِيُّ الْإِتْمَامِ. 846 - وَقَدِ انْتَهَيْتُ إِلَى مَا أَرَدْتُ ذِكْرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَبَلَغْتُ

كُنْهَ مَا اعْتَمَدْتُهُ [مِنْ] تَفْصِيلِ الْأَبْوَابِ، وَعَرَضْتُهُ فِي مَعْرِضِ الْبَرَاعَةِ (278) وَجَلَوْتُهُ فِي حُلَلِ النَّصَاعَةِ، وَرَفَعْتُ مَخْطُوبَةً فِي كَرَمِ الْمَنَاصِبِ [وَالْمَنَاسِبِ] ، إِلَى أَرْفَعِ خَاطِبٍ، فَوَافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ وَصَادَفَ الْإِثْمِدُ الْحَدَقَةَ، وَاحْتَازَ الْفَرِيدُ الْفَرِيدَ، وَأَحْرَزَ ذُو التَّاجِ الْإِقْلِيدَ. فَأَطَالَ اللَّهُ مَنْ أَعْلَى مَنَازِلَ الْإِيَالَةِ بَقَاهُ، وَأَعْلَى إِلَى أَبْعَدِ غَايَاتِ الْجَلَالَةِ ارْتَقَاهُ، مَا طَلَعَ فَجْرٌ، وَزَخَرَ بَحْرٌ، وَدَارَ فَلَكٌ، وَسَبَّحَ مَلَكٌ، وَاخْتَلَفَ الْجَدِيدَانِ، وَاعْتَقَبَ الْمَلَوَانِ، فَهُوَ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ وَالْمُتَفَضِّلُ بِالِامْتِنَانِ [وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. الْمَبْعُوثِ بِأَفْضَلِ الْأَدْيَانِ] .

نَجَزَ الْكِتَابَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَذَلِكَ فِي ثَالِثَ عَشْرَةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ. . . وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ. رَحِمَ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا لِكَاتِبِهِ وَلِقَارِئِهِ، وَمَنْ قَالَ آمِينَ. بَلَغَتْ مُطَالَعَةً وَإِصْلَاحًا مَعَ مُرَاجَعَةِ الْأَصْلِ، فَصَحَّ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ، كَتَبَهُ خَلِيلُ بْنُ الْعَلَائِيِّ الشَّافِعِيُّ وَفَرَغَ مِنْهُ فِي تَاسِعِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعَةٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَمَاهُ اللَّهُ.

§1/1